كتاب صفة الجنة للحافظ ضياء المقدسي

كتاب صفة الجنة -الحافظ ضياء الدين-أأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي

Translate

الاثنين، 16 يناير 2023

 تفسير سورة المائدة من 104 الي 108.


 تفسير سورة المائدة    من 104 الي 108.

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

===========
  تفسير سورة المائدة لابن كثير من 104 الي 108.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104) }
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كَيْسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب قال: "البحيرة": التي يُمْنَعُ درّها للطواغيت، فلا يَحْلبها (1) أحد من الناس. و"السائبة": كانوا يسيبونَها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء -قال: وقال (2) أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمْرَو بن عامر الخزاعي يجُرّ قُصْبَه في النار، كان أول من سيب السوائب"-و"الوصيلة": الناقة البكر، تُبَكّر في أول نتاج الإبل، ثم تُثَنّي بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحْدَاهما بالأخرى ليس بينهما ذكَر. و"الحام": فحل الإبل يَضربُ الضرّابَ المعدود، فإذا قضى ضرابه وَدَعُوه للطواغيت، وأعفوه عن الحَمْل، فلم يُحْمَل عليه شيء، وسَمّوه (3) الحامي.
وكذا رواه مسلم والنسائي، من حديث إبراهيم بن سعد، به. (4)
ثم قال البخاري: وقال لي أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: سمعت سعيدًا يخبر بهذا. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. ورواه ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. (5)
قال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بُخْت، عن الزهري. كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزني في "الأطراف" وسكت ولم ينبه عليه. وفيما قاله الحاكم نظر، فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن
__________
(1) في د: "عليها".
(2) في د: "فقال".
(3) في د: "ويسموه".
(4) صحيح البخاري برقم (4623) وصحيح مسلم برقم (2856).
(5) صحيح البخاري برقم (4623).
(3/208)
الزهري نفسه. (1) والله أعلم.
ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكِرْماني، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عُرْوَة؛ أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جَهَنَّم يَحْطِمُ بعضها بعضًا، ورأيت عَمْرًا يجر قُصْبه، وهو أول من سيب السوائب". تفرد به البخاري. (2)
وقال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا يونس بن بُكَير، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن: "يا أكثم، رأيت عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمعَةَ بن خِنْدف يجر قُصْبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك". فقال أكثم: تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ فقال (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غَيّر دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة، وحمى الحامي". ثم رواه عن هناد، عن عبدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه أو مثله. (4)
ليس هذان الطريقان في الكتب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، حدثنا إبراهيم الهَجَري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول من سَيَّب السوائب، وعبد الأصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار". تفرد به أحمد من هذا الوجه. (5)
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أول من سيب السوائب، وأول من غير دين إبراهيم عليه السلام". قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قُصْبه في النار، يُؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أول من بحر البحائر". قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "رجل من بني مُدْلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك، فلقد رأيته في النار وهما يعضّانه بأفواههما ويخبطانه (6) بأخفافهما". (7)
فعمرو هذا هو ابن لحي بن قَمَعَة، أحد رؤساء خزاعة، الذين ولَوا البيت بعد جَرْهم. وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب
__________
(1) المسند (2/366) وتفسير الطبري (11/116).
(2) صحيح البخاري برقم (4624).
(3) في د: "قال".
(4) تفسير الطبري (11/117) ورواه ابن هشام في السيرة النبوية (1/78) من طريق محمد بن إسحاق به.
(5) المسند (1/446) وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف، لكن للحديث شواهد من حديث عائشة وأبي هريرة المتقدمين، وانظر كلام الشيخ ناصر الألباني في السلسة الصحيحة برقم (1677).
(6) في د: "ويطآنه".
(7) تفسير عبد الرزاق (1/191) ورواه الطبري في تفسيره (11/120) من طريق عبد الرزاق به.
(3/209)
بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام، عند قوله تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات في ذلك.
فأما البحيرة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هي الناقة إذا نتجت خمسة أبْطُن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرًا ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء. وإن كان (1) أنثى جدعوا آذانها، فقالوا: هذه بحيرة.
وذكر السُّدِّي وغيره قريبًا من هذا.
وأما السائبة، فقال مجاهد: هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها، فإذا ولدت السابع ذكرًا أو ذكرين، ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم.
وقال محمد بن إسحاق: السائبة: هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر، سُيّبت فلم تركب، ولم يُجَزّ وبرها، ولم يحلب لبنها إلا الضيف.
وقال أبو روق: السائبة: كان الرجل إذا خرج فَقُضيت حاجته، سَيَّب من ماله ناقة أو غيرها، فجعلها للطواغيت. فما ولدت من شيء كان لها.
وقال السُّدِّي: كان الرجل منهم إذا قُضيت حاجته أو عُوفي من مرض أو كثر ماله سَيَّب شيئًا من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عُوقب بعقوبة (2) في الدنيا.
وأما الوصيلة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطن استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرمته علينا. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: { وَلا وَصِيلَةٍ } قال: فالوصيلة من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى، ثم تثنى بأنثى، فسموها الوصيلة، ويقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم.
وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس، رحمه الله.
وقال محمد بن إسحاق: الوصيلة من الغنم: إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن، توأمين توأمين في كل بطن، سميت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى، جعلت للذكور دون الإناث. وإن كانت ميتة اشتركوا فيها.
وأما الحام، فقال العَوْفي، عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا لقح فحله عشرًا، قيل حام، فاتركوه.
__________
(1) في د: "كانت".
(2) في د: "يغربه".
(3/210)
وكذا قال أبو روق، وقتادة. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وأما الحام فالفحل من الإبل، إذا وُلد لولده قالوا: حَمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئًا، ولا يجزون له وبرًا، ولا يمنعونه من حمى رعي، ومن حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه.
وقال ابن وَهْب: سمعت مالكًا يقول: أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيّبوه.
وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية. وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم، من طريق أبي إسحاق السَّبِيعي، عن أبي الأحوص الجُشَمي، عن أبيه مالك بن نَضْلَة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقان من الثياب، فقال لي: "هل لك من مال؟" قلت (1) نعم. قال: "من أيّ المال؟" قال: فقلت: من كل المال، من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: "فإذا آتاك الله مالا فلْيُرَ عليك". ثم قال: "تنتج إبلك وافية آذانها؟" قال: قلت: نعم. قال: "وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟" قال: "فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بحير، وتشق آذان طائفة منها، وتقول: هذه حرم؟" قلت: نعم. قال: "فلا تفعل، إن كل ما آتاك الله لك حل"، ثم قال: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } أما البحيرة: فهي التي يجدعون آذانها، فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأما السائبة: فهي التي يسيبون لآلهتهم، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة: فالشاة تلد ستة أبطن، فإذا ولدت السابع (2) جدعت وقطع قرنها، فيقولون: قد وصلت، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض. هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجًا في الحديث. وقد روي من وجه آخر عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، من قوله، وهو أشبه. (3)
وقد روى هذا الحديث (4) الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه، به. وليس فيه تفسير هذه (5) والله أعلم.
وقوله: { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي: ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك (6) وجعلوه شرعًا لهم وقربة يتقربون بها إليه. وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي: إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وتَرْك ما حرمه، قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباءَ والأجداد من الطرائق والمسالك، قال الله تعالى { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا } أي: لا يفهمون حقًا، ولا
__________
(1) في د: "فقلت".
(2) في د: "وتلد السابع".
(3) ورواه الطبري في تفسيره (11/122) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن أبيه به.
(4) في د: "وروى الحديث".
(5) المسند (4/136).
(6) في د: "ولكن افتروه المشركون".
(3/211)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه؟ لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم، وأضل سبيلا.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبرًا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريبًا منه أو بعيدًا.
قال العَوْفي عن ابن عباس عند تفسر هذه الآية: يقول تعالى: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام (1) فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به.
وكذا (2) روى الوالبي عنه. وهكذا قال مُقَاتِل بن حَيان. فقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } نصب على الإغراء { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: فيجازي (3) كل عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وليس في الآية مسْتَدلٌّ (4) على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكنًا، وقد قال الإمام أحمد (5) رحمه الله:
حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زُهَيْر -يعني ابن معاوية-حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، حدثنا قَيْس قال: قام أبو بكر، رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها (6) الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله، عز وجل، أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابه". قال: وسمعت أبا بكر يقول: يا أيها الناس، إياكم والكَذِب، فإن الكذب مجانب (7) الإيمان.
وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حِبَّان في صحيحه، وغيرهم (8) من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة، عن إسماعيل بن أبي خالد، به متصلا مرفوعًا، ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق (9) وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره (10) وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في
__________
(1) في د: "ونهيته عنه".
(2) في د: "وهكذا".
(3) في د: "ليجازي".
(4) في د: "وليس فيها دليل".
(5) في د: "قال أحمد".
(6) في د: "يا أيها".
(7) في د: "يجانب".
(8) المسند (1/5) وسنن أبي داود برقم (4338) وسنن الترمذي برقم (2168) وسنن النسائي الكبرى برقم (11157) وسنن ابن ماجة برقم (4005).
(9) رواه أبو يعلى في المسند (1/118) من طريق شعبة، عن الحكم، عن قيس بن أبي حازم به موقوفًا.
(10) العلل للدارقطني (1/253).
(3/212)
مسند الصديق، رضي الله عنه.
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا سعيد بن يعقوب الطَالَقَاني، وحدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا عتبة بن أبي حكيم، حدثنا عمرو بن جارية (1) اللخمي، عن أبي أمية الشَّعْباني (2) قال: أتيت أبا ثعلبة الخُشَنِي فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ فقال: أيَّة آية؟ قلت: قوله [تعالى] (3) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحّا مُطاعًا، وهَوًى مُتَّبعًا، ودنيا مُؤْثَرة، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القَبْضِ على الجَمْرِ، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم" -قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة: قيل يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منهم أو منا؟ قال: "بل أجر خمسين منكم".
ثم قال (4) الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عتبة بن أبي حكيم. (5)
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله (6) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم (7) مقبولة. ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا -أو قال: فلا يقبل منكم-فحينئذ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ }
ورواه أبو جعفر الرازي، عن الربيع عن أبي العالية، عن ابن مسعود في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول: { [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] (8) عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية. قال: فسمعها (9) ابن مسعود فقال: مَهْ، لم يجئ تأويل هذه بعد (10) إن القرآن أنزل حيث أنزل (11) ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي
__________
(1) في د: "ابن الحارث".
(2) في د: "الشعثاني".
(3) زيادة من د.
(4) في د: "فقال".
(5) سنن الترمذي برقم (3058) وسنن أبي داود برقم (4341) وسنن ابن ماجة برقم (4014) وتفسير الطبري (11/145).
(6) في د: "سئل عن قوله".
(7) في د: "ليس زمانها اليوم".
(8) زيادة من د.
(9) في د: "فردها".
(10) في د: "تأويلها".
(11) في د: "نزل".
(3/213)
يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة ولم تلْبَسوا شِيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبسْتُم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه، عند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية. رواه ابن جرير. (1)
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عَرفة، حدثنا شبابة بن سَوّار، حدثنا الربيع بن صُبَيْح، عن سفيان بن عقال قال: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي أن (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا فليبلّغ الشاهد الغائب". فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. (3)
وقال أيضًا: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عَوْف، عن سوَّار بن شَبِيب قال: كنت عند ابن عمر، إذ أتاه (4) رجل جَليد في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو (5) وكلهم بغيض إليه أن يأتي دَناءة، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك. فقال رجل من القوم: وأيّ دناءة تريد أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟
فقال الرجل: إني لست إياك أسأل، إنما أسأل الشيخ. فأعاد على عبد الله الحديث، فقال عبد الله: لعلك ترى، لا أبالك، أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم! عظْهم وانههم، فإن عصوك فعليك نَفْسك (6) فإن الله، عز وجل يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية.
وقال أيضًا: حدثني أحمد بن المقدام، حدثنا المعتَمِر بن سليمان، سمعت أبي، حدثنا قتادة، عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } فقال أكْبَرهم (7) لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم.
وقال: حدثنا القاسم، حدثنا الحُسَين، حدثنا ابن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن جُبَير بن نُفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأصغرُ القوم، فتذاكروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد وقالوا: تنزع آية من القرآن ولا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنّيت (8) أني لم أكن تكلمتُ، وأقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام
__________
(1) تفسير الطبري (11/143).
(2) في د: "لأن".
(3) تفسير الطبري (11/139).
(4) في د: "فأتاه".
(5) في د: "ولا يألو".
(6) في د: "بنفسك".
(7) في د: "أكثرهم".
(8) في د: "فتمنيت".
(3/214)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
حَدَثُ (1) السن، وإنك نزعت بآية ولا تدري ما هي؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شُحًّا مطاعًا، وهَوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. (2)
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سَهْل، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة قال: تلا الحسن هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله.
وقال سعيد بن المسيب: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت.
رواه ابن جرير، وكذا روي من طريق سفيان الثوري، عن أبي العُمَيْس، عن أبي البَخْتَري، عن حذيفة مثله، وكذا قال غير واحد من السلف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن كعب في قوله: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قال: إذا هدمت كنيسة دمشق، فجعلت مسجدًا، وظهر لبس العَصْب، فحينئذ تأويل هذه الآية.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) }
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز، قيل: إنه منسوخ رواه العَوْفي من ابن عباس. وقال (3) حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم: إنها منسوخة. وقال آخرون -وهم الأكثرون، فيما قاله ابن جرير-: بل هو محكم؛ ومن ادعى النسخ فعليه البيان.
فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } هذا هو الخبر؛ لقوله: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } فقيل تقديره: "شهادة اثنين"، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مَقَامه. وقيل: دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان.
__________
(1) في د: "حديث".
(2) تفسير الطبري (11/142).
(3) في د: "وقاله".
(3/215)
وقوله: { ذَوَا عَدْلٍ } وصف الاثنين، بأن يكونا عدلين.
وقوله: { مِنْكُمْ } أي: من المسلمين. قاله الجمهور. قال (1) علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال: من المسلمين. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: رُوي عن عُبيدة، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، ويحيى بن يَعْمُر، والسُّدِّي، وقتادة، ومُقاتل بن حَيَّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.
قال ابن جرير: وقال آخرون: عني: ذلك { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي: من حَي (2) الموصي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.
وقوله: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن عَوْن، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال: من غير المسلمين، يعني: أهل الكتاب.
ثم قال: وروي عن عبيدة، وشُرَيْح، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النَّخَعِي، وقتادة، وأبي مِجْلزَ، والسُّديِّ، ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.
وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله: { مِنْكُمْ } أي: المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد هاهنا: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي: من غير قبيلة الموصي. وقد روى عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري، والزهري، رحمهما الله.
وقوله: { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي: سافرتم، { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين، أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، كما صرح بذلك شريح القاضي.
قال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني (3) إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية.
ثم رواه عن أبي كُرَيْب، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال: قال شريح، فذكر مثله.
وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى. وهذه المسألة من إفراده، وخالفه الثلاثة فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين. وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو داود، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال: مضت السنّة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. (4)
__________
(1) في د: "قاله".
(2) في د: "من أهل".
(3) في د: "اليهود والنصارى".
(4) تفسير الطبري (11/166).
(3/216)
وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل الناس بها.
رواه ابن جرير، وفي هذا نظر، والله أعلم.
وقال ابن جرير: اختلف في قوله: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } هل المراد به أن يوصي إليهما، أو يشهدهما؟ على قولين:
أحدهما: أن يوصي إليهما، كما قال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط قال: سئل ابن مسعود، رضي الله عنه، عن هذه الآية قال (1) هذا رجل سافر ومعه مال، فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين.
رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع.
والقول الثاني: أنهما يكونان شاهدين. وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان: الوصاية والشهادة، كما في قصة تَمِيم الداري، وعَدِيّ بن بَدَّاء، كما سيأتي ذكرها آنفًا، إن شاء الله وبه التوفيق.
وقد استشكل ابنُ جرير كونهما شاهدين، قال: لأنا لا نعلم حُكْمًا يَحْلِفُ فيه الشاهد. وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، وهو حكم مستقل بنفسه، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام، على أن هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره، فإذا قامت قرائن الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى: { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ } قال [العوفي، عن] (2) ابن عباس : يعني صلاة العصر. وكذا قال سعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، وقتادة، وعِكْرِمة، ومحمد بن سيرين. وقال الزهري: يعني صلاة المسلمين، وقال السدي، عن ابن عباس: يعني صلاة أهل دينهما.
والمقصود: أن يقام هذان الشاهدان (3) بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم، { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أي: فيحلفان (4) بالله { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي: إن ظهرت لكم منهما ريبة، أنهما قد خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله { لا نَشْتَرِي بِهِ } أي: بأيماننا. قاله مُقاتِل بن حيان { ثَمَنًا } أي: لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أي: ولو كان المشهود عليه قريبًا إلينا لا نحابيه، { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أضافها إلى الله تشريفًا لها، وتعظيمًا لأمرها.
وقرأ بعضهم: "ولا نكتم شهادة آلله" مجرورًا على القسم. رواها ابن جرير، عن عامر الشعبي.
__________
(1) في د: "قال ابن مسعود في هذه الآية".
(2) زيادة من د.
(3) في د: "أن قيامها".
(4) في د: "يحلفان".
(3/217)
وحَكَي عن بعضهم أنه قرأ: "ولا نَكْتُمُ شهادةً الله"، والقراءة الأولى هي المشهورة.
{ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } أي: إن فعلنا شيئًا من ذلك، من تحريف الشهادة، أو تبديلها، أو تغييرها (1) أو كتمها بالكلية.
ثم قال تعالى: { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } أي: فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين، أنهما خانا أو غَلا شيئًا من المال الموصى به إليهما، وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } هذه قراءة الجمهور: "اسْتُحِقَّ عليهم الأوليان". ورُوي عن علي، وأُبيّ، والحسن البصري أنهم قرؤوها: { اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } .
وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفَرْوِي، عن سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (2)
وقرأ بعضهم، ومنهم ابن عباس: "من الذين استحق عليهم الأوَّلِين". وقرأ الحسن: "من الذين استحق عليهم الأوَّلان"، حكاه ابنُ جرير.
فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك: أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أوْلى من يرث ذلك المال { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي: لقولنا: إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة { وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي: فيما قلنا من الخيانة { إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي: إن كنا قد كذبنا عليهما.
وهذا التحليف للورثة، والرجوع إلى قولهما والحالة هذه، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لَوْث (3) في جانب القاتل، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم، كما هو مقرر في باب "القسامة" من الأحكام.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن زياد، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان -يعني: أبا صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب-عن ابن عباس، عن تميم الداري في هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } قال: بَرئ الناس منها غيري وغير عَديّ بن بَدَّاء. وكانا (4) نصرانيين، يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم، يقال له: بُدَيْل بن أبي مريم، بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عُظْم (5) تجارته. فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله -قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام، فبعناه
__________
(1) في د: "وتغييرها".
(2) المستدرك (2/237) ووافقه الذهبي.
(3) في د: "اللوث".
(4) في د: "فكانا".
(5) في د: "أعظم".
(3/218)
بألف درهم، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بدّاء. فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا. وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما د فع إلينا غيره-قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت (1) إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا إليه (2) أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } إلى قوله: { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، فنزعتْ الخمسمائة من عَدي بن بَدَّاء.
وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحَرَّاني، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، به فذكره (3) -وعنده: فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } إلى قوله: { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر، فحلفا. فَنزعَتْ الخمسمائة من عدي بن بَدَّاء.
ثم قال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بصحيح، وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، وقد تركه أهل العلم بالحديث، وهو صاحب التفسير، سمعت محمد بن إسماعيل يقول: محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، ثم قال: ولا نعرف لسالم أبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ، وقد رُوي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه.
حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جُبَير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بَدّاء، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جامًا من فضة مُخَوّصًا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدوا الجام بمكة، فقيل: اشتريناه من تميم وعديّ. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لِصَاحبهم. وفيهم نزلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ }
وكذا رواه أبو داود، عن الحسن بن علي، عن يحيى بن آدم، به. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث ابن أبي زائدة. (4)
ومحمد بن أبي القاسم، كوفي، قيل: إنه صالح الحديث، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غيرُ واحد من التابعين منهم: عكرمة، ومحمد بن سيرين، وقتادة. وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر،
__________
(1) في د: "وأديت".
(2) في د: "عليه".
(3) سنن الترمذي برقم (3059) وتفسير الطبري (11/186).
(4) سنن الترمذي برقم (3606) وسنن أبي داود برقم (3060) وأصله في صحيح البخاري برقم (2780) لكن البخاري لم يذكره تحديثًا وإنما حكاية قول.
(3/219)
رواه ابن جرير. وكذا ذكرها مرسلة: مجاهد، والحسن، والضحاك. وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها.
ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا (1) ما رواه أبو جعفر بن جرير:
حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا زكريا، عن الشعبي؛ أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقا، قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري -يعني: أبا موسى الأشعري، رضي الله عنه-فأخبراه (2) وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما.
ثم رواه عن عمرو بن علي الفَلاس، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي؛ أن أبا موسى قضى بدقوقا. (3) (4)
وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي، عن أبي موسى الأشعري.
فقوله: "هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم" الظاهر -والله أعلم-أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعديّ بن بَدّاء، قد ذكروا أن إسلام تَمِيم بن أوْسٍ الداري، رضي الله عنه، كان في سنة تسع من الهجرة فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرًا، يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام، والله أعلم.
وقال أسباط عن السُّدِّي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وما عليه، قال: هذا في الحضر، { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } في السفر، { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } هذا الرجل يدركه الموت في سفره، وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا [مال صاحبهم] (6) تركوا الرجلين (7) وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله تعالى: { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ } قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العلْجين حين انتُهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخَوّنوهما (8) فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فَيُوقَفُ الرجلان بعد صلاتهما في
__________
(1) في د: "من الشواهد لها أيضا".
(2) في د: "فأخبره".
(3) في د: "به".
(4) تفسير الطبري (11/165).
(5) في د: "الذي كان على عهده".
(6) زيادة من د.
(7) في د: "تركوهما".
(8) في د: "وضربوهما".
(3/220)
دينهما، فيحلفان: بالله لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين: أن صاحبهم لبهذا أوصى، وإن هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كتمتما أو خُنْتُما فَضَحْتُكُما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما. فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. رواه ابن جرير. (1)
وقال ابن جرير: حدثنا الحسين، حدثنا هُشيْم، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير، أنهما قالا في هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الآية، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب فإذا قدما بتركته، فإن صدقهما الورثة قُبل قولهما، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خُنَّا ولا غَيَّرنا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية: فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فذلك قوله: { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } يقول: من الأولياء، فحلفا بالله: أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فترد شهادة الكافرَيْن، وتجوز شهادة الأولياء.
وهكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس. رواهما ابن جرير.
وهكذا قَرَّر (2) هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غيرُ واحد من أئمة التابعين والسلف، رضي الله عنهم، وهو مذهب الإمام أحمد، رحمه الله.
وقوله: { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } أي: شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين وقد استريب بهما، أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي.
وقوله: { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي: يكون الحامل لهم على الإتيان بالشهادة (3) على وجهها، هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس إذا ردت اليمين على الورثة، فيحلفون ويستحقون (4) ما يدعون، ولهذا قال: { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ }
__________
(1) تفسير الطبري (11/175).
(2) في د: "أورد".
(3) في د: "بها".
(4) في د: "فيستحقون".
(3/221)
ثم قال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في جميع أموركم { وَاسْمَعُوا } أي: وأطيعوا { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } يعني: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.
==========

المائدة - تفسير القرطبي
104- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}
(6/341)
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} الآية تقدم معناها والكلام عليها في {البقرة} فلا معنى لإعادتها.
105- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
فيه أربع مسائل:
الأولى- قال علماؤنا: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى.
الثانية- قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي؛ تقول عليك زيدا بمعنى الزم زيدا؛ ولا يجوز عليه زيدا، بل إنما يجرى هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ عليك زيدا أي خذ زيدا، وعندك عمرا أي حضرك، ودونك زيدا أي قرب منك؛ وأنشد:
يا أيها المائح دلتوي دونكتا
وأما قوله: عليه رجلا ليسني، فشاذ.
الثالثة- روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(6/342)
"إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده" . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ قال إسحاق بن إبراهيم سمعت عمرو بن علي يقول: سمعت وكيعا يقول: لا يصح عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حديث واحد، قلت: ولا إسماعيل عن قيس، قال: إن إسماعيل روى عن قيس موقوفا. قال النقاش: وهذا إفراط من وكيع؛ رواه شعبة عن سفيان وإسحاق عن إسماعيل مرفوعا؛ وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شُحّاً مُطاعا وهَوىً مُتبعاً ودنيا مُؤثَرةً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم" . وفي رواية قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين منكم" . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قال ابن عبدالبر قوله: "بل منكم" هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها، وقد تقدم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا" قال: هذا حديث غريب. وروي عن ابن مسعود أنه قال: ليس هذا بزمان هذه الآية؛ قولوا الحق ما قُبل منكم، فإذا رُد عليكم فعليكم أنفسكم. وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "ليبلغ الشاهد الغائب" ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل. في رواية عن ابن عمر بعد قوله: "ليبلغ الشاهد الغائب" فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب، ولكن هذه الآية
(6/343)
لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا، لم يقبل منهم. وقال ابن المبارك قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} خطاب لجميع المؤمنين، أي عليكم أهله دينكم؛ كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فكأنه قال: ليأمر بعضكم بعضا؛ ولينه بعضكم بعضا فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب؛ وهذا لأن الأمر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان كما تقدم؛ وروي معنى هذا عن سعيد بن جبير وقال سعيد بن المسيب: معنى الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال ابن خويز منداد: تضمنت الآية اشتغال الإنسان بخاصة نفسه، وتركه التعرض لمعائب الناس، والبحث عن أحوالهم فإنهم لا يسألون عن حاله فلا يسأل عن حالهم وهذا كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن جليس بيتك وعليك بخاصة نفسك" . ويجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فينكر بقلبه، ويشتغل بإصلاح نفسه.
قلت: قد جاء حديث غريب رواه ابن لهيعة: قال حدثنا بكر بن سوداة الجذامي عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك" . قال علماؤنا: إنما قال عليه السلام ذلك لتغير الزمان، وفساد الأحوال، وقلة المعينين. وقال جابر بن زيد: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب؛ عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين، لا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم؛ قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت؛ فأنزل الله الآية بسبب ذلك وقيل: الآية في أهل الأهواء الذين لا ينفعهم الوعظ؛ فإذا علمت من قوم أنهم لا يقبلون، بل يستخفون ويظهرون فاسكت عنهم. وقيل: نزلت في الأسارى الذين عذبهم المشركون حتى ارتد بعضهم، فقيل لمن بقي على الإسلام: عليكم أنفسكم لا يضركم ارتداد أصحابكم. وقال سعيد بن جبير:
(6/344)
هي في أهل الكتاب وقال مجاهد: في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم؛ يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية. وقيل: هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قاله المهدوي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف ولا يعلم قائله. قلت: قد جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: ليس في كتاب الله تعالى آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية. قال غيره: الناسخ منها قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والهدى هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول، أو رجي رد الظالم ولو بعنف، ما لم يخف الرابعة- الآمر ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين؛ إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس؛ فإذا خيف هذا فـ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} محكم واجب أن يوقف عنده ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم؛ وعلى هذا جماعة أهل العلم فاعلمه.
106- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الآثِمِينَ}
107- {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
(6/345)
108- {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
فيه سبع وعشرون مسألة:
الأولى- قال مكي رحمه الله: هذه الآية وما بعدها عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما؛ قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها؛ وذلك بين من كتابه رحمه الله.
قلت: ما ذكره مكي رحمه الله ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا، ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء. روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما؛ فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما كتمتما ولا اطلعتما" ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا؛ قال: فأخذوا الجام؛ وفيهم نزلت هذه الآية. لفظ الدارقطني. وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام بتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عُظْم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله؛ قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم
(6/346)
اقتسمناها أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره؛ قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى قوله {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي بن بداء. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في تيم وأخيه عدي، وكانا نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج مع تميم وأخيه عدي؛ وذكر الحديث. وذكر النقاش قال: نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي؛ كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميما وكان من لخم وعدي بن بداء، فمات بديل وهم في السفينة فرمي به في البحر، وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال: أبلغا هذا المتاع أهلي، فلما مات بديل قبضا المال، فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال، منقوشا مموها بالذهب؛ وذكر الحديث. وذكره سنيد وقال: فلما قدموا الشام مرض بديله وكان مسلما؛ الحديث.
الثانية- قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ورد {شَهِدَ} في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة: منها قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قيل: معناه أحضروا. ومنها {شَهِدَ} بمعنى قضى أي أعلم؛ قاله أبو عبيدة كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ومنها {شَهِدَ} بمعنى أقر؛ كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} ومنها {شَهِدَ} بمعنى حكم؛ قال الله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} . ومنها {شَهِدَ} بمعنى حلف؛ كما في اللعان. {و شَهِدَ}
(6/347)
بمعنى وصى؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} وقيل: معناه هنا الحضور للوصية؛ يقال: شهدت وصية فلان أي حضرتها. وذهب الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين؛ فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان؛ واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدى للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. واختار هذا القول القفال. وسميت اليمين شهادة؛ لأنه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة. واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ فتؤدى، وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين.
الثالثة- قوله تعالى: {بَيْنِكُمْ} قيل: معناه ما بينكم فحذف {مَا} وأضيفت الشهادة إلى الظرف، واستعمل اسم على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة؛ كما قال
يوما شهدناه سليمان وعامرا
أراد شهدنا فيه. وقال تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي مكركم فيهما. وأنشد:
تصافح من لاقيت لي ذا عداوة ... صفاحا وعني بين عينك منزوي
أراد ما بين عينيك فحذف؛ ومنه قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي ما بيني وبينك.
الرابعة- قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ} معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت. وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} . وكقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} ومثله كثير. والعامل في {إِذَا} المصدر الذي هو {شَهَادَةً}.
الخامسة- قوله تعالى: {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} {حِينَ} ظرف زمان والعامل فيه {حَضَرَ} وقوله: {اثْنَانِ} يقتضي بمطلقه شخصين، ويحتمل رجلين، إلا أنه لما قال بعد ذلك: {ذَوَا عَدْلٍ} بين أنه أراد رجلين؛ لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن {ذَوَاتَا} لا يصلح إلا للمؤنث. وارتفع {اثْنَانِ} على أنه خبر المبتدأ الذي هو {شَهَادَةً}
(6/348)
قال أبو علي {شَهَادَةُ} رفع بالابتداء والخبر في قوله: {اثْنَانِ} التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين؛ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ كما قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي مثل أمهاتهم. ويجوز أن يرتفع {اثنان} بـ {شهادة}؛ التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان، أو ليقم الشهادة اثنان.
السادسة- قوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} {ذَوَا عَدْلٍ} صفة لقوله: {اثْنَانِ} و {مِنْكُمْ} صفة بعد صفة. وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي أو شهادة آخرين من غيركم؛ فمن غيركم صفة لآخرين. وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الكاف والميم في قوله: {مِنْكُمْ} ضمير للمسلمين {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية، وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الأحاديث. وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل؛ أبو موسى الأشعري وعبدالله بن قيس وعبدالله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهله الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق، ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما؛ فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما. هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر؛ وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني؛ وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم. وقال به من الفقهاء سفيان الثوري؛ ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به. واختاره أحمد بن حنبل وقال: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر
(6/349)
عند عدم المسلمين كلهم يقولون {مِنْكُمْ} من المؤمنين ومعنى {مِنْ غَيْرِكُمْ} يعني الكفار. قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة؛ وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما.
القول الثاني: أن قوله سبحانه: {أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} منسوخ؛ هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك؛ والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء؛ إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض؛ ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ؛ فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل؛ وأن فيها {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فهو ناسخ لذلك؛ ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة؛ فجازت شهادة أهله الكتاب؛ وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار؛ وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز؛ والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم.
قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه؛ وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم؛ وأما مع وجود مسلم فلا؛ ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل؛ وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره؛ ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم. ويقوي هذا أن سورة {المائدة} من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها. وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ؛ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا؛ فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة؛ ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات؛ ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم يرتضيه عند الضرورة؛ فليس فيما قالوه ناسخ.
القول الثالث: أن الآية لا نسخ فيها؛ قال الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله: {مِنْكُمْ} أي من عشيرتكم وقرابتكم؛ لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان
(6/350)
ومعنى قوله: {وْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير القرابة والعشيرة؛ قال النحاس: وهذا ينبني على معنى غامض في العربية؛ وذلك أن معنى {آخَرَ} في العربية من جنس الأول؛ تقول: مررت بكريم وكريم آخر؛ فقوله {آخَرَ} يدل على أنه من جنس الأول؛ ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر؛ ولا مررت برجل وحمار آخر؛ فوجب من هذا أن يكون معنى قوله: {أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي عدلان؛ والكفار لا يكونون عدولا فيصح على هذا قوله من قال {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير عشيرتكم من المسلمين. وهذا معنى حسن من جهة اللسان؛ وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله؛ لأن المعنى عندهم {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فخوطب الجماعة من المؤمنين.
السابعة- استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم؛ قال: ومعنى {وْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير أهل دينكم؛ فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض؛ فيقال له: أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية؛ لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها فلا يصح احتجاجك بها. فإن قيل: هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق؛ ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه؛ وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهله الذمة أولى؛ ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين؛ فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه؛ وهذا ليس بشيء؛ لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين؛ فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى. والله أعلم.
الثامنة- قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} أي سافرتم؛ وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم؛ ودفعتم إليهما ما معكم من المال؛ ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما؛
(6/351)
وادعوا عليهما خيانة؛ فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة؛ أي تستوثقوا منهما؛ وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة؛ قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى؛ فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه؛ وترك العمل له؛ وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا" ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له؛ فخر الجمل ميتا فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: ما لك لا تقوم ؟! ما لك لا تنبعث ؟! هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة؛ ما شأنك ؟! ما الذي كان يحملك ؟! ما الذي كان يبعثك ؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك ؟! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه، متعجبا من أمره.
التاسعة- قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا} قال أبو علي: {تَحْبِسُونَهُمَا} صفة لـ {آخَرَانِ} واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: {إِنْ أَنْتُمْ} . وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق؛ والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجلا؛ ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا؛ فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا؛ وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل؛ وهو دون الأول؛ لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره؛ ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق؛ أو تبين عسرته.
العاشرة- فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا؛ لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه؛ ولأجل هذه الحكمة شرع السجن روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6/352)
قال: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" . قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له. قال الخطابي: الحبس على ضربين؛ حبس عقوبة، وحبس استظهار، فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه؛ وقد روي أنه حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه. وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن.
الحادية عشرة- قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} يريد صلاة العصر؛ قاله الأكثر من العلماء؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. وقال الحسن: صلاة الظهر. وقيل: أي صلاة كانت. وقيل: من بعد صلاتهما على أنهما كافران؛ قاله السدي. وقيل: إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت؛ وفي الصحيح "من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان" .
الثانية عشرة- هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان، والتغليظ يكون بأربعة أشياء: أحدها: الزمان كما ذكرنا. الثاني: المكان كالمسجد والمنبر، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها؛ وإلى هذا القول ذهب البخاري رحمه الله حيث ترجم {باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره}. وقال مالك والشافعي: ويُجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها، فيحلف بين الركن والمقام، ويُجلب إلى المدينة من كان من أعمالها فيحلف عند المنبر. الثالث: الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائما مستقبل القبلة؛ لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة: يحلف جالسا؛ قال ابن العربي: والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان قائما فقائما وإن جالسا فجالسا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس.
(6/353)
قلت: قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن أبيه: "فانطلق ليحلف" القيام والله أعلم أخرجه مسلم.
الرابع: التغليظ باللفظ؛ فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه؛ لقوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} وقوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي} وقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وقوله عليه السلام: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" . وقول الرجل: والله لا أزيد عليهن. وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق، وما ادعاه علي باطل؛ والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يعني لرجل حلفه "احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء" يعني للمدعي؛ قال أبو داود: أبو يحيى اسمه زياد كوفي ثقة ثبت. وقال الكوفيون: يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين؛ فيحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف. قال ابن العربي: وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة. وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك ويرويه عن ابن عباس، ولم يصح.
قلت: وفي كتاب "المهذب" وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف؛ قال الشافعي: وهو حسن. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف.
قلت: قد تقدم في الأيمان: وكان قتادة يحلف بالمصحف وقال أحمد وإسحاق: لا يكره ذلك؛ حكاه عنهما ابن المنذر.
(6/354)
الثالثة عشرة- ختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق؛ فقال مالك: لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع، وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم. وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد.
الرابعة عشرة- قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} الفاء في {فَيُقْسِمَانِ} عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء؛ لأن {تَحْبِسُونَهُمَا} معناه احبسوهما، أي لليمين؛ فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال: إذا حبستموهما أقسما؛ قال ذو الرمة:
وإنسان عيني يحسر الماء مرة ... فيبدو وتارات يجم فيغرق
تقديره عندهم: إذا حسر بدا.
الخامسة عشرة- واختلف مَن المراد بقوله: {فَيُقْسِمَانِ} ؟ فقيل: الوصيان إذا ارتيب في قولهما وقيل: الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما. قال ابن العربي مبطلا لهذا القول: والذي سمعت وهو بدعة عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق؛ وحينئذ يقضى له بالحق؛ وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه؛ هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف ؟! هذا ما لا يلتفت إليه.
قلت: وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. وقد قيل: إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال.
السادسة عشرة- قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين. قال ابن عطية: أما أنه يظهر من حكم أبي موسى
(6/355)
في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها روى أبو داود عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين حضره يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهله الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته؛ فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأحلفهما بعد العصر: "بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته" فأمضى شهادتهما. قال ابن عطية: وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض، وتقع مع ذلك اليمين عنده؛ وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي؛ فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة. قال ابن العربي: يمين الريبة والتهمة على قسمين: أحدهما: ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين. الثاني: التهمة المطلقة في الحقوق والحدود، وله تفصيل بيانه في كتب الفروع؛ وقد تحققت ههنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات.
السابعة عشرة- الشرط في قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} يتعلق بقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} لا بقوله {فَيُقْسِمَانِ} لأن هذا الحبس سبب القسم.
الثامنة عشرة- قوله تعالى: {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا. وإضمار القول كثير، كقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي يقولون سلام عليكم. والاشتراء ههنا ليس بمعنى البيع، بل هو التحصيل.
(6/356)
التاسعة عشرة- اللام في قوله: {لا نَشْتَرِي} جواب لقوله: {فَيُقْسِمَانِ} لأن أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم؛ وهو {لا} و{مَا} في النفي، {وَإِنْ} واللام في الإيجاب. والهاء في {بِهِ} عائد على اسم الله تعالى، وهو أقرب مذكور؛ المعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض. ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" فأعاد الضمير على معنى الدعوة الذي هو الدعاء، وقد تقدم في سورة {النساء}.
الموفية عشرين- قوله تعالى: {ثَمَناً} قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو يكون السلعة؛ فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى؛ فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد، أو على عرضين، أو على نقدين؛ وعلى هذا الأصل تنبني مسألة: إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به؟ قال أبو حنيفة: لا يكون أولى به؛ وبناه على هذا الأصل، وقال: يكون صاحبها أسوة الغرماء. وقال مالك: هو أحق بها في الفلس دون الموت. وقال الشافعي: صاحبها أحق بها في الفلس والموت. تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء؛ فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها. وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره.
الحادية والعشرون- قوله تعالى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} أي ما أعلمنا الله من الشهادة. وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في "التحصيل" وغيره.
(6/357)
الثانية والعشرون- قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} قال عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام. وقال الزجاج: أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} . عثر على كذا أي اطلع عليه؛ يقال: عثرت منه على خيانة أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم، وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء؛ ومنه قولهم: عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقعت إصبعه بشيء صدمته، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه. وعثر الفرس عثارا قال الأعشى:
بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
والعثير الغبار الساطع؛ لأنه يقع على الوجه، والعثير الأثر الخفي لأنه يوقع عليه من خفاء. والضمير في {أَنَّهُمَا} يعود على الوصيين اللذين في قوله عز وجل: {اثْنَانِ} عن سعيد بن جبير. وقيل: على الشاهدين؛ عن ابن عباس. و {اسْتَحَقَّا} أي استوجبا {إِثْماً} يعني بالخيانة، وأخذهما ما ليس لهما، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة. وقال أبو علي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ؛ لأن آخذه بأخذه آثم، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة. وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك؛ فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام
الثالثة والعشرون- قوله تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يعني في الأيمان أو في الشهادة؛ وقال {آخَرَانِ} بحسب أن الورثة كانا اثنين. وارتفع {آخَرَانِ} بفعل مضمر. {يَقُومَانِ} في موضع نعت {مَقَامَهُمَا} مصدر، وتقديره: مقاما مثل مقامهما، ثم أقيم النعت مقام المنعوت، المضاف مقام المضاف إليه
الرابعة والعشرون- قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} قال ابن السري: المعنى استحق عليهم الإيصاء؛ قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ لأنه لا يجعل
(6/358)
حرف بدلا من حرف؛ واختاره ابن العربي؛ وأيضا فإن التفسير عليه؛ لأن المعنى عند أهل التفسير: من الذين استحقت عليهم الوصية. و {الأَوْلَيَانِ} بدل من قوله: {فآخَرَانِ} قاله ابن السري، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز. وقيل: النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة؛ كقوله تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} ثم قال: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} ثم قال: {الزُّجَاجَةُ} وقيل: وهو بدل من الضمير في {يَقُومَانِ} كأنه قال: فيقوم الأوليان أو خبر ابتداء محذوف؛ التقدير: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان. وقال ابن عيسى: {الأَوْلَيَانِ} مفعول {اسْتَحَقَّ} على حذف المضاف؛ أي استحق فيهم وبسببهم إثم الأوليين فعليهم بمعنى فيهم مثل {على ملك سليمان} أي في ملك سليمان. وقال الشاعر:
متى ما تنكروها تعرفوها ... على أقطارها علق نفيث
أي في أقطارها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة {الأَوَّلِينَ} جمع أول على أنه بدل من {اللَّذِينَ} أو من الهاء والميم في {عَلَيْهِمْ} وقرأ حفص: {اسْتَحَقَّ} بفتح التاء والحاء، وروي عن أبي بن كعب، وفاعله {الأَوْلَيَانِ} والمفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها. وقيل: استحق عليهم الأوليان رد الأيمان. وروي عن الحسن: {الأَوَّلانَ} وعن ابن سيرين: {الأَوَّلِينَ} قال النحاس: والقراءتان لحن؛ لا يقال في مثنى؛ مثنان، غير أنه قد روي عن الحسن {الأَوَّلانِ}
الخامسة والعشرون- قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أي يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين "أن الذي قال صاحبنا في وصيته حق، وأن المال الذي وصى به إليكما كان أكثر مما أتيتمانا به وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما" فذلك قوله: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي يميننا أحق من يمينهما؛
(6/359)
فصح أن الشهادة قد تكون بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} . وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: قام رجلان من أولياء الميت فحلفا. {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ} ابتداء وخبر. وقوله: {وَمَا اعْتَدَيْنَا} أي تجاوزنا الحق في قسمنا. {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي إن كنا حلفنا على باطل، وأخذنا ما ليس لنا.
السادسة عشرة- قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى} ابتداء وخبر. {أَنَّ} في موضع نصب. {يَأْتُوا} نصب بـ {أَنَّ} . {أَوْ يَخَافُوا} عطف عليه. {أَنْ تُرَدَّ} في موضع نصب بـ {يَخَافُوا} . {أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} قيل: الضمير في {يَأْتُوا} و {يَخَافُوا} راجع إلى الموصى إليهما؛ وهو الأليق بمساق الآية. وقيل: المراد به الناس، أي أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي، والله أعلم.
السابعة والعشرون- قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} أمر؛ ولذلك حذفت منه النون، أي اسمعوا ما يقال لكم، قابلين له متبعين أم الله فيه. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فسق يفسق ويفسق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية، وقد تقدم، والله أعلم.
=============

المائدة - تفسير الطبري
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيِّبون السوائب؟ الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى ذكره يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله، ليتبين لكم كذبُ قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريمكم ما تحرِّمون من هذه الأشياء (1) = أجابوا من دعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءَنا يعملون به، ويقولون:"نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل". (2) قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أوَ لو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئًا؟ يقول: لم يكونوا يعلمون أنّ ما يضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كذبٌ وفريةٌ على الله، لا حقيقة لذلك ولا صحة، لأنهم كانوا أتباع المفترين الذين ابتدءوا تحريم ذلك، افتراءً على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ذكره ما يضيفون = ولا كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب، (3) بل كانوا على ضلالة وخطأ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف 6: 474 ، 483 ، 485/8: 513.
(2) انظر تفسير"حسب" فيما سلف 4: 244/7: 405.
(3) في المطبوعة: "ما كانوا فيما هم به عاملون" ، وفي المخطوطة: "كانوا" بغير"ما" ، والسياق يقتضي ما أثبت ، لأنه معطوف على قوله آنفاً: "يقول: لم يكونوا يعلمون. . ."
(11/137)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فأصلحوها، واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ذكره، وانظروا لها فيما يقرِّبها من ربها، فإنه"لا يضركم من ضَلّ" ، يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق، إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم، وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فحرمتم حرامه وحللتم حلاله.
* * *
ونصب قوله:"أنفسكم" بالإغراء، والعرب تغري من الصفات ب"عليك" و"عندك"، و"دونك"، و"إليك". (1)
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم معناه:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" ، إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم .
* ذكر من قال ذلك:
12848 - حدثنا سوار بن عبد الله قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن: أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم"، فقال ابن مسعود:"ليس هذا بزمانها، قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم". (2)
__________
(1) "الصفات" حروف الجر ، والظروف ، كما هو بين من سياقها. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 322 ، 323.
(2) الأثر: 12848 -"سوار بن عبد الله بن سوار العنبري" ، القاضي ، شيخ الطبري. ثقة ، مترجم في التهذيب. وأبوه: "عبد الله بن سوار العنبري" القاضي ، ثقة. مترجم في التهذيب.
و"أبو الأشهب" هو: "جعفر بن حيان السعدي العطاردي" ، ثقة ، روي له الستة ، مضى برقم: 11408.
وسيأتي تخريج الأثر في التعليق على رقم: 12850.
(11/138)
12849 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب، عن الحسن قال : ذكر عند ابن مسعود (1) "يا أيها الذين آمنوا" ، ثم ذكر نحوه.
12850- حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن قال : قال رجل لابن مسعود: ألم يقل الله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم" ؟ قال: ليس هذا بزمانها، قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدَّت عليكم فعليكم أنفسكم. (2)
12851 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا شبابة بن سوار قال ، حدثنا الربيع بن صبيح، عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى ذكره يقول:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا فليبلِّغ الشاهد الغائبَ"، فكنَّا نحن الشهودَ وأنتم الغَيَب، (3) ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "ذكر ابن مسعود" ، بإسقاط"عند" ، والصواب من المخطوطة.
(2) في الأثر: 12848 - 12850 - خبر الحسن ، عن ابن مسعود ، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 19 ، وقال: "رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من ابن مسعود".
(3) "الغيب" (بفتح الغين والياء) جمع"غائب" ، مثل"خادم" و"خدم".
(4) الأثر: 12851 -"الحسن بن عرفة العبدي البغدادي" ، شيخ الطبري ، مضى برقم: 9373.
و"شبابة بن سوار الفزازي" ، مضى برقم: 37 ، 6701 ، 10051.
و"الربيع بن صبيح السعدي" ، مضى برقم: 6403 ، 6404 ، 10533.
و"سفيان بن عقال" ، مترجم في الكبير2/2/94 ، وابن أبي حاتم 2/1/219 ، وكلاهما قال: "روي عن ابن عمر ، روى عنه الربيع" ، ولم يزيدا.
وخرجه في الدر المنثور 2: 340 ، وزاد نسبته لابن مردويه.
(11/139)
12852 - حدثنا أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال ، حدثنا قتادة، عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قومٌ من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية:"عليكم أنفسكم"، فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. (1)
12853- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عمرو بن عاصم قال ، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن أبي مازن، بنحوه. (2)
12854 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عوف، عن سوّار بن شبيب قال ، كنت عند ابن عمر، إذ أتاه رجل جليدٌ في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، (3) وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيضٌ إليه أن يأتي دناءةً، (4) وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأيَّ دناءة تريد، أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك! (5) قال: فقال الرجل: إني لستُ إيّاك أسأل، أنا أسأل الشيخ! فأعاد على عبد الله
__________
(1) الأثر: 12852 ، 12853 -"أبو مازن الأزدي الحداني" ، كان من صلحاء الأزد ، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة ، عن صاحب له ، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم 4/2/44 . ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة ، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: 12856"عن قتادة ، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة" ، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن" ، ولا شك. ثم يأتي في رقم: 12857"عن قتادة ، حدثنا أبو مازن ، رجل من صالحي الأزد ، من بني الحدان" ، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه ، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 340 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وأبي الشيخ.
(2) الأثر: 12852 ، 12853 -"أبو مازن الأزدي الحداني" ، كان من صلحاء الأزد ، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة ، عن صاحب له ، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم 4/2/44 . ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة ، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: 12856"عن قتادة ، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة" ، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن" ، ولا شك. ثم يأتي في رقم: 12857"عن قتادة ، حدثنا أبو مازن ، رجل من صالحي الأزد ، من بني الحدان" ، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه ، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 340 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وأبي الشيخ.
(3) في المطبوعة: "قد قرأوا" بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.
(4) في ابن كثير 3: 259 ، رواه عن هذا الموضع من التفسير ، وزاد فيه هنا: ". . . أن يأتي دناءة ، إلا الخير" ، وليست في مخطوطتنا.
(5) في المطبوعة: "وأي دناءة تزيد" ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(11/140)
الحديث، فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبا لك، إني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! (1) عظهم وانههم، فإن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون" . (2)
12855- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، قال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة، (3) ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانٌ تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا = أو قال: فلا يقبل منكم = فحينئذ: عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضلّ". (4)
12856- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة، في حلقة فيهم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ يُسْنِدون إليه، (5) فقرأ رجل:"عليكم
__________
(1) في المطبوعة ، وابن كثير: "فتقتلهم" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب قديم.
(2) الأثر: 12854 -"سوار بن شبيب السعدي الأعرجي" ، و"بنو الأعرج" ، حي من بني سعد. و"الأعرج" هو"الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم" ، قطعت رجله يوم"تياس" ، فسمي"الأعرج". وهو ثقة ، كوفي ، روى عن ابن عمر ، روى عنه عوف ، وعكرمة بن عمار. مترجم في الكبير 2/2/168 ، وابن أبي حاتم 2/1/270.
وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 259 ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 341 ، واقتصر على نسبته إلى ابن مردويه.
(3) قوله: "إنها اليوم مقبولة" ، يعني: كلمة الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) الأثر: 12855 - انظر التعليق على الآثار: 12848 - 12850.
وكان في المطبوعة هنا: " . . . من ضل إذا اهتديتم" ، بالزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) قوله: "يسندون إليه" أي: ينتهون إلى عمله ومعرفته وفقهه ، ويلجئون إليه في فهم ما يشكل عليهم. ويقال: "أسندت إليه أمري" ، أي: وكلته إليه ، واعتمدت عليه. وقال الفرزدق: إلَى الأَبْرَشِ الكَلْبِيّ أَسْنَدْتُ حَاجَةً ... تَوَاكَلَها حَيًّا تَمِيمٍ ووَائِلِ
وهذا كله مما ينبغي تقييده في كتب اللغة ، فهو فيها غير بين.
(11/141)
أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، فقال الشيخ: إنما تأويلها آخرَ الزمان.
12857- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال ، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد من بني الحُدَّان، (1) قال : انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة، فقعدت إلى حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) فقرأ رجل من القوم هذه الآية"لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، قال فقالَ رجلٌ من أسنِّ القوم: دَعْ هذه الآية، فإنما تأويلها في آخر الزمان. (3)
12858 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا ابن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّي لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ؟ فأقبلوا عليَّ بلسان واحد وقالوا: أتنتزِع بآية من القرآن لا تعرفها، (4) ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا:"إنك غلام
__________
(1) في المطبوعة: "بني الجدان" بالجيم ، وهو خطأ.
(2) في المطبوعة: "فيها أصحاب رسول الله: ، وفي المخطوطة: "فيها من أصحاب رسول الله" ، فضرب بالقلم على"فيها" فأثبتها على الصواب.
(3) الأثران: 12856 ، 12857 - انظر التعليق على الأثرين السالفين رقم: 12852 ، 12853.
(4) في المطبوعة: "تنزع بآية من القرآن" ، غير ما في المخطوطة ، وما غيره صواب.
ولكن يقال: "انتزع معنى جيدًا ، ونزعه" ، أي: استخرجه واستنبطه ويقال: "انتزع بالآية والشعر" ، أي: تمثل به.
(11/142)
حدَثُ السن، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. (1)
12859 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون"، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرُهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ! قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مَهْ، (2) لَمَّا يجئ تأويل هذه بعد! (3) إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه ما وقع تأويلهن
__________
(1) الأثر: 12858 -"ابن فضالة" هو: "مبارك بن فضالة بن أبي أمية" ، أبو فضالة البصري. وفي تفسير ابن كثير: "حدثنا أبو فضالة" ، ومضى برقم: 154 ، 597 ، 611 ، 1901.
و"معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي" ، أحد الأعلام ، مضى مرارًا منها: 186 ، 187 ، 2072 ، 8472 ، 11255 ، ولم تذكر لمعاوية بن صالح ، رواية عن جبير بن نفير ، بل روى عنه ابنه عبد الرحمن بن جبير.
و"جبير بن نفير" إسلامي جاهلي ، مضى برقم: 6656 ، 7009.
وهذا الخبر منقطع الإسناد ، ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 260 ، والسيوطي في الدر المنثور 2: 340 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(2) "مه" ، هكذا في المطبوعة ، وابن كثير ، والدر المنثور و"مه" كلمة زجر بمعنى: كف عن هذا. وفي المخطوطة مكانها: "مهل" ، وأخشى أن تكون خطأ من الناسخ ، ولو كتب"مهلا" ، لكان صوابًا ، يقال: "مهلا يا فلان" أي: رفقًا وسكونًا ، لا تعجل.
(3) في المطبوعة: "لم يجئ" ، ومثلها في ابن كثير والدر المنثور ، وأثبت ما في المخطوطة.
(11/143)
على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنه آيٌ وَقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير، (1) ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي يقع تأويلهنّ عند الساعة على ما ذكر من الساعة، (2) ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار، (3) فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تُلبَسوا شيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. (4)
12860- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن ابن مسعود: أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم ذكر نحوه. (5)
12861- حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا حرمي......... قال : سمعت الحسن يقول: تأوّل بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، فقال بعض
__________
(1) في المطبوعة: "آي قد وقع" بالزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "على ما ذكر من أمر الساعة" ، بزيادة"أمر" ، وفي المخطوطة أسقط الناسخ"على" ، وإثباتها هو الصواب.
(3) في المطبوعة: "من أمر الحساب" بالزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) الأثر: 12859 -"ليث بن هرون" ، لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.
و"إسحق الرازي" ، هو: "إسحق بن سليمان الرازي" ، مضى برقم: 6456 ، 102338 ، 11240. وانظر الإسناد الآتي رقم: 12866.
وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره 3: 258 ، 259 ، والسيوطي في الدر المنثور 2: 339 ، 340 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، ونعيم بن حماد في الفتن ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب.
وسيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.
(5) الأثر: 12860 - انظر الأثر السالف.
(11/144)
أصحابه: دعوا هذه الآية، فليست لكم. (1)
12862 - حدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل الرّملي قال ، حدثنا أيوب بن سويد قال ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم، عن عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، فقال: لقد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبا ثعلبة، ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثَرة، وشحًّا مطاعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك! إنّ من بعدكم أيام الصبر، (2) للمتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عاملا! قالوا: يا رسول الله، كأجر خمسين عاملا منهم؟ قال: لا كأجر خمسين عاملا منكم. (3)
__________
(1) الأثر: 12861 - هذا إسناد ناقص لا شك في ذلك.
"أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي" ، أبو الأشعث. روى عنه البخاري والترمذي والنسائي ، وغيرهم. صالح الحديث. ولد في نحو سنة 156 ، وتوفي سنة 253.
و"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي" ، مضى برقم: 8513. ومات سنة 201 ، ومحال أن يكون أدرك الحسن وسمع منه. فإن"الحسن البصري" مات في نحو سنة 110 فالإسناد مختل ، ولذلك وضعت بينه وبين الحسن نقطًا ، دلالة على نقص الإسناد.
(2) في المطبوعة: "أرى من بعدكم" ، والصواب من المخطوطة. وفي المخطوطة: "المتمسك" بغير لام الجر ، وكأن الصواب ما في المطبوعة.
(3) الأثر: 12862 - سيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.
"إسمعيل بن إسرائيل اللآل الرملي" ، مضى برقم: 10236 ، 12213 ، وذكرنا هناك أنه في ابن أبي حاتم"السلال" ، ومضى هناك" 10236"الدلال" ، وجاء هنا"اللآل" ، صانع اللؤلؤ وبائعه ، ولا نجد ما يرجح واحدة من الثلاث.
و"أيوب بن سويد الرملي" ، ثقة متكلم فيه. مضى برقم: 12213.
و"عتبة بن أبي حكيم الشعباني الهمداني ، ثم الأردني" ، ثقة ، ضعفه ابن معين. مضى برقم: 12213.
و"عمرو بن جارية اللخمي" ، ثقة ، مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"عمرو بن خالد" وهو خطأ محض. وفي المخطوطة كتب"خالد" ثم جعلها"جارية" ، وهو الصواب.
و"أبو أمية الثعباني" اسمه"يحمد" (بضم الياء وكسر الميم) وقيل: اسمه"عبد الله بن أخامر". ثقة. مترجم في التهذيب.
و"أبو ثعلبة الخشني" اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا. صحابي.
وسيأتي تخريجه في الذي يليه.
(11/145)
12863- حدثنا علي بن سهل قال ، أخبرنا الوليد بن مسلم، عن ابن المبارك وغيره، عن عتبة بن أبي حكيم، [عن عمرو بن جارية اللخمي]، عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني: كيف نَصنع بهذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بِخُوَيصة نفسك، (1) وذَرْ عوامَّهم، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنّ العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضَلَّ بعده وهلك.
__________
(1) "خويصة" تصغير"خاصة".
(2) الأثر: 12863 -"عتبة بن أبي حكيم" ، في المخطوطة: "عبدة بن أبي حكيم" ، وهو خطأ ظاهر.
