كتاب صفة الجنة للحافظ ضياء المقدسي

كتاب صفة الجنة -الحافظ ضياء الدين-أأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي

Translate

الثلاثاء، 17 يناير 2023

ج15.وج16.الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي

 

ج15. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

أي أعنى المتعيب. والبينات: الحجج والبراهين. والزبر: الكتب. وقد تقدم في آل عمران «1». (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) يعنى القرآن. (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى في مقدمة الكتاب، والحمد لله. (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيتعظون.

[سورة النحل (16): الآيات 45 الى 47]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
قوله تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. (أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفا أي غاب به فيها، ومنه قوله:" فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ «2»". وخسف هو في الأرض وخسف به. والاستفهام بمعنى الإنكار، أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) كما فعل بقوم لوط وغيرهم. وقيل: يريد يوم بدر، فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن شي منه في حسابهم. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي في أسفارهم وتصرفهم، قاله قتادة. (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي سابقين لله ولا فائتيه. وقيل:" فِي تَقَلُّبِهِمْ" على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أي على تنقص من أموالهم
__________
(1). راجع ج 4 ص 296.
(2). راجع ج 13 ص 317.

ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الاعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلهم. وقال الضحاك: هو من الخوف، المعنى: يأخذ طائفة ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن:" عَلى تَخَوُّفٍ" أن يأخذ القرية فتخافه القرية الأخرى، وهذا هو معنى القول الذي قبله بعينه، وهما راجعان إلى المعنى الأول، وأن التخوف التنقص، تخوفه تنقصه، وتخوفه الدهر وتخونه- (بالفاء والنون) بمعنى، يقال: تخوننى فلان حقي إذا تنقصك. قال ذو الرمة:
لا، بل هو الشوق من دار تخونها ... مرا سحاب ومرا بارح ترب «1»
وقال لبيد:
تخونها نزولي وارتحالي «2»

أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدى: التخوف (بالفاء) التنقص، لغة لازد شنوءة. وأنشد:
تخوف غدرهم مالى وأهدى ... سلاسل في الحلوق لها صليل
وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل:" أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ" فسكت الناس، فقال شيخ من بنى هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته، فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم، قال شاعرنا أبو كبير «3» الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن «4»
__________
(1). البارح: الريح الحارة في الصيف التي فيها تراب كثير.
(2). هذا عجز لبيت، وصدره كما في اللسان:
عذافرة تقمص بالردافي

(3). كذا في الأصول، والذي في اللسان أنه لابن مقبل وقيل: لذي الرمة.
(4). القرد: معناه هنا: المتراكم بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة: شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسي.

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)

فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا، أي طال وارتفع، فهو تأمك. والسفن والمسفن ما ينجر به الخشب. وقال الليث بن سعد:" عَلى تَخَوُّفٍ" على عجل. وقال: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة:" عَلى تَخَوُّفٍ" أن يعاقب أو يتجاوز. (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي لا يعاجل بل يمهل.

[سورة النحل (16): آية 48]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48)
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش" تروا" بالتاء، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات، وهو الاختيار. (مِنْ شَيْءٍ) يعنى من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل، قاله ابن عباس. وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى، فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها، ومنه قيل للظل بالعشي: في، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، أي رجع. والفيء الرجوع، ومنه" حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «1»". روى معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما، وقد مضى هذا المعنى في سورة" الرعد" «2». وقال الزجاج: يعنى سجود الجسم، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة، وهذا عام في كل جسم. ومعنى (وَهُمْ داخِرُونَ) أي خاضعون صاغرون. والدخور: الصغار والذل. يقال: دحر الرجل (بالفتح) فهو داخر، وأدخره الله. وقال ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس ... ومنحخر «3» في غير أرضك في حجر
__________
(1). راجع ج 16 ص 315.
(2). راجع ج 9 ص 302.
(3). كذا في كتب اللغة. يقال: انجحر الضب إذا دخل الحجر. والذي في الأصول وديوان ذى والبرمة:" متحجر في غير أرضك في حجر" بتقديم الحاء على الجيم في الكلمتين، وكذا في ج.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

كذا نسبه الماوردي لذي الرمة، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال: المخيس اسم سجن كان بالعراق، أي موضع التذلل، وقال «1»:
أما تراني كيسا مكيسا ... بنيت بعد نافع مخيسا
ووحد اليمين في قوله:" عَنِ الْيَمِينِ" وجمع الشمال، لان معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال «2»: عن الايمان والشمائل، واليمين والشمال، أو اليمين والشمال لجاز، لان المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شي واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى، كقوله تعالى:" خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «3» وكقوله تعالى:" وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «4» ولو قال على أسماعهم وإلى الأنوار لجاز. ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ" ما" والشمال على معناه. ومثل هذا في الكلام كثير. قال الشاعر:
الواردون وتيم في ذرأ سبإ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس «5»
ولم يقل جلود. وقيل: وحد اليمين لام الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات «6»، فسماها شمائل.

[سورة النحل (16): الآيات 49 الى 50]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أي من كل ما يدب على الأرض. (وَالْمَلائِكَةُ) يعنى الملائكة الذين في الأرض، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم
__________
(1). القائل هو سيدنا على رضى الله عنه. ونافع: سجن بالكوفة كان غير مستوثق البناء وكان من قصب، وكان المحبوسون يهربون منه. وقيل: إنه نقب وأفلت منه المحبوسون، فهدمه على رضى الله عنه وبنى المخيس لهم من مدر.
(2). أي قائل في غير القرآن. [.....]
(3). راجع ج 1 ص 189.
(4). راجع ج 6 ص 117.
(5). البيت لجرير. ورواية ديوانه:
تدعوك تيم وتيم في قرى سبإ

إلخ
(6). هكذا وردت هذه الجملة في الأصول. ولعل صوابها: لان الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين في حال، ثم يميل إلى جهة الشمال في حالات، فسماها شمائل. والذي في البحر لابي حيان:" وقيل: وحد اليمين وجمع الشمائل لان الابتداء عن اليمين، ثم ينقبض شيئا فشيئا حالا بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال فتعدد تعدد الحالات".

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)

بشرف المنزلة، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها، كقوله:" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «1»". وقيل: لخروجهم من جملة ما يدب لما جعل الله لهم من الأجنحة، فلم يدخلوا في الجملة فلذلك ذكروا. وقيل: أراد" وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ" من الملائكة والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب،" وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ" وتسجد ملائكة الأرض. (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادة ربهم. وهذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. ومعنى (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) أي عقاب ربهم وعذابه، لان العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وقيل: المعنى يخافون قدرة ربهم التي هي فوق قدرتهم، ففي الكلام حذف. وقيل: معنى" يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ" يعنى الملائكة، يخافون ربهم وهى من فوق ما في الأرض من دابة ومع ذلك يخافون، فلان يخاف من دونهم أولى، دليل هذا القول قوله تعالى: (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) يعنى الملائكة.

[سورة النحل (16): آية 51]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
قوله تعالى: (وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) قيل: المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: جاء قوله: «اثنين» توكيدا. ولما كان الإله الحق لا يتعدد وأن كل من يتعدد فليس بإله، اقتصر على ذكر الاثنين، لأنه قصد نفي التعدد. (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) يعني ذاته المقدسة. وقد قام الدليل العقلي والشرعي على وحدانيته حسبما تقدم في البقرة بيانه «2» وذكرناه في اسمه الواحد في شرح الأسماء، والحمد لله. (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي خافون. وقد تقدم في البقرة «3».

[سورة النحل (16): آية 52]
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
__________
(1). راجع ج 17 ص 185.
(2). راجع ج 2 ص 190 وما بعدها.
(3). راجع ج 1 ص 332.

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

قوله تعالى: (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) الدين: الطاعة والإخلاص. و" واصِباً" معناه دائما، قال الفراء، حكاه الجوهري. وصب الشيء يصب وصوبا، أي دام. ووصب الرجل على الامر إذا واظب عليه. والمعنى: طاعة الله واجبة أبدا. وممن قال واصبا دائما: الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. ومنه قوله تعالى:" وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ «1»" أي دائم. وقال الدولي:
لا أبتغى الحمد القليل بقاؤه ... بدم يكون الدهر أجمع واصبا
أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما:
ما أبتغى الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقيل: الوصب التعب والإعياء، أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها. ومنه قول الشاعر:
لا يمسك الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر «2»
وقال ابن عباس:" واصِباً" واجبا. الفراء والكلبي: خالصا. (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) أي لا ينبغي أن تتقوا غير الله." فَغَيْرَ" نصب ب" تَتَّقُونَ".

[سورة النحل (16): الآيات 53 الى 55]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
قوله تعالى: (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) قال الفراء." ما" بمعنى الجزاء. والباء في" بِكُمْ" متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم." مِنْ نِعْمَةٍ" أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ)
__________ (1). راجع ج 15 ص 64.
(2). الشعر لأعشى باهله. والشطر الأول من بيت، والثاني من بيت آخر. والبيتان:
لا يتأرى لما في القير يرقبه ... ولا يعض على شرسوفة الصفر
لا يغمز الساق من أين ولا نصب ... ولا يزال أمام القوم يقتفر
تأرى بالمكان: أمام به. والشرسوف: غضروف كل عظم رخص يؤكل معلق بكل ضلع مثل غضروف الكتف. والشقر (بالتحريك): داء في البطن يصفر منه الوجه. وقيل: الصفر هنا الجوع. وافتقر الأثر: تتبعه.

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)

أي السقم والبلاء والقحط. فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجار جؤارا. والجؤار مثل الخوار، يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح. وقرا بعضهم" عجلا جسدا له جؤار «1»"، حكاه الأخفش. وجار الرجل إلى الله، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى «2» يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف «3» وتجأرا
(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) أي البلاء والسقم. (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار. فمعنى الكلام التعجيب من الاشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقد تقدم في" الانعام «4» ويونس «5»"، ويأتي في" سبحان" وغيرها. وقال الزجاج: هذا خاص بمن كفر. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء. أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي. وقيل لام العاقبة. وقيل:" لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ" أي ليجعلوا النعمة سببا للكفر، وكل هذا فعل خبيث، كما قال:
والكفر مخبثة لنفس المنعم «6»

(فَتَمَتَّعُوا) أمر تهديد. وقرا عبد الله" قل تمتعوا". (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي عاقبة أمركم.

[سورة النحل (16): آية 56]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) ذكر نوعا آخر من جهالتهم، وأنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضر وينفع- وهى الأصنام- شيئا من أموالهم يتقربون به إليه، قال مجاهد وقتادة وغيرهما. ف" يَعْلَمُونَ" على هذا للمشركين. وقيل هي
__________
(1). راجع ج 7 ص 284 وص 8 و235 ج 11.
(2). كذا في الأصول. والذي في اللسان مادة" ضيف" وكتاب سيبويه ج 2 ص 174 أنه للنابغة الجعدي.
(3). في الأصول:" تطيف" بالطاء. والتصويب عن اللسان وكتاب سيبويه. وتضيف: تشفق ومحذر والنكير: الإنكار. والجؤار: الصياح. والمعنى: أن هذه البقرة فقدت ولدها فطافت تطلبه ثلاث ليال وأيامها، ولا إنكار عندها ولا انتصار مما عدا على ولدها إلا أن تشفق وتحذر وتصيح.
(4). راجع ج 7 ص 284 وص 8 و235 ج 11.
(5). راجع ج 8 ص 317. [.....]
(6). هذا عجز بيت من معلقة عنترة، وصدره:
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)

للأوثان، وجرى بالواو والنون مجرى من يعقل، فهو رد على" ما" ومفعول يعلم محذوف والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي تعلم شيئا نصيبا. وقد مضى في" الانعام" تفسير هذا المعنى في قوله:" فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا «1»" ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: (تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ) وهذا سؤال توبيخ. (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي تختلقونه من الكذب على الله أنه أمركم بهذا.

[سورة النحل (16): آية 57]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57)
قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون الحقوا البنات بالبنات. (سُبْحانَهُ) نزه نفسه وعظمها عما نسبوه إليه من اتخاذ الأولاد. (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي يجعلون لأنفسهم البنين ويأنفون من البنات. وموضع" ما" رفع بالابتداء، والخبر" لَهُمْ" وتم الكلام عند قوله:" سُبْحانَهُ". وأجاز الفراء كونها نصبا، على تقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. وأنكره الزجاج وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم.

[سورة النحل (16): آية 58]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
قوله تعالى: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ) أي أخبر أحدهم بولادة بنت. (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي متغيرا، وليس يريد السواد الذي هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه بالبنت. والعرب تقول لكل من لقى مكروها: قد اسود وجهه غما وحزنا قال الزجاج. وحكى الماوردي أن المراد سواد اللون قال: وهو قول الجمهور. (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلئ من الغم. وقال ابن عباس: حزين. وقال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه فلا يظهره. وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الغم، مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة، قال على بن عيسى. وقد تقدم هذا المعنى في سورة" يوسف «2»".
__________
(1). راجع ج 7 ص 89.
(2). راجع ج 9 ص 249.

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)

[سورة النحل (16): آية 59]
يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)
قوله تعالى: (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) أي يختفى ويتغيب. (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. (أَيُمْسِكُهُ) ذكر الكناية لأنه مردود على" ما". (عَلى هُونٍ) أي هوان. وكذا قرأ عيسى الثقفي" عَلى هُونٍ" والهون الهوان بلغة قريش، قاله اليزيدي وحكاه أبو عبيد عن الكسائي. وقال الفراء: هو القليل بلغة تميم. وقال الكسائي: هو البلاء والمشقة. وقالت الخنساء:
نهين النفوس وهون النفوس ... يوم الكريهة أبقى لها وقرا
الأعمش" أيمسكه على سوء" ذكره النحاس، قال: وقرا الجحدري" أم يدسها في التراب" يرده على قوله:" بِالْأُنْثى " ويلزمه أن يقرأ" أيمسكها «1»". وقيل: يرجع الهوان إلى البنت، أي أيمسكها وهى مهانة عنده. وقيل: يرجع إلى المولود له، أيمسكه على رغم أنفه أم يدسه في التراب، وهو ما كانوا يفعلونه من دفن البنت حية. قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم وطمع غير الاكفاء فيهن. وكان صعصعة ابن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك. فقال الفرزدق يفتخر:
وعمى «2» الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد
وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف، كالمدسوس في التراب لإخفائه عن الأبصار، وهذا محتمل. مسألة- ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثته «3»
__________
(1). قال محققة: في الشواذ أن الجحدري يقرأ كذلك. كأن المصنف لم يقف عليها.
(2). الرواية: وجدي، وأن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق كما في الاستيعاب.
(3). في ج: فخبرته.

حديثها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من ابتلى من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار". ففي هذا الحديث ما يدل على أن البنات بلية، ثم أخبر أن في الصبر عليهن والإحسان إليهن ما يقي من النار. وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار". وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو" وضم أصابعه، خرجهما أيضا مسلم رحمه الله! وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش عن أبى وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له سترا أو حجابا من النار". وخطب إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء فقال:
إنى وإن سيق إلى المهر ... ألف وعبدان وخور «1» عشر
أحب أصهاري إلى القبر

وقال عبد الله بن طاهر:
لكل أبى بنت يراعى شئونها ... ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها ... وقبر يواريها وخيرهم القبر
(أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي في إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم. نظيره" أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى . تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى " أي جائرة، وسيأتي «2».
__________
(1). الخور: جمع خوارة على غير قياس،. هي الناقة الغزيرة اللبن.
(2). راجع ج 17 ص 102.

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

[سورة النحل (16): آية 60]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قوله تعالى: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي لهؤلاء الواصفين «1» لله البنات (مَثَلُ السَّوْءِ) أي صفة السوء من الجهل والكفر. وقيل: هو وصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد. وقيل: أي العذاب والنار. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ) أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد، قاله قتادة. وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز. وقال ابن عباس:" مَثَلُ السَّوْءِ" النار، و" الْمَثَلُ الْأَعْلى " شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «2»". وقيل:" وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى " كقوله:" اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ «3»". فإن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال:" فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ «4»" فالجواب أن قوله:" فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ" أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص، أي لا تضربوا لله مثلا يقتضى نقصا وتشبيها بالخلق. والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم معناه «5».

[سورة النحل (16): آية 61]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أي بكفرهم وافترائهم، وعاجلهم. (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض، فهو كناية عن غير مذكور، لكن دل عليه قوله:" مِنْ دَابَّةٍ" فإن الدابة لا تدب إلا على الأرض. والمعنى المراد من دابة كافرة فهو خاص. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء. وقيل: المراد بالآية العموم، أي لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على
__________
(1). في ج وو: الواضعين.
(2). راجع ج 16 ص 7.
(3). راجع ج 12 ص و22.
(4). راجع ص 146 من هذا الجزء.
(5). راجع ج 1 ص 287 وج 2 ص 131.

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

ظهر هذه الأرض من دابة من نبى ولا غيره، وهذا قول الحسن. وقال ابن مسعود وقرا هذه الآية: لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان «1» في حجرها، ولامسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل، كما قال:" وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «2»" (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم. (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وقد تقدم «3» فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟ قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة. وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم «4»". وعن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم" فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال:" يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته". وقد أتينا على هذا المعنى مجودا في" كتاب التذكرة" وتقدم في المائدة وآخر الانعام «5» ما فيه كفاية، والحمد لله. وقيل: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم.

[سورة النحل (16): آية 62]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي من البنات. (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ. أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ) قال مجاهدك هو قولهم أن لهم البنين ولله البنات." الْكَذِبَ" مفعول" تصف" و" أَنَّ" في محل نصب بدل من الكذب، لأنه
__________
(1). الجعلان (بكسر الجيم جمع جعل، كصرد): دابة سوداء من دواب الأرض. [.....]
(2). راجع ج 16 ص 30.
(3). راجع ج 7 ص 202.
(4). في صحيح مسلم «على أعمالهم».
(5). راجع ج 6 ص 352 وج 7 ص 157.

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

بيان له. وقيل:" الْحُسْنى " الجزاء الحسن، قال الزجاج. وقرا ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن" الْكَذِبَ" برفع الكاف والذال والباء نعتا للالسنة، وكذا" وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ «1»". والكذب جمع كذوب، مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. (لا) رد لقولهم، وتم الكلام، أي ليس كما تزعمون. (جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي حقا أن لهم النار. وقد تقدم مستوفى «2». (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) متركون منسيون في النار، قاله ابن الاعرابي وأبو عبيدة والكسائي والفراء، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير أيضا: مبعدون. قتادة والحسن: معجلون إلى النار مقدمون إليها. والفارط: الذي يتقدم إلى الماء، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. وقال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فراط لوراد
والفراط: المتقدمون في طلب الماء. والوراد: المتأخرون. وقرا نافع في رواية ورش" مفرطون" بكسر الراء وتخفيفها، وهى قراءة عبد الله بن مسعود وابن عباس، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعصية، أي أفرطوا فيها. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرا أبو جعفر القارئ" مفرطون" بكسر الراء وتشديدها، أي مضيعون أمر الله، فهو من التفريط في الواجب.

[سورة النحل (16): آية 63]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
قوله تعالى: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي أعمالهم الخبيثة. هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن من تقدمه من الأنبياء قد كفر بهم قومهم. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) أي ناصر هم في الدنيا على زعمهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
__________
(1). راجع ص 95 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 9 ص 20

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

في الآخر وقيل:" فَهُوَ وَلِيُّهُمُ" أي قرينهم في النار." الْيَوْمَ" يعنى يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته. وقيل: يقال لهم يوم القيامة: هذا وليكلم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم.

[سورة النحل (16): آية 64]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
قوله تعالى: (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) من الدين والأحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك. وعطفك" هُدىً وَرَحْمَةً" على موضع قوله:" لِتُبَيِّنَ" لان محله نصب. ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانا للناس. (وَهُدىً) أي رشدا (وَرَحْمَةً) للمؤمنين.

[سورة النحل (16): آية 65]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي السحاب. (ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) عاد الكلام إلى تعداد النعم وبيان كمال القدرة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة على البعث وعلى وحدانيته، إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) عن الله تعالى بالقلوب لا بالآذان، (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «1»).

[سورة النحل (16): آية 66]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66)
__________
(1). راجع ج 12 ص 76.

فيه عشر مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) قد تقدم القول في الانعام «1»، وهى هنا الأصناف الاربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز." لَعِبْرَةً" أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه" فَاعْتَبِرُوا «2»". وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الانعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شي. ومن أعظم العبر برئ يحمل مذنبا. الثانية- قوله تعالى: (نُسْقِيكُمْ) قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر (بفتح النون) من سقى يسقى. وقرا الباقون وحفص عن عاصم (بضم النون) من أسقى يسقى، وهى قراءة الكوفيين واهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لبيد:
سقى قومي بنى مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال
وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لان يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته، قال ابن عزيز، وقد تقدم «3». وقرأت فرقة" تسقيكم" بالتاء، وهى ضعيفة، يعنى الانعام. وقرى بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين، ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير. الثالثة- قوله تعالى: (مِمَّا فِي بُطُونِها) اختلف الناس في الضمير من قوله:" مِمَّا فِي بُطُونِهِ" على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه: العرب تخبر عن الانعام بخبر الواحد. قال ابن العربي: وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الانعام وهى الانعام، جاز عود الضمير بالتذكير،
__________
(1). راجع ج 7 ص، 111.
(2). راجع ج 18 ص 5.
(3). راجع ج 1 ص، 418

وقال الزجاج، وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور، وقد قال الله تعالى:" إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «1»" وقال الشاعر:
مثل الفراخ نتفت حواصله

ومثله كثير. وقال الكسائي:" مِمَّا فِي بُطُونِهِ" أي مما في بطون بعضه، إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة. وقال الفراء: الانعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الانعام. قال ابن العربي: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال:" نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها «2»" وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما. حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل «3» يبرين وتيهاء فلسطين. الرابعة- لاستنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جئ به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم، لان اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة [رضى الله عنها «4»] في حديث أفلح أخى أبى القعيس" فللمرأة السقي وللرجل اللقاح" فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى قول في تحريم لبن الفحل في" النساء «5»" والحمد لله. الخامسة- قوله تعالى: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم. والفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم، فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف
__________
(1). راجع ج 91 ص 213.
(2). راجع ج 12 ص، 118.
(3). رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من الحجر اليمامة. (ياقوت).
(4). من ج. [.....]
(5). راجع ج 5 ص 111.

فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجرى اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش،" حكمة بالغة فما تغن «1» النذر". (خالِصاً) يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد. وقال ابن بحر: خالصا بياضه. قال النابغة:
بخالصة الأردان «2» خضر المناكب

أي بيض الأكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شي بالمصلحة. السادسة- قال النقاش: في هذا دليل على أن المنى ليس بنجس. وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المنى على مخرج البول طاهرا. قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم واخذ شنيع، اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة، وليس المنى من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه. قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأى منة أعظم وأرفع من خروج المنى الذي يكون عنه الإنسان المكرم، وقد قال تعالى:" يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ «3»"، وقال:" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً «4»" وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر، وقد قيل: إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة، فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قاله العلماء. وقد تقدم في البقرة. فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، لحديث عائشة رضى الله عنها قالت: كنت افركه من ثوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يابسا بظفرى. قال الشافعي: فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد
__________
(1). راجع ج 71 ص 128.
(2). الأردان: جمع ردن (بضم الراء وسكون الدال) وهو أصل الحكم.
(3). راجع ج 20 ص 4.
(4). راجع ص 142 من هذا الجزء.

ابن أبى وقاص يفرك المنى من ثوبه. وقال ابن عباس: هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: كنت أغسل المنى من ثوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب لا لنجاسة، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث. والله أعلم. وقال مالك وأصحابه والأوزاعي: هو نجس. قال مالك: غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين. ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم. واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة. وعلى هذين القولين في نجاسة المنى وطهارته التابعون. السابعة- في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به، لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان «1» طاهر حيا وميتا فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة، لان الصبى قد يغتذى به كما يغتذى من الحية، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم". ولم يخص، وقد مضى في:" النساء «2»". الثامنة- قوله تعالى: (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والأجود أسغته إساغة. يقال: أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني، وقال تعالى:" يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ «3»". والسواغ (بكسر السين) ما أسغت به غصتك. يقال: الماء سواغ الغصص، ومنه قول الكميت:
فكانت سواغا أن جيزت بغصة

وروى: أن اللبن لم يشرق به أحد قط، وروى ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1). أي المسلم.
(2). راجع ج 5 ص 111.
(3). راجع ج 9 ص 349.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

التاسعة- في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار. وقد تقدم هذا المعنى في" المائدة «1»" وغيرها. وفى الصحيح عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدحى هذا الشراب كله: العسل والنبيذ واللبن والماء. وقد كره بعض القراء أكل الفالوذج «2» واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء. وروى عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن: كل! فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا. العاشرة- روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبن فشرب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقى لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شي يجزى عن الطعام والشراب إلا اللبن". قال علماؤنا: فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذى به الإنسان وتنمى به الجثث والأبدان، فهو قوت خلى عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الامة التي هي خير الأمم أمة، فقال في الصحيح:" فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت «3» أمتك (. ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات [وكثرة «4»] والبركات، فهو مبارك كله.

[سورة النحل (16): آية 67]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
الاولى- قوله تعالى:" وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ" قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون، فحذف" ما" ودل على حذفه قوله:" منه". وقيل:
__________
(1). راجع ج 6 ص 260 وما بعدها، وج 7 ص 191.
(2). الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. (عن الألفاظ الفارسية المعربة).
(3). غوت: ضلت وفسدت.
(4). من ج.

المحذوف شي، والامر قريب. وقيل: معنى" مِنْهُ" أي من المذكور، فلا يكون في الكلام حذف وهو أولى. ويجوز أن يكون قوله:" وَمِنْ ثَمَراتِ" عطفا على" الْأَنْعامِ"، أي ولكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة. ويجوز أن يكون معطوفا على" مِمَّا" أي ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات. الثانية- قولة تعالى: (سَكَراً) السكر ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين. وقال بهذا القول ابن جبير والنخعي والشعبي وأبو ثور. وقد قيل: إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام. وقيل: السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكرا لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. قال ابن العربي: أسد، هذه الأقوال قول ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى: أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم. والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فتكون منسوخة، فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني. قلت: فعلى أن السكر الخمر أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن. قال ابن عباس: الحبشة يسمون الخل السكر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبى ليلى والكلبي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، كلهم قالوا: السكر ما حرمه الله من ثمرتيهما. وكذا قال أهل اللغة: السكر اسم للخمر وما يسكر، وأنشدوا:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزاء والسكر
والرزق الحسن: ما أحله الله من مرتيهما. وقيل: إن قوله" تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً" خبر معناه الاستفهام بمعنى الإنكار، أي أتتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا الخل والزبيب

والتمر، كقوله:" فَهُمُ الْخالِدُونَ «1»" أي أفهم الخالدون. والله أعلم. وقال أبو عبيدة: السكر الطعم، يقال: هذا سكر لك أي طعم. وأنشد:
جعلت عيب الأكرمين سكرا

أي جعلت ذمهم طعما. وهذا اختيار الطبري أن السكر ما يطعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد، مثل"نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
«2»لَى اللَّهِ" وهذا حسن ولا نسخ، إلا أن الزجاج قال: قول أبى عبيدة هذا لا يعرف، واهل التفسير على خلافه، ولا حجة له في البيت الذي أنشده، لان معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس. وقال الحنفيون: المراد بقوله:" سَكَراً" ما لا يسكر من الأنبذة، والدليل عليه أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز، وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" حرم الله الخمر بعينها والسكر من غيرها". وبما رواه عبد الملك بن نافع عن ابن عمر قال: رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عند الركن، ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فرده إلى صاحبه، فقال له حينئذ رجل من القوم: يا رسول الله، إحرام هو؟ فقال:" على بالرجل" فأتى به فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال:" إذا اغتلمت «3» عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء". وروى أنه عليه السلام كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم، فإذا كان من اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخادم إذا تغير، ولو كان حراما ما سقاه إياه. قال الطحاوي: وقد روى أبو عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب، خرجه الدارقطني أيضا.
__________
(1). راجع ج 11 ص 287.
(2). راجع ج 9 ص 251. [.....]
(3). الاغتلام مجاوزة الحد، أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر.

ففي هذا الحديث وما كان مثله، أن غير الخمر لم تحرم عينه كما حرمت الخمر بعينها. قالوا: والخمر شراب العنب خلاف فيها، ومن حجتهم أيضا ما رواه شريك بن عبد الله، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون قال قال عمر بن الخطاب: إنا نأكل لحوم هذه الإبل وليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ. قال شريك: ورأيت الثوري يشرب النبيذ في بيت حبر أهل زمانه مالك بن مغول. والجواب أن قولهم: إن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده ولا يكون امتنانه إلا بما أحل فصحيح، بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر كما بيناه فيكون منسوخا كما قدمناه. قال ابن العربي: إن قيل كيف ينسخ هذا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ، قلنا: هذا كلام من لم يتحقق الشريعة، وقد بينا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي أو عن إعطاء ثواب فضلا من الله فهو الذي لا يدخله النسخ، فأما إذا تضمن الخبر حكما شرعيا فالأحكام تتبدل وتنسخ، جاءت بخبر أو أمر، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ وإنما يرجع إلى ما تضمنه، فإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله:" وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «1»". المعنى أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ويكلف ما يشاء، ويرفع من ذلك بعدل ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب. قلت: هذا تشنيع شنيع حتى يلحق فيه العلماء الأخيار في قصور الفهم بالكفار، والمسألة أصولية، وهى أن الاخبار عن الأحكام الشرعية هل يجوز نسخها أم لا؟ اختلف في ذلك، والصحيح جوازه لهذه الآية وما كان مثلها، ولان الخبر عن مشروعية حكم ما يتضمن طلب ذلك المشروع، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي الذي يستدل على نسخه. والله أعلم. وأما ما ذكروا من الأحاديث فالأول والثاني ضعيفان، لأنه عليه السلام قد روى عنه بالنقل الثابت أنه قال:" كل شراب أسكر فهو حرام" وقال:" كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" وقال:" ما أسكر كثيره فقليله حرام". قال النسائي: وهؤلاء أهل الثبت والعدالة مشهورون
__________
(1). راجع ص 176 من هذا الجزء

بصحة النقل، وعبد الملك لا يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده من أشكاله جماعة، وبالله التوفيق. وأما الثالث وإن كان صحيحا فإنه ما كان يسقيه للخادم على أنه مسكر، وإنما كان يسقيه لأنه متغير الرائحة. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره أن توجد منه الرائحة، فلذلك لم يشربه، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب بأن قيل له: إنا نجد منك ريح مغافير، يعنى ريحا منكرة، فلم يشربه بعد. وسيأتي في التحريم «1». وأما حديث ابن عباس فقد روى عنه خلاف ذلك من رواية عطاء وطاوس ومجاهد أنه قال:" ما أسكر كثيره فقليله حرام"، ورواه عنه قيس بن دينار. وكذلك فتياه في المسكر، قاله الدارقطني. والحديث الأول رواه عنه عبد الله ابن شداد وقد خالفه الجماعة، فسقط القول به مع ما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما ما روى عن عمر من قوله: ليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ، فإنه يريد غير المسكر بدليل ما ذكرنا. وقد روى النسائي عن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر بن الخطاب قد خلل. قال النسائي: ومما يدل على صحة هذا حديث السائب، قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم: حدثني مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إنى وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان مسكرا جلدته، فجلده عمر بن الخطاب رضى الله عنه الحد تاما. وقد قال في خطبته على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما بعد، أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة: من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل. وقد تقدم في" المائدة «2»". فإن قيل: فقد أحل شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه. قلنا: ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي، وهذه زلة من عالم وقد حذرنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة «3». وذكر النسائي أيضا عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحا إلا عن إبراهيم. قال أبو أسامة: ما رأيت
__________
(1). راجع ج 18 ص 177.
(2). راجع ج 285.
(3). لعل ما يشربه النخعي وهو إمام- ليس من النبيذ المسكر فإن منه ما لم يبلغ حد الإسكار.

رجلا أطلب للعلم من عبد الله بن المبارك الشامات «1» ومصر واليمن والحجاز. وأما الطحاوي وسفيان لو صح ذلك عنهما لم يحتج بهما على من خالفهما من الأئمة في تحريم المسكر مع ما ثبت من السنة، على أن الطحاوي قد ذكر في كتابه الكبير في الاختلاف خلاف ذلك. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد له: قال أبو جعفر الطحاوي اتفقت الامة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر ومستحله كافر. واختلفوا في نقيع التمر إذا غلى وأسكر. قال: فهذا يدلك على أن حديث يحيى بن أبى كثير عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب" غير معمول به عندهم، لأنهم لو قبلوا الحديث لاكفروا مستحل نقيع التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذي قد اشتد وبلغ أن يسكر. قال: ثم لا يخلو من أن يكون التحريم معلقا بها فقط غير مقيس عليها غيرها أو يجب القياس عليها، فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا غلى وأسكر كثيره وكذلك نقيع الزبيب. قال: فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. قال: وقد روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" كل مسكر حرام" واستغنى عن سنده لقبول الجميع له، وإنما الخلاف بينهم في تأويله، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر. وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكر عنده كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل. قلت: فهذا يدل على أنه محرم عند الطحاوي لقوله، فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. وقد روى الدارقطني في سننه عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها وإنما حرمها لعاقبتها، فكل شراب يكون عاقبته كعاقبة الخمر فهو حرام كتحريم الخمر. قال ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وما روى عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذي يسكر كثيره فللقوم ذنوب يستغفرون
__________
(1). في حاشية السندي على سنن النسائي:" قوله الشامات، كأنه جمع على إرادة البلاد الشامية":

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)

الله منها، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين: إما مخطئ أخطأ في التأويل على حديث سمعه، أو رجل أتى ذنبا لعله أن يكثر من الاستغفار لله تعالى، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الله على الأولين والآخرين من هذه الامة. وقد قيل في تأويل الآية: إنها إنما ذكرت للاعتبار، أي من قدر على خلق هذه الأشياء قادر على البعث، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالا أو حراما، فاتخاذ السكر لا يدل على التحريم، وهو كما قال تعالى:" قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «1»" والله أعلم.

[سورة النحل (16): آية 68]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قد مضى القول في الوحى وأنه قد يكون بمعنى «2» الإلهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى:" وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها «3» وَتَقْواها". ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها. وقد أخبر عز وجل بذلك عن الموات فقال:" تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «4»". قال إبراهيم الحربي. لله عز وجل في الموات قدرة لم يدر ما هي، لم يأتها رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرفها ذلك، أي ألهمها. ولا خلاف بين المتأولين أن الوحى هنا بمعنى الإلهام. وقرا يحيى بن وثاب" إلى النحل" بفتح الحاء. وسمي نحلا لان الله عز وجل نحله العسل الذي يخرج منه، قاله الزجاج. الجوهري: والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والأنثى، حتى يقال: يعسوب. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. وروى من حديث
__________
(1). راجع ج 3 ص 51.
(2). راجع ج 4 ص 85.
(3). راجع ج 20 ص 75. وص 145.
(4). راجع ج 20 ص 75. وص 145.

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" الذبان كلها في النار يجعلها عذابا لأهل النار إلا النحل" ذكره الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول). وروى عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد «1»، خرجه أبو داود أيضا، وسيأتي في" النمل «2»" إن شاء الله تعالى. الثانية- قوله تعالى: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ) هذا إذا لم يكن لها مليك «3». (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار وام فيما يعرش ابن آدم من الاجباح «4» والخلايا والحيطان وغيرها. وعرش معناه هنا هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر، ومن هذا لفظة العرش. يقال: عرش يعرش ويعرش (بكسر الراء وضمها)، وقرى بهما. قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف في ذلك عن عاصم. الثالثة- قال ابن العربي: ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك أن الاشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج، إلا الشكل المسدس، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة.

[سورة النحل (16): آية 69]
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
__________
(1). الصرد: طائر ضخم الرأس والمنقار له ريش عظيم نصفه أبيض ونصفه أسود يصيد صغار الطير.
(2). راجع ج 13 ص 169 فما بعد.
(3). كذا في ى. وفى أ: مالك.
(4). الاجباح: خلايا النحل في الجبل وفيها تعسل. [.....]

قوله تعالى: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار. (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي طرق ربك. والسبل: الطرق، وأضافها إليه لأنه خالقها. أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر. (ذُلُلًا) جمع ذلول وهو المنقاد، أي مطيعة مسخرة. ف" ذُلُلًا" حال من النحل. أي تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها، لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا، قاله ابن زيد. وقيل: المراد بقوله" ذُلُلًا" السبل. واليعسوب سيد «1» النحل، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت. قوله تعالى:" (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) فيه تسع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) رجع الخطاب إلى الخبر على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة فقال:" يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ" يعنى العسل. وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وورد عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. فظاهر هذا أنه من غير الفم. وبالجملة فإنه يخرج ولا يدرى من فيها أو أسفلها، ولكن لا يتم صلاحه إلا بحمى أنفاسها. وقد صنع أرسطاطاليس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين، ذكره الغزنوي. وقال:" مِنْ بُطُونِها" لان استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن. الثانية- قوله تعالى: (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل، والام واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعى، ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" جرست نحله العرفط «2»" حين شبهت رائحته برائحة المغافير.
__________
(1). اليعسوب: هو الملكة وليس للنحل غيرها رئيسا وذكر النخل هو الذي يلقح الملكة ثم يموت، هذا الذي يقرره العلماء بهذا الجنس.
(2). الجرس: الأكل. والعرفط (بالضم): شجر الطلح، وله صمغ كريه الرائحة، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه. أي شربت عسلا أكلت نحلة من شجر الطلح.

الثالثة- قوله تعالى: (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الضمير للعسل، قال الجمهور. أي في العسل شفاء للناس. وروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك والفراء وابن كيسان: الضمير للقرآن، أي في القرآن شفاء. النحاس: وهذا قول حسن، أو فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. وقيل: العسل فيه شفاء، وهذا القول بين أيضا، لان أكثر الأشربة والمعجونات التي يتعالج بها أصلها من العسل. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصح عنهم، ولو صح نقلا لم يصح عقلا، فإن مساق الكلام كله للعسل، ليس للقرآن فيه ذكر. قال ابن عطية: وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبى جعفر العباسي، فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بنى هاشم، فاضحك الحاضرين وبهت الآخر وظهرت سخافة قوله. الرابعة- اختلف العلماء في قوله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ هل هو على عمومه أم لا، فقالت طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد، فروى عن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا. وحكى النقاش عن أبى وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويستمشى بالعسل ويتداوى بالعسل. وروى أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بالماء، فإن الله تعالى يقول:" وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً «1» مُبارَكاً" ثم قال: ائتوني بعسل، فإن الله تعالى يقول:" فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ" وائتوني بزيت، فإن الله تعالى يقول:" مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ «2»" فجاءوه بذلك كله فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ. ومنهم من قال: إنه على العموم إذا خلط بالخل ويطبخ فيأتي شرابا ينتفع به في كل حالة من كل داء. وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص ولا يقتضى العموم في كل علة وفى كل إنسان، بل إنه خبر عن أنه يشفى كما يشفى غيره من
__________
(1). راجع ج 17 ص 6. والظاهر أن المراد بالمبارك ماء المطر فإنه في غاية النقاء فهو شفاء من الأمراض مطهر من الجراثيم. محققة.
(2). راجع ج 12 ص 262.

الأدوية في بعض وعلى حال دون حال، ففائدة الآية إخبار منه في أنه دواء لما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية في الأشربة والمعاجين، وليس هذا بأول لفظ خصص فالقرآن مملوء منه ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام. ومما يدل على أنه ليس على العموم أن" شِفاءٌ" نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم ومختلفى أهل الأصول. لكن قد حملته طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم. فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع والأمراض، وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والإيقان. ابن العربي: ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء، والكل من حكم الفعال لما يشاء. الخامسة- إن قال قائل: قد رأينا من ينفعه العسل ومن يضره، فكيف يكون شفاء للناس؟ قيل له: الماء حياة كل شي وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يضاده من علة في البدن، وقد رأينا شفاء العسل في أكثر هذه الأشربة، قال معناه الزجاج. وقد اتفق الأطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السكنجبين «1» في كل مرض، وأصله العسل وكذلك سائر المعجونات، على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حسم داء الاشكال وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكى بطنه بشرب العسل، فلما أخبره أخوه بأنه لم يزده إلا استطلاقا أمره بعود الشراب له فبرئ، وقال:" صدق الله وكذب بطن أخيك". السادسة- اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال، فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفى المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طوية، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم. وأما ما حكى من الإجماع فدليل على جهله بالنقل حيث لم يقيد وأطلق. قال الامام أبو عبد الله المازري: ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، منها الإسهال
__________
(1). السكنجبين: شراب معرب، أي خل وعسل (عن الألفاظ الفارسية المعربة)

الحادث عن التخم والهيضات «1»، والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشرب العسل فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب. السابعة- في قوله تعالى: (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافا لمن كره ذلك من جلة العلماء، وهو يرد على الصوفية الذين يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضى بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يجوز له مداواة. ولا معنى لمن أنكر ذلك، روى الصحيح عن جابر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله". وروى أبو داود والترمذي عن أسامة بن شريك قال قالت الاعراب: ألا نتداوى يا رسول الله؟ قال:" نعم. يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحد" قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال:" الهرم" لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ورو ي عن أبى خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال:" هي من قدر الله" قال: حديث حسن، ولا يعرف لابي خزامة غير هذا الحديث. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن كان في شي من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار وما أحب أن أكتوى" أخرجه الصحيح. والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وعلى إباحة التداوي والاسترقاء
__________
(1). الهيضات: جمع هيضة، وهى انطلاق البطن.

جمهور العلماء. روى أن ابن عمر اكتوى من اللقوة «1» ورقي من العقرب. وعن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقى ولده الترياق «2». وقال مالك: لا بأس بذلك. وقد احتج من كره ذلك بما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" دخلت أمة بقضها «3» وقضيضها الجنة كانوا لا يسرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون" وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". قالوا: فالواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاما بالله وتوكلا عليه وثقه به وانقطاعا إليه، فإن الله تعالى قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى:" ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها «4»". وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل الفضل والأثر، وهو قول ابن مسعود وأبى الدرداء رضوان الله عليهم. دخل عثمان بن عفان على ابن مسعود في مرضه الذي قبض فيه فقال له عثمان: ما تشتكي؟ قال ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال رحمة ربى. قال: ألا أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني ... وذكر الحديث. وسيأتي بكماله في فضل الواقعة إن شاء الله تعالى. وذكر وكيع قال: حدثنا أبو هلال عن معاوية بن قرة قال: مرض أبو الدرداء فعادوه وقالوا: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أضجعني. وإلى هذا ذهب الربيع بن خيثم. وكره سعيد بن جبير الرقى. وكان الحسن يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل. وأجاب الأولون عن الحديث بأنه لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه بدليل كي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبيا يوم الأحزاب على أكحله «5» لما رمى. وقال:" الشفاء في ثلاثة" كما تقدم. ويحتمل أن يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله، وقد قال سبحانه وتعالى:" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ «6»" على ما يأتي بيانه. ورقي أصحابه وأمرهم بالرقية، على ما يأتي بيانه.
__________
(1). اللقوة (بالفتح): مرض يعرض للوجه فيميله إلى أحد جانبيه.
(2). الترياق: ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والماجين، وهو معرب.
(3). أي دخلوا مجتمعين، ينقض آخرهم على أولهم. وقال ابن الاعرابي: إن القض الحصى الصغار، أي دخلوا بالكبير والصغير.
(4). راجع ج 17 ص 194.
(5). الأكحل: عرق في وسط الذراع.
(6). راجع ص 315 من هذا الجزء.

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

الثامنة- ذهب مالك وجماعة أصحابه إلى أن لا زكاة في العسل وإن كان مطعوما مقتاتا. واختلف فيه قول الشافعي، والذي قطع به في قوله الجديد: أنه لا زكاة فيه. وقال أبو حنيفة بوجوب زكاة العسل في قليله وكثيره، لان النصاب عنده فيه ليس بشرط. وقال محمد بن الحسن: لا شي فيه حتى يبلغ ثمانية أفراق «1»، والفرق ستة وثلاثون رطلا من أرطال العراق. وقال أبو يوسف: في كل عشرة أزقاق زق، متمسكا بما رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" في العسل في كل عشرة أزقاق زق" قال أبو عيسى: في إسناده مقال، ولا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الباب كبير شي، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شي. التاسعة- قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي يعتبرون، ومن العبرة في النحل بإنصاف النظر وإلطاف الفكر في عجيب أمرها. فيشهد اليقين بأن ملهمها الصنعة اللطيفة مع البنية الضعيفة، وحذقها باحتيالها في تفاوت أحوالها هو الله سبحانه وتعالى، كما قال:" وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" الآية. ثم أنها تأكل الحامض والمر والحلو والمالح والحشائش الضارة «2»، فيجعله الله تعالى عسلا حلوا وشفاء، وفى هذا دليل على قدرته.