وفي المخطوطة والمطبوعة ، أسقط: [عن عمرو بن جارية اللخمي] ، فوضعتها بين قوسين.
وهذا هو نفسه إسناد الترمذي.
وهذا الخبر ، رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق سعيد بن يعقوب الطالقاني ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عقبة بن أبي حكيم ، بنحو لفظه هنا. ثم قال الترمذي: "قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة = قيل: يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: لا ، بل أجر خمسين رجلا منكم". ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وأخرجه ابن ماجه في سننه رقم: 4014 من طريق هشام بن عمار ، عن صدقة بن خالد ، عن عتبة بن أبي حكيم ، بنحو لفظه.
ورواه أبو داود في سننه 4: 174 ، رقم: 4341 ، من طريق أبي الربيع سليمان بن داود العتكي ، عن ابن المبارك ، بمثله.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 258 ، والسيوطي في الدر المنثور 2: 339 ، وزاد نسبته إلى البغوي في معجمه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، والحاكم في المستدرك وصححه.
(11/146)
* ذكر من قال ذلك:
12864 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَ"، يقول: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضره من ضل بعدُ، إذا عمل بما أمرته به.
12865 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، يقول: أطيعوا أمري، واحفظوا وصيَّتي.
12866 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر الرازي، عن صفوان بن الجون قال : دخل عليه شابّ من أصحاب الأهواء، فذكر شيئًا من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي خصَّ بها أولياءه؟"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل" ، الآية. (1)
12867 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثنا أبو المطرف المخزومي قال ، حدثنا جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال :"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، ما لم يكن سيف أو سوط. (2)
__________
(1) الأثر: 12866 -"ليث بن هرون" ، لم أجده ، وانظر الإسناد السالف رقم 12859.
و"إسحق" ، هو: "إسحق بن سليمان الرازي" ، وانظر رقم: 12859.
وأما "صفوان بن الجون" ، فهو هكذا في المخطوطة أيضًا ، ولم أجد له ترجمة. وفي الدر المنثور 2: 341 ، "عن صفوان بن محرز" ، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم.
و"صفوان بن محرز بن زياد المازني ، أو الباهلي". روى عن ابن عمر ، وابن مسعود ، وأبي موسى الأشعري. روى عنه جامع بن شداد ، وعاصم الأحول ، وقتادة. كان من العباد ، اتخذ لنفسه سربًا يبكي فيه. مات سنة 74 ، مترجم في التهذيب. ومضى برقم: 6496.
(2) الأثر: 12867 -"عبد الكريم بن أبي عمير" ، مضى برقم: 7578 ، 11368 و"أبو المطوف المخزومي" ، لم أجد له ذكرًا.
(11/147)
12868- حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال ، تلا الحسن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكرَه عمله. (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، فاعملوا بطاعة الله ="لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، فأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر.
* ذكر من قال ذلك:
12869 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن سعد البقال، عن سعيد بن المسيب:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
12870 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن أبي العميس، عن أبي البختري، عن حذيفة:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، قال: إذا أمرتم ونهيتم.
12871- حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي = عن ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر: تقرءون هذه الآية:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، وإن الناس إذا رأوا الظالم = قال ابن وكيع = فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقابه. (2)
__________
(1) الأثر: 12868-"ضمرة بن ربيعة الفلسطيني الرملي" ، ثقة ، مضى برقم: 7134. وكان في المطبوعة: "مرة بن ربيعة" ، لم يحسن قراءة المخطوطة.
وهذه الكلمة التي قالها الحسن ، لو خفيت على الناس قديمًا ، فإن مصداقها في زماننا هذا يراه المؤمن عيانًا في حيث يغدو ويروح.
(2) الأثر: 12871 - خبر قيس بن أبي حازم ، عن أبي بكر ، رواه أبو جعفر بأسانيد ، من رقم: 12871 - 12878 ، موقوفًا على أبي بكر ، إلا رقم: 12876 ، 12878 ، فرواهما متصلين مرفوعين ، وإلا رقم: 12874 ، فهو مرسل. وأكثر طرق أبي جعفر طرق ضعاف.
ورواه من طريق"إسمعيل بن أبي خالد" ، عن قيس بن أبي حازم برقم: 12871 ، 12873. فمن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده رقم: 1 ، 16 ، 29 ، 30 ، 53 ، متصلا مرفوعًا. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 258: "وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة ، وابن حبان في صحيحه ، وغيرهم ، من طرق كثيرة ، عن جماعة كثيرة ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، به متصلا مرفوعًا. ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق. وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره".
و"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي" ، ثقة. مضى برقم: 5694 ، 5777.
و"قيس بن أبي حازم الأحمسي" ، ثقة ، روى له الستة ، روى عن جماعة من الصحابة ، وهو متقن الرواية. مترجم في التهذيب.
وهذا إسناد صحيح.
(11/148)
12872- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير وابن فضيل، عن بيان، عن قيس قال ، قال أبو بكر: إنكم تقرءون هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، يعمُّهم الله بعقابه. (1)
12873- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي بكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
12874 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، يقول: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغترُّوا بقول الله:"عليكم أنفسكم" ، فيقول أحدكم: عليَّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليَستعملن عليكم شراركم، فليسومنّكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم، فلا يستجيب لهم.
__________
(1) الأثر: 12872 -"ابن فضيل" هو: "محمد بن فضيل بن غزوان الضبي" ، مضى مرارًا كثيرة.
و"بيان" هو: "بيان بن بشر الأحمسي" ، ثقة ، مضى برقم 6501.
وقد مضى تخريج الخبر في الذي قبله ، وسيأتي من هذه الطريق أيضًا برقم: 12875.
وهو إسناد صحيح.
(11/149)
12875- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا بيان، عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر وهو على المنبر: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، عَمَّهم الله بعقابه.
12876 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثني عيسى بن المسيب البجلي قال ، حدثنا قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى الناسُ المنكر فلم يغيِّروه، والظالم فلم يأخذوا على يديه، فيوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. (1)
12877- حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا سعيد بن سالم قال ، حدثنا منصور بن دينار، عن عبد الملك بن ميسرة، عن قيس بن أبي حازم قال : صَعد أبو بكر المنبرَ منبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدُّونها رُخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشدَّ منها:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر،
__________
(1) الأثر: 12876 -"الحارث" هو: "الحارث بن محمد بن أبي أسامة" ، مضى مرارًا ، آخرها رقم: 10553 ، وترجمته في رقم: 10295.
و"عبد العزيز" ، هو: "عبد العزيز بن أبان الأموي" ، مضت ترجمته برقم: 10295 ، قال ابن معين: "كذاب خبيث ، يضع الأحاديث".
و"عيسى بن المسيب البجلي" ، قاضي الكوفة. وكان شابًا ولاه خالد بن عبد الله القسري. ضعيف متكلم فيه ، حتى قال ابن حبان: "كان قاضي خراسان ، يقلب الأخبار ، ولا يفهم ، ويخطئ ، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في ابن أبي حاتم 3/1/288 ، وميزان الاعتدال 2: 317 ، وتعجيل المنفعة: 328 ، ولسان الميزان 4: 405.
فهذا إسناد هالك ، مع روايته من طرق صحاح عن قيس ، عن أبي بكر.
(11/150)
أو ليعمنكم الله منه بعقاب. (1)
12878- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا إسحاق بن إدريس قال ، حدثنا سعيد بن زيد قال ، حدثنا مجالد بن سعيد، عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية ولا تدرون ما هي؟ :"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيِّروه، عمّهم الله بعقاب. (2)
* * *
وقال آخرون: بل معنى هذه الآية: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب.
__________
(1) الأثر: 12877 -"أسد بن موسى المرداني" ، "أسد السنة" ، مضى برقم: 23 ، 2530.
و"سعيد بن سالم القداح" ، متكلم فيه ، وثقه ابن معين ، غير أن ابن حبان قال: "يهم في الأخبار حتى يجيء بها مقلوبة ، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في التهذيب.
و"منصور بن دينار التميمي الضبي" ، ضعفوه. مترجم في الكبير 4/ 1/ 347 ، وابن أبي حاتم 4/1/171 ، وميزان الاعتدال 3: 201 ، وتعجيل المنفعة: 412 ، ولسان الميزان 6 : 95.
و"عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد" ، ثقة ، من صغار التابعين مضى برقم: 503 ، 504
فهذا خبر ضعيف الإسناد ، مع روايته من طرق صحاح عن قيس ، عن أبي بكر.
(2) الأثر: 12878 -"محمد بن بشار" ، هو"بندار" ، مضى مئات من المرات. وكان في المطبوعة هنا"محمد بن سيار" ، أساء قراءة المخطوطة.
"وإسحق بن إدريس الأسواري البصري" ، منكر الحديث ، تركه الناس ، قال ابن معين: "كذاب ، يضع الحديث". وقال ابن حبان: "كان يسرق الحديث". مترجم في الكبير 1/1/382 ، وابن أبي حاتم 1/1/213 ، وميزان الاعتدال 1: 86 ، ولسان الميزان 1: 352.
و"سعيد بن زيد بن درهم الجهضمي" ، ثقة ، متكلم فيه ، حتى ضعفوا حديثه. مضى برقم: 11801.
و"مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني" ، قال أحمد: "يرفع حديثًا لا يرفعه الناس" ، وهو ثقة ، متكلم فيه. ومضى برقم: 1614 ، 2987 ، 2988 ، 11156.
وهذا أيضًا إسناد ضعيف.
(11/151)
* ذكر من قال ذلك:
12879 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" ، قال: يعني من ضلّ من أهل الكتاب.
12880- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، قال: أنزلت في أهل الكتاب.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك كل من ضل عن دين الله الحق.
* ذكر من قال ذلك:
12881 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَل إذا اهتديتم" ، قال: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفَّهت آباءك وضللتهم، وفعلت وفعلت، وجعلت آباءك كذا وكذا! كان ينبغي لك أن تنصرهم، وتفعل!
فقال الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية، ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها، وهو:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" ، الزموا العملَ بطاعة الله وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه ="لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، (1) وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم
__________
(1) في المطبوعة: "إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله" ، وهو لا معنى له ، أساء قراءة ما في المخطوطة ، لسوء كتابتها.
(11/152)
الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلمًا لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيِّه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى. ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان للناس تركُ ذلك، لم يكن للأمر به معنًى، إلا في الحال التي رخَّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصًا له تركه، إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه.
وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى، فبيِّنٌ أنه قد دخل في معنى قوله:"إذا اهتديتم" ، ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك:"إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر"، ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده: اعملوا، أيها المؤمنون، بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا أهل الزَّيغ والضلال وما حاد عن
(11/153)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106)
سبيلي بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. فإن قبلوا، فلهم ولكم، وإن تمادَوْا في غيهم وضلالهم، فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الآخرة ومصيرهم، (1) وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشر، فأخبر هناك كلَّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا، (2) ثم أجازيه على عمله الذي قَدِم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه، فإنه لا يخفى عليَّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به:"يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم" ، يقول: ليشهد بينكم ="إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية" ، يقول: وقت الوصية="اثنان ذوا عدل منكم"، يقول: ذوا رشد وعقل وحِجًى من المسلمين، (3) كما:-
12882 - حدثنا محمد بن بشار وعبيد الله بن يوسف الجبيري قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [سورة الطلاق: 2]، قال: ذَوَي عقل. (4)
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ذوا عدل منكم" .
فقال بعضهم: عنى به: من أهل ملتكم.
__________
(1) انظر تفسير"المرجع" فيما سلف 6: 464/10: 391 ، تعليق: 2.
(2) انظر تفسير"أنبأ" فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ).
(3) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) الأثر: 12882 -"عبيد الله بن يوسف الجبيري" ، "أبو حفص البصري" ، شيخ الطبري ، ثقة. روي له ابن ماجه. مترجم في التهذيب. وفي المخطوطة: "عبد الله بن يوسف" ، وهو خطأ. ومضى في رقم: 109 ، ولم يترجم هناك.
وهذا الخبر في تفسير الآية الثانية من"سورة الطلاق" ، ولم يذكره أبو جعفر هناك في تفسير الآية. فهذا من ضروب اختصاره تفسيره.
(11/154)
* ذكر من قال ذلك:
12883 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال : شاهدان"ذوا عدل منكم"، من المسلمين.
12884 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم" ، من المسلمين.
12885- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، قال: اثنان من أهل دينكم.
12886 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال : سألته، عن قول الله تعالى ذكره:"اثنان ذوا عدل منكم" ، قال: من الملة.
12887- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله = إلا أنه قال فيه: من أهل الملة.
12888- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن هذه الآية:"اثنان ذوا عدل منكم" ، قال: من أهل الملة.
12889- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، مثله.
(11/155)
12890- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة، فذكر مثله.
12891 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي، عن حماد، عن ابن أبي نجيح = وقال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح = عن مجاهد، مثله.
12892 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذوا عدل منكم" ، قال: ذوا عدل من أهل الإسلام.
12893 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله:"ذوا عدل منكم" ، قال: من المسلمين.
12894- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : كان سعيد بن المسيب يقول:"اثنان ذوا عدل منكم" ، أي: من أهل الإسلام.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك: ذوا عدل من حَيِّ الموصِي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.
* * *
واختلفوا في صفة"الاثنين" اللذين ذكرهما الله في هذه الآية، ما هي، وما هما؟
فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي.
* * *
وقال آخرون: هما وصيان.
* * *
وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان. قولَه:"شهادة بينكم" ، ليشهد شاهدان
(11/156)
ذوا عدل منكم على وصيتكم.
* * *
وتأويل الذين قالوا:"هما وصيان لا شاهدان" قولَه:"شهادة بينكم"، بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريضُ، من قولك:"شهدت وصية فلان"، بمعنى حضرته. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله:"اثنان ذوا عدل منكم" ، تأويلُ من تأوّله بمعنى أنهما من أهل الملة، دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره، عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" فغير جائز أن يصرف ما عمَّه الله تعالى ذكره إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون العائدُ من ذكره على العموم، (2) كما كان ذكرهم ابتداءً على العموم.
* * *
وأولى المعنيين بقوله:"شهادة بينكم" اليمين، لا"الشهادة" التي يقوم بها مَنْ عنده شهادة لغيره، لمن هي عنده، على مَن هي عليه عند الحكام. (3) لأنا لا نعلم لله تعالى ذكره حكمًا يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزًا صرفُ"الشهادة" في هذا الموضع، إلى"الشهادة" التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة.
__________
(1) انظر تفسير"شهد" فيما سلف من فهارس اللغة ، واختلاف معانيها.
(2) في المطبوعة: "من ذكرهم" ، وما في المخطوطة صواب محض.
(3) كان صدر هذه العبارة في المخطوطة: "شهادة بينكم ، لأن الشهادة . . ." ، أسقط لفظ"اليمين" ، وجعل"لا الشهادة" ، "لأن الشهادة" ، وهو فاسد ، والذي في المطبوعة هو الصواب المحض إن شاء الله ، وهو مطابق لما رواه القرطبي في تفسيره 6: 348 ، عن أبي جعفر الطبري.
(11/157)
وفي حكم الآية في هذه، اليمينَ على ذوي العدل = وعلى من قام مقامهم، باليمين بقوله (1) "تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله" = أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا في ذلك، من أن"الشهادة" فيه: الأيمان، دون الشهادة التي يقضَى بها للمشهود له على المشهود عليه = وفسادِ ما خالفه.
* * *
فإن قال قائل: فهل وجدتَ في حكم الله تعالى ذكره يمينًا تجب على المدَّعي، فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟
فإن قلتَ:"لا"، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله:"فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما" ، هما المدعيين.
وإن قلت:"بلى"، قيل لك: وفي أيّ حكم لله تعالى ذكره وجدتَ ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني. وذلك في حكم الرجل يدَّعي قِبَل رجل مالا فيقرّ به المدّعَى عليه قِبَله ذلك، ويدّعي قضاءه. فيكون القول قول ربّ الدين = (2)
والرجل يعرّف في يد الرجل السلعةَ، فيزعم المعرّف في يده أنه اشتراها من المدّعِي، أو أنّ المدعي وهبها له، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجبَ الله تعالى ذكره في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الخائنين فيما خانا فيه. (3)
__________
(1) في المطبوعة هنا"في اليمين بقوله" غير ما في المخطوطة ، وأفسد الكلام. والسياق"وفي حكم الآية . . . باليمين . . . أوضح الدليل . . .".
(2) قوله: "والرجل يعترف" ، معطوف على قوله: "في حكم الرجل . . . .". وكان في المطبوعة هنا"والرجل يعترف . . . فيزعم المعترفة" ، وهو خطأ ، وصوابه ما أثبت كما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " . . . على الجانبين فيما جنيا فيه" ، وهو لا معنى له هنا. وفي المخطوطة: "على الجانبين فيما صاهما فيه" ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(11/158)
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في الرافع قولَه:"شهادة بينكم"، وقولَه:"اثنان ذوا عدل منكم" .
فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله:"شهادة بينكم" ، شهادة اثنين ذوي عدل، ثم ألقيت"الشهادة"، وأقيم"الاثنان" مقامها، فارتفعا بما كانت"الشهادة" به مرتفعة لو جعلت في الكلام. (1) قال: وذلك = في حذف ما حذف منه، وإقامة ما أقيم مقام المحذوف = نظيرُ قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف: 82] ، وإنما يريد: واسأل أهل القرية، وانتصبت"القرية" بانتصاب"الأهل"، وقامت مقامه، ثم عطف قوله:"أو آخران" على"الاثنين".
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: رفع"الاثنين" ب"الشهادة"، أي: ليشهدكم اثنان من المسلمين، أو آخران من غيركم.
* * *
وقال آخر منهم: رفعت"الشهادة"، ب"إذا حضر". وقال: إنما رفعت بذلك، لأنه قال:"إذا حضر" فجعلها"شهادة" محذوفة مستأنفة، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق، لأنه قال تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم"، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال، وليست مما يثبت. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال:"الشهادة" مرفوعة بقوله:"إذا حضر" ، لأن قوله:"إذا حضر"،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بما كانت الشاهدة به مرتفعة" ، وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "مما ثبت" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(11/159)
بمعنى: عند حضور أحدكم الموت، و"الاثنان" مرفوع بالمعنى المتوهَّم، وهو: أن يشهد اثنان = فاكتفي من قيل:"أن يشهد"، بما قد جرى من ذكر"الشهادة" في قوله:"شهادة بينكم".
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن"الشهادة" مصدر في هذا الموضع، و"الاثنان" اسم، والاسم لا يكون مصدرًا. غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. (1) فالأمر وإن كان كذلك، فصرْفُ كل ذلك إلى أصح وُجوهه ما وجدنا إليه سبيلا أولى بنا من صرفه إلى أضعفها.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت، عدلان من المسلمين، أو آخران من غير المسلمين.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"أو آخران من غيركم" .
فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم، نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
12859 - حدثنا حميد بن مسعدة وبشر بن معاذ قالا (2) حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أو آخران من غيركم" ، من أهل الكتاب.
__________
(1) "الأفعال": المصادر. وانظر فهارس المصطلحات فيما سلف.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يونس بن معاذ" ، وهو خطأ محض. و"بشر بن معاذ" عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة" إسناد دائر في أكثر صفحات هذا التفسير.
(11/160)
12896- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب:"أو آخران من غيركم" ، من أهل الكتاب.
12897- حدثني أبو حفص الجبيري، عبيد الله بن يوسف قال ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. (1)
12898 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، مثله.
12899- حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسليمان التيمي، عن سعيد بن المسيب، أنهما قالا في قوله:"أو آخران من غيركم" ، قالا من غير أهل ملتكم.
12900- حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة قال ، حدثني من سمع سعيد بن جبير يقول، مثل ذلك.
12901 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا التيمي، عن أبي مجلز قال : من غير أهل ملتكم.
12902 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
12903 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال : إن كان قُرْبَه أحدٌ من المسلمين أشهدهم، وإلا أشهد رجلين من المشركين.
12904 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير في قوله:"أو آخران من غيركم" ، قالا
__________
(1) الأثر: 12897 -"أبو حفص الجبيري" ، "عبيد الله بن يوسف" ، مضى قريبًا رقم: 12882.
(11/161)
من غير أهل ملتكم. (1)
12905- حدثنا عمرو قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد:"أو آخران من غيركم"، قال: من أهل الكتاب.
12906- حدثنا عمرو قال ، حدثنا محمد بن سواء قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. (2)
12907- حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي = عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله.
12908 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين، فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.
12909 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة. (3) فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرَيْن. (4)
__________
(1) الأثر: 12904 -"أبو قتيبة" هو"سلم بن قتيبة الشعيري الفريابي". مضى برقم: 1899 ، 1924 ، 6395 ، 9714. وكان في المطبوعة: "قتيبة" ، غير كنية ، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر: 12906 -"عمرو" هو"عمرو بن علي الفلاس" ، مضى مرارًا.
و"محمد بن سواء بن عنبر السدوسي العنبري". صدوق ، ثقة ، متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "محمد بن سوار" وهو خطأ ، وفي المخطوطة: "محمد بن سوا" ، وأساء الناشر قراءته.
(3) في المطبوعة: "فشهادتها" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، وسيأتي كذلك في رقم: 12974.
(4) الأثر: 12909 - في المخطوطة والمطبوعة: "حدثني المثنى". والصواب ما أثبته ، وسيأتي هذا الخبر في موضعين بهذا الإسناد على الصواب ، وذلك رقم: 12943 ، 12974 ، ولذلك رددته إلى الصواب.
(11/162)
12910 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية، ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفَر.
12911- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصرانيّ إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية. (1)
12912 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح، نحوه.
12913 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال : كتب هشام بن هُبَيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين، فكتب:"لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية، ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرًا".
12914 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس، عن أشهب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال : سألته عن قول الله تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير الملة.
12915- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله.
12916- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة، عن ذلك فقال: من غير أهل الملة.
12917- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن
__________
(1) في المطبوعة: "اليهود والنصارى" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(11/163)
سيرين، عن عبيدة قال : من غير أهل الصلاة.
12918- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال : من غير أهل دينكم.
12919- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال : من غير أهل الملة.
12920- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا أبو حرّة، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير أهل ملتكم.
12921- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال، حدثنا هشام بن محمد قال ، سألت سعيد بن جبير عن [ قول الله:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير أهل ملتكم] . (1)
12922 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
12923- حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال : من غير أهل ملتكم.
12924 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أو آخران من غيركم" ، من غير أهل الإسلام.
12925 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، قال أبو إسحاق:"أو آخران من غيركم" ، قال: من اليهود والنصارى = قال
__________
(1) الأثر: 12921 - انتهى هذا الأثر في المخطوطة عند قوله: " . . . سعيد بن جبير عن" ووضع الناسخ في المخطوطة حرف (ط) بالأحمر في الهامش ، دلالة على الخطأ والشك. أما المطبوعة ، فزادت ما وضعته بين القوسين ، وهو صواب في المعنى إن شاء الله.
(11/164)
قال شريح: لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصراني إلا في وصية، ولا تجوز في وصية إلا في سفر.
12926 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا، عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقَا هذه. (1) قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهده رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا الأشعريّ فأخبراه، وقدِما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأحلفهما وأمضى شهادتهما. (2)
12927 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي: أن أبا موسى قضى بها بدَقوقَا.
12928 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم قال ، حدثنا عوف، عن محمد: أنه كان يقول في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، شاهدان من المسلمين وغير المسلمين.
12929 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد:"أو آحران من غيركم" ، من غير أهل الإسلام.
12930- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد قال : من غير أهل الإسلام.
__________
(1) "دقوقا" و"دقوقاء" ، مقصورًا وممدودًا؛ مدينة بين إربل وبغداد معروفة ، لها ذكر في الأخبار والفتوح ، كان بها وقعة للخوارج ، وكثر ذكرها في بعض أشعار الخوارج.
وكان في المطبوعة: " . . . بدقوقا ، ولم يجد أحدًا من المسلمين" ، حذف ما أثبته من المخطوطة.
وأساء. وظاهر من الخبر أن الشعبي قال هذا ، وهو يومئذ بدقوقا. وهو أيضًا ثابت في سنن أبي داود.
(2) الأثر: 12926 - رواه أبو داود في سننه 3: 417 رقم: 3605 .
(11/165)
12931 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الله بن عياش قال : قال زيد بن أسلم في هذه الآية:"شهادة بينكم" الآية كلها، قال: كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسِخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها. (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حَيِّكم وعشيرتكم.
* ذكر من قال ذلك:
12932 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم قال ، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم. (2)
12933 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال : مضت السُّنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. (3)
12934- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : كان الحسن يقول:"اثنان ذوا عدل منكم" ، أي: من عشيرته ="أو آخران من غيركم" ، قال: من غير عشيرته.
__________
(1) الأثر: 12931 -"عبد الله بن عياش بن عباس القتباني" ، "أبو حفص" المصري. مضى برقم: 12177. وكان في المطبوعة: "عبد الله بن عباس" ، وهو خطأ ، وهو على الصواب في المخطوطة.
(2) الأثر: 12932 -"عثمان بن الهيثم بن الجهم بن عيسى العصري العبدي" ، وهو"الأشج العصري" ثقة. علق عنه البخاري. يروي عن عوف الأعرابي ، مترجم في التهذيب.
(3) الأثر: 12933 -"صالح بن أبي الأخضر اليمامي" ، خادم الزهري ، مضى برقم: 9312.
(11/166)
12935 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير أهل حيِّكم.
12936- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير حيكم.
12937- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا ثابت بن زيد، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قول الله تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير أهل حيه = يعني: من المسلمين.
12938- حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك، عن الحسن:"أو آخران من غيركم" ، قال: من غير عشيرتك، ومن غير قومك، كلهم من المسلمين.
12939- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قوله:"أو آخران من غيركم" ، قال: مسلمين من غير حيكم.
12940 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" ، إلى قوله:"والله لا يهدي القوم الفاسقين" ، قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله، من غير أهل المرء الموصي، أهما من المسلمين، أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما، أتراهما من [غير] أهل المرء الموصي، (1) أم هما من غير
__________
(1) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها. وفي المخطوطة كما كانت في المطبوعة ، إلا أن الناسخ وضع في الهامش علامة الشك ، وهي هكذا (1) ، فأثبت الصواب إن شاء الله.
(11/167)
المسلمين؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أئمة العامة، سنة أذكرها، وقد كنا نتذاكرها أناسًا من علمائنا أحيانًا، فلا يذكرون فيها سُنة معلومة، ولا قضاءً من إمام عادل، ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأيًا إلينا، الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين، يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه، ويغيب عنه بعضهم، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى، فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضرُوا من وصية. فإن سلّموا جازت وصيته، وإن ارتابوا أن يكونوا بدَّلوا قولَ الميت، وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء، حَلَف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة، وهي صلاة المسلمين، فيقسمان بالله:"إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين". فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما، ما لم يعثر على أنهما [استحقا إثمًا في شيء من ذلك، فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا في شيء من ذلك ] ، (1) قام آخران مقامهما من أهل الميراث، من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوَّلان المستحلفان أول مرة، فيقسمان بالله لشهادتنا [ أحق من شهادتكما] ، (2) على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به ="وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين" ="ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم" ، الآية.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب، تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام. وذلك أن الله تعالى عرَّف عباده المؤمنين عند
__________
(1) هذه الجملة التي بين القوسين ، ليست في المخطوطة ، ووضع في المطبوعة مكانها: "فإن عثر" ، واقتصر على ذلك ، واستظهرت الجملة من سياق أبي جعفر.
(2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من الآية والسياق.
(11/168)
الوصية، شهادة اثنين من عدول المؤمنين، أو اثنين من غير المؤمنين. ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم، أو رجلين من غير عشيرتكم، وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم = أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين.
فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام، فغير جائز صرف معنى كلام الله تعالى ذكره إلا إلى أحسن وجوهه. (1)
وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى:"ذوا عدل منكم" ، إنما هو من أهل دينكم وملتكم، بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه.
وإذ صح ذلك بما دللنا عليه، فمعلوم أن معنى قوله:"أو آخران من غيركم" ، إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان الآخران اللذان من غير أهل ديننا، يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدَيْ وثَن، أو على أي دين كانا. لأنّ الله تعالى ذكره لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دونَ ملة، بعد أن يكونا من [غير] أهل الإسلام. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ وقتَ الوصية، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، أيها المؤمنون، أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "صرف مغلق كلام الله" ، وفي المخطوطة: "معلق" ، وصواب قراءتها"معنى"
(2) هذه الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ، وإلا فسد الكلام.
(11/169)
وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر:"الضارب في الأرض". (1)
="فأصابتكم مصيبة الموت" ، يقول: فنزل بكم الموت. (2)
* * *
ووجَّه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير، وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم إن وجدا، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم = وإنما فعل ذلك من فعله، لأنه وجَّه معنى"الشهادة" في قوله:"شهادة بينكم" ، إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيامَ صاحبها عند الحاكم، أو يُبطلها. * ذكر بعض من تأول ذلك كذلك:
12941 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"ذوا عدل منكم" ، من المسلمين. فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.
12942 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، قال: اثنان من أهل دينكم ="أو آخران من غيركم" ، من أهل الكتاب، إذا كان ببلادٍ لا يجد غيرهم.
12943 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"شهادة بينكم" إلى قوله:"أو آخران من غيركم" ، قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة.
__________
(1) انظر تفسير"الضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593/7: 332/9: 123.
(2) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف 8: 514 ، 538 ، 555/10: 393 ، 404
(11/170)
12944 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" ، قال: هذا في الحضر="أو آخران من غيركم" ، في السفر ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" ، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، (1) فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما.
12945 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية ، قال : إذا حضر الرجلَ الوفاةُ في سفر، فيشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد رجلين من المسلمين، فرجلين من أهل الكتاب.
12946 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"ذوا عدل منكم" ، فهذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمره الله أن يشهد على وصيته عَدْلين من المسلمين. ثم قال:"أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" ، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله تعالى ذكره بشهادة رجلين من غير المسلمين.
* * *
ووجَّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير، وقالوا: إنما عنى بالشهادة في هذا الموضع، الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما، وائتمانَ الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدِّياه إلى ورثته بعد وفاته، إن ارتيب بهما. قالوا: وقد
__________
(1) في المطبوعة: "هذا الرجل" ، زاد"في" ، وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي على الصواب في رقم: 12954.
(11/171)
يتَّمِن الرجلُ على ماله من رآه موضعًا للأمانة من مؤمن وكافر في السفر والحضر. (1) وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى، وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد.
* * *
القول في تأويل قوله : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم، أو كان أوصى إليهما = أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنيّة، فأوصيتم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم. فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فأصابتكم مصيبة الموت، فأدَّيا إلى ورثتكم ما اتَّمنتموهما وادَّعوا عليهما خيانة خاناها مما اتُّمنا عليه، (2) فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما = يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف، وهو:"فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم وصيتكم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال"، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة ="فيقسمان بالله إن ارتبتم" ، يقول: فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اُّتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها = و"الارتياب"، هو الاتهام (3) ="لا نشتري به ثمنًا" ،
__________
(1) في المطبوعة: "وقد يأمن الرجل على ماله" ، وفي المخطوطة: "سمى الرجل" غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت."أمن الرجل على كذا ، وائتمنه ، واتمنه" (الأخيرة ، مشددة التاء). وانظر ما سلف 5: 298 ، تعليق: 4.
(2) في المطبوعة في المواضع كلها"ائتمن" مكان"اتمن" ، وانظر التعليق السالف.
(3) انظر تفسير"الارتياب" فيما سلف 6: 78 ، وتفسير"الريب" فيما سلف 8: 592 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.
(11/172)
يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنًا، يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه، وعلى مال نذهب به، (1) أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وَليُّهم وميِّتهم. (2)
* * *
و"الهاء" في قوله:"به"، من ذكر"الله" ، والمعنيُّ به الحلف والقسم، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به، فعُرِف معنى الكلام، اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف. (3)
="ولو كان ذا قربى" ، يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضًا فنكذب فيها لأحد، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
* ذكر من قال ذلك:
12947- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنًا قليلا.
* * *
وقوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة" ، من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام:
__________
(1) انظر تفسير"الاشتراء" و"الثمن" فيما سلف من فهارس اللغة (شرى) و (ثمن).
(2) في المطبوعة: "أوصى إلينا وإليهم وصيهم" ، غير ما في المخطوطة مع وضوحه!!
(3) في المطبوعة: "فيعرف من معنى الكلام ، واكتفى به . . ." ، وفي المخطوطة: "فيعرف معنى الكلام" ، والصواب ما أثبت ، بجعل"فيعرف""فعرف" ، وحذف"من" ، وحذف الواو من"واكتفى".
(4) انظر تفسير"ذو القربى" فيما سلف 2: 292/3: 344/8: 334 .
(11/173)
أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة، إن ارتبتم بهما، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى.
* * *
واختلفوا في"الصلاة" التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فقال:"تحبسونهما من بعد الصلاة" .
فقال بعضهم: هي صلاة العصر.
* ذكر من قال ذلك:
12948 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما، ولا غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. (1)
12949 - حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"أو آخران من غيركم" ، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر.
12950 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
12951 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) الأثر: 12948 - انظر الأثر السالف رقم: 12926 ، والتعليق عليه. والأثر التالي رقم: 12953.
(11/174)
قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى"فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا رجل مات بغُرْبة من الأرض، وترك تركته، وأوصى بوصيته، وشهد على وصيته رجلان. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر. وكان يقال: عندها تصير الأيمان.
12952 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أنهما قالا في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" ، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب. فإذا قدما بتركته، فإن صدّقهما الورثة قُبِل قولهما، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خُنَّا ولا غيَّرنا.
12953- حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن القطان قال ، حدثنا زكريا قال ، حدثنا عامر: أن رجلا توفي بدَقُوقا، فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها. فأحلفهما أبو موسى دُبُر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما كتما ولا غيرا، وأن هذه الوصية. فأجازها. (1)
* * *
وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما.
* ذكر من قال ذلك:
12954 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"ذوا عدل منكم" ، قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما لَهُ وعليه، قال : هذا في الحضر="أو آخران من غيركم" في السفر ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" ، هذا، الرجل
__________
(1) الأثر: 12953 - انظر التعليق على رقم: 12948.
(11/175)
يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه. فيقبلان به. فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مالَ صاحبهم، تركوا الرجلين. وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم" . قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتُهِى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، (1) ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت، وخوَّنوهما. فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له:"إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، ويحلفان بالله: لا نشتري ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنّا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبهم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال:"تحبسونهما من بعد صلاة العصر". لأن الله تعالى عرَّف"الصلاة" في هذا الموضع بإدخال"الألف واللام" فيها، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف، إما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك، وكانت"الصلاة" في هذا الموضع مجمعًا على أنه لم يُعْنَ بها جميع الصلوات، لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلَف من اليهود والنصارى، لأن لهم صلوات ليست واحدة، فيكون معلومًا أنها المعنيَّة بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) "العلج" (بكسر العين وسكون اللام): الرجل من كفار العجم.
(11/176)
صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات (1) = كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة"، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس.
* * *
وكان ابن زيد يقول في قوله:"لا نشتري به ثمنًا" ، ما:-
12955 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا نشتري به ثمنًا" ، قال: نأخذ به رشوة.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار:( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة"الشهادة" إلى"الله" ، وخفض اسم الله تعالى = يعني: لا نكتم شهادة لله عندنا.
* * *
وذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي:-
12956 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عامر: أنه كان يقرأ:( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) = بقطع"الألف"، وخفض اسم الله = هكذا حدثنا به ابن وكيع.
* * *
وكأن الشعبي وجَّهَ معنى الكلام إلى: أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا،
__________
(1) انظر خبر العجلانيين في السنن الكبرى للبيهقي 7: 398 ، وما بعدها.
(11/177)
ولا نكتم شهادةً عندنا. ثم ابتدأ يمينًا باستفهام: بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنًا أو كتما شهادته عندهما، لمن الآثمين.
* * *
وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية، وذلك ما:-
12957- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا عباد بن عباد، عن ابن عون، عن الشعبي: أنه قرأ:( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) = (1) قال أحمد: قال أبو عبيد: تنوّن"شهادة" ويخفض"الله" على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع"الألف" على الاستفهام. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وحفظي أنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام. (3)
* * *
وقرأها بعضهم:( ولا نكتم شهادة الله ) ، بتنوين"الشهادة"، ونصب اسم"الله" بمعنى: ولا نكتم الله شهادةً عندنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ:( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة"الشهادة" إلى اسم"الله" ، وخفض اسم"الله" لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحَّتَها الأمة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "شهادة الله" ، هو خطأ ، صوابه في المخطوطة. وقراءة الشعبي أو قراءاته التي رويت عنه - مذكورة في تفسير أبي حيان 4: 44 ، والمحتسب لابن جني ، فراجعها هناك.
(2) الأثر: 12957 -"أحمد بن يوسف التغلبي الأحول" ، مضى برقم: 5919 ، 5954 ، 7664 ، وكان في المطبوعة هنا"الثعلبي" ، وهو خطأ بيناه هناك.
و"عباد بن عباد الرملي الأرسوفي" ، "أبو عتبة الخواص". روى عن ابن عون. مترجم في التهذيب.
(3) في المطبوعة: "وخفض إنا لقراءة الشعبي" ، وهو خلط لا معنى له ، صوابه من المخطوطة.
(11/178)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله، وإن كان بعيدًا. (1)
12958 - حدثني بذلك يونس قال ، أخبرنا ابن زيد، عنه.
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن عُثِر" ، فإن اطُّلع منهما أو ظهر. (2)
وأصل"العثر"، الوقوع على الشيء والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم:"عثرت إصبع فلان بكذا"، إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشي ميمون بن قيس:
بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ... فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا (3)
__________
(1) في المطبوعة: "وإن كان صاحبها بعيدًا" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وأنا في شك منه على كل حال ، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. ولم أجد مقالة ابن زيد فيما بين يدي من الكتب.
(2) في المطبوعة: "فيهما" ، والصواب"منهما".
(3) ديوانه: 83 ، من قصيدته في هوذة بن علي الحنفي ، وقد مضى خبرها 2: 94 ، تعليق: 1 ، ومضى منها أبيات في 1: 106/2: 540 ، وقيل البيت في ذكر أرض مخوفة الليل ، وهي"البلدة" المذكورة في البيت التالي: وَبَلْدَةٍ يَرْهَبُ الجَوًّابُ دُلْجَتَهَا ... حَتَّى تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا
لاَ يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤَنِّسُهُ ... بِاللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُومِ والضُّوَعَا
كَلَّفْتُ مَجْهُولَها نَفْسِي، وَشَايَعَنِي ... هَمِّي عَلَيْهَا، إذَا مَا آلُهَا لَمَعَا
"الدلجة": سير الليل. و"الشيع" الأصحاب. و"النئيم": صوت البوم ، أو الصوت الضعيف من صوته. و"الضوع" ، طائر من طيور الليل ، إذا أحس بالصباح صدح ، وقيل هو: "الكروان". و"الآل" السراب ، و"اللوث": القوة ، يصف ناقته أنها ذات لحم وشحم ، قوية على السير. وقوله: "بذات لوث" ، متعلق بقوله: "كلفت" و"عفرناة" (بفتح العين والفاء) صفة للناقة بأنها قوية كأنها من نشاطها مجنونة. و"التعس"؛ الانحطاط والعثور.
وقوله: "ولعًا" ، كلمة تقال للعاثر ، يدعى له بأن ينتعش من عثرته ، ومعناها الارتفاع ، "لعا لفلان" أي أقامه الله من عثرته ، لما وصف الأعشي ناقته بالقوة والنشاط ، أنكر أن يكون لها عثرة في سرعتها ، فإذا عثرت ، كان الدعاء عليها بأن يكبها الله لمنخريها ، أولى به من أن يدعو بإقالة عثرتها.
(11/179)
يعني بقوله:"عثرت"، أصاب منسِمُ خُفِّها حجرًا أو غيرَه. (1) ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيًّا، كقولهم:(عَثَرتْ على الغَزْل بأَخَرة* فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةَ)، بمعنى: وقعت. (2)
* * *
وأما قوله:"على أنهما استحقا إثمًا" ، فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية = بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله ="على أنهما استحقا إثمًا"، يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثمًا، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خُنّا ولا بدَّلنا ولا غيَّرنا. فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئًا، أو غيرا وصيته، أو بدّلا فأثما بذلك من حلفهما بربهما (3) ="فآخران يقومان مقامهما" ، يقول، يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، الأوليان الموصَى إليهما.
__________
(1) في المطبوعة: "ميسم خفها حجر أو غيره" ، والصواب ما أثبت. و"المنسم" (بفتح فسكون فكسر): طرف خف البعير ، والنعامة والفيل. و"منسما البعير" ظفراه اللذان في يديه ، وهما له كالظفر للإنسان.
(2) هذا مثل. مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 181 ، الأمثال للميداني 1: 395 ، والأمثال لأبي هلال العسكري: 142. قوله"بأخرة" (بفتح الألف والخاء والراء) أي: أخيرًا. تقول: "ما عرفته إلا بأخرة" ، أي: أخيرًا."ونجد" ، هي الأرض المعروفة."قردة". وجمعها"قرد" (كله بفتحات) ، هو: ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد ، وهو نفاية الصوف. وأصله أن المرأة تترك الغزل وهي تجد ما تغزل من قطن أو كتان ، حتى إذا فاتها ، تتبعت القرد (نفاية الصوف) في القمامات ، ملتقطة لتغزله. ويضرب مثلا في التفريط مع الإمكان ، ثم الطلب مع الفوت. قال أبو هلال: "وهذا مثل قول العامة: نعوذ بالله من الكسلان إذا نشط". وروى هذا المثل صاحب لسان العرب في (قرد) ، ونصه"عكرت على الغزل . . ." ، وفسره"عكرت ، أي: عطفت". وهو بهذه الرواية لا شاهد فيه.
(3) قوله"فأثما . . . بربهما" ، انظر ما قلت في"أثم بربه" فيما سلف 4: 530 تعليق: 3 ، / ثم 6: 92 ، تعليق: 2 ، وبيانه هناك.
(11/180)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
12959 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر. فإذا اطُّلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا، ثم استحقوا.
12960 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
12961 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"أو آخران من غيركم" ، من غير المسلمين="تحبسونهما من بعد الصلاة"، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد". فذلك قوله:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" ، يقول: إن اطلع على أنّ الكافرَيْن كذبا ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد"، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء.
19262 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" ، أي: اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حَكَم اللهُ تعالى ذكره على الشاهدين
(11/181)
بالأيمان فنقلها إلى الآخرين، (1) بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثمًا.
فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين، إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى بغير الذي يجوز في حكم الإسلام. (2) وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله.
* ذكر من قال ذلك:
12963 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"ذوا عدل منكم" ، من أهل الإسلام ="أو آخران من غيركم" ، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض" إلى:"فيقسمان بالله" ، يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة، فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى ذكره من الفريضة، (3) يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام="فآخران يقومان مقامهما" ، من أولياء الميت، فيحلفان بالله:"ما كان صاحبنا ليوصي بهذا"، أو:"إنهما لكاذبان، ولشهادتنا أحق من شهادتهما".
12964 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السديّ قال : يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين" ، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإنّ هذه لتركته: فإذا شهدا، وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا، قال لأولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما، فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة، أو أحدًا يطعُن عليهما، رددنا شهادتهما. فينطلق الأولياء فيسألون، فإن وجدوا أحدًا يطعُن عليهما، أو هما غير
__________
(1) في المخطوطة: "فمن نقلها" ، والصواب ما في المطبوعة ، أو شبيه بالصواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "لغير الذي يجوز" ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) "الفريضة" ، يعني المواريث.
(11/182)
مرضيين عندهم، أو اطُّلع على أنهما خانا شيئًا من المال وجدُوه عندهما، أقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام، (1) وحلفوا بالله:"لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليها، أحق من شهادتهما بما شهدا، وما اعتدينا". فذلك قوله:"فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان".
* * *
وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما ادَّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك، إذا ارتابوا بدعواهما. (2)
* ذكر من قال ذلك:
12965 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله" ، قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" . أي بدعواهما لأنفسهما ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" ، أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ الشاهدين ألزما اليمينَ في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلهما خيانةَ مالٍ معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما، أو على أحدهما، إنما صحح دعواه إذا حُقِّق حقه = أو: الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادَّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم
__________
(1) في المطبوعة: "فأقبل الأولياء فشهدوا" ، وفي المخطوطة: "فأقبل الأولياء شهدوا" ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) في المخطوطة: "إذا ارتابا".
(11/183)
دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بيِّنة، فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشهود، ارتيب بشهادتهما أو لم يُرْتَبْ بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرًا لذلك = ولا -إذا لم نجد ذلك كذلك- صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، (1) ولا بإجماع من الأمة. لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ذكره، فيكون أصلا مسلمًا. والقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرًا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة، كان واضحًا فسادُه.
وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله، أفسد (2) = من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أنّ من حكم الله تعالى ذكره أن مدّعيًا لو ادّعى في مال ميت وصية، أنّ القول قولُ ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم، دون قول مدعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما، وإنما نُقِل الأيمانُ عنهم إلى أولياء الميت، إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثمًا في أيمانهم. فمعلوم بذلك فساد قول من قال:"ألزم اليمينَ الشهودُ، لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت من ماله".
على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبارُ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى به حين نزلت هذه الآية، بين الذين نزلت فيهم وبسببهم.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "فلم نجد ذلك كذلك صح . . ." ، وأثبت ما في المخطوطة ، وسياقه"ولا . . . صح بخير عن الرسول" ، وقوله: "إذا لم نجد ذلك كذلك" اعتراض.
(2) السياق: "فالقول بأن الشاهدين . . . أفسد" ، يعني: أفسد من القول السابق.
(11/184)
12966- حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بدَّاء، فمات السَّهمي بأرض ليس فيها مسلم. فلما قدِما بتركته، فقدوا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب، (1) فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجِد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بدّاء! فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، وأنّ الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنزلت:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" . (2)
__________
(1) "الجام": إناء من فضة ، وهو عربي صحيح."مخوص بالذهب": عليه صفائح من ذهب على هيئة خوص النخل ، وهو ورقه. و"التخويص": أن يجعل على الشيء صفائح من الذهب ، على قدر عرض خوص النخل.
(2) الأثر: 12966 -"محمد بن أبي القاسم" ، الطويل ، الكوفي. روى عن أبيه ، وعبد الله وعبد الملك ، ابني سعيد بن جبير ، وعن عكرمة. وروى عنه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، وأبو أسامة ، وحماد بن أسامة. وثقه ابن معين ، وأبو حاتم. وقال البجيري وقال البخاري": "لا أعرف محمد بن أبي القاسم كما أشتهي ، وكان علي بن عبد الله يستحسن هذا الحديث (يعني حديث تميم الداري) قيل له: رواه غير محمد بن أبي القاسم؟ قال: لا. قال: وروى عنه أبو أسامة ، إلا أنه غير مشهور". وقال الحافظ ابن حجر ، بعد ذكر محمد بن أبي القاسم: "وما له في البخاري ، ولا لشيخه عبد الملك بن سعيد بن جبير ، غير هذا الحديث الواحد. ورجال الإسناد الإسناد ، ما بين علي بن عبد الله المديني (شيخ البخاري) ، وابن عباس ، كوفيون".
و"عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي" ، الكوفي ، عزيز الحديث ، ثقة. مضى برقم: 12776.
و"تميم الداري" ، هو"تميم بن أوس بن خارجة اللخمي" ، منسوب إلى جده"الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم" ، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سنة تسع وأسلم. وكان نصرانيا ، وهو الذي قال لرسول الله: "ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت يصنع بالشأم!" فصنع المنبر. وكان عابدًا.
وأما "عدي بن بداء" (بتشديد الدال) ، فكان نصرانيا ، ذكر أنه أسلم ، ولكن صحح ابن حجر في ترجمته في الإصابة أنه مات نصرانيًّا.
وهذا الحديث ، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 5: 307 309) ، وفي التاريخ الكبير 1/1/215 ، وأبو داود في سننه 3: 418 ، ورقم: 3606 ، والبيهقي في السنن الكبرى 10: 165 ، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 133 ، وأحكام القرآن للجصاص 2: 490 ، والترمذي في سننه (في كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث حسن غريب ، وهو حديث ابن أبي زائدة".
وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 266 ، نقلا عن الطبري ، ولم يذكر روايته في صحيح البخاري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 342 ، فقصر في نسبته إلى البخاري في صحيحه ، ونسبه إليه في التاريخ ، ثم زاد نسبته إلى ابن المنذر ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.
(11/185)
12967 - حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني قال ، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب، عن ابن عباس، عن تميم الدرايّ في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" ، قال: برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بدّاء = وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشأم قبل الإسلام. فأتيا الشأم لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بريل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جامُ فضّة يريد به الملك، وهو عُظم تجارته، (1) فمرض، فأوصى إليهما، وأمرهما أن يُبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجامَ فبعناه بألف درهم، فقسمناه أنا وعديّ بن بدّاء، [فلما قدمنا إلى أهله، دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام، فسألوا عنه] ، (2) فقلنا: ما ترك غيرَ هذا، وما دفع إلينا غيره: قال تميم: فلما أسلمتُ بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثَّمت من ذلك، (3) فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمسمئة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها! فوثبوا إليه، (4) فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في المخطوطة: "وهي عظم" ، وأثبت ما في المطبوعة ، لمطابقته لما في المراجع الأخرى. وقوله: "عظم تجارته" ، أي: معظمها ، يعني أن الجام كان أنفس ما معه وأغلاه ثمنًا.
(2) هذه الجملة التي بين القوسين ، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة ، وهي ثابتة في المراجع الأخرى ، وأثبتها من نص الناسخ والمنسوخ.
(3) "تأثم من الشيء" ، تحرج منه ، ووجده إثمًا يريد البراءة منه.
(4) قوله: "فوثبوا إليه" ، حذفها ناشر المطبوعة ، وهي ثابتة في المخطوطة ، وفي الناسخ والمنسوخ.
(11/186)
فسألهم البينة، فلم يجدوا. فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"أن ترد أيمان بعد أيمانهم" ، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، (1) فنزعتُ الخمسمئة من عدي بن بدَّاء. (2)
12968 - حدثنا القاسم، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة وابن سيرين وغيره = قال، وثنا الحجاجُ، عن ابن جريج، عن عكرمة = دخل حديث بعضهم في بعض:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية، قال : كان عدي وتميم الداري، وهما من لَخْم ، نصرانيَّان، يتَّجران إلى مكة في الجاهلية. فلما هاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حوَّلا متجرهما إلى المدينة، فقدم ابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص المدينة، وهو يريد الشأم تاجرًا، فخرجوا جميعًا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيَّته بيده تم دسَّها في متاعه، ثم أوصى إليهما. فلما مات فتحا متاعه، فأخذا ما أرادا، ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئًا، فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا. قال لهما أهله: فباع شيئًا أو ابتاعه؟ قالا لا! قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئًا؟ (3) قالا لا! قالوا: فهل تَجَر
__________
(1) في المخطوطة: "حلفا" ، بغير فاء ، وأثبت ما في المطبوعة والمراجع.
(2) الأثر: 12967 -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني" ، "أبو مسلم الحراني" ، ثقة مأمون ، مضت ترجمته برقم: 10411 ، وكان في المطبوعة هنا: "الحسن بن أبي شعيب" أسقط"بن أحمد" ، مع ثبوتها في المخطوطة ، وعذره أنه رأى الناسخ كتب"الحسن بن يحيى أحمد قال ابن أبي شعيب" ، وضرب على"يحيى" وعلى"قال" ، فضرب هو أيضا على"بن أحمد" فحذفها! ! وهو تساهل رديء.
و"محمد بن سلمة الحراني الباهلي" ، ثقة ، مضت ترجمته برقم: 175 ، وقد ورد في إسناد محمد ابن إسحق ، مئات من المرات.
و"أبو النضر" هو"محمد بن السائب الكلبي" ، ضعيف جدًا ، رمي بالكذب. وقد روى الثوري عن الكلبي نفسه أنه قال: "ما حدثت عني ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، فهو كذب ، فلا تروه". مضت ترجمته برقم: 72 ، 246 ، 248.
وأما "باذان ، مولى أم هانئ" ، أو "باذام" فهو "أبو صالح" ، ثقة ، مضى برقم: 112 ، 168 وغيرها. وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/144 ، وابن أبي حاتم 1/1/431.
وكان في المطبوعة والمخطوطة ، والناسخ والمنسوخ جميعًا"زاذان ، مولى أم هانئ" ، وهذا شيء لم يقله أحد ، ولذلك غيرته إلى الصواب الذي أجمعوا عليه ، وكأنه خطأ من الناسخ.
وأما "تميم الداري" ، و"عدي بن بداء" فقد سلفا في الأثر السابق.
وأما "بريل بن أبي مريم" ، مولى بني سهم ، أو مولى عمرو بن العاص السهمي ، صاحب هذه التجارة ، فقد ترجم له ابن حجر في الإصابة في"بديل" بالدال ، وكذلك ابن الأثير في أسد الغابة. وكان بديل مسلمًا من المهاجرين.
يقال في اسمه"بديل بن أبي مريم" ، و"بديل بن أبي مارية" ، ثم اختلف في"بديل" ، فروي بالدال ، وروي"بريل" بالراء ، وروي"بزيل" بالزاي ، وروي"برير" ، وقال ابن الأثير: "والذي ذكره الأئمة في كتبهم: يزيل ، بضم الباء وبالزاي ، ونحن نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى". هكذا قال ووعد ، ثم لم أجد له ذكرًا في كتابه بعد ذلك ، فلا أدري أنسي ابن الأثير ، أم في كتابه خرم أو نقص!!
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 5: 308 ، ما لم يذكره في الإصابة ، فقال: "بزيل" بموحدة ، وزاي ، مصغر. وكذا ضبطه ابن ماكولا ، ووقع في رواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن تميم نفسه عنه الترمذي والطبري (يعني هذا الخبر): بديل ، بدال ، بدل الزاي. ورأيته في نسخة من تفسير الطبري: بريل ، براء بغير نقطة. ولابن مندة من طريق السدي ، عن الكلبي: بديل بن أبي مارية". ثم قال: "ووهم من قال فيه: بديل بن ورقاء ، فإنه خزاعي ، وهذا سهمي ، وكذا وهم من ضبطه بذيل ، بالذال المعجمة".
وكان في المطبوعة"بديل" ، ولكني أثبت ما في المخطوطة ، وأخشى أن تكون مخطوطتنا هذه ، هي"النسخة الصحيحة من تفسير الطبري" التي ذكرها الحافظ ابن حجر ، أو هي منقولة عن النسخة التي ذكرها ووصفها وصححها.
وهذا الخبر ، رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 133 ، والترمذي في سننه في كتاب التفسير؛ بهذا الإسناد نفسه. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب ، وليس إسناده بصحيح. وأبو النضر ، الذي روى عنه محمد بن إسحق هذا الحديث ، هو عندي : محمد بن السائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، وقد تركه أهل العلم بالحديث ، وهو صاحب التفسير. سمعت محمد بن إسمعيل. يقول: محمد بن سائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، ولا نعرف لسالم أبي النضر المديني رواية عن أبي صالح (باذان) مولى أم هانئ. وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار ، عن غير هذا الوجه" ، ثم ساق الترمذي الأثر السالف بإسناده.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 341 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، وأبي نعيم في المعرفة.
(3) قولهم: "فهل استهلك من متاعه شيئًا" ، أي: أضاعه وافتقده ، وهذا حرف لم تقيده كتب اللغة ، استظهرت معناه من السياق. وقد جاء في حديث عائشة (صحيح مسلم 2: 59 ، وتفسير الطبري رقم: 9640) أن عائشة: "استعارت من أسماء قلادة فهلكت" ، أي: ضاعت ، كما فسرته فيما سلف 8: 404 ، رقم: 2. فقوله: "استهلك" هنا ، من معنى هذا الحرف الذي لم تقيده كتب اللغة ببيان واضح ، وهو"استفعل" ، بمعنى: وجده قد ضاع. وهو من صحيح القياس وجيده ، وهذا شاهده إن شاء الله.
(11/187)
تجارة؟ (1) قالا لا! قالوا: فإنا قد فقدنا بعضَه! فاتُّهما، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"إنا إذا لمن الآثمين". قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا له غيرَ هذا، ولا كتمنا". قال: فمكثنا ما شاء الله أن يمكثَا، (2) ثم ظُهِرَ معهما على إناء من فضةٍ منقوش مموَّه بذهب، (3) فقال، أهله: هذا من متاعه؟ قالا نعم، ولكنا اشترينا منه، ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذِّب أنفسنا! (4) فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الأخرى:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيَّبا ويستحقَّانه. ثم إنّ تميمًا الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: صدق الله ورسوله: أنا أخذت الإناء! (5)
12969- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد، في قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" ، الآية كلها. قال : هذا شيء [كان] حين لم يكن الإسلام إلا بالمدينة، (6) وكانت الأرض كلها كفرًا، (7) فقال الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" ، من المسلمين ="أو آخران من غيركم" ، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" ، قال: كان الرجل يخرج مسافرًا، والعرب أهلُ كفر، فعسى أن يموت في سفره، فيُسند وصيته إلى رجلين منهم ="فيقسمان بالله إن ارتبتم" ، في أمرهما. إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا، فيقسمان بالله: ما كان معه إلا هذا الذي قلنا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا" ، أنما حلفا على باطل وكذب ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" بالميت ="فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين" ، ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا، قال هؤلاء: لم يكن معه! قال: ثم عثر على بعض المتاع عندهما، فلما عثر على ذلك رُدّت القسامة على وارثه، (8) فأقسما، ثم ضمن هذان. قال الله تعالى:"ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، (9) فتبطل أيمانهم ="واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين" ، الكاذبين، الذين يحلفون على الكذب. وقال ابن زيد: قدم تميمٌ الداريّ وصاحب له، وكانا يومئذ مشركين، ولم يكونا أسلما، فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجلٌ، وجاءا بتركته. فقال أولياء الميت:
__________
(1) "تجر يتجر تجرًا وتجارة" (على وزن: نصر ينصر): باع وشرى. وأرادوا به هنا معنى الشراء بالعوض ، فيما أستظهر ، فإنهم قد سألوه قبل عن البيع والابتياع.
(2) في المطبوعة: "فمكثنا ما شاء الله أن نمكث" ، غير الناشر ما في المخطوطة ، وأفسد.
(3) "ظهر" (بالبناء للمجهول) ، أي: عثر معها على إناء.
(4) في المخطوطة: "نفسا" غير منقوطة ، ولو شئت قرأتها: "نفسينا" ، مكان"أنفسنا" ، وهما صواب.
(5) الأثر: 12968 -"أبو سفيان" هو: المعمري ، "محمد بن حميد اليشكري" ، مضى برقم: 1787 ، 8829.
و"الحسين" الراوي عنه ، هو"سنيد بن داود" ، مضى مرارًا.
و"ابن أبي مارية" ، هو"بديل بن أبي مارية" ، وقد بينت ذلك في التعليق على الأثر السالف.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 342 ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(6) الزيادة بين القوسين ، لا بد منها للسياق ، وكان في المخطوطة: " . . . لم يكن السلام" ، والصواب ما في المطبوعة.
(7) في المطبوعة: "كفر" بالرفع ، وأخشى أن يكون الأصل: "وكانت الأرض كلها دار كفر" ، أو ما أشبه ذلك ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، وهو صواب أيضًا.
(8) "القسامة" (بفتح القاف) ، أراد بها هنا: اليمين.
(9) قوله تعالى: "بعد أيمانهم" لم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة ، والصواب إثباتها.
(11/189)
كان مع صاحبنا كذا وكذا، وكان معه إبريق فضة! وقال الآخران: لم يكن معه إلا الذي جئنا به! فحلفا خَلْف الصلاة، ثم عثر عليهما بعدُ والإبريق معهما. فلما عثر عليهما، رُدَّت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم، ثم ضمنهما الذي حلف عليه الأوليان.
12970- حدثنا الربيع قال ، حدثنا الشافعي قال ، أخبرنا أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان = قال بكير، قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك = في قول الله:"اثنان ذوا عدل منكم" ، أن رجلين نصرانيين من أهل دارِين، أحدهما تميمي، والآخر يماني، صاحَبهما مولًى لقريش في تجارة، فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلومٌ قد علمه أولياؤه، من بين آنية وبزّ ورِقَة. (1) فمرض القرشي، فجعل وصيته إلى الداريّين، فمات، وقبض الداريّان المال والوصية، فدفعاه إلى أولياء الميت، وجاءا ببعض ماله، وأنكر القوم قلّة المال، فقالوا للداريَّين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به، فهل باع شيئًا أو اشترى شيئًا، فوُضِع فيه، (2) وهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا! قالوا: فإنكما خنتمانا! فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى آخر الآية. فلما نزل: أن يُحْبسا من بعد الصلاة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السموات:"ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، وإنا لا نشتري بأيماننا
__________
(1) "البز": الثياب ، أو ضروب منها ، وبائعها يقال له: "البزاز". و"الرقة" (بكسر الراء وفتح القاف): الفضة ، وأصلها"الورق" (بفتح الواو وكسر الراء) ، ثم حذفت الواو ، وجعلت الهاء في آخرها عوضًا عن الواو.
(2) يقال: "وضع في تجارته يوضع ضعة ، ووضيعة فهو موضوع فيها" ويقال: "أوضع" (كلاهما بالبناء للمجهول) ، ويقال: "وضع في تجارته وضعًا" (مثل: فرح فرحًا): غبن فيها ، وخسر من رأس المال.
(11/191)
ثمنًا قليلا من الدنيا، ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين". فلما حلفا خلَّى سبيلهما. ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناءً من آنية الميت، فأُخذ الداريَّان، فقالا اشتريناه منه في حياته! وكذبا، فكلِّفا البينة، فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:"فإن عثر" ، يقول: فإن اطُّلع ="على أنهما استحقا إثمًا"، يعني الداريين، إن كتما حقًّا ="فآخران"، من أولياء الميت ="يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، فيقسمان بالله:"إنّ مال صاحبنا كان كذا وكذا، وإن الذي يُطلب قبل الداريين لحقّ، وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين"، هذا قول الشاهدين أولياء الميت ="ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها"، يعني: الداريَّين والناس، أن يعودوا لمثل ذلك. (1)
* * *
قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا، دليلٌ واضح على صحة ما قلنا، من أنّ حكم الله تعالى ذكره باليمين على الشاهدين في هذا الموضع، إنما هو من أجل دعوى وَرَثته على المسنَد إليهما الوصية، خيانةً فيما دفع الميت من ماله إليهما، أو غير ذلك مما لا يبرأ فيه المدعي ذلك قِبَله إلا بيمين = وأن نقل اليمين إلى ورثة الميت بما أوجبه الله تعالى ذكره، بعد أن عثر على الشاهدين [أنهما استحقا إثمًا]، في أيمانهما، (2) ثم ظُهِر على كذبهما فيها، إن القوم ادَّعوا
__________
(1) الأثر: 12970 -"معاذ بن موسى الجعفري" ، "أبو سعيد" ، لم أجد له ترجمة إلا في تعجيل المنفعة: 406 ، لم يزد على أن قال: "معاذ بن موسى ، عن بكير بن معروف.
وعند الشافعي ، رحمه الله تعالى". وكان في المطبوعة: "سعيد بن معاذ بن موسى" وهو خطأ ، مخالف للمخطوطة.
و"بكير بن معروف الأسدي" ، "أبو معاذ النيسابوري ، الدامغاني" صاحب التفسير ، وهو صاحب مقاتل. قال ابن عدي: "ليس بكثير الرواية ، وأرجو أنه لا بأس به ، وليس حديثه بالمنكر جدًا" ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/117 ، وابن أبي حاتم 1/1/406.
وكان في المطبوعة: "بكر" ، وهو خطأ صرف.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 10: 164 من طريق إسمعيل بن قتيبة ، عن أبي خالد يزيد بن صالح ، عن بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان. ثم رواه (10: 165) من طريق أبي العباس الأصم ، عن الربيع بن سليمان ، عن الشافعي ، ثم أحال لفظه على الذي قبله.
(2) هذه الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ، استظهرتها من نص الآية.
(11/192)
فيما صَحَّ أنه كان للميت دعوًى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك، مما يكون اليمينُ فيها على ورثة الميت دون المدَّعَى، وتكون البينة فيها على المدعي= وفسادِ ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل. (1)
وفيها أيضًا، (2) البيانُ الواضح على أن معنى"الشهادة" التي ذكرها الله تعالى في أول هذه القصة إنما هي اليمين، كما قال الله تعالى في مواضع أُخر: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، [سورة النور:6]. فالشهادة في هذا الموضع، معناها القَسم، من قول القائل:"أشهد بالله إني لمن الصادقين"، (3) وكذلك معنى قوله:"شهادة بينكم" إنما هو: قسَم بينكم ="إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية" ، أن يقسم اثنان ذوا عدل منكم، إن كانا اتُّمنا على مال فارتيب بهما، أو اتُّمِنَ آخران من غير المؤمنين فاتُّهما. (4) وذلك أن الله تعالى ذكره، لما ذكر نقل اليمين من اللذين ظُهر على خيانتهما إلى الآخرين، قال :"فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما" . ومعلومٌ أنّ أولياء الميت المدعين قِبل اللذين ظُهر على خيانتهما، غير جائز أن يكونا شهداء، بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حق مدعًى عليه لمدّع. لأنه لا يعلم لله تعالى ذكره حكم قضى فيه لأحد بدعواه ويمينه على مدعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدعَى عليه ولا برهان. فإذ كان معلومًا أن قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما" ، إنما معناه: قسمُنا أحق من قَسَمهما = وكان قسم اللذين عُثر على أنهما أثِمَا، هو الشهادة التي ذكر
__________
(1) في المطبوعة: "مما قلنا من التأويل" ، وفي المخطوطة: "ما قبلنا من التأويل" ، وصواب القراءة ما أثبت.
(2) قوله: "وفيها أيضًا" ، الضمير عائد على قوله في أول الفقرة السالفة: "ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا" ، وهي عطف عليه.
(3) في المطبوعة: "إنه لمن الصادقين" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) انظر ما كتبه في"اتمن" فيما سلف ص: 172 ، تعليق: 1 ، 2
(11/193)
الله ذكره تعالى في قوله:"أحق من شهادتهما" = صحَّ أن معنى قوله:"شهادة بينكم" ، بمعنى:"الشهادة" في قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما" ، وأنها بمعنى القسم.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"من الذين استحق عليهم الأوليان" .
فقرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشأم: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ، بضم"التاء".
* * *
وروي عن علي، وأبيّ بن كعب، والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ، بفتح"التاء".
* * *
واختلفت أيضًا في قراءة قوله:"الأوليان" .
فقرأته عامة قراء أهل المدينة والشأم والبصرة:(الأَوْلَيَان).
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة:(الأَوَّلِينَ).
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك:( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوَّلانِ).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في قوله:"من الذين استحق عليهم" ، قراءة من قرأ بضم"التاء"، لإجماع الحجة من القرأة عليه، مع مشايعة عامة أهل التأويل على صحة تأويله، (1) وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله: فآخران من أهل الميت، الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم،
__________
(1) في المطبوعة: "مع مساعدة أهل التأويل" ، وفي المخطوطة: "مع مساعه" غير منقوطة ، وآثرت قراءتها كما كتبتها. و"المشايعة" ، الموافقة والمتابعة.
(11/194)
يقومان مقام المستحقَّيْ الإثم فيهما، بخيانتهما ما خانَا من مال الميت.
وقد ذكرنا قائلي ذلك، أو أكثر قائليه، فيما مضى قبل، ونحن ذاكُرو باقيهم إن شاء الله ذلك:
12971 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"شهادة بينكم" ، أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران، لا يحضُره غير اثنين منهم. فإن رضي ورَثته ما عاجل عليه من تركته فذاك، وحلف الشاهدان إن اتُّهما: إنهما لصادقان ="فإن عثر" وُجد.........، (1) حلف الاثنان الأوليان من الورثة، فاستحقّا وأبطَلا أيمانَ الشَّاهدين.
* * *
وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح"التاء"، أرادوا أن يوجهوا تأويلَه إلى:"فآخران يقومان مقامهما"، مقام المؤتمنين اللذين عُثِر على خيانتهما في القَسم، و"الاستحقاق به عليهما"، دعواهما قِبَلهما = من"الذين استحقَّ" على المؤتمنين على المالِ على خيانتهما القيامَ مقامهما في القَسَم والاستحقاق، الأوليان بالميت. (2) وكذلك كانت قراءة من رُوِيت هذه القراءة عنه، فقرأ ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ بفتح"التاء" = و"الأوليان"، (3) على معنى: الأوليان بالميت وماله. وذلك مذهبٌ صحيحٌ ، وقراءةٌ غير مدفوعة صحَّتها، غير أنا نختار الأخرى،
__________
(1) في المطبوعة: "فإن عثر ، وجد لطخ حلف الاثنان . . ." ، وقوله: "لطخ" هنا من عجائب الكلام ، وفي المخطوطة بعد: "فإن عثر وجد" بياض إلى آخر السطر ، مع علامات بعد الكلام بالحمرة. والظاهر أن النسخة التي نقل عنها ناشر المطبوعة ، كان فيها في هذا الموضع حرف (ط) دلالة على الخطأ ، فكتب مكانها ما كتب. ووضعت أنا مكان البياض في المخطوطة نقطًا ، والظاهر أن سياق الكلام كان: "فإن عثر ، وجد أنها استحقا إثمًا" حلف الاثنان . . ." ، ولكني آثرت ترك البياض كما هو في المخطوطة ، والمعنى ظاهر.
(2) في المطبوعة: "في الأوليان" بزيادة"في" ، أثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.
(3) في المطبوعة ، حذف قوله: "والأوليان" ، وساق الكلام على سياق واحد. وأثبت ما في المخطوطة.
(11/195)
لإجماع الحجة من القرأة عليها، مع موافقتها التأويل الذي ذكرْنا عن الصحابة والتابعين.
12972- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن وكريب، عن علي: أنه كان يقرأ:(مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانْ). (1)
12973 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن واصل مولى أبي عُيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ:(مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَان). (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأما أولى القراءات بالصَّواب في قوله:"الأوليان" عندي،
__________
(1) الأثر: 12972 -"أبو إسحق" ، هو السبيعي.
و"أبو عبد الرحمن" هو"السلمي" القارئ ، "عبد الله بن حبيب" مضى برقم: 82.
و"كريب" هو"كريب بن أبي كريب" ، روى عن علي. وروى عنه أبو إسحق ، مترجم في الكبير4/1/231 ، وابن أبي حاتم 3/2/168 ، ولم يذكرا فيه جرحا. وترجمه في لسان الميزان ، وقال: "يروي المقاطيع ، من ثقات ابن حبان".
(2) الأثر: 12973 -"مالك بن إسمعيل بن درهم النهدي" ، "أبو غسان" ، مضى برقم: 2989 ، 4433 ، 4926 ، 8292. وأخشى أن يكون راوي هذا الخبر هو"مؤمل بن إسمعيل العدوي" ، لا"مالك بن إسمعيل" ، ولكن هكذا ثبت في المخطوطة.
و"حماد بن زيد بن درهم الأزدي" ، مضى برقم: 856 ، 1682 ، 5454.
و"واصل مولى أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة" ، ثقة ، روى عن يحيى بن عقيل الخزاعي ، والحسن البصري ، ورجاء بن حيوة ، وأبي الزبير المكي. روى عنه هشام بن حسان من أقرانه ، ومهدي بن ميمون ، وحماد بن زيد ، وغيرهم. مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/172 ، وابن أبي حاتم 4/2/30. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وائل بن أبي عبيدة" ، وهو خطأ لا شك فيه ، بيانه في التاريخ الكبير للبخاري.
و"يحيى بن عقيل الخزاعي البصري" ، روى عن يحيى بن يعمر ، وابن أبي أوفى ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال ابن معين: "ليس به بأس" ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/292 وابن أبي حاتم 4/2/176.
وأما "يحيى بن يعمر القيس الجدلي" ، فهو ثقة جليل ، يروي عن الصحابة والتابعين. كان نحويًا صاحب علم بالعربية والقرآن ، وهو أول من نقط المصاحف. مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/311 ، وابن أبي حاتم 4/2/196.
(11/196)
فقراءة من قرأ:(الأَوْلَيَانِ) لصحة معناها. (1) وذلك لأن معنى:"فآخران يقومان مقامهما من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان":فآخران يقومان مقامهما من الذي استُحقّ] فيهم الإثم، (2) ثم حذف"الإثم"، وأقيم مقامه"الأوليان"، لأنهما هما اللذان ظَلَما وأثِما فيهما، بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم، وعُثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان اُّتمنهما عليه الميت، (3) كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مِثل ذلك، من حذفهم الفعل اجتراء بالاسم، (4) وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل. (5) ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة، وهو قوله:"شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان" ، ومعناه: أن يشهد اثنان، وكما قال:"فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا"، فقال:"به"، فعاد بالهاء على اسم الله، وإنما المعنى: لا نشتري بقسمنا بالله، فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر، والمراد به:"لا نشتري بالقسم بالله"، استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزئ، بذكر"الأوليين" من ذكر"الإثم" الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إيَّاهما، إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته، وذلك قوله:"فإن عثر على أنَّهما استحقا إثمًا" .
* * *
وأما الذين قرءوا ذلك(الأَوَّلِينَ)، فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن"الذين"، فأخرجوا ذلك على وجه الجمع، إذْ كان"الذين" جميعًا، (6) وخفضًا،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بصحة معناها" بالباء ، والصواب ما أثبته.
(2) الذي وضعته بين الأقواس ، هو حق السياق والمعنى ، فإن السياق يقتضي أن يذكر الآية ، ثم يذكر تأويلها ، وهكذا فعلت ، وهو الصواب إن شاء الله.
(3) في المطبوعة: "ائتمنهما" ، وانظر ما كتبته سالفًا ص: 172 ، تعليق 1 ، 2 ، وص: 193 تعليق: 4.
(4) "الفعل" ، هو المصدر ، كما سلف مرارًا ، وانظر فهارس المصطلحات.
(5) انظر ما سلف ص: 160.
(6) في المطبوعة: "جمعا" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(11/197)
إذ كان"الذين" مخفوضًا، وذلك وجه من التأويل، غير أنه إنما يقال للشيء"أوّل"، إذا كان له آخر هو له أوّل. وليس للذين استحق عليهم الإثم، آخرهم له أوّل. بل كانت أيمان اللذين عثر على أنهما استحقَّا إثمًا قبل أيمانهم، فهم إلى أن يكونوا = إذ كانت أيمانهم آخرًا = أولى أن يكونوا"آخرين"، من أن يكونوا"أوّلين"، وأيمانهم آخرة لأولى قبلها.
* * *
وأما القراءة التي حكيت عن الحسن؛ فقراءةٌ عن قراءَة الحجة من القرأة شاذة، وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلا على بُعدها من الصواب.
* * *
واختلف أهل العربية في الرافع لقوله:"الأوليان" ، إذا قرئ كذلك.
فكان بعض نحويي البصرة (1) يزعم أنه رفع ذلك، بدلا من:"آخران" في قوله:"فآخران يقومان مقامهما" . وقال: إنما جاز أن يبدل"الأوليان"، وهو معرفة، من"آخران" وهو نكرة، لأنه حين قال:"يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم" ، كان كأنه قد حدَّهما حتى صارا كالمعرِفة في المعنى، فقال:"الأوليان"، فأجرى المعرفة عليهما بدلا. قال: ومثل هذا = مما يجري على المعنى = كثير، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز: (2)
عَلَيَّ يَوْمَ يَمْلِكُ الأُمُورَا... صَوْمُ شُهُورٍ وَجَبَتْ نُذُورَا
وَبَادِنًا مُقَلَّدًا مَنْحُورَا (3)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعض نحويي . . ." ، والصواب ما أثبت.
(2) لم أعرف قائله.
(3) "البادن": الضخم السمين المكتنز ، ولم أجدهم قالوا: "البادن" وأرادوا به"البدنة" (بفتح الباء والدال) ، وهي الناقة التي كانوا يسمنونها ثم تهدى إلى البيت ، ثم تنحر عنده. ولعل الراجز استعملها على الصفة ، ومع ذلك فهي عندي غريبة تقيد. و"المقلد" ، الذي وضعت عليه القلائد ، إشعارًا بأنه هدي يساق إلى الكعبة. ذكر الراجز ما نذره إذا ولى هذا الرجل أمور الناس.
(11/198)
قال: فجعله: عليَّ واجب، لأنه في المعنى قد أوجب. (1)
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون"الأوليان" بدلا من:"آخران" ، من أجل أنه قد نَسَق"فيقسمان" على"يقومان" في قوله (2) "فآخران يقومان" ، فلم يتمّ الخبر بعد"مِنْ". (3) قال: ولا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر. (4) وقال: غير جائز:"مررت برجل قام زيدٍ وقَعَد"، و"زيد" بدل من"رجل".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال:"الأوليان" مرفوعان بما لم يسمَّ فاعله، وهو قوله:(اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ) وأنهما وُضِعا موضع الخبر عنهما، (5) فعمل فيهما ما كان عاملا في الخبر عنهما. وذلك أن معنى الكلام:"فآخران يقومان مَقامهما من الذين استُحِقَّ عليهم الإثم بالخيانة"، فوضع"الأوليان" موضع"الإثم" كما قال تعالى ذكره في موضع آخر: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة: 19]، ومعناه: أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارةَ المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر
__________
(1) تركت هذه الجملة كما هي في المخطوطة والمطبوعة. وإن كنت أرجح أنه استشهد بالرجز على أنه نصب"صوم شهور" ، وعطف عليه"وبادنًا مقلدًا منحورًا" ، على معنى: قد أوجبت على نفسي صوم شهور ، وبادنًا مقلدًا منحورًا. فإن صح ذلك فيكون صواب هذه العبارة: "فجعله: على واجب = لأنه في المعنى: قد أوجبت".
(2) "نسق" ، أي: عطف.
(3) في المطبوعة: "فلم يتم الخبر عند من قال . . ." ، غير ما في المخطوطة ، وهذا خطأ محض. الصواب ما في المخطوطة ، يريد: بعد"من الذين استحق عليهم الأوليان".
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "قال" بغير واو ، والصواب إثباتها كما يدل عليه السياق.
ثم كتب في المطبوعة بعد ذلك"كما قال: غير جائز . . ." ، بزيادة"كما" ، وهي في المخطوطة ، مكتوبة متصلة بالراء ، فآثرت قراءتها"وقال" ، لأنه حق السياق.
(5) في المطبوعة: "وأنهما موضع الخبر" أسقط"وضعا" ، وهي ثابتة في المخطوطة.
(11/199)
= وكما قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ، [سورة البقرة: 93]، وكما قال بعض الهذليين. (1)
يُمَشِّي بَيْنَنَا حَانُوتُ خَمْرٍ... مِنَ الخُرْسِ الصَّرَاصِرَةِ الْقِطَاطِ (2)
وهو يعني: صاحب حانوت خمر، فأقام"الحانوت" مقامه، لأنه معلوم أن"الحانوت"، لا يمشي! ولكن لما كان معلومًا عنده أنَّه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه، حذف"الصاحب"، واجتزأ بذكر"الحانوت" منه. فكذلك قوله:"من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان" ، إنما هو من الذين استُحِقّ فيهم خيانتهما، فحذفت"الخيانة" وأقيم"المختانان"، مقامها. فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر.
* * *
وأما قوله:"عليهم" في هذا الموضع، فإن معناها: فيهم، كما قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، [سورة البقرة: 102]، يعني: في
__________
(1) هو المنخل الهذلي
(2) ديوان الهذليين 2: 21 ، والمعاني الكبير: 472. واللسان (حنت) (قطط) (خرص) ، من قصيدة له طويلة ، يذكر مواضي أيامه ، ثم يقول بعد البيت في صفة الخمر: رَكُودٍ في الإنَاءِ لَهَا حُمَيَّا ... تَلَذُّ بأَخْذِها الأَيْدِي السَّوَاطِي
مُشَعْشَعَةٍ كَعَيْنِ الدَّيكِ، لَيْسَتَْتْ، ... إذَا ذِيقَتْ، مِنَ الخَلِّ الخِمَاطِ
وقوله: "الخرس" ، جمع"أخرس" ، وهو الذي ذهب كلامه عيًا أو خلقة. ويعني به: خدمًا من العجم لا يفصحون ، فلذلك سماهم"خرسًا". وروى بعضهم"من الخرص" ، وهو خطأ ، فيه نبّه عليه الأزهري رحمه الله.
و"الصراصرة" نبط الشأم. وعندي أنهم سموا بذلك ، لشيء كان في أصواتهم وهم يتكلمون ، في أصواتهم صياح وارتفاع وامتداد ، كأنه صرصة البازي. و"القطاط" جمع"قطط" (بفتحتين) و"قط" (بفتح وتشديد): وهو الرجل الشديد جعودة الرأس. وقوله: "ركود في الإناء" ، يعني أنها صافية ساكنة. و"حميا الخمر" ، سورتها وأخذها بالبدن. و"الأيدي السواطي" ، التي تسطو إليها ، أي: تتناولها معجلة شديدة الرغبة فيها. و"مشعشعة": قد أرقها مزجها بالماء. و"الخماط" من الخمر: التي أصابتها ريح ، فلم تستحكم ولم تبلغ الحموضة.
(11/200)
ملك سليمان، وكما قال: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه: 71]. ف"في" توضع موضع"على"، و"على" في موضع"في"، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام، (1)
ومنه قول الشاعر: (2)
مَتَى مَا تُنِْكرُوها تَعْرِفُوهَا... عَلَى أَقْطَارِهَا عَلَقٌ نَفِيثُ (3)
وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى ذكره:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الأوليان"، أنهما رجلان آخرَان من المسلمين، أو رجلان أعدل من المقسمين الأوَّلَين
* ذكر من قال ذلك:
12974 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود بن أبي هند، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" ، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على
__________
(1) انظر ما سلف 1: 299/2 : 411 ، 412 ، وغيرها من المواضع في باب تعاقب الحروف.
(2) هو أبو المثلم الهذلي.
(3) ديوان الهذليين 2: 224 ، مشكل القرآن: 295 ، 430 ، والمعاني الكبير: 969 ، 970 ، والاقتضاب: 451 ، والجواليقي: 373 ، واللسان (نفث) وغيرها. من أبيات في ملاحاة بينه وبين صخر الغي ، من جراد دم كان أبو المثلم يطلب عقله ، أي ديته ، وقبل البيت: لَحَقٌ بَنِي شُغَارَةَ أن يَقُولوا ... لِصَخْرِ الغَيِّ: مَاذَا تَسْتَبِيثُ?
أي: ماذا تستثير؟ وإنما أراد الحرب ، فقال له بعد: "متى ما تنكروها . . ." ، أي: إذا جاءت الحرب أنكرتموها ، ولكن ما تكادون تنكرونها ، حتى تروا الدم يقطر من نواحيها ، يعني كتائب المحاربين. و"العلق": الدم ، و"الأقطار": النواحي. و"النفيث" ، الدم الذي تنفثه القروح والجروح.
وقد خلط البطليوسي في شرح هذا الشعر ، فزعم أن الضمير في قوله: "متى ما تنكروها" ، عائد"إلى المقالة" ، يعني هذا الهجاء بينهما ، وأتى في ذلك بكلام لا خير فيه ، أراد به الإغراب كعادته.
(11/201)
وصيته، فأشهد يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدَا بخلاف شهادتهم، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين. (1)
12975 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر" ، أي: اطلع منهما على خيانة، على أنهما كذبا أو كَتما، فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلافِ ما قالا أجيزت شهادة الآخرين، وأبطلت شهادة الأوَّلين.
12976 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال : كان ابن عباس يقرأ:(مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، كيف يكون"الأوليان"، أرأيت لو كان الأوليان صغيرين؟
12977- حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس قال : كان يقرأ:(مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، وقال: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين، كيف يقومان مقامهما؟
قال أبو جعفر: فذهب ابن عباس، فيما أرى، إلى نحو القول الذي حكيتُ عن شريح وقتادة، من أنّ ذلك رجلان آخران من المسلمين، يقومان مقام النَّصرانيين، أو عَدْلان من المسلمين هما أعدل وأجوزُ شهادة من الشاهدين الأولين أو المقسمين.
وفي إجماع جميع أهل العلم على أنْ لا حكم لله تعالى ذكره يجب فيه على شاهدٍ يمينٌ فيما قام به من الشهادة، دليلٌ واضح على أنّ غير هذا التأويل = الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى ذكره:"فآخران يقومان مقامهما" = أولى به.
__________
(1) الأثر: 12974 - مضى هذا الخبر برقم: 12909 ، 12943 ، وانظر التعليق على رقم: 12909.
(11/202)
وأما قوله"الأوليان" ، فإن معناه عندنا: الأوْلى بالميت من المقسمين الأولين فالأولى. (1) وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى = ثم حذف"منهما"، (2) والعرب تفعل ذلك فتقول:"فلان أفضل"، وهي تريد:"أفضل منك"، وذلك إذا وضع"أفعل" موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه"الألف واللام"، فعلوا ذلك أيضًا، إذا كان جوابًا لكلام قد مضى، فقالوا:"هذا الأفضل، وهذا الأشرف"، يريدون: هو الأشرف منك.
* * *
وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت.
12978 - حدثني يونس، عن ابن وهب، عنه.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللَّذين عثر على أنهما استحقا إثمًا بخيانتهما مالَ الميت، الأوْليان باليمين والميِّت من الخائنين: ="لشهادتنا أحقُّ من شهادتهما" ، يقول: لأيماننا أحقُّ من أيمان المقسمَين المستحقَّين الإثم، وأيمانِهما الكاذبة = في أنَّهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميّتنا، وكذا في أيمانِهما التي حلفا بها="وما اعتدينا"، يقول: وما تجاوزنا الحقَّ في أيماننا.
* * *
وقد بينا أن معنى"الاعتداء"، المجاوزة في الشيء حدَّه. (3)
* * *
__________
(1) السياق: "الأولى بالميت . . . فالأولى".
(2) في المطبوعة: "ثم حذف فيهما" ، وهو خطأ صرف ، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(3) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا).
(11/203)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
"إنا إذًا لمن الظالمين" يقول:"إنّا إن كنا اعتدينا في أيماننا، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين ="لمن الظالمين" ، يقول: لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يأخذ ما ليس له أخذه، (1) ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك" ، هذا الذي قلت لكم في أمر الأوصياء = إذا ارتبتم في أمرهم، واتهمتموهم بخيانة لمالِ من أوصى إليهم، من حبسهم بعد الصلاة، واستحلافكم إيَّاهم على ما ادَّعى قِبَلهم أولياء الميت ="أدنى" لهم"أن يأتوا بالشهادة على وجهها" ، يقول: هذا الفعل، إذا فعلتم بهم، أقربُ لهم أن يصدُقوا في أيمانهم، (3) ولا يكتموا، ويقرُّوا بالحق ولا يخونوا (4) ="أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم" ، يقول: أو يخاف هؤلاء الأوصياء إن عثر عليهم أنهم استحقُّوا إثمًا في أيمانهم بالله، أن تردَّ أيمانهم على أولياء الميت، بعد أيمانهم التي عُثِر عليها أنها كذب، فيستحقُّوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم، فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم، مخافةَ الفضيحة على أنفسهم، وحذرًا أن يستحقّ عليهم ما خانُوا فيه أولياء الميِّت وورثته.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "لمن عدا ومن يأخذ" ، غير ما في المخطوطة ، وأساء أقبح الإساءة.
(2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"أدنى" فيما سلف 6: 78/7: 548.
(4) انظر تفسير"على وجهه" فيما سلف 2: 511.
(11/204)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد تقدّمت الروايةُ بذلك عن بعضهم، نحن ذاكرو الرواية في ذلك عن بعضِ من بَقي منهم.
12979 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإن عُثر على أنهما استحقّا إثمًا" ، يقول: إن اطُّلع على أنّ الكافرين كذبَا ="فآخران يقومان مقامهما" ، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله أنّ شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم. وليس على شُهود المسلمين أقسْام، وإنما الأقسام إذا كانوا كافرين.
12980 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة" الآية، يقول: ذلك أحرَى أن يصدقوا في شهادتهم، وأن يخافوا العَقِب. (1)
12981 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله:"أو يخافوا أن تردَّ أيمان بعد أيمانهم" ، قال: فتبطل أيمانهم، وتؤخذ أيمانُ هؤلاء.
* * *
وقال آخرون: [معنى ذلك تحبسونهما من بعد الصلاة. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، على أنهما استحقا إثمًا، فآخران يقومان مقامهما]. (2)
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "وأن يخافوا العقاب" ، والصواب ما في المخطوطة و"العقب" (بفتح فكسر): العاقبة ، وذلك عاقبة أمرهما في وبطلان أيمانهم ، وعاقبة رد الفضيحة على أنفسهم.
(2) هذه الجملة كلها مضطربة المعنى ، ولا تطابق الأثر التالي ، وظني أن في الكلام سقطًا ، أسقط الناسخ سطرًا أو نحوه ، وتركتها على حالها في المخطوطة والمطبوعة ، ولكني وضعتها بين قوسين ، شكًّا مني في صحتها.
(11/205)
12982 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال : يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان بالله:"لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبكم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته". فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا:"إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما، فضحتكما في قومكما، ولم أجز لكما شهادة، وعاقبتكما". فإن قال لهما ذلك، فإنّ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وخافوا الله، أيها الناس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبةً، وأن تُذْهبوا بها مال من يَحْرم عليكم ماله، وأن تخونوا من اتَّمنكم (1) ="واسمعوا"، يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به، فاعملوا به، وانتهوا إليه ="والله لا يهدي القوم الفاسقين"، يقول: والله لا يوفِّق من فَسَق عن أمر ربّه، فخالفه وأطاع الشيطانَ وعصى ربَّه.
* * *
وكان ابن زيد يقول:"الفاسق"، في هذا الموضع، هو الكاذب. (2)
12983 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد:"والله لا يهدي القومَ الفاسقين" ، الكاذبين، يحلفون على الكذب.
* * *
__________
(1) انظر ما كتبته في"اتمن" فيما سلف ص: 197 ، تعليق: 3.
(2) انظر تفسير"الفاسق" بهذا المعنى من تفسير ابن زيد ، فيما سلف رقم: 12103 في الجزء 10: 376. ثم انظر تفسير"الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق).
(11/206)
وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفُوعٍ، إلا أن الله تعالى ذكره عَمَّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفسَّاق، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض بخبر ولا عقلٍ، فذلك على معاني"الفسق" كلها، حتى يخصِّص شيئًا منها ما يجب التسليمُ له، فيُسلِّم له.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين، هل هو منسوخ، أو هو مُحكَم ثابت؟
فقال بعضهم: هو منسوخ
* ذكر من قال ذلك:
12984 - حدثنا أبو كريب قال ، ثنا ابن إدريس، عن رجل قد سماه، عن حماد، عن إبراهيم قال : هي منسوخة.
12985 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: هي منسوخة = يعني هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" ، الآية.
* * *
وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد ذكرنا قولَ أكثرهم فيما مضَى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية غيرُ منسوخ (1) وذلك أن من حكم الله تعالى ذكره الذي عليه أهل الإسلام، من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، أنّ من ادُّعِي عليه
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أن حكم الآية منسوخ" ، وهو خطأ فاحش ، فإن أبا جعفر يقول بعد ذلك أنها غير منسوخة ، كما سترى ، فالصواب ما أثبته.
(11/207)
دَعْوى ممَّا يملكه بنو آدم، أنّ المدَّعَى عليه لا يبرئه مما ادُّعي عليه إلا اليمين، إذا لم يكن للمدَّعِي بيّنة تصحح دَعواه = وأنه إن اعترف في يَدِ المدَّعى [عليه] سلعةً له، (1) فادَّعَى أنها له دون الذي في يده، فقال الذي هي في يده:"بل هي لي، اشتريتها من هذا المدَّعِي"، أنّ القول قول من زَعَم الذي هي في يده أنه اشتراها منه، دون من هي في يده مع يمينه، إذا لم يكن للذي هي في يده بيّنة تحقق به دعواه الشراءَ منه.
فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلافَ فيه بين أهل العلم، وكانت الآيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمرَ وصية الموصِي إلى عدلين من المسلمين، أو إلى آخرين من غيرهم، إنما ألزَم النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر عنه، الوصيَّين اليمينَ حين ادَّعَى عليهما الورثة ما ادَّعوا، ثم لم يلزم المدَّعَى عليهما شيئًا إذ حلفا، حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفُوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم، فحينئذ ألزم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ورثَة الميِّت اليمين، لأن الوصيين تحوَّلا مُدَّعِيين بدعواهما ما وجدَا في أيديهما من مال الميِّت أنه لهما، اشتريَا ذلك منه، فصارَا مُقِرَّين بالمال للميِّت، مدَّعيين منه الشراء، فاحتاجا حينئذ إلى بيِّنةٍ تصحِّح دعواهما، وصارتْ وورثة الميتِ ربِّ السلعة، (2) أولى باليمين منهما. فذلك قوله تعالى ذكره:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما"، الآية.
__________
(1) في المطبوعة: "وأنه إن اعترف وفي يدي المدعي سلعة" ، غير ما في المخطوطة ، وفيها: "وأنه إن اعترف في يد المدعي سلعة" ، فأثبت ذلك ، وهو الصواب ، وزدت"عليه" بين القوسين ، لأنه حق المعنى.
وقوله: "اعترف" بمعنى: عرفها وميزها ، كما سيأتي في سائر الفقرة.
(2) في المطبوعة: " . . . تصحح دعواهما ، وورثة الميت رب السلعة" ، حذف قوله"وصارت" ، مع أن الكلام لا يستقيم إلا بها ، وهي في المخطوطة ثابتة ، إلا أن الناسخ أساء كتابتها.
(11/208)
فإذ كان تأويل ذلك كذلك، فلا وجه لدعوَى مدَّعٍ أن هذه الآية منسوخة، لأنه غير جائز أن يُقْضَى على حُكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ، إلا بخبَرٍ يقطع العذرَ: أمّا من عند الله، أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بورود النَّقل المستفيض بذلك. فأمَّا ولا خبر بذلك، ولا يدفع صحته عقل، فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ.
======

المائدة - تفسير الدر المنثور
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
- قَوْله تَعَالَى: مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا حام وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول قَالُوا حَسبنَا مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَائِنَا أولو كَانَ آباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ
- أخرج البُخَارِيّ وَمُسلم وَعبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: الْبحيرَة
الَّتِي يمْنَع درها للطواغيت وَلَا يحلبها أحد من النَّاس والسائبة: كَانُوا يسيبونها لآلهتهم
(3/210)
لَا يحمل عَلَيْهَا شَيْء
قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت عَمْرو بن عَامر الْخُزَاعِيّ يجر قصبه فِي النَّار كَانَ أول من سيب السوائب قَالَ ابْن الْمسيب: والوصيلة
النَّاقة الْبكر تبكر فِي أول نتاج الْإِبِل ثمَّ تثني بعد بأنثى وَكَانُوا يسيبونها لطواغيتهم إِن وصلت إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَينهمَا ذكر والحامي: فَحل الْإِبِل يضْرب الضراب الْمَعْدُود فَإِذا قضى ضرابه وَدعوهُ للطواغيت واعفوه من الْحمل فَلم يحمل شَيْء وسموه الحتمي
وَأخرج أَحْمد وَعبد بن حميد والحكيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن أبي الْأَحْوَص عَن أَبِيه قَالَ: أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خلقان من الثِّيَاب فَقَالَ لي: هَل لَك من مَال قلت: نعم
قَالَ: من أَي مَال قلت: من كل المَال من الْإِبِل وَالْغنم وَالْخَيْل وَالرَّقِيق
قَالَ: فَإِذا آتاك الله مَالا فلير عَلَيْك ثمَّ قَالَ: تنْتج إبلك رافية آذانها قلت: نعم وَهل تنْتج الْإِبِل إِلَّا كَذَلِك قَالَ: فلعلك تَأْخُذ مُوسَى قتقطع آذان طَائِفَة مِنْهَا وَتقول: هَذِه بَحر وتشق آذان طَائِفَة مِنْهَا وَتقول: هَذِه الصرم قلت: نعم
قَالَ: فَلَا تفعل إِن كل مَا آتاك الله لَك حل ثمَّ قَالَ {مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا حام} قَالَ أَبُو الْأَحْوَص: أما الْبحيرَة فَهِيَ الَّتِي يجدعون آذانها فَلَا تنْتَفع امْرَأَته وَلَا بَنَاته وَلَا أحد من أهل بَيته بصوفها وَلَا أوبارها وَلَا أشعارها وَلَا أَلْبَانهَا فَإِذا مَاتَت اشْتَركُوا فِيهَا
وَأما السائبة: فَهِيَ الَّتِي يسيبون لآلهتهم
وَأما الوصيلة: فالشاة تَلد سِتَّة أبطن وتلد السَّابِع جدياً وعناقاً فَيَقُولُونَ: قد وصلت فَلَا يذبحونها وَلَا تضرب وَلَا تمنع مهما وَردت على حَوْض وَإِذا مَاتَت كَانُوا فِيهَا سَوَاء
والحام من الْإِبِل إِذا أدْرك لَهُ عشرَة من صلبه كلهَا تضرب حمى ظَهره فَسُمي الحام فَلَا ينْتَفع لَهُ بوبر وَلَا ينْحَر وَلَا يركب لَهُ ظهر فَإِذا مَاتَ كَانُوا فِيهِ سَوَاء
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الْبحيرَة
هِيَ النَّاقة إِذا أنتجت خَمْسَة أبطن نظرُوا إِلَى الْخَامِس فَإِن كَانَ ذكرا ذبحوه فَأَكله الرِّجَال دون النِّسَاء وَإِن كَانَت أُنْثَى جدعوا آذانها فَقَالُوا: هَذِه بحيرة
وَأما السائبة: فَكَانُوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم لَا يركبون لَهَا ظهرا وَلَا يحلبون لَهَا لَبَنًا وَلَا يجزون لَهَا وَبرا وَلَا يحملون عَلَيْهَا شَيْئا
وَأما
(3/211)
الوصيلة: فالشاة إِذا أنتجت سَبْعَة أبطن نظرُوا السَّابِع فَإِن كَانَ ذكرا أَو أُنْثَى وَهُوَ ميت اشْترك فِيهِ الرِّجَال دون النِّسَاء وَإِن كَانَت أُنْثَى اسحيوها وَإِن كَانَ ذكرا وَأُنْثَى فِي بطن استحيوهما وَقَالُوا: وصلته أُخْته فحرمته علينا
وَأما الحام: فالفحل من الْإِبِل إِذا ولد لوَلَده قَالُوا: حمى هَذَا ظَهره فَلَا يحملون عَلَيْهِ شَيْئا وَلَا يجزون لَهُ وَبرا وَلَا يمنعونه من حمى رعي وَلَا من حَوْض يشرب مِنْهُ وَإِن كَانَ الْحَوْض لغير صَاحبه
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {مَا جعل الله من بحيرة} قَالَ: الْبحيرَة النَّاقة كَانَ الرجل إِذا ولدت خَمْسَة فيعمد إِلَى الْخَامِسَة فَمَا لم تكن سقيا فيبتك آذانها وَلَا يجز لَهَا وَبرا وَلَا يَذُوق لَهَا لَبَنًا فَتلك الْبحيرَة {وَلَا سائبة} كَانَ الرجل يسيب من مَاله مَا شَاءَ {وَلَا وصيلة} فَهِيَ الشَّاة إِذا ولدت سبعا عمد إِلَى السَّابِع فَإِن كَانَ ذكرا ذبح وَإِن كَانَت أُنْثَى تركت وَإِن كَانَ فِي بَطنهَا اثْنَان ذكر وَأُنْثَى فولدتهما قَالُوا: وصلت أخاها فيتركان جَمِيعًا لَا يذبحان فَتلك الوصيلة {وَلَا حام} كَانَ الرجل يكون لَهُ الْفَحْل فَإِذا ألقح عشرا قيل: حام فاتركوه
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {مَا جعل الله من بحيرة} الْآيَة
قَالَ: الْبحيرَة من الْإِبِل كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يحرمُونَ وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إِلَّا على الرِّجَال فَمَا ولدت من ذكر وَأُنْثَى فَهُوَ على هيئتها فَإِن مَاتَت اشْترك الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي أكل لَحمهَا فَإِذا ضرب من ولد الْبحيرَة فَهُوَ الحامي والسائبة من الْغنم على نَحْو ذَلِك إِلَّا أَنَّهَا مَا ولدت من ولد بَينهَا وَبَين سِتَّة أَوْلَاد كَانَ على هيئتها فَإِذا ولدت فِي السَّابِع ذكرا أَو أُنْثَى أَو ذكرين ذبحوه فَأَكله رِجَالهمْ دون نِسَائِهِم وَإِن توأمت أُنْثَى وَذكر فَهِيَ وصيلة ترك ذبح الذّكر بِالْأُنْثَى وَإِن كَانَتَا أنثيين تركتا
وَأخرج ابْن الْمُنْذر عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر فاستأخر عَن قبلته وَأعْرض بِوَجْهِهِ وتعوَّذ بِاللَّه ثمَّ دنا من قبلته حَتَّى رَأَيْنَاهُ يتَنَاوَل بِيَدِهِ فَلَمَّا سلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَا: يَا نَبِي الله لقد صنعت الْيَوْم فِي صَلَاتك شَيْئا ماكنت تَصنعهُ
قَالَ: نعم عرضت عليَّ فِي مقَامي هَذَا الْجنَّة وَالنَّار فَرَأَيْت فِي النَّار مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله وَرَأَيْت فِيهَا الحميرية صَاحِبَة الْهِرَّة الَّتِي ربطتها فَلم
(3/212)
تطعمها وَلم تسقها وَلم ترسلها فتأكل من خشَاش الأَرْض حَتَّى مَاتَت فِي رباطها وَرَأَيْت فِيهَا عَمْرو بن لحي يجر قصبه فِي النَّار وَهُوَ الَّذِي سيَّب السوائب وبحر الْبحيرَة وَنصب الْأَوْثَان وغيَّر دين إِسْمَاعِيل وَرَأَيْت فِيهَا عمرَان الْغِفَارِيّ مَعَه محجنه الَّذِي كَانَ يسرق بِهِ الْحَاج
قَالَ: وسمى لي الرَّابِع فَنسيته
وَرَأَيْت الْجنَّة فَلم أر مثل مَا فِيهَا فتناولت مِنْهَا قطفاً لأريكموه فحيل بيني وَبَينه فَقَالَ رجل من الْقَوْم: كَيفَ تكون الْحبَّة مِنْهُ قَالَ: كأعظم دلو فرته أمك قطّ
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق: فَسَأَلت عَن الرَّابِع فَقَالَ: هُوَ صَاحب ثنيتي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي نزعهما
وَأخرج البُخَارِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت جَهَنَّم يحطم بَعْضهَا بَعْضًا وَرَأَيْت عمرا يجر قصبه فِي النَّار وَهُوَ أول من سيب السوائب
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لأكتم بن الجون: يَا أكتم عرضت عليَّ النَّار فَرَأَيْت فِيهَا عَمْرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه فِي النَّار فَمَا رَأَيْت رجلا أشبه بِرَجُل مِنْك بِهِ وَلَا بِهِ مِنْك
فَقَالَ أكتم: أخْشَى أَن يضرني شبهه يَا رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا إِنَّك مُؤمن وَهُوَ كَافِر إِنَّه أول من غيَّر دين إِبْرَاهِيم وبحر الْبحيرَة وسيب السائبة وَحمى الحامي
وَأخرج أَحْمد وَعبد بن حميد وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن أول من سيب السوائب وَعبد الْأَصْنَام أَبُو خُزَاعَة عَمْرو بن عَامر وَإِنِّي رَأَيْته يجر أمعاءه فِي النَّار
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير عَن زيد بن أسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لأعرف أول من سيَّب السوائب وَنصب النصب وَأول من غير دين إِبْرَاهِيم قَالُوا: من هُوَ يَا رَسُول الله قَالَ: عَمْرو بن لحي أَخُو بني كَعْب لقد رَأَيْته يجر قصبه فِي النَّار يُؤْذِي أهل النَّار ريح قصبه وَإِنِّي لأعرف من بَحر البحائر
قَالُوا: من هُوَ يَا رَسُول الله قَالَ: رجل من بني مُدْلِج كَانَت لَهُ ناقتان فجدع آذانهما وَحرم ألبانهما وَظُهُورهمَا وَقَالَ: هَاتَانِ لله ثمَّ احْتَاجَ إِلَيْهِمَا فَشرب ألبانهما وَركب ظهورهما قَالَ: فَلَقَد رَأَيْته فِي النَّار وهما يقضمانه بأفواههما ويطآنه بأخفافهما
(3/213)
وَأخرج أَحْمد وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن أبي بن كَعْب قَالَ: بَينا نَحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة الظّهْر وَالنَّاس فِي الصُّفُوف خَلفه فرأيناه تنَاول شَيْئا فَجعل يتَنَاوَلهُ فَتَأَخر فَتَأَخر النَّاس ثمَّ تَأَخّر الثَّانِيَة فَتَأَخر النَّاس فَقلت: يَا رَسُول الله رَأَيْنَاك صنعت الْيَوْم شَيْئا مَا كنت تَصنعهُ فِي الصَّلَاة فَقَالَ: إِنَّه عرضت عَليّ الْجنَّة بِمَا فِيهَا من الزهرة والنضرة فتناولت قطفاً من عنبها وَلَو أَخَذته لأكل مِنْهُ من بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لَا ينقصونه فحيل بيني وَبَينه وَعرضت عَليّ النَّار فَلَمَّا وجدت سفعتها تأخَّرت عَنْهَا وَأكْثر من رَأَيْت فِيهَا النِّسَاء إِن ائْتمن أفشين وَإِن سألن ألحفن وَإِذا سئلن بخلن وَإِذا أعطين لم يشكرن وَرَأَيْت فِيهَا عَمْرو بن لحي يجر قصبه فِي النَّار وأشبه من رَأَيْت بِهِ معبد بن أكتم الْخُزَاعِيّ فَقَالَ معبد: يَا رَسُول الله أتخشى عليّ من شبهه قَالَ: لَا أَنْت مُؤمن وَهُوَ كَافِر وَهُوَ أول من حمل الْعَرَب على عبَادَة الْأَصْنَام
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَة {وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} قَالَ: لَا يعْقلُونَ تَحْرِيم الشَّيْطَان الَّذِي يحرم عَلَيْهِم
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن مُحَمَّد بن أبي مُوسَى فِي الْآيَة قَالَ: الْآبَاء جعلُوا هَذَا وماتوا وَنَشَأ الْأَبْنَاء وظنوا أَن الله هُوَ جعل هَذَا فَقَالَ الله {وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب} الْآبَاء فالآباء افتروا على الله الْكَذِب وَالْأَبْنَاء أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ يظنون الله هُوَ الَّذِي جعله
وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُحَمَّد بن أبي مُوسَى فِي قَوْله {وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب} قَالَ: هم أهل الْكتاب {وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} قَالَ: هم أهل الْأَوْثَان
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن الشّعبِيّ فِي قَوْله {وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} قَالَ: الَّذين لَا يعقلوهم الأتباع وَأما الَّذين افتروا فعقلوا أَنهم افتروا
(3/214)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
- قَوْله تَعَالَى: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ
(3/214)
أخرج ابْن أبي شيبَة وَأحمد وَعبد بن حميد والعدني وَابْن منيع والْحميدِي فِي مسانيدهم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَأَبُو يعلى والكجي فِي سنَنه وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن حبَان وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الافراد وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان والضياء فِي المختارة عَن قيس قَالَ: قَامَ أَبُو بكر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّكُم تقرأون هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّكُمْ تضعونها على غير موضعهَا وَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن النَّاس إِذا رَأَوْا الْمُنكر وَلم يغيروه أوشك أَن يعمهم الله بعقاب
وَأخرج ابْن جرير عَن قيس بن أبي حَازِم قَالَ: صعد أَبُو بكر مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: أَيهَا النَّاس إِنَّكُم لتتلون آيَة من كتاب الله وتعدونها رخصَة وَالله مَا أنزل الله فِي كِتَابه أَشد مِنْهَا {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} وَالله لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليعمنكم الله مِنْهُ بعقاب
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد عَن جرير البَجلِيّ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: مامن قوم يكون بَين أظهرهم رجل يعْمل بِالْمَعَاصِي هم أمنع مِنْهُ وأعز ثمَّ لَا يغيرون عَلَيْهِ إِلَّا أوشك أَن يعمهم الله مِنْهُ بعقاب
وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَابْن ماجة وَابْن جرير وَالْبَغوِيّ فِي مُعْجَمه وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن أبي أُميَّة الشَّعْبَانِي قَالَ أتيت أَبَا ثَعْلَبَة الْخُشَنِي فَقلت لَهُ: كَيفَ تصنع فِي هَذِه الْآيَة قَالَ: أَيَّة آيَة قَالَ: قَوْله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} قَالَ: أما وَالله لقد سَأَلت عَنْهَا خَبِيرا سَأَلت عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: بل ائْتَمرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهوا عَن الْمُنكر
حَتَّى إِذا رَأَيْت شحا مُطَاعًا وَهوى مُتبعا وَدُنْيا مُؤثرَة وَإِعْجَاب كل ذِي رَأْي بِرَأْيهِ فَعَلَيْك بِخَاصَّة نَفسك ودع عَنْك أَمر الْعَوام فَإِن من وَرَائِكُمْ أَيَّام الصَّبْر الصابر فِيهِنَّ مثل الْقَابِض على الْحمر لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مثل أجر خمسين رجلا يعْملُونَ مثل عَمَلكُمْ
وَأخرج أَحْمد وَابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي عَامر الْأَشْعَرِيّ أَنه كَانَ فيهم شَيْء فاحتبس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: مَا حَبسك
(3/215)
قَالَ: يَا رَسُول الله قَرَأت هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} قَالَ: فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيْن ذهبتم إِنَّمَا هِيَ لَا يضركم من ضل من الْكفَّار إِذا اهْتَدَيْتُمْ
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَسَعِيد بن مَنْصُور وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخ عَن الْحسن
أَن ابْن مَسْعُود سَأَلَهُ رجل عَن قَوْله {عَلَيْكُم أَنفسكُم} فَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِنَّه لَيْسَ بزمانها فَإِنَّهَا الْيَوْم مَقْبُولَة وَلكنه قد أوشك أَن يَأْتِي زمَان تأمرون بِالْمَعْرُوفِ فيصنع بكم كَذَا وَكَذَا أَو قَالَ: فَلَا يقبل مِنْكُم فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ
وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَعبد بن حميد عَن ابْن مَسْعُود فِي قَوْله {عَلَيْكُم أَنفسكُم} الْآيَة
قَالَ: مروا بِالْمَعْرُوفِ وانهوا عَن الْمُنكر مالم يكن من دون ذَلِك السَّوْط وَالسيف فَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك فَعَلَيْكُم أَنفسكُم
وَأخرج عبد بن حميد ونعيم بن حَمَّاد فِي الْفِتَن وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن أبي الْعَالِيَة قَالَ: كَانُوا عِنْد عبد الله بن مَسْعُود فَوَقع بَين رجلَيْنِ بعض مَا يكون بَين النَّاس حَتَّى قَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى صَاحبه فَقَالَ رجل من جلساء عبد الله: أَلا أقوم فآمرهما بِالْمَعْرُوفِ وأنهاهما عَن الْمُنكر فَقَالَ آخر إِلَى جنبه: عَلَيْك نَفسك فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {عَلَيْكُم أَنفسكُم} فَسَمعَهَا ابْن مَسْعُود فَقَالَ: مَه لم يَجِيء تَأْوِيل هَذِه الْآيَة بعد إِن الْقُرْآن أنزل حَيْثُ أنزل وَمِنْه آي قد مضى تأويلهن قبل أَن ينزلن وَمِنْه مَا وَقع تأويلهن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْه آي يَقع تأويلهن بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسنين وَمِنْه آي يَقع تأويلهن بعد الْيَوْم وَمِنْه آي يَقع تأويلهن عِنْد السَّاعَة مَا ذكر من أَمر السَّاعَة وَمِنْه آي يَقع تأويلهن عِنْد الْحساب مَا ذكر من أَمر الْحساب وَالْجنَّة وَالنَّار فَمَا دَامَت قُلُوبكُمْ وَاحِدَة وأهواؤكم وَاحِدَة وَلم تلبسوا شيعًا فَلم يذقْ بَعْضكُم بَأْس بعض فَمروا وانهوا فَإِذا اخْتلفت الْقُلُوب والأهواء وألبستم شيعًا وذاق بَعْضكُم بَأْس بعض فَكل امرىء وَنَفسه فَعِنْدَ ذَلِك جَاءَ تَأْوِيل هَذِه الْآيَة
وَأخرج ابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عمر
أَنه قيل لَهُ: أجلست فِي هَذِه الْأَيَّام فَلم تَأمر وَلم تنه فَإِن الله قَالَ {عَلَيْكُم أَنفسكُم} فَقَالَ: إِنَّهَا لَيست لي وَلَا لِأَصْحَابِي لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَلا فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب فَكُنَّا نَحن الشُّهُود
(3/216)
وَأَنْتُم الْغَيْب وَلَكِن هَذِه الْآيَة لأقوام يجيئون من بَعدنَا إِن قَالُوا لم يقبل مِنْهُ
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن جرير من طَرِيق قَتَادَة عَن رجل قَالَ: كنت فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب بِالْمَدِينَةِ فِي حَلقَة فيهم أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا فيهم شيخ حسبت أَنه قَالَ أبي بن كَعْب فَقَرَأَ {عَلَيْكُم أَنفسكُم} فَقَالَ: إِنَّمَا تَأْوِيلهَا فِي آخر الزَّمَان
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ من طَرِيق قَتَادَة عَن أبي مَازِن قَالَ: انْطَلَقت على عهد عُثْمَان إِلَى الْمَدِينَة فَإِذا قوم جُلُوس فَقَرَأَ أحدهم {عَلَيْكُم أَنفسكُم} فَقَالَ: أَكْثَرهم: لم يَجِيء تَأْوِيل هَذِه الْآيَة الْيَوْم
وَأخرج ابْن جرير عَن جُبَير بن نفير قَالَ: كنت فِي حَلقَة فِيهَا أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنِّي لأصغر الْقَوْم فتذاكروا الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فَقلت: أَلَيْسَ الله يَقُول {عَلَيْكُم أَنفسكُم} فَأَقْبَلُوا عَليّ بِلِسَان وَاحِد فَقَالُوا: تنْزع آيَة من الْقُرْآن لَا تعرفها وَلَا تَدْرِي مَا تَأْوِيلهَا حَتَّى تمنيت أَنِّي لم أكن تَكَلَّمت ثمَّ أَقبلُوا يتحدثون فَلَمَّا حضر قيامهم قَالُوا: إِنَّك غُلَام حدث السن وَإنَّك نزعت أَيَّة لَا تَدْرِي ماهي وَعَسَى أَن تدْرك ذَلِك الزَّمَان إِذا رَأَيْت شحا مُطَاعًا وَهوى مُتبعا وَإِعْجَاب كل ذِي رَأْي بِرَأْيهِ فَعَلَيْك بِنَفْسِك لَا يَضرك من ضل إِذا اهتديت
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن معَاذ بن جبل أَنه قَالَ: يارسول الله أَخْبرنِي عَن قَول الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} قَالَ: يَا معَاذ مروا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهوا عَن الْمُنكر فَإِذا رَأَيْتُمْ شحا مُطَاعًا وَهوى مُتبعا وَإِعْجَاب كل ذِي رَأْي بِرَأْيهِ فَعَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم ضَلَالَة غَيْركُمْ فَهُوَ من وَرَائِكُمْ أَيَّام الصَّبْر المتمسك فِيهَا بِدِينِهِ مثل الْقَابِض على الْجَمْر فللعامل مِنْهُم يَوْمئِذٍ مثل عمل أحدكُم الْيَوْم كَأَجر خمسين مِنْكُم
قلت: يَا رَسُول الله خمسين مِنْهُم قَالَ: بل خمسين مِنْكُم أَنْتُم
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: ذكرت هَذِه الْآيَة عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَول الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} فَقَالَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم يجىء تَأْوِيلهَا لَا يَجِيء تَأْوِيلهَا حَتَّى يهْبط عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن مُحَمَّد بن عبد الله التَّيْمِيّ عَن أبي بكر الصّديق سَمِعت
(3/217)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: مَا ترك قوم الْجِهَاد فِي سَبِيل الله إِلَّا ضَربهمْ الله بذل وَلَا أقرّ قوم الْمُنكر بَين أظهارهم إِلَّا عمهم الله بعقاب وَمَا بَيْنك وَبَين أَن يعمكم الله بعقاب من عِنْده إِلَّا أَن تأولوا هَذِه الْآيَة على غير أَمر بِمَعْرُوف وَلَا نهي عَن الْمُنكر {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ}
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم قَالَ: خطب أَبُو بكر النَّاس فَكَانَ فِي خطبَته قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَيهَا النَّاس لَا تتكلموا على هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} إِن الذاعر ليَكُون فِي الْحَيّ فَلَا يمنعوه فيعمهم الله بعقاب
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن الْحسن
أَنه تَلا هَذِه الْآيَة {عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} فَقَالَ: يالها من سَعَة مَا أوسعها ويالها ثِقَة مَا أوثقها
وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَن عُثْمَان الشحام أبي سَلمَة قَالَ: حَدثنِي شيخ من أهل الْبَصْرَة وَكَانَ لَهُ فضل وَسن قَالَ: بَلغنِي أَن دَاوُد سَأَلَ ربه قَالَ: يَا رب كَيفَ لي أَن أَمْشِي لَك فِي الأَرْض واعمل لَك فِيهَا بنصح قَالَ ياداود تحب من أَحبَّنِي من أَحْمَر وأبيض وَلَا يزَال شفتاك رطبتين من ذكري واجتنب فرَاش المغيب
قَالَ: أَي رب فَكيف أَن تحبني أهل الدُّنْيَا الْبر والفاجر قَالَ: ياداود تصانع أهل الدُّنْيَا لدنياهم وتحب أهل الْآخِرَة لآخرتهم وتجتان إِلَيْك ذَنْبك بيني وَبَيْنك فَإنَّك إِذا فعلت ذَلِك فَلَا يَضرك من ضل إِذا اهتديت
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عمر
أَنه جَاءَ رجل فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن نفر سِتَّة كلهم قَرَأَ الْقُرْآن وَكلهمْ مُجْتَهد لَا يألوهم فِي ذَلِك يشْهد بَعضهم على بعض بالشرك فَقَالَ: لَعَلَّك ترى أَنِّي آمُرك أَن تذْهب إِلَيْهِم تقَاتلهمْ عظهم وانههم فَإِن عصوك فَعَلَيْك نَفسك فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم} حَتَّى ختم الْآيَة
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن صَفْوَان بن مُحرز
أَنه أَتَاهُ رجل من أَصْحَاب الْأَهْوَاء فَذكر لَهُ بعض أمره فَقَالَ لَهُ صَفْوَان: أَلا أدلك على خَاصَّة الله الَّتِي خص الله بهَا أولياءه {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ}
(3/218)
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} يَقُول: أطِيعُوا أَمْرِي واحفظوا وصيتي
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} يَقُول: إِذا مَا أَطَاعَنِي العَبْد فِيمَا أَمرته من الْحَلَال وَالْحرَام فَلَا يضرّهُ من ضل بعده إِذا عمل بِمَا أَمرته بِهِ
وَأخرج ابْن جرير من طَرِيق قَارب بَينهمَا عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: {عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} مالم يكن سيف أَو سَوط
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن مَكْحُول
أَن رجلا سَأَلَهُ عَن قَول الله {عَلَيْكُم أَنفسكُم} الْآيَة
فَقَالَ: إِن تَأْوِيل هَذِه الْآيَة لم يَجِيء بعد إِذا هاب الْوَاعِظ وَأنكر الموعوظ فَعَلَيْك نَفسك لَا يَضرك حِينَئِذٍ من ضل إِذا اهتديت
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عمر مولى غفرة قَالَ: إِنَّمَا أنزلت هَذِه الْآيَة لِأَن الرجل كَانَ يسلم وَيكفر أَبوهُ وَيسلم الرجل وَيكفر أَخُوهُ فَلَمَّا دخل قُلُوبهم حلاوة الْإِيمَان دعوا آبَاءَهُم وإخوانهم فَقَالُوا: حَسبنَا مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
فَأنْزل الله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ}
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن سعيد بن جُبَير أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ: نزلت فِي أهل الْكتاب يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل} من أهل الْكتاب {إِذا اهْتَدَيْتُمْ}
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن حُذَيْفَة فِي قَوْله {عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} قَالَ: إِذا أمرْتُم بِالْمَعْرُوفِ ونهيتم عَن الْمُنكر
وَأخرج ابْن جرير عَن سعيد بن الْمسيب فِي قَوْله {لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} قَالَ: إِذا أمرت بِالْمَعْرُوفِ ونهيت عَن الْمُنكر لَا يَضرك من ضل إِذا اهتديت
وَأخرج ابْن جرير عَن الْحسن
أَنه تَلا هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم} فَقَالَ: الْحَمد لله بهَا وَالْحَمْد لله عَلَيْهَا مَا كَانَ مُؤمن فِيمَا مضى وَلَا مُؤمن فِيمَا بَقِي إِلَّا وَإِلَى جَانِبه مُنَافِق يكره عمله
(3/219)
وَأخرج أَحْمد وَابْن ماجة وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن أنس قَالَ: قيل يَا رَسُول الله مَتى يتْرك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر قَالَ إِذا ظهر فِيكُم مَا ظهر فِي بني إِسْرَائِيل قبلكُمْ
قَالُوا: وَمَا ذَاك يارسول الله قَالَ: إِذا ظهر الادهان فِي خياركم والفاحشة فِي كباركم وتحوّل الْملك فِي صغاركم وَالْفِقْه وَفِي لفظ: وَالْعلم فِي رذالكم
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن حُذَيْفَة
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليوشكن الله أَن يبْعَث عَلَيْكُم عقَابا مِنْهُ ثمَّ تَدعُونَهُ فَلَا يستجيب لكم