[سورة النحل (16): آية 70]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) بين معناه. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) يعنى أردأه وأوضعه. وقيل: الذي ينقص قوته وعقله ويصيره إلى الخرف ونحوه. وقال ابن عباس: يعنى إلى أسفل العمر، يصير كالصبي الذي لا عقل له، والمعنى متقارب. وفى صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوذ يقول:
__________
(1). في ج وى:" خمسة أفراق".
(2). لم يصح هذا عند النحالين. محققة. [.....]

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

اللهم إنى أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل". وفى حديث سعد بن أبى وقاص" وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر" الحديث. خرجه البخار ي. (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي يرجع إلى حالة الطفولية فلا يعلم ما كان يعلم قبل من الأمور لفرط الكبر. وقد قيل: هذا لا يكون للمؤمن، لان المؤمن لا ينزع عنه علمه. وقيل: المعنى لكيلا يعمل بعد علم شيئا، فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه، لان تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه. والمعنى المقصود الاحتجاج على منكري البعث، أي الذي رده إلى هذه الحال قادر على أن يميته ثم يحييه.

[سورة النحل (16): آية 71]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أي جعل منكم غنيا وفقيرا وحرا وعبدا. (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) أي في الرزق. (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق شيئا حتى يستوي المملوك والمالك في المال. وهذا مثل ضربه الله لعبدة الأصنام، أي إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء فكيف تجعلون عبيدي معى سواء، فلما لم يكن يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الأوثان والأنصاب وغيرهما مما عبد، كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه. حكى معناه الطبري، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا أنها نزلت في نصارى نجران حين قالوا عيسى ابن الله فقال الله لهم:" فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ" أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتى يكون المولى والعبد في المال شرعا سواء، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم فتجعلون لي ولدا

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)

من عبيدي. ونظيرها" ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ «1»" على ما يأتي. ودل هذا على أن العبد لا يملك، على ما يأتي أنفا «2».

[سورة النحل (16): آية 72]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) جعل بمعنى خلق وقد تقدم." مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً" يعنى آدم خلق منه حواء. وقيل: المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم، كما قال:" لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «3»" أي من الآدميين. وفى هذا رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها، حتى روى أن عمرو بن هند «4» تزوج منهم غولا وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر، فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة «5» فقالت: عمرو! ونفرت، فلم يرها أبدا. وهذا من أكاذيبها، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته فهو رد على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجان ويحيلون طعامهم. (أَزْواجاً) زوج الرجل هي ثانيته، فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود كما تقدم.
__________
(1). راجع ج 14 ص 22.
(2). يريد بعد قليل." آنفا" إنما تستعمل في الماضي القريب لا في المستقبل القريب.
(3). راجع ج 8 ص 301.
(4). كذا في نسخ الأصول وأحكام القرآن لابن العربي، والصواب أنه عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن مناة، قال علياء بن أرقم:
يا قبحا لله بنى السعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات

راجع شرح التنوير على سقط الزند في شرح بيت أبى العلاء المعرى:
إذا لاح إيماض شرت وجوهها ... كأني عمرو والمطي سعالي

(5). السغلاة: أخبت الغيلان.

قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ) ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، ووجود الأبناء يكون منهما معا، ولكنه لما كان خلق المولود فيها وانفصاله عنها أضيف إليها، ولذلك تبعها في الرق والحرية وصار مثلها في المالية. قال ابن العربي: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء على بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الام في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية، لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلأجل ذلك تبعها. كما لو أكل رجل تمر في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الامة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها. الثانية- قوله تعالى:" وَحَفَدَةً" روى ابن القاسم عن مالك قال: وسألته عن قوله تعالى:" بَنِينَ وَحَفَدَةً" قال: الحفدة الخدم والأعوان في رأيى. وروى عن ابن عباس في قوله تعالى:" وَحَفَدَةً" قال هم الأعوان، من أعانك فقد حفدك. قيل له: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم وتقول! أو ما سمعت قول الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الإجمال
أي أسرعن الخدمة. والولائد: الخدم، الواحدة وليدة، قال الأعشى:
كلفت مجهولها نوقا يمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا «1»
أي أسرعوا. وقال ابن عرفة: الحفدة عند العرب الأعوان، فكل من عمل عملا أطاع فيه وسارع فهو حافد، قال: ومنه قولهم" إليك نسعى ونحفد"، والحفدان السرعة. قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة. وقال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم، وقاله مجاهد. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد. وروى عن ابن عباس. وقيل الأختان، قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحا وسعيد بن جبير وإبراهيم،
__________
(1). الاكساء: جمع كسى (بالضم) وهو مؤخر العجز.

ومنه قول الشاعر «1»:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد ما يعد كثير
ولكنها نفس على أبية ... عيوف لإصهار «2» اللئام قذور
وروى زر عن عبد الله قال: الحفدة الأصهار، وقاله إبراهيم، والمعنى متقارب. قال الأصمعي: الختن من كان من قبل المرأة، مثل أبيها وأخيها وما أشبههما، والأصهار منها جميعا. يقال: أصهر فلان إلى بنى فلان وصاهر. وقول عبد الله هم الأختان، يحتمل المعنيين جميعا. يحتمل أن يكون أراد أبا المرأة وما أشبهه من أقربائها، ويحتمل أن يكون أراد وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهن، فيكون لكم بسببهن أختان. وقال عكرمة: الحفدة من نفع الرجال من ولده، وأصله من حفد يحفد (بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل) إذا أسرع في سيره، كما قال كثير «3»:
حفد الولائد بينهن ...

البيت.
ويقال: حفدت وأحفدت، لغتان إذا خدمت. ويقال: حافد وحفد، مثل خادم وخدم، وحافد وحفدة مثل كافر وكفرة. قال المهدوي: ومن جعل الحفدة الخدم جعله منقطعا مما قبله ينوي به التقديم، كأنه قال: جعل لكم حفدة وجعل لكم من أزواجكم بنين. قلت: ما قال الأزهري من أن الحفدة أولاد الأولاد هو ظاهر القرآن بل نصه، ألا ترى أنه قال:" وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً" فجعل الحفدة والبنين منهن. وقال ابن العربي: الأظهر عندي في قوله" بَنِينَ وَحَفَدَةً" أن البنين أولاد الرجل لصلبه والحفدة أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية على هذا: وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة. وقال معناه الحسن. الثالثة- إذا فرعنا على قول مجاهد وابن عباس ومالك وعلماء اللغة في قولهم إن الحفدة الخدم والأعوان، فقد خرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان، قاله ابن العربي
__________
(1). هو جميل.
(2). في البحر: لأصاب.
(3). تقدم استشهاد ابن عباس به فلا يصح أن يكون لكثير عزة.

روى البخاري وغيره عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعرسه فكانت امرأته خادمهم ... الحديث، وقد تقدم في سورة" هود «1»". وفى الصحيح عن عائشة قالت: أنا فتلت قلائد بدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي. الحديث. ولهذا قال علماؤنا: عليها أن تفرش الفراش وتطبخ القدر وتقم الدار، بحسب حالها وعادة مثلها، قال الله تعالى:" وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها «2»" فكأنه جمع لنا فيها السكن والاستمتاع وضربا من الخدمة بحسب جرى العادة. الرابعة- ويخدم الرجل زوجته فيما خف من الخدمة ويعينها، لما روته عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج. وهذا قول مالك: ويعينها. وفى أخلاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الصوب. وقالت عائشة وقد قيل لها: ما كان يعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر يفلي «3» ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه. الخامسة- وينفق على خادمة واحدة، وقيل: على أكثر، على قدر الثروة والمزلة. وهذا أمر دائر على العرف الذي هو أصل من أصول الشريعة، فإن نساء الاعراب وسكان البوادي يخدمن أزواجهن (حتى «4» في استعذاب الماء وسياسة الدواب، ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجته فيما خف ويعينها، وأما أهل الثروة فيخدمون «5» أزواجهم ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب ذلك، فإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك، فتشهد أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها فالتزم أحد أمها، فينفذ ذلك وتنقطع الدعوى فيه. قوله تعالى: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من الثمار والحبوب والحيوان. (أَفَبِالْباطِلِ) يعنى الأصنام، قاله ابن عباس. (يُؤْمِنُونَ) قراءة الجمهور بالياء. وقرا أبو عبد الرحمن بالتاء (وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ) أي بالإسلام. (هُمْ يَكْفُرُونَ).
__________
(1). راجع ج 9 ص 68.
(2). راجع ج 7 ص 337.
(3). يفلي ثوبه مما يناله من بعض الجلساء أن عنصره صلوات الله عليه في غاية الصفا والنقا الخالص.
(4). من ابن العربي.
(5). كذا في ابن العربي والعبارة له. [.....]

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)

[سورة النحل (16): الآيات 73 الى 74]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)
قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ) يعنى المطر. (وَالْأَرْضِ) يعنى النبات. (شَيْئاً) قال الأخفش: هو بدل من الرزق. وقال الفراء: هو منصوب بإيقاع الرزق عليه، أي يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئا. (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي لا يقدرون على شي، يعنى الأصنام. (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي لا تشبهوا به هذه الجمادات، لأنه واحد قادر لا مثل له. وقد تقدم.

[سورة النحل (16): آية 75]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) نبه تعالى على ضلالة المشركين، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم." ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا" أي بين شبها، ثم ذكر ذلك فقال: (عَبْداً مَمْلُوكاً) أي كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شي ورجل حر قد رزق رزقا حسنا فكذلك أنا وهذه الأصنام. فالذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شي من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده. ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة، فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم، وإنما تفيد واحدا، فإذا كانت بعد أمر أو نهى أو مضافة إلى مصدر كانت للعموم الشيوعي، كقوله: أعتق رجلا ولا تهن

رجلا، والمصدر كإعتاق رقبة، فأي رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب، ويصح منه الاستثناء. وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر، فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر، لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته، وإلى أن معنى" وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً" المؤمن. والأول عليه الجمهور من أهل (العلم «1» والتأويل. قال الأصم: المراد بالعبد المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه أسرا «2» وأنضر وجها، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه، فقال الله تعالى ضربا للمثال. أي فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهى لا تعقل ولا تسمع. الثانية- فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك. قال أهل العراق: الرق ينافي الملك، فلا يملك شيئا البتة بحال، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال الحسن وابن سيرين. ومنهم من قال: يملك إلا أنه ناقص الملك، لان لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء، وهو قول مالك ومن اتبعه، وبه قال الشافعي في القديم. وهو قول أهل الظاهر، ولهذا قال أصحابنا: لا تجب عليه عبادة الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك. وفائدة هذه المسألة أن سيده لو ملكه جارية جاز له أن يطأها بملك اليمين، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها لأنها ملك غيره، ولا على العبد لان ملكه غير مستقر. والعراقي يقول: لا يجوز له أن يطأ الجارية، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت. ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف. وأدل دليل لنا قوله تعالى:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ «3»" فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق. وقال عليه السلام: من أعتق عبدا وله مال ..." فأضاف المال إليه. وكان ابن عمر يرى عبده يتسرى في ماله فلا يعيب عليه ذلك. وروى عن ابن عباس أن عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين، فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده. والله أعلم.
__________
(1). من ى.
(2). الأسر: الخلق.
(3). راجع ج 14 ص 40.

الثالثة- وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن طلاق العبد بيد سيده، وعلى أن بيع الامة طلاقها، معولا على قوله تعالى:" لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ". قال: فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شي أصلا، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه، إلا أن يدل دليل على خلافه. وفيما ذكرناه عن ابن عمر وابن عباس ما يدل على التخصيص. والله تعالى أعلم. والرابعة- قال أبو منصور في عقيدته «1»: الرزق ما وقع الاغتذاء به. وهذه الآية ترد هذا التخصيص، وكذلك قوله تعالى:" وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «2»". و" أَنْفِقُوا «3» مِمَّا رَزَقْناكُمْ" وغير ذلك من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" جعل رزقي تحت ظل رمحي" وقوله:" أرزاق أمتي في سنابك خيلها وأسنة رماحها". فالغنيمة كلها رزق، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق، وهو مراتب: أعلاها ما يغذى. وقد حصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوه الانتفاع في قوله:" يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت". وفى معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك. وفى ألسنة المحدثين: السماع رزق، يعنون سماع الحديث، وهو صحيح. الخامسة- قوله تعالى: (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) هو المؤمن، يطيع الله في نفسه وماله. والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذي لا يملك شيئا." هَلْ يَسْتَوُونَ" أي لا يستوون، ولم يقل يستويان لمكان" مَنْ" لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. وقيل: ان" عَبْداً مَمْلُوكاً"،" وَمَنْ رَزَقْناهُ" أريد بهما الشيوع في الجنس. (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه، إذ لا نعمة للأصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد الكامل لله، لأنه المنعم الخالق." بَلْ أَكْثَرُهُمْ" أي أكثر المشركين." لا يَعْلَمُونَ" أن الحمد لي، وجميع النعمة منى. وذكر الأكثر وهو يريد الجميع، فهو خاص أريد به التعميم. وقيل: أي بل أكثر الخلق لا يعلمون، وذلك أن أكثرهم المشركون.
__________
(1). العقيدة: اسم كتاب لابي منصور الماتريدى، وهو محمد بن محمد بن محمود مات بسمرقند سنة 333 هـ. راجع كشف الظنون وتاج التراجم في زبقات الحنيفة.
(2). راجع ج 1 ص 177.
(3). راجع ج 2 ص 265.

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

[سورة النحل (16): آية 76]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شي هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى، قاله قتادة وغيره. وقال ابن عباس: الأبكم عبد كان لعثمان رضى الله عنه، وكان يعرض عليه الإسلام فيأبى، ويأمر بالعدل عثمان. وعنه أيضا أنه مثل لابي بكر الصديق ومولى له كافر. وقيل: الأبكم أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر العنسي، وعنس (بالنون) حي من مذحج، وكان حليفا لبنى مخزوم رهط أبى جهل، وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام ويعذب أمه سمية، وكانت مولاة لابي جهل، وقال لها ذات يوم: إنما آمنت بمحمد لأنك تحبينه لجماله، ثم طعنها بالرمح في قبلها فماتت، فهي أول شهيد مات في الإسلام، رحمها الله. من كتاب النقاش وغيره. وسيأتي هذا في آية الإكراه مبينا «1» إن شاء الله تعالى. وقال عطاء: الأبكم أبى بن خلف، كان لا ينطق بخير. (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي قومه لأنه كان يؤذيهم ويؤذى عثمان بن مظعون. وقال مقاتل: نزلت في هشام بن عمرو بن الحارث، كان كافرا قليل الخير يعادى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: إن الأبكم الكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن جملة بجملة، روى عن ابن عباس وهو حسن لأنه يعم. والأبكم الذي لا نطق له. وقيل الذي لا يعقل. وقيل الذي لا يسمع ولا يبصر. وفى التفسير إن الأبكم ها هنا الوثن. بين أنه لا قدرة له ولا أمر، وأن غيره ينقله وينحته فهو كل عليه. والله الآمر بالعدل، الغالب على كل شي. وقيل:" وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ" أي ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه. وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر:
أكول لمال الكل قبل شبابه ... إذا كان عظم الكل غير شديد
__________
(1). راجع ص 180 وما بعدها من هذ الجزء.

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)

والكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد. والكل العيال، والجمع الكلول، يقال منه: كل السكين كلا أي غلظت شفرته فلم يقطع. (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) قرأ الجمهور" يُوَجِّهْهُ" وهو خط المصحف، أي أينما يرسله صاحبه لا يأت بخير، لأنه لا يعرف ولا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه. وقرا يحيى بن وثاب" أَيْنَما يُوَجِّهْهُ" على الفعل المجهول. (وروى «1» عن ابن مسعود) أيضا" توجه" على الخطاب. (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ. وَهُوَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي هل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم.

[سورة النحل (16): آية 77]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم معناه «2» وهذا متصل بقوله:" إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" أي شرع التحليل والتحريم إنما يحسن ممن يحيط بالعواقب والمصالح وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بها فلم تتحكمون. (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) وتجازون فيها بأعمالكم. والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة. واللمح النظر بسرعة، يقال لمحه لمحا ولمحانا. ووجه التأويل أن الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتى في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها، أي يقول للشيء كن فيكون. وقيل: إنما مثل بلمح البصر لأنه يلمح السماء مع ما هي عليه من البعد من الأرض. وقيل: هو تمثيل للقرب، كما يقول القائل: ما السنة إلا لحظة، وشبهه. وقيل: المعنى هو عند الله كذلك لا عند المخلوقين، دليله قوله:" إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً «3»". (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ليس" أَوْ" للشك بل للتمثيل بأيهما أراد الممثل. وقيل: دخلت لشك المخاطب. وقيل:" أَوْ" بمنزلة بل. (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقدم «4».
__________
(1). من ى.
(2). راجع ج 9 ص 177.
(3). راجع ج 18 ص 283.
(4). راجع ج 1 ص 224.

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

[سورة النحل (16): آية 78]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ذكر أن من نعمه أن أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشيء. وفية ثلاثة أقاويل: أحدها- لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم. الثاني- لا تعلمون شيئا مما قضى عليكم من السعادة والشقاء. الثالث- لا تعلمون شيئا من منافعكم، وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي التي تعلمون بها وتدركون، لان الله جعل ذلك لعباده قبل إخراجهم من البطون وإنما أعطاهم ذلك بعد ما أخرجهم، أي وجعل لكم السمع لتسمعوا به الامر والنهى، والأبصار لتبصروا بها آثار صنعه، والأفئدة لتصلوا بها إلى معرفته." وَالْأَفْئِدَةَ" جمع الفؤاد نحو غراب وأغربه. وقد قيل في ضمن قوله:" وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ" إثبات النطق لان من لم يسمع لم يتكلم، وإذا وجدت حاسة السمع وجد النطق. وقرا الأعمش وابن وثاب وحمزة" أُمَّهاتِكُمْ" هنا وفى النور «1» والزمر «2» والنجم «3»، بكسر الهمزة والميم. وأما الكسائي فكسر الهمزة وفتح الميم، وإنما كان هذا للاتباع. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم على الأصل. واصل الأمهات: أمات، فزيدت الهاء تأكيدا كما زادوا هاء في أهرقت الماء وأصله أرقت. وقد تقدم هذا المعنى في" الفاتحة «4»". (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فيه تأويلان: أحدهما: تشكرون نعمه. الثاني- يعنى تبصرون آثار صنعته، لان إبصارها يؤدى إلى الشكر.

[سورة النحل (16): آية 79]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
__________
(1). راجع ج 12 ص 311.
(2). راجع ج 15 ص 234.
(3). راجع ج 17 ص 105. [.....]
(4). راجع ج 1 ص 148.

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)

قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب" تروا" بالتاء على الخطاب، واختاره أبو عبيد. الباقون بالياء على الخبر. (مُسَخَّراتٍ) مذللات لأمر الله تعالى، قاله الكلبي. وقيل:" مُسَخَّراتٍ" مذللات لمنافعكم. (فِي جَوِّ السَّماءِ) الجو ما بين السماء والأرض، وأضاف الجو الى السماء لارتفاعه عن الأرض. وفى قوله" مُسَخَّراتٍ" دليل على مسخر سخرها ومدبر مكنها من التصرف. (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) في حال القبض والبسط والاصطفاف. بين لهم كيف يعتبرون بها على وحدانيته. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي علامات وعبرا ودلالات. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله وبما جاءت به رسلهم «1».

[سورة النحل (16): آية 80]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
فيه عشر «2» مسائل: الاولى- قوله تعالى: (جَعَلَ لَكُمْ) معناه صير. وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت. وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهى التي للإقامة الطويلة. وقوله: (سَكَناً) أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره، إلا أن القول خرج على الغالب. وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، لو خلقه ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردده كيف وأين. والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع. ثم ذكر تعالى بيوت القلة والرحلة وهى:
__________
(1). في ج وو: رسلهم.
(2). اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.

الثانية- فقال (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) أي من الأنطاع والأدم." بُيُوتاً" يعنى الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الاسفار. (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) الظعن: سير البادية في الانتجاع «1» والتحول من موضع إلى موضع، ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضا، قال:
ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا ... وإذ جادت بوشك البين غربان
وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر. وقيل: يحتمل أن يعم (به «2» بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف، لان هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها، نحا إلى ذلك ابن سلام. وهو احتمال حسن، ويكون قوله" وَمِنْ أَصْوافِها" ابتداء كلام، كأنه قال جعل أثاثا، يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك، قال الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث
ويحتمل أن يريد بقوله" مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ" بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا. ويكون قوله" وَمِنْ أَصْوافِها" عطفا على قوله" مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ" أي جعل بيوتا أيضا. قال ابن العربي:" وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعزبت عنه بلادنا، فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف، وقد كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبة من أدم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعد ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترفا ولا رآه سرفا، لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان. ومن غريب ما جرى أنى زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك، فقال: هذا الخباء لنا كثير، وكان
__________
(1). النجعة والانتجاع: طلب الكلا ومساقط الغيث.
(2). من ج وى.

في صنعنا من الحقير، فقلت: ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها، فبهت، ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه. الثالثة-: (. مِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، كما أذن في الأعظم، وهو ذبحها واكل لحومها، ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا. وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها، وهذا كقوله تعالى:" وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ «1»" فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم، وسكت عن ذكر الثلج، لأنه لم يكن في بلادهم، وهو مثله في الصفة والمنفعة، وقد ذكرهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معا في التطهير فقال:" اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد". قال ابن عباس: الثلج شي أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط. وقيل: إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف، إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف" وهذا فيه نظر، فإنه سبحانه يقول:" يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ" حسبما تقدم بيانه في" الأعراف «2»" وقال هنا:" وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ" فأشار إلى القطن والكتان في لفظة" سَرابِيلَ" والله أعلم. و" أَثاثاً
" قال الخليل: متاعا منضما بعضه إلى بعض، من أث إذا كثر. قال:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل «3»
ابن عباس:" أَثاثاً" ثيابا. وتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالاصواف والأوبار والاشعار على كل حال، ولذلك قال أصحابنا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز
__________
(1). راجع ج 12 ص 289.
(2). راجع ج 7 ص 182.
(3). البيت من معلقة امرئ القيس. والفرع: الشعر التام و. والمتن والمتنة: ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم. والفاحم: الشديد السواد. والقنو (بالكسر والضم): العذق وهو شمراخ. والمتعثكل: الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته.

الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ، وكذلك روت أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل «1»" لأنه مما لا يحله الموت، سواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا، كشعر ابن آدم والخنزير، فإنه طاهر كله، وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال: القرن والسن والعظم مثل الشعر، قال: لان هذه الأشياء كلها لا روح فيها لا تنجس بموت الحيوان. وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي: إن الشعور كلها نجسة ولكنها تطهر بالغسل. وعن الشافعي ثلاث روايات: الاولى- طاهرة لا تنجس بالموت. الثانية- تنجس. الثالثة- الفرق بين شعر ابن آدم وغيره، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس. ودليلنا عموم قوله تعالى:" وَمِنْ أَصْوافِها" الآية. فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها، ولم يخصي شعر الميتة من المذكاة، فهو عموم إلا أن 0 يمنع منه دليل. وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع، فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل. فإن قيل قوله:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «2»" وذلك عبارة عن الجملة. قلنا: نخصه بما ذكرنا، فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف، وليس في آيتكم ذكره صريحا، فكان دليلنا أولى. والله أعلم. وقد عول الشيخ الامام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خلقة، فهو ينمى بنمائه ويتنجس بموته كسائر الاجزاء. وأجيب بأن الماء ليس بدليل على الحياة، لان النبات ينمى وليس بحي. وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الإبانة التي تدل على عدم الاحساس الذي يدل على عدم الحياة. وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم. وقال ابن وهب مثل قول أبى حنيفة. ولنا قول ثالث- هل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعر، قولان. وكذلك الشعرى من الريش حكمه حكم الشعر، والعظمى منه حكمه حكمه. ودليلنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تنتفعوا من الميتة بشيء" وهذا عام فيها وفى كل جزء منها، إلا ما قام دليله، ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى:" قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «3»"،
__________
(1). والحديث المشهور" أيها أهاب دبغ قد طهر" رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(2). راجع ج 6 ص 47.
(3). راجع ج 15 ص 58.

وقال تعالى:" وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها «1»"، وقال:" فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً «2»"، وقال:" أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً «3»" فالأصل هي العظام، والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد. وفى حديث عبد الله بن عكيم:" لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". فإن قيل: قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى اله عليه وسلم قال في شاة ميمونة:" ألا انتفعتم بجلدها"؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة. فقال:" إنما حرم أكلها" والعظم لا يؤكل. قلنا: العظم يؤكل، وخاصة عظم الحمل «4» الرضيع والجدى والطير، وعظم الكبير يشوى ويؤكل. وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه، وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت. والله أعلم. الرابعة- قوله تعالى- (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) عام في جلد الحي والميت، فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، وبه قال ابن شهاب الزهري والليث بن سعد. قال الطحاوي: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث. قال أبو عمر: يعنى من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح، وهو قول أباه جمهور أهل العلم. وقد روى عنهما خلاف هذا القول، والأول أشهر. قلت: قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري، وحديث بقية عن الزبيدي، وحديث محمد بن كثير العبدى وأبى سلمة المنقري عن سليمان بن كثير عن الزهري، وقال في آخرها: هذه أسانيد صحاح. السادسة «5»- اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا، فذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك. وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبد الحكم أيضا. قال ابن خويز منداد: وهو قول الزهري والليث. قال: والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبد الحكم، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه. وفى المدونة لابن القاسم:
__________
(1). راجع ج 3 ص 288.
(2). راجع ج 12 ص 108.
(3). راجع ج 91 ص 188. [.....]
(4). في أ، ج، ح، و: الجمل.
(5). اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.

من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته. وحكى أذلك قول مالك. وذكر أبو الفرج أن مالكا قال: من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شي عليه. قال إسماعيل: إلا أن يكون لمجوسي. وروى ابن وهب، وابن عبد الحكم عن مالك جواز بيعه، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده، لان الزكاة لا تعمل فيه، فالدباغ أولى. قال أبو عمر: وكل جلد ذكى فجائز استعماله للوضوء وغيره. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، ومرة قال: إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه، وتكره الصلاة عليه وبيعه، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه. وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أيما إهاب دبغ فقد طهر". وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث،. وهو اختيار ابن وهب. السابعة- ذهب الامام أحمد بن حنبل رضى الله عنه إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شي وإن دبغت، لأنها كلحم الميتة. والاخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله. واحتج بحديث عبد الله بن عكيم- رواه أبو داود- قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأرض جهينة وأنا غلام شاب:" ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". وفى رواية:" قبل موته بشهر «1»". رواه القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عكيم، قال: حدثنا مشيخة لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إليهم .. قال داود بن على: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فضعفه وقال: ليس بشيء، إنما يقول حدثني الأشياخ، قال أبو عمر: ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم، لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم" ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب" قبل الدباغ، وإذا احتمل ألا يكون مخالف أفليس لنا أن نجعله مخالفا، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن، وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه" أيما إهاب دبغ فقد طهر" قبل موته بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم.
__________
(1). لفظة" بشهر" ساقطة من سنن أبى داود.

الثامنة- المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي. وعند الأوزاعي وأبى ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه. وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه. قال ابن وضاح: وسمعت سحنونا يقول لا بأس به، وكذلك قال محمد بن عبد الحكم وداود بن على وأصحابه، لقوله عليه السلام:" أيما مسك «1» دبغ فقد طهر". قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها، فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة. ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل: إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل، وما عداه فإنما يقال له: جلد لا إهاب. قلت: وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أكل كل ذى ناب من السباع حرام" فليست الذكاة فيها ذكاة، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة. وروى النسائي عن المقدام بن معد يكرب قال:" نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحرير والذهب ومياثر النمور «2». التاسعة- اختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة ما هو؟ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه: كل شي دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به. وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول داود. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما- هذا، والآخر أنه لا يطهر إلا الشب والقرظ، لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي صلى اله عليه وسلم، وعليه خرج الخطابي- والله أعلم- ما رواه النسائي عن ميمونة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لو أخذتم إهابها" قالوا. إنها ميتة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يطهرها الماء والقرظ".
__________
(1). المسك (بالفتح وسكون السين): الجلد. وخص بعضهم به جلد السخلة، ثم كثر صار كل جلد مسكا، والجمع مسك ومسوك.
(2). أي عن أن تقرش جلودها على السرج والرحال للجلوس عليها لما فيه من التكبر أو لأنه زي العجم، أو لان الشعر نجس لا يقبل الدباغ. (عن شرح سنن النسائي). المياثر: جلود محشوة تجعل على الرحل.

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)

العاشرة- قوله تعالى: أَثاثاً الأثاث متاع البيت، واحدها أثاثة، هذا قول أبى زيد الأنصاري. وقال الأموي: الأثاث متاع البيت، وجمعه آثة وأثث. وقال غيرهما: الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه. وقال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر، ومنه شعر أثيث أي كثير. وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف، قال امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل

وقيل: الأثاث ما يلبس ويفترش. وقد تأثثت إذا اتخذت أثاثا. وعن ابن عباس رضى الله عنه" أَثاثاً"" مالا. وقد تقدم القول في الحين «1»، وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث. ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث

[سورة النحل (16): آية 81]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (ظِلالًا) الظلال: كل ما يستظل به من البيوت والشجر. وقوله" مِمَّا خَلَقَ" يعم جميع الاشخاص المظلة. الثانية- قوله تعالى: (أَكْناناً) الأكنان: جمح كن، وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، وهى هنا الغيران في الجبال، جعلها الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها. وفى الصحيح أنه عليه السلام كان في أول أمره يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالي .. الحديث، وفى صحيح البخاري قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). راجع ج 1 ص 321 وج 9 ص 360 فما بعد.

من مكة مهاجرا هاربا من قومه فارا بدينه مع صاحبه أبى بكر حتى لحقا بغار في جبل ثور، فمكنا «1» فيه ثلاث ليال يبيت عندهما فيه عبد الله بن أبى بكر وهو غلام شاب ثقف «2» لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيسمع أمرا يكادان «3» به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبى بكر منحة «4» من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما «5» حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ... وذكر الحديث. انفراد بإخراجه البخاري. الثالثة- قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) يعنى القمص، واحدها سربال. (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) يعنى الدروع التي تقى الناس في الحرب، ومنه قول كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
الرابعة- إن قال قائل: كيف قال" وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً" ولم يذكر السهل، وقال:" تَقِيكُمُ الْحَرَّ" ولم يذكر البرد؟ فالجواب أنهم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد، فذكر لهم نعمه التي تختص بهم كما خصهم بذكر الصوف وغيره، ولم يذكر القطن والكتان ولا الثلج- كما تقدم- فإنه لم يكن ببلادهم «6»، قال معناه عطاء الخراساني وغيره. وأيضا: فذكر أحدهما يدال على الآخر، ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغينى
الخامسة- قال العلماء: في قوله تعالى: (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) دليل على اتخاذ العباد عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الاعداء، وقد لبسها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقاة
__________
(1). في ج وو: مكثا.
(2). أي حاذق سريع الفهم، لقن حسن التلقن لما يسمعه.
(3). من الكيد، أي يطلب بهما ما فيه المكروه.
(4). أي شاة تحلب أناء بالغداة وأثناء بالعشي.
(5). الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وخمة. وينعق: يصيح.
(6). يقول محققة: ذكر الله لهم تلك النعم وهى دالة على ما يقابلها على سبيل الاكتفاء. والقطنم مشهور باليمن ومنه الثياب السحولية وكذا صحار ومنه كفن عبية السلام فيثوبين صحاريين. وكذا الثلج في جبال ببلاد العرب.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)

الجراحة وإن كان يطلب الشهادة، وليس للعبد «1» أن يطلبها بأن يستسلم للحتوف وللطعن بالسنان وللضرب بالسيوف، ولكنه يلبس لامة «2» حرب لتكون له قوة على قتال عدوه، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويفعل الله بعد ما يشاء. السادسة- قوله تعالى: (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) قرأ ابن محيصن وحميد" تتم" بتاءين،" نعمته" رفعا على أنها الفاعل. الباقون" يُتِمُّ" بضم الياء على أن الله هو يتمها. و" تُسْلِمُونَ" قراءة ابن عباس وعكرمة" تسلمون" بفتح التاء واللام، أي تسلمون من الجراح، وإسناده ضعيف، رواه عباد بن العوام عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس. الباقون بضم التاء، ومعناه تستسلمون وتنقادون إلى معرفة الله وطاعته شكرا على نعمه. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة، لان ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح.

[سورة النحل (16): آية 82]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82)
قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والايمان. (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا.

[سورة النحل (16): آية 83]
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
قوله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ) قال السدى: يعنى محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي يعرفون بوته" ثُمَّ يُنْكِرُونَها" ويكذبونه. وقال مجاهد: يريد ما عدد الله عليهم في هذه السورة من النعم، أي يعرفون أنها من عند الله وينكرونها بقولهم إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم. وبمثله قال قتادة. وقال عون بن عبد الله: هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، ولولا فلان ما أصبت كذا، وهم يعرفون النفع والضر من عند الله. وقال الكلبي: هو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عرفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا: نعم، هي كلها نعم من الله، ولكنها (هامش)
__________
(1). في ى: على العبد.
(2). لامة الحرب: أداته، وقد تترك الهمزة تخفيفا. في ى: حربه. [.....]

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)

بشفاعة آلهتنا. وقيل: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها. ويحتمل سادسا- يعرفونها في الشدة وينكرونها في الرخاء. ويحتمل سابعا- يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم. ويحتمل ثامنا- يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم، نظيرها" وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1»". (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) يعنى جميعهم. حسب ما تقدم.

[سورة النحل (16): آية 84]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) نظيره:" فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ" وقد تقدم «2». (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي في الاعتذار والكلام، كقوله: «ولا يؤذن لهم فيعتذرون» «3» وذلك حين تطبق عليهم جهنم، كما تقدم في أول" الحجر «4»" ويأتي. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يعنى يسترضون، أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لان الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون. واصل الكلمة من العتب وهى الموجدة، يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه فيه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب، قال الهروي. وقال النابغة:
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته ... وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب

[سورة النحل (16): آية 85]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
قوله تعالى: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا. (الْعَذابَ) أي عذاب جهنم بالدخول فيها. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون، إذ لا توبة لهم ثم.
__________
(1). راجع ج 13 ص 156.
(2). راجع ج 5 ص 197.
(3). راجع ج 19 ص 164.
(4). راجع ج 30 ص فما بعد من هذا الجزء.

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)

[سورة النحل (16): الآيات 86 الى 87]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)
قوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) قوله تعالى: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفى صحيح مسلم:" من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت" الحديث، خرجه من حديث أنس «1»، والترمذي من حديث أبى هريرة، وفية:" فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون" وذكر الحديث «2». (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أي الذين جعلناهم لك شركاء. (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي ألقت إليهم الآلهة القول، أي نطقت بتكذيب من عبدها بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، في، نطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار. وقيل: المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم. (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) يعنى المشركين، أي استسلموا لعذابه وخضعوا لعزه. وقيل: استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي زال عنهم ما زين لهم الشيطان وما كانوا يؤملون من شفاعة آلهتهم.

[سورة النحل (16): آية 88]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
__________
(1). ورد هذا الحديث في صحيح مسلم عن أبى هريرة. راجع كتاب الايمان باب معرفة طريق الرؤية.
(2). راجع الحديث في سنن الترمذي في باب صفة الجنة.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) قال ابن مسعود: عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي «1» تضربهم، فتلك الزيادة. وقيل: المعنى يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار. وقيل: المعنى زدنا القادة عذابا فوق السفلة، فأحد العذابين على كفرهم والعذاب الآخر على صدهم. (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) في الدنيا من الكفر والمعصية.

[سورة النحل (16): آية 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوا الرسالة ودعوهم إلى الايمان، في كل زمان شهيد وإن لم يكن نبيا، وفيهم قولان: أحدهما- أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء. الثاني- أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه. قلت: فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحد الله، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو ابن نفيل الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يبعث أمة وحده"، وسطيح «2»، وورقة ابن نوفل الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رأيته ينغمس في أنهار الجنة". فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم وشهيد عليهم. والله أعلم. وقوله:" وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ" تقدم في البقرة والنساء «3». قوله تعالى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) نظيره:" ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «4»" وقد تقدم، فلينظر هناك. وقال مجاهد: تبيانا للحلال والحرام.
__________
(1). البخاتي: جمال طوال الأعناق.
(2). هو كاهن بنى ذئب، كان يتكهن في الجاهلية، واسمه: ربيع بن ربيعة. (راجع سيرة ابن هشام ص 9 طبع أوربا).
(3). راجع ج 3 ص 154 وج 5 ص 197.
(4). راجع ج 6 ص 419.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

[سورة النحل (16): آية 90]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) روى عن عثمان بن مظعون أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبى طالب رضى الله عنه فتعجب فقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فو الله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق. وفى حديث- إن أبا طالب لما قيل له: إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" الآية، قال: اتبعوا ابن أخى، فو الله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق. وقال عكرمة: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الوليد بن المغيرة" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" إلى آخرها، فقال: يا بن أخى أعد! فأعاد عليه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر!. وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارئ. قال عثمان: ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الايمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا بن أخى أعد! فأعدت فقال: والله إن له لحلاوة، ... وذكر تمام الخبر. وقال ابن مسعود: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب. وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه. الثانية- اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان، فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض. وقيل: العدل الفرض، والإحسان النافلة. وقال سفيان بن عيينة: العدل ها هنا استواء السريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. على بن أبى طالب: العدل الانصاف، والإحسان التفضل. قال ابن عطية:

العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والانصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو فعل كل مندوب إليه، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على الاجزاء داخل في الإحسان. وأما قول ابن عباس ففيه نظر، لان أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث سؤال جبريل، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث سؤال جبريل بقوله:" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة. وقال ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها، قال الله تعالى:" وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى «1»" وعزوب «2» الاطماع عن الاتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى. وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والانصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الانصاف وترك الأذى. قلت: هذا التفصيل في العدل حسن وعدل، وأما الإحسان فقد قال علماؤنا: الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا. ويقال على معنيين: أحدهما متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي حسنته وكلمته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء. وثانيهما متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به. قلت: وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا، فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك، وهو تعالى غنى عن إحسانهم، ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن. وهو في حديث جبريل
__________
(1). راجع ج 19 ص 205.
(2). في ى: عزوف.

بالمعنى الأول لا بالثاني، فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة والمكملة، ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار. وهو المراد بقوله" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين: أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه. ولعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشار إلى هذه الحالة بقوله:" وجعلت قرة عيني في الصلاة". وثانيهما- لا تنتهي إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى:" الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
«1»وقوله:" إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ «2»" الثالثة- قوله تعالى: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي القرابة، يقول: يعطيهم المال كما قال:" وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ «3»" يعنى صلته. وهذا من باب عطف المندوب على الواجب، وبه استدل الشافعي في إيجاب إيتاء المكاتب، على ما يأتي بيانه. وإنما خص ذا القربى لان حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب، لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته، فقال في الصحيح:" أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك «4»". ولا سيما إذا كانوا فقراء. الرابعة- قوله تعالى: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) الفحشاء: الفحش، وهو كل قبيح من قول أو فعل. ابن عباس: هو الزنى. والمنكر: ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها. وقيل هو الشرك. والبغي: هو الكبر والظلم والحقد والتعدي، وحقيقته تجاوز الحد، وهو داخل تحت المنكر، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره. وفى الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا ذنب أسرع عقوبة من بغي". وقال عليه السلام:" الباغي مصروع". وقد وعد الله من بغى عليه بالنصر. وفى بعض الكتب المنزلة: لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا.
__________
(1). راجع ج 13 ص ...
(2). راجع ج 8 ص 355. [.....]
(3). راجع ص 247 من هذا الجزء
(4). راجع صحيح البخاري في كتاب التفسير في سورة محمد وكتاب الأدب والتوحيد. وصحيح مسلم في كتاب الأدب.

الخامسة- ترجم الامام أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري في صحيحه فقال: (باب قوله الله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، وقوله:" إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «1»"،" ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ «2»"، وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر) ثم ذكر حديث عائشة في سحر لبيد ابن الأعصم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن بطال: فتأول رضى الله عنه من هذه الآيات ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر، كما دل عليه حديث عائشة حيث قال عليه السلام:" أما الله فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا". ووجه ذلك- والله أعلم- أنه تأول في قول الله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" الندب بالإحسان إلى المسيء وترك معاقبته على إساءته. فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل في آيات البغي. قيل: وجه ذلك- والله أعلم- أنه لما أعلم الله عباده بأن ضرر البغي ينصرف على الباغي بقوله:" إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ" وضمن تعالى نصرة من بغى عليه، كان الاولى بمن بغى عليه شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه، وكذلك فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باليهودي الذي سحره، وقد كان له الانتقام منه بقوله:" وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «3»". ولكن آثر الصفح أخذا بقوله:" وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «4»". السادسة- تضمنت هذه الآية الامر بالمعروف والنهى عن المنكر. وقد تقدم القول فيهما «5». روى أن جماعة رفعت عاملها إلى أبى جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها، بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شي، فقام فتى من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإنه عدل ولم يحسن. قال: فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل.
__________
(1). راجع ج 8 ص 324.
(2). راجع ج 12 ص 89.
(3). راجع ص 200 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 16 ص 38.
(5). راجه ج 4 ص 37.

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)

[سورة النحل (16): آية 91]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)
فيه ثلاث مسائل: الاولى: قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ) لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة. وهذه الآية مضمن قوله:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" لان المعنى فيها: افعلوا كذا، وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل: إنها نزلت في بيعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام. وقيل: نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" يعنى في نصرة الحق والقيام به والمواساة. وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه «1»، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس. روى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لا جبت". وقال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن على في مال له، لسلطان الوليد فإنه كان أميرا على المدينة، فقال له حسين بن على: احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف والله لئن دعانا «2» لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك. وبلغت
__________
(1). في سيرة ابن هشام:" لشرفه وسنة".
(2). في سيرة ابن هشام:" لئن دعا به".

عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. قال العلماء: فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله:" لا حلف في الإسلام". والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم واخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى:" إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1»". وفى الصحيح (من قوله «2»:" انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال:" تأخذ على يديه- في رواية: تمنعه من الظلم- فإن ذلك نصره". وقد تقدم قوله عليه السلام:" إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده". الثانية- قوله تعالى: (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) يقول بعد تشديدها وتغليظها، يقال: توكيد وتأكيد، ووكد وأكد، وهما لغتان. الثالثة- قوله تعالى: (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) يعنى شهيدا. ويقال: حافظا، ويقال: ضامنا. وإنما قال" بَعْدَ تَوْكِيدِها" فرقا بين اليمين المؤكدة بالعزم وبين لغو اليمين. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك التوكيد هو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا، يردد فيه الايمان ثلاثا أو أكثر من ذلك، كقوله: والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا. قال: فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين. وقال يحيى بن سعيد: هي العهود، والعهد يمين، ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان". وأما اليمين بالله فقد شرع الله سبحانه فيها الكفارة بخصلة واحدة، وحل ما انعقدت عليه اليمين. وقال ابن عمر: التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة فيه. وقد تقدم في المائدة «3».
__________
(1). راجع ج 16 ص 44.
(2). من و.
(3). راجع ج 6 ص 364.

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

[سورة النحل (16): آية 92]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) النقض والنكث واحد، والاسم النكث والنقض، والجمع الأنكاث فشبهت هذه الآية الذي يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحله. ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه، قال الفراء، وحكاه عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة، وقال مجاهد وقتادة: وذلك ضرب مثل، لا على امرأة معينة. وأَنْكاثاً نصب على الحال. والدخل: الدغل والخديعة والغش. قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل. (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذ حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة كثيرة «1» قوية فداخلتها غدرت الاولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى- قاله مجاهد- فقال الله تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى أو أكثر أموالا فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لأعدائكم المشركين. والمقصود النهى عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم. وقال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عززتموهم بالايمان. (أَرْبى ) أي أكثر، من ربى الشيء يربو إذا كثر. والضمير في" بِهِ" يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به. ويحتمل أن يعود على الرباء، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها، وهو معنى قوله: (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من البعث وغيره.
__________
(1). في ى: كبيرة.

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

[سورة النحل (16): آية 93]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي على ملة واحدة. (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بخذلانه إياهم، عدلا منه فيهم. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بتوفيقه إياهم، فضلا منه عليهم، ولا يسأل عما يفعل بل تسألون أنتم. والآية ترد على أهل القدر كما تقدم. واللام في" وَلَيُبَيِّنَنَّ ولَتُسْئَلُنَّ" مع النون المشددة يدلان على قسم مضمر، أي والله ليبينن لكم ولتسئلن.

[سورة النحل (16): آية 94]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
قوله تعالى: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) كرر ذلك تأكيدا. (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) مبالغة في النهى عنه لعظم موقعه في الدين وتردده في معاشرات الناس، أي لا تعقدوا الايمان بالانطواء على الخديعة والفساد فتزل قدم بعد ثبوتها، أي عن الايمان بعد المعرفة بالله. وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه، لان القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر، ومن هذا المعنى قول كثير:
فلما توافينا ثبت وزلت

والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة: زلت قدمه، كقول الشاعر:
سيمنع منك السبق إن كنت سابقا ... وتقتل إن زلت بك القدمان
ويقال لمن أخطأ في شي: زل فيه ثم توعد تعالى بعد، بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد إنما هو فيمن نقض عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن من عاهده ثم نقض عهده خرج من الايمان، ولهذا قال: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي بصدكم. وذوق السوء في الدنيا هو ما يحل بهم من المكروه.

وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)

[سورة النحل (16): الآيات 95 الى 96]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
قوله تعالى: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) نهى عن الرشا واخذ الأموال على نقض العهد، أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول، فهو على التحقيق قليل، وهو المراد بقوله:" ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ" فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول، وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفى بالعهد وثبت على العقد. ولقد أحسن من قال:
المال ينفد حله وحرامه ... يوما وتبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتق لإلهه «1» ... حتى يطيب شرابه وطعامه
آخر:
هب الدنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلا مثل في ... أظلك ثم آذن بالزوال
قوله تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على الإسلام والطاعات وعن المعاصي. أي من الطاعات، وجعلها أحسن لان ما عداها من الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعات من حيث الوعد من الله. وقرا عاصم وابن كثير" وَلَنَجْزِيَنَّ" بالنون على التعظيم. الباقون بالياء. وقيل: إن هذه الآية" وَلا تَشْتَرُوا" أي هنا نزلت في امرئ القيس بم عابس الكندي وخصمه ابن أسوع «2»، اختصما في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلما سمع هذه الآية نكل وأقر له بحقه، والله أعلم.
__________
(1). في نسخ الأصل:
ليس التقى بمن يمير بأهله

وفي ى: يميز، والتثويب عن أدب الدنيا والدين ص 212 طبع بولاق. [.....]
(2). الذي في كتب الصحابة في ترجمة امرى القيس بن عابس أنه ربيعة بن عيدان. وقال صاحب كتاب الإصابة في ترجمة عيدان بن أسوغ:" ذكر مقاتل في تفسيره أنه الذي حاصر امرأ القيس بن عابس الكندي في أرضه، وفية نزلت" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ..." الآية.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

[سورة النحل (16): آية 97]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) شرط وجوابه. وفي الحياة الطيبة خمسة أقوال: الأول- أنه الرزق الحلال، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك. الثاني- القناعة، قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه، ورواه الحكم عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثالث- توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله، قال معناه الضحاك. وقال أيضا: من عمل صالحا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحا فمعيشته ضنك لا خير فيها. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، وقاله الحسن، وقال: لا تطيب الحياة لاحد إلا في الجنة. وقيل: هي السعادة، روى عن ابن عباس أيضا. وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة. وقال سهل بن عبد الله التستري: هي أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق. وقال جعفر الصادق: هي المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله. وقيل: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق. وقيل: الرضا بالقضاء. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) أي في الآخرة. (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). وقال:" فَلَنُحْيِيَنَّهُ" ثم قال:" وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ" لان" مَنْ" يصلح للواحد والجمع، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى. وقد تقدم. وقال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وناس من أهل الإنجيل وناس من أهل الأوثان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فنزلت.

[سورة النحل (16): آية 98]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98)
فيه مسألة واحدة- وهى أن هذه الآية متصلة بقوله:" وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ" فإذا أخذت في قراءته فاستعذ بالله من أن يعرض لك الشيطان فيصدك عن

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

تدبره والعمل بما فيه، وليس يريد استعذ بعد القراءة، بل هو كقولك إذا أكلت فقل بسم الله، أي إذا أردت أن تأكل. وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين افتتح الصلاة قال" اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه «1»". وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة. قال الكيا الطبري: ونقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقا، احتجاجا بقوله تعالى:" فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ" ولا شك أن ظاهر ذلك يقتضي أن تكون الاستعاذة بعد القراءة، كقوله تعالى:" فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً «2»". إلا أن غيره محتمل، مثل قوله تعالى:" وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
«3» وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «4»" وليس المراد به أن يسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم. ومثله قول القائل: إذا قلت فاصدق، وإذا أحرمت فاغتسل، يعني قبل الإحرام. والمعنى في جميع ذلك: إذا أردت ذلك، فكذلك الاستعاذة. وقد تقدم هذا المعنى «5»، وتقدم القول في الاستعاذة مستوفى «6».

[سورة النحل (16): الآيات 99 الى 100]
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالإغواء والكفر، أي ليس لك قدرة على أن تحملهم على ذنب لا يغفر، قاله سفيان. وقال مجاهد: لا حجة له على ما يدعوهم إليه من المعاصي. وقيل: إنه ليس عليهم سلطان بحال، لان الله تعالى صرف
__________
(1). الهمزة: النخس والغمز، وكل شي دفعته فقد همزته. والنفخ: الكبر، لان المتكبر يتعاظم ويجمع نفسه ونفسه فيحتاج أن ينفخ. والنفث: قال ابن الأثير: جاء تفسيره في الحديث أنه الشعر، لأنه ينفث من الفم.
(2). راجع ج 5 ص 373.
(3). راجع ج 7 ص 137.
(4). راجع ج 14 ص 227.
(5). راجع ج 6 ص 80.
(6). راجع ج 1 ص 86.

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

سلطانه عليهم حين قال عدو الله إبليس لعنه الله:" وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «1»" قال الله تعالى:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ". قلت: قد بينا أن هذا عام يدخله التخصيص، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله: من خلق ربك؟ حسبما تقدم في آخر الأعراف «2» بيانه. (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي يطيعونه. يقال: توليته أي أطعته، وتوليت عنه، أي أعرضت عنه. (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي بالله، قاله مجاهد والضحاك. وقيل: يرجع" بِهِ" إلى الشيطان، قاله الربيع بن أنس والقتبي. والمعنى: والذين هم من أجله مشركون. يقال: كفرت بهذه الكلمة، أي من أجلها. وصار فلان بك عالما، أي من أجلك. أي والذي تولى الشيطان مشركون بالله.

[سورة النحل (16): الآيات 101 الى 102]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
قوله تعالى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) قيل: المعنى بدلنا شريعة متقدمة بشريعة مستأنفة، قاله ابن بحر. مجاهد: أي رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها. وقال الجمهور: نسخنا آية بآية أشد منها عليهم. والنسخ والتبديل رفع الشيء مع وضع غير مكانه. وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة مستوفى «3». (قالُوا) يريد كفار قريش. (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي كاذب مختلق، وذلك لما رأوا من تبديل الحكم. فقال الله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله شرع الأحكام وتبديل البعض بالبعض. وقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ)
__________
(1). راجع ج 27 من هذا الجزء فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 348.
(3). راجع ج 2 ص 61 وما بعدها.

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

يعني جبريل، نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه. وروى بإسناد صحيح عن عامر الشعبي قال: وكل إسرافيل بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث سنين، فكان يأتيه بالكلمة والكلمة، ثم نزل عليه جبريل بالقرآن. وفي صحيح مسلم أيضا أنه نزل عليه بسورة" الحمد" ملك لم ينزل إلى الأرض قط. كما تقدم في الفاتحة بيانه «1». (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أي من كلام ربك. (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بما فيه من الحجج والآيات. (وَهُدىً) أي وهو هدى. (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).

[سورة النحل (16): آية 103]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) اختلف في اسم هذا الذي قالوا إنما يعلمه، فقيل: هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر، كان نصرانيا فأسلم، وكانوا إذا سمعوا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما مضى وما هو آت مع أنه أمي لم يقرأ قالوا: إنما يعلمه جبر وهو أعجمي، فقال الله تعالى: (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي كيف يعلمه جبر وهو أعجمي هذا الكلام الذي لا يستطيع الانس والجن أن يعارضوا منه سورة واحدة فما فوقها. وذكر النقاش أن مولى جبر كان يضربه ويقول له: أنت تعلم محمدا، فيقول: لا والله، بل هو يعلمني ويهديني. وقال ابن إسحاق: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغني- كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر، عبد بني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب، فقال المشركون: والله ما يعلم محمدا ما يأتي به إلا جبر النصراني. وقال عكرمة: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقنه القرآن، ذكره المارودي. وذكر الثعلبي عن عكرمة وقتادة أنه غلام لبني المغيرة اسمه يعيش، وكان يقرأ الكتب الاعجمية، فقالت قريش: إنما يعلمه بشر، فنزلت. المهدوي عن عكرمة:
__________
(1). راجع ج 1 ص 116.

هو غلام لبني عامر بن لؤي، واسمه يعيش. وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر جبر. كذا ذكر الماوردي والقشيري والثعلبي، إلا أن الثعلبي قال: يقال لأحدهما نبت ويكنى أبا فكيهة، والآخر جبر، وكانا صيقلين «1» يعملان السيوف، وكانا يقرأن كتابا لهم. الثعلبي: يقرأن التوراة والإنجيل. الماوردي والمهدوي: التوراة. فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمر بهما ويسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون: يتعلم منهما، فأنزل الله هذه الآية وأكذبهم. وقيل: عنوا سلمان الفارسي رضي الله عنه، قاله الضحاك. وقيل: نصرانيا بمكة اسمه بلعام، وكان غلاما يقرأ التوراة، قاله ابن عباس. وكان المشركون يرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام. وقال القتبي: كان بمكة رجل نصراني يقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية، فربما قعد إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الكفار: انما يتعلم محمد منه، فنزلت. وفي رواية أنه عداس غلام عتبة بن ربيعة. وقيل: عابس غلام حويطب بن عبد العزى ويسار أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي، وكانا قد أسلما. والله أعلم. قلت: والكل محتمل، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله، وكان ذلك بمكة. وقال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأنه يجوز أن يكونوا أومئوا إلى هؤلاء جميعا، وزعموا أنهم يعلمونه. قلت: وأما ما ذكره الضحاك من أنه سلمان ففيه بعد، لان سلمان إنما أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، وهذه الآية مكية. (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) الإلحاد: الميل، يقال: لحد وألحد، أي مال عن القصد وقد تقدم في الأعراف «2». وقرا حمزة" يلحدون" بفتح الياء والحاء، أي لسان الذي يميلون إليه ويشيرون أعجمي. والعجمة: الإخفاء وضد البيان. ورجل أعجم وامرأة عجم، أي لا يفصح، ومنه عجم الذنب لاستتاره. والعجماء:
__________
(1). الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها
(2). راجع ج 7 ص 328.

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

البهيمة، لأنها لا توضح عن نفسها. وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بكلامهم أعجميا. وقال الفراء: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي أو العجمي الذي أصله من العجم. وقال أبو علي: الأعجمي الذي لا يفصح، سواء كان من العرب أو من العجم، وكذلك الأعجم والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. وأراد باللسان القرآن، لان العرب تقول للقصيدة والبيت لسانا، قال الشاعر:
لسان الشر تهديها إلينا ... وخنت وما حسبتك أن تخونا
يعني باللسان القصيدة. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ أي أفصح ما يكون من العربية.

[سورة النحل (16): آية 104]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي هؤلاء المشركون الذين لا يؤمنون بالقرآن (لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.)

[سورة النحل (16): آية 105]
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
قوله تعالى: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) 105 (قوله تعالى:) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) هذا جواب وصفهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالافتراء. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) هذا مبالغة في وصفهم بالكذب، أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم. ويقال: كذب فلان ولا يقال إنه كاذب، لان الفعل قد يكون لازما وقد لا يكون لازما. فأما النعت فيكون لازم ولهذا يقال: عصى آدم ربه فغوى، ولا يقال: إنه عاص غاو. فإذا قيل: كذب فلان فهو كاذب، كان مبالغة في الوصف بالكذب، قاله القشيري.

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

[سورة النحل (16): آية 106]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)
فيه إحدى وعشرون مسألة: الأولى قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) هذا متصل بقوله تعالى:" وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها" فكان مبالغة في الوصف بالكذب، لان معناه لا ترتدوا عن بيعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي من كفر من بعد إيمانه وارتد فعليه غضب الله. قال الكلبي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن ضبابة وعبد الله بن خطل «1»، وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم. ثم قال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ). وقال الزجاج:" مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ" بدل ممن يفترى الكذب، أي إنما يفترى الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله. وقال الأخفش:" مَنْ" ابتداء وخبره محذوف، اكتفي منه بخبر" من" الثانية، كقولك: من يأتنا من يحسن نكرمه. الثانية- قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، في قول أهل التفسير، لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه. قال ابن عباس: أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كيف تجد قلبك"؟ قال: مطمئن بالايمان. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فإن عادوا فعد". وروى منصور بن المعتمر عن مجاهد قال: أول شهيدة في الإسلام أم عمار، قتلها أبو جهل، وأول
__________
(1). في الأصول:" عبد الله بن أمس بن خطل" وهو تحريف. [.....]

شهيد من الرجال مهجع مولى عمر. وروى منصور أيضا عن مجاهد قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسميه أم عمار. فأما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذوا الآخرين فألبسوهم أدرع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشي أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، وأتى سمية فجعل يسبها ويرفث «1»، ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربة من فمها فقتلها، رضي الله عنها. قال: وقال الآخرون ما سئلوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، فجعلوا يعذبونه ويقولون له: ارجع عن دينك، وهو يقول أحد أحد، حتى ملوه، ثم كتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي «2» مكة حتى ملوه وتركوه، قال فقال عمار: كلنا تكلم بالذي قالوا- لولا أن الله تداركنا- غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، فهان على قومه حتى ملوه وتركوه. والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالا فأعتقه. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن ناسا من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة: أن هاجروا إلينا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة حتى أدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية. ذكر الروايتين عن مجاهد إسماعيل بن إسحاق. وروى الترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما" هذا حديث حسن غريب. وروى عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان بن ربيعة". قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح. الثانية- لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب
__________
(1). الرفث: الفحش من القول.
(2). الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكة،. هما أبو قبيس والأحمر.

عليه حكم، وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" الحديث. والخبر وإن لم يصح سنده فإن معنا صحيح باتفاق من العلماء، قاله القاضي أبو بكر بن العربي. وذكر أبو محمد عبد الحق أن إسناده صحيح، قال: وقد ذكره أبو بكر الاصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الإقناع. الرابعة- أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي، غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما. وهذا قول يرده الكتاب والسنة، قال الله تعالى:" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ" الآية. وقال:" إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً «1»" وقال:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ «2»" الآية. وقال:" إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ «3»" الآية. فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به، قاله البخاري. الخامسة- ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر واكل الربا، يروى هذا عن الحسن البصري، رضي الله عنه. وهو قول الأوزاعي وسحنون من علمائنا. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير: اسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك. فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ، ففي الصحيح عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان
__________
(1). راجع ج 4 ص 57.
(2). راجع ج 5 ص 345.
(3). راجع ج 5 ص 345.

وجهه، قال: وفية نزلت" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1»" في رواية: ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. فإذا كان هذا مباحا في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا. واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذى سلطان إلا كنت متكلما به. فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يجعل الكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الايمان. روى ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع. السادسة- أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الاقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدى نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. واختلف في الزنى، فقال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم وابن الماجشون: لا يفعل أحد ذلك، وإن قتل لم يفعله، فإن فعله فهو آثم ويلزمه الحد، وبه قال أبو ثور والحسن. قال ابن العربي: الصحيح أنه يجوز الاقدام على الزنى ولا حد عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك، لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك، وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس الشيء على ضده، فلم يحل بصواب من عنده. وقال ابن خويز منداد في أحكامه: اختلف أصحابنا متى أكره الرجل على الزنى، فقال بعضهم: عليه الحد، لأنه إنما يفعل ذلك باختياره. وقال بعضهم: لا حد عليه. قال ابن خويز منداد: وهو الصحيح. وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير السلطان حد، وإن أكرهه السلطان فالقياس أن يحد، ولكن استحسن ألا يحد. وخالفه صاحباه فقالا: لا حد عليه في الوجهين، ولم يراعوا الانتشار،
__________
(1). راجع ج 2 ص 79.

وقالوا: متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر. قال ابن المنذر لا حد عليه، ولا فرق بين السلطان في ذلك وغير السلطان. السابعة- اختلف العلماء في طلاق المكره وعتاقه، فقال الشافعي وأصحابه: لا يلزمه شي. وذكر ابن وهب عن عمر وعلي وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئا. وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وأجازت طائفة طلاقه، روى ذلك عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة والزهري وقتادة، وهو قول الكوفيين. قال أبو حنيفة: طلاق المكره يلزم، لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياس باطل، فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راض به، والمكره غير راض ولا نية له في الطلاق، وقد قال عليه السلام:" إنما الأعمال بالنيات". وفي البخاري: وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق: ليس بشيء، وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن. وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسره ابن عيينة فقال: إن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله. الثامنة- وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان. الاولى- أن يبيع ماله في حق وجب عليه، فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء، لأنه يلزمه أداء الحق إلى ربه من غير المبيع، فلما لم يفعل ذلك كان بيعه اختيارا منه فلزمه. وأما بيع المكره ظلما أو قهرا فذلك بيع لا يجوز عليه. وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشترى بالثمن ذلك الظالم، فإن فات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشترى غير عالم بظلمه. قال مطرف: ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وكلما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه. قال سحنون: أجمع أصحابنا واهل العراق على أن بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز. وقال الأبهري: إنه إجماع.

التاسعة- وأما نكاح المكره، فقال سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه، لأنه لم ينعقد. قال محمد بن سحنون: وأجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم، وصداق مثلها ألف درهم، أن النكاح جائز وتلزمه الالف ويبطل الفضل. قال محمد: فكما أبطلوا الزائد على الالف فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه. وقولهم خلاف السنة الثابتة في حديث خنساء بنت حذام الأنصارية، ولأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاستئمار في أبضاعهن، وقد تقدم، فلا معنى لقولهم. العاشرة- فان وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطي والرضا بالنكاح لزمه النكاح عندنا على المسمى من الصداق ودرئ عنه الحد. وإن قال: وطئتها على غير رضا مني بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى، لأنه مدع لإبطال الصداق المسمى، وتحد المرأة إن أقدمت وهي عالمة أنه مكره على النكاح. وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطي فلا حد عليها ولها الصداق، ويحد الواطئ، فأعلمه. قاله سحنون. الحادية عشرة- إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حد عليها، لقوله" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ" وقوله عليه السلام:" إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولقول الله تعالى:" فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1»" يريد الفتيات. وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدها. والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة. وقال مالك: إذا وجدت المرأة حاملا وليس لها زوج فقالت استكرهت فلا يقبل ذلك منها وعليها الحد، إلا أن تكون لها بينة أو جاءت تدمي على أنها أوتيت»
، أو ما أشبه ذلك. واحتج بحديث عمر بن الخطاب أنه قال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
__________
(1). راجع ج 12 ص 255.
(2). عبارة الموطأ:" أو جاءت تدمى إن كانت بكرا أو استغاثت حتى أوتيت وعلى ذلك ..." إلخ.

الثانية عشرة- واختلفوا في وجوب الصداق للمستكرهة، فقال عطاء والزهري: لها صداق مثلها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال الثوري: إذا أقيم الحد على الذي زنى بها بطل الصداق. وروى ذلك عن الشعبي، وبه قال أصحاب مالك وأصحاب الرأى. قال ابن المنذر: القول الأول صحيح. الثالثة عشرة- إذا أكره الإنسان على إسلام أهله لما لم يحل أسلمها، ولم يقتل «1» نفسه دونها ولا أحتمل أذية في تخليصها. والأصل في ذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فأرسل إليه أن أرسل بها إلي فأرسل بها فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله «2»". ودل هذا الحديث أيضا على أن سارة لما لم يكن عليها ملامة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكبر من الخلوة. والله أعلم. الرابعة عشرة- وأما يمين المكره فغير لازمة. عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء. قال ابن الماجشون: وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذ أكره على اليمين، وقاله أصبغ. وقال مطرف: إن أكره على اليمين فيما هو لله معصية أو ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق لا يشرب خمرا، أو لا يفسق ولا يغش في عمله، أو الولد يحلف ولده تأديبا له فإن اليمين تلزم، وإن كان المكره قد أخطأ فيما يكلف من ذلك. وقال به ابن حبيب. وقال أبو حنيفة ومن اتبعه من الكوفيين: إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث، قالوا: لان المكره له أن يورى في يمينه كلها، فلما لم يور ولا ذهبت نيته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين. احتج الأولون بأن قالوا: إذا أكره عليها فنيته مخالفة لقوله، لأنه كاره لما حلف عليه.
__________
(1). ينظر هذا على ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وابن ماجة وفية" من قتل دون أهله شهيد". كشف الخفاج ص 269.
(2). ذكر المؤلف هذا الحديث مختصرا، في شرح القسطلاني، كتاب اليبوع ج 4 ص 122 طبعه بولاق. الغط هنا هو العصر الشديد والكبس، والركض الضرب بالرجل.

الخامسة عشرة- قال ابن العربي: ومن غريب الامر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع به أم لا، وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا! وأى فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع! فاتقوا الله وراجعوا بصائركم، ولا تغتروا بهذه الروية فإنها وصمة في الدراية. السادسة عشرة- إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المكس وظلمة السعاة واهل الاعتداء، فقال مالك: لا تقية له في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا ماله. وقال ابن الماجشون: لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه. وقال ابن القاسم بقول مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. قلت: قول ابن الماجشون صحيح، لان المدافعة عن المال كالمدافعة عن النفس، وهو قول الحسن وقتادة وسيأتي. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" وقال:" كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". وروى أبو هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلا يريد أخذ مالى؟ قال:" فلا تعطه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال:" قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال:" فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته؟ قال:" هو في النار" خرجه مسلم «1». وقد مضى الكلام فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: وإن بدر الحالف بيمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من ماله وبدنه فحلف له فإنها تلزمه. وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب، وإنما حلف خوفا من ضربه وقتله واخذ ماله: فإن كان إنما تبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شي عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث. السابعة عشرة- قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض، فإن في المعاريض «2» لمندوحة عن الكذب. ومتى لم يكن
__________
(1). ويؤيد هذا ما رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر" من قتل دون كاله فهو شهيد" كشفا الخفا ج 2 ص 296.
(2). المعاريض: التورية بالشيء عن الشيء. وأعرض الكلام ومعارضة ومعاريضه: كلام يشبه بعضه بعضا في المعاني.

كذلك كان كافرا، لان المعاريض لا سلطان للإكراه عليها. مثاله- أن يقال له: اكفر بالله فيقول باللاهى، فيزيد الياء. وكذلك إذا قيل له: أكفر بالنبي فيقول هو كافر بالنبي، مشددا وهو المكان المرتفع من الأرض «1». ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة، فيقصد أحدهما بقلبه ويبرأ من الكفر ويبرأ من إثمه. فإن قيل له: أكفر بالنبي (مهموزا) فيقول هو كافر بالنبي يريد بالمخبر، أي مخبر كان كطليحة «2» ومسلمة الكذاب. أو يريد به النبي الذي قال فيه الشاعر:
فأصبح رتما دقاق الحصى ... مكان النبي من الكاثب «3»
الثامنة عشرة- أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة. واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له، فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسحنون. وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنه إذا تهدد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير، فان لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما لأنه كالمضطر. وروى خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلت: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال:" قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الامر «4» حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". فوصفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر وتبطنوا الايمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم. وهذه حجة من آثر الضرب
__________
(1). ومنه الحديث:" لا تصلوا على النبي" أي على الأرض المرتفعة المحدودبة.
(2). هو طليحة ابن خويلد بن نوفل الأسدي، ارتد بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وادعى النبوة ثم أسلم. [.....]
(3). الرتم (بالتاء والثاء): الدق والكسر. ويريد بالنبي المكان المرتفع. والكائب: الرمل المجتمع.
(4). يريد الإسلام.

والقتل والهوان على الرخصة والمقام بدار الجنان. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة" الأخدود «1»" إن شاء الله تعالى. وذكر أبو بكر محمد بن محمد بن الفرج البغدادي قال: حدثنا شريح بن يونس عن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. قال.: أتشهد أنى رسول الله؟ قال نعم. فخلى عنه. وقال الآخر: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. قال: وتشهد أنى رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع، فقدمه وضرب عنقه. فجاء هذا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هلكت! قال:" وما أهلكك"؟ فذكر الحديث، قال:" أما صاحبك فأخذ بالثقة «2» وأما أنت فأخذت بالرخصة على ما أنت عليه الساعة" قال: أشهد أنك رسول الله. قال" أنت على ما أنت عليه". الرخصة فيمن حلفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل، فقال الحسن: إذا خاف عليه وعلى ماله فليحلف ولا يكفر يمينه، وهو قول قتادة إذا حلف على نفسه أو مال نفسه. وقد تقدم ما للعلماء في هذا. وذكر موسى بن معاوية أن أبا سعيد بن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنه ما آواه، ولا يعلم له موضعا، قال: فحلف له ابن أشرس، وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلفه بالطلاق ثلاثا، فحلف له ابن أشرس، ثم قال لامرأته: اعتزلي فاعتزلته، ثم ركب ابن أشرس حتى قدم على البهلول بن راشد القيروان، فأخبره بالخبر، فقال له البهلول: قال مالك إنك حانث. فقال ابن أشرس: وأنا سمعت مالكا يقول ذلك، وإنما أردت الرخصة أو كلام هذا معناه، فقال له البهلول ابن راشد: قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك. قال: فرجع ابن أشرس إلى زوجته واخذ بقول الحسن. وذكر عبد الملك بن حبيب قال: حدثني معبد عن المسيب بن شريك عن أبى شيبة قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال نعم، ولان أحلف سبعين يمينا
__________
(1). راجع ج 19 ص 284.
(2). عبارة الدر المنثور: (" أما صاحبك فمضى على إيمانه".)

وأحنث أحب إلى أن أدل على مسلم. وقال إدريس بن يحيى كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه فقال: يا رجاء! اذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير؟ فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين، فقال له الوليد: قل آلله الذي لا إله إلا هو، قال: آلله الذي لا إله إلا هو، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطا، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء، بك يستقى «1» المطر، وسبعون سوطا في ظهري! فيقول رجاء: سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم. التاسعة عشرة- واختلف العلماء في حد الإكراه، فروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود ما كلام يدرأ عنى سوطين إلا كنت متكلما به. وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المعتدى وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه. وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراها على شرب الخمر واكل الميتة، لأنه لا يخاف منهما التلف. وجعلوها إكراها في إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال ابن سحنون: وفى إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف، ولا حنث عليه، وهو قول الشافعي وأحمد وأبى ثور وأكثر العلماء. الموفية عشرين- ومن هذا الباب ما ثبت إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال: لا بأس إذا بلغ الرجل عنك شي أن تقول:
__________
(1). في ج وى: يستسقى.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)

والله، إن الله يعلم ما قلت فيك من ذلك من شي. قال عبد الملك بن حبيب: معناه أن الله يعلم أن الذي قلت، وهو في ظاهره انتفاء من القول، ولا حنث على من قال ذلك في يمينه ولا كذب عليه في كلامه. وقال النخعي: كان لهم كلام من الغاز الايمان يدرءون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث «1». قال عبد الملك: وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر ولا خديعة في حق. وقال الأعمش: كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه جلس في مسجد بيته وقال لجاريته: قولي له هو والله في المسجد. وروى مغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز للرجل من البعث «2» إذا عرضوا على أميرهم أن يقول: والله ما أهتدى إلا ما سدد لي غيرى، ولا أركب إلا ما حملني غيرى، ونحو هذا من الكلام. قال عبد الملك: يعنى بقوله:" غيرى" الله تعالى، هو مسدده وهو يحمله، فلم يكونوا يرون على الرجل في هذا حنثا في يمينه، ولا كذبا في كلامه، وكانوا يكرهون أن يقال هذا في خديعة وظلم وجحد ان «3» حق فمن اجترأ وفعل أثم في خديعته ولم تجب عليه كفارة في يمينه. الحادية والعشرون- قوله تعالى: (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ) أي وسعه لقبول الكفر، ولا يقدر أحد على ذلك إلا الله، فهو يرد على القدرية. و" صَدْراً" نصب على المفعول. (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب جهنم.

[سورة النحل (16): الآيات 107 الى 109]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
__________
(1). وذلك كما في كتاب الملاحن لابن دريد.
(2). البعث: الجيش.
(3). هذا المصدر لم تورده كتب اللغة في هذه المادة.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

قوله تعالى: (ذلِكَ) أي ذلك الغضب. (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي اختاروها على الآخرة. (وَأَنَّ اللَّهَ)" أَنَّ" في موضع خفض عطفا على" بِأَنَّهُمُ". (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ثم وصفهم فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي عن فهم المواعظ. (وَسَمْعِهِمْ) عن كلام الله تعالى. (وَأَبْصارِهِمْ) عن النظر في الآيات. (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عما يراد بهم. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) تقدم «1».

[سورة النحل (16): آية 110]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) هذا كله في عمار. على الجهاد، ذكره النحاس. وقال قتادة: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين إلى المدينة بعد أن فتنهم المشركون وعذبوهم، وقد تقدم ذكرهم في هذه السورة «2». وقيل: نزلت في ابن أبى سرح، وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله يوم فتح مكة، فاستجار بعثمان فأجاره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره النسائي عن عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل." مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ- إلى قوله- وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ" فنسخ، واستثنى من ذلك فقال:" ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" وهو عبد الله بن سعد بن أبى سرح الذي كان على مصر،. كان يكتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة النحل (16): آية 111]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
__________
(1). راجع ج 9 ص 20.
(2). راجع ص 180 من هذا الجزء.

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)

قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي إن الله غفور رحيم في ذلك. أو ذكرهم." يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها" أي تخاصم وتحاج عن نفسها، جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي! من شدة هول يوم القيمة سوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يسأل في أمته. وفى حديث عمر أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب، خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا. فقال له كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لاتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبى منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلى بالخلة فيقول: يا رب، أنا خليلك إبراهيم، لا أسألك اليوم إلا نفسي! قال: يا كعب، أين تجد ذلك في كتاب الله؟ قال: قوله تعالى:" يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ". وقال ابن عباس في هذه الآية: ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: رب، الروح منك أنت خلقته، لم تكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشى بها، ولا عين أبصر بها، ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني، فيقول الجسد: رب، أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة، ليس لي يد أبطش بها، ولا قدم أسعى به، ولا بصر أبصر به، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشعاع النور، فبه نطق لساني، وبه أبصرت عيني، وبه مشت رجلي، وبه سمعت أذنى، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني منه. قال: فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالاعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الأعمى ايتني فاحملني آكل وأطعمك، فدنا منه فحمله، فأصابوا من الثمرة، فعلى من يكون العذاب؟ (قالا «1»: عليهما) قال: عليكما جميعا العذاب، ذكره الثعلبي.

[سورة النحل (16): آية 112]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)
__________
(1). من ج وى، وفى و: قال.

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)

قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً) هذا متصل بذكر المشركين. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا على مشركي قريش وقال:" اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف". فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، ووجه إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاما ففرق فيهم. (كانَتْ آمِنَةً) لا يهاج أهلها. (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من البر والبحر، نظيره" يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ «1»" الآية. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) الانعم: جمع النعمة، كالاشد جمع الشدة. وقيل: جمع نعمى، مثل بؤسى وأبؤس. وهذا الكفران تكذيب بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَأَذاقَهَا اللَّهُ) أي أذاق أهلها. (لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) سماه لباسا لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس. (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي من الكفر والمعاصي. وقرا حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبى إسحاق والحسن وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث وعبيد وعباس" والخوف" نصبا بإيقاع أذاقها عليه، عطفا على." لِباسَ الْجُوعِ" [أي أذاقها الله لباس الجوع «2»]" وأذاقها الخوف. وهو بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سراياه التي كانت تطيف بهم. واصل الذوق بالفم ثم يستعار فيوضع موضع الابتلاء. وضرب مكة مثلا لغيرها من البلاد، أي إنها مع جوار بيت الله وعمارة مسجده لما كفر أهلها أصابهم القحط فكيف بغيرها من القرى. وقد قيل: إنها المدينة، آمنت برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم كفرت بأنعم الله لقتل عثمان ابن عفان، وما حدث بها بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفتن. وهذا قول عائشة وحفصة زوجي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قيل: إنه مثل مضروب بأى قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى.

[سورة النحل (16): آية 113]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
__________
(1). راجع ج 13 ص 299.
(2). من ج وى.

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)

قوله تعالى: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) هذا بدل على أنها مكة. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) وهو الجوع الذي وقع بمكة. وقيل: الشدائد والجوع منها.

[سورة النحل (16): آية 114]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي كلوا يا معشر المسلمين من الغنائم. وقيل: الخطاب للمشركين، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إليهم بطعام رقة عليهم، وذلك أنهم لما ابتلوا بالجوع سبع سنين، وقطع العرب عنهم الميرة بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكلوا العظام المحرقة والجيفة والكلاب الميتة والجلود والعلهز، وهو الوبر يعالج بالدم. ثم إن رؤساء مكة كلموا «1» رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جهدوا وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان. وقال له أبو سفيان: يا محمد، إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم. فدعا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأذن للناس «2» بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون.

[سورة النحل (16): آية 115]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
تقدم في" البقرة" القول فيها مستوفى «3».

[سورة النحل (16): الآيات 116 الى 117]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
__________
(1). في ج: كاتبوا. [.....]
(2). في ى: أمر الناس.
(3). راجع ج 2 ص 216 وما بعدها.

فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (لِما تَصِفُ) ما هاهنا مصدرية، أي لوصف. وقيل: اللام لام سبب وأجل، أي لا تقولوا لأجل وصفكم" الْكَذِبَ" بنزع الخافض، أي لما تصف ألسنتكم من الكذب. وقرى." الكذب" بضم الكاف والذال والياء، نعتا للألسنة، وقد تقدم «1». وقرأ الحسن هنا خاصة «الْكَذِبَ» بفتح الكاف وخفض الذال والباء، نعتا" لما"، التقدير: ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم، (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ). الآية خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الانعام وإن كان ميتة. فقوله:" هذا حَلالٌ" اشارة إلى ميتة بطون الانعام، وكل ما أحلوه. وقوله:" وَهذا حَرامٌ" إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموه. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قريب. وقال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل. وقيل: لهم متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم. الثانية- أسند الدرامى أبو محمد في مسنده: أخبارنا هارون عن حفص عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون. قال ابن وهب قال مالك: لم يكن من فتيا الناس ان يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولون إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. ومعنى هذا: ان التحليل وتحريم انما هو لله عز وجل، وليس لاحد ان يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، الا ان يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه. وما يؤدى إليه الاجتهاد في انه حرام يقول: انى اكره [كذا]. وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من اهل التقوى. فان قيل: فقد قال فيمن قال لزوجته أنت على حرام انها حرام ويكون ثلاثا. فالجواب أن مالكا لما سمع على بن ابى طالب يقول انها اقتدى به. وقد يقوى الدليل على التحريم
__________
(1). راجع ص 120 من هذا الجزء.

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

عن المجتهد فلا بأس عنه ذلك ان يقول ذلك، كما يقول ان الربا حرام في غير الأعيان السته «1»، وكثيرا ما يطلق مالك رحمه الله، فذلك حرام لا يصلح في الأموال الربوية وفيما خالف المصالح وخرج عن طريق المقاصد لقوة الادلة في ذلك.

[سورة النحل (16): آية 118]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
قوله تعالى:" وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا" بين ان الانعام والحرث حلال لهذه الامة، فأما اليهود فحرمت عليهم منها أشياء. (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ" أي في سورة الانعام «2». (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي بتحريم ما حرمنا عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم، كما تقدم في النساء «3».

[سورة النحل (16): آية 119]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أي الشرك، قاله ابن عباس. وقد تقدم في النساء «4».

[سورة النحل (16): آية 120]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
قوله تعالى: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) دعا عليه السلام مشركي العرب إلى ملة إبراهيم، إذ كان أباهم وباني البيت الذي به عزهم، والامة: الرجل الجامع للخير، وقد تقدم محامله «5». وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: بلغني أن عبد الله بن مسعود
__________
(1). هي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح.
(2). راجع ج 7 ص 124.
(3). راجع ج 6 ص 12.
(4). راجع ج 5 ص 92.
(5). راجع ج 2 ص 127.

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)

قال: يرحم الله معاذا! كان أمة قانتا. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إنما ذكر الله عز وجل بهذا إبراهيم عليه السلام. فقال ابن مسعود: إن الامة الذي يعلم الناس الخير، وإن القانت هو المطيع. وقد تقدم القنوت في البقرة «1» و" حَنِيفاً" في الانعام «2».

[سورة النحل (16): الآيات 121 الى 122]
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
قوله تعالى: شاكِراً أي كان شاكرا. (لِأَنْعُمِهِ) الانعم جمع نعمة. وقد تقدم. و(اجْتَباهُ) أي اختاره. (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قيل: الولد الطيب. وقيل الثناء الحسن. وقيل: النبوة. وقيل: الصلاة مقرونة بالصلاة على محمد عليه السلام في التشهد. وقيل: إنه ليس أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل: بقاء ضيافته وزيارة قبره. وكل ذلك أعطاه الله وزاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)." من" بمعنى مع، أي مع الصالحين، لأنه كان في الدنيا أيضا مع الصالحين. وقد تقدم هذا في البقرة «3»

[سورة النحل (16): آية 123]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
قال ابن عمر: أمر باتباعه في مناسك الحج كما علم إبراهيم جبريل عليهما السلام. وقال الطبري: أمر باتباعه في التبرؤ من الأوثان والتزين بالإسلام. وقيل: أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه، قاله بعض أصحاب الشافعي على ما حكاه الماوردي. والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع، لقوله تعالى:" لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً»
".
__________
(1). ج 2 ص 86 وج 3 ص 213.
(2). ذكر في الانعام في موضعين، (ج 7 ص 28، 152) ولم يذكر المؤلف اشتقاقه فيهما، وإنما تكلم عليه في سورة البقرة ج 2 ص 139 فراجعه.
(3). راجع ج 2 ص 133.
(4). راجع ج 6 ص 211.

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

مسألة- في هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول- لما تقدم «1» [إلى الصواب «2»]- والعمل به، ولا درك «3» على الفاضل في ذلك، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأنبياء عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم فقال:" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «4»". وقال هنا:" ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ".

[سورة النحل (16): آية 124]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
قوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي لم يكن في شرع إبراهيم ولا في دينه، بل كان سمحا لا تغليظ فيه، وكان السبت تغليظا على اليهود في رفض الأعمال وترك التبسيط في المعاش بسبب اختلافهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقال: تفرغوا للعبادة في كل سبعة أيام يوما واحدا. فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فاختاروا الأحد. وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من الاختلاف، فقالت طائفة: إن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فناظروه أن السبت أفضل، فقال الله له:" دعهم وما اختاروا لأنفسهم". وقيل: إن الله تعالى لم يعينه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعينت اليهود السبت، لان الله تعالى فرغ فيه من الخلق. وعينت النصارى يوم الأحد، لان الله تعالى بدأ فيه بالخلق. فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده. وعين الله لهذه الامة يوم الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة، فكانت خير الأمم أمة. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي
__________
(1). كذا في ى. وفى أوج وو: في الأصول.
(2). كذا في ى. وفى أوج وو: في الأصول. [.....]
(3). الدرك: التبعة.
(4). راجع ج 7 ص 35.

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

اختلفوا فيه فهدانا الله له- قال يوم الجمعة- فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" فقوله:" فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه" يقوى قول من قال: إنه لم يعين لهم، فإنه لو عين لهم وعاندوا لما قيل" اخْتَلَفُوا". وإنما كان ينبغي أن يقال فخالفوا فيه وعاندوا. ومما يقويه أيضا قوله عليه السلام:" أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا". وهذا نص في المعنى. وقد جاء في بعض طرقه" فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم اختلفوا فيه". وهو حجة للقول الأول. وقد روى:" إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع". قوله تعالى: (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) يريد في يوم الجمعة كما بيناه، اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى. ووجه الاتصال بما قبله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر باتباع الحق، وحذر الله الامة من الاختلاف عليه فيشدد عليهم كما شدد على اليهود.

[سورة النحل (16): آية 125]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
فيه مسألة واحدة- هذه الآية نزلت بمكة في وقت الامر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجى إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. والله أعلم.

[سورة النحل (16): آية 126]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)

فيه أربع مسائل: الاولى- أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم احد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفى كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا، لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله. ولكن ما روى الجمهور أثبت، روى الدارقطني عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى منظرا ساءه، رأى حمزة قد شق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال:" لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلا" ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهه وجعل على رجليه من الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية:" ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ- إلى قوله- وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ" فصبر. رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبى هريرة، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد. الثانية- واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها. وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". رواه الدارقطني. وقد تقدم هذا في" البقرة" مستوفى «1»
__________
(1). راجع ج 2 ص 355.

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الامر فقال له:" أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال، لان الخيانة لاحقة في ذلك، وهى رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه، فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكان الله حكم له، كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة، نسختها" وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ". الثالثة- في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم هذا المعنى في" البقرة" مستوفى «1»، والحمد لله. الرابعة- سمى الله تعالى الاذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب دباجة القول، وهذا بعكس قوله:" وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «2»" وقوله:" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «3»" فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة، قاله ابن عطية.

[سورة النحل (16): الآيات 127 الى 128]
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
فيه مسألة واحدة- قال ابن زيد: هي منسوخة بالقتال. وجمهور الناس على أنها محكمة. أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا في المثلة. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على قتلى أحد فإنهم صاروا إلى رحمة الله. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) ضيق جمع ضيقة، قال الشاعر:
كشف الضيقة عنا وفسح «4»
__________
(1). راجع ج 3 ص 355.
(2). راجع ج 4 ص 98.
(3). راجع ج 1 ص 207.
(4). هذا عجز بيت للأعشى. وصدره في اللسان وديوانه:
فلئن ربك من رحمته

وقراءة الجمهور بفتح الضاد. وقرا ابن كثير بكسر الضاد، ورويت عن نافع، وهو غلط ممن رواه. قال بعض اللغويين: الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر. قال الأخفش: الضيق والضيق مصدر ضاق يضيق. والمعنى: لا يضيق صدرك من كفرهم. وقال الفراء: الضيق ما ضاف عنه صدرك، والضيق ما يكون في الذي يتسع ويضيق، مثل الدار والثوب. وقال ابن السكيت: هما سواء، يقال: في صدره ضيق وضيق. القتبي: ضيق مخفف ضيق، أي لا تكن في أمر ضيق فخفف، مثل هين وهين. وقال ابن عرفة: يقال ضاق الرجل إذا بخل، وأضاق إذا افتقر. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أي اتقوا الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد. وتقدم معنى الإحسان. وقيل لهرم بن حبان «1» عند موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة" ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ" إلى آخرها. تمت سورة النحل، والحمد لله رب العالمين

تفسير سورة الإسراء
هذه السورة مكية، إلا ثلاث آيات: قوله عز وجل" وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ «2»" نزلت حين جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء. وقوله عز وجل:" وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ". وقوله تعالى" إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ" الآية. وقال مقاتل: وقوله عز وجل" إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ" الآية. وقال ابن مسعود رضى الله عنه في بنى إسرائيل والكهف [ومريم ]: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي، يريد من قديم كسبه.
__________
(1). في أسد الغابة: حيان. بالياء. وكذا في ج. وفى التاج وى: حبان. بالموحدة.
(2). راجع ص 301، وص 321، وص 281 فما بعد، وص 340 من هذا الجزء.