وَالله تَعَالَى أعلم
(3/220)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
- قَوْله تَعَالَى: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت حِين الْوَصِيَّة اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فأصابتكم مُصِيبَة الْمَوْت تحبسونهما من بعد الصَّلَاة فيقسمان بِاللَّه إِن ارتبتم لَا نشتري بِهِ ثمنا وَلَو كَانَ ذَا قربى وَلَا نكتم شَهَادَة الله إِنَّا إِذا لمن الآثمين فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا فآخران يقومان مقامهما من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان فيقسمان بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَمَا اعتدينا إِنَّا إِذا لمن الظَّالِمين ذَلِك أدنى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم وَاتَّقوا الله واسمعوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين
- أخرج التِّرْمِذِيّ وَضَعفه وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم والنحاس فِي ناسخه وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو النَّعيم فِي الْمعرفَة من طَرِيق أبي النَّضر وَهُوَ الْكَلْبِيّ عَن باذان مولى أم هانىء عَن ابْن عَبَّاس عَن تَمِيم الدَّارِيّ فِي هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} قَالَ برىء النَّاس مِنْهَا غَيْرِي وَغير عدي بن بداء وَكَانَا نَصْرَانِيين يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّام قبل الْإِسْلَام فَأتيَا الشَّام لِتِجَارَتِهِمَا وَقدم
(3/220)
عَلَيْهِمَا مولى لبني سهم يُقَال لَهُ: بديل بن أبي مَرْيَم بِتِجَارَة وَمَعَهُ جَام من فضَّة يُرِيد بِهِ الْملك وَهُوَ عظم تِجَارَته فَمَرض فأوصى إِلَيْهِمَا وَأَمرهمَا أَن يبلغَا مَا ترك أَهله
قَالَ تَمِيم: فَلَمَّا مَاتَ أَخذنَا ذَلِك الْجَام فَبِعْنَاهُ بِأَلف دِرْهَم ثمَّ اقتسمناه أَنا وعدي بن بداء فَلَمَّا قدمنَا إِلَى أَهله دفعنَا إِلَيْهِم ماكان مَعنا وَفقدُوا الْجَام فَسَأَلُونَا عَنهُ فَقُلْنَا: مَا ترك غير هَذَا وَمَا دفع إِلَيْنَا غَيره
قَالَ تَمِيم: فَلَمَّا أسلمت بعد قدوم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة تَأَثَّمت من ذَلِك فَأتيت أَهله فَأَخْبَرتهمْ الْخَبَر وَأديت إِلَيْهِم خَمْسمِائَة دِرْهَم وَأَخْبَرتهمْ أَن عِنْد صَاحِبي مثلهَا فَأتوا بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُمْ الْبَيِّنَة فَلم يَجدوا فَأَمرهمْ أَن يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يعظم بِهِ على أهل دينه فَحلف الله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم} إِلَى قَوْله {أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم} فَقَامَ عَمْرو بن الْعَاصِ وَرجل آخر فَحَلفا فنزعت الْخَمْسمِائَةِ دِرْهَم من عدي بن بداء
وَأخرج البُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر والنحاس وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ خرج رجل من بني سهم مَعَ تَمِيم الدَّارِيّ وعدي بن بداء فَمَاتَ السَّهْمِي بِأَرْض لَيْسَ فِيهَا مُسلم فأوصى إِلَيْهِمَا فَلَمَّا قدما بِتركَتِهِ فقدوا جَاما من فضَّة مخوصاً بِالذَّهَب فَأَحْلفهُمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّه: مَا كتمتماها وَلَا اطلعتما ثمَّ وجدوا الْجَام بِمَكَّة فَقيل: اشْتَرَيْنَاهُ من تَمِيم وعدي فَقَامَ رجلَانِ من أَوْلِيَاء السَّهْمِي فَحَلفا بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَإِن الْجَام لصَاحِبِهِمْ وَأخذ الْجَام وَفِيه نزلت {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم}
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن عِكْرِمَة قَالَ كَانَ تَمِيم الدَّارِيّ وعدي بن بداء رجلَيْنِ نَصْرَانِيين يتجران إِلَى مَكَّة فِي الْجَاهِلِيَّة ويطيلان الْإِقَامَة بهَا فَلَمَّا هَاجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حوّل متجرهما إِلَى الْمَدِينَة فَخرج بديل بن أبي مَارِيَة مولى عَمْرو بن الْعَاصِ تَاجِرًا حَتَّى قدم الْمَدِينَة فَخَرجُوا جَمِيعًا تجارًا إِلَى الشَّام حَتَّى إِذا كَانُوا بِبَعْض الطَّرِيق اشْتَكَى بديل فَكتب وَصيته بِيَدِهِ ثمَّ دسها فِي مَتَاعه وَأوصى إِلَيْهِمَا فَلَمَّا مَاتَ فتحا مَتَاعه فأخذا مِنْهُ شَيْئا ثمَّ حجزاه كَمَا كَانَ وقدما الْمَدِينَة على أَهله فدفعا مَتَاعه فَفتح أَهله مَتَاعه فوجدوا كِتَابه وَعَهده وَمَا خرج بِهِ وَفقدُوا شَيْئا فسألوهما عَنهُ فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي قبضنا لَهُ وَدُفِعَ إِلَيْنَا فَقَالُوا لَهما: هَذَا كِتَابه بِيَدِهِ قَالُوا:
(3/221)
مَا كتمنا لَهُ شَيْئا فترافعوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنزلت هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} إِلَى قَوْله {إِنَّا إِذا لمن الآثمين} فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يستحلفوهما بعد صَلَاة الْعَصْر بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَا قبضنا لَهُ غير هَذَا وَلَا كتمنا فمكثا مَا شَاءَ الله أَن يمكثا ثمَّ ظهر مَعَهُمَا على إِنَاء من فضَّة منقوش مموه بِذَهَب فَقَالَ أَهله: هَذَا من مَتَاعه وَلَكنَّا اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ ونسينا أَن نذكرهُ حِين حلفنا فكرهنا أَن نكذب نفوسنا فترافعوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنزلت الْآيَة الْأُخْرَى {فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلَيْنِ من أهل الْمَيِّت أَن يحلفا على مَا كتما وغيبا ويستحقانه ثمَّ إِن تميماً الدَّارِيّ أسلم وَبَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ يَقُول: صدق الله وَرَسُوله أَنا أخذت الْإِنَاء ثمَّ قَالَ: يَا رَسُول الله إِن الله يظهرك على أهل الأَرْض كلهَا فَهَب لي قريتين من بَيت لحم - وَهِي الْقرْيَة الَّتِي ولد فِيهَا عِيسَى - فَكتب لَهُ بهَا كتابا فَلَمَّا قدم عمر الشَّام أَتَاهُ تَمِيم بِكِتَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عمر: أَنا حَاضر ذَلِك فَدَفعهَا إِلَيْهِ
وَأخرج عبد بن حميد عَن عَاصِم أَنه قَرَأَ {شَهَادَة بَيْنكُم} مُضَاف بِرَفْع شَهَادَة بِغَيْر نون وبخفض بَيْنكُم
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم والنحاس من طَرِيق عَليّ عَن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت حِين الْوَصِيَّة اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم} هَذَا لمن مَاتَ وَعِنْده الْمُسلمُونَ أمره الله أَن يشْهد على وَصيته عَدْلَيْنِ من الْمُسلمين ثمَّ قَالَ {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} فَهَذَا لمن مَاتَ وَلَيْسَ عِنْده أحد من الْمُسلمين أمره الله بِشَهَادَة رجلَيْنِ من غير الْمُسلمين فَإِن ارتيب بِشَهَادَتِهِمَا استحلفا بِاللَّه بعد الصَّلَاة: مَا اشترينا بشهادتنا ثمنا قَلِيلا فَإِن اطلع الْأَوْلِيَاء على أَن الْكَافرين كذبا فِي شَهَادَتهمَا قَامَ رجلَانِ من الْأَوْلِيَاء فَحَلفا بِاللَّه أَن شَهَادَة الْكَافرين بَاطِلَة فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} يَقُول: إِن اطلع على أَن الْكَافرين كذبا قَامَ الأوليان فَحَلفا أَنَّهُمَا كذبا ذَلِك أدنى أَن يَأْتِي الكافران بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم فَتتْرك شَهَادَة الْكَافرين وَيحكم بِشَهَادَة الأوليان فَلَيْسَ على شُهُود الْمُسلمين أَقسَام إِنَّمَا الْأَقْسَام إِذا كَانَا كَافِرين
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله
(3/222)
{اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم} قَالَ: من أهل الْإِسْلَام {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} قَالَ: من غير أهل الْإِسْلَام وَفِي قَوْله {فيقسمان بِاللَّه} يَقُول: يحلفان بِاللَّه بعد الصَّلَاة
وَفِي قَوْله {فآخران يقومان مقامهما} قَالَ: من أَوْلِيَاء الْمَيِّت فيحلفان {بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا} يَقُول: فيحلفان بِاللَّه مَا كَانَ صاحبنا ليوصي بِهَذَا وإنهما لكاذبان
وَفِي قَوْله {ذَلِك أدنى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم} يَعْنِي أَوْلِيَاء الْمَيِّت فيستحقون مَاله بأيمانهم ثمَّ يوضع مِيرَاثه كَمَا أَمر الله وَتبطل شَهَادَة الْكَافرين
وَهِي مَنْسُوخَة
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن مَسْعُود أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة {اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم} قَالَ: مَا من الْكتاب إِلَّا قد جَاءَ على شَيْء جَاءَ على إدلاله غير هَذِه الْآيَة وَلَئِن أَنا لم أخْبركُم بهَا لأَنا أَجْهَل من الَّذِي ترك الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة هَذَا رجل خرج مُسَافِرًا وَمَعَهُ مَال فأدركه قدره فَإِن وجد رجلَيْنِ من الْمُسلمين دفع إِلَيْهِمَا تركته وَأشْهد عَلَيْهِمَا عَدْلَيْنِ من الْمُسلمين فَإِن لم يجد عَدْلَيْنِ من الْمُسلمين فرجلين من أهل الْكتاب فَإِن أدّى فسبيل مَا أدّى وَإِن هُوَ جحد اسْتحْلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ دبر صَلَاة: أَن هَذَا الَّذِي وَقع إِلَيّ وَمَا غيبت شَيْئا فَإِذا حلف برىء فَإِذا أَتَى بعد ذَلِك صاحبا الْكتاب فشهدا عَلَيْهِ ثمَّ ادّعى الْقَوْم عَلَيْهِ من تسميتهم مَا لَهُم جعلت أَيْمَان الْوَرَثَة مَعَ شَهَادَتهم ثمَّ اقتطعوا حَقه فَذَلِك الَّذِي يَقُول الله {ذَوا عدل مِنْكُم أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ}
وَأخرج عبد بن حميد وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد {شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} قَالَ: أَن يَمُوت الْمُؤمن فيحضر مَوته مسلمان أَو كَافِرَانِ لَا يحضرهُ غير اثْنَيْنِ مِنْهُم فَإِن رَضِي ورثته بِمَا غابا عَنهُ من تركته فَذَلِك وَيحلف الشَّاهِدَانِ أَنَّهُمَا صادقان فَإِن عثر قَالَ: وجد لطخ أَو لبس أَو تَشْبِيه حلف الِاثْنَان الأوّلان من الْوَرَثَة فاستحقا وأبطلا أَيْمَان الشَّاهِدين
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه والضياء فِي المختارة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} قَالَ: من غير الْمُسلمين من أهل الْكتاب
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير عَن سعيد بن الْمسيب فِي قَوْله {اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم} قَالَ: من أهل دينكُمْ {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} قَالَ: من أهل الْكتاب إِذا كَانَ بِبِلَاد لَا يجد غَيرهم
(3/223)
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن شُرَيْح قَالَ: لَا تجوز شَهَادَة الْيَهُودِيّ وَلَا النَّصْرَانِي إِلَّا فِي وَصِيَّة وَلَا تجوز فِي وَصِيَّة إِلَّا فِي سفر
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَأَبُو عبيد وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن الشّعبِيّ
أَن رجلا من الْمُسلمين حَضرته الْوَفَاة بدقوقاء وَلم يجد أحدا من الْمُسلمين يشْهد على وَصيته فَأشْهد رجلَيْنِ من أهل الْكتاب فَقدما الْكُوفَة فَأتيَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَأَخْبَرَاهُ وقدما بِتركَتِهِ ووصيته فَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: هَذَا أَمر لم يكن بعد الَّذِي كَانَ فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَأَحْلفهُمَا بعد الْعَصْر بِاللَّه مَا خَانا وَلَا كذبا وَلَا بدَّلا وَلَا كتما وَلَا غيرا وَإِنَّهَا وَصِيَّة الرجل وَتركته فَأمْضى شَهَادَتهمَا
وَأخرج ابْن جرير عَن زيد بن أسلم فِي قَوْله {شَهَادَة بَيْنكُم} الْآيَة
كلهَا قَالَ: كَانَ ذَلِك فِي رجل توفّي وَلَيْسَ عِنْده أحد من أهل الْإِسْلَام وَذَلِكَ فِي أول الْإِسْلَام وَالْأَرْض حَرْب وَالنَّاس كفار إِلَّا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ النَّاس يتوارثون بَينهم بِالْوَصِيَّةِ ثمَّ نسخت الْوَصِيَّة وفرضت الْفَرَائِض وَعمل الْمُسلمُونَ بهَا
وَأخرج ابْن جرير عَن الزبير قَالَ: مَضَت السّنة أَن لايجوز شَهَادَة كَافِر فِي حضر وَلَا سفر إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُسلمين
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة
وَأخرج عبد بن حميد وأبوالشيخ عَن عِكْرِمَة {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} قَالَ: من الْمُسلمين من غير حيه
وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَعبد بن حميد والنحاس وَأَبُو الشَّيْخ وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه {اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم} قَالَ: من قبيلتكم {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} قَالَ: من غير قبيلتكم أَلا ترى أَنه يَقُول {تحبسونهما من بعد الصَّلَاة} كلهم من الْمُسلمين
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عقيل قَالَ: سَأَلت ابْن شهَاب عَن هَذِه الْآيَة قلت: أَرَأَيْت الِاثْنَيْنِ اللَّذين ذكر الله من غير أهل الْمَرْء الْمُوصي أَهما من الْمُسلمين أَو هما من أهل الْكتاب وَرَأَيْت الآخرين اللَّذين يقومان مقامهما أتراهما من أهل الْمَرْء الْمُوصي أم هما فِي غير الْمُسلمين قَالَ ابْن شهَاب: لم نسْمع فِي هَذِه اللآية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن أَئِمَّة الْعَامَّة سنة أذكرها وَقد كُنَّا نتذكرها أُنَاسًا من عُلَمَائِنَا
(3/224)
أَحْيَانًا فَلَا يذكرُونَ فِيهَا سنة مَعْلُومَة ولاقضاء من إِمَام عَادل وَلكنه مُخْتَلف فِيهَا رَأْيهمْ وَكَانَ أعجبهم فِيهَا رَأيا إِلَيْنَا الَّذين كَانُوا يَقُولُونَ: هِيَ فِيمَا بَين أهل الْمِيرَاث من الْمُسلمين يشْهد بَعضهم الْمَيِّت الَّذِي يرثونه ويغيب عَنهُ بَعضهم وَيشْهد من شهده على مَا أوصى بِهِ لِذَوي الْقُرْبَى فيخبرون من غَابَ عَنهُ مِنْهُم بِمَا حَضَرُوا من وَصِيَّة فَإِن سلمُوا جَازَت وَصيته وَإِن ارْتَابُوا أَن يَكُونُوا بدلُوا قَول الْمَيِّت وآثروا بِالْوَصِيَّةِ من أَرَادوا مِمَّن لم يوص لَهُم الْمَيِّت بِشَيْء حلف اللَّذَان يَشْهَدَانِ على ذَلِك بعد الصَّلَاة وَهِي أَن الْمُسلمين {فيقسمان بِاللَّه إِن ارتبتم لَا نشتري بِهِ ثمنا وَلَو كَانَ ذَا قربى وَلَا نكتم شَهَادَة الله إِنَّا إِذا لمن الآثمين} فَإِذا أقسما على ذَلِك جَازَت شَهَادَتهمَا وأيمانهما مَا لم يعثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا فِي شَيْء من ذَلِك قَامَ آخرَانِ مقامهما من أهل الْمِيرَاث من الْخصم الَّذين يُنكرُونَ مَا يشْهد عَلَيْهِ الْأَوَّلَانِ المستحلفان أول مرّة فيقسمان بِاللَّه لَشَهَادَتنَا على تكذيبكما أَو إبِْطَال مَا شهدتما بِهِ وَمَا اعتدينا إِنَّا إِذا لمن الظَّالِمين
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَن عُبَيْدَة فِي قَوْله {تحبسونهما من بعد الصَّلَاة} قَالَ: صَلَاة الْعَصْر
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد فِي قَوْله {لَا نشتري بِهِ ثمنا} قَالَ: لَا نَأْخُذ بِهِ رشوة {وَلَا نكتم شَهَادَة الله} وَإِن كَانَ صَاحبهَا بَعيدا
وَأخرج أَبُو عُبَيْدَة وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن عَامر الشّعبِيّ أَنه كَانَ يقْرَأ (وَلَا نكتم شَهَادَة) يَعْنِي بِقطع الْكَلَام منوّناً (الله) بِقطع الْألف وخفض اسْم الله على الْقسم
وَأخرج عبد بن حميد عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ أَنه كَانَ يقْرؤهَا (وَلَا نكتم شَهَادَة الله) يَقُول هوالقسم
وَأخرج عَن عَاصِم (وَلَا نكتم شَهَادَة الله) مُضَاف بِنصب شَهَادَة ولاينون
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن قَتَادَة فِي قَوْله {فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} أَي اطلع مِنْهُمَا على خِيَانَة على أَنَّهُمَا كذبا أَو كتما فَشهد رجلَانِ هما أعدل مِنْهُمَا بِخِلَاف مَا قَالَا أُجِيز شَهَادَة الآخرين وَبَطلَت شَهَادَة الْأَوَّلين
وَأخرج الْفرْيَابِيّ وَعبد بن حميد وَأَبُو عُبَيْدَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وأبوالشيخ عَن عَليّ بن أبي طَالب أَنه كَانَ يقْرَأ (من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان) بِفَتْح التَّاء
(3/225)
وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن عَليّ بن أبي طَالب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان}
وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن عدي عَن أبي مجلز أَن أبي بن كَعْب قَرَأَ {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان} قَالَ عمر: كذبت
قَالَ: أَنْت أكذب
فَقَالَ الرجل: تكذب أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: أَنا أَشد تَعْظِيمًا لحق أَمِير الْمُؤمنِينَ مِنْك وَلَكِن كَذبته فِي تَصْدِيق كتاب الله وَلم أصدق أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي تَكْذِيب كتاب الله
فَقَالَ عمر: صدق
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن يحيى ابْن يعمر أَنه قَرَأَهَا (الأوليان) وَقَالَ: هما الوليان
وَأخرج أَبُو عبيد وَسَعِيد بن مَنْصُور وَعبد بن حميد وَابْن جرير وأبوالشيخ عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يقْرَأ (من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الْأَوَّلين) وَيَقُول: أَرَأَيْت لَو كَانَ الأوليان صغيرين كَيفَ يقومان مقامهما وَأخرج عبد بن حميد عَن أبي الْعَالِيَة أَنه كَانَ يقْرَأ الْأَوَّلين مُشَدّدَة على الْجِمَاع
وَأخرج عبد بن حميد عَن عَاصِم (من الَّذين اسْتحق) بِرَفْع التَّاء وَكسر الْحَاء (عَلَيْهِم الْأَوَّلين) مُشَدّدَة على الْجِمَاع
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن يزِيد فِي قَوْله {الأوليان} قَالَ: الْمَيِّت
وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وأبوالشيخ عَن قَتَادَة فِي قَوْله {ذَلِك أدنى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا} يَقُول: ذَلِك أَحْرَى أَن يصدقُوا فِي شَهَادَتهم {أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم} يَقُول: وَأَن يخَافُوا الْعَنَت
وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن يزِيد فِي قَوْله {أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم} قَالَ: فَتبْطل أَيْمَانهم وَتُؤْخَذ أَيْمَان هَؤُلَاءِ
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وأبوالشيخ عَن مقَاتل فِي قَوْله {وَاتَّقوا الله واسمعوا} قَالَ: يَعْنِي الْقَضَاء
وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد فِي قَوْله {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} قَالَ: الْكَاذِبين الَّذين يحلفُونَ على الْكَذِب
وَالله تَعَالَى أعلم
=========

المائدة - تفسير فتح القدير
[سورة المائدة (5) : الآيات 100 الى 104]
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ: الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَقِيلَ: الْعَاصِي وَالْمُطِيعُ، وَقِيلَ: الرَّدِيءُ وَالْجَيِّدُ. وَالْأَوْلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَيَشْمَلُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَتَّصِفُ بِوَصْفِ الْخُبْثِ وَالطَّيِّبِ مِنَ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَالْخَبِيثُ لَا يُسَاوِي الطَّيِّبَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. قَوْلُهُ:
وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ قِيلَ الخطاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لِكُلِّ مُخَاطَبٍ يَصْلُحُ لِخِطَابِهِ بِهَذَا. وَالْمُرَادُ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَلَوْ فِي حَالِ كَوْنِ الْخَبِيثِ مُعْجِبًا لِلرَّائِي لِلْكَثْرَةِ الَّتِي فِيهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ مَعَ الْخَبِيثِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، لِأَنَّ خُبْثَ الشَّيْءِ يُبْطِلُ فَائِدَتَهُ، وَيَمْحَقُ بَرَكَتَهُ، وَيَذْهَبُ بِمَنْفَعَتِهِ، وَالْوَاوُ إِمَّا لِلْحَالِ أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ: أَيْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ لَوْ لَمْ تُعْجِبْكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، كَقَوْلِكَ: أَحْسِنْ إِلَى فُلَانٍ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ: أَيْ أَحْسِنْ إليه إن لم يسيء إِلَيْكَ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ: أَيْ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَلَا يَسْتَوِيَانِ. قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا وَلَا هِيَ مِمَّا يَعْنِيكُمْ فِي أَمْرِ دِينِكُمْ، فَقَوْلُهُ: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةٌ لِأَشْيَاءَ أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ مُتَّصِفَةٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ كَوْنِهَا إِذَا بَدَتْ لَكُمْ: أَيْ ظَهَرَتْ وَكُلِّفْتُمْ بِهَا، سَاءَتْكُمْ، نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ كَثْرَةِ مُسَاءَلَتِهِمْ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَإِنَّ السُّؤَالَ عَمَّا لَا يَعْنِي وَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِيجَابِهِ على السائل وعلى غيره. قوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ جُمْلَةِ صِفَةِ أَشْيَاءَ. وَالْمَعْنَى: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ مَعَ وُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ
(2/92)
تُبْدَ لَكُمْ أَيْ تَظْهَرُ لَكُمْ بِمَا يُجِيبُ عليكم به النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوْ يَنْزِلُ بِهِ الْوَحْيُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ وَإِيجَابُ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَتَحْرِيمُ مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، بِخِلَافِ السُّؤَالِ عَنْهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ بِمَوْتِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا إِيجَابَ وَلَا تَحْرِيمَ يَتَسَبَّبُ عَنِ السُّؤَالِ.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أن أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ الثَّانِيَةَ فِيهَا إِبَاحَةُ السُّؤَالِ مَعَ وُجُودُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّرْطِيَّةَ الْأُولَى أَفَادَتْ عَدَمَ جَوَازِ السُّؤَالِ، وَالثَّانِيَةِ أَفَادَتْ جَوَازَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى:
وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهَا مِمَّا مَسَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ تُبْدَ لَكُمْ بجواب رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْهَا، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي عَنْها رَاجِعًا إِلَى أَشْيَاءَ غَيْرِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «1» وَهُوَ آدَمُ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً «2» أَيِ ابْنَ آدَمَ. قَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْها أَيْ عَمَّا سَلَفَ مِنْ مَسْأَلَتِكُمْ فَلَا تَعُودُوا إِلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي سَأَلْتُمْ عَنْهَا هِيَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْكُمْ، فَكَيْفَ تَتَسَبَّبُونَ بِالسُّؤَالِ لِإِيجَابِ مَا هُوَ عَفْوٌ مِنَ اللَّهِ غَيْرُ لَازِمٍ؟ وَضَمِيرُ عَنْها عَائِدٌ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِلَى أَشْيَاءَ عَلَى الثَّانِي عَلَى أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ عَفَا اللَّهُ عَنْها صِفَةً ثَالِثَةً لِأَشْيَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الثَّانِيَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَسْؤُولُ عَنْهُ قَدْ شَرَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْعَفْوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ: أَيْ تَرَكَهَا اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْهَا بِشَيْءٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ اللَّازِمَ الْبَاطِلَ، ثُمَّ جَاءَ سُبْحَانَهُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِهِ غَفُورًا حَلِيمًا لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ لِكَثْرَةِ مَغْفِرَتِهِ وَسِعَةِ حِلْمِهِ.
قَوْلُهُ: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ لا تَسْئَلُوا لَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِعَيْنِهَا، بَلْ مِثْلُهَا فِي كَوْنِهَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَلَا تُوجِبُهُ الضَّرُورَةُ الدِّينِيَّةُ، ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا، بَلْ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ: أَيْ سَاتِرِينَ لَهَا تَارِكِينَ لِلْعَمَلِ بِهَا، وَذَلِكَ كَسُؤَالِ قَوْمِ صَالِحٍ النَّاقَةَ، وَأَصْحَابِ عِيسَى الْمَائِدَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا قَدْ أَذِنَ اللَّهُ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ فَقَالَ: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «3» وقال صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» . قَوْلُهُ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى أهل الجاهلية فيما ابتدعوه، وجعل هاهنا بِمَعْنَى سَمَّى كَمَا قَالَ:
إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا. وَالْبَحِيرَةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَالنَّطِيحَةِ وَالذَّبِيحَةِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْبَحَرِ، وَهُوَ شَقُّ الْأُذُنِ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْبَحِيرَةُ هِيَ الَّتِي خُلِّيَتْ بِلَا رَاعٍ قِيلَ: هِيَ الَّتِي يُجْعَلُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْتَلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَجُعِلَ شَقُّ أُذُنِهَا عَلَامَةً لِذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانُوا إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةَ أَبْطُنَ إِنَاثًا بُحِرَتْ أُذُنُهَا فَحُرِّمَتْ وَقِيلَ: إِنَّ النَّاقَةَ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنَ، فَإِنْ كَانَ الْخَامِسُ ذَكَرًا بَحَرُوا أُذُنَهُ فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْخَامِسُ أُنْثَى بَحَرُوا أُذُنَهَا وَكَانَتْ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا وَقِيلَ: إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةَ أَبْطُنَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْإِنَاثِ شَقُّوا أُذُنَهَا وَحَرَّمُوا رُكُوبَهَا وَدَرَّهَا. وَالسَّائِبَةُ: النَّاقَةُ تَسِيبُ، أَوِ الْبَعِيرُ يسيب بنذر يكون عَلَى الرَّجُلِ إِنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مَنْ مَرَضٍ أَوْ بَلَّغَهُ مَنْزِلَةً، فَلَا يُحْبَسُ عَنْ رَعْيٍ وَلَا مَاءٍ، وَلَا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ قَالَهُ أَبُو عبيد. قال الشاعر:
__________
(1) . المؤمنون: 12.
(2) . المؤمنون: 13.
(3) . النحل: 43.
(2/93)
وَسَائِبَةٌ لِلَّهِ تُنْمِي تَشَكُّرًا ... إِنِ اللَّهُ عَافَى عامرا أو مجاشعا
وَقِيلَ هِيَ الَّتِي تُسَيَّبُ لِلَّهِ فَلَا قَيْدَ عَلَيْهَا وَلَا رَاعِيَ لَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
عَقَرْتُمْ نَاقَةً كَانَتْ لِرَبِّي ... مُسَيَّبَةً فَقُومُوا لِلْعِقَابِ
وقيل: هذه الَّتِي تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إِنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُرْكَبُ ظَهْرُهَا، وَلَا يُجَزُّ وَبَرُهَا وَلَا يَشْرَبُ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ وَقِيلَ: كَانُوا يُسَيِّبُونَ الْعَبْدَ فَيَذْهَبُ حَيْثُ يَشَاءُ لَا يَدَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ. وَالْوَصِيلَةُ:
قِيلَ: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى وَقِيلَ: هِيَ الشَّاةُ كَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى فَهِيَ لَهُمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا فَهُوَ لِآلِهَتِهِمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ يَذْبَحُوا الذَّكَرَ لِآلِهَتِهِمْ وَقِيلَ: كَانُوا إِذَا وَلَدَتِ الشَّاةُ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا ذُبِحَ فَأَكَلَ مِنْهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ فِي الْغَنَمِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ يُذْبَحْ لِمَكَانِهَا، وَكَانَ لَحْمُهَا حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَأْكُلُهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَالْحَامُ: الْفَحْلُ الْحَامِي ظَهْرَهُ عَنْ أَنْ يُرْكَبَ، وَكَانُوا إِذَا ركب ولد وَلَدٌ الْفَحْلَ قَالُوا: حَمَى ظَهْرَهُ فَلَا يُرْكَبُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَمَاهَا أَبُو قَابُوسَ فِي عِزِّ مُلْكِهِ ... كَمَا قَدْ حَمَى أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ الْفَحْلُ
وَقِيلَ: هُوَ الْفَحْلُ إِذَا نَتَجَ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَةً، قَالُوا: قَدْ حَمَى ظَهْرَهُ فَلَا يُرْكَبُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كَلَأٍ وَلَا مَاءٍ، ثُمَّ وَصَفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُمْ مَا قَالُوا ذَلِكَ إِلَّا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَكَذِبًا، لَا لِشَرْعٍ شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَلَا لِعَقْلِ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ مَا أَرَكَّ عُقُولَ هَؤُلَاءِ وَأَضْعَفَهَا، يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ الَّتِي هِيَ مَحْضُ الرَّقَاعَةِ وَنَفْسُ الْحُمْقِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَهَذِهِ أَفْعَالُ آبَائِهِمْ وَسُنَنِهِمُ الَّتِي سَنُّوهَا لَهُمْ، وَصَدَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَيْثُ يَقُولُ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ أَيْ وَلَوْ كَانُوا جَهَلَةً ضَالِّينَ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ: أَيْ أَحْسَبُهُمْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي قَالَتْهَا الْجَاهِلِيَّةُ نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكؤون عَلَيْهَا إِنْ دَعَاهُمْ دَاعِي الْحَقِّ وَصَرَخَ لَهُمْ صَارِخُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَاحْتِجَاجُهُمْ بِمَنْ قَلَّدُوهُ مِمَّنْ هُوَ مِثْلَهُمْ فِي التَّعَبُّدِ بِشَرْعِ اللَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ قَوْلِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ لِسُنَّةِ رَسُولِهِ هُوَ كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ الْفَرْقُ إِلَّا فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ اللَّفْظِيَّةِ، لَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي عَلَيْهِ تَدُورُ الْإِفَادَةُ وَالِاسْتِفَادَةُ، اللَّهُمَّ غُفْرًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ: قَالَ الْخَبِيثُ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَالطَّيِّبُ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: فُلَانٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا السَّائِلُ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(2/94)
خَطَبَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَسَكَتَ عَنْهُ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: أَعْنِي لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ نَحْوَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وابن مردويه. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبي أمامة الباهلي نحوه. وأخرج ابن مردويه عن أبي مسعود نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ صَرَّحُوا فِي أَحَادِيثِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الشَّيْءِ وَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ، فَمَا زَالُوا يَسْأَلُونَ حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ وَقَعُوا فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَيُحَرَّمُ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَفَرَضَ لَكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَتَرَكَ أَشْيَاءَ فِي غَيْرِ نِسْيَانٍ وَلَكِنْ رَحْمَةً لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا وَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ قال: البحيرة والسّائبة والوصيلة والحاكم. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ: الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلَا يَحْلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ: كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَالْوَصِيلَةُ: النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى.
وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ وَالْحَامِي فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ، فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَّعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفُوهُ مِنَ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْبَحِيرَةُ:
النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا إِلَى الْخَامِسِ، فَإِنْ كَانَ ذكرا ونحوه فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى جَدَعُوا آذَانَهَا فَقَالُوا: هَذِهِ بَحِيرَةٌ وَأَمَّا السَّائِبَةُ: فَكَانُوا يُسَيِّبُونَ مِنْ أَنْعَامِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ لَا يَرْكَبُونَ لَهَا ظَهْرًا، وَلَا يَحْلِبُونَ لَهَا لَبَنًا، وَلَا يَجُزُّونَ لَهَا وَبَرًا، وَلَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ: فَالشَّاةُ إِذَا نَتَجَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا إِلَى السَّابِعِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مَيِّتٌ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فِي بَطْنٍ اسْتَحْيَوْهُمَا وَقَالُوا: وَصَلَتْهُ أُخْتُهُ فَحَرَّمَتْهُ عَلَيْنَا.
وَأَمَّا الْحَامُ: فَالْفَحْلُ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا وُلِدَ لِوَلَدِهِ قَالُوا: حَمَى هَذَا ظَهْرَهُ فَلَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَا يَجُزُّونَ لَهُ وَبَرًا، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ حِمًى وَلَا مِنْ حَوْضٍ يَشْرَبُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ لِغَيْرِ صَاحِبِهِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طريق العوفيّ.
(2/95)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
أَيِ الْزَمُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ احْفَظُوهَا، كَمَا تَقُولُ: عَلَيْكَ زَيْدًا: أَيِ الْزَمْهُ، قُرِئَ: لَا يَضُرُّكُمْ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُ الْفِعْلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَغَيْرُهُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَقَالَ رَائِدُهُمْ أَرْسُوا نُزَاوِلُهَا أَوْ عَلَى أَنَّ ضَمَّ الرَّاءِ لِلِاتِّبَاعِ، وَقُرِئَ: لَا يَضُرُّكُمْ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَقُرِئَ: «لَا يَضِيرُكُمْ» وَالْمَعْنَى:
لَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ مِنَ النَّاسِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لِلْحَقِّ أَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَهُ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوضِ الدِّينِيَّةِ فَلَيْسَ بِمُهْتَدٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَكَاثِرَةُ، عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وُجُوبًا مُضَيَّقًا مُتَحَتِّمًا، فَتُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِوَاجِبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَا يُظَنُّ التَّأْثِيرُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَوْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحِلَّ بِهِ مَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا يَسُوغُ لَهُ مَعَهُ التَّرْكُ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه وقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» . وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ جَرِيرٍ عَنْهُ «وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَعُمُّنَّكُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشّعباني قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آية؟ قلت: قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامِّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» وَفِي لَفْظٍ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَعْمَى، فَاحْتَبَسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: يا رسول الله قرأت هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قَالَ:
(2/96)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
فقال له النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَيْنَ ذَهَبْتُمْ؟ إِنَّمَا هِيَ لَا يَضُرُّكُمْ من ضلّ من الكفار إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِزَمَانِهَا إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَوْشَكَ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فَيُصْنَعُ بِكُمْ كَذَا وَكَذَا، أَوْ قَالَ: فَلَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ، فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ:
«مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ السَّوْطِ وَالسَّيْفِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُنْتُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْمَدِينَةِ فِي حَلْقَةٍ فِيهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِمْ شَيْخٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَرَأَ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فَقَالَ: إِنَّمَا تَأْوِيلُهَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشيخ عن أَبِي مَازِنٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا قَوْمٌ جُلُوسٌ فَقَرَأَ أَحَدُهُمْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فقال أكثرهم: لم يجيء تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ الْيَوْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَأَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَتَذَاكَرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ فَأَقْبَلُوا عَلَيَّ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري مَا تَأْوِيلُهَا؟ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ تَكَلَّمْتُ، ثُمَّ أَقْبَلُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَلَمَّا حَضَرَ قِيَامُهُمْ قَالُوا: إِنَّكَ غُلَامٌ حَدَثُ السِّنِّ، وَإِنَّكَ نَزَعْتَ آية لا تدري مَا هِيَ؟ وَعَسَى أَنْ تُدْرِكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ «إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ لَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي آخِرِهِ «كَأَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: ذَكَرْتُ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لم يجيء تَأْوِيلُهَا، لَا يَجِيءُ تَأْوِيلُهَا حَتَّى يَهْبِطَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ» وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، فَفِيهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
===========

المائدة - تفسير أضواء البيان
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة:
قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} لم يبين هنا ما هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية بهيمة الأنعام. ولكنه بينه بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [5/3]، إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ، فالمذكورات في هذه الآية الكريمة كالموقوذة والمتردية، وإن كانت من الأنعام. فإنها تحرم بهذه العوارض.
والتحقيق أن الأنعام هي الأزواج الثمانية، كما قدمنا في سورة آل عمران، وقد استدل ابن عمر، وابن عباس، وغير واحد من العلماء بهذه الآية على إباحة أكل الجنين إذا ذكيت أمه ووجد في بطنها ميتاً.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن ذكاة أمه ذكاة له" كما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي سعيد.
وقال الترمذي: إنه حسن، ورواه أبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى:
قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ، يعني إن شئتم، فلا يدل هذا الأمر على إيجاب الاصطياد عند الإحلال، ويدل له الاستقراء في القرآن، فإن كل شيء كان جائزاً، ثم حرم لموجب، ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب، فإن ذلك الأمر كله في القرآن للجواز نحو قوله هنا: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [62/10]، وقوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [2/187]، وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} الآية [2/222].
ولا ينقض هذا بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [9/5]؛ لأن قتلهم كان واجباً قبل تحريمه العارض بسبب الأشهر الأربعة سواء قلنا: إنها أشهر الإمهال المذكورة في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [9/2]، أو
(1/326)
قلنا: إنها الأشهر الحرم المذكورة في قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [9/36].
وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب، فالصيد قبل الإحرام كان جائزاً فمنع للإحرام، ثم أمر به بعد الإحلال بقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الجواز، وقتل المشركين كان واجباً قبل دخول الأشهر الحرم، فمنع من أجلها، ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} الآية، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الوجوب.
وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده، واجباً، وإن كان مستحباً فمستحب، أو مباحاً فمباح.
ومن قال: إنه للوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة. ومن قال: إنه للإباحة يرد عليه بآيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم، انتهى منه بلفظه.
وفي هذه المسألة أقوال أخر عقدها في "مراقي السعود" بقوله:[الرجز]
والأمر للوجوب بعد الحظل ... وبعد سؤال قد أتى للأصل
أو يقتضي إباحة للأغلب ... إذا تعلق بمثل السبب
إلا فذي المذهب والكثير ... له إلى إيجابه مصير
وقد تقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة بلا خلاف، وغير التام المعروف. بـ "إلحاق الفرد بالأغلب" حجة ظنية، كما عقده في مراقي السعود في كتاب "الاستدلال" بقوله:[الرجز]
ومنه الاستقراء بالجزئي ... على ثبوت الحكم للكلى
فإن يعم غير ذي الشقاق ... فهو حجة بالاتفاق
وهو في البعض إلى الظن انتسب ... يسمى لحقوق الفرد بالذي غلب
فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الاستقراء التام في القرآن دل على ما اخترنا،
(1/327)
واختاره ابن كثير، وهو قول الزركشي من أن الأمر بعد الحظر يدل على رجوع الحكم إلى ما كان عليه قبل التحريم، عرفت أن ذلك هو الحق، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} ، الآية.
نهى الله المسلمين في هذه الآية الكريمة أن يحملهم بغض الكفار لأجل أن صدوهم عن المسجد الحرام في عمرة الحديبية أن يعتدوا على المشركين بما لا يحل لهم شرعاً.
كما روى ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن زيد بن أسلم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله هذه الآية، بلفظه من ابن كثير.
ويدل لهذا قوله قبل هذا: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [5/2]، وصرح بمثل هذه الآية في قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} الآية [5/8]، وقد ذكر تعالى في هذه الآية أنهم صدوهم عن المسجد الحرام بالفعل على قراءة الجمهور: {أَنْ صَدُّوكُمْ} ، بفتح الهمزة، لأن معناها: لأجل أن صدوكم، ولم يبين هنا حكمة هذا الصد، ولم يذكر أنهم صدوا معهم الهدي معكوفاً أن يبلغ محله، وذكر في سورة الفتح أنهم صدوا معهم الهدى، وأن الحكمة في ذلك المحافظة على المؤمنين والمؤمنات، الذين لم يتميزوا عن الكفار في ذلك الوقت، بقوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [48/25]؛ وفي هذه الآية دليل صريح على أن الإنسان عليه أن يعامل من عصى الله فيه، بأن يطيع الله فيه.
وفي الحديث: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" .
وهذا دليل واضح على كمال دين الإسلام، وحسن ما يدعو إليه من مكارم الأخلاق، مبين أنه دين سماوي لا شك فيه.
(1/328)
وقوله في هذه الآية الكريمة {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} ، معناه: لا يحملنكم شنآن قوم على أن تعتدوا، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أي حملتهم على أن يغضبوا.
وقال بعض العلماء: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ} ، أي: لا يكسبنكم، وعليه فلا تقدير لحرف الجر في قوله: {أَنْ تَعْتَدُوا} ، أي لا يكسبنكم بغضهم الاعتداء عليهم.
وقرأ بعض السبعة: {شَنْآنُ} ، بسكون النون، ومعنى الشنآن على القراءتين، أي بفتح النون، وبسكونها: البغض. مصدر "شنأه" إذا أبغضه.
وقيل على قراءة سكون النون يكون وصفاً كالغضبان، وعلى قراءة: "إِنْ صَدُّوكُمْ" بكسر الهمزة. فالمعنى إن وقع منهم صدهم لكم عن المسجد الحرام، فلا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم بما لا يحل لكم.
وإبطال هذه القراءة: بأن الآية نزلت بعد صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية، وأنه لا وجه لاشتراط الصد بعد وقوعه ـ مردود من وجهين:
الأول منهما: أن قراءة: {أَنْ صَدُّوكُمْ} ، بصيغة الشرط قراءة سبعية متواترة لا يمكن ردها، وبها قرأ ابن كثير، وأبو عمرو من السبعة.
الثاني: أنه لا مانع من أن يكون معنى هذه القراءة: إن صدوكم مرة أخرى على سبيل الفرض والتقدير، كما تدل عليه صيغة "إن"، لأنها تدل على الشك في حصول الشرط، فلا يحملنكم تكرر الفعل السيىء على الاعتداء عليهم بما لا يحل لكم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، ظاهر هذه الآية الكريمة أن المرتد يحبط جميع عمله بردته من غير شرط زائد، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن ذلك فيما إذا مات على الكفر، وهو قوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [2/217].
ومقتضى الأصول حمل هذا المطلق على هذا المقيد، فيقيد إحباط العمل بالموت على الكفر، وهو قول الشافعي ومن وافقه، خلافاً لمالك القائل بإحباط الردة العمل
(1/329)
مطلقاً، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، في قوله {وَأَرْجُلَكُمْ} ثلاث قراءآت: واحدة شاذة، واثنتان متواترتان.
أما الشاذة: فقراءة الرفع، وهي قراءة الحسن. وأما المتواترتان: فقراءة النصب، وقراءة الخفض.
أما النصب: فهو قراءة نافع. وابن عامر، والكسائي، وعاصم في رواية حفص من السبعة، ويعقوب من الثلاثة.
وأما الجر: فهو قراءة ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم، في رواية أبي بكر.
أما قراءة النصب: فلا إشكال فيها لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه، وتقرير المعنى عليها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا بروؤسكم.
وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب، لأن الرأس يمسح بين المغسولات، ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة.
وأما على قراءة الجر: ففي الآية الكريمة إجمال، وهو أنها يفهم منها الاكتفاء بمسح الرجلين في الوضوء عن الغسل كالرأس، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء والتوعد بالنار لمن ترك ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" .
اعلم أولاً أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لهما حكم الآيتين، كما هو معروف عند العلماء، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض، مع أن إعرابها النصب، أو الرفع.
وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود من اللحن الذي يتحمل
(1/330)
لضرورة الشعر خاصة، وأنه غير مسموع في العطف، وأنه لم يجز إلا عند أمن اللبس، فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه.
وممن صرح به الأخفش، وأبو البقاء، وغير واحد.
ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره له -مع ثبوته في كلام العرب، وفي القرآن العظيم- يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعاً كافياً.
والتحقيق: أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين.
فمنه في النعت قول امرىء القيس:[الطويل]
كأن ثبيرا في عرانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل
بخفض "مزمل" بالمجاورة، مع أنه نعت "كبير" المرفوع بأنه خبر "كأن" وقول ذي الرمة: [البسيط]
تريك سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب
إذ الرواية بخفض "غير"، كما قاله غير واحد للمجاورة، مع أنه نعت "سنة" المنصوب بالمفعولية.
ومنه في العطف قول النابغة: [البسيط]
لم يبق إلا أسير غير منفلت ... وموثق في حبال القد مجنوب
بخفض "موثق" لمجاورته المخفوض، مع أنه معطوف على "أسير" المرفوع بالفاعلية.
وقول امرىء القيس: [الطويل]
وظل طهاة اللحم ما بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل
بجر "قدير" لمجاورته للمخفوض، مع أنه عطف على "صفيف" المنصوب بأنه مفعول اسم الفاعل الذي هو "منضج" والصفيف: فعيل بمعنى مفعول وهو المصفوف من اللحم على الجمر لينشوي، والقدير: كذلك فعيل بمعنى مفعول، وهو المجعول في القدر من اللحم لينضج بالطبخ.
(1/331)
وهذا الإعراب الذي ذكرناه هو الحق، لأن الإنضاج واقع على كل من الصفيف والقدير، فما زعمه "الصبان" في حاشيته على "الأشموني" من أن قوله "أو قدير" معطوف على "منضج" بتقدير المضاف أي وطابخ قدير الخ ظاهر السقوط، لأن المنضج شامل لشاوي الصفيف، وطابخ القدير، فلا حاجة إلى عطف الطابخ على المنضج لشموله له، ولا داعي لتقدير "طابخ" محذوف.
وما ذكره العيني من أنه معطوف على "شواء"، فهو ظاهر السقوط أيضاً. وقد رده عليه "الصبان"، لأن المعنى يصير بذلك: وصفيف قدير، والقدير لا يكون صفيفاً.
والتحقيق: هو ما ذكرنا من الخفض بالمجاورة، وبه جزم ابن قدامة في المغني.
ومن الخفض بالمجاورة في العطف قول زهير: [الكامل]
لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر
بجر "القطر" لمجاورته للمخفوض مع أنه معطوف على "سوافي" المرفوع، بأنه فاعل غير.
ومنه في التوكيد قول الشاعر[البسيط]:
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر "كلهم" على ما حكاه الفراء، لمجاورة المخفوض، مع أنه توكيد "ذوي" المنصوب بالمفعولية.
ومن أمثلته في القرآن العظيم في العطف ـ كالآية التي نحن بصددها قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [56/22]، على قراءة حمزة، والكسائي.
ورواية المفضل عن عاصم بالجر لمجاورته لأكواب وأباريق، إلى قوله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [56/21]، مع أن قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} ، حكمه الرفع: فقيل، إنه معطوف على فاعل "يطوف" الذي هو {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [56/17].
وقيل: هو مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف دل المقام عليه.
أي: وفيها حور عين، أو لهم حور عين.
(1/332)
وإذن فهو من العطف بحسب المعنى.
وقد أنشد سيبويه للعطف على المعنى قول الشماخ، أو ذي الرمة: [الكامل]
بادت وغير آيهن مع البلا ... إلا رواكد جمرهن هباء
ومشجج أما سواء قذاله ... فبدا وغيب ساره المعزاء
لأن الرواية بنصب "رواكد" على الاستثناء، ورفع مشجج عطفاً عليه، لأن المعنى لم يبق منها إلا رواكد ومشجج، ومراده بالرواكد أثافي القدر، وبالمشجج وتد الخباء، وبه تعلم أن وجه الخفض في قراءة حمزة، والكسائي هو المجاورة للمخفوض، كما ذكرنا خلافاً لمن قال في قراءة الجر: إن العطف على أكواب، أي يطاف عليهم بأكواب، وبحور عين، ولمن قال: إنه معطوف على جنات النعيم، أي هم في جنات النعيم، وفي حور على تقدير حذف مضاف أي في معاشرة حور.
ولا يخفى ما في هذين الوجهين، لأن الأول يرد، بأن الحور العين لا يطاف بهن مع الشراب، لقوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [55/72].
والثاني فيه أن كونهم في جنات النعيم، وفي حور ظاهر السقوط كما ترى، وتقدير ما لا دليل عليه لا وجه له.
وأجيب عن الأول بجوابين، الأول: أن العطف فيه بحسب المعنى، لأن المعنى: يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور. قاله الزجاج وغيره.
الجواب الثاني: أن الحور قسمان:
1 - حور مقصورات في الخيام.
2- وحور يطاف بهن عليهم.
قاله الفخر الرازي وغيره، وهو تقسيم لا دليل عليه، ولا يعرف من صفات الحور العين كونهن يطاف بهن كالشراب، فأظهرها الخفض بالمجاورة، كما ذكرنا.
وكلام الفراء وقطرب، يدل عليه، وما رد به القول بالعطف على أكواب من كون الحور لا يطاف بهن يرد به القول بالعطف على {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} ، في قراءة الرفع؛ لأنه يقتضي أن الحور يطفن عليهم كالولدان، والقصر في الخيام ينافي ذلك.
وممن جزم بأن خفض "وأرجلكم" لمجاورة المخفوض البيهقي في "السنن
(1/333)
الكبرى"، فإنه قال ما نصه: باب قراءة من قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} نصباً، وأن الأمر رجع إلى الغسل وأن من قرأها خفضاً، فإنما هو للمجاورة، ثم ساق أسانيده إلى ابن عباس، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعروة بن الزبير، ومجاهد وعطاء والأعرج وعبد الله بن عمرو بن غيلان، ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارىء، وأبي محمد يعقوب بن إسحاق بن يزيد الحضرمي أنهم قرأوها كلهم: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب.
قال: وبلغني عن إبراهيم بن يزيد التيمي أنه كان يقرؤها نصباً، وعن عبد الله بن عامر اليحصبي، وعن عاصم برواية حفص، وعن أبي بكر بن عياش من رواية الأعشى، وعن الكسائي، كل هؤلاء نصبوها.
ومن خفضها فإنما هو للمجاورة، قال الأعمش: كانوا يقرأونها بالخفض، وكانوا يغسلون، اهـ كلام البيهقي.
ومن أمثلة الخفض بالمجاورة في القرآن في النعت قوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [11/84]، بخفض "مُحِيطٍ" مع أنه نعت للعذاب. وقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [11/26]، ومما يدل أن النعت للعذاب، وقد خفض للمجاورة، كثرة ورود الألم في القرآن نعتاً للعذاب. وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ, فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [85/22]، على قراءة من قرأ بخفض "مَحْفُوظٍ" كما قاله القرطبي ومن كلام العرب "هذا جحر ضب خرب" بخفض خرب لمجاورة المخفوض مع أنه نعت خبر المبتدأ. وبهذا تعلم أن دعوى كون الخفض بالمجاورة لحناً لا يتحمل إلا لضرورة الشعر باطلة، والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين، إذ لم يرد تحديد الممسوح، وتزيله قراءة النصب، كما ذكرنا: فإن قيل قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبينة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفاً على المحل. لأن الرؤوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول ابن مالك في الخلاصة: [الرجز]
وجر ما يتبع ما جر ومن ... راعى في الاتباع المحل فحسن
وابن مالك وإن كان أورد هذا في "إعمال المصدر" فحكمه عام، أي وكذلك الفعل والوصف كما أشار له في الوصف بقوله: [الرجز]
واجرر أو انصب تابع الذي انخفض ... كمبتغي جاه وما لا من نهض
(1/334)
فالجواب أن بيان قراءة النصب بقراءة الجر ،كما ذكر، تأباه السنة الصريحة الصحيحة الناطقة بخلافه، وبتوعد مرتكبه بالويل من النار بخلاف بيان قراءة الخفض بقراءة النصب، فهو موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه قولاً وفعلاً.
فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما، عن عبد الله ابن عمر ورضي الله عنهما.
قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار" وكذلك هو في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار" ، وروى البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن حارث بن جزء، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب، وبطون الأقدام من النار" , وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن جرير، عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار" .
وروى الإمام أحمد عن معيقيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار" وروى ابن جرير عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" ، قال: فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما.
وثبت في أحاديث الوضوء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم، والمقداد بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه، إما مرة أو مرتين أو ثلاثاً على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه. ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" .
والأحاديث في الباب كثيرة جداً، وهي صحيحة صريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وعدم الاجتزاء بمسحهما.
وقال بعض العلماء: المراد بمسح الرجلين غسلهما. والعرب تطلق المسح على الغسل أيضاً، وتقول تمسحت بمعنى توضأت ومسح المطر الأرض أي غسلها،
(1/335)
ومسح الله ما بك أي غسل عنك الذنوب والأذى. ولا مانع من كون المراد بالمسح في الأرجل هو الغسل، المراد به في الرأس المسح الذي ليس بغسل، وليس من حمل المشترك على معنييه، ولا عن حمل اللفظ على حقيقته ومجازه، لأنهما مسألتان كل منهما منفردة عن الأخرى مع أن التحقيق جواز حمل المشترك على معنييه، كما حققه الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن، وحرر أنه هو الصحيح في مذاهب الأئمة الأربعة رحمهم الله، وجمع بن جرير الطبري في تفسيره بين قراءة النصب والجر بأن قراءة النصب يراد بها غسل الرجلين، لأن العطف فيها على الوجوه والأيدي إلى المرافق، وهما من المغسولات بلا نزاع، وأن قراءة الخفض يراد بها المسح مع الغسل، يعني الدلك باليد أو غيرها.
والظاهر أن حكمة هذا في الرجلين دون غيرهما. أن الرجلين هما أقرب أعضاء الإنسان إلى ملابسة الأقذار لمباشرتهما الأرض فناسب ذلك أن يجمع لهما بين الغسل بالماء والمسح أي الدلك باليد ليكون ذلك أبلغ في التنظيف.
وقال بعض العلماء: المراد بقراءة الجر: المسح، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك المسح لا يكون إلا على الخف.
وعليه فالآية تشير إلى المسح على الخف في قراءة الخفض، والمسح على الخفين ، إذا لبسمها طاهراً ،متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يخالف فيه إلا من لا عبرة به، والقول بنسخه بآية المائدة يبطل بحديث جرير أنه بال ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه، قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، متفق عليه.
ويوضح عدم النسخ أن آية المائدة نزلت في غزوة "المريسيع".
ولا شك أن إسلام جرير بعد ذلك، مع أن المغيرة بن شعبة روى المسح على الخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة "تبوك" وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم.