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإسراء (17): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
فيه ثمان «1» مسائل: الاولى- قوله تعالى: (سُبْحانَ)" سُبْحانَ" اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن، لأنه لا يجرى بوجوه الاعراب، ولا تدخل عليه الالف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف لان في آخره زائدتين، تقول: سبحت تسبيحا وسبحانا، مثل كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا. ومعناه التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص. فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره، فأما قول الشاعر:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر «2»
فإنما ذكره على طريق النادر. وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما معنى سبحان الله؟ فقال:" تنزيه الله من كل سوء". والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه، إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء، واشتمل الصماء «3»، فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها، فوقع" سبحان الله" مكان قولك تنزيها.
__________
(1). كذا في جميع الأصول، ويلاحظ أن المسائل ست.
(2). البيت للأعشى. يقول هذا لعلمه بن علاثة الجعفري في منافرته لعامر بن الطفيل، وكان الاعمشى قد فضل عامرا وتبرأ من علقمة وفخره على عامر (هن الشنتمرى).
(3). القرفصاء: جلسة المحتبي بيديه. والصماء، ضرب من الاشتمال الصماء: أن تجلل جسدك بثوبك نحو شملة الاعراب بأكسيتهم، وهو أن يرد من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلقه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا.

الثانية- قوله تعالى: (أَسْرى بِعَبْدِهِ)" أَسْرى " فيه لغتان: سرى وأسرى، كسقي وأسقى، كما تقدم «1». قال:
أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد «2»
وقال آخر:
حي النضيرة ربة الخدر ... أسرت إلي ولم تكن تسرى «3»
فجمع بين اللغتين في البيتين. والاسراء: سير الليل، يقال: سريت مسري وسرى، وأسريت إسراء، قال الشاعر:
وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتنى من سراها ليت
وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره، والأول أعرف. الثالثة- قوله تعالى: (بِعَبْدِهِ) قال العلماء: لو كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية. وفي معناه أنشدوا:
يا قوم قلبي عند زهراء ... يعرفه السامع والرائي

لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي
وقد تقدم «4». قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية «5»، ألزمه اسم العبودية تواضعا للامة. الرابعة- ثبت الاسراء في جميع مصنفات الحديث، ورى عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش: ممن رواه عشرين صحابيا. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أتيت بالبراق وهو دابة أبيض [طويل ] فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه- قال- فركبته حتى أتيت بيت المقدس- قال- فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء- قال- ثم دخلت المسجد
__________
(1). راجع ج 1 ص 417.
(2). البيت للنابغة الذبياني، من قصيدته التي مطلعها:
يا دار مية بالعلياء

. [.....]
(3). البيت لحسان بن ثابت.
(4). راجع ج 1 ص 232.
(5). في و: اسمه عبد الله

فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة- قال- ثم عرج بنا إلى السماء ..." وذكر الحديث. ومما ليس في الصحيحين ما خرجه الآجري والسمرقندي، قال الآجري عن أبى سعيد الخدري في قوله تعالى" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ" قال أبو سعيد: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ليلة أسرى به، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل له أذنان يضطربان «1» وهو البراق الذي كانت الأنبياء تركبه قبل فركبته فانطلق تقع يداه عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه ثم سمعت نداء عن يساري يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج ثم أتيت بيت المقدس الأقصى فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها ثم دخلت المسجد وصليت فيه فقال لي جبريل عليه السلام ما سمعت يا محمد فقلت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج فقال ذلك داعي اليهود ولو وقفت لتهودت أمتك- قال- ثم سمعت نداء عن يساري على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه فقال ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت لتنصرت أمتك- قال- ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك فمضيت ولم أعرج عليها فقال تلك الدنيا لو وقفت لاخترت الدنيا على الآخرة- قال- ثم أتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقيل لي خذ فاشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقال لي جبريل أصبت الفطرة ولو أنك أخذت الخمر غوت أمتك ثم جاء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بنى آدم فإذا هو أحسن ما رأيت أو لم تروا إلى الميت كيف يحد بصره إليه فعرج بنا حتى أتينا «2» باب السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من هذا؟ قال: جبريل قالوا: ومن معك؟ قال: محمد قالوا: وقد أرسل إليه؟
__________
(1). في الأصول:" يخطر فان" والتصويب عن الدر المنثور.
(2). في ج ووو ى: انتهينا.

قال نعم ففتحوا لي وسلموا على وإذا ملك يحرس السماء يقال له إسماعيل معه سبعون ألف ملك مع كل ملك مائة ألف- قال وما يعلم جنود ربك إلا هو ..." وذكر الحديث إلى أن قال:" ثم مضينا إلى السماء الخامسة وإذا أنا بهارون بن عمران المحب في قومه وحوله تبع كثير من أمته فوصفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال طويل اللحية تكاد لحيته تضرب في سرته ثم مضينا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى فسلم على ورحب بى- فوصفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال- رجل كثير الشعر ولو كان عليه قميصان خرج شعره منهما ..." الحديث. وروى البزار أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بفرس فحمل عليه، كل خطوة منه أقصى بصره ... وذكر الحديث. وقد جاء في صفة البراق من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بينا أنا نائم في الحجر إذ أتانى آت فحركني برجله فاتبعت الشخص فإذا هو جبريل عليه السلام قائم على باب المسجد معه دابة دون البغل وفوق الحمار وجهها وجه إنسان وخفها خف حافر وذنبها ذنب ثور وعرفها عرف الفرس فلما أدناها منى جبريل عليه السلام نفرت ونفشت عرفها فمسحها جبريل عليه السلام وقال يا برقة لا تنفري من محمد فوالله ما ركبك ملك مقرب ولا نبى مرسل أفضل من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أكرم على الله منه قالت قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وإني أحب أن أكون في شفاعته فقلت أنت في شفاعتي إن شاء الله تعالى ..." الحديث. وذكر أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري عن أبى سعيد الخدري قال: لما مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإدريس عليه السلام في السماء الرابعة قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح الذي وعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة قال فإذا فيها مريم بنت عمران لها سبعون قصرا من لؤلؤ ولام موسى بن عمران سبعون قصرا من مرجانة حمراء مكللة باللؤلؤ أبوابها وأسرتها من عرق واحد فلما عرج المعراج إلى السماء الخامسة وتسبيح أهلها سبحان من جمع بين الثلج والنار من قالها مرة واحدة كان له مثل ثوابهم استفتح الباب جبريل عليه السلام ففتح له فإذا هو بكهل لم ير قط كهل أجمل منه عظيم العينين تضرب لحيته

قريبا من سرته قد كان أن تكون شمطة «1» وحوله قوم جلوس يقص عليهم فقلت يا جبريل من هذا قال هارون المحب في قومه .." وذكر الحديث. فهذه نبذة مختصرة من أحاديث الاسراء خارجة عن الصحيحين، ذكرها أبو الربيع سليمان ابن سبع بكمالها في كتاب (شفاء الصدور) له. ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة في حين الاسراء حين عرج به إلى السماء. واختلفوا في تاريخ الاسراء وهيئة الصلاة، وهل كان إسراء بروحه أو جسده، فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهى مما ينبغي الوقوف عليها والبحث عنها، وهى أهم من سرد تلك الأحاديث، وأنا أذكر ما وقفت عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى. فأما المسألة الاولى- وهى هل كان إسراء بروحه أو جسده، اختلف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصه مضجعه، وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق، ورؤيا الأنبياء حق. ذهب إلى هذا معاوية وعائشة، وحكى عن الحسن وابن إسحاق. وقالت طائفة: كان الاسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى" فجعل المسجد الأقصى غاية الاسراء. قالوا: ولو كان الاسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فإنه كان يكون أبلغ في المدح. وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه كان إسراء بالجسد وفى اليقظة، وأنه ركب البراق بمكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلي فيه ثم أسرى بجسده. وعلى هذا تدل الاخبار التي أشرنا إليها والآية. وليس في الاسراء بجسده وحال يقظته استحالة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، ولو كان مناما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده. وقوله" ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «2»" يدل على ذلك. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما
قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس
__________
(1). الشمط في الشعر: اختلافه بلونين من سواد وبياض.
(2). راجع ج 17 ص 92.

فيكذبوك، والأفضل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبه قريش فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر، وقد قال له المشركون: إن كنت صادقا فخبرنا عن عيرنا ابن لقيتها؟ قال:" بمكان كذا وكذا مررت عليها ففزع فلان" فقيل له: ما رأيت يا فلان، قال: ما رأيت شيئا! غير أن الإبل قد نفرت. قالوا: فأخبرنا متى تأتينا العير؟ قال:" تأتيكم يوم كذا وكذا". قالوا: أية ساعة؟ قال:" ما أدرى، طلوع الشمس من ها هنا أسرع أم طلوع العير من ها هنا". فقال رجل: ذلك اليوم؟ هذه الشمس قد طلعت. وقال رجل: هذه عيركم قد طلعت، واستخبروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صفة بيت المقدس فوصفه لهم ولم يكن رآه قبل ذلك. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراى فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها «1» فكربت كربا ما كربت مثله قط- قال- فرفعه الله لي أنظر إليه فما سألوني عن شي إلا أنبأتهم به" الحديث. وقد اعترض قول عائشة ومعاوية" إنما أسرى بنفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بأنها كانت صغيرة لم تشاهد، ولا حدثت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما معاوية فكان كافرا في ذلك الوقت غير مستشهد للحال، ولم يحدث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليقف على" كتاب الشفاء" للقاضي عياض يجد من ذلك الشفاء. وقد احتج لعائشة بقوله تعالى:" وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «2»" فسماها رؤيا. وهذا يرده قوله تعالى:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا" ولا يقال في النوم أسرى. وأيضا فقد يقال لرؤية العين: رؤيا، على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وفى نصوص الاخبار الثابتة دلالة واضحة على أن الاسراء كان بالبدن، وإذا ورد الخبر بشيء هو مجوز في العقل في قدرة الله تعالى فلا طريق إلى الإنكار، لا سيما في زمن خرق العوائد، وقد كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معارج، فلا يبعد أن يكون البعض بالرؤيا، وعليه يحمل قوله عليه السلام في الصحيح:" بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان" الحديث. ويحتمل أن يرد من الاسراء إلى نوم. والله أعلم.
__________
(1). أي لم أعرفها حق، يقال: أثبت الشيء وثابته إذا عرفه حق المعرفة.
(2). راجع ص 282 من هذا الجزء.

المسألة الثانية «1»- في تاريخ الاسراء، وقد اختلف العلماء في ذلك أيضا، واختلف في ذلك على ابن شهاب، فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسرى به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبعة أعوام. وروى عن الوقاصي قال: أسرى به بعد مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحرمت الخمر بعد أحد. وقال ابن إسحاق: أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة في القبائل. وروى عنه يونس بن بكير قال: صلت خديجة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسيأتي. قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الاسراء كان قبل الهجرة بأعوام، لان خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بثلاث وقيل بأربع. وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدم. وقال الحربي: أسرى به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال أبو بكر محمد بن على ابن القاسم الذهبي في تاريخه: أسرى به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبي، ولم يسند قول إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم. المسألة الثالثة «2»- وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الاسراء حين عرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره. وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت، فروى عن عائشة رضى الله عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين. وبذلك قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق. قال الشعبي: إلا المغرب. قال يونس بن بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين فرضت عليه الصلاة يعنى في الاسراء فهمز له بعقبه في ناحية
__________
(1). في ج: المسألة الخامسة، والمسألة السادسة بدل المسألة الثانية والثالثة. فيكون الترقيم على ما قال المصنف أولا: ثمان مسائل.
(2). في ج: المسألة الخامسة، والمسألة السادسة بدل المسألة الثانية والثالثة. فيكون الترقيم على ما قال المصنف أولا: ثمان مسائل.

الوادي فانفجرت عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوضأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلى ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء. وروى عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفى السفر ركعتين. وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبى الحسن البصري، وهو قول ابن جريج، وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يوافق ذلك. ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الاسراء عند الزوال، فعلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة ومواقيتها. وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبى المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى، ثم صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعا فصارت سنه، وأقرت الصلاة للمسافر وهى تمام. قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله:" فصارت سنة" قول منكر، وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قول لا معنى له. وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملا ونقلا مستفيضا، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها. الخامسة «1»- قد مضى الكلام في الأذان" المائدة" «2» والحمد لله. ومضى في" آل عمران" «3»" أن أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى. وأن بينهما أربعين عاما من حديث أبى ذر، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الأقصى ودعاؤه له من حديث عبد الله بن عمرو ووجه الجمع في ذلك، فتأمله هناك فلا معنى للإعادة. ونذكر هنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس". خرجه مالك من حديث أبى هريرة. وفية ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد، لهذا قال العلماء: من نذر صلاة في مسجد
__________
(1). في ج هذه المسألة السابعة.
(2). راجع ج 6 ص 224.
(3). ج 4 ص 137. [.....]

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)

لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل، ويصلى في مسجده، إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها. وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده: فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لأنه طاعة الله عز وجل. وقد زاد أبو البختري في هذا الحديث مسجد الجند، ولا يصح وهو موضوع، وقد تقدم في مقدمة الكتاب. السادسة- «1» قوله تعالى: (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) سمى الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة ثم قال: (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار. وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين، وبهذا جعله مقدسا. وروى معاذ بن جبل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" يقول الله تعالى يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي" (أصله سام «2» فعرب) (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) هذا من باب تلوين الخطاب والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) تقدم «3».

[سورة الإسراء (17): آية 2]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2)
أي كرمنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعراج، وأكرمنا موسى بالكتاب وهو التوراة." وَجَعَلْناهُ" أي ذلك الكتاب. وقيل موسى. وقيل معنى الكلام: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وأتى موسى الكتاب، فخرج من الغيبة إلى الاخبار عن نفسه عز وجل. وقيل: إن معنى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا، معناه أسرينا، يدل عليه ما بعده من قوله:" لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا" فحمل" وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ" على المعنى. (أَلَّا تَتَّخِذُوا) قرأ أبو عمرو" يتخذوا"
__________
(1). في ج: المسألة الثامنة.
(2). من ى.
(3). راجع ج 5 ص 258.

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

بالياء. الباقون بالتاء. فيكون من باب تلوين الخطاب." وَكِيلًا" أي شريكا، عن مجاهد. وقيل: كفيلا بأمورهم، حكاه الفراء. وقيل: ربا يتوكلون عليه في أمورهم، قاله الكلبي. وقال الفراء: كافيا، والتقدير: عهدنا إليه في الكتاب ألا تتخذوا من دوني وكيلا. وقيل: التقدير لئلا تتخذوا. والوكيل: من يوكل إليه الامر.

[سورة الإسراء (17): آية 3]
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
أي يا ذرية من حملنا، على النداء، قال مجاهد ورواه عنه ابن أبى نجيح. والمراد بالذرية كل من احتج عليه بالقرآن، وهم جميع من على الأرض، ذكره المهدوي. وقال الماوردي: يعنى موسى وقومه من بنى إسرائيل، والمعنى يا ذرية من حملنا مع نوح لا تشركوا. وذكر نوحا ليذكرهم نعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم. وروى سفيان عن حميد عن مجاهد أنه قرأ" ذُرِّيَّةَ" بفتح الذال وتشديد الراء والياء. وروى هذه القراءة عامر بن الواجد «1» عن زيد ابن ثابت. وروى عن زيد بن ثابت أيضا" ذرية «2»" بكسر الذال وشد الراء. والياء «3» ثم بين أن نوحا كان عبدا شكورا يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير إلا من عنده. قال قتادة: كان إذا لبس ثوبا قال: بسم الله، فإذا نزعه قال: الحمد لله. كذا روى عنه معمر. وروى معمر عن منصور عن إبراهيم قال: شكره إذا أكل قال: بسم الله، فإذا فرغ من الأكل قال: الحمد لله. قال سلمان الفارسي: لأنه كان يحمد الله على طعامه. وقال عمران بن سليم: إنما سمى نوحا عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء لاجاعنى، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لاعرانى، و. إذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذانى ولو شاء لاحفانى، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عنى الأذى ولو شاء لحبسه في. ومقصود الآية: إنكم من ذرية نوح وقد كان عبدا شكورا فأنتم أحق بالاقتداء به دون آبائكم الجهال. وقيل: المعنى أن موسى كان عبدا شكورا إذ جعله الله من ذرية نوح. وقيل: يجوز أن يكون
__________
(1). كذا في نسخ الأصل، ولم نعثر عليه في المظان. وفى الشواذ: ذرية بالكسر الأصل.
(2). كذا في نسخ الأصل، ولم نعثر عليه في المظان. وفى الشواذ: ذرية بالكسر الأصل.
(3). من ج.

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)

" ذُرِّيَّةَ" مفعولا ثانيا ل" تَتَّخِذُوا"، ويكون قوله:" وَكِيلًا" يراد به الجمع فيسوغ ذلك في القراءتين جميعا أعنى الياء والتاء في" تَتَّخِذُوا". ويجوز أيضا في القراءتين جميعا أن يكون" ذُرِّيَّةَ" بدلا من قوله" وَكِيلًا" لأنه بمعنى الجمع، فكأنه قال: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح. ويجوز نصبها بإضمار أعنى وأمدح، والعرب قد تنصب على المدح والذم. ويجوز رفعها على البدل من المضمر في" تَتَّخِذُوا" في قراءة من قرأ بالياء، ولا يحسن ذلك لمن قرأ بالتاء لان المخاطب لا يبدل منه الغائب. ويجوز جرها على البدل من بنى إسرائيل في الوجهين فأما" أن" من قوله:" أَلَّا تَتَّخِذُوا" فهي على قراءة من قرأ بالياء في موضع نصب بحذف الجار، التقدير: هديناهم لئلا يتخذوا. ويصلح على قراءة التاء أن تكون زائدة والقول مضمر كما تقدم. ويصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي، لا موضع لها من الاعراب، وتكون" لا" للنهي فيكون خروجا من الخبر إلى النهى.

[سورة الإسراء (17): آية 4]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)
قوله تعالى: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) وقرا سعيد بن جبير وأبو العالية" في الكتب" على لفظ الجمع. وقد يرد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع، فتكون القراءتان بمعنى واحد. ومعنى" قَضَيْنا" أعلمنا وأخبرنا، قاله ابن عباس: وقال قتادة: حكمنا، واصل القضاء الأحكام للشيء والفراغ منه، وقيل: قضينا أوحينا، ولذلك قال:" إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ". وعلى قول قتادة يكون" إِلى " بمعنى على، أي قضينا عليهم وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضا. والمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. (لَتُفْسِدُنَّ) وقرا ابن عباس" لَتُفْسِدُنَّ". عيسى الثقفي" لَتُفْسِدُنَّ". والمعنى في القراءتين قريب، لأنهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. (فِي الْأَرْضِ) يريد أرض الشام وبئت المقدس وما والاها. (مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ) اللام في" لَتُفْسِدُنَّ ولَتَعْلُنَّ" لام قسم مضمر كما تقدم. (عُلُوًّا كَبِيراً) أراد التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان.

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)

[سورة الإسراء (17): آية 5]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)
قوله تعالى: (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي أولى المرتين من فسادهم. (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) هم أهل بابل، وكان عليهم بخت نصر في المرة الاولى حين كذبوا إرميا وجرحوه وحبسوه، قاله ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بخت نصر فوعى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الاولى، فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل، ذكره القشيري أبو نصر. وذكر المهدوي عن مجاهد أنه جاءهم بخت نصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبى نجيح عن مجاهد، ذكره النحاس. وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول «1»: إن المهزوم سنحاريب ملك بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، وبعث ملك بنى إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخذ مع الخمسة، أحدهم بخت نصر، فطرح في رقابهم الجوامع «2» وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين، واستخلف بخت نصر وعظمت الأحداث في بنى إسرائيل، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا، فجاءهم بخت نصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم. وقال ابن عباس وابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا. وقال ابن إسحاق: فسادهم في المرة الاولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم مرج «3» أمرهم
__________
(1). راجع كتاب قصص الأنبياء، المسمى بالعرائس ص 259 طبع بولاق وتاريخ الطبري ج 2 قسم أول ص 638 وما بعدها طبع أوربا.
(2). الجوامع: الاغلال، والواحد جامعة.
(3). مرج الامر: فسد واختلط والتبس المخرج فيه.

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)

وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم، فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها. وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى:" بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ" هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل. وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق، فالله أعلم. وقيل: إنهم العمالقة وكانوا كفارا، قاله الحسن. ومعنى جاسوا: عاثوا وقتلوا، وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا، قاله ابن عزيز، وهو قول القتبي. وقرا ابن عباس:" حاسوا" بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: لطواف بالليل. وقال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الاخبار أي يطلبها، وكذلك الاجتياس. والجوسان (بالتحريك) الطوفان بالليل، وهو قول أبى عبيدة. وقال الطبري: طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين، فجمع بين قول أهل اللغة. قال ابن عباس: مشوا وترددوا بين الدور والمساكن. وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد ... فجاس به الاعداء عرض العساكر
وقال قطرب: نزلوا، قال:
فجسنا ديارهم عنوة ... وأبنا بسادتهم موثقينا
(وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) أي قضاء كائنا لا خلف فيه.

[سورة الإسراء (17): آية 6]
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي الدولة والرجعة، وذلك لما تبتم وأطعتم. ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره، على الخلاف في من قتلهم. (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) حتى عاد أمركم كما كان. (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي أكثر عددا ورجالا من عدوكم. والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته، يقال: نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد، قال الشاعر:
فأكرم بقحطان من والد ... وحمير أكرم بقوم نفيرا
والمعنى: أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الاولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا، جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة.

[سورة الإسراء (17): آية 7]
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)
قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي نفع إحسانكم عائد عليكم. (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي فعليها، نحو سلام لك، أي سلام عليك. قال:
فخر صريعا لليدين وللفم «1»

أي على اليدين وعلى الفم. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى، يعنى وإن أسأتم فإليها، أي فإليها ترجع الإساءة، كقوله تعالى:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «2»" أي إليها. وقيل: فلها الجزاء والعقاب. وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة. ثم يحتمل أن يكون هذا
__________
(1). هذا عجز بيت لربيعة بن مكدم. وصدره:
وهتمت بالرمح الطويل إهانة

وقبل هذا البيت:
فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم
وبعده:
ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء فاغرة كشدق الاضجم
وهذه الآيات قبلت يوم الظعينة. راجع أمالى القالي ج 2 ص 270 طبع دار الكتب.
(2). راجع ج 20 ص 149.

خطابا لبنى إسرائيل في أول الامر، أي أسأتم فحل بكم القتل والسبي والتخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك والعلو وانتظام الحال. ويحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله. أو يكون خطابا لمشركي قريش على هذا الوجه. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) من إفسادكم، وذلك أنهم قتلوا في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام، قتله ملك من بنى إسرائيل يقال له لأخت، قاله القتبي. وقال الطبري: اسمه هردوس، ذكره في التاريخ، حمله على قتله امرأة اسمها أزبيل. وقال السدى: كان ملك بنى إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره في الامر، فاستشاره الملك أن يتزوج بنت امرأة له فنهاه عنها وقال: إنها لا تحل لك، فحقدت أمها على يحيى عليه السلام، ثم ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه، وأمرتها أن تتعرض له، وإن أرادها أبت حتى يعطيها ما تسأله، فإذا أجاب سألت أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب، ففعلت ذلك حتى أتى برأس يحيى بن زكريا والرأس تتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا تحل لك، لا تحل لك، فلما أصبح إذا دمه يغلى، فألقى عليه التراب فغلى فوقه، فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلى، ذكره الثعلبي وغيره. وذكر ابن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن على قال: كان ملك من هذه الملوك مات وترك امرأته وابنته فورث ملكه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوجها فإنها بغى، فعرفت ذلك المرأة أنه قد ذكرها وصرفه عنها، فقالت: من أين هذا! حتى بلغها أنه من قبل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه، فعمدت إلى ابنتها وصنعتها، ثم قالت: اذهبي إلى عمك عند الملا فإنه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره، ويقول سليني ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئا إلا أعطيتك، فإذا قال لك ذلك فقولي: لا أسأل إلا رأس يحيى. قال: وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رءوس الملا ثم لم يمض له نزع من ملكه، ففعلت ذلك. قال: فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى،

وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه فقتله. قال: فساخت بأمها الأرض. قال ابن جدعان: فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا؟ قلت لا، إن زكريا حيث قتل ابنه انطلق هاربا منهم واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته إليها فانطوت عليه وبقيت من ثوبه هدبة تكفتها الرياح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها، ونظروا بتلك الهدبة فدعوا بالمنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها. قلت: وقع في التاريخ الكبير للطبري «1» فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ، قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه ... وذكر الخبر بمعناه. وعن ابن عباس قال: بعث يحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها: إذا دخلت على الملك وقال ألك حاجة فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سليني سوى هذا! قالت: ما أسألك إلا هذا. فلما أبت عليه دعا بطست ودعا به فذبحه، فندرت قطرة من دمه على وجه الأرض فلم تزل تغلى حتى بعث الله عليهم بخت نصر فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم، فقتل عليه منهم سبعين ألفا، في رواية خمسة وسبعين ألفا. قال سعيد بن المسيب: هي دية كل نبى. وعن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنى قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا. وعن سمير بن عطية قال: قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا. وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى عليه السلام
حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي تلى المحراب
__________ (1). راجع ج 3 قسم أول ص 713 طبع أوربا.

مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير. وعن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن على، وحمرتها بكاؤها. وعن سفيان بن عيينة قال: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيخرج إلى دار هم، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم ير مثله، قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن:" وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
«1» كله من التاريخ المذكور. واختلف فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة، فقيل: بخت نصر. وقاله القشيري أبو نصر، لم يذكر غيره. قال السهيلي: وهذا لا يصح، لان قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبخت نصر كان قبل عيسى ابن مريم عليهما السلام بزمان طويل.، وقبل الإسكندر، وبين الإسكندر وعيسى نحو من ثلاثمائة سنة، ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بخت نصر إذ ذاك حيا، فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر. وأخرجهم منها. وقال الثعلبي: ومن روى أن بخت نصر هو الذي غزا بنى إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السير والاخبار، لأنهم مجمعون على أن بخت نصر إنما غزا بنى إسرائيل عند قتلهم شعيا وفى عهد إرميا. قالوا: ومن عهد إرميا وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة واحدي وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك «2» سبعين سنة، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بت المقدس ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى مولد يحيى ثلاثمائة وثلاثا وستين «3» سنة. قلت: ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله. قال الثعلبي: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق قال: لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى- وبعض
__________
(1). راجع ج 11 ص 88 فما بعد.
(2). الذي في تاريخ الطبري:" كيرش" ولم نوفق لتصويبه. [.....]
(3). في الطبري:" ثلاثمائة وثلاث سنين". راجع ص 718 من القسم الأول.

الناس يقول: لما قتلوا زكريا- بعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوس «1»، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشام، ثم قال لرئيس جنوده: كنت حلفت بإلهي لئن أظهرني الله على بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلى، فسألهم فقالوا: دم قربان قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين «2» سنة. قال ما صدقتموني، فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ «3»، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فقال: يا بنى إسرائيل، اصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته. فلما رأوا الجهد قالوا: إن هذا دم نبى منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فقتلناه، فهذا دمه، كان اسمه يحيى بن زكريا، ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم بمعصية. فقال: الآن صدقتموني، وخر ساجدا ثم قال: لمثل هذا ينتقم منكم، وأمر بغلق الأبواب وقال: أخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس «4»، وخلا في بنى إسرائيل وقال: يا نبى الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربى وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقى منهم أحدا. فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل، ورفع عنهم القتل وقال: رب إنى آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدقت به، فأوحى الله تعالى إلى رأس من رءوس الأنبياء: إن هذا الرئيس مؤمن صدوق. ثم قال: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، ثم انصرف عنهم إلى بابل، وقد كاد أن يفنى بنى إسرائيل.
__________
(1). في ج: جردوش. ولعله تحريف من الناسخ.
(2). في تاريخ الطبري ص 721:" منذ ثمانمائة سنة".
(3). زيادة عن تاريخ الطبري.
(4). في ج: جردوش. ولعله تحريف من الناسخ.

قلت: قد ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حذيفة، وقد كتبناه في (كتاب التذكرة) مقطعا في أبواب في أخبار المهدى، نذكر منها هنا ما يبين معنى الآية ويفسرها حتى لا يحتاج معه إلى بيان، قال حذيفة: قلت يا رسول الله، لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هو من أجل البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد": وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخر الله له الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف. قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن بنى إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بخت نصر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة، وهو قوله:" فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا" فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل، فأقاموا يستخدمون بنى إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام، ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل، وأن يستنقذ من في أيديهم من بنى إسرائيل، فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من بقي من بنى إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلي الذي كان في بيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة وقال لهم: يا بنى إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي والقتل، وهو قوله:" عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا" فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، وهو قوله:" فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً" فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم واخذ أموالهم ونساءهم، واخذ حلى جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدى فيرده إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا «1» حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين ..." وذكر الحديث. قوله تعالى: (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي من المرتين، وجواب" إذا" محذوف، تقديره بعثناهم، دل عليه" بَعَثْنا" الأول. (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي بالسبي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم، ف" لِيَسُوؤُا" متعلق بمحذوف، أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم. قيل: المراد بالوجوه السادة، أي ليذلوهم. وقرا الكسائي" لنسوء" بنون وفتح الهمزة، فعل مخبر عن نفسه معظم، اعتبارا بقوله: وقضينا وبعثنا ورددنا". ونحوه عن على. وتصديقها قراءة أبى" لنسوأن" بالنون وحرف التوكيد. وقرا أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر" ليسوء" بالياء على التوحيد وفتح الهمزة، ولها وجهان: أحدهما- ليسوء الله وجوهكم. والثاني- ليسوء الوعد وجوهكم. وقرا الباقون" لِيَسُوؤُا" بالياء وضم الهمزة على الجمع، أي ليسوء العباد الذين هم أولو بأس شديد وجوهكم. (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا) أي ليدمروا ويهلكوا. وقال قطرب: يهدموا، قال الشاعر:
فما الناس إلا عاملان فعامل ... يتبر ما يبنى وآخر رافع
(ما عَلَوْا) أي غلبوا عليه من بلادكم (تَتْبِيراً).

[سورة الإسراء (17): آية 8]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
قوله تعالى: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) وهذا مما أخبروا به في كتابهم. و" عَسى " وعد من الله أن يكشف عنهم. و" عَسى " من الله واجبة. (أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد انتقامه منكم، وكذلك كان، فكثر عددهم وجعل منهم الملوك. (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال قتادة:
__________
(1). كذا في الطبري والدر المنثور. وفى أو ج ووو ى: يا في. وهذا خصا لنساخ.

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)

فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم يعطون الجزية بالصغار، وروى عن ابن عباس. وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره. وقال القشيري: وقد حل العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار، ومرة على أيدي المسلمين. وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم. وعلى هذا يصح قول قتادة. (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي محبسا وسجنا، من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به. والحصير: الضيق البخيل. والحصير: البارية. والحصير: الجنب، قال الأصمعي: هو ما بين العرق الذي يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب. والحصير: الملك، لأنه محجوب. قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام
ويروى «1»:
ومقامة غلب الرقاب ...

على أن يكون" غلب" بدلا من" مقامة" كأنه قال: ورب غلب الرقاب. وروى عن أبى عبيدة:
لدى طرف الحصير قيام

أي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر. والحصير: المحبس، قال الله تعالى:" وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً". قال القشيري: ويقال للذي يفرش حصير، لحصر بعضه على بعض بالنسج. وقال الحسن: أي فراشا ومهادا، ذهب إلى الحصير الذي يفرش، لان العرب تسمى البساط الصغير حصيرا. قال الثعلبي: وهو وجه حسن.

[سورة الإسراء (17): الآيات 9 الى 10]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
قوله تعالى: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) لما ذكر المعراج ذكر ما قضى إلى بنى إسرائيل، وكان ذلك دلالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بين أن الكتاب الذي
__________
(1). في هامش ج: قال الشيخ المصنف: ويروى: وعصابة.

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)

أنزله الله عليه سبب اهتداء. ومعنى (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب، ف" التي" نعت لموصوف محذوف، أي الطريقة إلى نص أقوم. وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهى توحيد الله والايمان برسله. وقاله الكلبي والفراء. قوله تعالى: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) تقدم «1». (أَنَّ لَهُمْ) أي بأن لهم. (أَجْراً كَبِيراً) أي الجنة. (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي ويبشرهم بأن لأعدائهم العقاب. والقرآن معظمة وعد ووعيد. وقرا حمزة والكسائي" وَيُبَشِّرُ" مخففا بفتح الياء وضم الشين، وقد ذكر «2».

[سورة الإسراء (17): آية 11]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
قوله تعالى: (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللهم أهلكه، ونحوه. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي كدعائه ربه أن يهب له العافية، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. نظيره:" وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ" وقد تقدم «3». وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يدعو ويقول:" اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «4»". وقيل: هو أن يدعو في طلب المحظور كما يدعو في طلب المباح، قال الشاعر وهو ابن جامع:
أطوف بالبيت فيمن يطوف ... وارفع من مئزري المسبل
وأسجد بالليل حتى الصباح ... وأتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الهم عن يوسف ... يسخر لي ربة المحمل
__________
(1). راجع ج 1 ص 338.
(2). راجع ج 4 ص 75.
(3). راجع ج 8 ص 314.
(4). راجع ج 7 ص 398 وج 8 ص 315.

قال الجوهري: يقال ما على فلان محمل مثال مجلس أي معتمد. والمحمل أيضا: واحد محامل الحاج. والمحمل مثال المرجل: علاقة السيف. وحذفت الواو من" وَيَدْعُ الْإِنْسانُ" في اللفظ والحظ ولم تحذف في المعنى لان موضعها رفع فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة، كقوله تعالى:" سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «1»"" وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «2»"" وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ «3»"" يُنادِ الْمُنادِ «4»"" فَما تُغْنِ النُّذُرُ «5»". (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا)" أي طبعه العجلة، فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير. وقيل: أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن يركب فيه الروح على الكمال. قال سلمان: أول ما خلق الله تعالى من آدم رأسه فجعل ينظر وهو يخلق جسده، فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لم ينفخ فيهما الروح فقال: يا رب عجل قبل الليل، فذلك قوله:" وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا". وقال ابن عباس: لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر، فذلك قوله:" وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا". وقال ابن مسعود: لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول:" خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «6»" ذكره البيهقي. وفى صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لما صور الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك" وقد تقدم «7». وقيل: سلم عليه السلام أسيرا إلى سودة فبات يئن فسألته فقال: أنيني لشدة القد والأسر، فأرخت من كتافه فلما نامت هرب، فأخبرت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" قطع الله يديك" فلما أصبحت كانت تتوقع الآفة، فقال عليه السلام:" إنى سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي لأني بشر أغضب كما يغضب البشر" ونزلت الآية، ذكره القشيري أبو نصر رحمه الله. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:"
__________
(1). راجع ج 20 ص 126.
(2). راجع ج 16 ص 24.
(3). راجع ج 5 ص 425. [.....]
(4). راجع ج 17 ص 27 وص 128.
(5). راجع ج 11 ص 288.
(6). راجع ج 11 ص 288.
(7). راجع ج 1 ص 281.

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

" اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفينه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة". وفى الباب عن عائشة وجابر. وقيل: معنى" وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا" أي يؤثر العاجل وإن قل، على الآجل وإن جل.

[سورة الإسراء (17): آية 12]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)
قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا. والآية فيهما: إقبال كل منهما من حيث لا يعلم، وإدباره إلى حيث لا يعلم. ونقصان أحدهما بزيادة الآخر وبالعكس آية أيضا. وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل. وقد مضى هذا «1» .. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ولم يقل: فمحونا الليل، فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما. و" فَمَحَوْنا" معناه طمسنا. وفى الخبر أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وكان كالشمس في النور، والسواد الذي يرى في القمر من أثر المحو. قال ابن عباس: جعل الله الشمس سبعين جزءا والقمر سبعين جزءا، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس، فالشمس على مائة وتسع وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد. وعنه أيضا: خلق الله شمسين من نور عرشه، وجعل ما سبق في علمه أن يكون شمسا مثل الدنيا على قدرها ما بين مشارقها إلى مغاربها، وجعل القمر دون الشمس، فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجهه ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس ضوءه وبقي نوره، فالسواد الذي ترونه في القمر أثر المحو، ولو تركه شمسا لم يعرف الليل من النهار ذكر
__________
(1). راجع ج 2 ص 192.

عنه الأول الثعلبي، والثاني المهدوي، وسيأتي مرفوعا. وقال على رضى الله عنه وقتادة: يريد بالمحو اللطخة السوداء التي في القمر، ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل من النهار. (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي جعلنا شمسه مضيئة للابصار. قال أبو عمرو بن العلاء: أي يبصر بها. قال الكسائي: وهو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء، وصار بحالة يبصر بها. وقيل: هو كقولهم خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء. ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا، فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء. (لتبتغوا فضلا من ربكم) يريد التصرف في المعاش. ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار. وقد قال في موضع آخر:" هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً «1»" (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لو لم يفعل ذلك لما عرف الليل من النهار، ولا كان يعرف الحساب والعدد. (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا) أي من أحكام التكليف، وهو كقوله:" تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «2»"" ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «3»". وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لما أبرم الله خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسين فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فخلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في علم الله أن يخلقها قمرا فخلقها دون الشمس في العظم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا كان الأجير يدرى إلى متى يعمل ولا الصائم إلى متى يصوم ولا المرأة كيف تعتد ولا تدرى أوقات الصلوات والحج ولا تحل «4» الديون ولا حين يبذرون ويزرعون ولا متى يسكنون للراحة لأبدانهم وكان الله نظر إلى عباده وهو أرحم بهم من أنفسهم فأرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ الآية.
__________
(1). راجع ج 8 ص 360.
(2). راجع ص 164 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 6 ص 420.
(4). في ج وى: محل.

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

[سورة الإسراء (17): الآيات 13 الى 14]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)
قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق. وقال ابن عباس:" طائِرَهُ" عمله وما قدر عليه من خير وشر، وهو ملازمه أينما كان. وقال مقاتل والكلبي: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقال مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلا وفى عنقه ورقة فيها مكتوب شقي أو سعيد. وقال الحسن:" أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ" أي شقاوته وسعادته وما كتب له من خير وشر وما طار له من التقدير، أي صار له عند القسمة في الأزل. وقيل: أراد به التكليف، أي قدرناه التزام «1» الشرع، وهو بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به وينزجر عما زجر به أمكنه ذلك. (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) يعنى كتاب طائره الذي في عنقه. وقرا الحسن وأبو رجاء ومجاهد:" طيره" بغير ألف، ومنه ما روى في الخبر اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا رب غيرك". وقرا ابن عباس والحسن ومجاهد وابن محيصن وأبو جعفر ويعقوب" ويخرج" بفتح الياء وضم الراء، على معنى ويخرج له الطائر كتابا، ف" كِتاباً" منصوب على الحال. ويحتمل أن يكون المعنى: ويخرج الطائر فيصير كتابا. وقرا يحيى بن وثاب" ويخرج" بضم الياء وكسر الراء، وروى عن مجاهد، أي يخرج الله. وقرا شيبة ومحمد بن السميقع، وروى أيضا عن أبى جعفر:" ويخرج" بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول، ومعناه: ويخرج له الطائر كتابا. الباقون" وَنُخْرِجُ" بنون مضمومة وكسر الراء، أي ونحن نخرج. احتج أبو عمرو في هذه القراءة بقوله" أَلْزَمْناهُ". وقرا أبو جعفر والحسن وابن عامر" يَلْقاهُ" بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، بمعنى يؤتاه. الباقون بفتح الياء خفيفة، أي يراه منشورا. وقال" مَنْشُوراً" تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ بالسيئة. قال
__________
(1). من ى، وفى أوح: قدرناه إلزام، وفى ج: قلدناه إلزام.

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

أبو السوار العدوى وقرأ هده الآية." وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" قال: هما نشرتان وزيه، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت. (اقْرَأْ كِتابَكَ) قال الحسن: يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي. (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي محاسبا. وقال بعض الصلحاء: هذا كتاب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه.، أنت كنت المملى على حفظتك، ما زيد فيه ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك.

[سورة الإسراء (17): آية 15]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)
قوله تعالى: (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره، فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضل فعقاب كفره عليه. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) تقدم في الانعام «1». وقا ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال لأهل مكة: اتبعون واكفروا بمحمد وعلى أو زاركم، فنزلت هذه الآية، أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه. يقال: وزر يزر وزرا، ووزره، أي أثم. والوزر: الثقل المثقل والجمع أوزار، ومنه" يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «2»" أي أثقال ذنوبهم. وقد وزر إذا حمل فهو وازر، ومنه وزير السلطان الذي يحمل ثقل دولته. والهاء في قوله «3» كناية عن النفس، أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، حتى أن الوالدة تلقى ولدها يوم القيامة فتقول: يا بنى ألم يكن حجري لك وطاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن بطني لك وعاء،! فيقول: بلى يا! أمه فتقول يا بنى! فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عنى منها ذنبا واحدا! فيقول: إليك عنى يا أمه! فإنى بذنبي عنك اليوم مشغول.
__________
(1). راجع ج 7 ص 155.
(2). راجع ج 6 ص 413.
(3). يبدو هنا سقط لفظ وازرة بدليل ما بعدها.

مسألة: نزعت عائشة رضى الله عنها بهذه الآية في الرد على ابن عمر حيث قال:" إن الميت ليعذب ببكاء أهله". قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارضة بين الآية والحديث، فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة:
إذا مت فانعينى بما أنا أهله ... وشقي على الجيب يا بنت معبد
وقال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وإلى هذا نحا البخاري. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه إنما يعذب بنوحهم، لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك، فيعذب بتفريطه في ذلك، وبترك ما أمره الله به من قوله:" قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً «1»" لا بذنب غيره، والله أعلم. قوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)
أي لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفى هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر. وقد تقدم في البقرة القول «2» فيه. والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا، أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى:" كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ «3» جاءَنا". قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الادلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الايمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد
__________
(1). راجع ج 18 ص 194 وص 212. [.....]
(2). راجع ج 1 ص 251.
(3). راجع ج 18 ص 194 وص 212.

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)

غرق الكفار. وهذه الآية أيضا يعطى احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم. وأما ما روى من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح، ولا يقتضى ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. قال المهدوي: وروى عن أبى هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولا إلى أهل الفطرة والأبكم والأخرس والأصم، فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في الدنيا، وتلا الآية، رواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة، ذكره النحاس. قلت: هذا موقوف، وسيأتي مرفوعا في آخر سورة طه إن شاء الله تعالى، ولا يصح. وقد استدل قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام وآمنوا فلا تكليف عليهم فيما مضى، وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، والله أعلم.

[سورة الإسراء (17): آية 16]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- أخبر الله تعالى في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل، لا لأنه يقبح منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، وخلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى أمر مترفيها بالفسق «1» والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير. يعلمك أن من هلك (فإنما) «2» هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى. الثانية- قوله تعالى: (أَمَرْنا)
قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية، والربيع ومجاهد والحسن" أمرنا" بالتشديد، وهى قراءة على رضى الله عنه، أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. وقال أبو عثمان النهدي" أمرنا" بتشديد الميم، جعلناهم
__________
(1). المحققون على ما قال ابن عباس كما في البحر: أمرناهم فعصوا وفسقوا وسيأتي. وهذا هو المطابق كقوله تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء. أما ما ذكره القرطبي كالزمخشري فيحتاج إلى تأويل. محققة.
(2). من ج وى.