وممن صرح بنزول آية المائدة في غزوة "المريسيع" ابن حجر في "فتح الباري"، وأشار له البدوي الشنقيطي في "نظم المغازي" بقوله في غزوة المريسيع:[الرجز]
والإفك في قفولهم ونقلا ... أن التيمم بها قد أنزلا
(1/336)
والتيمم في آية المائدة، وأجمع العلماء على جواز المسح على الخف الذي هو من الجلود، واختلفوا فيما كان من غير الجلد إذا كان صفيقاً ساتراً لمحل الفرض، فقال مالك وأصحابه:
لا يمسح على شيء غير الجلد. فاشترطوا في المسح أن يكون الممسوح خفاً من جلود، أو جورباً مجلداً ظاهره وباطنه، يعنون ما فوق القدم وما تحتها لا باطنه الذي يلي القدم.
واحتجوا بأن المسح على الخف رخصة، وأن الرخص لا تتعدى محلها وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمسح على غير الجلد. فلا يجوز تعديه إلى غيره، وهذا مبني على شطر قاعدة أصولية مختلف فيها، وهي: هل يلحق بالرخص ما في معناها، أو يقتصر عليها ولا تعدي محلها؟
ومن فروعها اختلافهم في بيع "العرايا" من العنب بالزبيب اليابس، هل يجوز إلحاقاً بالرطب بالتمر أو لا؟.
وجمهور العلماء منهم الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وأصحابهم على عدم اشتراط الجلد، لأن سبب الترخيص الحاجة إلى ذلك وهي موجودة في المسح على غير الجلد، ولما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه مسح على الجوربين، والموقين.
قالوا. والجورب: لفافة الرجل، وهي غير جلد.
وفي القاموس: الجورب لفافة الرجل، وفي اللسان: الجورب لفافة الرجل، معرب وهو بالفارسيه "كورب".
وأجاب من اشترط الجلد بأن الجورب هو الخف الكبير، كما قاله بعض أهل العلم، أما الجرموق والموق، فالظاهر أنهما من الخفاف.
وقيل: إنهما شيء واحد، وهو الظاهر من كلام أهل اللغة. وقيل: إنهما متغايران، وفي القاموس: الجرموق: كعصفور الذي يلبس فوق الخف وفي القاموس أيضاً: الموق خف غليظ يلبس فوق الخف، وفي اللسان: الجرموق، خف صغير، وقيل: خف صغير يلبس فوق الخف، في اللسان أيضاً: الموق الذي يلبس فوق الخف، فارسي معرب. والموق: الخف اهـ.
قالوا: والتساخين: الخفاف، فليس في الأحاديث ما يعين أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح
(1/337)
على غير الجلد، والجمهور قالوا: نفس الجلد لا أثر له، بل كل خف صفيق ساتر لمحل الفرض يمكن فيه تتابع المشي، يجوز المسح عليه، جلداً كان أو غيره.
مسائل تتعلق بالمسح على الخفين:
الأولى: أجمع العلماء على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر. وقال الشيعة والخوارج: لا يجوز، وحكي نحوه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن داود، والتحقيق عن مالك، وجل أصحابه، القول بجواز المسح على الخف في الحضر والسفر.
وقد روي عنه المنع مطلقاً، وروي عنه جوازه في السفر دون الحضر.
قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً أنكره إلا مالكاً في رواية أنكرها أكثر أصحابه، والروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وموطأه يشهد للمسح في الحضر والسفر، وعليه جميع أصحابه، وجميع أهل السنة.
وقال الباجي: رواية الإنكار في "العتبية" وظاهرها المنع، وإنما معناها أن الغسل أفضل من المسح، قال ابن وهب: آخر ما فارقت مالكاً على المسح في الحضر والسفر. وهذا هو الحق الذي لا شك فيه، فما قاله ابن الحاجب عن مالك من جوازه في السفر دون الحضر غير صحيح، لأن المسح على الخف متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الزرقاني في شرح "الموطأ": وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وروى ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري، حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين، اهـ.
وقال النووي في شرح "المهذب": وقد نقل ابن المنذر في كتاب "الإجماع" إجماع العلماء على جواز المسح على الخف، ويدل عليه الأحاديث الصحيحة المستفيضة في مسح النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، وأمره بذلك وترخيصه فيه، واتفاق الصحابة، فمن
بعدهم عليه. قال الحافظ أبو بكر البيهقي: روينا جواز المسح على الخفين عن عمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وحذيفة بن اليمان، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبي مسعود الأنصاري، والمغيرة بن شعبة، والبراء بن عازب، وأبي سعيد الخدري،
(1/338)
وجابر بن سمرة، وأبي أمامة الباهلي، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وأبي زيد الأنصاري رضي الله عنهم.
قلت: ورواه خلائق من الصحابة، غير هؤلاء الذين ذكرهم البيهقي، وأحاديثهم معروفة في كتب السنن وغيرها.
قال الترمذي: وفي الباب عن عمر، وسلمان، وبريدة، وعمرو بن أمية، ويعلى بن مرة، وعبادة بن الصامت، وأسامة بن شريك، وأسامة بن زيد، وصفوان بن عسال، وأبي هريرة، وعوف بن مالك، وابن عمر، وأبي بكرة وبلال، وخزيمة بن ثابت.
قال ابن المنذر: وروينا عن الحسن البصري، قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين.
قال: وروينا عن ابن المبارك، قال: ليس في المسح على الخفين اختلاف، اهـ.
وقد ثبت في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف في غزوة تبوك، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، وثبت في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخف، ولا شك أن ذلك بعد نزول آية المائدة كما تقدم، وفي سنن أبي داود أنهم لما قالوا لجرير: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة.
وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا تدل على عدم نسخ المسح على الخفين، وأنه لا شك في مشروعيته، فالخلاف فيه لا وجه له ألبتة.
المسألة الثانية: اختلف العلماء في غسل الرجل والمسح على الخف أيهما أفضل؟ فقالت جماعة من أهل العلم: غسل الرجل أفضل من المسح على الخف، بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن الرخصة في المسح، وهو قول الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابهم، ونقله ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وابنه رضي الله عنهما، ورواه البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري.
وحجة هذا القول أن غسل الرجل هو الذي واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في معظم
(1/339)
الأوقات، ولأنه هو الأصل، ولأنه أكثر مشقة.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن المسح أفضل، وهو أصح الروايات عن الإمام أحمد، وبه قال الشعبي، والحكم، وحماد.
واستدل أهل هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات حديث المغيرة بن شعبة: "بهذا أمرني ربي عز وجل" .
ولفظه في سنن أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، فقلت: يا رسول الله أنسيت؟ قال: "بل أنت نسيت. بهذا أمرني ربي عز وجل" .
واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بن عسال الآتي إن شاء الله تعالى: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين الحديث.
قالوا: والأمر إذا لم يكن للوجوب، فلا أقل من أن يكون للندب، قال مقيده عفا الله عنه: وأظهر ما قيل في هذه المسألة عندي، هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله، وعزاه لشيخه تقي الدين رحمه الله، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف ضد حاله التي كان عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما، ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه. وهذا أعدل الأقوال في هذه المسألة، اهـ.
ويشترط في الخف: أن يكون قوياً يمكن تتابع المشي فيه في مواضع النزول، وعند الحط والترحال، وفي الحوائج التي يتردد فيها في المنزل، وفي المقيم نحو ذلك، كما جرت عادة لابسي الخفاف.
المسألة الثالثة: إذا كان الخف مخرقاً، ففي جواز المسح عليه خلاف بين العلماء، فذهب مالك وأصحابه إلى أنه إن ظهر من تخريقه قدر ثلث القدم لم يجز المسح عليه، وإن كان أقل من ذلك جاز المسح عليه، واحتجوا بأن الشرع دل على أن الثلث آخر حد اليسير، وأول حد الكثير.
وقال بعض أهل العلم: لا يجوز المسح على خف فيه خرق يبدو منه شيء من القدم، وبه قال أحمد بن حنبل، والشافعي في الجديد، ومعمر بن راشد.
(1/340)
واحتج أهل هذا القول بأن المنكشف من الرجل حكمه الغسل، والمستور حكمه المسح، والجمع بين المسح والغسل لا يجوز، فكما أنه لا يجوز له أن يغسل إحدى رجليه ويمسح على الخف في الأخرى، لا يجوز له غسل بعض القدم مع مسح الخف في الباقي منها.
وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الخرق الكبير يمنع المسح على الخف دون الصغير. وحددوا الخرق الكبير بمقدار ثلاثة أصابع.
قيل: من أصابع الرجل الأصاغر، وقيل: من أصابع اليد.
وقال بعض أهل العلم: يجوز المسح على جميع الخفاف، وإن تخرقت تخريقاً كثيراً ما دامت يمكن تتابع المشي فيها. ونقله ابن المنذر عن سفيان الثوري، وإسحاق، ويزيد بن هارون، وأبي ثور.
وروى البيهقي في السنن الكبرى عن سفيان الثوري أنه قال: امسح عليهما ما تعلقا بالقدم، وإن تخرقا، قال: وكانت كذلك خفاف المهاجرين والأنصار مخرقة مشققة، اهـ.
وقال البيهقي: قول معمر بن راشد في ذلك أحب إلينا، وهذا القول الذي ذكرنا عن الثوري، ومن وافقه هو اختيار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله.
وقال ابن المنذر: وبقول الثوري أقول، لظاهر إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين قولاً عاماً يدخل فيه جميع الخفاف. اهـ، نقله عنه النووي، وغيره، وهو قوي.
وعن الأوزاعي إن ظهرت طائفة من رجله مسح على خفيه، وعلى ما ظهر من رجله. هذا حاصل كلام العلماء في هذه المسألة.
وأقرب الأقوال عندي، المسح على الخف المخرق ما لم يتفاحش خرقه حتى يمنع تتابع المشي فيه لإطلاق النصوص، مع أن الغالب على خفاف المسافرين، والغزاة عدم السلامة من التخريق، والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: اختلف العلماء في جواز المسح على النعلين، فقال قوم: يجوز المسح على النعلين.
وخالف في ذلك جمهور العلماء، واستدل القائلون بالمسح على
(1/341)
النعلين بأحاديث، منها ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي قيس الأودي، هو عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح الجوربين والنعلين قال أبو داود، وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وروى هذا الحديث البيهقي.
ثم قال: قال أبو محمد: رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر، وقال أبو قيس الأودي، وهزيل بن شرحبيل: لا يحتملان مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة، فقالوا: مسح على الخفين، وقال: لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس، وهزيل، فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي، فسمعته يقول: علي بن شيبان يقول: سمعت أبا قدامة السرخسي يقول: قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لسفيان الثوري: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك، فقال سفيان: الحديث ضعف أو واه، أو كلمة نحوها، اهـ.
وروى البيهقي أيضاً عن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال حدثت أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس، قال أبي: إن عبد الرحمن بن مهدي، يقول: هو منكر، وروى البيهقي أيضاً عن علي بن المديني أنه قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة، إلا أنه قال: ومسح على الجوربين، وخالف الناس.
وروي أيضاً عن يحيى بن معين أنه قال في هذا الحديث: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس، ثم ذكر أيضاً ما قدمنا عن أبي داود من أن عبد الرحمن بن مهدي كان لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وقال أبو داود: وروي هذا الحديث أيضاً عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بالقوي ولا بالمتصل، وبين البيهقي، مراد أبي داود بكونه غير متصل وغير قوي، فعدم اتصاله، إنما هو لأن راويه عن أبي موسى الأشعري هو الضحاك بن عبد الرحمن، قال البيهقي: والضحاك بن عبد الرحمن: لم يثبت سماعه من أبي موسى، وعدم قوته، لأن في إسناده عيسى بن سنان، قال البيهقي: وعيسى بن سنان ضعيف، اهـ.
(1/342)
وقال فيه ابن حجر في "التقريب": لين الحديث، واعترض المخالفون تضعيف الحديث المذكور في المسح على الجوربين والنعلين، قالوا: أخرجه أبو داود، وسكت عنه، وما سكت عنه فأقل درجاته عنده الحسن قالوا: وصححه ابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح، قالوا: وأبو قيس وثقه ابن معين، وقال العجلي: ثقة ثبت، وهزيل وثقه العجلي، وأخرج لهما معاً البخاري في صحيحه، ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة، بل رويا أمراً زائداً على ما رووه بطريق مستقل غير معارض، فيحمل على أنهما حديثان قالوا: ولا نسلم عدم سماع الضحاك بن عبد الرحمن من أبي موسى، لأن المعاصرة كافية في ذلك كما حققه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه. ولأن عبد الغني قال في "الكمال": سمع الضحاك من أبي موسى، قالوا: وعيسى بن سنان، وثقه ابن معين وضعفه غيره، وقد أخرج الترمذي في "الجنائز" حديثاً في سنده عيسى بن سنان هذا، وحسنه.
ويعتضد الحديث المذكور أيضاً بما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر، الثابت في الصحيح أن عبيد بن جريج. قال له: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها، قال: ما هن؟ فذكرهن، وقال فيهن: رأيتك تلبس النعال السبتية، قال: أما النعال السبتية، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها.
قال البيهقي، بعد أن ساق هذا الحديث بسنده: ورواه البخاري في الصحيح، عن عبد الله بن يوسف عن مالك، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، ورواه جماعة عن سعيد المقبري، ورواه ابن عيينة عن ابن عجلان عن المقبري، فزاد فيه: ويمسح عليها. وهو محل الشاهد قال البيهقي. وهذه الزيادة إن كانت محفوظة فلا ينافي غسلهما، فقد يغسلهما في النعل، ويمسح عليهما.
ويعتضد الاستدلال المذكور أيضاً في المسح على النعلين بما رواه البيهقي بإسناده عن زيد بن وهب، قال: بال علي، وهو قائم ثم توضأ، ومسح على النعلين، ثم قال: وبإسناده قال: حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل، عن أبي ظبيان، قال: بال علي وهو قائم ثم توضأ ومسح على النعلين ثم خرج فصلى الظهر.
وأخرج البيهقي أيضاً نحوه عن أبي ظبيان بسند آخر، ويعتضد الاستدلال المذكور
(1/343)
بما رواه البيهقي أيضاً من طريق رواد بن الجراح، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومسح على نعليه.
ثم قال: هكذا رواه رواد بن الجراح، وهو ينفرد عن الثوري بمناكير هذا أحدها، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة.
وروي عن زيد بن الحباب عن الثوري هكذا، وليس بمحفوظ. ثم قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، أنبأ سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، حدثني أبي ثنا زيد بن الحباب، ثنا سفيان فذكره بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على النعلين اهـ.
قال البيهقي بعد أن ساقه: والصحيح رواية الجماعة، ورواهد عبد العزيز الدراوردي، وهشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، فحكيا في الحديث: رشا على الرجل وفيها النعل، وذلك يحتمل أن يكون غسلها في النعل.
فقد رواه سليمان بن بلال، ومحمد بن عجلان، وورقاء بن عمر، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، فحكوا في الحديث غسله رجليه، والحديث حديث واحد.
والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير، مع فضل حفظ من حفظ فيه الغسل بعد الرش على من لم يحفظه، ويعتضد الاستدلال المذكور أيضاً بما رواه البيهقي أيضاً، أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو بكر بن داسة، ثنا أبو داود، ثنا مسدد، وعباد بن موسى، قالا: ثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، قال عباد: قال: أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه.
وقال مسدد: إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء، عن أوس الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وهو منقطع أخبرناه أبو بكر بن فورك، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا حماد بن سلمة، فذكره.
وهذا الإسناد غير قوي، وهو يحتمل ما احتمل الحديث الأول، اهـ كلام البيهقي.
ولا يخفى أن حاصله أن أحاديث المسح على النعلين منها ما هو ضعيف لا يحتج
(1/344)
به، ومنها ما معناه عنده إنه صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في النعلين.
ثم استدل البيهقي على أن المراد بالوضوء في النعلين غسل الرجلين فيهما بحديث ابن عمر، الثابت في الصحيحين، أنه قال: أما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها اهـ.
ومراد البيهقي أن معنى قول ابن عمر: ويتوضأ فيها أنه يغسل رجليه فيها، وقد علمت أنا قدمنا رواية ابن عيينة التي ذكرها البيهقي عن ابن عجلان، عن المقبري، وفيها زيادة، ويمسح عليها.
وقال البيهقي، رحمه الله، في منع المسح على النعلين والجوربين: والأصل وجوب غسل الرجلين إلا ما خصته سنة ثابتة، أو إجماع لا يختلف فيه، وليس على المسح على النعلين ولا على الجوربين واحد منهما، اهـ.
وأجيب من جهة المخالفين بثبوت المسح على الجوربين والنعلين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن الترمذي صحح المسلم على الجوربين والنعلين، وحسنه من حديث هزيل عن المغيرة، وحسنه أيضاً من حديث الضحاك عن أبي موسى، وصحح ابن حبان المسح على النعلين من حديث أوس، وصحح ابن خزيمة حديث ابن عمر في المسح على النعال السبتية.
قالوا: وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب، عن الثوري في المسح على النعلين، حديث جيد قالوا: وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه، ويمسح عليهما.
ويقول كذلك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وصححه ابن القطان. وقال ابن حزم: المنع من المسح على الجوربين خطأ، لأنه خلاف السنة الثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف الآثار. هذا حاصل ما جاء في المسح على النعلين والجوربين.
قال مقيده عفا الله عنه: إن كان المراد بالمسح على النعلين والجوربين, أن
(1/345)
الجوربين ملصقان بالنعلين، بحيث يكون المجموع ساتراً لمحل الفرض مع إمكان تتابع المشي فيه، والجوربان صفيقان فلا إشكال.
وإن كان المراد المسح على النعلين بانفرادهما، ففي النفس منه شيء، لأنه حينئذ لم يغسل رجله، ولم يمسح على ساتر لها، فلم يأت بالأصل، ولا بالبدل.
والمسح على نفس الرجل ترده الأحاديث الصحيحة المصرحة بمنع ذلك بكثرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" ، والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: اختلف العلماء في توقيت المسح على الخفين.
فذهب الجمهور العلماء إلى توقيت المسح بيوم وليلة المقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر.
وإليه ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم وهو مذهب الثوري، والأوزاعي، وأبي ثور، وإسحاق بن راهويه، وداود الظاهري، ومحمد بن جرير الطبري،
والحسن بن صالح بن حسين.
وممن قال به من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس وحذيفة، والمغيرة، وأبو زيد الأنصاري.
وروي أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن جميعهم.
وممن قال به من التابعين شريح القاضي، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أكثر التابعين والفقهاء على ذلك.
وقال أبو عيسى الترمذي: التوقيت ثلاثاً للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم.
وقال الخطابي: التوقيت قول عامة الفقهاء، قاله النووي.
وحجة أهل هذا القول بتوقيت المسح الأحاديث الواردة بذلك، فمن ذلك حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم، يوم وليلة" ، أخرجه مسلم، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن
(1/346)
حبان.
ومن ذلك أيضاً حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما، أخرجه ابن خزيمة، والدارقطني، وابن أبي شيبة، وابن حبان والبيهقي، والترمذي في العلل، والشافعي، وابن الجارود، والأثرم في سننه، وصححه الخطابي، وابن خزيمة، وغيرهما.
ومن ذلك أيضاً حديث صفوان بن عسال المرادي قال: أمرنا، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناها على طهر ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط، ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة أخرجه الإمام أحمد، وابن خزيمة والترمذي، وصححاه والنسائي، وابن ماجه، والشافعي، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي.
قال الشوكاني في "نيل الأوطار": وحكى الترمذي عن البخاري، أنه حديث حسن، ومداره على عاصم بن أبي النجود، وهو صدوق، سييء الحفظ.
وقد تابعه جماعة، ورواه عنه أكثر من أربعين نفساً قاله ابن منده اهـ.
وذهبت جماعة من أهل العلم إلى عدم توقيت المسح وقالوا: إن من لبس خفيه، وهو طاهر، مسح عليهما ما بدا له، ولا يلزمه خلعهما إلا من جنابة.
وممن قال بهذا القول مالك، وأصحابه، والليث بن سعد، والحسن البصري.
ويروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وربيعة، وهو قول الشافعي في القديم، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم.
وحجة أهل هذا القول ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ أحدكم، فلبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء، إلا من جنابة ونحوه" . وأخرجه الدارقطني.
وهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الحاكم وغيره، يعتضد بما رواه الدارقطني عن ميمونة بنت الحارث الهلالية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم من عدم التوقيت.
(1/347)
ويؤيده أيضاً ما رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، أنه زاد في حديث التوقيت ما لفظه: ولو استزدناه لزادنا، وفي لفظ: لو مضى السائل على مسألته لجعلها خمساً يعني ليالي التوقيت للمسح.
وحديث خزيمة هذا الذي فيه الزيادة المذكورة صححه ابن معين، وابن حبان وغيرهما، وبه تعلم أن ادعاء النووي في "شرح المهذب" الاتفاق على ضعفه، غير صحيح.
وقول البخاري رحمه الله. إنه لا يصح عنده لأنه لا يعرف للجدلي سماع من خزيمة، مبني على شرطه، وهو ثبوت اللقى.
وقد أوضح مسلم بن الحجاج رحمه الله في مقدمة صحيحه، أن الحق هو الاكتفاء بإمكان اللقى بثبوت المعاصرة، وهو مذهب جمهور العلماء.
فإن قيل: حديث خزيمة الذي فيه الزيادة، ظن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لو استزيد لزاد، وقد رواه غيره، ولم يظن هذا الظن، ولا حجة في ظن صحابي خالفه غيره فيه.
فالجواب: أن خزيمة هو ذو الشهادتين الذي جعله صلى الله عليه وسلم بمثابة شاهدين، وعدالته، وصدقه، يمنعانه من أن يجزم بأنه لو استزيد لزاد إلا وهو عارف أن الأمر كذلك، بأمور أخر اطلع هو عليها، ولم يطلع عليها غيره.
ومما يؤيد عدم التوقيت ما رواه أبو داود، وقال: ليس بالقوي عن أبي بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: "نعم" قال: يوماً: قال "نعم" ، قال: ويومين، قال: "نعم" ، قال: وثلاثة أيام، قال: "نعم، وما شئت" .
وهذا الحديث وإن كان لا يصلح دليلا مستقلاً، فإنه يصلح لتقوية غيره من الأحاديث التي ذكرنا.
فحديث أنس في عدم التوقيت صحيح. ويعتضد بحديث خزيمة الذي فيه الزيادة، وحديث ميمونة، وحديث أبي بن عمارة، وبالآثار الموقوفة على عمر، وابنه، وعقبة بن عامر، رضي الله عنهم.
تنبيه:
الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه لا يمكن الجمع في هذه الأحاديث بحمل
(1/348)
المطلق على المقيد، لأن المطلق هنا فيه التصريح بجواز المسح أكثر من ثلاث للمسافر، والمقيم، والمقيد فيه التصريح بمنع الزائد على الثلاث للمسافر واليوم والليلة للمقيم. فهما متعارضان في ذلك الزائد، فالمطلق يصرح بجوازه، والمقيد يصرح بمنعه، فيجب الترجيح بين الأدلة، فترجح أدلة التوقيت بأنها أحوط، كما رجحها بذلك ابن عبد البر، وبأن رواتها من الصحابة أكثر، وبأن منها ما هو ثابت في صحيح مسلم، وهو حديث علي رضي الله عنه المتقدم.
وقد ترجح أدلة عدم التوقيت بأنها تضمنت زيادة، وزيادة العدل مقبولة، وبأن القائل بها مثبت أمراً، والمانع منها ناف له، والمثبت أولى من النافي.
قال مقيده عفا الله عنه: والنفس إلى ترجيح التوقيت أميل، لأن الخروج من الخلاف أحوط، كما قال بعض العلماء: [الرجز]
وإن الأورع الذي يخرج من ... خلافهم ولو ضعيفاً فاستبن
وقال الآخر: [الرجز]
وذو احتياط في أمور الدين ... من فر من شك إلى يقين
ومصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" .
فالعامل بأدلة التوقيت طهارته صحيحة باتفاق الطائفتين، بخلاف غيره فإحدى الطائفتين تقول ببطلانها بعد الوقت المحدد، والله تعالى أعلم.
واعلم أن القائلين بالتوقيت اختلفوا في ابتداء مدة المسح.
فذهب الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهما، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وسفيان الثوري، وداود في أصح الروايتين، وغيرهم، إلى أن ابتداء مدة التوقيت من أول حدث يقع بعد لبس الخف، وهذا قول جمهور العلماء.
واحتج أهل هذا القول بزيادة رواها الحافظ القاسم بن زكريا المطرز في حديث صفوان: من الحدث إلى الحدث.
قال النووي في "شرح المهذب": وهي زيادة غريبة ليست ثابتة.
واحتجوا أيضاً بالقياس وهو أن المسح عبادة موقتة، فيكون ابتداء وقتها من حين جواز فعلها قياساً على الصلاة.
(1/349)
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث.
وممن قال بهذا، الأوزاعي، وأبو ثور، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وداود، ورجح هذا القول النووي، واختاره ابن المنذر، وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
واحتج أهل هذا القول بأحاديث التوقيت في المسح، وهي أحاديث صحاح.
ووجه احتجاجهم بها أن قوله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المسافر ثلاثة أيام" صريح، في أن الثلاثة كلها ظرف للمسح.
ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان ابتداء المدة من المسح، وهذا هو أظهر الأقوال دليلا فيما يظهر لي، والله تعالى أعلم.
وفي المسألة قول ثالث، وهو أن ابتداء المدة من حين لبس الخف، وحكاه الماوردي والشاشي، عن الحسن البصري، قاله النووي، والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: اختلف العلماء: هل يكفي مسح ظاهر الخف، أو لا بد من مسح ظاهره وباطنه.
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يكفي مسح ظاهره.
وممن قال به أبو حنيفة، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وحكاه ابن المنذر، عن الحسن، وعروة بن الزبير، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وغيرهم.
وأصح الروايات عن أحمد أن الواجب مسح أكثر أعلى الخف، وأبو حنيفة يكفي عنده مسح قدر ثلاثة أصابع من أعلى الخف.
وحجة من اقتصر على مسح ظاهر الخف دون أسفله، حديث علي رضي الله عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه أخرجه أبو داود، والدارقطني.
قال ابن حجر في "بلوغ المرام": إسناده حسن.
وقال في "التلخيص": إسناده صحيح.
(1/350)
واعلم أن هذا الحديث لا يقدح فيه بأن في إسناده عبد خير بن يزيد الهمداني، وأن البيهقي قال: لم يحتج بعبد خير المذكور صاحبا الصحيح، اهـ. لأن عبد خير المذكور، ثقة مخضرم مشهور، قيل: إنه صحابي.
والصحيح أنه مخضرم وثقة يحيى بن معين، والعجلي، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": مخضرم ثقة من الثانية لم يصح له صحبة.
وأما كون الشيخين لم يخرجا له، فهذا ليس بقادح فيه باتفاق أهل العلم.
وكم من ثقة عدل لم يخرج له الشيخان!
وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن الواجب مسح أقل جزء من أعلاه، وأن مسح أسفله مستحب.
وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه يلزم مسح أعلاه وأسفله معاً، فإن اقتصر على أعلاه أعاد في الوقت، ولم يعد أبداً، وإن اقتصر على أسفله أعاد أبداً.
وعن مالك أيضاً أن مسح أعلاه واجب، ومسح أسفله مندوب.
واحتج من قال بمسح كل من ظاهر الخف وأسفله، بما رواه ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن وراد، كاتب المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله، أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وابن الجارود.
وقال الترمذي: هذا حديث معلول، لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم، وسألت أبا زرعة ومحمداً عن هذا الحديث فقالا: ليس بصحيح اهـ. ولا شك أن هذا الحديث ضعيف.
وقد احتج مالك لمسح أسفل الخف بفعل عروة بن الزبير رضي الله عنهما.
المسألة السابعة: أجمع العلماء على اشتراط الطهارة المائية للمسح على الخف، وأن من لبسهما محدثاً، أو بعد تيمم، لا يجوز له المسح عليهما.
واختلفوا في اشتراط كمال الطهارة، كمن غسل رجله اليمنى فأدخلها في الخف قبل أن يغسل رجله اليسرى، ثم غسل رجله اليسرى فأدخلها أيضاً في الخف، هل يجوز له المسح على الخفين إذا أحدث بعد ذلك؟
(1/351)
ذهب جماعة من أهل العلم إلى اشتراط كمال الطهارة، فقالوا في الصورة المذكورة: لا يجوز له المسح لأنه لبس أحد الخفين قبل كمال الطهارة.
وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه، ومالك وأصحابه، وإسحاق، وهو أصح الروايتين عن أحمد.
واحتج أهل هذا القول بالأحاديث الواردة باشتراط الطهارة للمسح على الخفين، كحديث المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما" ، متفق عليه، ولأبي داود عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين، وهما طاهرتان، فمسح عليهما" .
وعن أبي هريرة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال له لما نبهه على أنه لم يغسل رجليه: "إني أدخلتهما طاهرتان" .
وفي حديث صفوان بن عسال المتقدم أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر، الحديث، إلى غير ذلك من الأحاديث.
قالوا: والطهارة الناقصة كلا طهارة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم اشتراط كمال الطهارة وقت لبس الخف فأجازوا لبس خف اليمنى قبل غسل اليسرى والمسح عليه، إذا أحدث بعد ذلك، لأن الطهارة كملت بعد لبس الخف.
قالوا: والدوام كالابتداء. وممن قال بهذا القول: الإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري، ويحيى بن آدم، والمزني، وداود. واختار هذا القول ابن المنذر، قاله النووي.
قال مقيده عفا الله عنه: منشأ الخلاف في هذه المسألة هو قاعدة مختلف فيها، وهي هل يرتفع الحدث عن كل عضو من أعضاء الوضوء بمجرد غسله، أو لا يرتفع الحدث عن شيء منها إلا بتمام الوضوء؟ وأظهرهما عندي أن الحدث معنى من المعاني لا ينقسم ولا يتجزأ، فلا يرتفع منه جزء، وأنه قبل تمام الوضوء محدث، والخف يشترط في المسح عليه أن يكون وقت لبسه غير محدث -والله تعالى أعلم-، اهـ.
تنبيه:
جمهور العلماء على اشتراط النية في الوضوء والغسل، لأنهما قربة، والنبي صلى الله عليه وسلم
(1/352)
يقول: "إنما الأعمال بالنيات" ، وخالف أبو حنيفة قائلاً: إن طهارة الحدث لا تشترط فيها النية، كطهارة الخبث.
واختلف العلماء أيضاً في الغاية في قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [5/6]، هل هي داخلة فيجب غسل المرافق في الوضوء؟. وهو مذهب الجمهور. أو خارجة فلا يجب غسل المرافق فيه؟
والحق اشتراط النية، ووجوب غسل المرافق، والعلم عند الله تعالى.
واختلف العلماء في مسح الرأس في الوضوء هل يجب تعميمه، فقال مالك وأحمد، وجماعة: يجب تعميمه. ولا شك أنه الأحوط في الخروج من عهدة التكليف بالمسح. وقال الشافعي، وأبو حنيفة: لا يجب التعميم.
واختلفوا في القدر المجزىء، فعن الشافعي: أقل ما يطلق عليه اسم المسح كاف، وعن أبي حنيفة: الربع، وعن بعضهم: الثلث، وعن بعضهم: الثلثان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على العمامة، وحمله المالكية على ما إذا خيف بنزعها ضرر، وظاهر الدليل الإطلاق.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم المسح على الناصية والعمامة، ولا وجه للاستدلال به على الاكتفاء بالناصية، لأنه لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بها، بل مسح معها على العمامة، فقد ثبت في مسح الرأس ثلاث حالات: المسح على الرأس، والمسح على العمامة، والجمع بينهما بالمسح على الناصية، والعمامة.
والظاهر من الدليل جواز الحالات الثلاث المذكورة، والعلم عند الله تعالى.
وما قدمنا من حكاية الإجماع على عدم الاكتفاء في المسح على الخف بالتيمم، مع أن فيه بعض خلاف كما يأتي، لأنه لضعفه عندنا كالعدم، ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية الكريمة خوف الإطالة.
قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} الآية.
اعلم أن لفظة {مِنْ} في هذه الآية الكريمة محتملة، لأن تكون للتبعيض، فيتعين في التيمم التراب الذي له غبار يعلق باليد. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، أي مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطيب، فلا يتعين ماله غبار، وبالأول قال الشافعي،
(1/353)
وأحمد، وبالثاني قال مالك، وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى جميعاً.
فإذا علمت ذلك، فاعلم أن في هذه الآية الكريمة إشارة إلى هذا القول الأخير، وذلك في قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [5/6] فقوله: {مِنْ حَرَجٍ} نكرة في سياق النفي زيدت قبلها {مِنْ}، والنكرة إذا كانت كذلك، فهي نص في العموم، كما تقرر في الأصول، قال في "مراقي السعود" عاطفاً على صيغ العموم: [الرجز]
وفي سياق المنفي منها يذكر ... إذا بنى أو زيد من منكر
فالآية تدل على عموم النفي في كل أنواع الحرج، والمناسب لذلك كون {مِنْ} لابتداء الغاية، لأن كثيراً من البلاد ليس فيه إلا الرمال أو الجبال، فالتكليف بخصوص ما فيه غبار يعلق باليد، لا يخلو من حرج في الجملة.
ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصل" ، وفي لفظ: "فعنده مسجده وطهوره" الحديث.
فهذا نص صحيح صريح في أن من أدركته الصلاة في محل ليس فيه إلا الجبال أو الرمال أن ذلك الصعيد الطيب الذي هو الحجارة، أو الرمل طهور له ومسجد. وبه تعلم أن ما ذكره الزمخشري من تعين كون {مِنْ} للتبعيض غير صحيح. فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على تعين التراب الذي له غبار يعلق باليد، دون غيره من أنواع الصعيد، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهورا، إذا لم نجد الماء" ، الحديث، فتخصيص التراب بالطهورية في مقام الامتنان يفهم منه أن غيره من الصعيد ليس كذلك، فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن كون الأمر مذكوراً في معرض الامتنان، مما يمنع فيه اعتبار مفهوم المخالفة، كما تقرر في الأصول، قال في "مراقي السعود" في موانع اعتبار مفهوم المخالفة: [الرجز]
(1/354)
أو امتنان أو وفاق الواقع ... والجهل والتأكيد عند السامع
ولذا أجمع العلماء على جواز أكل القديد من الحوت مع أن الله، خص اللحم الطري منه في قوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [16/14]؛ لأنه ذكر اللحم الطري في معرض الامتنان، فلا مفهوم مخالفة له، فيجوز أكل القديد مما في البحر.
الثاني: أن مفهوم التربة مفهوم لقب، وهو لا يعتبر عند جماهير العلماء، وهو الحق كما هو معلوم في الأصول.
الثالث: أن التربة فرد من أفراد الصعيد. وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصاً له عند الجمهور، سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [2/238]، أو ذكرا في نصين كحديث: " أيما إهاب دبغ فقد طهر" عند أحمد، ومسلم، وابن ماجه، والترمذي وغيرهم، مع حديث: "هلا انتفعتم بجلدها" يعني شاة ميتة عند الشيخين، كلاهما من حديث ابن عباس، فذكر الصلاة الوسطى في الأول، وجلد الشاة في الأخير لا يقتضي أن غيرهما من الصلوات في الأول، ومن الجلود في الثاني ليس كذلك، قال في "مراقي السعود" عاطفاً على ما لا يخصص به العموم: [الرجز]
وذكر ما وافقه من مفرد ... ومذهب الراوي على المعتمد
ولم يخالف في عدم التخصيص بذكر بعض أفراد العام بحكم العام، إلا أبو ثور محتجاً بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص.
وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام، والصعيد في اللغة: وجه الأرض، كان عليه تراب، أو لم يكن، قاله الخليل، وابن الأعرابي، والزجاج.
قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [18/8]، أي أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً، وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [18/40]، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط]
كأنه بالضحى ترمى الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم
(1/355)
وإنما سمي صعيداً، لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صعدات على غير قياس، ومنه حديث: "إياكم والجلوس في الصعدات" ، قاله القرطبي وغيره عنه.
واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب، فقالت طائفة: "الطيب"، هو الطاهر، فيجوز التيمم بوجه الأرض كله، تراباً كان أو رملاً، أو حجارة، أو معدناً، أو سبخة، إذا كان ذلك طاهراً. وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم.
وقالت طائفة: الطيب: الحلال، فلا يجوز التيمم بتراب مغصوب. وقال الشافعي، وأبو يوسف: الصعيد الطيب التراب المنبت، بدليل قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} الآية [7/58].
فإذا علمت هذا، فاعلم أن المسألة لها واسطة وطرفان: طرف أجمع جميع المسلمين على جواز التيمم به، وهو التراب المنبت الطاهر الذي هو غير منقول، ولا مغصوب. وطرف أجمع جميع المسلمين على منع التيمم به، وهو الذهب والفضة الخالصان، والياقوت والزمرد، والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، والنجاسات وغير هذا هو الواسطة التي اختلف فيها العلماء، فمن ذلك المعادن.
فبعضهم يجيز التيمم عليها كمالك، وبعضهم يمنعه كالشافعي ومن ذلك الحشيش، فقد روى ابن خويز منداد عن مالك أنه يجيز التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، ومشهور مذهب مالك المنع، ومن ذلك التيمم على الثلج، فروي عن مالك في "المدونة"، والمبسوط جوازه: قيل: مطلقاً. وقيل: عند عدم الصعيد، وفي غيرهما منعه.
واختلف عنه في التيمم على العود، فالجمهور على المنع، وفي "مختصر الوقار" أنه جائز، وقيل: يجوز في العود المتصل بالأرض دون المنفصل عنها، وذكر الثعلبي أن مالكاً قال: لو ضرب بيده على شجرة، ثم مسح بها أجزأه، قال: وقال الأوزاعي، والثوري: يجوز بالأرض، وكل ما عليها من الشجر والحجر، والمدر وغيرها حتى قالا: لو ضرب بيده على الجمد، والثلج أجزأه.
وذكر الثعلبي عن أبي حنيفة أنه يجيزه بالكحل، والزرنيخ، والنورة، والجص، والجوهر المسحوق، ويمنعه بسحالة الذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، لأن
(1/356)
ذلك ليس من جنس الأرض.
وذكر النقاش عن ابن علية، وابن كيسان أنهما أجازاه بالمسك، والزعفران، وأبطل ابن عطية هذا القول، ومنعه إسحاق بن راهويه بالسباخ، وعن ابن عباس نحوه، وعنه فيمن أدركه التيمم، وهو في طين أنه يطلي به بعض جسده، فإذا جف تيمم به، قاله القرطبي.
وأما التراب المنقول في طبق أو غيره، فالتيمم به جائز في مشهور مذهب مالك، وهو قول جمهور المالكية، ومذهب الشافعي، وأصحابه. وعن بعض المالكية، وجماعة من العلماء منعه.
وما طبخ كالجص، والآجر ففيه أيضاً خلاف عن المالكية، والمنع أشهر.
واختلفوا أيضاً في التيمم على الجدار، فقيل: جائز مطلقاً، وقيل: ممنوع مطلقاً، وقيل بجوازه للمريض دون غيره، وحديث أبي جهيم الآتي يدل على الجواز مطلقاً.
والظاهر أن محله فيما إذا كان ظاهر الجدار من أنواع الصعيد، ومشهور مذهب مالك جواز التيمم على المعادن غير الذهب، والفضة ما لم تنقل، وجوازه على الملح غير المصنوع، ومنعه بالأشجار، والعيدان ونحو ذلك، وأجازه أحمد، والشافعي، والثوري على اللبد، والوسائد. ونحو ذلك إذا كان عليه غبار.
والتيمم في اللغة: القصد، تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، وأنشد الخليل قول عامر بن مالك، ملاعب الألسنة: [البسيط]
يممته الرمح شزراً ثم قلت له ... هذي البسالة لا لعب الزحاليق
ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامى
وقول أعشى باهلة: [المتقارب]
تيممت قيساً وكم دونه ... من الأرض من مهمة ذي شزن
وقول حميد بن ثور: [الطويل]
سل الربع أني يممت أم طارق ... وهل عادة للربع أن يتكلما
(1/357)
والتيمم في الشرع: القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه، واليدين منه بنية استباحة الصلاة عند عدم الماء، أو العجز عن استعماله، وكون التيمم بمعنى القصد يدل على اشتراط النية في التيمم، وهو الحق.
مسائل في أحكام التيمم:
المسألة الأولى: لم يخالف أحد من جميع المسلمين في التيمم، عن الحدث الأصغر، وكذلك عن الحدث الأكبر، إلا ما روي عن عمر، وابن مسعود، وإبراهيم النخعي من التابعين أنهم منعوه، عن الحدث الأكبر.
ونقل النووي في "شرح المهذب" عن ابن الصباغ وغيره القول برجوع عمر، وعبد الله بن مسعود عن ذلك، واحتج لمن منع التيمم، عن الحدث الأكبر بأن آية النساء ليس فيها إباحته إلا لصاحب الحدث الأصغر. حيث قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} الآية [4/43]، ورد هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الأول: أنا لا نسلم عدم ذكر الجنابة في آية النساء، لأن قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [4/43]، فسره ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، بأن المراد به الجماع، وإذاً فذكر التيمم بعد الجماع المعبر عنه باللمس، أو الملامسة بحسب القراءتين، والمجيء من الغائط دليل على شمول التيمم لحالتي الحدث الأكبر، والأصغر.
الثاني: أنه تعالى في سورة المائدة، صرح بالجنابة غير معبر عنها بالملامسة، ثم ذكر بعدها التيمم، فدل على أن يكون عنها أيضاً حيث قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [5/6]، ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية [5/6].
فهو عائد إلى المحدث، والجنب جميعاً، كما هو ظاهر.
الثالث: تصريحه صلى الله عليه وسلم بذلك الثابت عنه في الصحيح: فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، أنه قال: أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد وصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنما يكفيك هكذا" ،
(1/358)
وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه، وكفيه.
وأخرجا في صحيحيهما أيضاً من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى بالناس. فإذا هو برجل معتزل، فقال: "ما منعك أن تصلي" ؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد، فإنه يكفيك" .
والأحاديث في الباب كثيرة.
المسألة الثانية: اختلف العلماء، هل تكفي للتيمم ضربة واحدة أو لا؟ فقال جماعة: تكفي ضربة واحدة للكفين والوجه، وممن ذهب إلى ذلك الإمام أحمد، وعطاء، ومكحول، والأوزاعي، وإسحاق، ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره، وهو قول عامة أهل الحديث، ودليله حديث عمار المتفق عليه المتقدم آنفاً.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا بد من ضربتين: إحداهما للوجه، والأخرى للكفين، ومنهم من قال بوجوب الثانية، ومنهم من قال بسنيتها كمالك، وذهب ابن المسيب، وابن شهاب، وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة لليدين، وضربة للذراعين.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر من جهة الدليل الاكتفاء بضربة واحدة. لأنه لم يصح من أحاديث الباب شيء مرفوعاً، إلا حديث عمار المتقدم، وحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من نحو بئر جمل فلقيه رجل، فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام، أخرجه البخاري موصولاً، ومسلم تعليقاً، وليس في واحد منهما ما يدل على أنهما ضربتان كما رأيت، وقد دل حديث عمار أنها واحدة.
المسألة الثالثة: هل يلزم في التيمم مسح غير الكفين؟ اختلف العلماء في ذلك، فأوجب بعضهم المسح في التيمم إلى المرفقين، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهما، والثوري، وابن أبي سلمة، والليث، كلهم يرون بلوغ التيمم بالمرفقين فرضاً واجباً، وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي.
(1/359)
قال ابن نافع: من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبداً، وقال مالك: في المدونة يعيد في الوقت، وروي التيمم إلى المرفقين مرفوعاً، عن جابر بن عبد الله، وابن عمر، وأبي أمامة، وعائشة وعمار، والأسلع، وسيأتي ما في أسانيد رواياتهم من المقال إن شاء الله تعالى، وبه كان يقول ابن عمر، وقال ابن شهاب: يمسح في التيمم إلى الآباط.
واحتج من قال بالتيمم إلى المرفقين بما روي عمن ذكرنا من ذكر المرفقين، وبأن ابن عمر كان يفعله، وبالقياس على الوضوء، وقد قال تعالى فيه: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} .
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر من الأدلة، والله تعالى أعلم، أن الواجب في التيمم هو مسح الكفين فقط، لما قدمنا من أن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها شيء ثابت الرفع إلا حديث عمار: وحديث أبي جهيم المتقدمين.
أما حديث أبي جهيم، فقد ورد بذكر اليدين مجملاً، كما رأيت، وأما حديث عمار فقد ورد بذكر الكفين في الصحيحين، كما قدمنا آنفاً. وورد في غيرهما بذكر المرفقين، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط، فأما رواية المرفقين، ونصف الذراع، ففيهما مقال سيأتي، وأما رواية الآباط، فقال الشافعي وغيره: إن كان ذاك وقع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكل تيمم للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له. وإن كان وقع بغير أمره، فالحجة فيما أمر به ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين، كون عمار كان يفتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره. ولا سيما الصحابي المجتهد، قاله ابن حجر في "الفتح".
وأما فعل ابن عمر، فلم يثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف على ابن عمر لا يعارض به مرفوع متفق عليه، وهو حديث عمار.
وقد روى أبو داود عن ابن عمر بسند ضعيف، أنه قال: مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى في السكك، فضرب بيده على حائط، ومسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه ومدار الحديث على محمد بن ثابت، وقد ضعفه ابن معين، وأحمد والبخاري وأبو حاتم. وقال أحمد والبخاري: ينكر عليه حديث التيمم. أي
(1/360)
هذا، زاد البخاري: خالفه أيوب، وعبيد الله والناس، فقالوا عن نافع عن ابن عمر فعله.
وقال أبو داود: لم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورووه من فعل ابن عمر، وقال الخطابي: لا يصح. لأن محمد بن ثابت ضعيف جداً، ومحمد بن ثابت هذا هو العبدي، أبو عبد الله البصري، قال فيه في التقريب: صدوق، لين الحديث.
واعلم أن رواية الضحاك بن عثمان، وابن الهاد لهذا الحديث عن نافع عن ابن عمر، ليس في واحدة منهما متابعة محمد بن ثابت على الضربتين، ولا على الذراعين. لأن الضحاك لم يذكر التيمم في روايته، وابن الهاد قال في روايته مسح وجهه ويديه. قاله ابن حجر، والبيهقي، وروى الدارقطني والحاكم، والبيهقي من طريق علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" .
قال الدارقطني: وقفه يحيى القطان، وهشيم وغيرهما، وهو الصواب، ثم رواه من طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً، قاله ابن حجر، مع أن علي بن ظبيان ضعفه القطان، وابن معين، وغير واحد.
وهو ابن ظبيان بن هلال العبسي الكوفي، قاضي بغداد، قال فيه في "التقريب": ضعيف.
ورواه الدارقطني من طريق سالم عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ تيممنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب، ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا، ثم ضربنا ضربة أخرى فمسحنا من المرافق إلى الأكف، الحديث، لكن في إسناده سليمان بن أرقم، وهو متروك.
قال البيهقي: رواه معمر وغيره عن الزهري موقوفاً، وهو الصحيح، ورواه الدراقطني أيضاً من طريق سليمان بن أبي داود الحراني، وهو متروك أيضاً عن سالم، ونافع جميعاً عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: "وفي التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" .
قال أبو زرعة: حديث باطل، ورواه الدارقطني، والحاكم من طريق عثمان بن
(1/361)
محمد الأنماطي عن عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين" ، ومن طريق أبي نعيم عن عزرة بسنده المذكور، قال: جاء رجل، فقال: أصابتني جنابة، وإني تمعكت في التراب، فقال: "اضرب" ، فضرب بيده الأرض فمسح وجهه، ثم ضرب يديه فمسح بهما إلى المرفقين.
ضعف ابن الجوزي هذا الحديث بأن فيه عثمان بن محمد، ورد على ابن الجوزي بأن عثمان بن محمد لم يتكلم فيه أحد، كما قاله ابن دقيق العيد، لكن روايته المذكورة شاذة، لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوفاً، أخرجه الدارقطني، والحاكم أيضاً.
وقال الدارقطني في حاشية السنن، عقب حديث عثمان بن محمد: كلهم ثقات، والصواب موقوف، قال ذلك كله ابن حجر في التلخيص، وقال في "التقريب" في عثمان بن محمد المذكور مقبول، وقال في "التلخيص" أيضاً: وفي الباب عن الأسلع قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بآية الصعيد، فأراني التيمم، فضربت بيدي الأرض واحدة، فمسحت بها وجهي ثم ضربت بها الأرض فمسحت بها يدي إلى المرفقين رواه الدارقطني، والطبراني، وفيه الربيع بن بدر، وهو ضعيف، وعن أبي أمامة رواه الطبراني، وإسناده ضعيف أيضاً.
ورواه البزار، وابن عدي من حديث عائشة مرفوعاً: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" . تفرد به الحريش بن الخريت، عن ابن أبي مليكة عنها قال أبو حاتم: حديث منكر، والحريش شيخ لا يحتج به.
وحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر: "تكفيك ضربة للوجه، وضربة للكفين" , رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو ضعيف، ولكنه حجة عند الشافعي.
وحديث عمار: كنت في القوم حين نزلت الرخصة فأمرنا فضربنا واحدة للوجه، ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين.
رواه البزار، ولا شك أن الرواية المتفق عليها عن عمار أولى منه.
وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، اهـ، منه. فبهذا كله تعلم أنه لم يصح في الباب إلا حديث
(1/362)
عمار، وأبي جهيم المتقدمين، كما ذكرنا.
فإذا عرفت نصوص السنة في المسألة فاعلم أن الواجب في المسح الكفان فقط، ولا يبعد ما قاله مالك رحمه الله من وجوب الكفين، وسنية الذراعين إلى المرفقين، لأن الوجوب دل عليه الحديث المتفق عليه في الكفين.
وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال، فإن بعضها يشد بعضاً، لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يقوي بعضها بعضاً حتى يصلح مجموعها للاحتجاج: لا تخاصم بواحد أهل بيت، فضعيفان يغلبان قوياً، وتعتضد أيضاً بالموقوفات المذكورة.
والأصل إعمال الدليلين، كما تقرر في الأصول.
المسألة الرابعة: هل يجب الترتيب في التيمم أو لا؟ ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي وأصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين ركن من أركان التيمم، وحكى النووي عليه اتفاق الشافعية، وذهبت جماعة منهم مالك، وجل أصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين سنة.
ودليل تقديم الوجه على اليدين أنه تعالى قدمه في آية النساء، وآية المائدة، حيث قال فيهما: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أبدأ بما بدأ الله به" يعني قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية [2/158]، وفي بعض رواياته "ابدؤوا" بصيغة الأمر. وذهب الإمام أحمد، ومن وافقه إلى تقديم اليدين، مستدلاً بما ورد في صحيح البخاري في باب "التيمم ضربة" من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا" ، فضرب بكفيه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه، الحديث.
ومعلوم أن "ثم" تقتضي الترتيب، وأن الواو لا تقتضيه عند الجمهور، وإنما تقتضي مطلق التشريك، ولا ينافي ذلك أن يقوم دليل منفصل على أن المعطوف بالواو مؤخر عما قبله، كما دل عليه الحديث المتقدم في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية، وكما في قول حسان: [الوافر]
(1/363)
هجوت محمداً وأجبت عنه
وعلى رواية "الواو" فحديث البخاري هذا نص في تقديم اليدين على الوجه، وللاسماعيلي من طريق هارون الحمال، عن أبي معاوية ما لفظه: "إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض ثم تنفضهما، ثم تمسح بيمينك على شمالك، وشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك" قاله ابن حجر في الفتح، وأكثر العلماء على تقديم الوجه مع الاختلاف في وجوب ذلك، وسنيته.
المسألة الخامسة: هل يرفع التيمم الحدث أو لا؟ وهذه المسألة من صعاب المسائل لإجماع المسلمين على صحة الصلاة بالتيمم عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله، وإجماعهم على أن الحدث مبطل للصلاة، فإن قلنا: لم يرتفع حدثه، فكيف صحت صلاته، وهو محدث؟ وإن قلنا: صحت صلاته، فكيف نقول: لم يرتفع حدثه؟
اعلم أولاً أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهب:
الأول: أن التيمم لا يرفع الحدث.
الثاني: أنه يرفعه رفعاً كلياً.
الثالث: أنه يرفعه رفعاً مؤقتاً.
حجة القول الأول أن التيمم لا يرفع الحدث ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فرأى رجلاً معتزلاً لم يصل مع القوم، فقال: "ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم" ؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" . إلى أن قال: وكان آخر ذلك أن أعطي الذي أصابته الجنابة إناء من ماء. قال: "اذهب فأفرغه عليك" ، الحديث. ولمسلم في هذا الحديث وغسلنا صاحبنا يعني الجنب المذكور. وهذا نص صحيح في أن تيممه الأول لم يرفع جنابته.
ومن الأدلة على أنه لا يرفع الحدث ما رواه أبو داود، وأحمد، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم موصولاً، ورواه البخاري تعليقاً عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه تيمم عن الجنابة من شدة البرد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صليت بأصحابك
(1/364)
وأنت جنب" ، فقال عمرو: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [4/29]. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه قال ابن حجر في "التلخيص" في الكلام على حديث عمرو هذا: واختلف فيه على عبد الرحمن بن جبير.
فقيل عنه عن أبي قيس عن عمرو، وقيل عن عن عمرو بلا واسطة. لكن الرواية التي فيها أبو قيس، ليس فيها ذكر التيمم، بل فيها أنه غسل مابنه فقط.
وقال أبو داود: روى هذه القصة الأوزاعي عن حسان بن عطية، وفيه: "فتيمم". ورجح الحاكم إحدى الروايتين على الأخرى.
وقال البيهقي: يحتمل أن يكون فعل ما في الروايتين جميعاً، فيكون قد غسل ما أمكن، وتيمم عن الباقي. وله شاهد من حديث ابن عباس، وحديث أبي أمامة، عند الطبراني، انتهى من التلخيص لابن حجر.
قال مقيده عفا الله عنه: ما أشار إليه البيهقي من الجمع بين الروايتين متعين، لأن الجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في الأصول، وعلوم الحديث.
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "صليت بأصحابك وأنت جنب" ، فإنه أثبت بقاء جنابته مع التيمم.
ومن الأدلة على أن التيمم لا يرفع الحدث حديث أبي ذر عند أحمد، وأصحاب السنن الأربع، وصححه الترمذي، وأبو حاتم من حديث أبي ذر، وابن القطان من حديث أبي هريرة عند البزار، والطبراني، قاله ابن حجر في التلخيص.
وذكر في "الفتح" أنه صححه ابن حبان، والدارقطني من حديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" الحديث. قال ابن حجر في التلخيص: بعد أن ذكر هذا الحديث عن أصحاب السنن من رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر: واختلف فيه على أبي قلابة، فقيل هكذا.
وقيل عنه عن رجل من بني عامر، وهذه رواية أيوب عنه، وليس فيها مخالفة لرواية خالد، وقيل عن أيوب عنه عن أبي المهلب عن أبي ذر، وقيل عنه بإسقاط
(1/365)
الواسطة، وقيل في الواسطة محجن، أو ابن محجن، أو رجاء بن عامر، أو رجل من بني عامر، وكلها عند الدارقطني، والاختلاف فيه كله على أيوب، ورواه ابن حبان، والحاكم من طريق خالد الحذاء كرواية أبي داود، وصححه أيضاً أبو حاتم، ومدار طريق خالد على عمرو بن بجدان، وقد وثقه العجلي، وغفل ابن القطان فقال: إنه مجهول. هكذا قاله ابن حجر في التلخيص.
وقال في "التقريب" في ابن بجدان المذكور: لا يعرف حاله، تفرد عنه أبو قلابة وفي الباب عن أبي هريرة رواه البزار قال: حدثنا مقدم بن محمد، ثنا عمي القاسم بن يحيى، ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رفعه: "الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله، وليمسه بشرته، فإن ذلك خير" .
وقال: لا نعلمه عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ورواه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مطولاً، أخرجه في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة، وساق فيه قصة أبي ذر وقال: لم يروه إلا هشام، عن ابن سيرين، ولا عن هشام إلا القاسم، تفرد به مقدم، وصححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إن إرساله أصح، انتهى من التلخيص بلفظه، وقد رأيت تصحيح هذا الحديث للترمذي، وأبي حاتم، وابن القطان، وابن حبان.
ومحل الشاهد منه قوله: "فإن وجد الماء فليمسه بشرته" ، لأن الجنابة لو كان التيمم رفعها، لما احتيج إلى إمساس الماء البشرة.
واحتج القائلون بأن التيمم يرفع الحدث: بأن النبي صلى الله عليه وسلم، صرح بأنه طهور في قوله في الحديث المتفق عليه: "وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" ، وبأن في الحديث المار آنفاً: "التيمم وضوء المسلم" ، وبأن الله تعالى قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية، وبالإجماع على أن الصلاة تصح به كما تصح بالماء، ولا يخفى ما بين القولين المتقدمين من التناقض.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر من الأدلة تعين القول الثالث، لأن الأدلة تنتظم به ولا يكون بينهما تناقض والجمع واجب متى أمكن. قال في "مراقي السعود":
(1/366)
[الرجز]
والجمع واجب متى ما أمكنا ... إلا فللأخير نسخ بينا
والقول الثالث المذكور هو: أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً لا كلياً، وهذا لا مانع منه عقلاً ولا شرعاً، وقد دلت عليه الأدلة، لأن صحة الصلاة به المجمع عليها يلزمها أن المصلي غير محدث، ولا جنب لزوماً شرعياً لا شك فيه.
ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك عند إمكانه المجمع عليه أيضاً يلزمه لزوماً شرعياً لا شك فيه، وأن الحدث مطلقاً لم يرتفع بالكلية، فيتعين الارتفاع المؤقت. هذا هو الظاهر، ولكنه يشكل عليه ما تقدم في حديث عمرو بن العاص، أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "صليت بأصحابك وأنت جنب" ، وقد تقرر عند علماء العربية أن وقت عامل الحال هو بعينه وقت الحال، فالحال وعاملها إذاً مقترنان في الزمان، فقولك: جاء زيد ضاحكاً مثلا، لا شك في أن وقت المجيء فيه هو بعينه وقت الضحك، وعليه فوقت صلاته، هو بعينه وقت كونه جنباً، لأن الحال هي كونه جنباً وعاملها قوله: "صليت" ، فيلزم أن وقت الصلاة والجنابة متحد، ولا يقدح فيما ذكرنا أن الحال المقدرة لا تقارن عاملها في الزمان، كقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [39/73]؛ لأن الخلود متأخر عن زمن الدخول أي مقدرين الخلود فيها؛ لأن الحال في الحديث المذكور ليست من هذا النوع.
فالمقارنة بينها وبين عاملها في الزمن لا شك فيها، وإذا كانت الجنابة حاصلة له في نفس وقت الصلاة، كما هو مقتضى هذا الحديث، فالرفع المؤقت المذكور لا يستقيم، ويمكن الجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "وأنت جنب" قبل أن يعلم عذره بخوفه الموت إن اغتسل.
والمتيمم من غير عذر مبيح جنب قطعاً، وبعد أن علم عذره المبيح للتيمم الذي هو خوف الموت أقره وضحك، ولم يأمره بالإعادة، فدل على أنه صلى بأصحابه وهو غير جنب، وهذا ظاهر الوجه.
الثاني: أنه أطلق عليه اسم الجنابة نظراً إلى أنها لم ترتفع بالكلية، ولو كان في وقت صلاته غير جنب. كإطلاق اسم الخمر على العصير في وقت هو فيه ليس بخمر في
(1/367)
قوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [12/36]، نظراً إلى مآله في ثاني حال، والعلم عند الله تعالى.