أمراء مسلطين، وقاله ابن عزيز. وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرا الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلى وابن عباس باختلاف عنهما" آمرنا" بالمد والتخفيف، أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وآمرته، لغتان بمعنى كثرته، ومنه الحديث" خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة «1»" أي كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنى واحد، أي أكثرنا. وعن الحسن أيضا ويحيى بن يعمر" أمرنا" بالقصر وكسر الميم على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد، وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، قال واصلها" أأمرنا" فخفف، حكاه المهدوي. وفى الصحاح: وقال أبو الحسن أمر ماله (بالكسر) أي أكثره وأمر القوم أي كثروا، قال الشاعر:
أمرون لا يرثون سهم القعدد «2»

وآمر الله ماله: (بالمد): الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أمر، والفعل منه: أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا. قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا: أمر أمر بنى فلان، قال لبيد:
كل بنى حرة مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوما يصيروا للهلك والنكد «3»
__________
(1). السكة: الطريقة المصطفة من النخل. والمأبورة: الملقحة، يقال: أبرت النخلة وأبرتها، فهي مأبورة ومؤبرة. السكة سكة الحرث، والمأبورة المصلحة له. المراد: خير المال نتاج وزرع. (ابن الأثير).
(2). هذا عجز بيت للأعشى وصدره:
طرفون ولادون كل مبارك

الزرف والزريف: الكثير الإباء إلى الجد الأكبر. والقعدد: القليل الإباء إلى الجد الأكبر.
(3). يقول: إن غبطوا يوما فأنهم يموتون. و" يهبزوا" هاهنا يموتوا. ويروى:" إن غبطوا يعبطوا" يموتوا عبطة، كأنهم يموتون من غير مرض. (راجع الديوان). في ج وى: والفند.

قلت: وفى حديث هرقل الحديث الصحيح:" لقد أمر أمر، ابن أبى كبشة «1»، ليخافه ملك بنى الأصفر" أي كثر. وكله غير متعد ولذلك أنكره الكسائي، والله اعلم. قال المهدوي: ومن قرأ" أمر" فهي لغة، ووجه تعدية" أمر" أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شي إلى العمارة، فعدى كما عدى عمر «2». الباقون" أَمَرْنا
" من الامر، أي أمرناهم بالطاعة إعذارا وإنذارا وتخويفا ووعيدا. فَفَسَقُوا
أي فأخرجوا عن الطاعة عاصين لنا. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فوجب عليها الوعيد، عن ابن عباس. وقيل:" أَمَرْنا
" جعلناهم أمراء، لان العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل: معناه بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهى قراءة أ، بي" بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا" ذكره الماوردي. وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبى:" وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول". ويجوز أن يكون" أَمَرْنا
" بمعنى أكثرنا، ومنه" خير المال مهرة مأمورة" على ما تقدم. وقال قوم: مأمورة اتباع لمأبورة، كالغدايا والعشايا. وكقوله:" ارجعن مأزورات غير مأجورات". وعلى هذا لا يقال: أمرهم الله، بمعنى كثرهم، بل يقال: آمره وأمره. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة. قال أبو عبيد: وإنما اخترنا" أَمَرْنا
" لان المعاني الثلاثة تجتمع فيها من الامر والامارة والكثرة. والمترف: المنعم، وخصوا بالأمر لان غيرهم تبع لهم. الثالثة- قوله تعالى: (فَدَمَّرْناها)
أي استأصلناها بالهلاك. (تَدْمِيراً)
ذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم. وفى الصحيح «3» من حديث بنت جحش زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فزعا محمرا وجهه يقول:" لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت: فقلت يا رسول الله، انهلك وفينا
__________
(1). يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان المشركون يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ابن أبى كبشة" شبوة بأبى كبشة، رجل من خزاعة خالف قريشا من عبادة الأوثان. أو هي كنية وهب بن عبد مناف جده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل أمه، لأنه كان نزع إليه في الشبه. أو كنية زوج حليمة السعدية
(2). عمر كفرح.
(3). في هامش ج: الصحيحين. خ.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)

الصالحون؟ قال:" نعم إذا كثر الخبث". وقد تقدم الكلام في هذا الباب، وأن المعاصي إذا ظهرت ولم تغير كانت سببا لهلاك «1» الجميع، والله اعلم.

[سورة الإسراء (17): آية 17]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
أي كم من قوم كفروا حل بهم البوار. يخوف كفار مكة. وقد تقدم القول في القرن في أول سورة الانعام «2»، والحمد لله. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)" خَبِيراً" عليما بهم." بَصِيراً" يبصر أعمالهم، وقد تقدم «3».

[سورة الإسراء (17): الآيات 18 الى 19]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)
قوله تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) يعنى الدنيا، والمراد الدار العاجلة، فعبر بالنعت «4» عن المنعوت. (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) أي لم نعطه منها إلا ما نشاء ثم نؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار. (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) أي مطردا مبعدا من رحمة الله. وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم. وقد تقدم في" هود «5» (أن هذه الآية تقيد الآيات المطلقة، فتأمله.) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أي الدار الآخرة. (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي عمل لها عملها من الطاعات. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لان الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن. (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي مقبولا غير
__________
(1). راجع ج 7 ص 791.
(2). راجع ج 6 ص 391.
(3). راجع ج 2 ص 35.
(4). في هـ ج: خ: عن المنعوت بالنعت. [.....]
(5). راجع ج 9 ص 13.

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)

مردود. وقيل: مضاعفا، أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر، وإلى سبعين وإلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، كما روى عن أبى هريرة وقد قيل له: أسمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة"؟ فقال سمعته يقول:" إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفى ألف حسنة".

[سورة الإسراء (17): الآيات 20 الى 22]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)
قوله تعالى: (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) اعلم أنه يرزق المؤمنين والكافرين. (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي محبوسا ممنوعا، من حظر يحظر حظرا وحظارا. ثم قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والعمل، فمن مقل ومكثر. (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أي للمؤمنين، فالكافر وإن وسع عليه في الدنيا مرة، وقتر على المؤمن مرة فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم، فمن فاته شي منها لم يستدركه فيها. وقوله: (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته. وقيل: الخطاب للإنسان. (فَتَقْعُدَ) أي تبقى. (مَذْمُوماً مَخْذُولًا) لا ناصر لك ولا وليا.

[سورة الإسراء (17): الآيات 23 الى 24]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)

فيه ست عشرة مسألة: الاولى- (قَضى ) أي أمر وألزم وأوجب. قال ابن عباس والحسن وقتادة: ليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر. وفى مصحف ابن مسعود" ووصى" وهى قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضا وعلى وغيرهما، وكذلك عند أبى بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو" ووصى ربك" فالتصقت إحدى الواوين فقرئت" وَقَضى رَبُّكَ" إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد. وقال الضحاك: تصحفت على قوم" وصى بقضى" حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف. وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك. وقال عن ميمون بن مهران أنه قال: إن على قول ابن عباس لنورا، قال الله تعالى:" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «1»" ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك. وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم: القضاء يستعمل في اللغة على وجوه: فالقضاء بمعنى الامر، كقوله تعالى:" وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" معناه أمر. والقضاء بمعنى الخلق، كقوله:" فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «2»" يعنى خلقهن. والقضاء بمعنى الحكم، كقوله تعالى:" فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ «3»" يعنى احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ، كقوله:" قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «4»". أي فرغ منه، ومنه قوله تعالى" فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ «5»". وقوله تعالى:" فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ «6»". والقضاء بمعنى الإرادة، كقوله تعالى:" إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «7»". والقضاء بمعنى العهد، كقوله تعالى:" وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ «8»". فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله، لأنه إن أريد به الامر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك، لان الله تعالى لم يأمر بها،
__________
(1). راجع ج 16 ص 9.
(2). راجع ج 15 ص 342.
(3). راجع ج 11 ص 225.
(4). راجع ج 9 ص 193.
(5). راجع ج 2 ص 431.
(6). راجع ج 18 ص 108.
(7). راجع ج 4 ص، 92.
(8). راجع ج 13 ص 291.

فإنه لا يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلق امرأته ثلاثا. فقال: إنك قد عصيت ربك وبانت منك. فقال الرجل: قضى الله ذلك على! فقال الحسن وكان فصيحا: ما قضى الله ذلك أي ما أمر الله به، وقرا هذه الآية:" وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ". الثانية- أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال:" وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً". وقال:" أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ «1»". وفى صحيح البخاري عن عبد الله قال: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال:" الصلاة على وقتها" قال: ثم أي؟ قال:" ثم بر الوالدين" قال ثم أي؟ قال:" الجهاد في سبيل الله" فأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام. ورتب ذلك" بثم" التي تعطى الترتيب والمهلة. الثالثة- من البر بهما والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما، فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وبذلك وردت السنة الثابتة، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال" نعم. يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". الرابعة- عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برهما موافقتهما على أغراضهما. وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن ذلك الامر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله، وكذلك إذا كان من قبيل المندوب. وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيره في حق الولد مندوبا إليه وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدا في ندبيته.
__________
(1). راجع ج 14 ص 65.

الخامسة- روى الترمذي عن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبى يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت، فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك". قال هذا حديث حسن صحيح. السادسة- روى الصحيح عن أبى هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:" أمك" قال: ثم من؟ قال:" ثم أمك" قال: ثم من؟ قال:" ثم أمك" قال: ثم من؟ قال:" ثم أبوك". فهذا الحديث يدل على أن محبة الام والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الام ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط. وإذا توصل «1» هذا المعنى شهد له العيان. وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الام دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب. وروى عن مالك أن رجلا قال له: إن أبى في بلد السودان، وقد كتب إلى أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال: أطع أباك، ولا تعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما متساو عنده. وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الام، وزعم أن لها ثلثي البر. وحديث أبى هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر، وهو الحجة على من خالف. وقد زعم المحاسبي في (كتاب الرعاية) له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع، على مقتضى حديث أبى هريرة رضى الله عنه. والله اعلم. السابعة- لا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله تعالى:" لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ «2»". وفى صحيح البخاري عن أسماء قالت: قدمت أمي وهى مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبيها، فاستفتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: إن أمي قدمت وهى راغبة «3» أفأصلها؟ قال:" نعم صلى أمك".
__________
(1). كذا في الأصول.
(2). راجع ج 18 ص 58 وج 14 ص 63.
(3). قوله راغبة: أي راغبة في برى وصلتي، أو راغبة عن الإسلام كارهة له.

وروى أيضا عن أسماء قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أأصلها؟ قال:" نعم". قال ابن عينية: فأنزل الله عز وجل فيها:" لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ" الأول معلق والثاني مسند. الثامنة- من الإحسان إليهما والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما. روى الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد فقال:" أحي والداك"؟ قال نعم. قال:" ففيهما فجاهد". لفظ مسلم. في غير الصحيح قال: نعم، وتركتهما يبكيان. قال:" اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما". وفى خبر آخر أنه قال:" نومك مع أبويك على فراشهما يضاحكانك ويلاعبانك أفضل لك من الجهاد معى". ذكره ابن خويز منداد. ولفظ البخاري في كتاب بر الوالدين: أخبرنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان فقال:" ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما". قال ابن المنذر: في هذا الحديث النهى عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع. وذلك بين في حديث أبى قتادة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث جيش الأمراء ...، فذكر قصة زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وابن رواحة وأن منادى وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى بعد ذلك: أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:" أيها الناس، اخرجوا فأمدوا «1» إخوانكم ولا يتخلفن أحد" فخرج الناس مشاة وركبانا في حر شديد. فدل قوله:" اخرجوا فأمدوا إخوانكم" أن العذر في التخلف عن الجهاد إنما هما لم يقع النفير، مع قوله عليه السلام:" فإذا استنفرتم فانفروا". قلت: وفى هذه الأحاديث دليل على أن المفروض أو المندوبات متى اجتمعت قدم الأهم منها. وقد استوفى هذا المعنى المحاسبي في كتاب الرعاية. التاسعة- واختلفوا في الوالدين المشركين هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية، فكان الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما. وقال الشافعي: له أن يغزو
__________
(1). في ج: فأيدرا. [.....]

بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم، ولا اعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الاخوة وسائر القرابات. وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل. العاشرة- من تمام برهما صلة أهل ودهما، ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن من أبر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى". وروى أبو أسيد وكان بدريا قال: كنت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسا فجاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر والدي من بعد موتهما شي أبرهما به؟ قال:" نعم. الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهدى لصدائق خديجة برا بها ووفاء لها وهى زوجته، فما ظنك بالوالدين. الحادية عشرة- قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، فلذلك خص هذه الحالة بالذكر. وأيضا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر. وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب فقال:" فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً". روى مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال:" من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة". وقال البخاري في كتاب الوالدين: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

" رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل على. رغم أنف رجل أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له". حدثنا ابن أبى أويس حدثنا أخى عن سليمان بن بلال عن محمد بى هلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة السالمى عن أبيه رضى الله عنه قال: إن كعب بن عجرة رضى الله عنه قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أحضروا المنبر" فلما خرج رقى (إلى) المنبر، فرقى في أول درجة منه قال آمين ثم رقى في الثانية فقال آمين ثم لما رقى في الثالثة قال آمين، فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه منك؟ قال:" وسمعتموه"؟ قلنا نعم. قال:" إن جبريل عليه السلام اعترض قال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين فلما رقيت في الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال بعد من أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين". حدثنا أبو نعيم حدثنا سلمة بن وردان سمعت أنسا رضى الله عنه يقول: ارتقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال آمين، ثم استوى وجلس فقال أصحابه: يا رسول الله، علام أمنت؟ قال:" أتانى جبريل عليه السلام فقال رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين ورغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة فقلت آمين" الحديث. فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة برهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك. والشقي من عقهما، لا سيما من بلغه الامر ببرهما. الثانية عشرة- قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم. وعن أبى رجاء العطاردي قال: الاف الكلام القذع الرديء الخفي. وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف. والآية أعم من هذا. والاف والتف وسخ الاظفار. ويقال لكل
ما يضجر ويستثقل: أف له. قال الأزهري: والتف أيضا الشيء الحقير. وقرى" أُفٍّ" منونا

مخفوض، كما تخفض الأصوات وتنون، تقول: صه ومه. وفية عشر لغات: أف، واف، واف، وأفا واف، وأفه، واف لك (بكسر الهمزة)، واف (بضم الهمزة وتسكين الفاء)، وأفا (مخففة الفاء). وفى الحديث:" فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم قال أف أف". قال أبو بكر: معناه استقذار لما شم. وقال بعضهم: معنى أف الاحتقار والاستقلال، أخذ من الاف وهو القليل. وقال القتبي: أصله نفخك الشيء يسقط عليك من رماد وتراب وغير ذلك، وللمكان تريد إماطة شي لتقعد فيه، فقيلت هذه الكلمة لكل مستثقل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الاف وسخ بين الاظفار، والتف قلامتها. وقال الزجاج: معنى أف النتن. وقال الأصمعي: الاف وسخ الاذن، والتف وسخ الاظفار، فكثر استعماله حتى ذكر في كل ما يتأذى به. وروى من حديث على بن أبى طالب وضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لو علم الله من العقوق شيئا أردا من" أف" لذكره فليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار. وليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة". قال علماؤنا: وإنما صارت قولة" أف" للأبوين أردأ شي لأنه رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية ورد الوصية التي أوصاه في التنزيل. و" أف" كلمة مقولة لكل شي مرفوض، ولذلك قال إبراهيم لقومه:" أف لكم ولما تعبدون من دون الله «1»" أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم. الثالثة عشرة- قوله تعالى: وَلا تَنْهَرْهُما النهر: الزجر والغلظة. وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي لينا لطيفا، مثل: يا أبتاه ويا أماه، من غير أن يسميهما «2» ويكنيهما، قال عطاء. وقال ابن البداح «3» التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله:" وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً" ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب السيد الفظ الغليظ. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والعبيد للسادة، كما أشار إليه سعيد بن
__________
(1). راجع ج 11 ص 302.
(2). في ى: ينسبها.
(3). كذا في الأصول. والذي في ابن جرير والدر المنثور" أبو الهداج".

المسيب. وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده. والذل: هو اللين. وقراءة الجمهور بضم الذال، من ذل يذل ذلا وذلة ومذلة فهو ذال وذليل. وقرا سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير" الذل" بكسر الذال، ورويت عن عاصم، من قولهم: دابة ذلول بينة الذل. والذل في الدواب المنقاد السهل دون الصعب. فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة، في أقواله وسكناته ونظره، ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب. الخامسة عشرة- الخطاب في هذه الآية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به أمته، إذ لم يكن له عليه السلام في ذلك الوقت أبوان. ولم يذكر الذل في قوله تعالى:" وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «1»" وذكره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده. و" مِنَ" في قوله:" مِنَ الرَّحْمَةِ" لبيان الجنس، أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس، لا بأن يكون ذلك استعمالا. ويصح أن يكون لانتهاء الغاية، ثم أمر تعالى عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم، وأن ترحهما كما رحماك وترفق بهما كما رفقا بك، إذ ولياك صغيرا جاهلا محتاجا فآثراك على أنفسهما، وأسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاك، وتعريا وكسواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كنت فيه من الصغر، فتلا منهما ما وليا منك، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا يجزى ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه". وسيأتي في سورة" مريم «2»" الكلام على هذا الحديث. السادسة عشرة- قوله تعالى (كَما رَبَّيانِي) خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتبعهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين. وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولى قربى، كما تقدم «3». وذكر عن ابن عباس وقتادة أن هذا كله منسوخ بقوله:" ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ- إلى قوله- أَصْحابُ الْجَحِيمِ" فإذا كان والدا المسلم ذميين استعمل
__________
(1). راجع ج 13 ص 118 فما بعد.
(2). راجع ج 11 ص 159.
(3). ج 8 ص 272.

معهما ما أمره الله به هاهنا، إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر، لان هذا وحده نسخ بالآية المذكورة. وقيل: ليس هذا موضع نسخ، فهو دعاء بالرحمة الدنيوية للأبوين المشركين ما داما حيين، كما تقدم. أو يكون عموم هذه الآية خص بتلك، لا رحمة الآخرة، لا سيما وقد قيل إن قوله:" وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما" نزلت في سعد بن أبى وقاص، فإنه أسلم، فألقت أمه نفسها في الرمضاء متجردة، فذكر ذلك لسعد فعال: لتمت، فنزلت الآية. وقيل: الآية خاصة في الدعاء للأبوين المسلمين. والصواب أن ذلك عموم كما ذكرنا، وقال ابن عباس قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة وإن واحدا فواحدا. ومن أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار وإن واحدا فواحدا" فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال:" وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه". وقد روينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن أبى أخذ مالى. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل:" فأتني بأبيك" فنزل جبريل عليه السلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شي قاله في نفسه ما سمعته أذناه" فلما جاء الشيخ قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله"؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي! فقال له وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إيه «1»، دعنا من هذا أخبرني عن شي قلته في نفسك ما سمعته أذناك"؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي. قال:" قل وأنا أسمع" قال قلت:
__________
(1). إيه (بكسر الهاء): كلمة استزادة واستنطاق. وإذا قلت" إيها" بالنصب والتنوين فإنما تأمره بالسكوت. وقال ابن سيده:" وإيه (بالكسر) كلمة زجر بمعنى حسبك، وتنون فيقال إيها". وحكى عن الليث:" ايه وايه في الاستزادة والاستنطاق. وإيه وإيها في الزجر، كقولك: أيه حسبك، وإيها حسبك".

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

غذوتك «1» مولودا ومنتك «2» يافعا ... تعل بما أجنى عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك «3» بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتى ... فعلت كما الجار المصاقب يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن ... علي بمال دون مالك تبخل
قال: فحينئذ أخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتلابيب ابنه وقال:" أنت ومالك لأبيك". قال الطبراني: اللخمي لا يروى- يعنى هذا الحديث- عن ابن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الاسناد، وتفرد به عبيد الله بن خلصه. والله اعلم.

[سورة الإسراء (17): آية 25]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
قوله تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما رياء. وقال ابن جبير: يريد البادرة التي تبدر، كالفلتة والزلة، تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسا، قال الله تعالى: (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي صادقين في نية البر بالوالدين فإن الله يغفر البادرة. وقوله: (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة
__________
(1). نسبت هذه الأبيات في أشعار الحماسة لامية بن أبى الصلت. قال التبريزي:" وتروى لابن الأعلى. وقيل: لابي العباس الأعمى"
(2). وفى الأصول:" وصنتك". وفى أشعار الحماسة:" وعلتك" أي قمت بمؤونتك. و" يافعا" شابا. و" تعل" منعلة يعله، سقاه ثانية. و" أجنى" أكسب. و. تنهل" من أنه له، سقاه أول سقية.
(3). في الحماسة:
إذ الليلة نابتك بالشكو لم أبت ... لشكواك .........
إلخ

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)

إلى طاعة الله سبحانه وتعالى. قال سعيد بن المسيب: هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب. وقال ابن عباس رضى الله عنه: الأواب: الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها. وقال عبيد بن عمير: هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء «1» ثم يستغفرون الله عز وجل. وهذه الأقوال متقاربة. وقال عون العقيلي: الأوابون هم الذين يصلون صلاة الضحا. وفى الصحيح:" صلاة الأوابين حين ترمض الفصال «2»". وحقيقة اللفظ (أنه «3» من آب يؤوب إذا رجع.

[سورة الإسراء (17): الآيات 26 الى 27]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27)
فيه ثلاث مسائل الاولى- قوله تعالى:) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أي كما راعيت حق الوالدين فصل الرحم، ثم تصدق على المسكين وابن السبيل. وقال عبن الحسين في قوله تعالى:" وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ": هم قرابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعطائهم حقوقهم من بيت المال، أي من سهم ذوى القربى من الغزو والغنيمة، ويكون خطابا للولاة أو من قام مقامهم. والحق في هذه الآية ما يتعين من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال، والمعونة بكل وجه. الثانية- قوله تعالى: (وَلا تُبَذِّرْ) أي لا تسرف في الإنفاق في غير حق. قال الشافعي رضى الله عنه: والتبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله تعالى:" إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ" وقوله:
__________
(1). الخلاء: الخلوة.
(2). هي أن تحمى الرمضاء، وهى الرمل، فتبرك الفصال من شدة حرها وإخراقها أخفافها.
(3). من ج.

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

" إِخْوانَ" يعنى أنهم في حكمهم، إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم، أو أنهم يقرنون بهم غدا في النار، ثلاثة أقوال. والاخوان هنا جمع أخ من غير النسب، ومنه قوله تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ «1» إِخْوَةٌ". وقوله تعالى: (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي احذروا متابعة والتشبه به في الفساد. والشيطان اسم الجنس. وقرا الضحاك" إخوان الشيطان" على الانفراد، وكذلك ثبت في مصحف أنس بن مالك رضى الله عنه. الثالثة- من أنفق ماله في الشهوات زائدة على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر. ومن أنفق ربح ماله في شهواته وحفظ الأصل أو الرقبه فليس بمبذر. ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه في نفقته الدرهم في الحرام، ولا يحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد.

[سورة الإسراء (17): آية 28]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- وهو أنه سبحانه وتعالى خص نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها). وهو تأديب عجيب وقول لطيف بديع، أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم «2». وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله سبحانه وتعالى فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال" فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً". الثانية- في سبب نزولها، قال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأبى أن يعطيهم، لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد،
__________
(1). راجع ج 16 ص 322. [.....]
(2). في ى: والفرار من فتنتهم. ولا يبدو له معنى.

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)

فكان يعرض عنهم رغبة في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى" وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها" قال: ليس هذا في ذكر الوالدين، جاء ناس من مزينة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحملونه، فقال:" لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، فأنزل الله تعالى:" وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها". والرحمة الفيء «1». الثالثة- قوله تعالى: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) أمره بالدعاء لهم، أي يسر فقرهم عليهم بدعائك لهم. وقيل: ادع لهم دعاء يتضمن الفتح لهم والإصلاح. وقيل: المعنى" وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ" أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد فقل لهم قولا ميسورا، أي أحسن القول وأبسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل إذا وجدت فعلت وأكرمت، فإن ذلك يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة. وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يعطى سكت انتظارا لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الرد، فنزلت هذه الآية، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئل وليس عنده ما يعطى قال:" يرزقنا الله وإياكم من فضله". فالرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. و" قَوْلًا مَيْسُوراً" أي لينا لطيفا طيبا، مفعول بمعنى الفاعل، من لفظ اليسر كالميمون، أي وعدا جميلا، على ما بيناه. ولقد أحسن من قال:
إلا تكن ورق يوما أجود بها ... للسائلين فإنى لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إما نوالي وإما حسن مردودي
تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته.

[سورة الإسراء (17): آية 29]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)
__________
(1). في ج في هـ: الغنى.

فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) هذا مجاز عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شي من ماله، فضرب له مثل الغل الذي يمنع من التصرف باليد. وفى صحيح البخاري ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: ضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديه قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت «1» عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره «2» وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت «3» وأخذت كل حلقة بمكانها. قال أبو هريرة رضى الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» يقول بإصبعيه هكذا في جيبه فلو «5» رأيته يوسعها ولا تتوسع «6». الثانية- قوله تعالى: (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها. وهذا كله خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته، وكثيرا ما جاء في القرآن، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك. وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع. وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم، فلم يعنفهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم. وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الافراط في الإنفاق، وإخراج ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية، والله اعلم. وقيل: إن هذا الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خاصة نفسه، علمه فيه كيفية الإنفاق، وأمره بالاقتصاد. قال جابر وابن مسعود: جاء غلام إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أمي
__________
(1). أي انتشرت عنه الجبة.
(2). أي أثر مشية لسبوغها.
(3). أي انضمنت وارتفعت.
(4). العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى. وكل ذيك على المجاز والاتساع.
(5). في ج وهـ: وتقد رأيته.
(6). جواب لو محذوف، أي لتعجبت.

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)

تسألك كذا وكذا. فقال:" ما عندنا اليوم شي". قال: فتقول لك اكسني قميصك، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عريانا. وفى رواية جابر: فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج، واشتغلت القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عار، فنزلت هذه الآية. وكل هذا في إنفاق الخير. وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، كما تقدم. الثالثة- نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد «1» فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين، لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شي له، أو لئلا يضيع المنفق عياله. ونحوه من كلام الحكمة: ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع. وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص شخص من الناس. الرابعة- قوله تعالى: (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) قال ابن عرفة: يقول لا تسرف ولا تتلف مالك فتبقى محسورا منقطعا عن النفقة والتصرف، كما يكون البعير الحسير، وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى:" يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «2»" أي كليل منقطع. وقال قتادة: أي نادما على ما سلف منك، فجعله من الحسرة، وفية بعد، لان الفاعل من الحسرة حسر وحسران ولا يقال محسور. والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه.

[سورة الإسراء (17): آية 30]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
«3»
__________
(1). الوجد (مثلثة الواو): اليسار والسعة.
(2). راجع ج 18 ص 209.
(3). هذا الآية لم يتكلم عليها المؤلف ولم تذكر في النسخ التي بين أيدينا ولعله تكلم عليها وحصل سقط من النساخ. وعبارة ابن جرير الطبري في كلامه على الآية كما وردت في تفسيره:" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن ربك يا محمد يبسط الرزقه لمن يشاء من عباده فيوسع عليه. ويقدر على من يشاء.، ويقول: ويقتر على من يشاء منهم فيضيق عليه:" إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً" يقول: إن ربك ذو خبرة بعباده، ومن الذي تصلحه السعة في الرزق وتفسده، ومن الذي يصلحه الإقتار والضيق ويهلكه." بَصِيراً" يقول هو ذو بصر بتدبيرهم وسياستهم. ويقول: فانه يا محمد إلى أمرنا فيما أمرناك ونهيناك من بسط يدك فيما تبسطها فيه وفيمن تبسطها له، ومن كفها عمن تكفها عنه وتكفيها فيه، فنحن أعلم بصالح العباد منك ومن جميع الخلق وأبصر بتدبيرهم".

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)

[سورة الإسراء (17): آية 31]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)
فيه مسألتان: الاولى- قد مضى الكلام في هذه الآية في الانعام، والحمد لله «1». والإملاق: الفقر وعدم الملك. أملق الرجل أي لم يبق له إلا الملقات، وهى الحجارة العظام الملس. قال الهذلي يصف صائدا:
أتيح لها أقيدر ذو حشيف ... إذا سامت على الملقات ساما
الواحدة ملقه. والأقيدر تصغير الأقدر، وهو الرجل القصير. والحشيف من الثياب: الخلق. وسامت مرت. وقال شمر: أملق لازم ومتعد، أملق إذا افتقر، وأملق الدهر ما بيده. قال أوس:
وأملق ما عندي خطوب تنبل «2»

الثانية- قوله تعالى: (خِطْأً)" خِطْأً" قراءة الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمزة والقصر. وقرا ابن عامر" خطأ" بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة، وهى قراءة أبى جعفر يزيد. وهاتان قراءتان مأخوذتان من" خطئ" إذا أتى الذنب على عمد. قال ابن عرفة: يقال خطئ في ذنبه خطأ إذا أثم فيه، وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد. قال: ويقال خطئ في معنى أخطأ. وقال الأزهري: يقال خطئ يخطأ خطئا إذا تعمد الخطأ، مثل أثم يأثم إثما. وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ. قال الشاعر:
دعيني إنما خطئي وصوبي ... على وإن ما أهلكت مال «3»
__________
(1). راجع ج 7 ص 30.
(2). صدر البيت:
لما رأيت العدم قيد نائلي

(3). في الأصول:" وإن ما أهلكت مالى". والتصويب عن كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة وطبقات الشعراء لابن سلام في ترجمة أوس بن غلفاء، ولسان العرب في مادة" صوب". وقيل هذا البيت:
ألا قالت أمامة يوم غول ... تقطع يا ابن غلفاء الحبال
يقول: وإن الذي أهلكت إنما هو مال، والمال يستخف ولم أتلف عرضا. وغول، وكان كان فيه وقعة للعرب لضبة على بنى كلاب. (راجع معجم ياقوت). [.....]

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)

والخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء، وهو ضد الصواب. وفية لغتان: القصر وهو الجيد، والمد وهو قليل، وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما" خطأ" بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة. وقرا ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجها، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا. قال أبو على: هي مصدر من خاطأ يخاطئ، وإن كنا لا نجد خاطأ، ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه، ومنه قول الشاعر:
تخاطأت النبل أحشاءه ... وأخّر «1» يومى فلم أعجل
وقول الآخر في وصف مهاة:
تخاطأه القناص حتى وجدته ... وخرطومه في منقع الماء راسب
الجوهري: تخاطأه أي أخطأه، وقال أوفى بن مطر المازني:
ألا أبلغا خلتي جابرا ... بأن خليلك لم يقتل
تخاطأت النبل أحشاءه ... وأخّر «2» يومى فلم يعجل
وقرا الحسن" خطاء" بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة. قال أبو حاتم: لا يعرف هذا في اللغة وهى غلط غير جائز. وقال أبو الفتح: الخطأ من أخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم بمعنى المصدر، وعن الحسن أيضا" خطى" بفتح الخاء والطاء منونة من غير همزة.

[سورة الإسراء (17): آية 32]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32)
فيه مسألة واحدة: قال العلماء: قوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى. والزنى يمد ويقصر، لغتان. قال الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناء فريضة الرجم
و(سَبِيلًا) نصب على التمييز، التقدير: وساء سبيله سبيلا. أي لأنه يؤدى إلى النار. والزنى من الكبائر، ولا خلاف فيه وفى قبحه لا سيما بحليلة الجار. وينشأ عنه استخدام ولد الغير
__________
(1). أخر: بعني يتأخر، ويجوز" أخر" بضم الهمزة وشد الخاء مع الكسر.
(2). أخر: بعني يتأخر، ويجوز" أخر" بضم الهمزة وشد الخاء مع الكسر.

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

واتخاذه ابنا وغير ذلك من الميراث وفساد الأنساب باختلاط المياه. وفى الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى «1» بامرأة مجح على باب فسطاط فقال:" لعله يريد أن يلم بها" فقالوا: نعم. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمونه وهو لا يحل له".

[سورة الإسراء (17): آية 33]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)
قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) قد مضى الكلام فيه في الانعام «2». قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً). فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) أي بغير سبب يوجب القتل. (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) أي لمستحق دمه .. قال خويز: الولي يجب أن يكون ذكرا، لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير. وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى:" فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ" ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر
__________
(1). قوله:" اتى بامرأة" أي مر عليها في بعض أسفاره. و" المجح" (بميم مضمومة وجيم مكسورة وحاء مهملة) صفة لامرأة، وهى الحامل التي قربت ولادتها. وقوله: وقال لعله ... إلخ فيه حذف تقديره: فسأل عنها فقالوا أمة فلان، أي مسبيته. ومعنى" يلم بها": أي يطئوها، وكانت حاملا مسبية، لا يحل جماعها حتى تضع. وقوله" كيف يورثه ... إلخ" معناه .. أنه قد تتأخر ولادتها ستة أشهر، بحيث يحتمل كون الولد من هذا السابي، ويحتمل أنه كان ممن قبله، فعلى تقدير كونه من السابي يكون ولدا له ويتوارثان. وعلى تقدير كونه من غير السابي لا يتوارثان هو ولا السابي لعدم القرابة، بل له استخدامه لأنه مملوكه. فتقدير الحديث .. أنه قد يستلحقه ويجعله أبنا له ويورثه معه أنه لا يحل له توريثه لكونه ليس منه، ولا يحل توريثه ومزاحمته لباقي الورثة. وقد يستخدمه استخدام العبيد ويجعله عبدا يتملكه، ومع أنه لا يحل له ذلك لكونه منه إذا وضعته لمدة محتملة كونه مع كل واحد منهما، فيجب عليه الامتناع منه وطئها خوفا من هذا المحضور. (راجع شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب النكاح باب تحريم وطأ الحامل المسبية).
(2). راجع ج 7 ص 130.

وليس لها الاستيفاء. وقال المخالف: إن المراد ها هنا بالولي الوارث، وقد قال تعالى:" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «1»"، وقال:" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ
«2» مِنْ شَيْءٍ"، وقال:" وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ" فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة، وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف. (سُلْطاناً) أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية، قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي. وقال ابن وهب قال مالك: السلطان أمر الله. ابن عباس: السلطان الحجة. وقيل: السلطان طلبه حتى يدفع إليه. قال ابن العربي: وهذه الأقوال متقاربة، وأوضحها «3» قول مالك: إنه أمر الله. ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه، فقال ابن القاسم عن مالك وأبى حنيفة: القتل خاصة. وقال أشهب: الخيرة، كما ذكرنا آنفا، وبه قال الشافعي. وقد مضى في سورة" البقرة «4»" هذا المعنى. الثانية- قوله تعالى: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) فيه ثلاثة أقوال: لا يقتل غير قاتله، قاله الحسن والضحاك ومجاهد وصعيد بن جبير. الثاني: لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله. الثالث: لا يمثل بالقاتل، قاله طلق بن حبيب، وكله مراد لأنه إسراف منهى عنه. وقد مضى في" البقرة «5»" القول في هذا مستوفى. وقرا الجمهور" يُسْرِفْ" بالياء، يريد الولي، وقرا ابن عامر وحمزة والكسائي" تسرف" بالتاء من فوق، وهى قراءة حذيفة. وروى العلاء بن عبد الكريم عن مجاهد قال: هو للقاتل الأول، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل. وقال الطبري: هو على معنى الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأئمة من بعده. أي لا تقتلوا غير القاتل. وفى حرف أبى" فلا تسرفوا في القتل".
__________
(1). راجع ج 8 ص 202 وص 55 وص 58.
(2). راجع ج 8 ص 202 وص 55 وص 58.
(3). في ج: أظهرها.
(4). راجع ج 2 ص 244 فما بعد.
(5). راجع ج 2 ص 244 فما بعد.

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)

الثالثة- قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي معانا، يعنى الولي. فإن قيل: وكم من ولى مخذول لا يصل إلى حقه. قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى. وروى ابن كثير عن مجاهد قال: إن المقتول كان منصورا. النحاس: ومعنى قوله إن الله نصره بوليه. وروى أنه في قراءة أبى" فلا تسرفوا في القتل إن ولى المقتول كان منصورا". قال النحاس: إلا بين بالياء ويكون للولي، لأنه إنما يقال: لا يسرف إن كان له أن يقتل، فهذا للولي. وقد يجوز بالتاء ويكون للولي أيضا، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة. قال الضحاك: هذا أول ما نزل من القرآن في شأن القتل. وهى مكية «1».

[سورة الإسراء (17): آية 34]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) قد مضى الكلام فيه في الانعام «2». الثانية- قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) قد مضى الكلام فيه في غير موضع «3». قال قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) عنه، فحذف، كقوله:" وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «4»" به وقيل: إن العهد يسأل تبكيتا لناقضه فيقال: لم نقضت؟ كما تسأل الموءودة تبكيتا لوائدها «5».

[سورة الإسراء (17): آية 35]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
__________
(1). المروي عن الحسن أنها مدينة كما في الالومى. وهو المتبادر لأنها عن الأحكام.
(2). راجع ج 7 ص 130.
(3). راجع ج 1 ص 332.
(4). راجع ج 18 ص 196.
(5). راجع ج 19 ص 230 فما بعد. [.....]

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) تقدم الكلام فيه أيضا في الانعام «1». وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، وقد مضى في سورة" يوسف" فلا معنى للإعادة «2». والقسطاس (بضم القاف وكسرها): الميزان بلغة الروم، قاله ابن عزيز. وقال الزجاج: القسطاس: الميزان صغيرا كان أو كبيرا. وقال مجاهد: القسطاس العدل، وكان يقول: هي لغة رومية، وكان الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة في وزنكم «3». وقرا ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر" القسطاس" بضم القاف. وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (بِالْقِسْطاسِ) «4» (بكسر القاف) وهما لغتان. الثانية- قوله تعالى: (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك «5» وأبرك. (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي عاقبة. قال الحسن: ذكر لنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك".

[سورة الإسراء (17): آية 36]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ) أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك. قال قتادة: لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم، وقاله ابن عباس رضى الله عنهما. قال مجاهد: لا تذم أحدا بما ليس لك به علم، وقاله ابن عباس رضى الله عنهما أيضا. وقال محمد ابن الحنفية: هي شهادة الزور. وقال القتبي: المعنى لا تتبع الحدس
__________
(1). راجع ج 7 ص 130.
(2). راجع ج 9 ص 254.
(3). في أوخ ووو ى: بمعدلة وفى بمعدلة.
(4). في ج: عند الله.
(5). في ج: عند الله.

والظنون، وكلها متقاربة. واصل القفو البهت والقذف بالباطل، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:" نحن بنو النضر ابن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا" أي لا نسب أمنا. وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصن إن قفينا
يقال: قفوته أقفوه، وقفته أقوفه، وقفيته إذا اتبعت أثره. ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كل شي آخره، ومنه قافية الشعر، لأنها تقفو البيت. ومنه اسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقفى، لأنه جاء آخر الأنبياء. ومنه القائد، وهو الذي يتبع أثر الشبه. يقال: قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك. وتقول: فقوت للأثر، بتقديم الفاء على القاف. ابن عطية: ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا: رعملى في لعمري. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات. وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب. وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة. وقرا بعض الناس فيما حكى الكسائي" تقف" بضم القاف وسكون الفاء. وقرا الجراح" والفاد «1»" بفتح الفاء، وهى لغة لبعض الناس، وأنكرها أبو حاتم وغيره. الثانية- قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة، لأنه لما قال:" وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" دل على جواز ما لنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص، لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علما اتساعا. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وفى الصحيح عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال:" ألم ترى أن مجززا نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض هذه الاقدام لمن بعض". وفى حديث يونس بن يزيد:" وكان مجزز قائفا".
__________
(1). في الشواذ: الفؤاد بفتح الفاء والواو. والجراح قاضى البصرة.

الثالثة- قال الامام أبو عبد الله المازري: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. قال القاضي عياض: وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة، وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء، حسبما يأتي في سورة" الأحزاب «1»" إن شاء الله تعالى. الرابعة- استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد، بسرور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول هذا القائف، وما كان عليه السلام بالذي يسر بالباطل ولا يعجبه. ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشبه في حديث اللعان، على ما يأتي في سورة" النور «2»" إن شاء الله تعالى. الخامسة- واختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء، على قولين، فالأول: قول الشافعي ومالك رضى الله عنهما في رواية ابن وهب عنه، ومشهور مذهبه قصره على ولد الامة. والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقال الشافعي رضى الله عنه، لان الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة وأباه حران فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا مما لا يجوز عند الأصوليين. وكذلك اختلف هؤلاء، هل يكتفى بقول واحد من القافة أو لا بد من اثنين لأنها شهادة، وبالأول قال ابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه. وبالثاني قال مالك والشافعي رضى الله عنهما. السادسة- قوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأس من ذلك وسمع. وقيل: المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده، ونظيره قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"
__________
(1). راجع ج 14 ص 118.
(2). راجع ج 12 ص 191.

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)

فالإنسان راع على جوارحه، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسئولا، فهو على حذف مضاف. والمعنى الأول أبلغ في الحجة، فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي، كما قال:" الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «1»"، وقوله" شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «2»". وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسئولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بأولئك. وقال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى:" رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ": إنما قال:" رَأَيْتُهُمْ" في نجوم، لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل، وقد تقدم «3». وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
وهذا أمر يوقف عنده. وأما البيت فالرواية فيه" الأقوام" والله اعلم.

[سورة الإسراء (17): الآيات 37 الى 38]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) هذا نهى عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر. وقيل: هو النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين: أحدهما مذموم والآخر محمود، فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود. وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما، ففي الحديث الصحيح" لله أفرج بتوبة العبد من رجل ..." الحديث. والكسل
__________
(1). راجع ج 15 ص 48، وص 349.
(2). راجع ج 15 ص 48، وص 349.
(3). راجع ج 9 ص 122.

مذموم شرعا والنشاط ضده. وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا، وذلك على أعداء الله والظلمة. أسند أبو حاتم بن حبان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" من الغيرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التي يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل" وأخرجه أبو داود في مصنفه وغيره. وأنشدوا:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا ... فكم تحتها قوم هموا منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة ... فكم مات من قوم هموا منك أمنع
الثانية- إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفية تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنى. وأما الرجل يستريح في اليوم النادر «1» والساعة من يومه، ويجم فيها نفسه في اطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو صلاة، فليس بداخل في هذه الآية. قوله تعالى:" مَرَحاً" قراءة الجمهور بفتح الراء. وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل. والأول أبلغ، فإن قولك: جاء زيد ركضا أبلغ من قولك: جاء زيد راكضا، فكذلك قولك مرحا. والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مرحا. الثالثة- قوله تعالى: (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) يعنى لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) أي لن تساوى الجبال بطولك ولا تطاولك. ويقال: خرق الثوب أي شقه، وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها. (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) بعظمتك، أي مقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك. والمحاط محصور ضعيف، لا يليق بك
__________
(1). في ح:" في اليوم البارد".

التكبر والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة، والله اعلم. وقال الأزهري: معناه لن تقطعها. النحاس: وهذا أبين، لأنه «1» مأخوذ من الخرق وهى الصحراء الواسعة. ويقال: فلان أخرق من فلان، أي أكثر سفرا وعزة ومنعة. ويروى أن سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا، وقتل سادة وسبى- وبه سمى سبأ- ودان له الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال: إنى لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أول عبادة الشمس، فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح، نعوذ بالله من ذلك. الرابعة- قوله تعالى: (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)" ذلِكَ" إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه." ذلِكَ" يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر. وقرا عاصم وابن عامر وحمزه والكسائي ومسروق" سَيِّئُهُ" على إضافة سيئ إلى الضمير، ولذلك قال:" مَكْرُوهاً" نصب على خبر كان. والسيء: هو المكروه، وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآي من قوله:" وَقَضى رَبُّكَ"- إلى قوله- كان" سَيِّئُهُ" مأمورات بها ومنهيات عنها، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه. واختار هذه القراءة أبو عبيد. ولان في قراءة أبى." كل ذلك كان سيئاته" فهذه لا تكون إلا للإضافة. وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو" سيئة" بالتنوين، أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة. وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله:" وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" ثم قال:" وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"،" وَلا تَمْشِ"، ثم قال:" كل ذلك كان سيئة" بالتنوين. وقيل: إن قوله:" وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ" إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه، فجعلوا" كلا" محيطا بالمنهي عنه دون غيره. وقوله:" مَكْرُوهاً" ليس نعتا لسيئة، بل هو بدل منه، والتقدير: كان سيئة وكان مكروها. وقد قيل: إن" مَكْرُوهاً" خبر ثان لكان حمل على لفظه كل، و" سيئة" محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل. وقال بعضهم: وهو نعت لسيئة، لأنه لما كان
__________
(1). في ج وى: كأنه.

تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر. وضعف أبو على الفارسي هذا وقال: إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون مبعدة مذكرا، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر، ألا ترى قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
مستقبح عندهم. ولو قال قائل: أبقل أرض لم يكن قبيحا. قال أبو على: ولكن يجوز في قوله" مَكْرُوهاً" أن يكون بدلا من" سيئة". ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في" عِنْدَ رَبِّكَ" ويكون" عِنْدَ رَبِّكَ" في موضع الصفة لسيئة. الخامسة- استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه. قال الامام أبو الوفاء ابن عقيل: قد نص القرآن على النهى عن الرقص فقال:" وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً" وذم المختال. والرقص أشد المرح والبطر. أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقها في الاطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعها. فما أقبح من ذى لحية، وكيف إذا كان شبيه، يرقص ويصفق على إيقاع الالحان والقضبان، وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط، صم هو إلى إحدى الدارين، يشمس «1» بالرقص شمس البهائم، ويصفق تصفيق النسوان، و(الله «2») لقد رأيت مشايخ في عمرى ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخاطتي لهم. وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ولقد حدثني بعض المشايخ عن الامام الغزالي رضى الله عنه أنه قال: الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا بالعب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في" الكهف «3»" وغيرها «4» إن شاء الله تعالى.
__________
(1). شمست الدابة شردت وجمعت. [.....]
(2). من ج وى.
(3). راجع ص 365 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 14 ص 51 فما بعد.

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)

[سورة الإسراء (17): آية 39]
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)
الإشارة" بذلك" إلى هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل عليه السلام. أي هذه من الافعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والافعال الفاضلة. ثم عطف قوله" وَلا تَجْعَلْ" على ما تقدم من النواهي. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المراد كل من سمع الآية من البشر. والمدحور: المهان المبعد المقصي. وقد تقدم في هذه السورة «1». ويقال في الدعاء: اللهم ادحر عنا الشيطان، أي أبعده.

[سورة الإسراء (17): آية 40]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)
هذا يرد على من قال من العرب: الملائكة بنات الله، وكان هم بنات أيضا مع النبيين، ولكنه أراد: أفأخلص لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه. (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً)
أي في الإثم عند الله عز وجل.

[سورة الإسراء (17): آية 41]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي بينا. وقيل كررنا. (فِي هذَا الْقُرْآنِ) قيل:" فِي" زائدة، والتقدير: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ، مثل:" وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي «2»" أي أصلح ذريتي. والتصريف: صرف الشيء من جهة إلى جهة. والمراد بهذا التصريف البيان والتكرير. وقيل: المغايرة، أي غايرنا بين المواعظ ليذكروا ويعتبروا ويتعظوا. وقراءة العامة" صَرَّفْنا"
__________
(1). راجع ص 235 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 16 ص 195.

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)

بالتشديد على التكثير حيث وقع. وقرا الحسن بالتخفيف. وقوله:" فِي هذَا الْقُرْآنِ" يعنى الأمثال والعبر والحكم والمواعظ والأحكام والاعلام قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الامام الشيخ أبى الطيب: لقوله تعالى:" صَرَّفْنا" معنيان، أحدهما لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها ونهيا وأمرا وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وصريف الافعال من الماضي والمستقبل والامر والنهى والفعل والفاعل والمفعول ونحوها. والثاني أنه لم ينزل مرة واحدة بل نجوما، نحو قوله" وَقُرْآناً فَرَقْناهُ «1»" ومعناه: أكثرنا صرف جبريل عليه السلام إليك. (لِيَذَّكَّرُوا) قراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي" لِيَذَّكَّرُوا" مخففا، وكذلك في الفرقان" وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا «2»". الباقون بالتشديد. واختاره أبو عبيد، لان معناه ليتذكروا وليتعظوا. قال المهدوي: من شدد" لِيَذَّكَّرُوا" أراد التدبر. وكذلك من قرأ" لِيَذَّكَّرُوا". ونظير الأول" وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «3»" والثاني-" وَاذْكُرُوا ما فِيهِ «4»" (وَما يَزِيدُهُمْ) أي التصريف والتذكير. (إِلَّا نُفُوراً) أي تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار، وذلك لأنهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر.

[سورة الإسراء (17): الآيات 42 الى 43]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)
قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) هذا متصل بقوله تعالى:" وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ" وهو رد على عباد الأصنام. (كَما يَقُولُونَ) قرأ ابن كثير وحفص" يَقُولُونَ" بالياء. الباقون" تقولون" بالتاء على الخطاب. (إِذاً لَابْتَغَوْا) يعنى الآلهة. (إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) قال ابن العباس رضى الله تعالى عنهما: لطلبوا مع الله منازعة وقتالا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقال سعيد بن جبير رضى الله تعالى عنه: المعنى إذا لطلبوا
__________
(1). راجع ص 139 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 13 ص 57 وص 294 فما بعد.
(3). راجع ج 13 ص 57 وص 294 فما بعد.
(4). راجع ج 1 ص 436.

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

طريقا إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه، لأنهم شركاؤه. وقال قتادة: المعنى إذا لابتغت الآلهة القربة إلى ذى العرش سبيلا، والتمست الزلفة عنده لأنهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل أنها آلهة. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) نزه سبحانه نفسه وقدسه ومجده عما لا يليق به. والتسبيح: التنزيه. وقد تقدم «1».

[سورة الإسراء (17): آية 44]
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله:" وَمَنْ فِيهِنَّ" يريد الملائكة والانس والجن، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها في قوله:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ". واختلف في هذا العموم، هل هو مخصص أم لا، فقالت فرقة: ليس مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شي على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا مفهوما، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وأجيبوا بأن المراد بقوله:" لا تَفْقَهُونَ" الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء. وقالت فرقة: قوله" مِنْ شَيْءٍ" عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات. ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح. وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرة، يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح، وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا.
__________
(1). راجع ج 1 ص 276.

قلت: ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على قبرين فقال:" إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول" قال: فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال:" لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا". فقوله عليه الصلاة والسلام." ما لم ييبسا" إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان، فإذا يبسا صارا جمادا. والله اعلم. وفى مسند أبى داود الطيالسي: فتوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال:" لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلوتهما شي". قال علماؤنا: ويستفاد من هذا غرس، الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن. وقد بينا هذا المعنى في (كتاب التذكرة) بيانا شافيا، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه. والحمد لله على ذلك. وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك، فإن كل شي من الجماد وغيره يسبح. قلت: ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى:" وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «1»"، وقوله:" وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «2»"- على قول مجاهد-، وقوله:" وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «3»". وذكر ابن المبارك في (دقائقه) أخبرنا مسعر عن عبد الله بن واصل عن عوف بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: إن الجبل يقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال نعم سبه. ثم قرأ عبد الله" وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً «4»" الآية. قال: أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير. وفية عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا تنادى بقاع الأرض بعضها بعضا. يا جاراه، هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها. وقال رسول الله صلى
__________
(1). راجع ج 15 ص 158 فما بعد.
(2). راجع ج 1 ص 462 فما بعد.
(3). راجع ج 11 ص 155 فما بعد.
(4). راجع ج 11 ص 155 فما بعد. [.....]

الله عليه وسلم:" لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شي إلا شهد له يوم القيامة". رواه ابن ماجة في سننه، ومالك في موطئة من حديث أبى سعيد الخدري رضى الله عنه. وخرج البخاري عن عبد الله رضى الله عنه قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. في غير هذه الرواية عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه: كنا نأكل مع وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطعام ونحن نسمع تسبيحه. وفى صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث إنى لأعرفه الآن". قيل: إنه الحجر الأسود، والله اعلم. والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلئية في شرح العشرينيات النبوية للفادارى رحمه الله، وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا الباب خرجه البخاري في مواضع من كتابه. وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شي من ذلك، فكل شي يسبح للعموم. وكذا قال النخعي وغيره: هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فه حتى صرير الباب. واحتجوا بالأخبار التي ذكرنا. وقيل: تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول: سبحان الله! لعدم الإدراك منها. وقال الشاعر:
تلقى بتسبيحه من حيث ما انصرفت ... وتستقر حشا الرائي بترعاد
أي يقول من رآها: سبحان خالقها. فالصحيح أن الكل يسبح للاخبار الدالة على ذلك لو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا. وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شي فالقول به أولى. والله اعلم. وقرا الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف" تَفْقَهُونَ" بالتاء لتأنيث الفاعل. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد، قال: للحائل بين الفعل والتأنيث. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) عن ذنوب عباده في الدنيا. (غَفُوراً) للمؤمنين في الآخرة.

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)

[سورة الإسراء (17): آية 45]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45)
عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت سورة" تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1»" أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفى يدها فهر «2» وهى تقول
مذمما عصينا ... وأمره أبينا
ودينه قلينا «3»

والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضى الله عنه، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك! قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنها لن تراني" وقرا قرآنا فاعتصم به كما قال. وقرا" وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً". فوقفت على أبى بكر رضى الله عنه ولم تر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا أبا بكر، أخبرت أن صاحبك هجاني! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فولت وهى تقول: قد علمت قريش أنى ابنة سيدها. وقال سعيد بن جبير رضى الله عنه: لما نزلت" تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" جاءت امرأة أبى لهب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أبو بكر رضى الله عنه، فقال أبو بكر: لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذية. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنه سيحال بيني وبينها" فلم تره. فقالت لابي بكر: يا أبا بكر، هجانا صاحبك! فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدقه، فاندفعت راجعة. فقال أبو بكر رضى الله عنه: يا رسول الله، أما رأتك؟ قال:" لا. ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت". وقال كعب رضى الله عنه في هذه الآية: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف" إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «4»"، والآية التي في النحل
__________
(1). راجع ج 20 ص 234.
(2). الفهر (بالكسر): الحجر ملء الكف. وقيل: هو الحجر مطلقا.
(3). هذا ما ورد في سيرة ابن هشام. والتي في نسخ الأصل:
مذمما أتينا ... ودينه قلينا.
(4). راجع ج 11 ص 4 فما بعد

أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ «1»، والآية التي في الجاثية «2»" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «3»" الآية. فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأهن يستتر من المشركين. قال كعب رضى الله تعالى عنه: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام، فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا، ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه. قال الثعلبي «4»: وهذا الذي يروونه عن كعب حدثت به رجلا من أهل الري فأسر بالديلم، فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه. قلت: ويزاد إلى هذه الآية أول سورة يس إلى قوله" فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «5»". فإن في السيرة في هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقام على رضى الله عنه في فراشه قال: وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ حفنة من تراب في يده، واخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس:" يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ."- إلى قوله-" وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ". حتى فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب. قلت: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور «6» من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أنى هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شي، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا على ثم رجعا من حيث جاءا واحدهما يقول للآخر: هذا ديبله «7»، يعنون شيطانا. وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك. وقيل: الحجاب
__________
(1). راجع ص 191 من هذا الجزء.
(2). في أو ج وى: الشريعة. وهى من أسماء الجاثية.
(3). راجع ج 16 ص 166 فما بعد.
(4). في أوج وى:" الكلبي".
(5). راجع ج 15 ص 9.
(6). كذا في الأصول.
(7). لفظة فرانسيية، معناها: جنى. ولعله كذلك في لغة اللاتين.

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)

المستور طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة، قاله قتادة. وقال الحسن: أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية. وقيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ القرآن، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وام جميل امرأة أبى لهب وحويطب، فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يمرون به ولا يرونه، قاله الزجاج وغيره. وهو معنى القول الأول بعينه، وهو الأظهر في الآية، والله اعلم. وقوله: (مَسْتُوراً) فيه قولان: أحدهما- أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه. والثاني: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه، ويكون مستورا به بمعنى ساتر.

[سورة الإسراء (17): آية 46]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)
قوله تعالى: (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)" أَكِنَّةً" جمع كنان، وهي ما يستر الشيء. وقد تقدم في" الانعام «1»" (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي لئلا يفقهوه، أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني. وهذا رد «2» على القدرية. (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي صمما وثقلا. وفى الكلام إضمار، أي أن يسمعوه. (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) أي قلت: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن. وقال أبو الجوزاء أوس بن عبد الله: ليس شي أطرد للشياطين من القلب من قول لا إله إلا الله، ثم تلا" وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً". وقال على بن الحسين: هو قوله بسم الله الرحمن الرحيم. وقد تقدم هذا في البسملة «3». (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) قيل: يعنى بذلك المشركين. وقيل: الشياطين. و" نُفُوراً" جمع نافر، مثل شهود جمع شاهد، وقعود جمع قاعد، فهو منصوب على الحال. ويجوز أن يكون مصدورا على غير الصدر، إذ كان قوله" وَلَّوْا" بمعنى نقروا،
__________
(1). راجع ج 6 ص 404.
(2). في ج: يرد.
(3). راجع ج 1 ص 9 فما بعد. [.....]

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)

[سورة الإسراء (17): آية 47]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)
قوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) قيل: الباء زائدة في قوله" بِهِ" أي يستمعونه. وكانوا يستمعون من النبي صلى عليه وسلم القرآن ثم ينفرون فيقولون: هو ساحر ومسحور، كما أخبر الله تعالى به عنهم، قاله قتادة وغيره. (وَإِذْ هُمْ نَجْوى ) أي متناجون في أمرك. قال قتادة: وكانت نجواهم قولهم إنه مجنون وإنه ساحر وإنه يأتي بأساطير الأولين، وغير ذلك. وقيل: نزلت حين دعا عتبة أشراف قريش إلى طعام صنعه لهم، فدخل عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله، فتناجوا، يقولون ساحر ومجنون. وقيل: أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك على ودخل عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرا عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال:" قولوا لا إله إلا الله لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم" فأبوا، وكانوا يستمعون من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور، فنزلت الآية. وقال الزجاج: النجوى اسم للمصدر، أي وإذ هم ذو نجوى، أي سرار. (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما. (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) أي مطبوبا قد خبله السحر فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك لينفروا عنه الناس. وقال مجاهد:" مَسْحُوراً" أي مخدوعا، مثل قوله:" فَأَنَّى تُسْحَرُونَ «1»" أي من أين تخدعون. وقال أبو عبيدة:" مَسْحُوراً" معناه أن له سحرا، أي رئة، فهو لا يستغنى عن الطعام والشراب، فهو مثلكم وليس بملك. وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره. ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومسحر. قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
__________
(1). راجع ج 12 ص 144.

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)

وقال امرؤ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب «1» ... ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نغذي ونعلل. وفى الحديث عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: من هذه التي تساميني من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد توفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين سحري ونحرى «2».

[سورة الإسراء (17): آية 48]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) عجبه من صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وتارة شاعر. (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أي حيلة في صد الناس عنك. وقيل: ضلوا عن الحق فلا يجدون سبيلا، أي إلى الهدى. وقيل: مخرجا، لتناقض كلامهم في قولهم: مجنون، ساحر، شاعر.

[سورة الإسراء (17): آية 49]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)
قوله تعالى: (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي قالوا وهم يتناجون لما سمعوا القرآن وسمعوا أمر البعث: لو لم يكن مسحورا لما قال هذا. قال ابن عباس: الرفات الغبار. مجاهد: التراب. والرفات ما تكسر وبلى من كل شي، كالفتات والحطام والرضاض، عن أبى عبيدة والكسائي والفراء والأخفش. تقول منه: رفت الشيء رفتا، أي حطم، فهو مرفوت. (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)" أَإِنَّا" استفهام والمراد به الجحد والإنكار. و" خَلْقاً" نصب لأنه مصدر، أي بعثا جديدا. وكان هذا غاية الإنكار منهم.
__________
(1). أوضع الرجل في السير إذا أسرع. وقوله:" لأمر غيب" يريد الموت وأنه قد غيب عنا وقته و. نحن نلهى عنه. بالطعام والشراب.
(2). تريد أنه مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مسند إلى صدرها وما يحاذي سحرها وهو (الرئة).

قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)

[سورة الإسراء (17): الآيات 50 الى 51]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)
قوله تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) أي قل لهم يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديدا في الشدة والقوة. قال الطبري: أي إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم. وقال على بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم، إلا أنه خرج مخرج الامر، لأنه أبلغ في الإلزام. وقيل: معناه لو كنتم حجارة أو حديدا لاعادكم كما بدأكم، ولأماتكم ثم أحياكم. وقال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون. النحاس: وهذا قول حسن، لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة، وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول مرة. (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال مجاهد: يعنى السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس. وهو معنى قول قتادة. يقول: كونوا ما شئتم، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم. وقال ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن جبير ومجاهد أيضا وعكرمة وأبو صالح والضحاك: يعنى الموت، لأنه ليس شي أكبر في نفس ابن آدم منه، قال أمية بن أبى الصلت:
وللموت خلق في النفوس فظيع

يقول: إنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لأميتنكم ولابعثنكم، لان القدرة التي بها أنشأتكم بها نعيدكم. وهو معنى قوله: (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). وفى الحديث أنه" يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار". وقيل: أراد به البعث، لأنه كان أكبر في صدورهم، قاله الكلبي." فَطَرَكُمْ" خلقكم وأنشأكم. (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أي يحركون رؤوسهم استهزاء، يقال:

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

نغض رأسه ينغض وينغض نغضا ونغوضا، أي تحرك. وأنغض رأسه أي حركه، كالمتعجب من الشيء، ومنه قوله تعالى: (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ). قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا «1»

ويقال أيضا: نغض فلان رأسه أي حركه، يتعدى ولا يتعدى، حكاه الأخفش. ويقال: نغضت سنه، أي حركت وانقلعت. قال الراجز:
ونغضت من هرم أسنانها

وقال آخر:
لما رأتني انغضت لي الرأسا

وقال آخر:
لا ماء في المقراة إن لم تنهض ... بمسد فوق المحال النغض
المحال والمحالة: البكرة العظيمة التي يستقى بها الإبل. (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) أي البعث والإعادة وهذا الوقت. (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) أي هو قريب، لان عسى وأحب، نظيره" وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «2»". و" لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «3»". وكل، ما هو آت فهو قريب.

[سورة الإسراء (17): آية 52]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
قوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) الدعاء: النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق، يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج. وقيل: بالصيحة التي يسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم". (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي باستحقاقه الحمد على الأحياء.
__________
(1). أقنع فلان رأسه: وهو أن يرفع بصره ووجه إلى ما حيال رأسه من السماء.
(2). راجع ج 14 ص 284.
(3). راجع ج 16 ص 15.

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

وقال أبو سهل: أي والحمد لله، كما قال:
فإنى بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست، ولا من غدرة أتقنع
وقيل: حامد تعالى بألسنتكم. قال سعيد بن جبير: تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولون سبحانك وبحمدك، ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم. وقال ابن عباس «1»:" بِحَمْدِهِ" بأمره، أي تقرون بأنه خالقكم. وقال قتادة: بمعرفته وطاعته. وقيل: المعنى بقدرته. وقيل: بدعائه إياكم. قال علماؤنا: وهو الصحيح، فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور، بالحقيقة إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق، قال الله تعالى:" يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ" فيقومون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك. قال: فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به، قال الله تعالى:" يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ" وقال في آخر" وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2»". (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) يعنى بين النفختين، وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عاما فينامون، فذلك قوله تعالى:" مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «3»" فيكون خاصا للكفار. وقال مجاهد: للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين. وقال قتادة: المعنى أن الدنيا تحاقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة. الحسن:" وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا" في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة.

[سورة الإسراء (17): آية 53]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53)
قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) تقدم إعرابه «4». والآية نزلت في عمر بن الخطاب. وذلك أن رجلا من العرب شتمه، وسبه عمر وهم بقتله، فكادت تثير فتنة فأنزل الله تعالى فيه:" وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" ذكره الثعلبي والماوردي
__________
(1). في ج: وسفيان.
(2). راجع ج 15 ص 284 وص 39.
(3). راجع ج 15 ص 284 وص 39.
(4). راجع ج 9 ص 366.

وابن عطية والواحدي. وقيل: نزلت لما قال المسلمون: ائذن لنا يا رسول الله في قتالهم فقد طال إيذاؤهم إيانا، فقال:" لم أومر بعد بالقتال" فأنزل الله تعالى:" وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، قاله الكلبي. وقيل: المعنى قل لعبادي الذين اعترفوا بأنى خالقهم وهم يعبدون الأصنام، يقولوا التي هي أحسن من كلمة التوحيد والإقرار بالنبوة. وقيل: المعنى وقل لعبادي المؤمنين إذا جادلوا الكفار في التوحيد، أن يقولوا الكلمة التي هي أحسن. كما قال:" وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «1»". وقال الحسن: هو أن يقول للكافر إذا تشطط: هداك الله! يرحمك الله! وهذا قبل أن أمروا بالجهاد. وقيل: المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه، وعلى هذا تكون الآية عامة في المؤمن والكافر، أي قل للجميع. والله أعلم. وقالت طائفة: أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة، بحسن الأدب وإلانة القول، وخفض الجناح وإطراح نزغات الشيطان، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وكونوا عباد الله إخوانا". وهذا أحسن، وتكون الآية محكمة. قوله تعالى:" (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)" أي بالفساد وإلقاء العداوة والإغواء. وقد تقدم في آخر الأعراف «2» ويوسف «3». يقال: نزغ بيننا أي أفسد، قاله اليزيدي. وقال غيره النزغ الإغراء. (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) أي شديد العداوة. وقد تقدم في البقرة «4». وفى الخبر" أن قوما جلسوا يذكرون الله، عز وجل فجاء الشيطان ليقطع مجلسهم فمنعته الملائكة فجاء إلى قوم جلسوا قريبا منهم لا يذكرون الله فحرش بينهم فتخاصموا وتواثبوا فقال هؤلاء الذاكرون قوموا بنا نصلح بين إخواننا فقاموا وقطعوا مجلسهم وفرح بذلك الشيطان". فهذا من بعض عداوته.
__________ (1). راجع ج 7 ص 60 و347.
(2). راجع ج 7 ص 60 و347.
(3). راجع ج 9 ص 267.
(4). راجع ج 2 ص 209. [.....]

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)

[سورة الإسراء (17): آية 54]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)
قوله تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) هذا خطاب للمشركين، والمعنى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم، أو يميتكم على الشرك فيعذبكم، قاله ابن جريج. و" أَعْلَمُ" بمعنى عليم، نحو قولهم: الله أكبر، بمعنى كبير. وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم، قاله الكلبي. (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أي وما وكلناك في منعهم من الكفر ولا جعلنا إليك إيمانهم. وقيل: ما جعلناك كفيلا لهم تؤخذ بهم، قاله الكلبي. وقال الشاعر:
ذكرت أبا أروى فبت كأنني ... برد الأمور الماضيات وكيل
أي كفيل.

[سورة الإسراء (17): آية 55]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
قوله تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) أعاد بعد أن قال:" رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ" ليبين أنه خالقهم وأنه جعلهم مختلفين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم" أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ «1»". وكذا النبيون فضل بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم. وقد مضى القول في هذا في" البقرة «2»". (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. أي كما آتينا داود الزبور فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن. وهو في محاجة اليهود.

[سورة الإسراء (17): آية 56]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56)
__________
(1). راجع ج 18 ص 213.
(2). راجع ج 3 ص 261 فما بعد.

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل الله هذه الآية، أي ادعوا الذين تعبدون من دونه وزعمتم أنهم آلهة. وقال الحسن: يعنى الملائكة وعيسى وعزيرا. ابن مسعود: يعنى الجن (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) أي القحط سبع سنين، على قول مقاتل. (وَلا تَحْوِيلًا) من الفقر إلى الغنى ومن السقم إلى الصحة.

[سورة الإسراء (17): آية 57]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
قوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ)" أُولئِكَ" مبتدأ" الَّذِينَ" صفة" أُولئِكَ" وضمير الصلة محذوف، أي يدعونهم. يعنى أولئك المدعوون. و" يَبْتَغُونَ" خبر، أو يكون حالا، و" الَّذِينَ يَدْعُونَ" خبر، أي يدعون إليه عبادا [أو عباده «1»] إلى عبادته. وقرا ابن مسعود" تدعون" بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. ولا خلاف في" يَبْتَغُونَ" أنه بالياء. وفى صحيح مسلم من كتاب التفسير عن عبد الله بن مسعود في قوله عز وجل:" أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ" قال: نفر من الجن أسلموا وكانوا يعبدون، فبقى الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجن. في رواية قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون و(الانس «2» الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون، فنزلت" أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ". وعنه أيضا أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب، ذكره الماوردي. وقال ابن عباس ومجاهد: عزير وعيسى. و" يَبْتَغُونَ" يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهى الوسيلة. أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم. والهاء والميم في" رَبِّهِمُ" تعود على العابدين أو على المعبودين أو عليهم جميعا. وأما" يَدْعُونَ" فعلى العابدين. و" يَبْتَغُونَ" على المعبودين. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون" أَيُّهُمْ أَقْرَبُ"
__________
(1). من ج وو.
(2). زيادة عن صحيح مسلم.

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

بدلا من الضمير في" يَبْتَغُونَ"، والمعنى يبتغى أيهم أقرب الوسيلة إلى الله. (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي مخوفا لا أما لاحد منه، فينبغي أن يحذر منه ويخاف. وقال سهل بن عبد الله: الرجاء والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر.

[سورة الإسراء (17): آية 58]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)
قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) أي مخربوها. (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب. وقال ابن مسعود: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم. فقيل: المعنى وإن من قرية ظالمة، يقوى ذلك قوله:" وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ «1»". أي فليتق المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحل بها العذاب. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ) أي في اللوح. (مَسْطُوراً) أي مكتوبا. والسطر: الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر. والسطر بالتحريك، مثله. قال جرير:
من شاء بايعته مالى وخلعته ... ما تكمل التيم «2» في ديوانهم سطرا
الخلعة" بضم الخاء": خيار المال. والسطر جمع أسطار، مثل سبب وأسباب، ثم يجمع على أساطير. وجمع السطر أسطر وسطور، مثل أفلس وفلوس. والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ.

[سورة الإسراء (17): آية 59]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
__________
(1). راجع ج 13 ص 301.
(2). في ديوان جرير:" ما تكمل الخلج".

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

قوله تعالى: (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) في الكلام حذف، والتقدير: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم. قال معناه قتادة وابن جريج وغيرهما. فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم من يولد مؤمنا. وقد تقدم في" الانعام «1»" وغيرها أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبا وتتنحى الجبال عنهم، فنزل جبريل وقال:" إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم". فقال:" لا بل استأن بهم". و" أَنْ" الاولى في محل نصب بوقوع المنع عليهم، و" أَنْ" الثانية في محل رفع. والباء في" بِالْآياتِ" زائدة. ومجاز الكلام: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين، والله تعالى لا يكون ممنوعا عن شي، فالمعنى المبالغة في أنه لا يفعل، فكأنه قد منع عنه. ثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم يؤمن بها فقال: (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) أي آية دالة مضيئة نيرة على صدق صالح، وعلى قدرة الله تعالى. وقد تقدم «2» ذلك. (فَظَلَمُوا بِها) أي ظلموا بتكذيبها. وقيل: جحدوا بها وكفروا أنها من عند الله فاستأصلهم الله بالعذاب. (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) فيه خمسة أقوال: الأول- العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفا للمكذبين. الثاني- أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي. الثالث- أنها تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك، وهذا قول أحمد بن حنبل رضى الله عنه. الرابع- القرآن. الخامس- الموت الذريع «3»، قال الحسن.

[سورة الإسراء (17): آية 60]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
__________
(1). راجع ج 6 ص 387.
(2). راجع ج 7 ص 238 وج 9 ص 60.
(3). أي السريع الفاشي لا يكاد الناس يتدافنون.

قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) قال ابن عباس: الناس هنا أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم، أي أن الله سيهلكهم. وذكره بلفظ الماضي لتحقق كونه. وعنى بهذا الإهلاك الموعود ما جرى يوم بدر ويوم الفتح. وقيل: معنى" أَحاطَ بِالنَّاسِ" أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته، قاله مجاهد وابن أبى نجيح. وقال الكلبي: المعنى أحاط علمه بالناس. وقيل: المراد عصمته من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه، أي وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التبليغ، فبلغ بجدك فإنا نعصمك منهم ونحفظك، فلا تهبهم، وامض لما آمرك به من تبليغ الرسالة، فقدرتنا محيطة بالكل، قال معناه الحسن وعروة وقتادة وغيرهم. قوله تعالى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الاسراء، وهى المذكورة في صدر السورة. وفى البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى:" وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ" قال: هي رؤيا عين أريها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به إلى بيت المقدس. قال:" وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ" هي شجرة الزقوم. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح. وبقول ابن عباس قالت عائشة ومعاوية والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبى نجيح وابن زيد. وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أسرى به. وقيل: كانت رؤيا نوم. وهذه الآية تقضى بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها. وعن ابن عباس قال: الرؤيا التي في هذه الآية هي رؤيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يدخل مكة في سنة الحديبية، فرد فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت الآية، فلما كان العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى" لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ «1»". وفى هذا التأويل ضعف، لان السورة مكية وتلك الرؤيا كانت بالمدينة. وقال في رواية ثالثة: إنه عليه السلام رأى في المنام بنى مروان ينزون
__________
(1). راجع ج 16 ص 289.

على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فقيل: إنما هي الدنيا أعطوها، فسرى عنه، وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة. وهذا التأويل الثالث قاله أيضا سهل بن سعد رضى الله عنه. قال سهل إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرى بنى أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا. وقرا الحسن بن على في خطبته في شأن بيعته لمعاوية:" وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «1»". قال ابن عطية: وفى هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبد العزيز ولا معاوية. قوله تعالى: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) فيه تقديم وتأخير، أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. وفتنتها أنهم لما خوفوا بها قال أبو جهل استهزاء: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر والزبد، ثم أمر أبو جهل جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه: تزقموا. وقد قيل: إن القائل ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد ابن الزبعرى حيث قال: كثر الله من الزقوم في داركم، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن. وجائز أن يقول كلاهما ذلك. فافتتن أيضا لهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه إنما جعل الاسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ويصدق من سبق له الايمان. كما روى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قيل له صبيحة الاسراء: إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة من بيت المقدس فقال: إن كان قال ذلك فلقد صدق. فقيل له: أتصدقه قبل أن تسمع منه؟ فقال: أبن عقولكم؟ أنا أصدقه بخبر السماء، فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس، والسماء أبعد منها بكثير.
__________
(1). راجع ج 11 ص 350.

قلت: ذكر هذا الخبر ابن إسحاق، ونصه: قال كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عبد الله بن مسعود وأبى سعيد الخدري وعائشة ومعاوية بن أبى سفيان والحسن بن أبى الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم وام هانئ بنت أبى طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسرى به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه فيه عبرة لاولى الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله تعالى على يقين، فأسرى به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد. وكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبراق- وهى الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها- فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية: إناء فيه لبن وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فسمعت قائلا يقول حين عرضت على إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته وإن أخذ اللبن فهدى وهديت أمته قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال لي جبريل هديت وهديت أمتك يا محمد". قال ابن إسحاق: وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بينما أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه السلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا ثم عدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معى لا يفوتني ولا أفوته".

قال ابن إسحاق: وحدثت عن قتادة أنه قال: حدثت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لما دنوت منه لأركبه شمس «1» فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال فاستحيا حتى أرفض عرقا ثم قر حتى ركبته". قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومضى معه (جبريل) حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى بهم ثم أتى بإناءين: في أحدهما خمر وفى الآخر لبن، قال: فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر. قال: فقال له جبريل: هديت الفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: هذا والله الامر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام، مدبرة شهرا ومقبلة شهرا، فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبى بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلي فيه ورجع إلى مكة. قال فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى، ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال" نعم" قال: يا نبى الله، فصفه لي فإنى قد جئته؟ فقال الحسن: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رفع لي حتى نظرت إليه" فجعل
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصفه لابي بكر ويقول أبو بكر رضى الله عنه: صدقت، أشهد أنك رسول الله. كلما
__________
(1). شمست الدابة والقرس تشمس: شردت وجمحت ومنعت ظهرها.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)

وصف له منه شيئا قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله. قال: حتى إذا انتهى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي بكر رضى الله عنه:" وأنت يا أبا بكر الصديق" فيومئذ سماه الصديق. قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن الإسلام لذلك:" وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً". فهذا حديث الحسن عن مسري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما دخل فيه من حديث قتادة. وذكر باقى الاسراء عمن تقدم في السيرة. وقال ابن عباس: هذه الشجرة بنو أمية، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفى الحكم. وهذا قول ضعيف محدث والسورة مكية، فيبعد هذا التأويل، إلا أن تكون هذه الآية مدنية ولم يثبت ذلك. وقد قالت عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض «1» من لعنة الله. ثم قال:" وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ" ولم يجز في القرآن لعن هذه الشجرة، ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها. والمعنى: والشجرة الملعونة في القرآن آكلوها. ويمكن أن يكون هذا على قول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون. وقال ابن عباس: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتله، يعنى الكشوث. (وَنُخَوِّفُهُمْ) أي بالزقوم. (فَما يَزِيدُهُمْ) التخويف إلا الكفر.

[سورة الإسراء (17): الآيات 61 الى 62]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62)
قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) تقدم ذكر كون الشيطان عدو الإنسان، فانجر الكلام إلى ذكر آدم. والمعنى: اذكر بتمادي هؤلاء المشركين وعتوهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبى السجود، وقال ما قال، وهو ما أخبر الله تعالى في قوله تعالى:
__________
(1). هذه عبارة الفخر الرازي. والذي في الأصول:" فأنتقطط من لعنة الله". والصواب ما في النهاية: فأنت فضض من لعنة. أي قطعة منها.

قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) أي من طين. وهذا استفهام إنكار. وقد تقدم القول في خلق آدم في" البقرة، والانعام «1»" مستوفى. (قالَ أَرَأَيْتَكَ) أي قال إبليس. والكاف توكيد للمخاطبة. (هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) أي فضلته على. وراي جوهر النار خيرا من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة. وقد تقدم هذا في الأعراف «2». و" هذَا" نصب ب أرأيت." الَّذِي" نعته. والإكرام: اسم جامع لكل ما يحمد. وفى الكلام حذف تقديره: أخبرني عن هذا الذي فضلته على، لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟ فحذف لعلم السامع. وقيل: لا حاجة إلى تقدير الحذف، أي أترى هذا الذي كرمته على لأفعلن به كذا وكذا. ومعنى (لَأَحْتَنِكَنَّ) في قول ابن عباس: لأستولين عليهم. وقاله الفراء. مجاهد: لاحتوينهم. ابن زيد: لأضلنهم. والمعنى متقارب، أي لاستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال، ولاجتاحنهم. وروى عن العرب: احتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله. وقيل: معناه لاسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث أردت. ومن قولهم: حنكت الفرس أحنكه وأحنكه حنكا إذا جعلت في فيه الرسن. وكذلك احتنكه. والقول الأول قريب من هذا، لأنه إنما يأتي على الزرع بالحنك. وقال الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت ... جهدا إلى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا واجتلفت «3»

(إِلَّا قَلِيلًا) يعنى المعصومين، وهم الذين ذكرهم الله في قوله:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" وإنما قال إبليس ذلك ظنا، كما قال الله تعالى:" وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «4»" أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم، أو بنى على قول الملائكة:" أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ «5» فِيها". وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما.

[سورة الإسراء (17): آية 63]
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63)
__________
(1). راجع ج 1 ص 161. 279 وج 7 ص 168 و171. [.....]
(2). راجع ج 1 ص 161. 279 وج 7 ص 168 و171.
(3). أي أذهبت.
(4). راجع ج 14 ص 291.
(5). راجع ج 1 ص 161. 279 وج 7 ص 168 و171.

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)

قوله تعالى: قال (اذْهَبْ) هذا أمر إهانة، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك أي أطاعك من ذرية آدم. (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) أي وافرا، عن مجاهد وغيره. وهو نصب على المصدر، يقال: وفرته أفره وفرا، ووفر المال بنفسه يفر وفورا فهو وافر، فهو لازم ومتعد.

[سورة الإسراء (17): آية 64]
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ) أي استزل واستخف. وأصله القطع، ومنه تفزز الثوب إذا انقطع «1». والمعنى استزله بقطعك إياه عن الحق. واستفزه الخوف أي استخفه. وقعد مستفزا أي غير مطمئن." وَاسْتَفْزِزْ" أمر تعجيز، أي أنت لا تقدر على إضلال أحد، وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت. الثانية- قوله تعالى: (بِصَوْتِكَ) وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى، عن ابن عباس. مجاهد: الغناء والمزامير واللهو. الضحاك: صوت المزمار. وكان آدم عليه السلام أسكن أولادها بيل أعلى الجبل، وولد قابيل أسفله، وفيهم بنات حسان، فزمر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزنوا ذكره الغزنوي. وقيل:" بِصَوْتِكَ" بوسوستك. الثالثة- قوله تعالى: (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أصل الاجلاب السوق بجلبة من السائق، يقال: أجلب إجلابا. والجلب والجلبة: الأصوات، تقول منه: جلبوا بالتشديد. وجلب الشيء يجلبه ويجلبه جلبا وجلبا. وجلبت الشيء إلى نفسي واجتلبته بمعنى. وأجلب على العدو إجلابا، أي جمع عليهم. معنى فال أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك.
__________
(1). لم نجد في كتب اللغة" تفزز الثوب" بزائين بهذا المعنى، وإنما هو" تفزز" بزاء ثم راء. فليلاحظ.

وقال أكثر المفسرين: يريد كل راكب وماش في معصية الله تعالى. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والانس. فما كان من راكب وماش يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجالته. وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس قال: كل خيل سارت في معصية الله، وكل رجل مشى في معصية الله، وكل مال أصيب من حرام، وكل ولد بغية فهو للشيطان. والرجل جمع راجل، مثل صحب وصاحب. وقرا حفص" وَرَجِلِكَ" بكسر الجيم وهما لغتان، يقال: رجل ورجل بمعنى راجل. وقرا عكرمة وقتادة" ورجالك" على الجمع. الرابعة- (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي اجعل لنفسك شركة في ذلك. فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله، قاله الحسن. وقيل: هي التي أصابوها من غير حلها، قاله مجاهد. ابن عباس: ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقاله قتادة. الضحاك: ما كانوا يذبحونه لآلهتهم. والأولاد قيل: هم أولاد الزنى، قاله مجاهد والضحاك وعبد الله بن عباس. وعنه أيضا: هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم. وعنه أيضا: هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه. وقيل: هو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم، كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم، قال قتادة. وقول خامس- روى عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه، فذلك قوله تعالى:" لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ «1»" وسيأتي. وروى من حديث عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن فيكم مغربين" قلت: يا رسول الله، وما المغربون؟ قال:" الذين يشترك فيهم الجن". رواه الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول). قال الهروي: سموا مغربين لأنه دخل فيهم عرق غريب. قال الترمذي الحكيم: فللجن مساماة «2» بابن آدم في الأمور والاختلاط، فمنهم من يتزوج فيهم، وكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
__________
(1). راجع ج 17 ص 180 وص 188.
(2). المساماة: المباراة والمفاخرة. مسألة التزاوج بين الانس والجن لا يقرها العلم. محققة.

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

الخامسة- قوله تعالى: (وَعِدْهُمْ) أي منهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم. يقويه قوله تعالى:" يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً «1»" أي باطلا. وقبل" وَعِدْهُمْ" أي عدهم النصر على من أرادهم بسوء. وهذا الامر للشيطان تهدد ووعيد له. وقيل: استخفاف به وبمن اتبعه. السادسة- في في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو، لقوله:" وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ" على قول مجاهد وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يتحسنه فواجب التنزه عنه. وروى نافع عن ابن عمر انه سمع صوت زمارة فوضع إصبعيه في أذنيه، وعدل راحته عن الطريق وهو يقول: يا نافع! اتسمع؟ فأقول نعم، فمضى حتى قلت له لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع [صوت ] زمارة راع فصنع مثل هذا. وقال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة" لقمان «2»" أن شاء الله تعالى.

[سورة الإسراء (17): آية 65]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
قوله تعالى: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قال ابن عباس: هم المؤمنون. وقد تقدم الكلام فيه «3». (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) أي عاصما من القبول من إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره.

[سورة الإسراء (17): آية 66]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)
__________
(1). راجع ج 5 ص 120.
(2). راجع ج 14 ص 51 فما بعد.
(3). راجع ص 28 من هذا الجزء.

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)

قوله تعالى: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) الإزجاء: السوق، ومنه قوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً «1»". وقال الشاعر: «2»
يا أيها الراكب المزجى مطيته ... سائل بنى أسد ما هذه الصوت
وإزجاء الفلك: سوقه بالريح اللينة. والفلك هنا جمع، وقد تقدم «3». والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا، وقد غلب هذا الاسم على المشهور «4» وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده، أي ربكم الذي أنعم عليكم بكذا وكذا فلا تشركوا به شيئا. (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي في التجارات. وقد تقدم «5». (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

[سورة الإسراء (17): آية 67]
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67)
قوله تعالى: (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ)" الضُّرُّ" لفظ يعم خوف الغرق والإمساك عن الجري. وأهوال حالاته اضطرابه وتموجه. (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)" ضَلَّ" معناه تلف وفقد، وهى عبارة تحقير لمن يدعى إلها من دون الله. المعنى في هذه الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلا. وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) أي عن الإخلاص. (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) الإنسان هنا الكافر. وقيل: وطبع الإنسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله، فالإنسان لفظ الجنس.

[سورة الإسراء (17): آية 68]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68)
__________
(1). راجع ج 12 ص 287 فما بعد.
(2). هو رويشد بن كثير الطائي، كما في اللسان.
(3). راجع ج 2 ص 195، وص 413.
(4). كذا في الأصول. أي البجحر الملح. [.....]
(5). راجع ج 2 ص 195، وص 413.

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

قوله تعالى: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) بين أنه قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا من البحر. والخسف: أن تنهار الأرض بالشيء، يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها. وعين خاسف أي غارت حدقتها في الرأس. وعين من الماء خاسفة أي غاز ماؤها. وخسفت الشمس أي غابت «1» عن الأرض. وقال أبو عمرو: والخسيف البئر التي تحفر في الحجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة. والجمع خسف. وجانب البر: ناحية الأرض، وسماه جانبا لأنه يصير بعد الخسف جانبا. وأيضا فإن البحر جانب والبر جانب. وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البر، وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر، فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر. (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) يعنى ريحا شديدة، وهى التي ترمى بالحصباء، وهى الحصى الصغار، قاله أبو عبيدة والقتبي. وقال قتادة: يعنى حجارة من السماء تحصبهم، كما فعل بقوم لوط. ويقال للسحابة التي ترمى بالبرد: صاحب، وللريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب وحصبة أيضا. قال لبيد:
جرت عليها أن خوت من أهلها ... أذيالها كل عصوف حصبه
وقال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا) أي حافظا ونصيرا يمنعكم من بأس الله.

[سورة الإسراء (17): آية 69]
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
قوله تعالى: (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى ) يعنى في البحر. (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) القاصف: الريح الشديدة التي تكسر بشدة، من قصف الشيء يقصفه، أي كسره بشدة. والقصف: الكسر، يقال: قصفت الريح السفينة. وريح قاصف:
__________
(1). أولى أن يقال: غاب نورها.

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)

شديدة. ورعد قاصف: شديد الصوت. يقال: قصف الرعد وغيره قصيفا. والقصيف: هشيم الشجر. والتقصف التكسر. والقصف أيضا: اللهو واللعب، يقال: إنها مولدة. (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) أي بكفركم. وقرا ابن كثير وأبو عمرو" نخسف بكم"" أو نرسل عليكم"" أن نعيدكم"" فنرسل عليكم"" فنغرقكم" بالنون في الخمسة على التعظيم، لقوله:" عَلَيْنا" الباقون بالياء، لقوله في الآية قبل:" إِيَّاهُ". وقرا أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد" فتغرقكم" بالتاء نعتا للريح. وعن الحسن وقتادة" فيغرقكم" بالياء مع التشديد في الراء. وقرا أبو جعفر" الرياح" هنا وفى كل القرآن. وقيل: إن القاصف المهلكة في البر، والعاصف المغرقة في البحر، حكاه الماوردي. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) قال مجاهد: ثائرا. النحاس: وهو من الثأر. وكذلك يقال لكل من طلب بثأر أو غيره: تبيع وتابع، ومنه" فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ «1»" أي مطالبة.