ومن المسائل التي تبنى على الاختلاف في التيمم، هل يرفع الحدث أو لا؟ جواز وطء الحائض إذا طهرت، وصلت بالتيمم للعذر الذي يبيحه، فعلى أنه يرفع الحدث يجوز وطؤها قبل الاغتسال، والعكس بالعكس.
وكذلك إذا تيمم ولبس الخفين. فعلى أن التيمم يرفع الحدث يجوز المسح عليهما في الوضوء بعد ذلك، والعكس بالعكس.
وكذلك ما ذهب إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن من أن الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء لا يلزمه الغسل، فالظاهر أنه بناه على رفع الحدث بالتيمم، لكن هذا القول ترده الأحاديث المتقدمة، وإجماع المسلمين قبله، وبعده على خلافه.
المسألة السادسة: هل يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد فريضتان أو لا؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز به فريضتان، أو فرائض ما لم يحدث، وعليه كثير من العلماء، منهم الإمام أحمد في أشهر الروايتين، والحسن البصري، وأبو حنيفة، وابن المسيب، والزهري.
وذهب مالك، والشافعي، وأصحابهما إلى أنه لا تصلى به إلا فريضة واحدة. وعزاه النووي في شرح المهذب لأكثر العلماء، وذكر أن ابن المنذر حكاه عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، والشافعي، والنخعي، وقتادة، وربيعة، ويحيى الأنصاري، والليث، وإسحاق، وغيرهم.
واحتج أهل القول الأول بأن النصوص الواردة في التيمم، ليس فيها التقييد بفرض واحد، وظاهرها الإطلاق، وبحديث: "الصعيد الطيب وضوء المسلم" الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: "وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" ، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية [5/6].
واحتج أهل القول الثاني بما روي عن ابن عباس رضي عنهما أنه قال: من السنة ألا يصلي بالتيمم إلا مكتوبة واحدة، ثم يتيمم للأخرى، وقول الصحابي من السنة
(1/368)
له حكم الرفع على الصحيح عند المحدثين، والأصوليين، أخرج هذا الحديث الدارقطني، والبيهقي من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عنه، والحسن ضعيف جداً قال فيه ابن حجر في "التقريب" متروك، وقال فيه مسلم، في مقدمة صحيحه: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود قال: قال لي شعبة: ائت جرير بن حازم، فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة، فإنه يكذب.
وقال البيهقي لما ساق هذا الحديث في سننه: الحسن بن عمارة لا يحتج به اهـ وهو أبو محمد البجلي مولاهم الكوفي قاضي بغداد، واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عمر، وعلي، وعمرو بن العاص موقوفاً عليهم، أما ابن عمر فرواه عنه البيهقي، والحاكم من طريق عامر الأحول، عن نافع عن ابن عمر قال: يتيمم لكل صلاة، وإن لم يحدث، قال البيهقي: وهو أصح ما في الباب قال: ولا نعلم له مخالفاً من الصحابة.
قال مقيده عفا الله عنه: ومثل هذا يسمى إجماعاً سكوتياً، وهو حجة عند أكثر العلماء، ولكن أثر ابن عمر هذا الذي صححه البيهقي، وسكت ابن حجر على تصحيحه له في التلخيص، والفتح، تكلم فيه بعض أهل العلم بأن عامرا الأحول ضعفه سفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وقيل لم يسمع من نافع، وضعف هذا الأثر ابن حزم ونقل خلافه عن ابن عباس وقال ابن حجر في الفتح: بعد أن ذكر أن البيهقي قال: لا نعلم له مخالفاً. وتعقب بما رواه ابن المنذر عن ابن عباس، أنه لا يجب.
وأما عمرو بن العاص فرواه عنه الدارقطني، والبيهقي، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. أن عمرو بن العاص كان يتيمم لكل صلاة، وبه كان يفتي قتادة، وهذا فيه إرسال شديد بين قتادة، وعمرو، قاله ابن حجر في التليخص، والبيهقي في "السنن الكبرى" وهو ظاهر، وأما علي فرواه عنه الدارقطني أيضاً بإسناد فيه حجاج بن أرطاة والحارث الأعور قاله ابن حجر أيضاً، ورواه البيهقي في السنن الكبرى بالإسناد الذي فيه المذكوران.
أما حجاج بن أرطاة، فقد قال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق، كثير الخطأ، والتدليس، وأما الحارث الأعور فقال فيه ابن حجر في التقريب: كذبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف، وقال فيه مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جابر عن مغيرة عن الشعبي قال: حدثني الحارث الأعور
(1/369)
الهمداني، وكان كذاباً. حدثنا أبو عامر عبد الله بن براد الأشعري، حدثنا أبو أسامة عن مفضل عن مغيرة قال: سمعت الشعبي يقول: حدثني الحارث الأعور وهو يشهد أنه أحد الكذابين وقد ذكر البيهقي هذا الأثر عن علي في التيمم، في باب "التيمم لكل فريضة"، وسكت عن الكلام في المذكورين أعني حجاج بن أرطاة، والحارث الأعور، لكنه قال في حجاج في باب "المنع من التطهير بالنبيذ" لا يحتج به. وضعفه في باب "الوضوء من لحوم الإبل"، وقال في باب "الدية أرباع" مشهور بالتدليس، وأنه يحدث عمن لم يلقه، ولم يسمع منه، قاله الدارقطني، وضعف الحارث الأعور في باب "منع التطهير بالنبيذ أيضاً".
وقال في باب "أصل القسامة": قال الشعبي: كان كذاباً.
المسألة السابعة: إذا كان في بدنه نجاسة، ولم يجد الماء، هل يتيمم لطهارة تلك النجاسة الكائنة في بدنه -فيكون التيمم بدلاً عن طهارة الخبث عند فقد الماء. كطهارة الحدث- أو لا يتيمم لها؟
ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يتيمم عن الخبث، وإنما يتيمم عن الحدث فقط. واستدلوا بأن الكتاب والسنة إنما دلا على ذلك كقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [4/43].
وتقدم في حديث عمران بن حصين، وحديث عمار بن ياسر المتفق عليهما: التيمم عند الجنابة، وأما عن النجاسة فلا، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجوز عن النجاسة إلحاقاً لها بالحدث، واختلف أصحابه في وجوب إعادة تلك الصلاة.
وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو ثور إلى أنه يمسح موضع النجاسة بتراب ويصلي، نقله النووي عن ابن المنذر. كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية [5/15]، لم يبين هنا شيئاً من ذلك الكثير الذي يبينه لهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كانوا يخفون من الكتاب، يعني التوراة والإنجيل، وبين كثيراً منه في مواضع أخر.
فمما كانوا يخفون من أحكام التوراة رجم الزاني المحصن، وبينه القرآن في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
(1/370)
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [3/23].
يعني يدعون إلى التوراة ليحكم بينهم في حد الزاني المحصن بالرجم، وهم معرضون عن ذلك منكرون له، ومن ذلك، ما أخفوه من صفات الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وإنكارهم أنهم يعرفون أنه هو الرسول، كما بينه تعالى بقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [2/89].
ومن ذلك إنكارهم أن الله حرم عليهم بعض الطيبات بسبب ظلمهم ومعاصيهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [4/160]، وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [6/146].
فإنهم أنكروا هذا، وقالوا لم يحرم علينا إلا ما كان محرماً على إسرائيل، فكذبهم القرآن في ذلك في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [3/93].
ومن ذلك كتم النصارى بشارة عيسى ابن مريم لهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد بينها تعالى بقوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [61/6], إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما أخفوه من كتبهم.
قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} الآية.
قال جمهور العلماء: إنهما ابنا آدم لصلبه، وهما هابيل، وقابيل.
وقال الحسن البصري رحمه الله: هما رجلان من بني إسرائيل، ولكن القرآن يشهد لقول الجماعة، ويدل على عدم صحة قول الحسن، وذلك في قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [5/31]، ولا يخفى على أحد أنه ليس في بني إسرائيل رجل يجهل الدفن حتى يدله عليه الغراب، فقصة الاقتداء بالغراب في الدفن، ومعرفته منه تدل على أن الواقعة وقعت في أول الأمر قبل أن
(1/371)
يتمرن الناس على دفن الموتى، كما هو واضح، ونبه عليه غير واحد من العلماء، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} الآية, صرح في هذه الآية الكريمة أنه كتب على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ولم يتعرض هنا لحكم من قتل نفساً بنفس، أو بفساد في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر، فبين أن قتل النفس بالنفس جائز، في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} الآية [5/45]، وفي قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [2/178]، وقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} الآية [17/33].
واعلم أن آيات القصاص في النفس فيها إجمال بينته السنة، وحاصل تحرير المقام فيها أن الذكر الحر المسلم يقتل بالذكر الحر المسلم إجماعاً، وأن المرأة كذلك تقتل بالمرأة كذلك إجماعاً، وأن العبد يقتل كذلك بالعبد إجماعاً، وإنما لم نعتبر قول عطاء باشتراط تساوي قيمة العبدين، وهو رواية عن أحمد، ولا قول ابن عباس: ليس بين العبيد قصاص، لأنهم أموال.
لأن ذلك كله يرده صريح قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية، وأن المرأة تقتل بالرجل، لأنها إذا قتلت بالمرأة، فقتلها بالرجل أولى، وأن الرجل يقتل بالمرأة عند جمهور العلماء فيهما.
وروي عن جماعة منهم علي، والحسن، وعثمان البتي، وأحمد في رواية عنه أنه لا يقتل بها حتى يلتزم أولياؤها قدر ما تزيد به ديته على ديتها. فإن لم يلتزموه أخذوا ديتها.
وروي عن علي والحسن أنها إن قتلت رجلاً قتلت به، وأخذ أولياؤه أيضاً زيادة ديته على ديتها، أو أخذوا دية المقتول واستحيوها.
قال القرطبي بعد أن ذكر هذا الكلام عن علي رضي الله عنه، والحسن البصري، وقد أنكر ذلك عنهم أيضاً: روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح لأن الشعبي لم يلق علياً.
وقد روى الحكم عن علي، وعبد الله أنهما قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمداً
(1/372)
فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وقال ابن حجر في "فتح الباري" في باب سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود بعد أن ذكر القول المذكور عن علي والحسن: ولا يثبت عن علي، ولكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة ويدل على بطلان هذا القول أنه ذكر فيه أن أولياء الرجل إذا قتلته امرأة يجمع لهم بين القصاص نصف الدية، وهذا قول يدل الكتاب والسنة على بطلانه، وأنه إما القصاص فقط، وإما الدية فقط، لأنه تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، فرتب الاتباع بالدية على العفو دون القصاص.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين" الحديث، وهو صريح في عدم الجمع بينهما، كما هو واضح عند عامة العلماء. وحكي عن أحمد في رواية عنه، وعثمان البتي، وعطاء أن الرجل لا يقتل بالمرأة، بل تجب الدية، قاله ابن كثير، وروي عن الليث والزهري أنها إن كانت زوجته لم يقتل بها، وإن كانت غير زوجته قتل بها.
والتحقيق قتله بها مطلقاً. كما سترى أدلته، فمن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة إجماع العلماء على أن الصحيح السليم الأعضاء إذا قتل أعور أو أشل، أو نحو ذلك عمداً وجب عليه القصاص، ولا يجب لأوليائه شيء في مقابلة ما زاد به من الأعضاء السليمة على المقتول.
ومن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بالحجارة قصاصاً بجارية فعل بها كذلك، وهذا الحديث استدل به العلماء على قتل الذكر بالأنثى، وعلى وجوب القصاص في القتل بغير المحدد، والسلاح.
وقال البيهقي في "السنن الكبرى"، في باب "قتل الرجل بالمرأة": أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي، ثنا الحكم بن موسى القنطري، ثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض، والسنن، والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، وكان فيه، وإن الرجل يقتل بالمرأة.
(1/373)
وروي هذا الحديث موصولاً أيضاً النسائي، وابن حبان، والحاكم، وفي تفسير ابن كثير ما نصه: وفي الحديث الذي رواه النسائي، وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه عمرو بن حزم أن الرجل يقتل بالمرأة، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لعمرو بن حزم الذي فيه أن الرجل يقتل بالمرأة، رواه مالك، والشافعي، ورواه أيضاً الدارقطني، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم، والدارمي وكلام علماء الحديث في كتاب عمرو بن حزم هذا مشهور بين مصحح له، ومضعف وممن صححه ابن حبان، والحاكم والبيهقي، وعن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحاً. وصححه أيضاً من حيث الشهرة لا من حيث الإسناد، جماعة منهم الشافعي فإنه قال: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عبد البر: هو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الإسناد. لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول، قال: ويدل على شهرته ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث بن سعيد، عن يحيى بن سعد عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم.
وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب، ثم ساق ذلك بسنده إليهما وضعف كتاب ابن حزم هذا جماعة، وانتصر لتضعيفه أبو محمد بن حزم في محلاه.
والتحقيق: صحة الاحتجاج به، لأنه ثبت أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتبه ليبين به أحكام الديات، والزكوات وغيرها، ونسخته معروفة في كتب الفقه.
والحديث: ولاسيما عند من يحتج بالمرسل كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في أشهر الروايات.
ومن أدلة قتله بها عموم حديث: "المسلمون تتكافؤ دماؤهم" الحديث، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله، ومن أوضح الأدلة في قتل الرجل بالمرأة قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [5/45]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم
(1/374)
يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس" الحديث، أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فعموم هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث الصحيح يقتضي قتل الرجل بالمرأة، لأنه نفس بنفس، ولا يخرج عن هذا العموم، إلا ما أخرجه دليل صالح لتخصيص النصر به. نعم يتوجه على هذا الاستدلال سؤالان:
الأول: ما وجه الاستدلال بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، مع أنه حكاية عن قوم موسى، والله تعالى يقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [5/48].
السؤال الثاني: لم لا يخصص عموم قتل النفس بالنفس في الآية والحديث المذكورين بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [2/178]؛ لأن هذه الآية أخص من تلك، لأنها فصلت ما أجمل في الأولى، ولأن هذه الأمة مخاطبة بها صريحاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الآية.
الجواب عن السؤال الأول: أن التحقيق الذي عليه الجمهور، ودلت عليه نصوص الشرع، أن كل ما ذكر لنا في كتابنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، مما كان شرعاً لمن قبلنا أنه يكون شرعاً لنا، من حيث إنه وارد في كتابنا، أو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لا من حيث إنه كان شرعاً لمن قبلنا، لأنه ما قص علينا في شرعنا إلا لنعتبر به، ونعمل بما تضمن.
والنصوص الدالة على هذا كثيرة جداً، ولأجل هذا أمر الله في القرآن العظيم في غير ما آية بالاعتبار بأحوالهم، ووبخ من لم يعقل ذلك، كما في قوله تعالى في قوم لوط: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ, وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [37/138،137].
في قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} ، توبيخ لمن مر بديارهم، ولم يعتبر بما وقع لهم، ويعقل ذلك ليجتنب الوقوع في مثله، وكقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، ثم هدد الكفار بمثل ذلك، فقال: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [47/10].
(1/375)
وقال في حجارة قوم لوط التي أهلكوا بها، أو ديارهم التي أهلكوا فيها: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [11/83]، وهو تهديد عظيم منه تعالى لمن لم يعتبر بحالهم، فيجتنب ارتكاب ما هلكوا بسببه، وأمثال ذلك كثير في القرآن.
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [12/111] فصرح بأنه يقص قصصهم في القرآن للعبرة، وهو دليل واضح لما ذكرنا، ولما ذكر الله تعالى من ذكر من الأنبياء في سورة الأنعام، قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [6/90]، وأمره صلى الله عليه وسلم أمر لنا، لأنه قدوتنا، ولأن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية [33/21]، ويقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية [3/31]، ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [59/7].
ويقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} الآية [4/80]، ومن طاعته اتباعه فيما أمر به كله، إلا ما قام فيه دليل على الخصوص به صلى الله عليه وسلم، وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرعاً لنا، إلا بدليل على النسخ هو مذهب الجمهور، منهم مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أشهر الروايتين، وخالف الإمام الشافعي رحمه الله في أصح الروايات عنه، فقال: إن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعاً لنا إلا بنص من شرعنا على أنه مشروع لنا، وخالف أيضاً في الصحيح عنه في أن الخطاب الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم يشمل حكمه الأمة. واستدل للأول بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ، وللثاني: بأن الصيغة الخاصة بالرسول لا تشمل الأمة وضعاً، فإدخالها فيها صرف للفظ عن ظاهره، فيحتاج إلى دليل منفصل، وحمل الهدى في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، والدين في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} الآية [42/13], على خصوص الأصول التي هي التوحيد دون الفروع العملية، لأنه تعالى قال في العقائد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [21/25]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [16/36]، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [43/45].
وقال في الفروع العملية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ، فدل ذلك على اتفاقهم في الأصول، واختلافهم في الفروع، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد" ، أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله
(1/376)
عنه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما خمل الهدى في آية: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، والدين في آية {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} ، على خصوص التوحيد دون الفروع العملية، فهو غير مسلم، أما الأول فلما أخرجه البخاري في صحيحه، في تفسير سورة ص?، عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في ص? فقال: أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [6/84 و90]، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا نص صحيح صريح عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل سجود التلاوة في الهدى في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، ومعلوم أن سجود التلاوة فرع من الفروع لا أصل من الأصول.
وأما الثاني: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في حديث جبريل الصحيح المشهور أن اسم "الدين" يتناول الإسلام، والإيمان، والإحسان، حيث قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" ، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [3/19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً} [3/85].
وصرح صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن الإسلام يشمل الأمور العملية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وفي حديث ابن عمر المتفق عليه، "بني الإسلام على خمس" الحديث، ولم يقل أحد إن الإسلام هو خصوص العقائد، دون الأمور العملية، فدل على أن الدين لا يختص بذلك في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} الآية، وهو ظاهر جداً، لأن خير ما يفسر به القرآن هو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم في نحو قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، فقد دلت النصوص على شمول حكمه للأمة، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية إلى غيرها مما تقدم من الآيات، وقد علمنا ذلك من استقراء القرآن العظيم حيث يعبر فيه دائماً بالصيغة الخاصة به صلى الله عليه وسلم، ثم يشير إلى أن المراد عموم حكم الخطاب للأمة، كقوله في أول سورة الطلاق: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [65/1]، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، فدل على دخول الكل حكماً تحت قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، وقال في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [66/1]، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
(1/377)
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [66/2]، فدل على عموم حكم الخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، ونظير ذلك أيضاً في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [33/1]، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [4/94]، فقوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} ، يدل على عموم الخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، وكقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [10/61]، ثم قال: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} الآية.
ومن أصرح الأدلة في ذلك آية الروم، وآية الأحزاب، أما آية الروم فقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [30/30]، ثم قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [30/31]، وهو حال من ضمير الفاعل المستتر، المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} الآية.
وتقرير المعنى: فأقم وجهك يا نبي الله، في حال كونكم منيبين، فلو لم تدخل الأمة حكماً في الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم لقال: منيباً إليه، بالإفراد، لإجماع أهل اللسان العربي على أن الحال الحقيقية أعني التي لم تكن سببية تلزم مطابقتها لصاحبها إفراداً وجمعاً وثنية، وتأنيثاً وتذكيراً، فلا يجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكين، ولا جاءت هند ضاحكات، وأما آية الأحزاب، فقوله تعالى في قصة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [33/37]، فإن هذا الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد صرح تعالى بشمول حكمته لجميع المؤمنين في قوله: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية، وأشار إلى هذا أيضاً في الأحزاب بقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [33/50]، لأن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية، لو كان حكمه خاصاً به صلى الله عليه وسلم لأغنى ذلك عن قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، كما هو ظاهر.
وقد ردت عائشة رضي الله عنها على من زعم أن تخيير الزوجة طلاق، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه فاخترنه، فلم يعده طلاقاً مع أن الخطاب في ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ} الآيتين [33/28].
وأخذ مالك رحمه الله بينونة الزوجة بالردة من قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [39/65]، وهو خطاب خاص به صلى الله عليه وسلم.
(1/378)
وحاصل تحرير المقام في مسألة "شرع من قبلنا" أن لها واسطة وطرفين، طرف يكون فيه شرعاً لنا إجماعاً، وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، ثم بين لنا في شرعنا أنه شرع لنا، كالقصاص، فإنه ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، وبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وطرف يكون فيه غير شرع لنا إجماعاً وهو أمران:
أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلاً أنه كان شرعاً لمن قبلنا، كالمتلقي من الإسرائيليات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديقهم، وتكذيبهم فيها، وما نهانا صلى الله عليه وسلم عن تصديقه لا يكون مشروعاً لنا إجماعاً.
والثاني: ما ثبت في شرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا كالآصار، والأغلال التي كانت على من قبلنا، لأن الله وضعها هنا، كما قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [7/157]، وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [2/286]، "أن الله قال: نعم قد فعلت" .
ومن تلك الآصار التي وضعها الله عنا، على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم ما وقع لعبدة العجل، حيث لم تقبل توبتهم إلا بتقديم أنفسهم للقتل، كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [2/54].
والواسطة هي محل الخلاف بين العلماء، وهي ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، ولمن يبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا، ولا غير مشروع لنا، وهو الذي قدمنا أن التحقيق كونه شرعاً لنا، وهو مذهب الجمهور، وقد رأيت أدلتهم عليه، وبه تعلم أن آية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، يلزمنا الأخذ بما تضمنته من الأحكام.
مع أن القرآن صرح بذلك في الجملة في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [17/33]، وفي حديث ابن مسعود المتفق عليه المتقدم التصريح بأن ما فيها من قتل النفس بالنفس مشروع لنا،
(1/379)
حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس" ، الحديث.
وإلى هذا أشار البخاري في صحيحه، حيث قال: باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، ثم ذكر حديث ابن مسعود المتقدم، وقال ابن حجر: والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث، ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب، فالحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام فهو أصل في القصاص في قتل العمد، ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" أخرجه الشيخان من حديث أنس، بناء على أن المراد بكتاب الله قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ، في هذه الآية التي نحن بصددها، وعلى بقية الأقوال فلا دليل في الحديث، ولم يزل العلماء يأخذون الأحكام من قصص الأمم الماضية، كما أوضحنا دليله.
فمن ذلك قول المالكية وغيرهم: إن القرينة الجازمة ربما قامت مقام البينة مستدلين على ذلك بجعل شاهد يوسف شق قميصه من دبر قرينة على صدقه، وكذب المرأة، في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ, وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ, فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} الآية [12/28،27،26]، فذكره تعالى لهذا مقرراً له يدل على جواز العمل به، ومن هنا أوجب مالك حد الخمر على من أستنكه فشم في فيه ريح الخمر، لأن ريحها في فيه قرينة على شربه إياها.
وأجاز العلماء للرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها فتزفها إليه ولائد، لا يثبت بقولهن أمر أن يجامعها من غير بينة على عينها أنها فلانة بنت فلان التي وقع عليها العقد اعتماداً على القرينة، وتنزيلاً لها منزلة البينة.
وكذلك الضيف ينزل بساحة قوم فيأتيه الصبي، أو الوليدة بطعام فيباح له أكله من غير بينة تشهد على إذن أهل الطعام له في الأكل، اعتماداً على القرينة.
وأخذا المالكية وغيرهم إبطال القرينة بقرينة أقوى منها من أن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب، جعلوا على قميصه دم سخلة، ليكون الدم على قميصه قرينة على صدقهم في أنه أكله الذئب، فأبطلها يعقوب بقرينة أقوى منها، وهي عدم شق
(1/380)
القميص فقال: سبحان الله متى كان الذئب حليماً كيساً يقتل يوسف، ولا يشق قميصه؟ كما بينه تعالى بقوله: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [12/18]، وأخذ المالكية ضمان الغرم من قوله تعالى في قصة يوسف وإخوته: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [12/72]، وأخذ بعض الشافعية ضمان لوجه المعروف بالكفالة من قوله تعالى في قصة يعقوب وبنيه: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [12/66].
وأخذ المالكية تلوم القاضي للخصوم ثلاثة أيام بعد انقضاء الآجال من قوله تعالى في قصة صالح: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [11/65].
وأخذوا وجوب الإعذار إلى الخصم الذي توجه إليه الحكم بـ "أبقيت لك حجة؟"، ونحو ذلك من قوله تعالى في قصة سليمان مع الهدهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [27/21]، وأخذ الحنابلة جواز طول مدة الإجارة من قوله تعالى في قصة موسى، وصهره شعيب أو غيره: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [28/27]، وأمثال هذا كثيرة جداً، وقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [5/48]، لا يخالف ما ذكرنا، لأن المراد به أن بعض الشرائع تنسخ فيها أحكام كانت مشروعة قبل ذلك، ويجدد فيها تشريع أحكام لم تكن مشروعة قبل ذلك.
وبهذا الاعتبار يكون لكل شرعة منهاج من غير مخالفة لما ذكرنا، وهذا ظاهر، فبهذا يتضح لك الجواب عن السؤال الأول، وتعلم أن ما تضمنته آية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، مشروع لهذه الأمة، وأن الرجل يقتل بالمرأة كالعكس على التحقيق الذي لا شك فيه، وكأن القائل بعدم القصاص بينهما يتشبث بمفهوم قوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [2/178]، وسترى تحقيق المقام فيه إن شاء الله قريباً.
والجواب عن السؤال الثاني -الذي هو لم لا يخصص عموم النفس بالنفس بالتفصيل المذكور في قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ؟ هو
(1/381)
ما تقرر في الأصول من أن مفهوم المخالفة إذا كان محتملاً لمعنى آخر غير مخالفته لحكم المنطوق يمنعه ذلك من الاعتبار.
قال صاحب "جمع الجوامع" في الكلام على مفهوم المخالفة: وشرطه ألا يكون المسكوت ترك لخوف ونحوه، إلى أن قال: أو غيره مما يقتضي التخصيص بالذكر، فإذا علمت ذلك، فاعلم أن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ، يدل على قتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، ولم يتعرض لقتل الأنثى بالذكر، أو العبد بالحر، ولا لعكسه بالمنطوق.
ومفهوم مخالفته هنا غير معتبر. لأن سبب نزول الآية، أن قبيلتين من العرب اقتتلتا، فقالت إحداهما: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان تطاولا منهم عليهم، وزعماً أن العبد منهم بمنزلة الحر من أولئك، وأن أنثاهم أيضاً بمنزلة الرجل من الآخرين تطاولاً عليهم، وإظهاراً لشرفهم عليهم، ذكر معنى هذا القرطبي، عن الشعبي، وقتادة.
وروى ابن أبي حاتم نحوه عن سعيد بن جبير، نقله عنه ابن كثير في تفسيره، والسيوطي في أسباب النزول، وذكر ابن كثير أنها نزلت في قريظة والنضير، لأنهم كان بينهم قتال، وبنو النضير يتطاولون على بني قريظة.
فالجميع متفق على أن سبب نزولها أن قوماً يتطاولون على قوم، ويقولون: إن العبد منا لا يساويه العبد منكم، وإنما يساويه الحر منكم، والمرأة منا لا تساويها المرأة منكم، وإنما يساويها الرجل منكم، فنزل القرآن مبيناً أنهم سواء، وليس المتطاول منهم على صاحبه بأشرف منه، ولهذا لم يعتبر مفهوم المخالفة هنا.
وأما قتل الحر بالعبد، فقد اختلف فيه، وجمهور العلماء على أنه لا يقتل حر بعبد، منهم مالك، وإسحاق، وأبو ثور، والشافعي، وأحمد.
وممن قال بهذا أبو بكر، وعمر، وعلي، وزيد، وابن الزبير رضي الله عنهم وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن، وعكرمة، وعمرو بن دينار، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وغيره.
وقال أبو حنيفة: يقتل الحر بالعبد: وهو مروي عن سعيد بن المسيب، والنخعي، وقتادة، والثوري، واحتج هؤلاء على قتل الحر بالعبد، بقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافؤ
(1/382)
دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" الحديث. أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والحاكم وصححه.
فعموم المؤمنين يدخل فيه العبيد، وكذلك عموم النفس في قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الأية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "والنفس بالنفس" في الحديث المتقدم، واستدلوا أيضاً بما رواه قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه" ، رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حسن غريب، وفي رواية لأبي داود، والنسائي: "ومن خصي عبده خصيناه" ، هذه هي أدلة من قال بقتل الحر بالعبد.
وأجيب عنها من جهة الجمهور بما ستراه الآن إن شاء الله تعالى، أما دخول قتل الحر بالعبد في عموم المؤمنين في حديث: "المؤمنون تتكافؤ دماؤهم" . وعموم النفس بالنفس في الآية. والحديث المذكورين، فاعلم أولاً أن دخول العبيد في عمومات نصوص الكتاب والسنة اختلف فيه علماء الأصول على ثلاثة أقوال:
الأول: وعليه أكثر العلماء: أن العبيد داخلون في عمومات النصوص، لأنهم من جملة المخاطبين بها.
الثاني: وذهب إليه بعض العلماء من المالكية، والشافعية، وغيرهم أنهم لا يدخلون فيها إلا بدليل منفصل، واستدل لهذا القول بكثرة عدم دخولهم، كعدم دخولهم في خطاب الجهاد، والحج، وكقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} الآية [2/228]، فالإماء لا يدخلن فيه.
الثالث: وذهب إليه الرازي من الحنفية أن النص العام إن كان من العبادات، فهم داخلون فيه، وإن كان من المعاملات لم يدخلوا فيه، وأشار في "مراقي السعود" إلى أن دخولهم في الخطاب العام هو الصحيح الذي يقتضيه الدليل بقوله: [الرجز]
والعبد والموجود والذي كفر ... مشمولة له لدى ذوي النظر
وينبني على الخلاف في دخولهم في عمومات النصوص، وجوب صلاة الجمعة على المملوكين، فعلى أنهم داخلون في العموم فهي واجبة عليهم، وعلى أنهم لا يدخلون فيه إلا بدليل منفصل، فهي غير واجبة عليهم، وكذلك إقرار العبد بالعقوبة ببدنه ينبني أيضاً على الخلاف المذكور، قاله صاحب "نشر البنود شرح مراقي السعود" في
(1/383)
شرح البيت المذكور آنفاً، فإذا علمت هذا، فاعلم أنه على القول بعدم دخول العبيد في عموم نصوص الكتاب والسنة، فلا إشكال.
وعلى القول بدخولهم فيه، فالجواب عن عدم إدخالهم في عموم النصوص التي ذكرناها يعلم من أدلة الجمهور الآتية إن شاء الله على عدم قتل الحر بالعبد، وأما حديث سمرة فيجاب عنه من أوجه:
الأول: أن أكثر العلماء بالحديث تركوا رواية الحسن عن سمرة، لأنه لم يسمع منه، وقال قوم: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة، وأثبت علي بن المديني، والبخاري سماعه عنه.
قال البيقهي في "السنن الكبرى" في كتاب "الجنايات" ما نصه: وأكثر أهل العلم بالحديث رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة، وذهب بعضهم إلى أنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة. وقال أيضاً في باب "النهي عن بيع الحيوان بالحيوان": إن أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة.
الثاني: أن الحسن كان يفتي بأن الحر لا يقتل بالعبد، ومخالفته لما روى تدل على ضعفه عنده، قال البيهقي أيضاً ما نصه: قال قتادة: ثم إن الحسن نسي هذا الحديث، قال: لا يقتل حر بعبد، قال الشيخ: يشبه أن يكون الحسن لم ينس الحديث، لكن رغب عنه لضعفه.
الثالث: ما ذكره صاحب "منتقى الأخبار" من أن أكثر العلماء قال بعدم قتل الحر بالعبد، وتأولوا الخبر على أنه أراد من كان عبده، لئلا يتوهم تقدم الملك مانعاً من القصاص.
الرابع: أنه معارض بالأدلة التي تمسك بها الجمهور في عدم قتل الحر بالعبد، وستأتي إن شاء الله تعالى مفصلة، وهي تدل على النهي عن قتل الحر بالعبد، والنهي مقدم على الأمر، كما تقرر في الأصول.
الخامس: ما ادعى ابن العربي دلالته على بطلان هذا القول من قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [17/33]، وولي العبد سيده، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية، ما نصه. قال ابن العربي:
(1/384)
ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه. ورووا في ذلك حديثاً عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه" وهو حديث ضعيف.
ودليلنا قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} ، والولي ها هنا: السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه، وقد اتفق الجميع على أن السيد إذا قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال اهـ.
وتعقب القرطبي تضعيف ابن العربي لحديث الحسن هذا عن سمرة، بأن البخاري، وابن المديني صححا سماعه منه، وقد علمت تضعيف الأكثر لرواية الحسن عن سمرة فيما تقدم. ويدل على ضعفه مخالفة الحسن نفسه له.
السادس: أن الحديث خارج مخرج التحذير، والمبالغة في الزجر.
السابع: ما قيل من أنه منسوخ.
قال الشوكاني: ويؤيد دعوى النسخ فتوى الحسن بخلافه.
الثامن: مفهوم قوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ولكنا قد قدمنا عدم اعتبار هذا المفهوم، كما يدل عليه سبب النزول.
واحتج القائلون بأن الحر لا يقتل بالعبد، وهم الجمهور بأدلة منها ما رواه الدارقطني، بإسناده عن إسماعيل بن عياش، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلاً قتل عبده متعمداً، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة، ومحا اسمه من المسلمين، ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة ورواية إسماعيل بن عياش، عن الشاميين: قوية صحيحة.
ومعلوم أن الأوزاعي شامي دمشقي، قال في "نيل الأوطار": ولكن دونه في إسناد هذا الحديث محمد بن عبد العزيز الشامي، قال فيه ابن أبي حاتم: لم يكن عندهم بالمحمود، وعنده غرائب.
وأسند البيهقي هذا الحديث، فقال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأ علي بن عمر الحافظ، ثنا الحسين بن الحسين الصابوني الأنطاكي، قاضي الثغور، ثنا محمد بن الحكم الرملي، ثنا محمد بن عبد العزيز الرملي، ثنا إسماعيل بن عياش عن
(1/385)
الأوزاعي إلى آخر السند المتقدم بلفظ المتن، ومحمد بن عبد العزيز الرملي من رجال البخاري، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق يهم، فتضعيف هذا الحديث به لا يخلو من نظر.
والظاهر أن تضعيف البيهقي له من جهة إسماعيل بن عياش، وقد عرفت أن الحق كونه قوياً في الشاميين، دون الحجازيين، كما صرح به أئمة الحديث كالإمام أحمد والبخاري، ولحديث عمرو بن شعيب هذا شاهد من حديث علي عند البيهقي وغيره من طريق إسماعيل بن عياش، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قتل عبده متعمداً فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة، ونفاه سنة، ومحا اسمه من المسلمين، ولم يقده به. ولكن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك.
ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ما رواه البيهقي، وغيره عن عمر بن الخطاب، أنه جاءته جارية اتهمها سيدها فأقعدها في النار فاحترق فرجها، فقال رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده" ، لأقدناها منك فبرزه، وضربه مائة سوط، وقال للجارية: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وأنت مولاة الله ورسوله.
قال أبو صالح، وقال الليث: وهذا القول معمول به. وفي إسناد هذا الحديث عمر بن عيسى القرشي الأسدي. ذكر البيهقي عن أبي أحمد أنه سمع ابن حماد يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث.
وقال فيه الشوكاني: هو منكر الحديث، كما قال البخاري: ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد، ما رواه الدارقطني، والبيهقي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل حر بعبد" قال البيهقي بعد أن ساق هذا الحديث: وفي هذا الإسناد ضعف، وإسناده المذكور فيه جويبر، وهو ضعيف جداً.
وقال الشوكاني في إسناد هذا الحديث: فيه جويبر وغيره من المتروكين، ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ما رواه البيهقي وغيره من طريق جابر بن زيد الجعفي، عن علي رضي الله عنه أنه قال: من السنة ألا يقتل حر بعبد تفرد بهذا الحديث جابر المذكور، وقد ضعفه الأكثر، وقال فيه ابن حجر في التقريب: ضعيف
(1/386)
رافضي.
وقال فيه النسائي: متروك، ووثقه قوم منهم الثوري، وذكر البيهقي في السنن الكبرى في باب "النهي عن الإمامة جالساً" عن الدارقطني: أنه متروك.
ومن أدلتهم أيضاً ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان لزنباع عبد يسمى سندرا، أو ابن سندر، فوجده يقبل جارية له فأخذه فجبه، وجدع أذنيه وأنفه، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من مثل بعبده أو حرقه بالنار فهو حر، وهو مولى الله ورسوله" فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقده منه، فقال: يا رسول الله أوص بي، فقال: "أوصي بك كل مسلم" .
قال البيهقي بعد أن ساق هذا الحديث: المثنى بن الصباح ضعيف لا يحتج به، وقد روي عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو مختصراً، ولا يحتج به، وقد قدمنا في آية التيمم تضعيف حجاج بن أرطاة.
وروي عن سوار بن أبي حمزة، وليس بالقوي، والله أعلم، هكذا قال البيهقي.
قال مقيده عفا الله عنه: سوار بن أبي حمزة من رجال مسلم، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق له أوهام، ومن أدلتهم أيضاً ما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل مستصرخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: حادثة له يا رسول الله، فقال: "ويحك ما لك" ؟ فقال: شر، أبصر لسيده جارية فغار فجب مذاكيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل" ، فطلب فلم يقدر عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأنت حر" ، فقال: يا رسول الله على من نصرتي؟ قال: "على كل مؤمن" ، أو قال: "على كل مسلم" ، ومن أدلتهم، ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن أبي جعفر عن بكير أنه قال: مضت السنة بألا يقتل الحر المسلم بالعبد، وإن قتله عمداً، وعليه العقل.
ومن أدلتهم أيضاً ما أخرجه البيهقي أيضاً عن الحسن، وعطاء، والزهري وغيرهم من قولهم: "إنه لا يقتل حر بعبد" وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد وهذه الروايات الكثيرة، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال، فإن بعضها يشد بعضاً،
(1/387)
ويقويه حتى يصلح المجموع للاحتجاج.
قال الشوكاني في "نيل الأوطار" ما نصه: وثانياً بالأحاديث القاضية، بأنه لا يقتل حر بعبد، فإنها قد رويت من طرق متعددة يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج.
قال مقيده عفا الله عنه: وتعتضد هذه الأدلة على ألا يقتل حر بعبد بإطباقهم على عدم القصاص للعبد من الحر فيما دون النفس، فإذا لم يقتص له منه في الأطراف، فعدم القصاص في النفس من باب أولى ولم يخالف في أنه لا قصاص للعبد من الحر فيما دون النفس إلا داود، وابن أبي ليلى، وتعتضد أيضاً بإطباق الحجة من العلماء على أنه إن قتل خطأ ففيه القيمة، لا الدية.
وقيده جماعة بما إذا لم تزد قيمته عن دية الحر، وتعتضد أيضاً بأن شبه العبد بالمال أقوى من شبهه بالحر، من حيث إنه يجري فيه ما يجري في المال من بيع وشراء، وإرث وهدية، وصدقه إلى غير ذلك من أنواع التصرف، وبأنه لو قذفه حر ما وجب عليه الحد عند عامة العلماء، إلا ما روي عن ابن عمر والحسن، وأهل الظاهر من وجوبه في قذف أم الولد خاصة.
ويدل على عدم حد الحر بقذفه العبد ما رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "من قذف مملوكه -وهو بريء مما يقول- جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال" ، وهو يدل على عدم جلده في الدنيا، كما هو ظاهر.
هذا ملخص كلام العلماء في حكم قتل الحر بالعبد.
وأما قتل المسلم بالكافر فجمهور العلماء على منعه، منهم مالك، والشافعي، وأحمد، وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، ومعاوية رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وعطاء، وعكرمة، والحسن، والزهري، وابن شبرمة، والثوري والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وغيره، ورواه البيهقي عن عمر، وعلي، وعثمان وغيرهم.
وذهب أبو حنيفة، والنخعي، والشعبي إلى أن المسلم يقتل بالذمي، واستدلوا بعموم النفس بالنفس في الآية والحديث المتقدمين، وبالحديث الذي رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد،
(1/388)
وهو مرسل من رواية ضعيف، فابن البيلماني لا يحتج به لو وصل، فكيف وقد أرسل، وترجم البيهقي في "السنن الكبرى" لهذا الحديث بقوله باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر، وما جاء عن الصحابة في ذلك، وذكر طرقه، وبين ضعفها كلها.
ومن جملة ما قال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، قال: قال أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ ابن البيلماني: ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله، والله أعلم.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية، ما نصه، ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلماً بكافر لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني، وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، قال الدارقطني: لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث.
والصواب عن ربيعة، عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف الحديث، لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله فإذا عرفت ضعف الاستدلال على قتل المسلم بالكافر، فاعلم أن كونه لا يقتل به ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه مبيناً بطلان تلك الأدلة التي لا يعول عليها.
فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب "كتابة العلم"، وفي باب "لا يقتل المسلم بالكافر" أن أبا جحيفة سأل علياً رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه، وما في هذه الصحيفة قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر.
فهذا نص صحيح قاطع للنزاع مخصص لعموم النفس بالنفس، مبين عدم صحة الأخبار المروية بخلافه، ولم يصح في الباب شيء يخالفه، قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ساق حديث علي هذا: ولا يصح حديث، ولا تأويل يخالف هذا، وقال القرطبي في تفسيره: قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية، وعموم قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [5/45]، فهذا الذي ذكرنا في هذا المبحث هو تحقيق المقام في حكم
(1/389)
القصاص في الأنفس بين الذكور والإناث، والأحرار والعبيد، والمسلمين والكفار.
وأما حكم القصاص بينهم في الأطراف، فجمهور العلماء على أنه تابع للقصاص في الأنفس، فكل شخصين يجري بينهما القصاص في النفس، فإنه يجري بينهما في الأطراف، فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم، والعبد بالعبد، والذمي بالذمي، والذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر، ويقطع الناقص بالكامل، كالعبد بالحر، والكافر بالمسلم.
ومشهور مذهب مالك أن الناقص لا يقتص منه للكامل في الجراح، فلا يقتص من عبد جرح حراً، ولا من كافر جرح مسلماً، وهو مراد خليل بن إسحاق المالكي بقوله في مختصره: والجرح كالنفس في الفعل، والفاعل والمفعول، إلا ناقصاً جرح كاملاً، يعني فلا يقتص منه له، ورواية ابن القصار عن مالك وجوب القصاص وفاقاً للأكثر، ومن لا يقتل بقتله، لا يقطع طرفه بطرفه، فلا يقطع مسلم بكافر، ولا حر بعبد، وممن قال بهذا مالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، وأبو ثور، وإسحاق، وابن المنذر، كما نقله عنهم صاحب المغني، وغيره.
وقال أبو حنيفة: لا قصاص في الأطراف بين مختلفي البدل، فلا يقطع الكامل بالناقص، ولا الناقص بالكامل، ولا الرجل بالمرأة، ولا المرأة بالرجل، ولا الحر بالعبد، ولا العبد بالحر.
ويقطع المسلم بالكافر، والكافر بالمسلم. لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، ولا الكاملة بالناقصة، فكذلك لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة، ولا يؤخذ طرفها بطرفه، كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى.
وأجيب من قبل الجمهور، بأن من يجري بينهما القصاص في النفس، يجرى في الطرف بينهما، كالحرين، وما ذكره المخالف يبطل بالقصاص في النفس، فإن التكافؤ فيه معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن، ثم يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة، لأن المماثلة قد وجدت، ومعها زيادة، فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق، كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع.
وأما اليسار واليمين، فيجريان مجرى النفس لاختلاف محليهما، ولهذا استوى بدلهما، فعلم أنها ليست ناقصة عنها شرعاً، وأن العلة فيهما ليست، كما ذكر المخالف، قاله ابن قدامة في المغني.
(1/390)
ومن الدليل على جريان القصاص في الأطراف، بين من جرى بينهم في الأنفس، قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [5/45].
وما روي عن الإمام أحمد من أنه لا قصاص بين العبيد، فيما دون النفس، وهو قول الشعبي، والثوري، والنخعي، وفاقاً لأبي حنيفة، معللين بأن أطراف العبيد مال كالبهائم يرد عليه بدليل الجمهور الذي ذكرنا آنفاً، وبأن أنفس العبيد مال أيضاً كالبهائم، مع تصريح الله تعالى بالقصاص فيها في قوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} .
واعلم أنه يشترط للقصاص فيما دون النفس ثلاثة شروط:
الأول: كونه عمداً، وهذا يشترط في قتل النفس بالنفس أيضاً.
الثاني: كونهما يجري بينهما القصاص في النفس.
الثالث: إمكان الاستيفاء من غير حيف، ولا زيادة، لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [16/126]، ويقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [2/194]، فإن لم يمكن استيفاؤه من غير زيادة سقط القصاص، ووجبت الدية، ولأجل هذا أجمع العلماء على أن ما يمكن استيفاؤه من غير حيف، ولا زيادة، فيه القصاص المذكور في الآية، في قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ، وكالجراح التي تكون في مفصل، كقطع اليد، والرجل من مفصليهما.
واختلفوا في قطع العضو من غير مفصل، بل من نفس العظم، فمنهم من أوجب فيه القصاص نظراً إلى أنه يمكن من غير زيادة، وممن قال بهذا مالك، فأوجب القصاص في قطع العظم من غير المفصل، إلا فيما يخشى منه الموت، كقطع الفخذ، ونحوها.
وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقاً، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وبه يقول عطاء، والشعبي، والحسن البصري، والزهري، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب سفيان الثوري، والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد، كما نقله عنهم ابن كثير، وغيره.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام، إلا في السن.
(1/391)
واستدل من قال بأنه لا قصاص في قطع العظم من غير المفصل، بما رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش، عن دهثم بن قران، عن نمران بن جارية، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي، أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر له بالدية. فقال: يا رسول الله أريد القصاص، فقال: "خذ الدية بارك الله لك فيها" ولم يقض له بالقصاص.
قال ابن عبد البر: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد، ودهثم بن قران العكلي ضعيف أعرابي ليس حديثه مما يحتج به، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضاً، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة، اهـ. من ابن كثير.
وقال ابن حجر في "التقريب" في دهثم المذكور: متروك، وفي نمران المذكور: مجهول، واختلاف العلماء في ذلك، إنما هو من اختلافهم في تحقيق مناط المسألة، فالذين يقولون بالقصاص: يقولون: إنه يمكن من غير حيف، والذين يقولون: بعدمه، يقولون: لا يمكن إلا بزيادة، أو نقص، وهم الأكثر.
ومن هنا منع العلماء القصاص، فيما يظن به الموت، كما بعد الموضحة من منقلة أطارت بعض عظام الرأس، أو مأمومة وصلت إلى أم الدماغ، أو دامغة خرقت خريطته، كالجائفة، وهي التي نفذت إلى الجوف، ونحو ذلك للخوف من الهلاك.
وأنكر الناس على ابن الزبير القصاص في المأمومة. وقالوا: ما سمعنا بأحد قاله قبله، واعلم أن العين الصحيحة لا تؤخذ بالعوراء، واليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، ونحو ذلك، كما هو ظاهر.
تنبيه:
إذا اقتص المجني عليه من الجاني، فيما دون النفس، فمات من القصاص، فلا شيء على الذي اقتص منه، عند مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة، والتابعين، وغيرهم.
وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص، وقال الشعبي، وعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، والحارث العكلي، وابن أبي ليلى، وحماد بن أبي سليمان، والزهري، والثوري، تجب الدية على عاقلة المقتص له.
(1/392)
وقال ابن مسعود، وإبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، وعثمان البتي، يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله، قاله ابن كثير.
والحق أن سراية القود غير مضمونة، لأن من قتله القود، قتله الحق، كما روي عن أبي بكر، وعمر، وغيرها، بخلاف سراية الجناية، فهي مضمونة، والفرق بينهما ظاهر جداً.
واعلم أنه لا تؤخذ عين، ولا أذن، ولا يد يسرى بيمنى، ولا عكس ذلك، لوجوب اتحاد المحل في القصاص، وحكي عن ابن سيرين، وشريك أنهما قالا بأن إحداهما تؤخذ بالأخرى، والأول قول أكثر أهل العلم.
واعلم أنه يجب تأخير القصاص في الجراح حتى تندمل جراحة المجني عليه، فإن اقتص منه قبل الاندمال، ثم زاد جرحه، فلا شيء له.
والدليل على ذلك، ما رواه الإمام أحمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقدني، فقال: "حتى تبرأ" ، ثم جاء إليه، فقال: أقدني، فأقاده، فقال: يا رسول الله عرجت، فقال: "قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك" ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح قبل أن يبرأ صاحبه، تفرد به أحمد، قاله ابن كثير.
وقال بعض العلماء بجواز تعجيل القصاص قبل البرء، وقد عرفت من حديث عمرو بن شعيب المذكور آنفاً، أن سراية الجناية بعد القصاص هدر، وقال أبو حنيفة، والشافعي: ليست هدراً، بل هي مضمونة، والحديث حجة عليهما، رحمهما الله تعالى، ووجهه ظاهر، لأنه استعجل ما لم يكن له استعجاله، فأبطل الشارع حقه.
وإذا عرفت مما ذكرنا تفصيل مفهوم قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية. فاعلم أن مفهوم قوله: {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} [5/32]، هو المذكور في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [5/33].
قال ابن كثير في تفسيره: المحاربة هي المخالفة والمضادة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض، يطلق على أنواع
(1/393)
من الشر، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [2/205].
فإذا علمت ذلك، فاعلم أن المحارب الذي يقطع الطريق، ويخيف السبيل، ذكر الله أن جزاءه واحدة من أربع خلال هي: أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، وظاهر هذه الآية الكريمة: أن الإمام مخير فيها، يفعل ما شاء منها بالمحارب، كما هو مدلول، أو لأنها تدل على التخيير.
ونظيره في القرآن قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [2/196]، وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [5/89]، وقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [5/95].
وكون الإمام مخيراً بينهما مطلقاً من غير تفصيل، هو مذهب مالك، وبه قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، كما نقله عنهم ابن جرير، وغيره، وهو رواية ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، ونقله القرطبي، عن أبي ثور، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، ومالك، وقال: وهو مروي عن ابن عباس.
ورجح المالكية هذا القول بأن اللفظ فيه مستقل غير محتاج إلى تقدير محذوف، لأن اللفظ إذا دار بين الاستقلال، والافتقار إلى تقدير محذوف، فالاستقلال مقدم، لأنه هو الأصل، إلا بدليل منفصل على لزوم تقدير المحذوف، وإلى هذا أشار في "مراقي السعود" بقوله:[الرجز]
كذاك ما قابل ذا اعتلال ... من التأصل والاستقلال
إلى قوله: [الرجز]
كذاك ترتيب لإيجاب العمل ... بما له الرجحان مما يحتمل
والرواية المشهورة عن ابن عباس، أن هذه الآية منزلة على أحوال، وفيها قيود مقدرة، وإيضاحه: أن المعنى أن يقتلوا إذا قتلوا، ولم يأخذوا المال، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا أحداً،
(1/394)
أو ينفوا من الأرض، إذا أخافوا السبيل، ولم يقتلوا أحداً، ولم يأخذوا مالاً، وبهذا قال الشافعي، وأحمد، وأبو مجلز، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والحسن، وقتادة، والسدي، وعطاء الخرساني، وغير واحد من السلف والأئمة.
قاله ابن كثير، ونقله القرطبي، وابن جرير، عن ابن عباس، وأبي مجلز، وعطاء الخراساني، وغيرهم.
ونقل القرطبي، عن أبي حنيفة، إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل، فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه، ولا يخفى أن الظاهر المتبادر من الآية، هو القول الأول. لأن الزيادة على ظاهر القرآن بقيود تحتاج إلى نص من كتاب، أو سنة، وتفسير الصحابي لهذا بذلك، ليس له حكم الرفع، لإمكان أن يكون عن اجتهاد منه، ولا نعلم أحداً روى في تفسير هذه الآية بالقيود المذكورة، خبراً مرفوعاً، إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره عن أنس:
حدثنا علي بن سهل قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين إلى أن قال. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال: "من سرق، وأخاف السبيل، فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل، واستحل الفرج الحرام، فاصلبه" ، وهذا الحديث لو كان ثابتاً لكان قاطعاً للنزاع، ولكن فيه ابن لهيعة، ومعلوم أنه خلط بعد احتراق كتبه، ولا يحتج به، وهذا الحديث ليس راويه عنه ابن المبارك، ولا ابن وهب. لأن روايتهما عنه أعدل من رواية غيرهما، وابن جرير نفسه يرى عدم صحة هذا الحديث الذي ساقه، لأنه قال في سوقه للحديث المذكور: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا به علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، إلى آخر الإسناد الذي قدمنا آنفاً، وذكرنا معه محل الغرض من المتن، ولكن هذا الحديث، وإن كان ضعيفاً، فإنه يقوي هذا القول الذي عليه أكثر أهل العلم، ونسبه ابن كثير للجمهور.
واعلم أن الصلب المذكور في قوله: {أَوْ يُصَلَّبُوا} ، اختلف فيه العلماء. فقيل: يصلب حياً، ويمنع من الشراب، والطعام، حتى يموت، وقيل: يصلب حياً، ثم يقتل برمح،
(1/395)
ونحوه، مصلوباً، وقيل: يقتل أولاً، ثم يصلب بعد القتل، وقيل: ينزل بعد ثلاثة أيام، وقيل: يترك حتى يسيل صديده، والظاهر أنه يصلب بعد القتل زمناً يحصل فيه اشتهار ذلك. لأن صلبه ردع لغيره.
وكذلك قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ، اختلف العلماء في المراد بالنفي فيه أيضاً، فقال بعضهم: معناه أن يطلبوا حتى يقدر عليهم، فيقام عليهم الحد، أو يهربوا من دار الإسلام، وهذا القول رواه ابن جرير، عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس.
وقال آخرون: هو أن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر، أو يخرجهم السلطان، أو نائبه، من عمالته بالكلية، وقال عطاء الخراساني، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان، إنهم ينفون، ولا يخرجون من أرض الإسلام.
وذهب جماعة إلى أن المراد بالنفي في الآية السجن، لأنه نفي من سعة الدنيا إلى ضيق السجن، فصار المسجون كأنه منفي من الأرض، إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض المسجونين في ذلك: [الطويل]
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ولا يخفى عدم ظهوره.
واختار ابن جرير، أن المراد بالنفي في هذه الآية، أن يخرج من بلده إلى بلد آخر، فيسجن فيه، وروي نحوه عن مالك أيضاً، وله اتجاه. لأن التغريب عن الأوطان نوع من العقوبة، كما يفعل بالزاني البكر، وهذا أقرب الأقوال، لظاهر الآية. لأنه من المعلوم إنه لا يراد نفيهم من جميع الأرض إلى السماء، فعلم أن المراد بالأرض أوطانهم التي تشق عليهم مفارقتها، والله تعالى أعلم.
مسائل من أحكام المحاربين:
المسألة الأولى: اعلم أن جمهور العلماء يثبتون حكم المحاربة في الأمصار
(1/396)
والطرق على السواء، لعموم قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} ، وممن قال بهذا الأوزاعي، والليث بن سعد، وهو مذهب الشافعي، ومالك، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه، حتى يدخله بيتاً، فيقتله ويأخذ ما معه، إن هذه محاربة، ودمه إلى السلطان، لا إلى ولي المقتول، فلا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل.
وقال القاضي ابن العربي المالكي: كنت أيام حكمي بين الناس، إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار، وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، وتوقف الإمام أحمد في ذلك، وظاهر كلام الخرقي أنه لا محاربة إلا في الطرق، فلا يكون محارباً في المصر. لأنه يلحقه الغوث.
وذهب كثير من الحنابلة إلى أنه يكون محارباً في المصر أيضاً، لعموم الدليل.
وقال أبو حنيفة: وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرق، وأما في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه، ويعينه.
قاله ابن كثير ولا يثبت لهم حكم المحاربة، إلا إذا كان عندهم سلاح.
ومن جملة السلاح: العصي، والحجارة عند الأكثر. لأنها تتلف بها الأنفس والأطراف كالسلاح، خلافاً لأبي حنيفة.
المسألة الثانية: إذا كان المال الذي أتلفه المحارب، أقل من نصاب السرقة الذي يجب فيه القطع، أو كانت النفس التي قتلها غير مكافئة له، كأن يقتل عبداً، أو كافراً، وهو حر مسلم، فهل يقطع في أقل من النصاب؟ ويقتل بغير الكفؤ أو لا؟
اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: لا يقطع إلا إذا أخذ ربع دينار، وبهذا قال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وقال مالك: يقطع ولو لم يأخذ نصاباً: لأنه يحكم عليه بحكم المحارب.
قال ابن العربي: وهو الصحيح. لأن الله تعالى، حدد على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ربع دينار سث لوجوب القطع في السرقة، ولم يحدد في قطع الحرابة شيئاً، ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية جزائهم على المحاربة عن حبة، ثم إن هذا قياس أصل على أصل،
(1/397)
وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى، وذلك عكس القياس، وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق، وهو يطلب خطف المال؟ فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال، فإن منع منه، أو صيح عليه حارب عليه، فهو محارب يحكم عليه بحكم المحاربين، اهـ كلام ابن العربي.
ويشهد لهذا القول، عدم اشتراط الإخراج من حرز فيما يأخذه المحارب في قطعه، وأما قتل المحارب بغير الكفؤ، فهو قول أكثر العلماء، وعن الشافعي، وأحمد فيه روايتان، والتحقيق عدم اشتراط المكافأة في قتل الحرابة. لأن القتل فيها ليس على مجرد القتل، وإنما هو على الفساد العام من إخافة السبيل، وسلب المال.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} ، فأمر بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع بين شيئين، وهما المحاربة، والسعي في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفاً من وضيع، ولا رفيعاً من دنيء، اهـ من القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: ومما يدل على عدم اعتبار المكافأة في قتل الحرابة، إجماع العلماء على أن عفو ولي المقتول في الحرابة لغو لا أثر له، وعلى الحاكم قتل المحارب القاتل، فهو دليل على أنها ليست مسألة قصاص خالص، بل هناك تغليظ زائد من جهة المحاربة.
المسألة الثالثة: إذا حمل المحاربون على قافلة مثلاً، فقتل بعضهم بعض القافلة، وبعض المحاربين لم يباشر قتل أحد، فهل يقتل الجميع، أو لا يقتل إلا من باشر القتل، فيه خلاف، والتحقيق قتل الجميع، لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة، فلا يتمكن المباشر من فعله، إلا بقوة الآخر الذي هو ردء له ومعين على حرابته، ولو قتل بعضهم، وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم كلهم، وصلبهم كلهم. لأنهم شركاء في كل ذلك، وخالف في هذا الشافعي رحمه الله فقال: لا يجب الحد إلا على من ارتكب المعصية، ولا يتعلق بمن أعانه عليها كسائر الحدود، وإنما عليه التعزير.
المسألة الرابعة: إذا كان في المحاربين صبي، أو مجنون، أو أب المقطوع عليه،
(1/398)
فهل يسقط الحد عن كلهم؟ ويصير القتل للأولياء إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا نظراً إلى أن حكم الجميع واحد، فالشبهة في فعل واحد شبهة في الجميع، وهو قول أبي حنيفة، أو لا يسقط الحد عن غير المذكور من صبي، أو مجنون، أو أب، وهو قول أكثر العلماء، وهو الظاهر.