[سورة الإسراء (17): آية 70]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
فيه ثلاث مسائل «2»: الاولى- قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا." كَرَّمْنا" تضعيف كرم، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا. وهذا هو كرم نفى النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بنى أدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره. وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بنى آدم، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة. وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير
__________
(1). راجع ج 2 ص 244.
(2). يلاحظ أن المسائل أربع.

مركب. وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم. وروى عن ابن عباس، ذكره المهدوي والنحاس، وهو قول الكلبي ومقاتل، ذكره الماوردي. وقال الضحاك: كرمهم بالنطق والتمييز. عطاء: كرمهم بتعديل القامة وامتدادها. يمان: بحسن الصورة. محمد بن كعب: بأن جعل محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم. وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقال محمد بن جرير الطبري: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم. وقيل: بالكلام والخط. وقيل: بالفهم والتمييز. والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف،. وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء. وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض. وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها ابن آدم أيضا، كجرى الفرس وسمعه وإبصاره، وقوه الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك. وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه. والله اعلم. الثانية- قالت فرقة: هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الانس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى:"- لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
«1» وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل فيها بين الانس والجن، فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بنى آدم ما خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهى في هذه المسألة إلى القطع. وقد تحاشي قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، إذ في الخبر" لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى". وهذا ليس بشيء، لوجود
__________
(1). راجع ج ص 26.

النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء. وقد بيناه في البقرة «1» ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن «2». الثالثة- قوله تعالى: (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) يعنى لذيذ المطاعم المشارب. قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا) أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة. الرابعة- هذه الآية ترد ما روى عن عائشة رضى الله عنها، قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أحرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوى الشيطان أن يجرى في العروق منها". وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له، لان القرآن يرده، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرر في غير موضع. وقد حكى أبو حامد الطوسي قال: كان سهل يقتات من ورق النبق مدة. واكل دقاق ورق التين ثلاث سنين. وذكر إبراهيم ابن البنا قال: صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معى، وقلت: هلم. فقال لي: ملحك مدقوق؟ قلت نعم. قال: لست تفلح! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه. وقال أبو يزيد: ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة. قال علماؤنا: وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه، لان الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج «3»، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه، لان خبز الشعير بارد مجفف، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر. وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها، ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل. ومعلوم أن البدن
__________
(1). راجع ج 3 ص 261.
(2). راجع ج 1 ص 289.
(3). القولنج: مرض معوي مؤلم يعسر معه خروج الثفل والريح، معرب.

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)

مطية الآدمي، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ. وروى عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حوارى، فقيل له: هذا كله؟ فقال: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج «1» ثم يقوم إلى الصلاة. ومثل هذا عن السلف كثير. وقد تقدم منه ما يكفى في المائدة «2» والأعراف «3» وغيرهما. والأول غلو في الدين إن صح عنهم." وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ «4»".

[سورة الإسراء (17): آية 71]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)
قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) روى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى:" يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال:" يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا- قال- وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذرعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا! اللهم لا تأتنا بهذا. قال: فيأتيهم فيقولون اللهم أخره. فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ونظير هذا قوله:" وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «5»". والكتاب يسمى إماما، لأنه يرجع إليه فى تعرف أعمالهم. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك:" بِإِمامِهِمْ" أي بكتابهم، أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله، دليله" فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ". وقال ابن زيد: بالكتاب المنزل عليهم. أي يدعى كل إنسان
__________
(1). الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. وفية لغات (عن الألفاظ الفارسية).
(2). راجع ج 6 ص 260.
(3). راجع ج 7 ص 195.
(4). راجع ج 17 ص 262 فما بعد.
(5). راجع ج 16 ص 174

بكتابه الذي كان يتلوه، فيدعى أهل التوراة بالتوراة، واهل القرآن بالقرآن، فيقال: يأهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أو مرأة هل اجتنبتم نواهيه! وهكذا. وقال مجاهد:" بِإِمامِهِمْ" بنبيهم، والامام من يؤتم به. فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام، هاتوا متبعي موسى عليه السلام، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الأصنام. فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم. وقاله قتادة. وقال على رضى الله عنه: بإمام عصرهم. وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:" يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ" فقال:" كل يدعى بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد- عليهم أفضل الصلوات والسلام- فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقول: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة". وقال الحسن وأبو العالية:" بِإِمامِهِمْ" أي بأعمالهم. وقاله ابن عباس. فيقال: أين الراضون بالمقدور، أين الصابون عن المحذور. وقيل: بمذاهبهم، فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحوه، فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قوله أبى عبيدة. وقد تقدم. وقال أبو هريرة: يدعى أهل الصداقة من باب الصداقة، واهل الجهاد من باب الجهاد ...، الحديث بطوله. أبو سهل: يقال أين فلان المصلى والصوام، وعكسه الدفاف «1» والنمام. وقال محمد بن كعب:" بِإِمامِهِمْ" بأمهاتهم. وإمام جمع آم. قالت الحكماء: وفى ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة، أحدها- لأجل عيسى. والثاني- إظهار لشرف الحسن والحسين. والثالث- لئلا يفتضح أولاد الزنى. قلت: وفى هذا القول نظر، فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان" خرجه مسلم والبخاري. فقوله:" هذه غدرة فلان ابن فلان"
__________
(1). الدفاف: الضارب بالدف. وفى الأصول:" الزفاف" بالزاي المعجمة. [.....]

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يرد على من قال: إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لان في ذلك سترا على آبائهم. والله أعلم. قوله تعالى: (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) هذا يقوى قول من قال:" بِإِمامِهِمْ" بكتابهم. ويقويه أيضا قوله:" وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «1»". (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الفتيل الذي في شق النواة. وقد مضى في" النساء «2»".

[سورة الإسراء (17): آية 72]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
قوله تعالى: (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى ) أي في الدنيا عن وإبصار الحق. (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) (أَعْمى ). وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمين إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرءوا ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ «3»- إلى- تَفْضِيلًا. قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا. وقيل: المعنى من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى. وقيل: المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. وقيل: ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى، كما قال:" وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «4» أَعْمى " الآيات. وقال:" وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ". وقيل: المعنى في قوله" فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى " في جميع الأقوال: أشد عمى، لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة
__________
(1). راجع ج 15 ص 11 فما بعد.
(2). راجع ج 5 ص 248.
(3). راجع ص 290 فما بعد من هذا الجزء.
(4). راجع ج 11 ص 257 فما بعد.

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)

اليد والرجل. فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. الأخفش: لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى «1». وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه، لان فعله عمى وعشى. وقال الفراء: حدثني بالشام شيخ بصرى أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر:
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر ... وفي المخازي لكم أشباح أشياخ
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم ... لؤما وأبيضهم سربال طباخ
وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين" أعمى" و" أعمى" وفتح الباقون. وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني. (وَأَضَلُّ سَبِيلًا) يعنى أنه لا يجد طريقا إلى الهداية.

[سورة الإسراء (17): آية 73]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)
قال سعيد بن جبير: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى ت، لم بآلهتنا. فحدث نفسه وقال:" ما على أن ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أنى لها كاره" فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية، قال مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه شططا وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرم وأدينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم، فهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل: هو قول أكابر قريش للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك، فهم بذلك حتى نهى عنه. وقال قتادة ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه، ويسودونه ويقاربونه، فقالوا: إنك تأتى بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون،
__________
(1). كذا في الأصول: ولعل الحق: عمى، لان فعله عمى كما قال نفطويه: يقال عمى عن رشده. ومنه يصاغ أفعل التفضيل.

وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)

ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى (لَيَفْتِنُونَكَ) أي يزيلونك. يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه، قاله الهروي. وقيل يصرفونك، والمعنى واحد. (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي حكم القرآن، لان في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن. (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قول ثقيف: وحرم وأدينا كما حرمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإن سألتك العرب لم خصصتهم فقل الله أمرني بذلك حتى يكون عذرا لك. (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا، أي والوك وصافوك، مأخوذ من النخلة (بالضم) وهى الصداقة لممايلته لهم. وقيل:" لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا" أي فقيرا. مأخوذ من الخلة (بفتح الخاء) وهى الفقر لحاجته إليهم.

[سورة الإسراء (17): الآيات 74 الى 75]
وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)
قوله تعالى: (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) أي على الحق وعصمناك من موافقتهم. (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) أي تميل. (شَيْئاً قَلِيلًا) أي ركونا قليلا. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام:" اللهم لا تكلني نفسي طرفة عين". وقيل: ظاهر الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وباطنه إخبار عن ثقيف. والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا، كما تقول لرجل: كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكره المهدوي. وقيل ما كان منه هم بالركون إليهم، بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل، ذكره القشيري. وقال ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوما، ولكن هذا تعريف للامة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شي من أحكام الله تعالى وشرائعه.

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)

وقوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لو ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة، قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وهذا غاية الوعيد. وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالقة أعظم. قال الله تعالى:" يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «1»" وضعف الشيء مثله مرتين، وقد يكون الضعف النصيب، كقوله عز وجل:" لِكُلٍّ ضِعْفٌ" أي نصيب. وقد تقدم في الأعراف «2» ..

[سورة الإسراء (17): آية 76]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76)
هذه الآية قيل إنها مدنية، حسبما تقدم في أول السورة. قال ابن عباس: حسدت اليهود مقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة فقالوا: إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام، فإن كنت نبيا فالحق بها، فإنك إن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك، فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة فأنزل الله هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن غنم: غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما نزل تبوك نزل (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) بعد ما ختمت السورة، وأمر بالرجوع. وقيل: إنها مكية. قال مجاهد وقتادة: نزلت في هم أهل مكة بإخراجه، ولو أخرجوه لما أمهلوا ولكن الله أمره بالهجرة فخرج، وهذا أصح، لان السورة مكية، ولان ما قبلها خبر عن أهل مكة، ولم يجر لليهود ذكر. وقول:" مِنَ الْأَرْضِ" يريد أرض مكة. كقوله:" فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ «3»" أي أرض مصر، دليله" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ «4»" يعنى مكة. معناه: هم أهلها بإخراجه، فلهذا أضاف إليها «5» وقال" أَخْرَجَتْكَ". وقيل: هم الكفار كلهم أن يستخفوه من أرض العرب بتظاهرهم عليه فمنعه الله، ولو أخرجوه
__________
(1). راجع ج 14 ص 173.
(2). راجع ج 7 ص 205.
(3). راجع ج 9 ص 241 فما بعد.
(4). راجع ج 16 ص 235.
(5). في الأصول:" إليهم" وهو تحريف.

سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)

من أرض العرب لم يمهلوا، وهو معنى قوله: (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا)، وقرا عطاء ابن أبي رباح" لا يلبثون" الباء مشددة،" خلفك" نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو، ومعناه بعدك، وقرا ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي" خِلافَكَ" واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله:" فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ «1» رَسُولِ اللَّهِ" ومعناه أيضا بعدك، قال الشاعر:
عفت الديار خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا
بسط البواسط، في الماوردي، يقال: شطبت المرأة الجريد إذا شفقة لتعمل منه الحصر- قال أبو عبيد: ثم تلقيه الشاطبة إلى المنقية. وقيل:" خلفك" بمعنى بعدك و" خِلافَكَ" بمعنى مخالفتك، ذكره ابن الأنباري،" إِلَّا قَلِيلًا" فيه وجهان: أحدهما- أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر، وهذا قول من ذكر أنهم قريش الثاني- ما بين ذلك وقتل بني قريظة وجلاء بنى النضير، وهذا قول من ذكر أنهم اليهود

[سورة الإسراء (17): آية 77]
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
قوله تعالى: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا، فهو نصب بإضمار يعذبون، فلما سقط الخافض عمل الفعل، قاله الفراء، وقيل: انتصب على معنى سننا سنة من قد أرسلنا، وقيل: هو منصوب على تقدير حذف الكاف، التقدير لا يلبثون خلفك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا، فلا يوقف على هذا التقدير على قوله:" إِلَّا قَلِيلًا" ويقف على الأول والثاني." قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا" وقف حسن، (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا) أي لا خلف في وعدها.

[سورة الإسراء (17): آية 78]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78)
__________
(1). راجع ج 8 ص 216

فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه عليه السلام بالصبر والمحافظة على الصلاة، وفيها طلب النصر على الاعداء. ومثله" وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ «1»". وتقدم القول في معنى إقامة الصلاة في أول سورة البقرة «2». وهذا الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة. واختلف العلماء في الدلوك على قولين: أحدهما- أنه زوال الشمس عن كبد السماء، قاله عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم. الثاني- أن الدلوك هو المغرب، قاله على وابن مسعود وأبى بن كعب، وروى عن ابن عباس. قال الماوردي: من جعل الدلوك اسما لغروبها فلان الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب، ومن جعله اسما لزوالها فلانه يدلك عينيه لشدة شعاعها. وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها. ودلكت براح يعنى الشمس، أي غابت وأنشد قطرب:
هذا مقام قدمي رباح ... ذبب حتى دلكت براح
براح (بفتح الباء) على وزن حزام وقطام ورقاس اسم من أسماء الشمس «3». ورواه الفراء (بكسر الباء «4») وهو جمع راحة وهى الكف، أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه. ومنه قوله العجاج:
والشمس قد كادت تكون دنفا ... أدفعها بالراح كي تزحلفا
قال ابن الاعرابي: الزحلوفة مكان منحدر أملس، لأنهم يتزحلفون فيه. قال: والزحلفة كالدحرجة والدفع، يقال: زحلفته فتزحلف. ويقال: دلكت الشمس إذا غابت. قال ذو الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها ... نجوم ولا بالآفلات الدوالك
__________
(1). راجع ص 64 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 1 ص 164.
(3). كذا في الأصول. والصواب عن أسماء النساء. [.....]
(4). أي باء الجر.

قال ابن عطية: الدلوك هو الميل- في اللغة- فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب. ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا، لأنها في حالة ميل. فذكر الله تعالى الصلوات التي تكون في حالة الدلوك وعنده، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب، ويصح أن تكون المغرب داخلة في غسق الليل. وقد ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب، لأنه سبحانه علق وجوبها على الدلوك، وهذا دلوك كله، قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل. وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة. الثانية- قوله تعالى: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ روى مالك عن ابن عباس قال: دلوك الشمس ميلها، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته. وقال أبو عبيدة: الغسق سواد الليل. قال ابن قيس الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهم والأرقا
وقد قيل: غسق الليل مغيب الشفق. وقيل: إقبال ظلمته. قال زهير:
ظلت تجود يدها وهي لاهية ... حتى إذا جنح الاظلام والغسق
يقال: غسق الليل غسوقا. والغسق اسم بفتح السين. واصل الكلمة من السيلان، يقال: غسقت العين إذا سالت، تغسق. وغسق الجرح غسقانا، أي سال منه ماء أصفر. وأغسق المؤذن، أي أخر المغرب إلى غسق الليل. وحكى الفراء: غسق الليل وأغسق، وظلم أظلم، ودجا وأدجى، وغبس وأغبس، وغبش وأغبش. وكان الربيع بن خثيم «1» يقول لمؤذنه في يوم غيم: أغسق أغسق. يقول: أخر المغرب حتى يغسق الليل، وهو إظلامه. الثالثة- اختلف العلماء في آخر وقت المغرب، فقيل: وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس، وذلك بين في إمامة جبريل، فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس، وهو الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه. وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه أيضا وبه قال الثوري. وقال مالك في الموطأ: فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل وقت العشاء. وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن
__________
(1). هذا ضبط التقريب، والذي في الخلاصة: بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة وهذا هو المشهور.

بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود، لان وقت الغروب إلى الشفق غسق كله. ولحديث أبى موسى، وفية: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى كان سقوط الشفق. خرجه مسلم. قالوا: وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل، لأنه متأخر بالمدنية وإمامة جبريل بمكة، والمتأخر أولى من فعله وأمره، لأنه ناسخ لما قبله. وزعم ابن العربي أن هذا القول هو المشهور من مذهب مالك، وقوله في موطئة الذي أقرأه طول عمره وأملاه في حياته. والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها؟ والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر. قلت: القول بالتوسعة أرجح. وقد خرج الامام الحافظ أبو محمد عبد الغنى بن سعيد من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبى الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى سرف، وذلك تسعة أميال. وأما القول بالنسخ فليس بالبين وإن كان التاريخ معلوما، فإن الجمع ممكن. قال علماؤنا: تحمل أحاديث جبريل على الأفضلية في وقت المغرب، ولذلك اتفقت الامة فيها على تعجيلها والمبادرة إليها في حين غروب الشمس. قال ابن خويز منداد: ولا نعلم أحدا من المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس. وأحاديث التوسعة تبين وقت الجواز، فيرتفع التعارض ويصح الجمع، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين، لان فيه إعمال كل واحد من الدليلين، والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما. والله اعلم. الرابعة- قوله تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) انتصب" قُرْآنَ" من وجهين: أحدهما أن يكون معطوفا على الصلاة، المعنى: واقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح، قاله الفراء. وقال أهل البصرة. انتصب على الإغراء، أي فعليك بقرآن الفجر، قال الزجاج. وعبر عنها بالقرآن

خاصة دون غيرها من الصلوات، لان القرآن هو أعظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور، عن الزجاج أيضا. قلت: وقد استقر عمل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرا لا يضر بمن خلفه- يقرأ فيها بطوال المفصل، ويليها في ذلك الظهر والجمعة- وتخفيف القراءة في المغرب وتوسطها في العصر والعشاء. وقد قيل في العصر: إنها تخفف كالمغرب. وأما ما ورد في صحيح مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير، أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة، كقراءته في الفجر المعوذتين- كما رواه النسائي- وكقراءة الأعراف والمرسلات والطور في المغرب، فمتروك بالعمل. ولإنكاره على معاذ التطويل، حين أم قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة. خرجه الصحيح. وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال:" أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة". وقال:" فإذا صلى أحدكم وحده فليطول ما شاء". كله مسطور في صحيح الحديث. الخامسة- قوله تعالى:" وَقُرْآنَ الْفَجْرِ" دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة، لأنه سمى الصلاة قرآنا. وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والقذ في كل ركعة. وهو مشهور قول مالك. وعنه أيضا أنها واجبة في جل الصلاة. وهو قول إسحاق. وعنه أيضا تجب في ركعة واحدة، قاله المغيرة وسحنون. وعنه أن القراءة لا تجب في شي من الصلاة. وهو أشذ الروايات عنه. وحكى عن مالك أيضا أنها تجب في نصف الصلاة، وإليه ذهب الأوزاعي. وعن الأوزاعي أيضا وأيوب أنها تجب على الامام والفذ والمأموم على كل حال. وهو أحد قولي الشافعي. وقد مضى في (الفاتحة «1» مستوفى. السادسة- قوله تعالى:) كانَ مَشْهُوداً روى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:" وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً" قال:" تشهده
__________
(1). راجع ج 1 ص 117 فما بعد.

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)

ملائكة الليل وملائكة النهار" هذا حديث حسن صحيح. ورواه على بن مسهر عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة وأبى سعيد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح". يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم" وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً". ولهذا المعنى أيضا قال مالك والشافعي: التغليس بالصبح أفضل. وقال أبو حنيفة: الأفضل الجمع بين التغليس والاسقار، فإن فاته ذلك فالاسفار أولى من التغليس. وهذا مخالف لما كان عليه السلام يفعله من المداومة على التغليس، وأيضا فإن فيه تفويت شهود ملائكة الليل. والله اعلم. السابعة- استدل بعض العلماء بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار" على أن صلاة الصبح ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار. قلت: وعلى هذا فلا تكون صلاة العصر أيضا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار، فإن في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفصيح عليه السلام فيما رواه أبو هريرة:" يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر" الحديث. ومعلوم أن صلاة العصر من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك، وإنما هي من النهار كالعصر بدليل الصيام والايمان، وهذا واضح.

[سورة الإسراء (17): آية 79]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (مِنَ اللَّيْلِ)" مِنَ" للتبعيض. والفاء في قوله" فَتَهَجَّدْ" ناسقة على مضمر، أي قم فتهجد. (بِهِ) أي بالقرآن. والتهجد من الهجود وهو من الأضداد. يقال: هجد نام، وهجد سهر، على الضد. قال الشاعر:

ألا زارت أهل منى هجود ... وليت خيالها بمنى يعود
آخر:
ألا طرقتنا والرفاق هجود ... فباتت بعلات «1» النوال تجود
يعنى نياما. وهجد وتهجد بمعنى. وهجدته أي أنمته، وهجدته أي أيقظته. والتهجد التيقظ بعد رقدة، فصار اسما للصلاة، لأنه ينتبه لها. فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم. قال معناه الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهم. وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد! إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة. كذلك كانت صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: الهجود النوم. يقال: تهجد الرجل إذا سهر، وألقى الهجود وهو النوم. ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا، لان المتهجد هو الذي يلقى الهجود الذي هو النوم عن نفسه. وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتحرج وتأثم وتحنث وتقذر وتنجس، إذا ألقى ذلك عن نفسه. ومثله قوله تعالى:" فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ «2»" معناه تندمون، أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، وهى انبساط النفوس وسرورها. يقال: رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك. والمعنى في الآية: ووقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة. الثانية- قوله تعالى: (نافِلَةً لَكَ) أي كرامة لك، قاله مقاتل. واختلف العلماء في تخصيص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذكر دون أمته، فقيل: كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله:" نافِلَةً لَكَ" أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الامة. قلت: وفى هذا التأويل بعد لوجهين: أحدهما- تسمية الفرض بالنفل، وذلك مجاز لا حقيقة. الثاني- قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خمس صلوات فرضهن الله على العباد"، وقوله تعالى: هن خمس وهن خمسون" ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" وهذا نص، فكيف يقال: افترض عليه صلاة زائدة على خمس، هذا ما لا يصح، وإن كان قد روى عنه عليه السلام:"
__________
(1). العلة (هنا): ما يتعلل به، مثل التعلة.
(2). راجع ج 17 ص 217.

" ثلاث علي فريضة ولامتي تطوع قيام الليل والوتر والسواك". وقيل: كانت صلاة الليل تطوعا منه وكانت في الابتداء واجبة على الكل، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة، كما قالت عائشة، على ما يأتي مبينا في سورة" المزمل «1» إن شاء الله تعالى. وعلى هذا يكون الامر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه مغفور له. فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات. وغيره من الامة تطوعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض، قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: عطية، لان العبد لا ينال من السعادة عطاء أفضل من التوفيق في العبادة. الثالثة- قوله تعالى: (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال: الأول- وهو أصحها- الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله حذيفة بن اليمان. وفى صحيح البخاري عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا «2» كل أمة تتبع نبيها تقول: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود. وفى صحيح مسلم عن أنس قال حدثنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأوتى فأقول أنا لها" وذكر الحديث. وروى الترمذي عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه في قوله:" عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً" سئل عنها قال:" هي الشفاعة" قال: هذا حديث حسن صحيح.
__________
(1). راجع ج 19 ص 32 فما بعد.
(2). جثا (جمع جثوة كخطوة وخطا) أي جماعات.

إذا ثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام، حتى ينتهى الامر إلى نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيشفع هذه الشفاعة لأهل الموقف ليعجل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم، وهو الخاصة به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأجل ذلك قال:" أنا سيد ولد آدم ولا فخر". قال النقاش: لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السب إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر. ابن عطية: والمشهور أنهما شفاعتان فقط: العامة، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار. وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء. وقال القاضي أبو الفضل عياض: شفاعات نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة خمس شفاعات: العامة. والثانية في إدخال قوم الجنة دون حساب. الثالثة في قوم من موحدى أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع فيها نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة. وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة: الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة، وهى الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح. الرابعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجون بشفاعة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين. الخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها، وهذه لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأول. قال القاضي عياض: وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات. ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتد بعمله مشفق أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة، لأنها لأصحاب الذنوب أيضا، وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف. روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة".

القول الثاني- أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. قلت: وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأول، فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع. روى الترمذي عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائي" الحديث. القول الثالث- ما حكاه الطبري عن فرقة، منها مجاهد، أنها قالت: المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه على كرسيه، وروت في ذلك حديثا. وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى، وفية بعد. ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله. وذكر النقاش عن أبى داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا، من أنكر جوازه على تأويله. قال أبو عمر ومجاهد: وإن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا والثاني في تأويل قوله تعالى:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1»" قال: تنتظر الثواب، ليس من النظر. قلت. ذكر هذا في باب ابن شهاب في حديث التنزيل. وروى عن مجاهد أيضا في هذه الآية قال: يجلسه على العرش. وهذا تأويل غير مستحيل، لان الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء كلها والعرش قائما بذاته، ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته، وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسا، أو كان العرش له مكانا. قيل: هو الآن على الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان، فعلى هذا القول سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الأرض، لان استواء الله تعالى على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش، بل هو
مستو على عرشه
__________
(1). راجع ج 19 ص 105.

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)

كما أخبر عن نفسه بلا كيف. وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه. وأما قوله في الاخبار:" معه" فهو بمنزلة قوله:" إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «1»"، و" رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «2»"." وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «3»" ونحو ذلك. كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان. الرابع- إخراجه من النار بشفاعته من يخرج، قاله جابر بن عبد الله. ذكره مسلم. وقد ذكرناه في (كتاب التذكرة) والله الموفق. السادسة- اختلف العلماء في كون القيام بالليل سببا للمقام المحمود على قولين: أحدهما: أن البارئ تعالى يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفه بوجه الحكمة فيه، أو بمعرفة وجه الحكمة. الثاني: أن قيام الليل فيه الخلوة مع البارئ والمناجاة دون الناس، فأعطى الخلوة به ومناجاته في قيامه وهو المقام المحمود. ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم، فأجلهم فيه درجة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يعطى ما لا يعطى أحد ويشفع ما لا يشفع أحد. و" عَسى " من الله عز وجل واجبة. و" مَقاماً" نصب على الظرف. أي في مقام أو إلى مقام. وذكر الطبري عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لامتي". فالمقام الموضع الذي يقوم فيه الإنسان للأمور الجليلة كالمقامات بين يدي الملوك.

[سورة الإسراء (17): آية 80]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80)
قيل: المعنى أمتني إماتة صدق، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق، ليتصل بقوله:" عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً". كأنه لما وعده ذلك أمره أن يدعو لينجز له
__________
(1). راجع ج 7 ص 356.
(2). راجع ج 8 ص 202.
(3). راجع ج 13 ص

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)

الوعد. وقيل: أدخلني في المأمور وأخرجني من المنهي. وقيل: علمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله موضع الأمن، فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة. وهذا المعنى رواه الترمذي عن ابن عباس قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت" وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً" قال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الضحاك: هو خروجه من مكة ودخوله مكة يوم الفتح آمنا. أبو سهل: حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون:" لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «1»" يعنى إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة. وقيل: المعنى أدخلني في الامر الذي أكرمتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق إذا أمتني، قال معناه مجاهد. والمدخل والمخرج (بضم الميم) بمعنى الإدخال والإخراج، كقوله:" أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً «2»" أي إنزالا لا أرى فيه ما أكره. وهى قراءة العامة. وقرا الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم" مدخل" و" مخرج". بفتح الميمين بمعنى الدخول والخروج، فالأول رباعي وهذا ثلاثي. وقال ابن عباس: أدخلني القبر مدخل صدق عند الموت وأخرجني مخرج صدق عند البعث. وقيل: أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق، أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه، فإن ذا الوجهين لا يكون وجيها عندك. وقيل: الآية عامة في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الاسفار والأعمال، وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة. فهي دعاء، ومعناه: رب أصلح لي وردي في كل الأمور وقوله: (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) قال الشعبي وعكرمة: أي حجة ثابتة. وذهب الحسن إلى أنه العز والنصر وإظهار دينه على الدين كله. قال: فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرها فيجعله له.

[سورة الإسراء (17): آية 81]
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
__________
(1). راجع ج 18 ص 129.
(2). راجع ج 12 ص 119.

فيه ثلاث مسائل: الاولى- روى البخاري والترمذي عن ابن مسعود قال: دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة عام الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا، فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطعنها بمخصرة «1» في يده- وربما قال بعود- ويقول:" جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً."" جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ «2»" لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا في حديث مسلم" نصبا". وفى رواية صنما. قال علماؤنا: إنما كانت بهذا العدد لأنهم كانوا يعظمون في يوم صنما ويخصون أعظمها بيومين. وقوله:" فجعل يطعنها بعود في يده" يقال إنها كانت مثبتة بالرصاص وأنه كلما طعن منها صنما في وجهه خر لقفاه، أو في قفاه خر لوجهه. وكان يقول:" جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً" حكاه أبو عمر والقاضي عياض. وقال القشيري: فما بقي منها صنم إلا خر لوجهه، ثم أمر بها فكسرت. الثانية- في هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم، ويخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله، وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى. قال ابن المنذر: وفى معنى الأصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه. ولا يجوز بيع شي منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص، إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرا «3» أو قطعا فيجوز بيعها والشراء بها. قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة، إلا أن يرى الامام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال. وقد تقدم حرق ابن عمر رضى الله عنه «4». وقد هم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة. وهذا أصل في العقوبة في المال مع قوله عليه السلام في الناقة التي لعنتها صاحبتها:
__________
(1). ما يختصره الإنسان بيده فيمسكه من عصا أو عكاز أو مقرعة أو قضيب وقد يتكئ عليه. [.....]
(2). راجع ج 14 ص 313.
(3). النقرة: السبيكة.
(4). الذي تقدم لابن عمر أنه أفسد على الأولاد أدوات اللعب. راجع ج 8 ص 340.

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)

" دعوها فإنها ملعونة" فأزال ملكها عنها تأديبا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به. وقد أراق عمر بن الخطاب رضى الله عنه لبنا شيب بماء على صاحبه. الثالثة- ما ذكرنا من تفسير الآية ينظر إلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" والله لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص «1» فلا يسعى عليها" الحديث. خرجه الصحيحان. ومن هذا الباب هتك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الستر الذي فيه الصور، وذلك أيضا دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا. وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها ويوجب التغيير على صاحبها. إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وحسبك! وسيأتي هذا المعنى في" النمل، «2»" إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام. وقيل: القرآن، قال مجاهد. وقيل: الجهاد. (وَزَهَقَ الْباطِلُ) قيل الشرك. وقيل الشيطان، قاله مجاهد. والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه." وَزَهَقَ الْباطِلُ": بطل الباطل. ومن هذا زهوق النفس وهو بطلانها. يقال زهقت نفسه تزهق زهوقا، وأزهقتها. (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي لا بقاء له والحق الذي يثبت.

[سورة الإسراء (17): آية 82]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ) قرأ الجمهور بالنون. وقرا مجاهد" وينزل" بالياء خفيفة «3»، ورواها المروزي عن حفص. و" مِنَ" لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس، كأنه قال: وننزل ما فيه شفاء من القرآن. وفى الخبر" من لم يستشف بالقرآن
__________
(1). القلاص (بكسر القاف وجمع القلوص بفتحها) وهى الناقة الشابة.
(2). راجع ج 13 ص 221.
(3). كذا في الأصول. ولعل: ونون خفيفة.

فلا شفاه الله". وأنكر بعض المتأولين أن تكون" مِنَ" للتبعيض، لأنه يحفظ من أن يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه. ابن عطية: وليس يلزمه هذا، بل يصح أن تكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض، فكأنه قال: وننزل من القرآن شيئا شفاء، ما فيه كله شفاء. الثانية- اختلف العلماء في كونه شفاء على قولين: أحدهما: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى. الثاني: شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه. وقد روى الأئمة- واللفظ للدارقطني- عن أبى سعيد الخدري قال: بعثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية ثلاثين راكبا قال: فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا، قال: فلدغ سيد الحي، فأتونا فقالوا: فيكم أحد يرقى من العقرب؟ في رواية ابن قتة: إن الملك يموت. قال: قلت أنا نعم، ولكن لا أفعل حتى تعطونا. فقالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. قال: فقرأت عليه" الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" سبع مرات فبرأ. في رواية سليمان بن قتة عن أبى سعيد: فأفاق وبرا. فبعث إلينا بالنزل وبعث إلينا بالشاء، فأكلنا الطعام أنا وأصحابي وأبوا أن يأكلوا من الغنم، حتى أتينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته الخبر فقال:" وما يدريك أنها رقية" قلت: يا رسول الله، شي ألقى في روعي. قال:" كلوا وأطعمونا من الغنم" خرجه في كتاب السنن. وخرج في (كتاب المديح «1» من حديث السرى بن يحيى قال: حدثني المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبى سليم عن الحسن عن أبى أمامة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" ينفع بإذن الله تعالى من البرص والجنون والجذام والبطن والسل والحمى والنفس أن تكتب بزعفران أو بمشق- يعنى المغرة- أعوذ بكلمات الله التامة وأسمائه كلها عامة من شر السامة والعامة ومن شر العين اللامة ومن شر حاسد إذا حسد ومن أبى فروة وما ولد". كذا قال، ولم يقل من شر أبى قترة «2». العين اللامة: التي تصيب بسوء. تقول: أعيذه من كل هامة لامة. وأما قوله:
__________
(1). في بعض الأصول:" المذبح" ولم نوقف لتصويبه.
(2). أبو فترة (بكسر القاف وسكون التاء): كنية إبليس.

أعيذه من حادثات اللمة فيقول: هو الدهر. ويقال الشدة. والسامة: الخاصة. يقال: كيف السامة والعامة. والسامة السم. ومن أبى فروة وما ولد. وقال: ثلاثة وثلاثون من الملائكة أتوا ربهم عز وجل فقالوا: وصب بأرضنا. فقال: خذوا تربة من أرضكم فامسحوا نواصيكم. أو قال: نواصيكم «1» رقية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أفلح من كتمها أبدا أو أخذ عليها صفدا «2». ثم تكتب فاتحة الكتاب وأربع ءايات من أول البقرة، والآية التي فيها تصريف الرياح وآية الكرسي والآيتين اللتين بعدها، وخواتيم سورة البقرة من موضع" لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ" إلى آخرها، وعشرا من أول" آل عمران" وعشرا من آخرها، وأول آية من النساء، وأول آية من المائدة، وأول آية من الانعام، وأول آية من الأعراف، والآية التي في الأعراف" إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «3»" حتى تختم الآية، والآية التي في يونس من موضع" قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ «4»". والآية التي في طه" وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى «5»"، وعشرا من أول الصافات، و" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"، والمعوذتين. تكتب في إناء نظيف ثم تغسل ثلاث مرات بماء نظيف ثم يحثو منه الوجع ثلاث حثوات ثم يتوضأ منه كوضوئه للصلاة ويتوضأ قبل وضوئه للصلاة حتى يكون على طهر قبل أن يتوضأ به ثم يصب على رأسه وصدره وظهره ولا يستنجى به ثم يصلى ركعتين ثم يستشفى الله عز وجل، يفعل ذلك ثلاثة أيام، قدر ما يكتب في كل يوم كتابا. في رواية: ومن شر أبى قترة وما ولد. وقال:" فامسحوا نواصيكم «6»" ولم يشك. وروى البخاري عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت انفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها. فسألت «7» الزهري كيف كان ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وروى مالك عن ابن شهاب عن عروه عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اشتكى قرأ على نفسه
__________
(1). في ج: بوصبكم: أي بوجعكم. وتكون رقية منصوبة على الإغراء.
(2). الصفد: العطاء.
(3). راجع ج 7 ص 218.
(4). راجع ج 8 ص 367.
(5). راجع ج 11 ص 221 فما بعد.
(6). في ج: بوصبكم. [.....]
(7). السائل هو عروة بن الزبير راوي الحديث.

المعوذتين وتفل أو نفث. قال أبو بكر بن الأنباري: قال اللغويون تفسير" نفث" نفخ نفحا ليس معه ريق. ومعنى" تفل" نفخ نفخا معه ريق. قال الشاعر:
فإن يبرأ فلم انفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود
وقال ذو الرمة:
ومن جوف ماء عرمض الحول فوقه ... متى يحس منه مائح القوم يتفل «1»
أراد ينفخ بريق. وسيأتي ما للعلماء في النفث في سورة الفلق «2» إن شاء الله تعالى. الثالثة- روى ابن مسعود أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكره الرقى إلا بالمعوذات. قال الطبري: وهذا حديث لا يجوز الاحتجاج بمثله في الدين، إذ في نقلته من لا يعرف. ولو كان صحيحا لكان إما غلطا وإما منسوخا، لقوله عليه السلام في الفاتحة" ما أدراك أنها رقية". وإذا جاز الرقى بالمعوذتين وهما سورتان من القرآن كانت الرقية بسائر القرآن مثلهما في الجواز إذ كله قرآن. وروى عنه عليه السلام أنه قال:" شفاء أمته في ثلاث آية «3»، من كتاب الله أو لعقة من عسل أو شرطة من محجم". وقال رجاء الغنوي: ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاء له. الرابعة- واختلف العلماء في النشرة، وهى أن يكتب شيئا من أسماء الله أو من القرآن ثم يغسله بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقيه، فأجازها سعيد بن المسيب. قيل له: الرجل يؤخذ عن امرأته أيحل عنه وينشر؟ قال: لا بأس به، وما ينفع لم ينه عنه. ولم ير مجاهد أن تكتب آيات من القران ثم تغسل ثم يسقاه صاحب الفزع. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض. وقال المازري أبو عبد الله: النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم، وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل. ومنعها الحسن وإبراهيم النخعي، قال النخعي: أخاف أن يصيبه بلاء، وكأنه ذهب إلى أنه ما محي «4» به القرآن فهو
__________
(1). العرمض: الخضرة التي تعلوا الماء وهى الرمض والعلق والطحلب. والمائح (بالهمز): الذي ينزل البئر فيملأ الدلو. والماتح (بالتاء): الذي يجذب الدلوا.
(2). راجع ج 20 ص 257 فما بعد.
(3). لم نقف على هذه الرواية، والمشهورة كما في البخاري وعيرة:" شفاء أمتي في ثلاث شرطة محجم أو شربة عسل أوكية نار .."،
(4). كذا في ج، وفى أوح ووو ى: يجئ.

إلى أن يعب بلاء أقرب منه إلى أن يفيد شفاء. وقال الحسن: سألت أنسا فقال: ذكروا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها من الشيطان. وقد روى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النشرة فقال:" من عمل الشيطان". قال ابن عبد البر. وهذه آثار لينة ولها وجوه محتملة، وقد قيل: إن هذا محمول على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وعى المداواة المعروفة. والنشرة من جنس الطب فهي غسالة شي له فضل، فهي كوضوء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". قلت: قد ذكرنا النص في النشرة مرفوعا وأن ذلك لا يكون إلا من كتاب الله فليعتمد عليه. الخامسة- قال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عز وجل على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بتعليقها مدافعة العين. وهذا معناه قبل أن ينزل به شي من العين. وعلى هذا القول جماعة أهل العلم، لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بنى آدم شي من العلائق خوف نزول العين، وكل ما يعلق بعد نزول البلاء من أسماء الله عز وجل وكتابه رجاء الفرج والبرء من الله تعالى، فهو كالرقى المباح الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها. وقد روى عبد الله بن عمرو قال قال وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا فزع أحدكم في نومه فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وسوء عقابه ومن شر الشياطين وأن يحضرون (. وكان عبد الله يعلمها ولده من أدرك منهم، ومن لم يدرك كتبها وعلقها عليه. فإن قيل: فقد روى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" من علق شيئا وكل إليه". وراي ابن مسعود على أم ولده تميمة مربوطة فجبذها جبذا شديدا فقطعها وقال: إن آل ابن مسعود لأغنياء عن الشرك، ثم قال: إن التمائم والرقى والتولة من الشرك. قيل: ما التولة؟ قال: ما تحببت به لزوجها. وروى عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" من علق تميمة فلا أتم الله له

ومن علق ودعه فلا ودع الله له قلبا". قال الخليل بن أحمد: التميمة قلادة فيها عوذ، والودعة خرز. وقال أبو عمر: التميمة في كلام العرب القلادة، ومعناه عند أهل العلم ما علق في الأعناق من القلائد خشية العين أو غيرها من أنواع البلاء وكان المعنى في الحديث من يعلق خشية ما عسى «1» من تنزل أو لا تنزل قبل أن تنزل. فلا أتم الله عليه صحته وعافيته، ومن تعلق ودعه- وهى مثلها في المعنى- فلا ودع الله له، أي فلا بارك الله له ما هو فيه من العافية. والله اعلم. وهذا كله تحذير مما كان أهل الجاهلية يصنعونه من تعليق التمائم والقلائد، ويظنون أنها تقيهم وتصرف عنهم البلاء، وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل، وهو المعافى والمبتلى، لا شريك له. فنهاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم. وعن عائشة قالت: ما تعلق بعد نزول البلاء فليس من التمائم. وقد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال قبل نزول البلاء وبعده. والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى. وما روى عن ابن مسعود يجوز أن يريد بما كره تعليقه غير القرآن أشياء مأخوذة عن العراقيين والكهان، إذ الاستشفاء بالقرآن معلقا وغير معلق لا يكون شركا، وقوله عليه السلام:" من علق شيئا وكل إليه" فمن علق القرآن ينبغي أن يتولاه الله ولا يكله إلى غيره، لأنه تعالى هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن. وسيل ابن المسيب عن التعويذ أيعلق؟ قال: إذا كان في قصبة أو رقعة يحرز فلا بأس به. وهذا على أن المكتوب قرآن. وعن الضحاك أنه لم يكن يرى بأسا أن يعلق الرجل الشيء من كتاب الله إذا وضعه عند الجماع وعند الغائط. ورخص أبو جعفر محمد بن على في التعويذ يعلق على الصبيان. وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان. السادسة- قوله تعالى: (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) تفريج الكروب وتطهير العيوب
وتكفير الذنوب مع ما تفضل به تعالى من الثواب في تلاوته، كما روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف". قال هذا حديث حسن صحيح غريب. وقد تقدم. (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) لتكذيبهم. قال
__________
(1). من ى.

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)

قتادة: ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ:" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ" الآية. ونظير هذه الآية قوله:" قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى «1»". وقيل: شفاء في الفرائض والأحكام لما فيه من البيان.

[سورة الإسراء (17): آية 83]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83)
قوله تعالى: (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الاعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. ومعنى" نَأى بِجانِبِهِ" أي تكبر وتباعد. وناء مقلوب منه، والمعنى: بعد عن القيام بحقوق الله عز وجل، يقال: نأى الشيء أي بعد. ونائتة ونأيت عنه بمعنى، أي بعدت. وأنأيته فانتأى، أي أبعدته فبعد. وتناءوا تباعدوا. والمنتأى: الموضع البعيد. قال النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقرا ابن عامر في رواية ابن ذكوان" ناء" مثل باع، الهمزة مؤخرة، وهو على طريقة القلب من نأى، كما يقال: راء وراي. وقيل: هو من النوء وهو النهوض والقيام. وقد يقال أيضا للوقوع والجلوس نوء، وهو من الأضداد. وقرى" ونئى" بفتح النون وكسر الهمزة. والعامة" نَأى " في وزن رأى. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) أي إذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط، لأنه لا يثق بفضل الله تعالى.

[سورة الإسراء (17): آية 84]
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
__________
(1). راجع ج 15 ص 368.

قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قال ابن عباس: ناحيته. وقاله الضحاك. مجاهد: طبيعته. وعنه: حدته. ابن زيد: على دينه. الحسن وقتادة: نيته. مقاتل: جبلته. الفراء: على طريقته ومذهبه الذي جبل عليه. وقيل. قل كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب في اعتقاده. وقيل: هو مأخوذ من الشكل، يقال: لست على شكلي ولا شاكلتي. قال الشاعر:
كل امرئ يشبهه فعله ... ما يفعل المرء فهو أهله
فالشكل هو المثل والنظير والضرب. كقوله تعالى:" وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ «1»". الشكل (بكسر الشين): الهيئة. يقال: جارية حسنة الشكل. وهذه الأقوال كلها متقاربة. والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن. والآية والتي قبلها نزلتا في الوليد بن المغيرة، ذكره المهدوي. (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا) أي بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم. وقيل:" أَهْدى سَبِيلًا" أي أسرع قبولا. وقيل: أحسن دينا. وحكى أن الصحابة رضوان الله عليهم تذاكروا القرآن فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تبارك وتعالى:" قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ" فإنه لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أرى فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى:" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ «2»" قدم غفران الذنوب على قبول التوبة، وفى هذا إشارة للمؤمنين. وقال عثمان بن عفان رضى الله عنه: قرأت جميع القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى:" نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «3»". وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه:
__________
(1). راجع ج 15 ص 220 فما بعد وص 289.
(2). راجع ج 15 ص 220 فما بعد وص 289.
(3). راجع ص 34 من هذا الجزء

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)

قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى:" قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «1»". قلت: وقرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى:" الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ «2»".