المسألة الخامسة: إذا تاب المحاربون بعد القدرة عليهم، فتوبتهم حينئذ لا تغير شيئاً من إقامة الحدود المذكورة عليهم، وأما إن جاءوا تائبين قبل القدرة عليهم، فليس للإمام عليهم حينئذ سبيل. لأنهم تسقط عنهم حدود الله، وتبقى عليهم حقوق الآدميين، فيقتص منهم في الأنفس والجراح، ويلزمهم غرم ما أتلفوه من الأموال، ولولي الدم حينئذ العفو إن شاء، ولصاحب المال إسقاطه عنهم.
وهذا قول أكثر العلماء مع الإجماع على سقوط حدود الله عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم، كما هو صريح قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية [5/34]، وإنما لزم أخذ ما بأيديهم من الأموال، وتضمينهم ما استهلكوا. لأن ذلك غصب، فلا يجوز لهم تملكه، وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب المحارب الذي جاء تائباً قبل القدرة عليه إلا بما وجد معه من المال، وأما ما استهلكه، فلا يطلب به، وذكر الطبري هذا عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه.
قال القرطبي: وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بحارثة بن بدر الغداني، فإنه كان محارباً، ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً، ونحوه ذكره ابن جرير.
قال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد، ولم يوجد له مال، هل يتبع ديناً بما أخذ، أو يسقط عنه، كما يسقط عن السارق؟ يعني عند مالك، والمسلم، والذمي في ذلك سواء ومعنى قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [5/32]، اختلف فيه العلماء، فروي عن ابن عباس أنه قال: معناها أن من قتل نبياً، أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياه، بأن شد عضده ونصره، فكأنما أحيا الناس جميعاً، نقله القرطبي، وابن جرير وغيرهما، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن.
(1/399)
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: المعنى، أن من انتهك حرمة نفس واحدة بقتلها، فهو كمن قتل الناس جميعاً. لأن انتهاك حرمة الأنفس، سواء في الحرمة والإثم، ومن ترك قتل نفس واحدة واستحياها خوفاً من الله، فهو كمن أحيا الناس جميعاً، لاستواء الأنفس في ذلك.
وعن ابن عباس: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} ، أي عند المقتول إذ لا غرض له في حياة أحد بعد موته هو، ومن أحياها واستنقذها من هلكه، فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ، وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله: جزاءه جهنم، وغضب عليه ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً، ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه.
واختار هذا القول ابن جرير، وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفساً يلزمه من القصاص ما يلزم من قتل الناس جميعاً، قال: ومن أحياها، أي عفا عمن وجب له قتله، وقال الحسن أيضاً: هو العفو بعد المقدرة، وقيل: المعنى أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها وجب على الكل شكره، وقيل: كان هذا مختصاً ببني إسرائيل، وقيل: المعنى أن من استحل قتل واحد، فقد استحل الجميع، لأنه أنكر الشرع، ومن حرم دم مسلم، فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، ذكر هذه الأقوال القرطبي، وابن كثير، وابن جرير وغيرهم، واستظهر ابن كثير هذا القول الأخير، وعزاه لسعيد بن جبير.
وقال البخاري في "صحيحه" باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} ، قال ابن عباس: من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعاً.
وقال القرطبي: إحياؤه عبارة عن الترك، والإنقاذ من هلكة، وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع، إنما هو لله تعالى، وهذا الإحياء، كقول نمروذ لعنه الله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [2/258]، فسمى الترك إحياء.
وكذلك قال ابن جرير، قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية، اعلم أن هذه الآية اختلف في سبب نزولها، فقيل: نزلت في قوم من المشركين، وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب، وقيل: نزلت في الحرورية.
(1/400)
وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح، وغيرها، أنها نزلت في قوم "عرينة"، و "عكل"، الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا وسمنوا، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا اللقاح، فبلغه صلى الله عليه وسلم خبرهم، فأرسل في أثرهم سرية فجاءوا بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون، فلا يسقون حتى ماتوا.
وعلى هذا القول، فهي نازلة في قوم سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها، والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطاع الطريق من المسلمين، كما قاله جماعة من الفقهاء بدليل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية، فإنها ليست في الكافرين قطعاً. لأن الكافر تقبل توبته بعد القدرة عليه، كما تقبل قبلها إجماعاً لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [8/38]، وليست في المرتدين، لأن المرتد يقتل بردته وكفره، ولا يقطع لقوله صلى الله عليه وسلم عاطفاً على ما يوجب القتل: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" ، وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" ، فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين، فإن قيل: وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله؟ فالجواب: نعم.
والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ, فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [2/279،278].
تنبيه:
استشكل بعض العلماء تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، لأنه سمل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به.
واختلف في الجواب فقيل فيه ما حكاه الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم، وقال محمد بن سيرين: كان ذلك قبل نزول الحدود، وقال أبو الزناد: إن هذه الآية معاتبة له صلى الله عليه وسلم على ما فعل بهم، وبعد العتاب على ذلك لم يعد، قاله أبو داود.
والتحقيق في الجواب هو أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قصاصاً، وقد ثبت في صحيح
(1/401)
مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم قصاصاً، لأنهم سملوا أعين رعاة اللقاح، وعقده البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله:[الرجز]
وبعدها أنتهبها الألى انتهوا ... لغاية الجهد وطيبة اجتووا
فخرجوا فشربوا ألبانها ... ونبذوا إذ سمنوا أمانها
فاقتص منهم النبي أن مثلوا ... بعبده ومقلتيه سملوا
واعترض على الناظم شارح النظم حماد لفظة: بعبده، لأن الثابت أنهم مثلوا بالرعاء، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الآية.
اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بإخلاص في ذلك لله تعالى، لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة.
وأصل الوسيلة: الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء، لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جداً كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [59/7]، وكقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [3/31]، وقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [24/54]، إلى غير ذلك من الآيات.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالوسيلة الحاجة، ولما سأله نافع الأزرق هل تعرف العرب ذلك؟ أنشد له بيت عنترة:[الكامل]
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قال: يعني لهم إليك حاجة، وعلى هذا القول الذي روي عن ابن عباس، فالمعنى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [5/35]، واطلبوا حاجتكم من الله، لأنه وحده هو الذي يقدر على إعطائها، ومما يبين معنى هذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [29/17] الآية، وقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [4/32]، وفي الحديث "إذا سألت فسأل الله" .
(1/402)
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة، على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفسير ابن عباس داخل في هذا، لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.
وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال المدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه، أنه تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين وتلاعب بكتاب الله تعالى، واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرح به تعالى في قوله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [39/3]، وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [10/18]، فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضى الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية [4/123].
والظاهر أن الوسيلة في بيت عنترة معناها التقرب أيضاً إلى المحبوب، لأنه وسيلة لنيل المقصود منه، ولذا أنشد بيت عنترة المذكور ابن جرير، والقرطبي وغيرهما لهذا المعنى الذي ذكرنا وجمع الوسيلة: الوسائل، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل
وهذا الذي سرنا به الوسيلة هنا هو معناها أيضاً في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [17/57]، وليس المراد بالوسيلة أيضاً المنزلة التي في الجنة التي أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل له الله أن يعطيه إياها، نرجو الله أن يعطيه إياها، لأنها لا تنبغي إلا لعبد، وهو يرجو أن يكون هو.
قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} ، في هذا الآية الكريمة إجمال، لأن المشار إليه بقوله: {هَذَا} ، ومفسر الضمير في قوله: {فَخُذُوهُ} ، وقوله: {لَمْ تُؤْتَوْهُ} ، لم يصرح به في الآية ولكن الله أشار له هنا، وذكره في موضع آخر.
(1/403)
واعلم أولاً أن هذه الآية نزلت في اليهودي واليهودية الذين زنيا بعد الإحصان، وكان اليهود قد بدلوا حكم الرجم في التوراة، فتعمدوا تحريف كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم على أن الزاني المحصن الذي يعلمون أن حده في كتاب الله "التوراة" الرجم أنهم يجلدونه ويفضحونه بتسويد الوجه والإركاب على حمار، فلما زنى المذكوران قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم في شأن حدهما، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ذلك واجعلوه حجة بينكم وبين الله تعالى ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم فيهما بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بقوله: {هَذَا} ، وقوله: {فَخُذُوهُ} ، وقوله: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} ، هو الحكم المحرف الذي هو الجلد والتحميم كما بينا، وأشار إلى ذلك هنا بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} , يعني المحرف والمبدل الذي هو الجلد والتحميم فخذوه: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} ، بأن حكم بالحق الذي هو الرجم: {فَاحْذَرُوا} أن تقبلوه.
وذكر تعالى هذا أيضاً في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} [3/23]، يعني التوراة {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} ، يعني في شأن الزانيين المذكورين {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، آية عما في التوراة من حكم رجم الزاني المحصن، وقوله هنا: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، هو معنى قوله عنهم: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} ، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} الآية.
أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأحبار والرهبان استحفظوا كتاب الله يعني استودعوه، وطلب منهم حفظه، ولم يبين هنا هل امتثلوا الأمر في ذلك وحفظوه، أو لم يمتثلوا الأمر في ذلك وضيعوه؟ ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا الأمر، ولم يحفظوا ما استحفظوه، بل حرفوه وبدلوه عمداً كقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} الآية [4/46].
وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [6/91]، وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية [2/79]، وقوله جل وعلا: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ
(1/404)
بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية [3/78]، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه:
إن قيل ما الفرق بين التوراة والقرآن، فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله وسلامه عليهم، والتوراة حرفت، وبدلت كما بيناه آنفاً، والقرآن محفوظ من التحريف والتبديل، لو حرف منه أحد حرفاً واحداً فأبدله بغيره، أو زاد فيه حرفاً أو نقص فيه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلاً عن كبارهم.
فالجواب أن الله استحفظهم التوراة، واستودعهم إياها، فخانوا الأمانة ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمداً والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة، كما أوضحه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [15/9]، وقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية [41/42]، إلى غير ذلك من الآيات و "الباء" في قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} [5/44]، متعلقة بالرهبان والأحبار، لأنهم إنما صاروا في تلك المرتبة بسبب ما استحفظوا من كتاب الله.
وقيل: متعلقة يـ {ثم يحكم} والمعنى متقارب.
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة: هل هي في المسلمين، أو في الكفار، فروي عن الشعبي أنها في المسلمين، وروي عنه أنها في اليهود، وروي عن طاوس أيضاً أنها في المسلمين، وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر، وأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وروي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: ليس الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه ابن أبي حاتم، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، قاله ابن كثير.
قال بعض العلماء: والقرآن العظيم يدل على أنها في اليهود، لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، وأنهم يقولون: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} ، يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله: {فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} أي المحرف، بل أوتيتم حكم الله الحق: {فَاحْذَرُوا} ، فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه حق.
(1/405)
وقد قال تعالى بعدها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [5/45]، فدل على أن الكلام فيهم، وممن قال بأن الآية في أهل الكتاب، كما دل عليه ما ذكر البراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مجلز، وأبو رجاء العطاردي، وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري وغيرهم، وزاد الحسن، وهي علينا واجبة نقله عنهم ابن كثير، ونقل نحو قول الحسن عن إبراهيم النخعي.
وقال القرطبي في تفسيره: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} [5/47،45،44]، نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم وعلى هذا المعظم، فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل فيه إضمار، أي {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، رداً للقرآن وجحداً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد.
فالآية عامةً على هذا قال ابن مسعود، والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقداً ذلك ومستحلاً له.
فأما من فعل ذلك، وهو معتقد أنه مرتكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس في رواية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد، ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء.
منهما أن اليهود ذكروا قبل هذا في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُوا} ، [5/44] فعاد الضمير عليهم.
ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك. ألا ترى أن بعده {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} ، فهذا الضمير لليهود بإجماع. وأيضاً فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص، فإن قال قائل "من" إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها قيل له: "من" هنا بمعنى الذي، مع ما ذكرناه من الأدلة والتقرير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا من أحسن ما قيل في هذا.
(1/406)
ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات، أهي في بني إسرائيل، فقال: نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل، وقيل: الكافرون للمسلمين، والظالمون لليهود والفاسقون للنصارى، وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: لأنه ظاهر الآيات، وهو اختيار ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زائدة، وابن شبرمة والشعبي أيضاً. قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر.
وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر. وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري: ومذهب الخوارج أن من ارتشى، وحكم بحكم غير الله فهو كافر، وعزا هذا إلى الحسن والسدي، وقال الحسن أيضاً: أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً، انتهى كلام القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، نازلة في المسلمين، لأنه تعالى قال قبلها مخاطباً لمسلمي. هذه الأمة {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ, وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} ، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلاً له، أو قاصداً به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها.
أما من حكم بغير حكم الله، وهو عالم أنه مرتكب ذنباً فاعل قبيحاً، وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين، وسياق القرآن ظاهر أيضاً في أن آية {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، في اليهود لأنه قال قبلها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضاً في أن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، في النصارى؛ لأنه قال قبلها: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منها
(1/407)
ربما أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، معارضةً للرسل وإبطالاً لأحكام الله فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} معتقداً أنه مرتكب حراماً فاعل قبيحاً فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة، وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، د قدمنا احتجاج أبي حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على قتل المسلم بالذمي، ونفس الآية فيها إشارة إلى أن الكافر لا يدخل في عموم الآية، كما ذهب إليه جمهور العلماء، وذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} الآية.
ومن المعلوم أن الكافر ليس من المتصدقين الذين تكون صدقتهم كفارة لهم، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، نبه على هذا إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" كما نقله ابن حجر في "فتح الباري"، وما ذكره إسماعيل القاضي من أن الآية تدل أيضاً على عدم دخول العبد، بناء على أنه لا يصح له التصدق بجرحه، لأن الحق لسيده غير مسلم، لأن من العلماء من يقول: إن الأمور المتعلقة ببدن العبد، كالقصاص له العفو فيها دون سيده، وعليه فلا مانع من تصدقه بجرحه، وعلى قول من قال: إن معنى {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ، أن التصدق بالجناية كفارة للجاني، لا للمجني عليه، فلا مانع أيضاً من الاستدلال المذكور بالآية، لأن الله لا يذكر عن الكافر أنه متصدق، لأن الكافر لا صدقة له لكفره، وما هو باطل لا فائدة فيه لا يذكره الله تعالى، في معرض التقرير والإثبات، مع أن هذا القول ضعيف في معنى الآية.
وجمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم على أن معناها فهو كفارة للمتصدق، وهو أظهر. لأن الضمير فيه عائد إلى مذكور، وذلك في المؤمن قطعاً دون الكافر، فالاستدلال بالآية ظاهر جداً.
تنبيه:
احتج بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يقتل اثنان بواحد، لأنهما لو قتلا به لخرج عن قوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ؛ لكونهما نفسين بنفس واحدة.
(1/408)
وممن قال بهذا متمسكاً بهذا الدليل ابن الزبير، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعبد الملك، وربيعة، وداود، وابن المنذر، وحكاه ابن أبي موسى، عن ابن عباس، وروي عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وابن سيرين، والزهري أنه يقتل منهم واحد، ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية. لأن كل واحد منهم مكافىء له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد، كما نقله عمن ذكرنا ابن قدامة في "المغني".
وقالوا مقتضى قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [2/178]، وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة، قالوا: ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع القصاص، بدليل عدم قتل الحر بالعبد، والتفاوت في العدد أولى.
وقال ابن المنذر: لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد، وعدم قتل الجماعة بالواحد رواية عن الإمام أحمد.
والرواية المشهورة عن الإمام أحمد. ومذهب الأئمة الثلاثة أنه يقتل الجماعة بالواحد، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قتل سبعة بواحد، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعاً، وروي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه، فإنه توقف عن قتال الحرورية حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب، كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال: الله أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب. فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه، نقله القرطبي عن الدارقطني في "سننه".
ويؤيد قتل الجماعة بالواحد، ما رواه الترمذي عن أبي سعيد، وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أهل السماء، وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار" . قال فيه الترمذي: حديث غريب نقله عنه القرطبي.
وروى البيهقي في "السنن الكبرى" نحوه عن ابن عباس مرفوعاً، وزاد "إلا أن يشاء"، وروى البيهقي أيضاً عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله عز وجل يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله" .
وروي عن المغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن،
(1/409)
وأبو سلمة، وعطاء، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، كما نقله عنهم ابن قدامة في "المغني" أن الجماعة تقتل بالواحد، ورواه البيهقي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما أيضاً، ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة، فصار إجماعاً سكوتياً، واعترضه بعضهم بأن ابن الزبير ثبت عنه عدم قتل الجماعة بالواحد، كما قاله ابن المنذر.
وإذن فالخلاف واقع بين الصحابة، والمقرر في الأصول أن الصحابة إذا اختلفوا، لم يجز العمل بأحد القولين إلا بترجيح.
قال مقيده، عفا الله عنه: ويترجح مذهب الجمهور الذي هو قتل الجماعة بالواحد، بأن الله تعالى قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [2/179]، يعني أن من علم أنه يقتل إذا قتل يكون ذلك رادعاً له وزاجراً عن القتل، ولو كان الاثنان لا يقتص منهما للواحد، لكان كل من أحب أن يقتل مسلماً، أخذ واحداً من أعوانه فقتله معه، فلم يكن هناك رادع عن القتل وبذلك تضيع حكمة القصاص من أصلها، مع أن المتمالئين على القتل يصدق على كل واحد منهم أنه قاتل فيقتل، ويدل له أن الجماعة لو قذفوا واحداً لوجب حد القذف على جميعهم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} ، لم يبين هنا شيئاً مما أنزل في الإنجيل الذي أمر أهل الإنجيل بالحكم به، وبين في مواضع أخر أن من ذلك البشارة بمبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعه. والإيمان به كقوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [61/6]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الآية [7/157]، إلى غير ذلك من الآيات.
لطيفة لها مناسبة بهذه الآية الكريمة: ذكر بعض العلماء أن نصرانياً قال لعالم من علماء المسلمين: ناظرني في الإسلام والمسيحية أيهما أفضل؟ فقال العالم للنصراني: هلم إلى المناظرة في ذلك، فقال النصراني: المتفق عليه أحق بالاتباع أم المختلف فيه؟ فقال العالم: المتفق عليه أحق بالاتباع من المختلف فيه. فقال النصراني: إذن يلزمكم اتباع عيسى معنا، وترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لأننا نحن وأنتم نتفق على نبوة عيسى، ونخالفكم في نبوة محمد عليهما الصلاة والسلام، فقال المسلم: أنتم الذين تمتنعون من
(1/410)
اتباع المتفق عليه، لأن المتفق عليه الذي هو عيسى قال لكم: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ، فلو كنتم متبعين عيسى حقاً لاتبعتم محمداً صلى الله عليه وسلم، فظهر أنكم أنتم الذين لم تتبعوا المتفق عليه ولا غيره، فانقطع النصراني.
ولا شك أن النصارى لو كانوا متبعين عيسى، لاتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، قد قدمنا أن هذه الآية في النصارى، والتي قبلها في اليهود، والتي قبل تلك في المسلمين، كما يقتضيه ظاهر القرآن.
وقد قدمنا أن الكفر، والظلم، والفسق كلها يطلق على المعصية بما دون الكفر، وعلى الكفر المخرج من الملة نفسه. فمن الكفر بمعنى المعصية. قوله صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة عن سبب كون النساء أكثر أهل النار: "إن ذلك واقع بسبب كفرهن" ثم فسره بأنهن يكفرن العشير، ومن الكفر بمعنى المخرج عن الملة، قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ, لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الآية [109/2،1]. ومن الظلم بمعنى الكفر قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2/254]، وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [10/106]، وقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [31/13]، ومنه بمعنى المعصية قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [35/32]، ومن الفسق بمعنى الكفر قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الآية [32/20]، ومنه بمعنى المعصية قوله في الذين قذفوا عائشة، رضي الله عنها: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [24/4].
ومعلوم أن القذف ليس بمخرج عن الملة، ويدل له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [24/11]، ومن الفسق بمعنى المعصية أيضاً، قوله في الوليد بن عقبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [49/6].
وقد قدمنا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فمن كان امتناعه من الحكم بما أنزل الله، لقصد معارضته ورده، والامتناع من التزامه، فهو كافر ظالم فاسق كلها بمعناها المخرج من الملة، ومن كان امتناعه من الحكم لهوى، وهو يعتقد قبح فعله، فكفره وظلمه وفسقه غير المخرج من الملة، إلا إذا كان ما امتنع من الحكم به
(1/411)
شرطاً في صحة إيمانه، كالامتناع من اعتقاد ما لا بد من اعتقاده، هذا هو الظاهر في الآيات المذكورة، كما قدمنا والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [5/51]، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ولكنه بين في مواضع أخر أن ولاية بعضهم لبعض زائفة ليست خالصة، لأنها لا تستند على أساس صحيح، هو دين الإسلام، فبين أن العداوة والبغضاء بين النصارى دائمة إلى يوم القيامة، بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [5/14]، وبين مثل ذلك في اليهود أيضاً، حيث قال فيهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [5/64]، والظاهر أنها في اليهود فيما بينهم، كما هو صريح السياق، خلافاً لمن قال: إنها بين اليهود، والنصارى.
وصرح تعالى بعدم اتفاق اليهود معللاً له بعدم عقولهم في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [59/14].
تنبيه:
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ، أن اليهودي، والنصراني، يتوارثان، ورده بعض العلماء، بأن المراد بالآية، ولاية اليهود لخصوص اليهود، والنصارى لخصوص النصارى، وعلى هذا المعنى فلا دليل في الآية لتوارث اليهود والنصارى.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ، ذكر في هذه الآية الكريمة، أن من تولى اليهود، والنصارى، من المسلمين، فإنه يكون منهم بتوليه إياهم, وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله، والخلود في عذابه، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم، وهو قوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ, وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [5/81،80].
(1/412)
ونهى في موضع آخر عن توليهم مبيناً سبب التنفير منه. وهو قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [60/13].
وبين في موضع آخر: أن محل ذلك، فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف، وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [3/28]، فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً وإيضاح، لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة:
ومن يأتي الأمور على اضطرار ... فليس كمثل آتيها اختيارا
ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم.
قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ, وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} .
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، يعتذرون عن موالاة الكفار من اليهود بأنهم يخشون أن تدور عليهم الدوائر، أي دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم، كما قال الشاعر: [الوافر]
إذا ما الدهر جر على أناس ... كلا كله أناخ بآخرينا
يعنون إما بقحط فلا يميروننا، ولا يتفضلوا علينا، وإما بظفر الكفار بالمسلمين، فلا يدوم الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، زعماً منهم أنهم عند تقلب الدهر بنحو ما ذكر. يكون لهم أصدقاء كانوا محافظين على صداقتهم، فينالون منهم ما يؤمل الصديق من صديقه، وأن المسلمين يتعجبون من كذبهم في إقسامهم بالله جهد أيمانهم، إنهم لمع المسلمين: وبين في هذه الآية: أن تلك الدوائر التي حافظوا من أجلها على صداقة
(1/413)
اليهود، أنها لا تدور إلا على اليهود، والكفار، ولا تدور على المسلمين، بقوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} الآية، وعسى من الله نافذة، لأنه الكريم العظيم الذي لا يطمع إلا فيما يعطي.
والفتح المذكور قيل: هو فتح المسلمين لبلاد المشركين، وقيل: الفتح الحكم، كقوله {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [7/89]، وعليه فهو حكم الله بقتل مقاتلة بني قريظة، وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير، وقيل: هو فتح مكة، وهو راجع إلى الأول.
وبين تعالى في موضع آخر أن سبب حلفهم بالكذب للمسلمين، أنهم منهم، إنما هو الفرق أي الخوف، وأنهم لو وجدوا محلاً يستترون فيه عن المسلمين لسارعوا إليه، لشدة بغضهم للمسلمين، وهو قوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ, لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [9/57،56]، ففي هذه الآية بيان سبب أيمان المنافقين، ونظيرها قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [58/16].
وبين تعالى في موضع آخر، أنهم يحلفون تلك الأيمان ليرضى عنهم المؤمنون، وأنهم إن رضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عنهم، وهو قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [9/96].
وبين في موضع آخر: أنهم يريدون بأيمانهم إرضاء المؤمنين، وإن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وهو قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [9/62].
وبين في موضع آخر أنهم يحلفون لهم ليرضوا عنهم، بسبب أن لهم عذراً صحيحاً، وأن الله أمرهم بالإعراض عنهم، لا لأن لهم عذراً صحيحاً، بل مع الإعلام بأنهم رجس، ومأواهم النار بسبب ما كسبوا من النفاق، وهو قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [9/95].
وبين في موضع آخر: أن أيمانهم الكاذبة سبب لإهلاكهم أنفسهم وهو قوله:
(1/414)
{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية [9/42].
وهذه الأسباب لحلف المنافقين التي ذكرت في هذه الآيات راجعة جميعاً إلى السبب الأول، الذي هو الخوف. لأن خوفهم من المؤمنين هو سبب رغبتهم في إرضائهم، وإعراضهم عنهم بأن لا يؤذوهم، ولذا حلفوا لهم، ليرضوهم، وليعرضوا عنهم، خوفاً من أذاهم، كما هو ظاهر.
تنبيه:
قوله في هذه الآية الكريمة: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا} [5/53]، فيه ثلاث قراءات سبعيات.
الأولى: يقول بلا واو مع الرفع، وبها قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر.
الثانية: ويقول بإثبات الواو مع رفع الفعل أيضاً، وبها قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي.
الثالثة: بإثبات الواو، ونصب يقول عطفاً على "أن يأتى بالفتح" وبها قرأ أبو عمرو.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية.
أخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضاً عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فأمره بلين الجانب للمؤمنين، بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [15/88]، وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [26/215]، وأمره بالقسوة على غيرهم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [9/73]، وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية [3/159]، وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين، والشدة على الكافرين، من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
(1/415)
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [48/29].
وقد قال الشاعر في رسول الله صلى الله عليه وسلم:[الطويل]
وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحد المشرفي المهند
وقال الآخر فيه:[الطويل]
وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمد
ويفهم من هذه الآيات أن المؤمن يجب عليه أن لا يلين إلا في الوقت المناسب للين، وألا يشتد إلا في الوقت المناسب للشدة، لأن اللين في محل الشدة ضعف، وخور، والشدة في محل اللين حمق، وخرق، وقد قال أبو الطيب المتنبي:[الطويل]
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب لو أطاعوا الله، وأقاموا كتابهم باتباعه، والعمل بما فيه، ليسر الله لهم الأرزاق وأرسل عليهم المطر، وأخرج لهم ثمرات الأرض.
وبين في مواضع أخر أن ذلك ليس خاصاً بهم، كقوله عن نوح وقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً, يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً, وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [71/11]، وقوله عن هود وقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الآية [11/52]، وقوله عن نبينا عليه الصلاة والسلام وقومه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [11/3]، وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [16/97]. على أحد الأقوال وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [7/96]، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [65/3،2]، وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [20/132]، ومفهوم الآية أن معصية الله تعالى، سبب لنقيض ما
(1/416)
يستجلب بطاعته، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآية [30/41]، ونحوها من الآيات.
قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة، أن أهل الكتاب قسمان:
طائفة منهم مقتصدة في عملها، وكثير منهم سيىء العمل، وقسم هذه الأمة إلى ثلاثة أقسام في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [35/33]، ووعد الجميع بالجنة بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [35/33].
وذكر القسم الرابع: وهو الكفار منها بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} الآية [35/36].
وأظهر الأقوال في المقتصد، والسابق، والظالم، أن المقتصد هو من امتثل الأمر، واجتنب النهي، ولم يزد على ذلك، وأن السابق بالخيرات هو من فعل ذلك، وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورع عن بعض الجائزات، خوفاً من أن يكون سبباً لغيره، وأن الظالم هو المذكور في قوله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية [9/102]، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية.
أمر تعالى في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل إليه، وشهد له بالامتثال في آيات متعددة كقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [5/3]، وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [24/54]، وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [51/54]، ولو كان يمكن أن يكتم شيئاً، لكتم قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [33/37]، فمن زعم أنه صلى الله عليه وسلم، كتم حرفاً مما أنزل عليه، فقد أعظم الافتراء، على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن بني إسرائيل عموا وصموا مرتين، تتخللهما
(1/417)
توبة من الله عليهم، وبين تفصيل ذلك في قومه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} الآية [17/4]، فبين جزاء عماهم، وصممهم في المرة الأولى بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} الآية [17/5]، وبين جزاء عماهم، وصممهم في المرة الآخرة بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} ، وبين التوبة التي بينهما بقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} ، ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} ، فعادوا إلى الإفساد بتكذبيه صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته التي في التوراة، فعاد الله إلى الانتقام منهم، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم فذبح مقاتلة بني قريظة، وسبى نساءهم، وذراريهم وأجلى بني قينقاع، وبني النضير. كما ذكر تعالى طرفاً من ذلك في سورة الحشر، وهذا البيان الذي ذكرنا في هذه الآية ذكره بعض المفسرين، وكثير منهم لم يذكره، ولكن ظاهر القرآن يقتضيه، لأن السياق في ذكر أفعالهم القبيحة الماضية من قتل الرسل وتكذبيهم، إذ قبل الآية المذكورة: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [5/70].
ومعنى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [5/71]، ظنوا ألا يصيبهم بلاء وعذاب من الله، بسبب كفرهم، وقتلهم الأنبياء، لزعمهم الباطل، أنهم أبناء الله، وأحباؤه، وقوله: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} ، أحسن، أوجه الإعراب فيه. أنه بدل من واو الفاعل في قوله: {عَمُوا وَصَمُّوا} ، كقولك: جاء القوم أكثرهم، وقوله: {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، قرأه حمزة، والكسائي، وأبو عمرو بالرفع، والباقون بالنصب، فوجه قراءة النصب ظاهر، لأن الحسبان بمعنى الظن، ووجه قراءة الرفع، تنزيل اعتقادهم لذلك -ولو كان باطلاً- منزلة العلم. فتكون أن مخففة من الثقيلة، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
أشار في هذه الآية، إلى أن الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [5/73]، لو تابوا إليه من ذل، لتاب عليهم، وغفر لهم، لأنه استعطفهم إلى ذلك أحسن استعطاف، وألطفه، بقوله: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} ، ثم أشار إلى أنهم إن فعلوا ذلك غفر لهم بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وصرح بهذا المعنى عاماً لجميع الكفار بقوله:
(1/418)
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [8/38].
قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن عيسى وأمه كانا يأكلان الطعام، وذكر في مواضع أخر، أن جميع الرسل كانوا كذلك. كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية [25/20]، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية [21/8]، وقوله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} الآية [25/7]، وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، معنى قوله: [5/75]، {يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن الحق، والمراد بصرفهم عنه، قول بعضهم: إن الله هو المسيح بن مريم، وقول بعضهم: إن الله ثالث ثلاثة، وقول بعضهم: عزير بن الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وعلى من يقول ذلك لعائن الله إلى يوم القيامة، فإنهم يقولون هذا الأمر الذي لم يقل أحد أشنع منه ولا أعظم، مع ظهور أدلة التوحيد المبينة له، ولذا قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، على سبيل التعجب من أمرهم، كيف يؤفكون إلى هذا الكفر مع وضوح أدلة التوحيد؟!.
قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآية، قال بعض العلماء: الذين لعنوا على لسان داود الذين اعتدوا في السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى ابن مريم، هم الذين كفروا من أهل المائدة، وعليه فلعن الأولين مسخهم قردة، كما بينه تعالى بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [2/65]، وقوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [7/166]، ولعن الآخرين هو المذكور في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [5/115]، وذكر غير واحد أنه مسخهم خنازير، وهذا القول مروي عن الحسن، وقتادة، ومجاهد، والباقر نقله الألوسي في تفسيره، وقال: واختاره غير واحد، ونقله القرطبي عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وأبي مالك، وذكر أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض من قال بهذا القول: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، قال داود عليه الصلاة والسلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين ، فمسخهم الله قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا، قال عيسى عليه الصلاة والسلام:
(1/419)
اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير.
وأن هذا معنى لعنهم على لسان داود، وعيسى ابن مريم، وفي الآية أقوال غير هذا تركنا التعرض لها، لأنها ليست مما نحن بصدده.
قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، قد قدمنا في سورة البقرة أن المراد بما عقدتم الأيمان، هو ما قصدتم عقد اليمين فيه، لا ما جرى على ألسنتكم من غير قصد نحو "لا والله" و "بلى والله"، ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
وهذا العقد معنوي، ومنه قول الخطيئة:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وقرأه حمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم: {عَقَّدْتُمُ} [5/89]، بالتخفيف بلا ألف. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر "عاقدتم" بألف بوزن فاعل، وقرأه الباقون بالتشديد من غير ألف، والتضعيف والمفاعلة: معناهما مجرد الفعل بدليل قراءة: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} بلا ألف، ولا تضعيف، والقراءات يبين بعضها بعضاً، و {مَا} في قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} مصدرية على التحقيق لا موصولة، كما قاله بعضهم زاعماً أن ضمير الرابط محذوف.
وفي المراد: {بِاللَّغْوِ} في الآية أقوال أشهرها عند العلماء اثنان:
الأول: أن اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد، كقوله "لا والله" و "بلى والله".
وذهب إلى هذا القول الشافعي، وعائشة في إحدى الروايتين عنها، وروي عن ابن عمر، وابن عباس في أحد قوليه، والشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعروة بن الزبير، وأبي صالح، والضحاك في أحد قوليه، وأبي قلابة، والزهري، كما نقله عنهم ابن كثير، وغيره.
القول الثاني: أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده، فيظهر نفيه: وهذا هو
(1/420)
مذهب مالك بن أنس، وقال: إنه أحسن ما سمع في معنى اللغو، وهو مروي أيضاً عن عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس في أحد قوليه، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد في أحد قوليه، وإبراهيم النخعي في أحد قوليه، والحسن، وزرارة بن أوفى، وأبي مالك، وعطاء الخراساني، وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسدي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن سعيد، وربيعة، كما نقله عنهم ابن كثير.
والقولان متقاربان، واللغو يشملهما. لأنه في الأول لم يقصد عقد اليمين أصلاً، وفي الثاني لم يقصد إلا الحق والصواب، وغير هذين القولين من الأقوال تركته لضعفه في نظري، واللغو في اللغة: هو الكلام بما لا خير فيه، ولا حاجة إليه، ومنه حديث: "إذا قلت لصاحبك، والإمام يخطب يوم الجمعة انصت، فقد لغوت أو لغيت" .
وقول العجاج:[الرجز]
ورب أسراب حجيح كظم ... عن اللغا ورفث التكلم
مسائل من أحكام الأيمان:
المسألة الأولى: اعلم أن الأيمان أربعة أقسام: اثنان فيهما الكفارة بلا خلاف، واثنان مختلف فيهما.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفارة فيهما. خرج الدارقطني في سننه، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا خلف بن هشام، حدثنا عبثر عن ليث، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: الأيمان أربعة، يمينان يكفران، ويمينان لا يكفران فاليمينان اللذان يكفران، فالرجل الذي يحلف: والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول: والله لأفعلن كذا وكذا، فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يكفران، فالرجل يحلف: والله ما فعلت كذا وكذا، وقد فعل، والرجل يحلف: لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. قال ابن عبد البر: وذكر سفيان الثوري في "جامعه"، وذكره المروزي عنه أيضاً:
قال سفيان: الأيمان أربعة، يمينان يكفران، وهو أن يقول الرجل: والله لا
(1/421)
أفعل ثم يفعل، أو يقول: والله لأفعلن ثم لا يفعل, ويمينان لا يكفران، وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت، وقد فعل أو يقول والله لقد فعلت وما فعل.
قال المروزي: أما اليمينان الأوليان، فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان. وأما اليمينان الأخريان، فقد اختلف أهل العلم فيهما فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه فعل كذا وكذا عند نفسه صادقاً يرى أنه على ما حلف عليه، فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي.
وكذلك قال أحمد وأبو عبيد. وقال الشافعي: لا إثم عليه، وعليه الكفارة.
قال المروزي: وليس قول الشافعي في هذا بالقوي، قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا، وقد فعل، متعمداً للكذب فهو آثم، ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء. مالك، وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور، وأبي عبيد.
وكان الشافعي يقول: يكفر. قال: وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي، قال المروزي: أميل إلى قول مالك وأحمد، اهـ محل الغرض من القرطبي بلفظه، وهو حاصل تحرير المقام في حلف الإنسان "لأفعلن" أو "لا أفعل".
وأما حلفه على وقوع أمر غير فعله، أو عدم وقوعه، كأن يقول: والله لقد وقع في الوجود كذا، أو لم يقع في الوجود كذا، فإن حلف على ماض أنه واقع، وهو يعلم عدم وقوعه متعمداً الكذب فهي يمين غموس، وإن كان يعتقد وقوعه فظهر نفيه فهي من يمين اللغو كما قدمنا، وإن كان شاكاً فهو كالغموس، وجعله بعضهم من الغموس.
وإن حلف على مستقبل لا يدري أيقع أم لا؟ فهو كذلك أيضاً يدخل في يمين الغموس، وأكثر العلماء على أن يمين الغموس لا تكفر لأنها أعظم إثماً من أن تكفرها كفارة اليمين.
وقد قدمنا قول الشافعي بالكفارة فيها، وفيها عند المالكية تفصيل، وهو وجوب الكفارة في غير المتعلقة بالزمن الماضي منها، واعلم أن اليمين منقسمة أيضاً إلى يمين منعقدة على بر، ويمين منعقدة على حنث، فالمنعقدة بر، هي التي لا يلزم حالفها تحليل اليمين كقوله والله لا أفعل كذا، والمنعقدة على حنث، هي التي يلزم صاحبها حل اليمين بفعل ما حلف عليه، أو بالكفارة كقوله والله لأفعلن كذا، ولا يحكم بحنثه
(1/422)
في المنعقدة على حنث حتى يفوت إمكان فعل ما حلف عليه، إلا إذا كانت موقتة بوقت فيحنث بفواته، ولكن إن كانت بطلاق كقوله على طلاقها لأفعلن كذا فإنه يمنع من وطئها حتى يفعل ما حلف عليه، لأنه لا يدري أيبر في يمينه أم يحنث؟ ولا يجوز الإقدام على فرج مشكوك فيه عند جماعة من العلماء منهم مالك وأصحابه.
وقال بعض العلماء: لا يمنع من الوطء، لأنها زوجته، والطلاق لم يقع بالفعل، وممن قال به أحمد.
المسألة الثانية: اعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله وصفاته، فلا يجوز القسم بمخلوق لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت" ، ولا تنعقد يمين بمخلوق كائناً من كان، كما أنها لا تجوز بإجماع من يعتد به من أهل العلم، وبالنص الصحيح الصريح في منع الحلف بغير الله، فقول بعض أهل العلم بانعقاد اليمين به صلى الله عليه وسلم لتوقف إسلام المرء على الإيمان به ظاهر البطلان، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: يخرج من عهدة اليمين بواحد من ثلاثة أشياء:
الأول: إبرارها بفعل ما حلف عليه.
الثاني: الكفارة، وهي جائزة قبل الحنث وبعده على التحقيق.
الثالث: الاستثناء بنحو إن شاء الله، والتحقيق أنه حل لليمين لا بدل من الكفارة، كما زعمه ابن الماجشون، ويشترط فيه قصد التلفظ به، والاتصال باليمين، فلا يقبل الفصل بغير ضروري كالسعال، والعطاس، وما ذهب إليه ابن عباس وغيره من جواز تراخي الاستثناء.
فالتحقيق فيه أن المراد به أن العبد يلزمه إذا قال "لأفعلن كذا" أن يقول: إن شاء الله، كما صرح به تعالى في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً, إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [18/24،23]، فإن نسي الاستثناء بإن شاء، وتذكره ولو بعد فصل، فإنه يقول: إن شاء الله. ليخرج بذلك من عهدة عدم تفويض الأمور إلى الله وتعليقها بمشيئته، لا من حيث إنه يحل اليمين التي مضت وانعقدت.
(1/423)
ويدل لهذا أنه تعالى قال لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [38/44]، ولو كان تدارك الاستثناء ممكناً لقال له قل: إن شاء الله، ويدل له أيضاً أنه ولو كان كذلك لما علم انعقاد يمين لإمكان أن يلحقها الاستثناء المتأخر، واعلم أن الاستثناء بإن شاء الله يفيد في الحلف بالله إجماعاً.
واختلف العلماء في غيره كالحلف بالطلاق والظهار والعتق، كأن يقول: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، أو أنت حرة إن شاء الله، فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يفيد في شيء من ذلك، لأن هذه ليست أيماناً، وإنما هي تعليقات للعتق والظهار والطلاق. والاستثناء بالمشيئة إنما ورد به الشرع في اليمين دون التعليق، وهذا مذهب مالك وأصحابه، وبه قال الحسن، والأوزاعي، وقتادة، ورجحه ابن العربي وغيره.
وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يفيد في ذلك كله، وبه قال الشافعي. وأبو حنيفة، وطاوس، وحماد، وأبو ثور، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وفرق قوم بين الظهار وبين العتق والطلاق، لأن الظهار فيه كفارة فهو يمين تنحل بالاستثناء، كاليمين بالله والنذر، ونقله ابن قدامة في المغني عن أبي موسى، وجزم هو به.
المسألة الرابعة: لو فعل المحلوف عن فعله ناسياً، ففيه للعلماء ثلاثة مذاهب:
الأول: لا حنث عليه مطلقاً، لأنه معذور بالنسيان، والله تعالى يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [33/5]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ، وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، فإن العلماء تلقوه بالقبول قديماً وحديثاً، ويشهد له ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [2/286]، "قال الله نعم" ومن حديث ابن عباس: "قال الله قد فعلت" وكون من فعل ناسياً لا يحنث هو قول عطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي نجيح، وإسحاق، ورواية عن أحمد، كما قاله صاحب المغني، ووجه هذا القول ظاهر للأدلة التي ذكرنا، وذهب قوم إلى أنه يحنث مطلقاً، وهو مشهور مذهب مالك، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد والزهري وقتادة، وربيعة وأبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، كما نقله عنهم صاحب
(1/424)
المغني، ووجه هذا القول عند القائل به أنه فعل ما حلف لا يفعله عمداً، فلما كان عامداً للفعل الذي هو سبب الحنث لم يعذر بنسيانه اليمين، ولا يخفى عدم ظهوره.
الثالث: وذهب قوم إلى الفرق بين الطلاق والعتق وبين غيرهما، فلا يعذر بالنسيان في الطلاق والعتق، ويعذر به في غيرهما، وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد، كما قاله صاحب المغني قال: واختاره الخلال، وصاحبه، وهو قول أبي عبيد.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول الأخير له وجه من النظر، لأن في الطلاق والعتق حقاً لله وحقاً للآدمي، والحالف يمكن أن يكون متعمداً في نفس الأمر، ويدعي النسيان لأن العمد من القصود الكامنة التي لا تظهر حقيقتها للناس، فلو عذر بادعاء النسيان لأمكن تأدية ذلك إلى ضياع حقوق الآدميين، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: إذا حلف لا يفعل أمراً من المعروف كالإصلاح بين الناس ونحوه، فليس له الامتناع من ذلك، والتعلل باليمين بل عليه أن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} الآية [2/224]، أي لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر، وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، ونظير الآية قوله تعالى في حلف أبي بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح، لما قال في عائشة رضي الله عنها ما قال: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [24/22].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه" ، متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إني والله، إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" ، متفق عليه أيضاً من حديث أبي موسى.
وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" ، متفق عليه أيضاً، والأحاديث في الباب كثيرة. وهذا هو الحق في المسألة خلافاً لمن قال:
(1/425)
كفارتها تركها متمسكاً بأحاديث وردت في ذلك، قال أبو داود: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها: "فليكفر عن يمينه" ، وهي الصحاح، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، لم يقيد هنا {رَقَبَةٍ} كفارة اليمين بالإيمان، وقيد به كفارة القتل خطأ.
وهذه من مسائل المطلق والمقيد في حالة اتفاق الحكم، مع اختلاف السبب، وكثير من العلماء يقولون فيه بحمل المطلق على المقيد فتقيد رقبة اليمين والظهار بالقيد الذي في رقبة القتل خطأ، حملاً للمطلق على المقيد، وخالف في ذلك أبو حنيفة ومن وافقه.
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب" في سورة النساء عند قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [4/92]، ولذلك لم نطل الكلام بها هنا، والمراد بالتحرير الإخراج من الرق، وربما استعملته العرب في الإخراج من الأسر والمشقات، وتعب الدنيا ونحو ذلك، ومنه قول والدة مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [3/35]، أي من تعب أعمال الدنيا، ومنه قول الفرزدق همام بن غالب التميمي:[الكامل]
أبني غدانة إني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال
يعني حررتكم من الهجاء، فلا أهجوكم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} الآية.
يفهم من هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين، لأن الله تعالى قال: إنها {رِجْسٌ} ، والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس.
وقيل: إن أصله من الركس، وهو العذرة والنتن. قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنة {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [76/21]؛ لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه، أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [37/47]، وكقوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [56/19]، بخلاف خمر الدنيا ففيها غول يغتال العقول
(1/426)
وأهلها يصدعون. أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها، وقوله: " لاَ يٌنْزَفُونَ" على قراءة فتح الزاي مبنياً للمفعول، فمعناه: أنهم لا يسكرون، والنزيف السكران، ومنه قول حميد بن ثور:
نزيف ترى ردع العبير بجيبها ... كما ضرج الضاري النزيف المكلما
يعني أنها في ثقل حركتها كالسكران، وأن حمرة العبير الذي هو الطيب في جيبها كحمرة الدم على الطريد الذي ضرجه الجوارح بدمه: فأصابه نزيف الدم من جرح الجوارح له، ومنه أيضاً قول امرىء القيس:[المتقارب]
وإذ هي تمشي كمشي النزيف ... يصرعه بالكثيب البهر
وقوله أيضاً: [الطويل]
نزيف إذا قامت لوجه تمايلت ... تراشى الفؤاد الرخص ألا تخترا
وقول ابن أبي ربيعة أو جميل: [الكامل]
فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وعلى قراءة: {يَنْزِفُونَ} بكسر الزاي مبنياً للفاعل، ففيه وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما: أنه من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر. ونظيره قولهم: أحصد الزرع إذا حان حصاده وأقطف العنب إذا حان قطافه، وهذا القول معناه راجع إلى الأول.
والثاني: أنه من أنزف القوم إذا فنيت خمورهم، ومنه قول الخطيئة:
لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتموا ... لبئس الندامى أنتم آل أبجرا
وجماهير العلماء على أن الخمر نجسة العين لما ذكرنا، وخالف في ذلك ربيعة والليث، والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين، كما نقله عنهم القرطبي في تفسيره.
واستدلوا لطهارة عينها بأن المذكورات معها في الآية من مال ميسر، ومال قمار وأنصاب وأزلام ليست نجسة العين، وإن كانت محرمة الاستعمال.
(1/427)
وأجيب من جهة الجمهور بأن قوله: {رِجْسٌ} ، يقتضي نجاسة العين في الكل، فما أخرجه إجماع، أو نص خرج بذلك، وما لم يخرجه نص ولا إجماع، لزم الحكم بنجاسته، لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصص من المخصصات، لا يسقط الاحتجاج به في الباقي، كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود: [الرجز]
وهو حجة لدى الأكثر إن ... مخصص له معيناً يبن
وعلى هذا، فالمسكر الذي عمت البلوي اليوم بالتطيب به المعروف في اللسان الدارجي بالكولانيا نجس لا تجوز الصلاة به، ويؤيده أن قوله تعالى في المسكر: {فَاجْتَنِبُوهُ} ، يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المسكر، وما معه في الآية بوجه من الوجوه، كما قاله القرطبي وغيره.
قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى على منصف أن التضمخ بالطيب المذكور والتلذذ بريحه واستطابته. واستحسانه مع أنه مسكر، والله يصرح في كتابة بأن الخمر رجس فيه ما فيه، فليس للمسلم أن يتطيب بما يسمع ربه يقول فيه: إنه {رِجْسٌ} ، كما هو واضح، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الخمر فلو كانت فيها منفعة أخرى لبينها، كما بين جواز الانتفاع بجلود الميتة، ولما أراقها.
واعلم أن ما استدل به سعيد بن الحداد، القروي على طهارة عين الخمر بأن الصحابة أراقوها في طرق المدينة، ولو كانت نجسة، لما فعلوا ذلك ولنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما نهاهم عن التخلي في الطرق، لا دليل له فيه، فإنها لا تعم الطرق، بل يمكن التحرز منها، لأن المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر كثيرة جداً بحيث تكون نهراً أو سيلاً في الطرق يعمها كلها، وإنما أريقت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها، قاله القرطبي، وهو ظاهر.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، هذه الآية الكريمة يفهم من دليل خطابها أي مفهوم مخالفتها أنهم إن حلوا من إحرامهم، جاز لهم قتل الصيد، وهذا المفهوم مصرح به في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [5/2]، يعني إن شئتم كما تقدم إيضاحه في أول هذه السورة الكريمة.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} ، الآية.
(1/428)
ذهب جمهور العلماء إلى أن معنى هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} لقتله ذاكراً لاحرامه، وخالف مجاهد -رحمه الله- الجمهور قائلاً: إن معنى الآية: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} لقتله في حال كونه ناسياً لإحرامه، واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [5/95]، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون فيها قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول, وإذا عرفت ذلك فاعلم أن في الآية قرينة واضحة دالة على عدم صحة قول مجاهد رحمه الله، وهي قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ، فإنه يدل على أنه متعمداً أمراً لا يجوز، أما الناسي فهو غير آثم إجماعاً، فلا يناسب أن يقال فيه: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [5/95]، كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} الآية.
ظاهر عموم هذه الآية الكريمة يشمل إباحة صيد البحر للمحرم بحج أو عمرة، وهو كذلك، كما بينه تخصيصه تعالى تحريم الصيد على المحرم بصيد البر في قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [5/96]، فإنه يفهم منه أن صيد البحر لا يحرم على المحرم، كما هو ظاهر.
مسائل تتعلق بالاصطياد في الإحرام أو في الحرم:
المسألة الأولى: اجمع العلماء على منع صيد البر للمحرم بحج أو عمرة.
وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشي كالظبي والغزال ونحو ذلك، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، أنه كان مع قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حلال وهم محرمون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم أمامهم، فأبصروا حماراً وحشياً وأبو قتادة مشغول يخصف نعله فلم يؤذنوه، وأحبوا لو أنه أبصره فأبصره فأسرج فرسه. ثم ركب ونسي سوطه ورمحه فقال لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: والله لا نعينك عليه، فغضب فنزل
(1/429)
فأخذهما فركب فشد على الحمار فعقره ثم جاء به، وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فأدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه فقررهم على أكله، وناوله أبو قتادة عضد الحمار الوحشي، فأكل منها صلى الله عليه وسلم، ولمسلم: "هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء" ، قالوا: لا، قال: "فكلوه" .
وللبخاري: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها: قالوا: لا، قال: "فكلوا ما بقى من لحمها" ، وقد أجمع جميع العلماء على أن ما صاده محرم لا يجوز أكله للمحرم الذي صاده، ولا لمحرم غيره، ولا لحلال غير محرم لأنه ميتة.
واختلف العلماء في أكل المحرم مما صاده حلال على ثلاثة أقوال، قيل: لا يجوز له الأكل مطلقاً، وقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: بالتفصيل بين ما صاده لأجله، وما صاده لا لأجله فيمنع الأول دون الثاني.
واحتج أهل القوم الأول بحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه أنه أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أبو بودان فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرام" متفق عليه، ولأحمد ومسلم لحم حمار وحشي.
واحتجوا أيضاً بحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له عضو من لحم صيد فرده، وقال: "إنا لا نأكله إنا حرم" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
واحتجوا أيضاً بعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ، ويروى هذا القول عن علي وابن عباس وابن عمر، والليث والثوري وإسحاق وعائشة وغيرهم.
واحتج من قال: بجواز أكل المحرم ما صاده الحلال مطلقاً بعموم الأحاديث الواردة بجواز أكل المحرم من صيد الحلال، كحديث طلحة بن عبيد الله عند مسلم، والإمام أحمد أنه كان في قوم محرمين فأهدي لهم طير، وطلحة راقد، فمنهم من أكل ومنهم من تورع فلم يأكل فلما استيقظ طلحة رضي الله عنه وفق من أكله وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكحديث البهزي واسمه زيد بن كعب، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حمار وحشي عقير
(1/430)
في بعض وادي الروحاء وهو صاحبه شأنكم بهذا الحمار، فأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون، أخرجه الإمامان مالك في موطئه وأحمد في مسنده، والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، كما قاله ابن حجر، وممن قال بإباحته مطلقاً أبو حنيفة وأصحابه.
قال مقيده، عفا الله عنه: أظهر الأقوال وأقواها دليلاً، هو القول المفصل بين ما صيد لأجل المحرم، فلا يحل له، وبين ما صاده الحلال، لا لأجل المحرم، فإنه يحل له.
والدليل على هذا أمران:
الأول: أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا طريق للجمع إلا هذه الطريق, ومن عدل عنها لا بد أن يلغي نصوصاً صحيحة.
الثاني: أن جابراً رضي الله عنه، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم ما لم تصيدوه، أو يصد لكم" ، رواه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والدارقطني.
وقال الشافعي: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس، فإن قيل في إسناد هذا الحديث، عمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن مولاه المطلب، عن جابر، وعمرو مختلف فيه، قال فيه النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك.
وقال الترمذي في مولاه المطلب أيضاً: لا يعرف له سماع من جابر، وقال فيه الترمذي أيضاً في موضع آخر قال محمد: لا أعرف له سماعاً من أحد من الصحابة، إلا قوله حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالجواب أن هذا كله ليس فيه ما يقتضي رد هذا الحديث، لأن عمراً المذكور ثقة، وهو من رجال البخاري ومسلم، وممن روى عنه مالك بن أنس، وكل ذلك يدل على أنه ثقة، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": ثقة ربما وهم، وقال فيه النووي في "شرح المهذب": أما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت، لأن البخاري، ومسلماً رويا له في صحيحيهما، واحتجا به، وهما القدوة في هذا الباب.
(1/431)
وقد احتج به مالك، وروى عنه وهو القدوة، وقد عرف من عادته أنه لا يروي في كتابه إلا عن ثقة، وقال أحمد بن حنبل فيه: ليس به بأس، وقال أبو زرعة: هو ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به.
وقال ابن عدي: لا بأس به، لأن مالكاً روى عنه، ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة، قلت: وقد عرف أن الجرح لا يثبت إلا مفسراً، ولم يفسره ابن معين، والنسائي بما يثبت تضعيف عمرو المذكور، وقول الترمذي: إن مولاه المطلب بن عبد الله بن حنطب، لا يعرف له سماع من جابر، وقول البخاري للترمذي: لا أعرف له سماعاً من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس في شيء من ذلك ما يقتضي رد روايته، لما قدمنا في سورة النساء من أن التحقيق هو الاكتفاء بالمعاصرة.
ولا يلزم ثبوت اللقي، وأحرى ثبوت السماع، كما أوضحه الإمام مسلم بن الحجاج -رحمه الله تعالى- في مقدمة صحيحه، بما لا مزيد عليه مع أن البخاري ذكر في كلامه هذا الذي نقله عنه الترمذي، أن المطلب مولى عمرو بن أبي عمرو المذكور، صرح بالتحديث ممن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو تصريح بالسماع من بعض الصحابة بلا شك.
وقال النووي في "شرح المهذب": وأما إدراك المطلب لجابر. فقال ابن أبي حاتم، وروى عن جابر قال: ويشبه أن يكون أدركه، هذا هو كلام ابن أبي حاتم، فحصل شك في إدراكه، ومذهب مسلم بن الحجاج الذي ادعى في مقدمة صحيحه الإجماع فيه أنه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء، بل يكتفي بإمكانه، والإمكان حاصل قطعاً، ومذهب علي بن المديني، والبخاري، والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء، فعلى مذهب مسلم الحديث متصل، وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلاً لبعض كبار التابعين، وقد سبق أن مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة. أو قول أكثر العلماء، أو غير ذلك مما سبق.
وقد اعتضد هذا الحديث، فقال به من الصحابة رضي الله عنهم، من سنذكره في فرع مذاهب العلماء اهـ، كلام النووي، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور على كل التقديرات، على مذاهب الأئمة الأربعة. لأن الشافعي منهم هو الذي لا يحتج
(1/432)
بالمرسل، وقد عرفت احتجاجه بهذا الحديث على تقدير إرساله.
قال مقيده عفا الله عنه: نعم يشترط في قبول رواية "المدلس" التصريح بالسماع والمطلب المذكور مدلس، لكن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة وأحمد -رحمهم الله تعالى- صحة الاحتجاج بالمرسل، ولا سيما إذا اعتضد بغيره كما هنا، وقد علمت من كلام النووي موافقة الشافعية.
واحتج من قال بأن المرسل حجة بأن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بنسبة الحديث لمن فوقها، إلا وهو جازم بالعدالة والثقة فيمن حذفه، حتى قال بعض المالكية: إن المرسل مقدم على المسند. لأنه ما حذف الواسطة في المرسل إلا وهو متكفل بالعدالة والثقة فيما حذف بخلاف المسند، فإنه يحيل الناظر عليه، ولا يتكفل له بالعدالة والثقة، وإلى هذا أشار في "مراقي السعود" بقوله في مبحث المرسل: [الرجز]
وهو حجة ولكن رجحا ... عليه مسند وعكس صححا
ومن المعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند مالك وأبي حنيفة وأحمد مع أن هذا الحديث له شاهد عند الخطيب وابن عدي من رواية عثمان بن خالد المخزومي، عن مالك عن نافع عن ابن عمر، كما نقله ابن حجر في التلخيص وغيره وهو يقويه.
وإن كان عثمان المذكور ضعيفاً لأن الضعيف يقوي المرسل، كما عرف في علوم الحديث، فالظاهر أن حديث جابر هذا صالح، وأنه نص في محل النزاع، وهو جمع بين هذه الأدلة بعين الجمع الذي ذكرنا أولاً، فاتضح بهذا أن الأحاديث الدالة على منع أكل المحرم مما صاده الحلال كلها محمولة على أنه صاده من أجله، وأن الأحاديث الدالة على إباحة الأكل منه محمولة على أنه لم يصده من أجله، ولو صاده لأجل محرم معين حرم على جميع المحرمين خلافاً لمن قال: لا يحرم إلا على ذلك المحرم المعين الذي صيد من أجله.
ويروى هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "أو يصد لكم" ويدل للأول ظاهر قوله في حديث أبي قتادة: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار لها؟" قالوا: لا، قال: "فكلوه" فمهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم كلهم، ويدل له أيضاً ما رواه أبو داود عن علي أنه دعي وهو محرم إلى
(1/433)
طعام عليه صيد فقال: أطعموه حلالاً فإنا حرم، وهذا مشهور مذهب مالك عند أصحابه مع اختلاف قوله في ذلك.
المسألة الثانية: لا تجوز زكاة المحرم للصيد بأن يذبحه مثلاً، فإن ذبحه فهو ميتة لا يحل أكله لأحد كائناً من كان إذ لا فرق بين قتله بالعقر وقتله بالذبح، لعموم قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [5/95]، وبهذا قال مالك وأصحابه كما نقله عنهم القرطبي وغيره، وبه قال الحسن، والقاسم وسالم، والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه، وقال الحكم والثوري وأبو ثور: لا بأس بأكله، قال ابن المنذر: هو بمنزلة ذبيحة السارق.
وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني يأكله الحلال، وهو أحد قولي الشافعي، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وغيره.
واحتج أهل هذا القول بأن من أباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال، والظاهر هو ما تقدم من أن ذبح المحرم لا يحل الصيد، ولا يعتبر ذكاة له، لأن قتل الصيد حرام عليه، ولأن ذكاته لا تحل له هو أكله إجماعاً، وإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح، فأولى وأحرى ألا يفيد لغيره، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه، فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله، قاله القرطبي، وهو ظاهر.
المسألة الثالثة: الحيوان البري ثلاثة أقسام: قسم هو صيد إجماعاً، وهو ما كالغزال من كل وحشي حلال الأكل، فيمنع قتله للمحرم، وإن قتله فعليه الجزاء. وقسم ليس بصيد إجماعاً، ولا بأس بقتله، وقسم اختلف فيه.
أما القسم الذي لا بأس بقتله، وليس بصيد إجماعاً فهو الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور.
وأما للقسم المختلف فيه: فكالأسد، والنمر، والفهد والذئب، وقد روى الشيخان في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل، والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور.
(1/434)
وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح" ثم عد الخمس المذكورة آنفاً، ولا شك أن الحية أولى بالقتل من العقرب.
وقد أخرج مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر محرماً بقتل حية بمنى، وعن ابن عمرو سئل: ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم؟ فقال: حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحدأة، والغراب، والحية رواه مسلم أيضاً.
والأحاديث في الباب كثيرة، والجاري على الأصول تقييد الغراب بالأبقع، وهو الذي فيه بياض، لما روى مسلم من حديث عائشة في عد الفواسق الخمس المذكورة، والغراب الأبقع. والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، وما أجاب به بعض العلماء من أن روايات الغراب بالإطلاق متفق عليها، فهي أصح من رواية القيد بالأبقع لا ينهض، إذ لا تعارض بين مقيد ومطلق، لأن القيد بيان للمراد من المطلق.
ولا عبرة بقول عطاء، ومجاهد، بمنع قتل الغراب للمحرم، لأنه خلاف النص الصريح الصحيح، وقول عامة أهل العلم، ولا عبرة أيضاً بقول إبراهيم النخعي: إن في قتل الفأرة جزاء لمخالفته أيضاً للنص، وقول عامة العلماء، كما لا عبرة أيضاً بقول الحكم، وحماد، لا يقتل المحرم العقرب، ولا الحية ، ولا شك أن السباع العادية كالأسد، والنمر، والفهد، أولى بالقتل من الكلب، لأنها أقوى منه عقراً، وأشد منه فتكاً.
واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالكلب العقور، فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة بإسناد حسن، أنه الأسد، قاله ابن حجر، وعن زيد بن أسلم أنه قال: وأي كلب أعقر من الحية.
وقال زفر: المراد به هنا الذئب خاصة، وقال مالك في الموطأ: كل ما عقر الناس، وعدا عليهم، وأخافهم، مثل الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، فهو عقور، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا هو الكلب المتعارف خاصة. ولا يحلق به في هذا الحكم سوى الذئب، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
(1/435)
مُكَلِّبِينَ} [5/4]، فاشتقها من اسم الكلب، وبقوله صلى الله عليه وسلم، في ولد أبي لهب: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فقتله الأسد" رواه الحاكم وغيره بإسناد حسن.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن السباع العادية ليست من الصيد، فيجوز قتلها للمحرم، وغيره في الحرم وغيره. لما تقرر في الأصول من أن العلة تعمم معلولها، لأن قوله: "العقور" علة لقتل الكلب فيعلم منه أن كل حيوان طبعه العقر كذلك.
ولذا لم يختلف العلماء في أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة المتفق عليه: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" أن هذه العلة التي هي في ظاهر الحديث الغضب تعمم معلولها فيمتنع الحكم للقاضي بكل مشوش للفكر، مانع من استيفاء النظر في المسائل كائناً ما كان غضباً أو غيره كجوع وعطش مفرطين، وحزن وسرور مفرطين، وحقن وحقب مفرطين، ونحو ذلك، وإلى هذا أشار في "مراقي السعود" بقوله في مبحث العلة: [الرجز]
وقد تخصص وقد تعمم ... لأصلها لكنها لا تخرم
ويدل لهذا ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال: "الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور والحدأة والسبع العادي" وهذا الحديث حسنه الترمذي.
وضعف ابن كثير رواية يزيد بن أبي زياد، وقال فيه ابن حجر في التلخيص فيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف. وفيه لفظة منكرة وهي قوله: "ويرمي الغراب ولا يقتله" ، وقال النووي في شرح المهذب: إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتل الغراب كتأكيد قتل الحية وغيرها.
قال مقيده عفا الله عنه: تضعيف هذا الحديث، ومنع الاحتجاج به متعقب من وجهين:
الأول: أنه على شرط مسلم، لأن يزيد بن أبي زياد من رجال صحيحه وأخرج له البخاري تعليقاً، ومنع الاحتجاج بحديث على شرط مسلم لا يخلو من نظر، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه. أن من أخرج حديثهم في غير الشواهد والمتابعات أقل أحوالهم قبول الرواية فيزيد بن أبي زياد عند مسلم مقبول الرواية، وإليه الإشارة بقول
(1/436)
العراقي في ألفيته:[الرجز]
فاحتاج أن ينزل في الإسناد ... إلى يزيد بن أبي زياد
الوجه الثاني: أنا لو فرضنا ضعف هذا الحديث فإنه يقويه ما ثبت من الأحاديث المتفق عليها من جواز قتل الكلب العقور في الإحرام وفي الحرم والسبع العادي، إما أن يدخل في المراد به، أو يلحق به إلحاقاً صحيحاً لامراء فيه، وما ذكره الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-من أن الكلب العقور يلحق به الذئب فقط، لأنه أشبه به من غيره لا يظهر، لأنه لا شك في أن فتك الأسد والنمر مثلاً أشد من عقر الكلب والذئب، وليس من الواضح أن يباح قتل ضعيف الضرر، ويمنع قتل قويه، لأن فيه علة الحكم وزيادة، وهذا النوع من الإلحاق من دلالة اللفظ عند أكثر أهل الأصول، لا من القياس، خلافاً للشافعي وقوم، كما قدمنا في سورة النساء.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: قلت: العجب من أبي حنيفة -رحمه الله- يحمل التراب على البر بعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق، والعقر، كما فعل مالك، والشافعي، رحمهما الله.
واعلم أن الصيد عند الشافعي هو مأكول اللحم فقط. فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه والصغار منه، والكبار عنده سواء، إلا المتولد من بين مأكول اللحم، وغير مأكوله، فلا يجوز اصطياده عنده، وإن كان يحرم أكله، كالسمع وهو المتولد من بين الذئب، والضبع، وقال: ليس في الرخمة والخنافس، والقردان والحلم، وما لا يؤكل لحمه شيء, لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [5/96]؛ فدل أن الصيد الذي حرم عليهم، هو ما كان حلالاً لهم قبل الإحرام، وهذا هو مذهب الإمام أحمد.
أما مالك -رحمه الله- فذهب إلى أن كل ما يعدو من السباع، كالهر والثعلب، والضبع، وما أشبهها، لا يجوز قتله. فإن قتله فداه، قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها، وهي مثل فراخ الغربان.
قال مقيده عفا الله عنه: أما الضبع فليست مثل ما ذكر معها لورود النص فيها، دون غيرها. بأنها صيد يلزم فيه الجزاء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولم يجز مالك للمحرم قتل الزنبور، وكذلك النمل والذباب والبراغيث، وقال:
(1/437)
إن قتلها محرم يطعم شيئاً، وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور، وبعض العلماء شبههه بالعقرب، وبعضهم يقول: إذا ابتدأ بالأذى جاز قتله، وإلا فلا، وأقيسها ما ثبت عن عمر بن الخطاب. لأنه مما طبيعته أن يؤذي.
وقد قدمنا عن الشافعي، وأحمد، وغيرهم، أنه لا شيء في غير الصيد المأكول، وهو ظاهر القرآن العظيم.
المسألة الرابعة: أجمع العلماء على أن المحرم إذا صاد الصيد المحرم عليه، فعليه جزاؤه، كما هو صريح قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [5/95].
اعلم أولاً أن المراد بقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} ، أنه متعمد قتله، ذاكر إحرامه، كما هو صريح الآية. وقول عامة العلماء.
وما فسره به مجاهد، من أن المراد أنه متعمد لقتله ناس لإحرامه، مستدلاً بقوله تعالى بعده: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ، قال: لو كان ذاكراً لإحرامه، لوجبت عليه العقوبة لأول مرة. وقال: إن كان ذاكراً لإحرامه، فقد بطل حجه لارتكابه محظور الإحرام غير صحيح، ولا ظاهر لمخالفته ظاهر القرآن بلا دليل. ولأن قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ، يدل على أنه متعمد ارتكاب المحظور، والناسي للإحرام غير متعمد محظوراً.
إذا علمت ذلك، فاعلم أن قاتل الصيد متعمداً، عالماً بإحرامه، عليه الجزاء المذكور، في الآية، بنص القرآن العظيم، وهو قول عامة العلماء. خلافاً لمجاهد، ولم يذكر الله تعالى، في هذه الآية الكريمة حكم الناسي، والمخطىء.
والفرق بينهما: أن الناسي هو من يقصد قتل الصيد ناسياً إحرامه، والمخطىء هو من يرمي غير الصيد، كما لو رمى غرضاً فيقتل الصيد من غير قصد لقتله.
ولا خلاف بين العلماء أنهما لا أثم عليهما، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} الآية [33/5]، ولما قدمنا في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
(1/438)
قرأ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [2/286]، "أن الله قال: قد فعلت" .
أما وجوب الجزاء عليهما فاختلف فيه العلماء.
فذهب جماعة من العلماء: منهم المالكية، والحنفية، والشافعية، إلى وجوب الجزاء، في الخطأ، والنسيان، لدلالة الأدلة. على أن غرم المتلفات لا فرق فيه بين العامد، وبين غيره، وقالوا: لا مفهوم مخالفة لقوله متعمداً لأنه جري على الغالب، إذ الغالب ألا يقتل المحرم الصيد إلا عامداً، وجرى النص على الغالب من موانع اعتبار دليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود" في موانع اعتبار مفهوم المخالفة: [الرجز]
أو جهل الحكم أو النطق انجلب ... للسؤل أو جرى على الذي غلب
ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [4/23]؛ لجريه على الغالب، وقال بعض من قال بهذا القول، كالزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن العظيم، وفي الخطأ والنسيان بالسنة، قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس، وعمر فنعما هي، وما أحسنها إسوة.
واحتج أهل هذا القول. بأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال: "هي صيد" ، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشاً، ولم يقل عمداً ولا خطأ، فدل على العموم، وقال ابن بكير من علماء المالكية: قوله سبحانه: {مُتَعَمِّداً} ، لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وذكر التعمد لبيان أن الصيد ليس كابن آدم الذي ليس في قتله عمداً كفارة.
وقال القرطبي في تفسيره: إن هذا القول بوجوب الجزاء على المخطىء، والناسي والعامد، قاله ابن عباس، وروي عن عمر، وطاوس، والحسن، وإبراهيم، والزهري، وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم.
وذهب بعض العلماء إلى أن الناسي، والمخطىء لا جزاء عليهما، وبه قال القرطبي، وأحمد بن حنبل، في إحدى الروايتين، وسعيد بن جبير، وأبو ثور، وهو مذهب داود، وروي أيضاً عن ابن عباس، وطاوس، كما نقله عنهم القرطبي.
واحتج أهل هذا القول بأمرين:
(1/439)
الأول: مفهوم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} الآية، فإنه يدل على أن غير المتعمد ليس كذلك.
الثاني: أن الأصل براءة الذمة، فمن ادعى شغلها، فعليه الدليل.
قال مقيده: عفا الله عنه: هذا القول قوي جداً من جهة النظر، والدليل.
المسألة الخامسة: إذا صاد المحرم الصيد، فأكل منه، فعليه جزاء واحد لقتله، وليس في أكله إلا التوبة والاستغفار، وهذا قول جمهور العلماء، وهو ظاهر الآية خلافاً لأبي حنيفة القائل بأن عليه أيضاً جزاء ما أكل يعني قيمته، قال القرطبي: وخالفه صاحباه في ذلك، ويروى مثل قول أبي حنيفة عن عطاء.
المسألة السادسة: إذا قتل المحرم الصيد مرة بعد مرة، حكم عليه بالجزاء في كل مرة، في قول جمهور العلماء منهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة وغيرهم، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} الآية؛ لأن تكرار القتل يقتضي تكرار الجزاء، وقال بعض العلماء: لا يحكم عليه بالجزاء إلا مرة واحدة: فإن عاد لقتله مرة ثانية لم يحكم عليه، وقيل له: ينتقم الله منك، لقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} الآية.
ويروى هذا القول عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وإبراهيم، ومجاهد، وشريح، كما نقله عنهم القرطبي، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه يضرب حتى يموت.
المسألة السابعة: إذا دل المحرم حلالا على صيد فقتله، فهل يجب على المحرم جزاء لتسببه في قتل الحلال للصيد بدلالته له عليه أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك، فذهب الإمام أحمد، وأبو حنيفة إلى أن المحرم الدال يلزمه جزاؤه كاملاً، ويروى نحو ذلك عن علي، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد وبكر المزني، وإسحاق، ويدل لهذا القول سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، أصحابه، "هل أشار أحد منهم إلى أبي قتادة على الحمار الوحشي" ؟
فإن ظاهره أنهم لو دلوه عليه كان بمثابة ما لو صادوه في تحريم الأكل؛ ويفهم من
(1/440)
ذلك لزوم الجزاء، والقاعدة لزوم الضمان للمتسبب إن لم يمكن تضمين المباشر، والمباشر هنا لا يمكن تضمينه الصيد؛ لأنه حلال، والدال متسبب، وهذا القول هو الأظهر، والذين قالوا به منهم من أطلق الدلالة، ومنهم من اشترط خفاء الصيد بحيث لا يراه دون الدلالة، كأبي حنيفة، وقال الإمام الشافعي وأصحابه، لا شيء على الدال.
وروي عن مالك نحوه، قالوا: لأن الصيد يضمن بقتله، وهو لم يقتله وإذا علم المحرم أن الحلال صاده من أجله فأكل منه، فعليه الجزاء كاملاً عند مالك، كما صرح بذلك في موطئه، وأما إذا دل المحرم محرماً آخر على الصيد فقتله، فقال بعض العلماء: عليهما جزاء واحد بينهما، وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال عطاء، وحماد بن أبي سليمان كما نقله عنهم ابن قدامة في "المغني"، وقال بعض العلماء: على كل واحد منهما جزاء كامل، وبه قال الشعبي، وسعيد بن جبير، والحارث العكلي، وأصحاب الرأي، كما نقله عنهم أيضاً صاحب "المغني".
وقال بعض العلماء: الجزاء كله على المحرم المباشر، وليس على المحرم الدال شيء، وهذا
قول الشافعي، ومالك، وهو الجاري على قاعدة تقديم المباشر على المتسبب في الضمان، والمباشر هنا يمكن تضمينه لأنه محرم، وهذا هو الأظهر، وعليه: فعلى الدال الاستغفار والتوبة، وبهذا تعرف حكم ما لو دل محرم محرماً، ثم دل هذا الثاني محرماً ثالثاً، وهكذا، فقتله الأخير، إذ لا يخفى من الكلام المتقدم أنهم على القول الأول شركاء في جزاء واحد.
وعلى الثاني على كل واحد منهم جزاء، وعلى الثالث لا شيء إلا على من باشر القتل.
المسألة الثامنة: إذا اشترك محرمون في قتل صيد بأن باشروا قتله كلهم، كما إذا حذفوه بالحجارة والعصى حتى مات، فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد منهم جزاء كامل، كما لو قتلت جماعة واحداً، فإنهم يقتلون به جميعاً، لأن كل واحد قاتل, وكذلك هنا كل واحد قاتل صيداً فعليه جزاء. وقال الشافعي ومن وافقه: عليهم كلهم جزاء واحد، لقضاء عمر وعبد الرحمن، قاله القرطبي، ثم قال أيضاً: وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا فمرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها،
(1/441)
فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له ذلك، فقال: عليكم كلكم كبش، قالوا: أو على كل واحد منا كبش، قال: إنكم لمعزز بكم عليكم كلكم كبش. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد عليكم.
وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعاً فقال: عليهم كبش يتخارجونه بينهم ودليلنا قول الله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} .
وهذا خطاب لكل قاتل، وكل واحد من القاتلين الصيد قاتل نفساً على التمام والكمال بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص. وقد قلنا بوجوبه إجماعاً منا ومنهم فثبت ما قلناه.
وقال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيداً في الحرم وهم محلون، فعليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل أو الحرم، فإن ذلك لا يختلف.
وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل. بناء على أن الرجل يكون محرماً بدخوله الحرم، كما يكون محرماً بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي فهو هاتك لها في الحالتين.
وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي، قال: السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة. وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه.
وإذا قتل المحلون صيداً في الحرم فإنما أتلفوا دابة محترمة، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة فإن كل واحد منهم قاتل دابة. ويشتركون في القيمة، قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا،اهـ من القرطبي.
المسألة التاسعة: اعلم أن الصيد ينقسم إلى قسمين: قسم له مثل من النعم كبقرة الوحش، وقسم لا مثل له من النعم كالعصافير.
وجمهور العلماء يعتبرون المثلية بالمماثلة في الصورة والخلقة، وخالف الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- الجمهور، فقال: إن المماثلة معنوية، وهي القيمة، أي قيمة الصيد في المكان الذي قتله فيه، أو أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله، فيشتري بتلك القيمة هدياً إن شاء، أو يشتري بها طعاماً، ويطعم المساكين كل
(1/442)
مسكين نصف صاع من بر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر.
واحتج أبو حنيفة -رحمه الله- بأنه لو كان الشبه من طريق الخلقة والصورة معتبراً في النعمامة بدنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عدلين يحكمان به، لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر، وإنما يفتقر إلى العدلين والنظر ما تشكل الحال فيه، ويختلف فيه وجه النظر.
ودليل الجمهور على أن المراد بالمثل من النعم المشابهة للصيد في الخلقة والصورة منها قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} الآية، فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنوي، ثم قال: {مِنَ النَّعَمِ} فصرح ببيان جنس المثل، ثم قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وضمير {بِهِ} راجع إلى المثل {مِنَ النَّعَمِ} ؛ لأنه لم يتقدم ذكر لسواه حتى يرجع إليه الضمير.
ثم قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، والذي يتصور أن يكون هدياً مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هدياً ولا جرى لها ذكر في نفس الآية، وادعاء أن المراد شراء الهدي بها يعيد من ظاهر الآية، فاتضح أن المراد مثل من النعم، وقوله لو كان الشبه الخلقي معتبراً لما أوقفه على عدلين؟ أجيب عنه بأن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من كبر وصغر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص، قاله القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: المراد بالمثلية في الآية التقريب، وإذاً فنوع المماثلة قد يكون خفياً لا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والفطنة التامة، ككون الشاة مثلاً للحمامة لمشابهتها لها في عب الماء والهدير.
وإذا عرفت التحقيق في الجزاء بالمثل من النعم، فاعلم أن قاتل الصيد مخير بينه، وبين الإطعام، والصيام، كما هو صريح الآية الكريمة، لأن {أَوْ} حرف تخيير، وقد قال تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} ، وعليه جمهور العلماء.
فإن اختار جزاء بالمثل من النعم، وجب ذبحه في الحرم خاصة، لأنه حق لمساكين الحرم، ولا يجزىء في غيره كما نص عليه تعالى بقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، والمراد الحرم كله، كقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [22/33]، مع أن المنحر الأكبر مني، وإن اختار الطعام، فقال مالك: أحسن ما سمعت فيه، أنه يقوم الصيد
(1/443)
بالطعام، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم مكان كل مد يوماً.
وقال ابن القاسم عنه: إن قوم الصيد بالدراهم، ثم قوم الدراهم بالطعام، أجزأه.
والصواب: الأول؛ فإن بقي أقل من مد تصدق به عند بعض العلماء، وتممه مداً كاملاً عند بعض آخر، أما إذا صام، فإنه يكمل اليوم المنكسر بلا خلاف.
وقال الشافعي: إذا اختار الإطعام، أو الصيام، فلا يقوم الصيد الذي له مثل، وإنما يقوم مثله من النعم بالدراهم، ثم تقوم الدراهم بالطعام، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم عن كل مد يوماً، ويتمم المنكسر.
والتحقيق: أن الخيار لقاتل الصيد الذي هو دافع الجزاء.
وقال بعض العلماء: الخيار للعدلين الحكمين، وقال بعضهم: ينبغي للمحكمين إذا حكما بالمثل أن يخيرا قاتل الصيد بين الثلاثة المذكورة.
وقال بعض العلماء: إذا حكما بالمثل لزمه، والقرآن صريح في أنه لا يلزمه المثل من النعم، إلا إذا اختاره على الإطعام والصوم، للتخيير المنصوص عليه بحرف التخيير في الآية.
وقال بعض العلماء: هي على الترتيب، فالواجب الهدي، فإن لم يجد فالإطعام، فإن لم يجد فالصوم، ويروى هذا عن ابن عباس، والنخعي وغيرهما، ولا يخفى أن في هذا مخالفة لظاهر القرآن، بلا دليل.
وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل مدين يوماً واحداً اعتباراً بفدية الأذى، قاله القرطبي. واعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة، أنه يصوم عدل الطعام المذكور، ولو زاد الصيام عن شهرين، أو ثلاثة.
وقال بعض العلماء: لا يتجاوز صيام الجزاء شهرين. لأنهما أعلى الكفارات، واختاره ابن العربي، وله وجه من النظر، ولكن ظاهر الآية يخالفه.
وقال يحيى بن عمر من المالكية: إنما يقال: كم رجلاً يشبع من هذا الصيد، فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؟ فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده، قال القرطبي: وهذا قول حسن احتاط فيه. لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة، فبهذا النظر يكثر الإطعام.
(1/444)
واعلم أن الأنواع الثلاثة واحد منها يشترط له الحرم إجماعاً، وهو الهدي كما تقدم، وواحد لا يشترط له الحرم إجماعاً، وهو الصوم، وواحد اختلف فيه، وهو الإطعام. فذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يطعم إلا في الحرم، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم في موضع إصابة الصيد، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم حيث شاء. وأظهرها أنه حق لمساكين الحرم؛ لأنه بدل عن الهدي، أو نظير له، وهو حق لهم إجماعاً، كما صرح به تعالى بقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، وأما الصوم فهو عبادة تختص بالصائم لا حق فيها لمخلوق، فله فعلها في أي موضع شاء.
وأما إن كان الصيد لا مثل له من النعم كالعصافير. فإنه يقوم، ثم يعرف قدر قيمته من الطعام، فيخرجه لكل مسكين مد، أو يصوم عن كل مد يوماً.
فتحصل أن ماله مثل من النعم يخير فيه بين ثلاثة أشياء: هي الهدي، بمثله، والإطعام، والصيام. وأن ما لا مثل له يخير فيه بين شيئين فقط: وهما الإطعام، والصيام على ما ذكرنا.
واعلم أن المثل من النعم له ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون تقدم فيه حكم من النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: أن يكون تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة، أو التابعين مثلاً.
الثالثة: ألا يكون تقدم فيه حكم منه صلى الله عليه وسلم، ولا منهم رضي الله عنهم. فالذي حكم صلى الله عليه وسلم فيه لا يجوز لأحد الحكم فيه بغير ذلك، وذلك كالضبع، فإنه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بكبش، قال ابن حجر في التلخيص ما نصه: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش أخرجه أصحاب السنن، وابن حبان وأحمد، والحاكم في "المستدرك" من طريق عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر بلفظ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال: "هو صيد، ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم" ، ولفظ الحاكم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشاً، وجعله من الصيد وهو عند ابن ماجه إلا أنه لم يقل نجدياً، قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق وقد أعل بالوقف. وقال البيهقي: هو حديث جيد تقوم به الحجة، ورواه البيهقي من طريق الأجلح عن أبي الزبير عن جابر عن عمر قال: لا أراه إلا قد رفعه أنه حكم في الضبع بكبش. الحديث، ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير به موقوفاً، وصحح وقفه من
(1/445)
هذا الباب الدارقطني، ورواه الدارقطني والحاكم من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل" ، وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني، والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عنعكرمة عنه، وقد أعل بالإرسال. ورواه الشافعي من طريق ابن جريج عن عكرمة مرسلا وقال: لا يثبت مثله لو انفرد، ثم أكده بحديث ابن أبي عمار المتقدم، وقال البيهقي: وروي عن ابن عباس موقوفاً أيضاً.
قال مقيده عفا الله عنه: قضاؤه صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش ثابت كما رأيت تصحيح البخاري وعبد الحق له، وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم، والحديث إذا ثبت صحيحاً من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى. كما هو الصحيح عند المحدثين: لأن الوصل والرفع من الزيادات، وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود": [الرجز]
والرفع والوصل وزيد اللفظ ... مقبولة عند إمام الحفظ
.. لخ...
وأما إن تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة، أو ممن بعدهم, فقال بعض العلماء: يتبع حكمهم ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما من جديد، لأن الله قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [5/95]، وقد حكما بأن هذا مثل لهذا.
وقال بعض العلماء: لا بد من حكم عدلين من جديد، وممن قال به مالك، قال القرطبي: ولو اجتزأ بحكم الصحابة رضي الله عنهم لكان حسناً.
وروي عن مالك أيضاً أنه يستأنف الحكم في كل صيد ما عدا حمام مكة، وحمار الوحش، والظبي، والنعامة، فيكتفي فيها بحكم من مضى من السلف، وقد روي عن عمر أنه حكم هو وعبد الرحمن بن عوف في ظبي بغنز أخرجه مالك والبيهقي وغيرهما. وروي عن عبد الرحمن بن عوف، وسعد رضي الله عنهما أنهما حكما في الظبي بتيس أعفر، وعن ابن عباس وعمر، وعثمان وعلي، وزيد بن ثابت ومعاوية، وابن مسعود وغيرهم، أنهم قالوا: في النعامة بدنة، أخرجه البيهقي وغيره. وعن ابن عباس وغيره أن في حمار الوحش والبقرة بقرة، وأن في الأيل، بقرة.
(1/446)
وعن جابر أن عمر قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة، أخرجه مالك والبيهقي، وروى الأجلح بن عبد الله هذا الأثر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح موقوف على عمر كما ذكره البيهقي وغيره، وقال البيهقي: وكذلك رواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن عمر من قوله، وعن ابن عباس أنه قضى في الأرنب بعناق، وقال هي تمشي على أربع، والعناق كذلك، وهي تأكل الشجر، والعناق كذلك وهي تجتر، والعناق كذلك رواه البيهقي.
وعن ابن مسعود أنه قضى في اليربوع بحفر أو جفرة رواه البيهقي أيضاً، وقال البيهقي: قال أبو عبيد: قال أبو زيد: الجفر من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه، وعن شريح أنه قال: لو كان معي حكم حكمت في الثعلب بجدي، وروي عن عطاء أنه قال في الثعلب شاة، وروي عن عمر وأربد رضي الله عنهما أنهما حكما في ضب قتله أربد المذكور بجدي قد جمع الماء والشجر رواه البيهقي وغيره.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه حكم في أم حبين بجلان من الغنم، والجلان الجدي، ورواه البيهقي وغيره.
تنبيه:
أقل ما يكون جزاء من النعم عند مالك شاة تجزىء ضحية، فلا جزاء عنده بجفرة ولا عناق،
مستدلاً بأن جزاء الصيد كالدية لا فرق فيها بين الصغير والكبير، وبأن الله قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، فلا بد أن يكون الجزاء يصح هدياً، ففي الضب واليربوع عنده قيمتها طعاماً.
قال مقيده عفا الله عنه: قول الجمهور في جزاء الصغير بالصغير، والكبير بالكبير، هو الظاهر، وهو ظاهر قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، قال ابن العربي: وهذا صحيح، وهو اختيار علمائنا يعني مذهب الجمهور الذي هو اعتبار الصغر والكبر والمرض ونحو ذلك كسائر المتلفات.
المسألة العاشرة: إذا كان ما أتلفه المحرم بيضاً، فقال مالك: في بيض النعمامة
(1/447)
عشر ثمن البدنة، وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن شاة، قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر، فإن استهل فعليه الجزاء كاملاً كجزاء الكبير من ذلك الطير، قال ابن الموار بحكومة عدلين وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر قيمته.
قال مقيده عفا الله عنه: وهو الأظهر، قال القرطبي: روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه، أخرجه الدارقطني، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين" ، قاله القرطبي، وإن قتل المحرم فيلاً فقيل: فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان، وإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاماً، فيكون عليه ذلك.
قال القرطبي: والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام إلى الحد الذي نزل فيه والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام وأما إن نظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه، فيكثر الطعام وذلك ضرر اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الذي ذكره القرطبي في اعتبار مثل الفيل طعاماً فيه أمران:
الأول: أنه لا يقدر عليه غالباً، لأن نقل الفيل إلى الماء، وتحصيل المركب ورفع الفيل فيه، ونزعه منه، لا يقدر عليه آحاد الناس غالباً، ولا ينبغي التكليف العام إلا بما هو مقدور غالباً لكل أحد.
والثاني: أن كثرة القيمة لا تعد ضرراً، لأنه لم يجعل عليه إلا قيمة ما أتلف في الإحرام، ومن أتلف في الإحرام حيواناً عظيماً لزمه جزاء عظيم، ولا ضرر عليه، لأن عظم الجزاء تابع لعظم الجناية كما هو ظاهر.
المسألة الحادية عشرة: أجمع العلماء على أن صيد الحرم المكي ممنوع، وأن قطع شجره، ونباته حرام، إلا الإذخر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكة، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته، إلا لمعرف" . فقال
(1/448)
العباس إلا الإذخر، فإنه لا بد لهم منه، فإنه للقيون والبيوت، فقال: "إلا الإذخر" ، متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال: "لا ينفرد صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد" ، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" متفق عليه أيضاً. وفي لفظ: "لا يعضد شجرها" ، بدل قوله: "لا يختلى شوكها" ، والأحاديث في الباب كثيرة.
واعلم أن شجر الحرم ونباته طرفان، وواسطة طرف لا يجوز قطعه إجماعاً، وهو ما أنبته الله في الحرم من غير تسبب الآدميين، وطرف يجوز قطعه إجماعاً، وهو ما زرعه الآدميون من الزروع، والبقول، والرياحين ونحوها، وطرف اختلف فيه، وهو ما غرسه الآدميون من غير المأكول، والمشموم، كالأثل، والعوسج، فأكثر العلماء على جواز قطعه.
وقال قوم منهم الشافعي بالمنع، وهو أحوط في الخروج من العهدة، وقال بعض العلماء: إن نبت أولا في الحل، ثم نزع فغرس في الحرم جاز قطعه، وإن نبت أولاً في الحرم، فلا يجوز
قطعه، ويحرم قطع الشوك والعوسج، قال ابن قدامة في "المغني"، وقال القاضي، وأبو الخطاب: لا يحرم، وروي ذلك عن عطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار، والشافعي، لأنه يؤذي بطبعه، فأشبه السباع من الحيوان.
قال مقيده عفا الله عنه: قياس شوك الحرم على سباع الحيوان مردود من وجهين:
الأول: أن السباع تتعرض لأذى الناس، وتقصده بخلاف الشوك.
الثاني: أنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يعضد شوكه" ، والقياس المخالف للنص فاسد الاعتبار. قال في "مراقي السعود":[الرجز]
والخلف للنص أو إجماع دعا ... فساد الاعتبار كل من وعى
وفساد الاعتبار قادح مبطل للدليل، كما تقرر في الأصول، واختلف في قطع اليابس من الشجر، والحشيش، فأجازه بعض العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد. لأنه كالصيد الميت لا شيء على من قده نصفين، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يختلى خلاه" . لأن الخلا هو الرطب من النبات، فيفهم منه أنه لا بأس بقطع اليابس.
(1/449)
وقال بعض العلماء: لا يجوز قطع اليابس منه، واستدلوا له بأن استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس، وبأن في بعض طرق حديث أبي هريرة: "ولا يحتش حشيشها" ، والحشيش في اللغة: اليابس من الشعب، ولا شك أن تركه أحوط.
واختلف أيضاً في جواز ترك البهائم ترعى فيه، فمنعه أبو حنيفة، وروي نحوه عن مالك، وفيه عن أحمد روايتان، ومذهب الشافعي وجوازه، واحتج من منعه بأن ما حرم اتلافه، لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد، واحتج من أجازه بأمرين:
الأول: حديث ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان، فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فدخلت في الصف وأرسلت الأتان ترتع متفق عليه، ومنى من الحرم.
الثاني: أن الهدي كان يدخل بكثرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن أصحابه، ولم ينقل عن أحد الأمر بسد أفواه الهدي عن الأكل من نبات الحرم. وهذا القول أظهر، والله تعالى أعلم.
وممن قال به عطاء، واختلف في أخذ الورق، والمساويك من شجر الحرم إذا كان أخذ الورق بغير ضرب يضر بالشجرة، فمنعه بعض العلماء لعموم الأدلة، وأجازه الشافعي، لأنه لا ضرر فيه على الشجرة، وروي عن عطاء، وعمرو بن دينار، أنهما رخصا في ورق السنا للاستمشاء بدون نزع أصله، والأحوط ترك ذلك كله، والظاهر أن من أجازه استدل لذلك بقياسه على الإذخر بجامع الحاجة.
وقال ابن قدامة "المغني": ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان، وانقلع من الشجر بغير فعل آدمي، ولا ما سقط من الورق، نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافاً، لأن الخبر إنما ورد في القطع، وهذا لم يقطع فأما إن قطعه آدمي، فقال أحمد: لم أسمع إذا قطع أنه ينتفع به، وقال في الدوحة تقطع من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها، وذلك لأنه ممنوع من اتلافه لحرمة الحرم، فإذا قطعه من يحرم عليه قطعه لم ينتفع به، كالصيد يذبحه المحرم.
ويحتمل أن يباح لغير القاطع الانتفاع به؛ لأنه انقطع بغير فعله، فأبيح له الانتفاع به، كما لو قطعه حيوان بهيمي، ويفارق الصيد الذي ذبحه؛ لأن الذكاة تعتبر لها الأهلية، ولهذا لا تحصل بفعل بهية بخلاف هذا. اهـ.
(1/450)
وقال في المغني أيضاً: ويباح أخذ الكمأة من الحرم، وكذلك الفقع، لأنه لا أصل له، فأشبه الثمرة، وروى حنبل قال: يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق، وما سقط من الشجر، وما أنبت الناس.
واختلف في عشب الحرم المكي، هل يجوز أخذه لعلف البهائم؟ والأصح المنع لعموم الأدلة.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الحلال إذا قتل صيداً في الحرم المكي. فجمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة، وعامة فقهاء الأمصار على أن عليه الجزاء، وهو كجزاء المحرم المتقدم، إلا أن أبا حنيفة قال: ليس فيه الصوم، لأنه إتلاف محض من غير محرم.
وخالف في ذلك داود بن علي الظاهري، محتجاً بأن الأصل براءة الذمة ولم يرد في جزاء صيد الحرم نص، فيبقى على الأصل الذي هو براءة الذمة وقوله هذا قوي جداً.
واحتج الجمهور بأن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في حمام الحرم المكي بشاة شاة، روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن عباس، ولم ينقل عن غيرهم خلافهم، فيكون إجماعاً سكوتياً، واستدلوا أيضاً بقياسه على صيد المحرم، بجامع أن الكل صيد ممنوع لحق الله تعالى، وهذا الذي ذكرنا عن جمهور العلماء من أن كل ما يضمنه المحرم يضمنه من في الحرم يستثنى منه شيئان:
الأول: منهما القمل، فإنه مختلف في قتله في الإحرام ن وهو مباح في الحرم بلا خلاف.
الثاني: الصيد المائي مباح في الإ‘حرام بلا خلاف، واختلف في اصطياده من آبار الحرم وعيونه ن وكرهه جابر بن عبدالله، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر صيدها" فثبت حرمة الصيد لحرمة المكان و ظاهر النص شمول كل صيد، ولأنه صيد غير مؤذ فأشبه الظباء، وأجازه بعض العلماء محتجاً بأن الإحرام لم يحرمه، فكذلك الحرم، وعن الإمام أحمد روايتان في ذلك بالمنع والجواز.
وكذلك اختلف العلماء أيضاً في شجر الحرم المكي وخلاه، هل يجب على من قطعهما ضمان؟
(1/451)
فقالت جماعة من أهل العلم، منهم مالك، وأبو ثور، وداود: لا ضمان في شجره ونباته، وقال ابن المنذر: لا أجد دليلا أوجب به في شجر الحرم فرضاً من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، وأقول كما قال مالك: نستغفر الله تعالى.
والذين قالوا بضمانه، منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، إلا أن أبا حنيفة قال: يضمن كله بالقيمة، وقال الشافعي، وأحمد: يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة، والصغيرة بشاة، والخلا بقيمته والغصن بما نقص، فإن نبت ما قطع منه، فقال بعضهم: يسقط الضمان، وقال بعضهم بعدم سقوطه.
واستدل من قال في الدوحة بقرة، وفي الشجرة الجزلة شاة بآثار رويت في ذلك عن بعض الصحابة كعمر وابن عباس، والدوحة: هي الشجرة الكبيرة، والجزلة: الصغيرة.
المسألة الثانية عشرة: حرم المدينة اعلم أن جماهير العلماء على أن المدينة حرم أيضاً لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها، وخالف أبو حنيفة الجمهور، فقال: إن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له أحكام الحرم من تحريم قتل الصيد، وقطع الشجر، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترد هذا القول، وتقضي بأن ما بين لابتي المدينة حرم لا ينفر صيده، ولا يختلي خلاه إلا لعلف، فمن ذلك حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة" ، الحديث متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة، وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى متفق عليه أيضاً، وكان أبو هريرة يقول: لو رأيت الظباء ترتع في المدينة ما ذعرتها, وعن أبي هريرة أيضاً في المدينة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم شجرها أن يخبط أو يعضد رواه الإمام أحمد، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على المدينة، فقال: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" متفق عليه.
وللبخاري عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المدينة حرام من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث فيها فعليه لعنة الله والملائكة والناس
(1/452)
أجمعين" ، ولمسلم عن عاصم الأحول، قال: سألت أنساً أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ فقال: نعم هي حرام لا يختلى خلاها، الحديث.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني حرمت المدينة، حرام ما بين مأزميها ألا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف" ، رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها" ، رواه مسلم أيضاً.
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور" ، الحديث متفق عليه.
وعن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: "لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره" ، رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه الإمام أحمد.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها، أو يقتل صيدها" .
وقال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يخرج عنها أحد رغبة إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على ولائها وجهدها إلا كنت له شهيداً، أو شفيعاً يوم القيامة" ، رواه مسلم.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها" رواه مسلم أيضاً.
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى المدينة، فقال: "إنها حرم آمن" ، رواه مسلم في صحيحه أيضاً.
وعن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أبي سعيد رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني حرمت ما بين لابتي المدينة، كما حرم إبراهيم مكة" .
قال: وكان أبو سعيد الخدري يجد في يد أحدنا الطير، فيأخذه فيفكه من يده، ثم
(1/453)
يرسله، رواه مسلم في صحيحه أيضاً، وعن عبد الله بن عبادة الزرقي، أنه كان يصيد العصافير في بئر إهاب، وكانت لهم، قال: فرآني عبادة، وقد أخذت عصفوراً فانتزعه مني فأرسله، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرم ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم عليه السلام مكة" وكان عبادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البيهقي.
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: اصطدت طيراً بالقنبلة، فخرجت به في يدي فلقيني أبي عبد الرحمن بن عوف، فقال: ما هذا في يدك؟ فقلت: طير اصطدته بالقنبلة، فعرك أذني عركاً شديداً، وانتزعه من يدي، فأرسله، فقال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صيد ما بين لابتيها، رواه البيهقي أيضاً، والقنبلة: آلة يصاد بها النهس وهو طائر.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه وجد غلماناً قد ألجؤوا ثعلباً إلى زاوية فطردهم عنه، قال مالك: ولا أعلم إلا أنه قال: أفي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا، رواه البيهقي أيضاً.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه وجد رجلاً بالأسواف -وهو موضع بالمدينة- وقد اصطاد نهساً فأخذه زيد من يده فأرسله، ثم قال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم صيد ما بين لابتيها، رواه البيهقي، والرجل الذي اصطاد النهس هو شرحبيل بن سعد والنهي بضم النون وفتح الهاء بعدهما سين مهملة طير صغير فوق العصفور شبيه بالقنبرة.
والأحاديث في الباب كثيرة جداً، ولا شك في أن النصوص الصحيحة الصريحة التي أوردنا في حرم المدينة لا شك معها، ولا لبس في أنها حرام، لا ينفر صيدها، لا يقطع شجرها، ولا يختلي خلاها إلا لعلف، وما احتج به بعض أهل العلم على أنها غير حرام من قوله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل النعير يا أبا عمير" ، لا دليل فيه، لأنه محتمل لأن يكون ذلك قبل تحريم المدينة، ومحتمل لأن يكون صيد في الحل، ثم أدخل المدينة.
وقد استدل به بعض العلماء على جواز إمساك الصيد الذي صيد في الحل وإدخاله المدينة، وما كان محتملاً لهذه الاحتمالات لا تعارض به النصوص الصريحة الصحيحة الكثيرة التي لا لبس فيها ولا احتمال، فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء القائلين بحرمة المدينة، وهم جمهور علماء الأمة اختلفوا في صيد حرم المدينة هل يضمنه قاتله أو لا؟
(1/454)
وكذلك شجرها، فذهب كثير من العلماء منهم مالك والشافعي في الجديد، وأصحابهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وعليه أكثر أهل العلم إلى أنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام، فلم يجب فيه جزاء كصيد وج.
واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير وثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلاً" ، فذكره صلى الله عليه وسلم لهذا الوعيد الشديد في الآخرة، ولم يذكر كفارة في الدنيا دليل على أنه لا كفارة تجب فيه في الدنيا، وهو ظاهر.
وقال ابن أبي ذئب، وابن المنذر: يجب في صيد الحرم المدني الجزاء الواجب في صيد الحرم المكي، وهو قول الشافعي في القديم. واستدل أهل هذا القول بأنه صلى الله عليه وسلم صرح في الأحاديث الصحيحة المتقدمة بأنه حرم المدينة مثل تحريم إبراهيم لمكة، ومماثلة تحريمها تقتضي استواءهما في جزاء من انتهك الحرمة فيهما.
قال القرطبي، قال القاضي عبد الوهاب: وهذا القول أقيس عندي على أصولنا لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: ومذهب الجمهور في تفضيل مكة، وكثرة مضاعفة الصلاة فيها زيادة على المدينة بمائة ضعف أظهر لقيام الدليل عليه، والله تعالى أعلم.
وذهب بعض من قال بوجوب الجزاء في الحرم المدني إلى أن الجزاء فيه هو أخذ سلب قاتل الصيد، أو قاطع الشجر فيه.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول هو أقوى الأقوال دليلا. لما رواه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع شجراً، أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه، أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرده عليهم، رواه مسلم في صحيحه، وأحمد.
وما ذكره القرطبي في تفسيره رحمه الله من أن هذا الحكم خاص بسعد رضي الله عنه، مستدلاً بأن قوله "نفلنيه" أي أعطانيه ظاهر في الخصوص به دون غيره فيه عندي أمران:
(1/455)
الأول: أن هذا لا يكفي في الدلالة على الخصوص، لأن الأصل استواء الناس في الأحكام الشرعية إلا بدليل، وقوله "نفلنيه" ليس بدليل، لاحتمال أنه نفل كل من وجد قاطع شجر، أو قاتل صيد بالمدينة ثيابه، كما نفل سعداً، وهذا هو الظاهر.
الثاني: أن سعداً نفسه روي عنه تعميم الحكم، وشموله لغيره، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن سليمان بن أبي عبد الله قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلبه ثيابه فجاء مواليه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم، وقال: "من رأيتموه يصيد فيه شيئاً فلكم سلبه" . فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم أن أعطيكم ثمنه أعطيتكم وفي لفظ: "من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه" وروى هذا الحديث أيضاً الحاكم وصححه، وهو صريح في العموم وعدم الخصوص بسعد كما ترى، وفيه تفسير المراد بقوله "نفلنيه" وأنه عام لكل من وجد أحداً يفعل فيها ذلك.
وتضعيف بعضهم لهذا الحديث بأن في إسناده سليمان بن أبي عبد الله غير مقبول، لأن سليمان بن أبي عبد الله مقبول، قال فيه الذهبي: تابعي وثق، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": مقبول.
والمقبول عنده كما بينه في مقدمة تقريبه: هو من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله فهو مقبول حيث يتابع، وإلا فلين الحديث، وقال فيه ابن أبي حاتم: ليس بمشهور، ولكن يعتبر بحديثه اهـ.
وقد تابع سليمان بن أبي عبد الله في هذا الحديث عامر بن سعد عند مسلم وأحمد، ومولى لسعد عند أبي داود كلهم عن سعد رضي الله عنه، فاتضح رد تضعيفه مع ما قدمنا من أن الحاكم صححه، وأن الذهبي قال فيه: تابعي موثق.
والمراد بسلب قاطع الشجر أو قاتل الصيد في المدينة أخذ ثيابه. قال بعض العلماء: حتى سراويله.
والظاهر ما ذكره بعض أهل العلم من وجوب ترك ما يستر العورة المغلظة، والله تعالى أعلم.
وقال بعض العلماء: السلب هنا سلب القاتل، وفي مصرف هذا السلب ثلاثة أقوال:
(1/456)
أصحها: أنه للسالب كالقتيل، ودليله حديث سعد المذكور.
والثاني: أنه لفقراء المدينة.
و الثالث: أنه لبيت المال، والحق الأول.
وجمهور العلماء على أنه حمى رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه، أن قدره اثنا عشر ميلاً من جهات المدينة لا يجوز قطع شجره، ولا خلاه، كما رواه جابر بن عبد الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يهش هشاً رفيقاً" أخرجه أبو داود والبيهقي، ولم يضعفه أبو داود، والمعروف عن أبي داود رحمه الله إنه إن سكت عن عن الكلام في حديث فأقل درجاته عنده الحسن.
وقال النووي في شرح المهذب بعد أن ساق حديث جابر المذكور: رواه أبو داود بإسناد غير قوي لكنه لم يضعفه اهـ، ويعتضد هذا الحديث بما رواه البيهقي بإسناده عن محمد بن زياد قال: كان جدى مولي لعثمان بن مظعون، وكان يلي أرضاً لعثمان فيها بقل وقثاء. قال: فربما أتاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف النهار، واضعاً ثوبه على رأسه يتعاهد الحمى، ألا يعضد شجره، ولا يخبط. قال: فيجلس إلي فيحدثني، وأطعمه من القثاء والبقل، فقال له يوماً: أراك لا تخرج من ها هنا. قال: قلت: أجل. قال: إني أستعملك على ما ها هنا فمن رأيت يعضد شجراً أو يخبط فخذ فأسه، وحبله، قال: قلت آخذ رداءه، قال: لا وعامة العلماء على أن صيد الحمى المذكور غير حرام، لأنه ليس بحرم، وإنما هو حمى حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم للخيل وإبل الصدقة والجزية، ونحو ذلك.
واختلف في شجر الحمى هل يضمنه قاطعه؟ والأكثرون على أنه لا ضمان فيه، وأصح القولين عند الشافعية، وجوب الضمان فيه بالقيمة، ولا يسلب قاطعه، وتصرف القيمة في مصرف نعم الزكاة والجزية.
المسألة الثالثة عشرة: اعلم أن جماهير العلماء على إباحة صيد وج، وقطع شجره. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: أكره صيد وج، وحمله المحققون من أصحابه على كراهة التحريم.
(1/457)
واختلفوا فيه على القول بحرمته، هل فيه جزاء كحرم المدينة أو لا شيء فيه؟ ولكن يؤدب قاتله، وعليه أكثر الشافعية.
وحجة من قال بحرمة صيدوج ما رواه أبو داود، وأحمد والبخاري في تاريخه، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيد وج محرم" الحديث.
قال ابن حجر في "التلخيص": سكت عليه أبو داود وحسنه المنذري، وسكت عليه عبد الحق، فتعقبه ابن القطان بما نقل عن البخاري، أنه لم يصح، وكذا قال الأزدي.
وذكر الذهبي، أن الشافعي صححه، وذكر الخلال أن أحمد ضعفه، وقال ابن حبان في رواية المنفرد به، وهو محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي كان يخطىء، ومقتضاه تضعيف الحديث فإنه ليس له غيره فإن كان أخطأ فيه فهو ضعيف، وقال العقيلي: لا يتابع إلا من جهة تقاربه في الضعف، وقال النووي في شرح المهذب: إسناده ضعيف.
وذكر البخاري في تاريخه في ترجمة عبد الله بن إنسان أنه لا يصح.
وقال ابن حجر في "التقريب" في محمد بن عبد الله بن إنسان الثقفي الطائفي المذكور: لين الحديث، وكذلك أبوه عبد الله الذي هو شيخه في هذا الحديث: قال فيه أيضاً: لين الحديث، وقال ابن قدامة في المغني في هذا الحديث في صيد وج: ضعفه أحمد ذكره الخلال في كتاب "العلل"، فإذا عرفت هذا ظهر لك حجة الجمهور في إباحة صيدوج، وشجرة كون، الحديث لم يثبت، والأصل براءة الذمة، ووج -بفتح الواو، وتشديد الجيم- أرض بالطائف. وقال بعض العلماء: هو واد بصحراء الطائف، وليس المراد به نفس بلدة الطائف. وقيل: هو كل أرض الطائف، وقيل هو اسم لحصون الطائف وقيل، لواحد منها وربما التبس وج المذكور بوح -بالحاء المهملة- وهي ناحية نعمان.
فإذا عرفت حكم صيد المحرم، وحكم صيد مكة، والمدينة، ووج، مما ذكرنا فاعلم أن الصيد المحرم إذا كان بعض قوائمه في الحل، وبعضها في الحرم، أو كان على غصن ممتد في الحل، وأصل شجرته في الحرم، فاصطياده حرام على التحقيق تغليباً
(1/458)
لجانب حرمة الحرم فيهما.
أما إذا كان أصل الشجرة في الحل، وأغصانها ممتدة في الحرم، فاصطاد طيراً واقعاً على الأغصان الممتدة في الحرم، فلا إشكال في أنه مصطاد في الحرم، لكون الطير في هواء الحرم.
واعلم أن ما ادعاه بعض الحنفية، من أن أحاديث تحديد حرم المدينة مضطربة لأنه وقع في بعض الروايات باللابتين، وفي بعضها بالحرتين، وفي بعضها بالجبلين، وفي بعضها بالمأزمين، وفي بعضها بعير وثور، غير صحيح لظهور الجمع بكل وضوح. لأن اللابتين هما الحرتان المعروفتان، وهما حجارة سود على جوانب المدينة والجبلان هما المأزمان، وهما عير وثور والمدينة بين الحرتين، كما أنها أيضاً بين ثور وعير، كما يشاهده من نظرها. وثور جبيل صغير يميل إلى الحمرة بتدوير خلف أحد من جهة الشمال.
فمن ادعى من العلماء أنه ليس في المدينة جبل يسمى ثوراً، فغلط منه. لأنه معروف عند الناس إلى اليوم، مع أنه ثبت في الحديث الصحيح.
واعلم أنه على قراءة الكوفيين "فَجَزَاءٌ مِثْلُ" الآية، بتنوين جزاء، ورفع مثل فالأمر واضح، وعلى قراءة الجمهور: {فجزاءُ مثلِ} بالإضافة، فأظهر الأقوال أن الإضافة بيانية، أي جزاء هو مثل ما قتل من النعم، فيرجع معناه إلى الأول، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [5/105]؛ لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد، وممن قال بهذا حذيفة، وسعيد بن المسيب، كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره، وابن جرير، ونقله القرطبي عن سعيد ابن المسيب، وأبي عبيد القاسم بن سلام، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن مسعود.
فمن العلماء من قال: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، أي: أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جداً ولا ينبغي
(1/459)
العدول عنه لمنصف.
ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد، أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ, إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ, إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [103/3،2،1]، فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل. وقد دلت الآيات كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [8/25]، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده.
فمن ذلك ما خرجه الشيخان في صحيحهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً مرعوباً يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج، مثل هذه" وحلق بإصبعيه الإبهام، والتي تليها فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث" .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً" ، أخرجه البخاري والترمذي.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده، أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه" ، رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشربيه وقعيده، فلما فعلوا
(1/460)
ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض" ، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ, كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ, تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ, وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [5/81،80،79،78]، ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعننكم كما لعنهم" .
رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن، وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى يأطروهم على الحق أطرا".
ومعنى تأطروهم أي تعطفوهم، ومعنى تقصرونه: تحبسونه، والأحاديث في الباب كثيرة جداً، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [3/104]، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [3/110]، وقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ, كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، وقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [18/29]، وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [15/94]، وقوله: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [7/165]، وقوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [8/25].
والتحقيق في معناها أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن الناس
(1/461)
إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب، صالحهم وطالحهم وبه فسرها جماعة من أهل العلم والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك كما قدمنا طرفاً منها.
مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
المسألة الأولى: اعلم أن كلا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة علىأن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهي عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها.
وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضاً، أما السنة المذكورة فقوله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان ما أصابك، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر، فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" ، أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
ومعنى تندلق أقتابه: تتدلى أمعاؤه، أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسرى بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" أخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد والبزار، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن حيان وابن مردويه والبيهقي، كما نقله عنهم الشوكاني وغيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، فقال ابن عباس: أو بلغت ذلك؟ فقال أرجو، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال: وما هي؟ قال قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الآية [2/44]، وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [61/3]، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} الآية،
(1/462)
[11/88]، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وابن مردوديه، وابن عساكر، كما نقله عنهم أيضاً الشوكاني وغيره.
واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض النار، ليس على الأمر بالمعروف. وإنما هو على ارتكابه المنكر عالماً بذلك، ينصح الناس عنه، فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح، ولا طالح، والوعيد على المعصية، لا على الأمر بالمعروف، لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير، ولقد أجاد من قال: [الكامل]
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال الآخر: [الطويل]
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريضا
وقال الآخر: [الطويل]
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر ... به تلف من إياه تأمر آتيا
وأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضاً، فهي قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ, كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ, فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [74/51،50،49]، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فيجب على المذكر -بالكسر- والمذكر -بالفتح- أن يعملا بمقتصى التذكرة، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها، لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم.
المسألة الثانية: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به، أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر، لأنه إن كان جاهلاً بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهي عما ليس بمنكر، ولا سيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل وصار فيه الحق منكراً، والمنكر معروفاً والله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [12/108]، فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة، وحسن الأسلوب، واللطافة مع إيضاح الحق. لقوله تعالى: {ادْعُ
(1/463)
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} الآية [16/125]، فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق، فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسناداً مطلقاً، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس، لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل، وأتباعهم وهو مستلزم للأذى من الناس، لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده، فيما قص الله عنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} الآية [31/17]، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل "أو مخرجي هم؟" يعني قريشاً أخبره ورقة أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما ترك الحق لعمر صديقاً، واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر، إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين.
وأما إن كان من مسائل الاجتهاد، فيما لا نص فيه فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكراً، فالمصيب منهم مأجور بإصابته، والمخطىء منهم معذور كما هو معروف في محله.
واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة. أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه. فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت، وهو المطلوب وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده، وتمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} الآية [57/25].
ففيه الإشارة إلى أعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
المسألة الثالثة: يشترط في جواز الأمر بالمعروف، ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر، لإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين. قال في مراقي السعود: [الرجز]
(1/464)
وارتكب لأخف من ضرين ... وخيرن لدى استوا هذين
ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه، كما يدل له ظاهر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [87/9]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم" ، وفي لفظ قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا، أو منهم قال: "بل أجر خمسين منكم" ، أخرجه الترمذي، والحاكم وصححاه، وأبو داود وابن ماجه وابن جرير، والبغوي في معجمه، وابن أبي حاتم، والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردوديه، والبيهقي في الشعب من حديث ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وقال الراوي هذا الحديث عنه أبو أمية الشعباني، وقد سأله عن قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمر" إلى آخر الحديث.
وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع والهوى المتبع الخ مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف. فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه.
تنبيه:
الأمر بالمعروف له ثلاث حكم:
الأولى: إقامة حجة الله على خلقه، كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [4/165].
الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت، {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} الآية [7/164]، وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [51/54]، فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة، لكان ملوماً.
الثالثة: رجاء النفع للمأمور، كما قال تعالى: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ
(1/465)
يَتَّقُونَ} ، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [51/55]، وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا "دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب" في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [87/9]، ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف كزوجته وأولاده ونحوهم، وينهاهم عن المنكر؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} الآية [66/6]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" ، الحديث.
المسألة الرابعة: اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" ، أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطان جائر" رواه النسائي بإسناد صحيح.
كما قاله النووي رحمه الله، واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث:
الأولى: أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم، ولو لم ينفع نصحه ويجب
أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف. لأن ذلك هو مظنة الفائدة.
الثانية: ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره، وتأدية نصحه لمنكر أعظم، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب، وكراهة منكره والسخط عليه، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان.
الثالثة: أن يكون راضياً بالمنكر الذي يعمله السلطان متابعاً له عليه، فهذا شريكه في الإثم، والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين، أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" ، قالوا:
(1/466)
يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة" أخرجه مسلم في صحيحه.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كره" يعني بقلبه، ولم يستطع إنكاراً بيد ولا لسان فقد برىء من الإثم، وأدى وظيفته. ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بها وتابع عليها، فهو عاص كفاعلها.
ونظيره حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" وقوله في هذه الآية الكريمة: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، صيغة إغراء يعني: الزموا حفظها كما أشار له في "الخلاصة" بقوله:[الرجز]
والفعل من أسمائه عليكا ... وهكذا دونك مع إليكا
قوله تعالى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} , ذكر في هذه الآية الكريمة أن كاتم الشهادة آثم، وبين في موضع آخر أن هذا الإثم من الآثام القلبية، وهو قوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [2/283]، ومعلوم أن منشأ الآثام والطاعات جميعاً من القلب، لأنه إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد الجسد كله.
قوله تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} , معناه إخراجهم من قبورهم أحياء بمشيئة الله، وقدرته كما أوضحه بقوله: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [3/49].
قوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآية،لم يذكر هنا كيفية كفه إياهم عنه، ولكنه بينه في مواضع أخر، كقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً, بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [4/158]، وقوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [3/55]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} الآية، قال بعض أهل العلم: المراد بالإيحاء إلى الحواريين الإلهام، ويدل له ورود الإيحاء في القرآن بمعنى الإلهام كقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية [16/68]، يعني ألهمها، قال بعض العلماء:
(1/467)
ومنه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [28/7]، وقال بعض العلماء معناه: أوحيت إلى الحواريين إيحاء حقيقياً بواسطة عيسى عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام لمحمد رشيد رضا

  حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح  المحمدي العام لمحمد رشيد رضا تعليق: محمد ناصر الدين الألباني  ( صحيح ) عن عائشة رضي الله ...