[سورة الإسراء (17): آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)
روى البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله قال: بينا أنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال: ما رابكم «3» إليه؟ وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه. فقالوا: سلوه. فسألوه عن الروح فأمسك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحى قال:" وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" لفظ البخاري. وفى مسلم: فأسكت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفية: وما أوتوا. وقد اختلف الناس في الروح المسئول عنه، أي الروح هو؟ فقيل: هو جبريل، قاله قتادة. قال: وكان ابن عباس يكتمه. وقيل هو عيسى. وقيل القرآن، على ما يأتي بيانه في آخر الشورى «4». وقال على بن أبى طالب: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بكل تلك اللغات، يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. ذكره الطبري. قال ابن عطية: وما أظن القول يصح عن على رضى الله عنه. قلت: أسند البيهقي أخبرنا أبو زكريا عن أبى إسحاق أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن
__________
(1). راجع ج 15 ص 267.
(2). راجع ج 7 ص 9 ص فما بعد.
(3). أي ما دعاكم إلى سؤال تخشون عاقبته بأن يستقبلكم بشيء تكرهونه.
(4). راجع ج 16 ص 54 فما بعد. [.....]

عباس في قوله:" وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ" يقول: الروح ملك. وبإسناده عن معاوية بن صالح حدثني أبو هران (بكسر الهاء) يزيد بن سمرة عمن حدثه عن على بن أبى طالب أنه قال في قوله تعالى:" وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ" فال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ... الحديث بلفظه ومعناه. وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه، يسبح الله إلى يوم القيامة، ذكره النحاس. وعنه: جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام، ذكره الغزنوي. وقال الخطابي: وقال بعضهم، هو ملك من الملائكة بصفة وضعوها من عظم الخلقة. وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح الذي يكون به حياة الجسد. وقال أهل النظر منهم: إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الإنسان، وكيف امتزاجه بالجسم واتصال الحياة به، وهذا شي لا يعلمه إلا الله عز وجل. وقال أبو صالح: الروح خلق كخلق بنى آدم وليسوا ببني أدم، لهم أيد وأرجل. والصحيح الإبهام لقوله:" قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" دليل على «1» خلق الروح أي هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهما له وتاركا تفصيله، ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها. وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز. قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا اختلف فيمن خوطب بذلك، فقالت فرقة: السائلون فقط. وقال قوم: المراد اليهود بجملتهم. وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود" وما أوتوا" ورواها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقالت فرقة: المراد العالم كله. وهو الصحيح، وعليه قراءة الجمهور" وَما أُوتِيتُمْ". وقد قالت اليهود للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف لم نوت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة وهى الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا؟ فعارضهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعلم الله فغلبوا. وقد نص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله في بعض الأحاديث:" كلا" يعنى أن المراد ب" ما أُوتِيتُمْ" جميع
__________
(1). أي هو المنفرد بخلق الروح والعالم بسره لا يدركه أحد من الناس.

وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)

العالم. وذلك أن يهود قالت له: نحن عنيت أم قومك؟. فقال:" كلا". وفى هذا المعنى نزلت" وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ «1»" حكى ذلك الطبري رحمه الله وقد قيل: إن السائلين عن الروح هم قريش، قالت لهم اليهود: سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذى القرنين وعن الروح فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبى، فأخبرهم خبر أصحاب الكهف وخبر ذى القرنين على ما يأتي. وقال في الروح:" قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" أي من الامر الذي لا يعلمه إلا الله. ذكره المهدوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس.

[سورة الإسراء (17): الآيات 86 الى 87]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)
قوله تعالى: (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يعنى القرآن. أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق. ويتصل هذا بقوله:" وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" أي ولو شئت أن أذهب بذلك القليل لقدرت عليه. (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا) أي ناصرا يرده عليك. (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) يعنى لكن لإنشاء ذلك رحمة من ربك، فهو استثناء ليس من الأول. وقيل: إلا أن يرحمك ربك فلا يذهب به. (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) إذ جعلك سيد ولد آدم، وأعطاك المقام المحمود وهذا الكتاب العزيز. وقال عبد الله بن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وأن هذا القرآن كأنه قد نزع منكم، تصبحون يوما وما معكم منه شي. فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن! وقد ثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا، نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة! قال: يسرى به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وما في القلوب، فتصبح الناس كالبهائم. ثم قرأ عبد الله" وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ" الآية. أخرجه أبو بكر بن أبى شيبة بمعناه قال: أخبرنا أبو الأحوص عن عبد العزيز ابن رفيع عن
__________
(1). راجع ج 14 ص 76.

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)

شداد بن معقل قال: قال عبد الله- يعنى ابن مسعود-: إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم. قال: قلت كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وثبتناه في مصاحفنا! قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء. ثم قرأ" لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ" وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عمر: لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوى كدوي النحل، فيقول الله ما بالك. فيقول: يا رب منك خرجت وإليك أعود، أتلى فلا يعمل بى، أتلى ولا يعمل بى. قلت: قد جاء معنى هذا مرفوعا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة. قال حذيفة قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة فيسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله. وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة". قال له صلة «1»: ما تغنى عنهم لا إله إلا الله! وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة، فأعرض عنه حذيفة، ثم رددها ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة. ثم أقبل عليه حذيفة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار، ثلاثا. خرجه ابن ماجة في السنن. وقال عبد الله بن عمر: خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو معصوب الرأس من وجع فضحك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:" أيها الناس ما هذه الكتب التي تكتبون اكتأب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا ولا قلبا إلا أخذ منه" قالوا: يا رسول الله، فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال:" من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله" ذكره الثعلبي والغزنوي وغيرهما في التفسير.

[سورة الإسراء (17): آية 88]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
__________
(1). هو صلة بن زفر العبسي، أحد رجال سند الحديث.

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)

أي عوينا ونصيرا، مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه. نزلت حين قال الكفار: لو نشاء لقلنا مثل هذا، فأكذبهم الله تعالى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن في أول الكتاب «1»: والحمد لله. ولا يَأْتُونَ جواب القسم في" لَئِنِ" وقد يجزم على إرادة الشرط. قال الشاعر:
لئن كان ما حدثته اليوم صادقا ... أقم «2» في نهار القيظ للشمس باديا

[سورة الإسراء (17): آية 89]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي وجهنا القول فيه بكل مثل يجب به الاعتبار، من الآيات والعبر والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي وأقاصيص الأولين، والجنة والنار والقيامة. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) يريد أهل مكة، بين لهم الحق وفتح لهم وأمهلهم حتى تبين لهم أنه الحق، فأبوا إلا الكفر وقت تبين الحق. قال المهدوي: ولا حجة للقدرى في قولهم: لا يقال أبى إلا لمن أبى فعل ما هو قادر عليه، لان الكافر وإن كان غير قادر على الايمان بحكم الله عليه بالاعراض عنه وطبعه على قلبه، فقد كان قادرا وقت الفسحة والمهلة على طلب الحق وتمييزه من الباطل.

[سورة الإسراء (17): الآيات 90 الى 93]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
__________
(1). راجع ج 1 ص 69.
(2). رواية خزانة الأدب في الشاهد الرابع والثالثين بعد التسعمائة: أصم في نهار القيظ ..." إلخ.

قوله تعالى: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الآية نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبى سفيان والنضر بن الحارث، وأبى جهل وعبد الله بن أبى أمية، وأمية بن خلف وأبى البختري، والوليد بن المغيرة وغيرهم. وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة، اجتمعوا- فيما ذكر ابن إسحاق وغيره- بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فأتهم، فجاءهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد! إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك- وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا- فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما بى ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل على كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" أو كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير

عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا قصى بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم صلوات الله عليه وسلامه:" ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم". قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك! سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وأسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمس، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله:" ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت بهذا إليكم ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا- أو كما قال- فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. قال فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ذلك إلى الله عز وجل إن شاء أن يفعله بكم فعل" قالوا: يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألنا عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك بما تراجعنا به، ويخبرك «1» ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به. إنه قد بلغنا إنما يعلمك هذا رجل
من اليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهى بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتى بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، هو لعاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك
__________
(1). في ج: بما.

قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل- أو كما قال له- فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتى معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أنى أصدقك ثم انصرف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه، كله لفظ ابن إسحاق. وذكر الواحدي عن عكرمة عن ابن عباس: فأنزل الله تعالى: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)"." يَنْبُوعاً" يعنى العيون، عن مجاهد. وهى يفعول، من نبع ينبع. وقرا عاصم وحمزة والكسائي" تفجر لنا" مخففة، واختاره أبو حاتم لان الينبوع واحد. ولم يختلفوا في تفجر الأنهار أنه مشدد. قال أبو عبيد: والاولى مثلها. قال أبو حاتم. ليست مثلها، لان الاولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار وهى جمع، والتشديد يدل على التكثير. أجيب بأن" يَنْبُوعاً" وإن كان واحدا فالمراد به الجمع، كما قال مجاهد. الينبوع عين الماء، والجمع الينابيع. وقرا قتادة" أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ". (خِلالَها) أي وسطها. (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ) قراءة العامة. وقرا مجاهد" أو يسقط السماء" على إسناد الفعل إلى السماء. (كِسَفاً) قطعا، عن ابن عباس وغيره. والكسف (بفتح السين) جمع كسفة، وهى قراءة نافع وابن عامر وعاصم. الباقون" كِسَفاً" بإسكان السين. قال الأخفش: من قرأ كسفا من السماء جعله واحدا، ومن قرأ كسفا جعله جمعا. قال المهدوي: ومن أسكن السين جاز أن يكون جمع كسفة وجاز أن يكون مصدرا، من كسفت الشيء إذا غطيته. فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا. وقال الجوهري. الكسفة القطعة من الشيء، يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف وكسف. ويقال: الكسفة واحد.

(أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا) أي معاينة، عن قتادة وابن جريج. وقال الضحاك وابن عباس: كفيلا. قال مقاتل: شهيدا. مجاهد: هو جمع القبيلة، أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة. وقيل: ضمناء يضمنون لنا إتيانك به. (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي من ذهب، عن ابن عباس وغيره. وأصله الزينة. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. وقال مجاهد: كنت لا أدرى ما الزخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود" بيت من ذهب" أي نحن لا ننقاد لك مع هذا الفقر الذي نرى. (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) أي تصعد، يقال: رقيت في السلم أرقي رقيا ورقيا إذا صعدت. وارتقيت مثله. (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) أي من أجل رقيك، وهو مصدر، نحو مضى يمضى مضيا، وهوى يهوى هويا، كذلك رقى يرقى رقيا. (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) أي كتابا من الله تعالى إلى كل رجل منا، كما قال تعالى:" بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «1»". (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) وقرا أهل مكة والشام" قال سبحان ربى" يعنى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي قال ذلك تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شي وعن أن يعترض عليه في فعل. وقيل: هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم. الباقون" قُلْ" على الامر، أي قل لهم يا محمد (هَلْ كُنْتُ) أي ما أنا (إِلَّا بَشَراً رَسُولًا) اتبع ما يوحى إلى من ربى، ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات وقال بعض الملحدين: ليس هذا جوابا مقنعا، وغلطوا، لأنه أجابهم فقال: إنما أنا بشر لا أقدر على شي مما سألتموني، وليس لي أن أتخير على ربى، ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان أن يقول: لا أو من حتى أوتى
بآية خلاف ما طلب غيرى. وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس، وإنما التدبير إلى الله تعالى.
__________
(1). راجع ج 19 ص 88.

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)

[سورة الإسراء (17): آية 94]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)
قوله تعالى: (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ) يعنى الرسل والكتب من عند الله بالدعاء إليه. (إِلَّا أَنْ قالُوا) جهلا منهم. (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا) أي الله أجل من أن يكون رسوله من البشر. فبين الله تعالى فرط عنادهم لأنهم قالوا: أنت مثلنا فلا يلزمنا الانقياد، وغفلوا عن المعجزة." فأن" الاولى في محل نصب بإسقاط حرف الخفض. و" أَنْ" الثانية في محل رفع ب" مَنَعَ" أي وما منع الناس من أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا قولهم أبعث الله بشر رسولا.

[سورة الإسراء (17): آية 95]
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)
أعلم أن الله تعالى أن الملك إنما يرسل إلى الملائكة، لأنه لو أرسل ملكا إلى الآدميين لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على ذلك وخلق فيهم ما يقدرون به، ليكون ذلك آية لهم ومعجزة. وقد تقدم في" الانعام" نظير هذه الآية، وهو قوله:" وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا «1»" وقد تقدم الكلام فيه «2».

[سورة الإسراء (17): آية 96]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)
يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله" هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا": فمن يشهد لك أنك رسول الله. فنزل" قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً".
__________
(1). راجع ج 6 ص 393.
(2). راجع ج 6 ص 393.

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)

[سورة الإسراء (17): آية 97]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)
قوله تعالى: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي لو هداهم الله لاهتدوا. (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) أي لا يهديهم أحد. (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) فيه وجهان: أحدهما- أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا. الثاني- أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. وهذا هو الصحيح، لحديث أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، الذين يحشرون على وجوههم، أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة": قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. أخرجه البخاري ومسلم. وحسبك. (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) قال ابن عباس والحسن: أي عمى عما يسرهم، بكم عن التكلم بحجة، صم عما ينفعهم، وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها، ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا، لقوله تعالى:" وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها «1»"، وتكلموا، لقوله تعالى:" دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً «2»"، وسمعوا، لقوله تعالى:" سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً «3»". وقال مقاتل بن سليمان: إذا قيل لهم" اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «4»" صاروا عميا لا يبصرون صما لا يسمعون بكما لا يفقهون. وقيل: عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون. وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا شيئا. (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي مستقرهم ومقامهم. (كُلَّما خَبَتْ) أي سكنت، عن الضحاك
__________
(1). راجع ج 11 ص 3.
(2). راجع ج 13 ص 7.
(3). راجع ج 13 ص 7.
(4). راجع ج 12 ص 153.

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)

وغيره. مجاهد طفئت. يقال: خبت النار تخبو خبوا أي طفئت، وأخبيتها أنا. (زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي نار تتلهب. وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم. وقيل: إذا أرادت أن تخبو. كقوله:" وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ «1»".

[سورة الإسراء (17): الآيات 98 الى 99]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)
قوله تعالى: (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي ذلك العذاب جزاء كفرهم. (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي ترابا. (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ) قيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم. والأجل: مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم، وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد. وقيل: هو جواب قولهم:" أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً". وقيل: وهو يوم القيامة. (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي المشركون إلا جحودا بذلك الأجل وبآيات الله. وقيل: ذلك الأجل هو وقت البعث، ولا ينبغي أن يشك فيه.

[سورة الإسراء (17): آية 100]
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
__________
(1). راجع ص 269 من هذا الجزء. [.....]

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)

قوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) أي خزائن الأرزاق. وقيل: خزائن النعم، وهذا أعم. (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) من البخل، وهو جواب قولهم:" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً" حتى نتوسع في المعيشة. أي لو توسعتم لبخلتم أيضا. وقيل: المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها كجود الله تعالى، لأمرين: أحدهما- أنه لا بد أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته. الثاني- أنه يخاف الفقر ويخشى العدم. والله تعالى يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين. والإنفاق في هذه الآية بمعنى الفقر، قاله ابن عباس وقتادة. وحكى أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قل ماله. (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي بخيلا مضيقا. يقال: قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا إذا ضيق عليهم في النفقة، وكذلك التقتير والإقتار، ثلاث لغات. واختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما- أنها نزلت في المشركين خاصة، قاله الحسن. والثاني- أنها عامة، وهو قول الجمهور، وذكره الماوردي.

[سورة الإسراء (17): آية 101]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) اختلف في هذه الآيات، فقيل: هي بمعنى آيات الكتاب، كما روى الترمذي والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله، فقال: لا تقل له نبى فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين، فأتيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألاه عن قول الله تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ" فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببري إلى السلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف- شك شعبة- وعليكم [يا معشر] اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت" فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبى. قال:

قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)

" فما يمنعكما أن تسلما" قالا: إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبى وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد مضى في البقرة «1». وقيل: الآيات بمعنى المعجزات والدلالات. قال ابن عباس والضحاك: الآيات التسع العصا واليد واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات. وقال الحسن والشعبي: الخمس المذكورة في" الأعراف «2»"، يعنيان الطوفان وما عطف عليه، واليد والعصا والسنين والنقص من الثمرات. وروى نحوه عن الحسن، إلا أنه يجعل السنين والنقص من الثمرات واحدة، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون. وعن مالك كذلك، إلا أنه جعل مكان السنين والنقص من الثمرات، البحر والجبل. وقال محمد بن كعب: هي الخمس التي في [الأعراف ] والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم. وقد تقدم شرح هذه الآيات مستوفى والحمد لله. (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ) أي سلهم يا محمد إذ جاءهم موسى بهذه الآيات، حسبما تقدم بيانه في يونس «3». وهذا سؤال استفهام ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي ساحرا بغرائب أفعالك، قاله الفراء وأبو عبيدة. فوضع المفعول موضع الفاعل، كما تقول: هذا مشئوم وميمون، أي شائم ويأمن. وقيل مخدوعا. وقيل مغلوبا، قاله مقاتل. وقيل غير هذا، وقد تقدم. وعن ابن عباس وأبى نهيك أنهما قرءا" فسأل بنى إسرائيل" على الخبر، أي سأل موسى فرعون أن يخلى بنى إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه.

[سورة الإسراء (17): آية 102]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)
قوله تعالى: (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) يعنى الآيات التسع. و" أَنْزَلَ" بمعنى أوجد. (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته.
__________
(1). راجع ج 1 ص 439.
(2). راجع ج 7 ص 267.
(3). راجع ج 8 ص 373 فما بعد.

وقراءة العامة" عَلِمْتَ" بفتح التاء خطابا لفرعون. وقرا الكسائي بضم التاء، وهى قراءة على [بن أبى طالب «1»] رضى الله عنه، وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي يعلم، فبلغت ابن عباس فقال: إنها" لَقَدْ عَلِمْتَ"، واحتج بقوله تعالى:" وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «2»". ونسب فرعون إلى العناد. وقال أبو عبيد: والمأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح للمعنى الذي احتج به ابن عباس، ولان موسى لا يحتج بقوله: علمت أنا، وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كله تصح به القراءة عن على لكانت حجة، ولكن لا تثبت عنه، إنما هي عن كلثوم المرادي وهو مجهول لا يعرف، ولا نعلم أحدا قرأ بها غير الكسائي. وقيل: إنما أضاف موسى إلى فرعون العلم بهذه المعجزات، لان فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة فعله، وأن مثل ما فعل موسى لا يتهيأ لساحر، وأنه لا يقدر على فعله إلا من يفعل الأجسام ويملك السموات والأرض. وقال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان، فرأى فرعون جانبي البيت بين فقميها، ففزع وأحدث في قطيفته. [الفقم بالضم «3» اللحى، وفى الحديث" من حفظ ما بين فقميه" أي ما بين لحييه ]. (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) الظن هنا بمعنى التحقيق. والثبور: الهلاك والخسران أيضا. قال الكميت:
ورأت قضاعة في الأيا ... من رأى مثبور وثابر
أي مخسور وخاسر، يعنى في انتسابها إلى اليمن. وقيل: ملعونا. رواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال أبان بن تغلب. وأنشد:
يا قومنا لا تروموا حربنا سقها ... إن السفاه وإن البغي مثبور
أي ملعون. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس:" مَثْبُوراً" ناقص العقل. ونظر المأمون رجلا فقال له: يا مثبور، فسأل عنه قال. قال الرشيد قال المنصور لرجل: مثبور، فسألته فقال: حدثني ميمون بن مهران ... فذكره. وقال قتادة هالكا. وعنه أيضا والحسن
__________
(1). من ج.
(2). راجع ج 13 ص 156 فما بعد.
(3). من ج وى. في النهاية: بالضم والفتح- اللحى. تمام الحديث" ورجليه دخل الجنة" يريد من حفظ لسانه وفرجه.

فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

ومجاهد. مهلكا. والثبور: الهلاك، يقال: ثبر الله العدو ثبورا أهلكه. وقيل: ممنوعا من الخير حكى أهل اللغة: ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه. وثبره الله يثبره [ويثبره لغتان «1»]. قال ابن الزبعرى:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغ ... ي ومن مال ميله مثبور
الضحاك:" مَثْبُوراً" مسحورا. رد عليه مثل ما قال له باختلاف اللفظ. وقال ابن زيد:" مَثْبُوراً" مخبولا لا عقل له.

[سورة الإسراء (17): الآيات 103 الى 104]
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
قوله تعالى: (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي أراد فرعون أن يخرج موسى وبنى إسرائيل من أرض مصر [إما «2»] بالقتل أو الابعاد، فأهلكه الله عز وجل. (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد إغراقه. (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي أرض الشام ومصر. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي القيامة. (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه. وقال ابن عباس وقتادة: جئنا بكم جميعا من جهات شتى. والمعنى واحد. قال الجوهري: واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، يقال: جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم. وقوله تعالى" جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً" أي مجتمعين مختلطين. وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا. وفلان لفيف فلان أي صديقه. قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجميع. والمعنى: أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر، مختلطين لا يتعارفون. وقال الكلبي:" فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ" يعنى مجيء عيسى عليه السلام من السماء.
__________
(1). من ج وى.
(2). من ج. وفى ى: إما بالقتل وإما بالابعاد.

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)

[سورة الإسراء (17): آية 105]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)
قوله تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن. والكناية ترجع إلى القرآن. ووجه التكرير في قوله" وَبِالْحَقِّ نَزَلَ" يجوز أن يكون معنى الأول: أوجبنا إنزاله بالحق. ومعنى الثاني: ونزل وفية الحق، كقوله خرج بثيابه، أي وعليه ثيابه. وقيل الباء في" وَبِالْحَقِّ" الأول بمعنى مع، أي مع الحق، كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه." وَبِالْحَقِّ نَزَلَ" أي بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي نزل عليه، كما تقول نزلت بزيد. وقيل: يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل، وكذلك نزل.

[سورة الإسراء (17): آية 106]
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106)
قوله تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) مذهب سيبويه أن" قُرْآناً" منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرا جمهور الناس" فَرَقْناهُ" بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل، قاله الحسن. وقال ابن عباس: فصلناه. وقرا ابن عباس وعلى وابن مسعود وأبى بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي" فرقناه" بالتشديد، أي أنزلناه شيئا بعد شي لا جملة واحدة، إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبى" فرقناه عليك". واختلف في كم نزل القرآن من المدة، فقيل: في خمس وعشرين سنة. ابن عباس: في ثلاث وعشرين. أنس: في عشرين. وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة. وقد مضى هذا في" البقرة «1»". (عَلى مُكْثٍ) أي تطاول في المدة شيئا بعد شي. ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية وسورة سورة. وأما على القول الأول فيكون" عَلى مُكْثٍ" أي على ترسل في التلاوة وترتيل، قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج. فيعطى القارئ القراءة حقها
__________
(1). راجع ج 2 ص 297.

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)

ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد «1» إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول «2» الكتاب. وأجمع القراء على ضم الميم من" مُكْثٍ" إلا ابن محيصن فإنه قرأ" مكث" بفتح الميم. ويقال: مكث ومكت ومكث، ثلاث لغات. قال مالك:" عَلى مُكْثٍ" على تثبت وترسل «3». قوله تعالى: (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم «4»، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.

[سورة الإسراء (17): آية 107]
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107)
قوله تعالى: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) يعنى القرآن. وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير. (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم مؤمنو أهل الكتاب، في قول ابن جريج وغيره. قال ابن جريج: معنى (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) كتابهم. وقيل القرآن. (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) قيل: هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل. وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين. وقال الحسن: الذين أوتوا العلم أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مجاهد: إنهم ناس من اليهود، وهو أظهر لقوله" مِنْ قَبْلِهِ"." إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ" يعنى القرآن في قول مجاهد. كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا:" سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا". وقيل: كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا: هذا هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام، فنزلت الآية فيهم. وقالت فرقة: المراد بالذين أوتوا العلم من قبله
__________
(1). في الأصول:" المؤدى".
(2). راجع ج 1 ص 27.
(3). في ج: ترتيل.
(4). أي نزل آية وسورة سورة.

وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)

محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والضمير في" قَبْلِهِ" عائد على القرآن حسب الضمير في قوله" قُلْ آمِنُوا بِهِ". وقيل: الضميران لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستأنف ذكر القرآن في قوله:" إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ".

[سورة الإسراء (17): آية 108]
وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108)
دليل على جواز التسبيح في السجود. وفى صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول في سجوده وركوعه" سبحانك اللهم [ربنا «1»] وبحمدك اللهم اغفر لي".

[سورة الإسراء (17): آية 109]
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجرى إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل. وفى مسند الدارمي أبى محمد عن التيمي قال: من أوتى من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتى علما، لان الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية. ذكره الطبري أيضا. والأذقان جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين. وقال الحسن: الأذقان عبارة عن اللحى. أي يضعونها على الأرض في حال السجود، وهو غاية التواضع. واللام بمعنى على، تقول: سقط لفيه أي على فيه. وقال ابن عباس:" يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً" أي للوجوه. وإنما خص الأذقان بالذكر لان الذقن أقرب شي فمن وجه الإنسان. قال ابن خويز منداد: ولا يجوز السجود على الذقن. لان الذقن هاهنا عبارة عن الوجه، وقد يعبر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه. فيقال: خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولا عينه. ألا ترى إلى قوله: خر صريعا على وجهه ويديه.
__________
(1). من ج وى. [.....]

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)

الثانية- قوله تعالى: (يَبْكُونَ) دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها. ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وفى كتاب أبى داود: وفى صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. الثالثة- واختلف الفقهاء في الأنين، فقال مالك: الأنين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح، وبه قال الثوري. وروى ابن الحكم عن مالك: التنحنح والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة. وقال ابن القاسم: يقطع. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع. وروى عن أبى يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة، لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين. الرابعة- قوله تعالى: (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) تقدم القول في الخشوع في" البقرة «1» ويأتي.

[سورة الإسراء (17): آية 110]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)
قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوا" يا الله يا رحمان" فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين، قاله ابن عباس. وقال مكحول: تهجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة فقال في دعائه:" يا رحمان يا رحيم" فسمعه رجل
__________
(1). راجع ج 1 ص 374، وج 12 ص 103.

من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة. فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك. وقيل: كانوا يكتبون في صدر الكتب: باسمك اللهم، فنزلت" إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «1»" فكتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بسم الله الرحمن الرحيم" فقال المشركون: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن، فنزلت الآية. وقيل: إن اليهود قالت: ما لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير، يعنون الرحمن، فنزلت الآية. وقرا طلحة بن مصرف" أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى " أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وأشرف المعاني. وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع، لإطلاقها والنص عليها. وإنضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة، وهى بتوقيف لا يصح وضع اسم لله ينظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الإجماع. حسبما بيناه في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى). قوله تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) فيه مسألتان: الاولى- اختلفوا في سبب نزولها على خمسة أقوال: الأول- ما روى ابن عباس في قوله تعالى:" وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها" قال: نزلت ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوار بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى" وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" فيسمع المشركون قراءتك." وَلا تُخافِتْ بِها" عن أصحابك. أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) قال: يقول بين الجهر والمخافتة، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. واللفظ لمسلم. والمخافتة: خفض الصوت والسكون، يقال للميت إذا برد: خفت. قال الشاعر:
لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت
رثى لها الشامت مما بها ... يا ويح من يرثى له الشامت
__________
(1). راجع ج 13 ص 191 فما بعد.

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

الثاني- ما رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل:" وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها" قالت: أنزل هذا في الدعاء. الثالث- قال ابن سيرين: كان الاعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك. قلت: وعلى هذا فتكون الآية متضمنة لإخفاء التشهد، وقد قال ابن مسعود: من السنة أن تخفى التشهد، ذكره ابن المنذر. الرابع- ما روى عن ابن سيرين أيضا أن أبا بكر رضى الله عنه كان يسر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك، فقال أبو بكر: إنما أناجي ربى، وهو يعلم حاجتي إليه. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية قيل لابي بكر: ارفع قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا، ذكره الطبري وغيره. الخامس- ما روى عن ابن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل، ذكره يحيى بن سلام والزهراوى. فتضمنت أحكام الجهر والاسرار بالقراءة في النوافل والفرائض، فأما النوافل فالمصلي مخير في الجهر والسر في الليل والنهار، وكذلك روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يفعل الأمرين جميعا. وأما الفرائض فحكمها في القراءة معلوم ليلا ونهارا وقول سادس- قال الحسن: يقول الله لا ترائى بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر. وقال ابن عباس: لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس. الثانية- عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله:" وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً" لان كل واحد منهما مرتبط بالآخر، لان الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها، فعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير، ومنه الحديث الصحيح:" قسمت الصلاة بيني وبين عبدى" أي قراءة الفاتحة على ما تقدم.

[سورة الإسراء (17): آية 111]
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: عزيز وعيسى والملائكة ذرية «1» الله سبحانه، تعالى الله عن أقوالهم! (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) لأنه واحد لا شريك له في ملكه ولا في عبادته. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) قال مجاهد: المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد، أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا. وقال الكلبي: لم يكن له ولى من اليهود والنصارى، لأنهم أذل الناس، ردا لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال الحسن بن الفضل:" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ" يعنى لم يذل فيحتاج إلى ولى ولا ناصر لعزته وكبريائه. (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي عظمه عظمة تامة. ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر، أي صفة بأنه أكبر من كل شي. قال الشاعر:
رأيت الله أكبر كل شي ... محاولة وأكثرهم جنودا
وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل في الصلاة قال:" الله أكبر" وقد تقدم أول «2» الكتاب. وقال عمر بن الخطاب. قول، العبد الله أكبر خير من الدنيا وما فيها. وهذا الآية هي خاتمة التوراة. روى مطرف عن عبد الله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الانعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وفى الخبر أنها آية العز، رواه معاذ بن جبل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علمه" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي" الآية. وقال عبد الحميد. بن واصل: سمعت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" من قرأ" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ" الآية كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبل لان الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا". وجاء في الخبر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر رجل شكا إليه الدين بأن يقرأ" قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ"- إلى آخر السورة ثم يقول- توكلت على الحي الذي لا يموت، ثلاث مرات. تمت سورة الاسراء. والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبى بعده.
__________
(1). في ج: تنزيه الله.
(2). راجع ج 1 ص 175.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)

تفسير سورة الكهف
وهى مكية في قول جميع المفسرين. روى عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله:" جُرُزاً"، والأول أصح. وروى في فضلها من حديث أنس أنه قال: من قرأ بها أعطى نورا بين السماء والأرض ووقى بها فتنة القبر. وقال إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملا عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك". قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال:" سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطى نورا يبلغ السماء ووقى فتنة الدجال" ذكره الثعلبي، والمهدوي أيضا بمعناه. وفى مسند الدارمي عن أبى سعيد الخدري قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفى صحيح مسلم عن أبى الدرداء أن نبى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال". وفى رواية" من آخر الكهف". وفى مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان" فمن أدركه- يعنى الدجال- فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف". وذكره الثعلبي. قال: سمرة بن جندب قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال". ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكهف (18): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3)
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما:

سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجب. سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبى، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش،! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبى، وإن لم يفعل «1» فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أخبركم بما سألتم عنه غدا" ولم يستثن «2». فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف «3» أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكث الوحى عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجبريل:" لقد احتبست عنى
__________
(1). في ج: يخبركم.
(2). أي لم يقل- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن شاء الله.
(3). أرجف القوم: خاضوا في الاخبار السيئة وذكر الفتن وفى ج: أوجف وهو الاضطراب، ولعله وهو من الناسخ.

يا جبريل حتى سؤت ظنا" فقال له جبريل:" وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا «1»". فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنكروا عليه من ذلك فقال:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ" يعنى محمدا، إنك رسول منى، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك." وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً" أي معتدلا لا اختلاف فيه." لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ" أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا." وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً" أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال." وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً" يعنى قريشا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهى بنات الله." ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ" الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم." كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ" أي لقولهم إن الملائكة بنات الله." إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. فال ابن هشام:" باخِعٌ نَفْسَكَ" مهلك نفسك، فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرمة:
ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه ... بشيء نحته عن يديه المقادر
وجمعها باخعون وبخعه. وهذا البيت في قصيدة «2» له. وقول العرب: قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له." إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" قال ابن إسحاق: أي أيهم اتبع لامرى وأعمل بطاعتي:" وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً" أي الأرض، وإن ما عليها لفان وزائل، وإن المرجع إلى فأجزى كلا بعمله، فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصعيد وجه الأرض، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا:
__________
(1). راجع ج 11 ص 128.
(2). مطلعها:
لمية أطلال بحزوى دوائر ... عفتها السواقي بعدنا والمواطر

كأنه بالضحى ترمى الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم «1»
وهذا البيت في قصيدة له «2». والصعيد أيضا: الطريق، وقد جاء في الحديث:" إياكم والقعود على الصعدات" يريد الطرق. والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئا، وجمعها أجراز. ويقال: سنة جرز وسنون أجراز، وهى التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبه ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا:
طوى النحز والاجراز ما في بطونها ... فما بقيت إلا الضلوع الجراشع «3»
قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال:" أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً" أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم، وجمعه رقم. قال العجاج:
ومستقر المصحف المرقم

وهذا البيت في أرجوزة له «4». قال ابن إسحاق: ثم قال" إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً". ثم قال:" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ" أي بصدق الخبر" إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً" أي لم يشركوا بى كما أشركتم بى ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى [بنى «5»] قيس بن ثعلبة:
أتنتهون ولا ينهى ذوى شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
__________
(1). يعنى بالدبابة: الخمر. والخرطوم: الخمر وصفوتها.
(2). مطلعها:
أعن ترسمت من خرقاء منزله ... ماء الصبابة عن عينيك مسجوم

(3). المحز: الضرب والدفع. والجراشع: الغلاظ، الواحد شرجع.
(4). مطلعها:
يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي ... بسمسم أو عن يمين سمسم

(5). من ج. [.....]

وهذا البيت في قصيدة له «1». قال ابن إسحاق:" هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ". قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة." فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ". قال ابن هشام: تزاور تميل، وهو من الزور. وقال أبو الزحف الكليبي «2» يصف بلدا:
«3»
جدب المندى عن هوانا أزور ... ينضي المطايا خمسه العشنزر
وهذان «4» البيتان في أرجوزة له. و" تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ" تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة:
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس «5»
وهذا البيت في قصيدة «6» له. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر:
ألبست قومك مخزاة ومنقصة ... حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
" ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ" أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم." مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ"
__________
(1). مطلعها:
ودع هريرة أن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل

(2). في اللسان مادة" سمهدر" أنه أبو الزحف الكليني. واستدرك عليه مصحح اللسان بقوله:" قوله الكليني نسبه لكلين كأمير بلدة بالري". ومما يقوى أنه الكليبي (بالياء) ما ذكره ابن قتيبية في كتابه الشعر والشعراء أنه أبو الزحف بن عطاء بن الخطفى بن عم جرير من بنى كليب.
(3). قبله:
ودون ليلى بلد سمهدر

وبلد سمهدر: بعيد مضلة واسع. والمندى: حيث يرتع ساعة من النهار. والأزور: الطريق المعوج. وأنضى البعير: هزله بكثرة السير. والخمس (بكسر السين) من إظماء الإبل، أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع. والعشنزر: الشديد.
(4). يعنى بالبيتين هنا شطري الرجز.
(5). القوز (بالفتح): العالي من الرمل كأنه جبل. والفوارس: رمال بالدهناء.
(6). مطلعها:
ألم تسأل اليوم الرسوم الدوارس ... بحزوى وهل تدرى القفار البسابس

" الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ" قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب «1»:
بأرض فلاة لا يسد وصيلاها ... على ومعروفي بها غير منكر
وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد ووصدان. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً- إلى قوله- الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أهل السلطان والملك منهم." لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً. سَيَقُولُونَ" يعنى أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم." ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ" أي لا تكابرهم." إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً" فإنهم لا علم لهم بهم." وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً" أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إنى مخبركم غدا، واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربى لخبر ما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدرى ما أنا صانع في ذلك." وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً" أي سيقولون ذلك." قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً" أي لم يخف عليه شي ما سألوك عنه. قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه «2». ويأتي خبر ذى القرنين، ثم نعود إلى أول السورة فنقول: قد تقدم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. و" قَيِّماً" نصب على الحال. وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما. وقول الضحاك فيه حسن، وأن
__________
(1). في سيرة ابن هشام:" عبيد بن وهب".
(2). راجع سيرة ابن هشام ص 192 طبع أوروبا وج 1 ص 321 طبع مطبعة الحلي.

المعنى: مستقيم «1»، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض. وقيل:" قَيِّماً" على الكتب السابقة يصدقها. وقيل:" قَيِّماً" بالحجج أبدا." عِوَجاً" مفعول به، والعوج (بكسر العين) في الدين والرأى والامر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار، وقد تقدم»
. وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضا مختلفا، كما قال تعالى:" وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «3»" وقيل: أي لم يجعله مخلوقا، كما روى عن ابن عباس في قوله تعالى" قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ" «4» قال: غير مخلوق. وقال مقاتل:" عِوَجاً" اختلافا و. قال الشاعر:
أدوم بودي للصديق تكرما ... ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً أي لينذر محمد أو القرآن. وفية إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده وقرا أبو بكر عن عاصم" من لدنه" بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء. والباقون" لَدُنْهُ" بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري: وفى" لدن" ثلاث لغات: لدن، ولدي، ولد. وقال:
من لد لحييه إلى منحورة

المنحور لغة المنحر. قوله تعالى: (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ) أي بأن لهم. (أَجْراً حَسَناً) وهى الجنة. (ماكِثِينَ) دائمين. (فِيهِ أَبَداً) لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في" بأن". والأجر الحسن: الثواب العظيم الذي يؤدى إلى الجنة.
__________
(1). أي معنى قوله" قَيِّماً".
(2). راجع ج 4 ص 154.
(3). راجع ج 5 ص 288.
(4). راجع ج 15 ص 5 (252) هذا عجز بيت لغيلان بن حريث. وصيره كما في اللسان:
يستوعب البوعين من جريرة

والمنحور (بالحاء المهملة وضم الميم) لغة في النحر، وهو الصدر. وقد وردت هذه الكلمة في الأصول وصحاح الجوهري واللسان مادة" نخر"، ولدن" بالخاء المعجمة، وهو الأنف. وقد استدرك عليه ابن برى فقال: وصواب إنشاده كما أنشده سيبويه" إلى منحورة" بالحاء. وصف الشاعر بعيرا أو فرسا بطول العنق، فجعله يستوعب من حبله الذي يوثق به مقدار بأعين فيما بين لحييه ونحره: الباع. والجرير: الحبل.

وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)

[سورة الكهف (18): الآيات 4 الى 5]
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)
قوله تعالى: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) هم اليهود، قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله. فالانذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد. (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)" مِنْ" صلة، أي ما لهم بذلك القول علم، لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل. (وَلا لِآبائِهِمْ) أي أسلافهم. (كَبُرَتْ كَلِمَةً)" كَلِمَةً" نصب على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة. وقرا الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبى إسحاق" كَلِمَةً" بالرفع، أي عظمت كلمة، يعنى قولهم اتخذ الله ولدا. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال: كبر الشيء إذا عظم. وكبر الرجل إذا أسن. (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) في موضع الصفة. (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقولون إلا كذبا.

[سورة الكهف (18): آية 6]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)
قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ)" باخِعٌ" أي مهلك وقاتل، وقد تقدم." آثارِهِمْ" جمع أثر، ويقال إثر. والمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك. (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي القرآن. (أَسَفاً) أي حزنا وغضبا على كفرهم، وانتصب على التفسير.

[سورة الكهف (18): آية 7]
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)
قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) فيه مسألتان:

الاولى- قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها)" ما" و" زِينَةً" مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض، فهو عموم لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال، قال مجاهد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء. وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قول تعالى:" إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها" قال: العلماء زينة الأرض. وقالت فرقة: أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية، أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم. الثانية- معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر «1» كيف تعملون". وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا" قال: وما زهرة الدنيا؟ قال:" بركات الأرض" خرجهما مسلم وغير من حديث أبى سعيد الخدري. والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا. أي من أزهد فيها وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى بغضة ما زينة الله إلا [أن ] يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إنى أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام:" فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بأشراف «2» نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع". وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها، وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله، فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وأقنعه
__________
(1). الحديث كما في كشف الخفا:" الدنيا خضرة ... فناظر كيف ..." رواه مسلم.
(2). أي يتطلع إليه وطمع فيه. [.....]

وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

الله بما آتاه. وقال ابن عطية: كان أبى رضى الله عنه يقول في قوله" أَحْسَنُ عَمَلًا": أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الايمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه. قلت: هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبد الله الثقفي لما قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك- في رواية: غيرك. قال:" قل آمنت بالله ثم استقم" خرجه مسلم. وقال سفيان الثوري:" أَحْسَنُ عَمَلًا" أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني:" أَحْسَنُ عَمَلًا" أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد، فقال قوم: قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء، قاله سفيان الثوري. قال علماؤنا: وصدق رضى الله عنه لان من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات، واخذ من الدنيا ما تيسر، واجتزأ منها بما يبلغ. وقال قوم: بغض المحمدة وحب الثناء. وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه. وقال قوم: ترك الدنيا كلها هو الزهد، أحب تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال: حب الدنيا حب لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضا: علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس. وقال قوم: لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها، قال إبراهيم بن أدهم. وقال قوم: الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك، قاله ابن المبارك. وقالت فرقة: الزهد حب الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى.

[سورة الكهف (18): آية 8]
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
تقدم «1» بيانه. وقال أبو سهل: ترابا لا نبات به، كأنه قطع نباته. والجرز: القطع، ومنه سنة جرز «2». قال الراجز:
قد جرفتهن السنون الاجراز
__________
(1). ص 348 من هذا الجزء.
(2). في ج: وسيف جراز. وفى اللسان: سيف جراز بالضم قاطع.

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)

والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شي من عمارة وغيرها، كأنه قطع وأزيل. يعنى يوم القيامة، فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها. النحاس والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها. قال الكسائي: يقال جرزت الأرض تجرز، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيا من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز «1».

[سورة الكهف (18): آية 9]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)
مذهب سيبويه أن" أَمْ" إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام، وهى المنقطعة. وقيل:" أَمْ" عطف على معنى الاستفهام في" فَلَعَلَّكَ"، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار. قال الطبري: وهو تقرير للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا، بمعنى إنكار ذلك عليه، أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع، هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا، وعن ذى القرنين وعن الروح، وأبطأ الوحى على ما تقدم. فلما نزل قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، أي ليسوا بعجب من آياتنا، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. الكلبي: خلق السموات والأرض أعجب من خبرهم. الضحاك: ما أطلعتك عله من الغيب أعجب. الجنيد: شأنك في الاسراء أعجب. الماوردي: معنى الكلام النفي، أي ما حسبت لولا أخبارنا. أبو سهل: استفهام تقرير، أي أحسبت ذلك فإنهم عجب. والكهف: النقب المتسع في الجبل، وما لم يتسع فهو غار. وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال: الكهف الجبل، وهذا غير شهير في اللغة. واختلف الناس في الرقيم، فقال ابن عباس: كل شي في القرآن أعلمه إلا أربعة: غسلين وحنان والأواه والرقيم. وسيل مرة عن الرقيم فقال: زعم كعب أنها قرية خرجوا
__________
(1). في الكلمة أربع لغات: جرز، جرز، جرز، جرز.

منها. وقال مجاهد: الرقيم واد. وقال السدى: الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف. وقال ابن زيد: الرقيم كتاب غم الله علينا أمره، ولم يشرح لنا قصته. وقالت فرقة: الرقيم كتاب في لوح من نحاس. وقال ابن عباس: في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذي فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم، ذكروا وقت فقدهم، وكم كانوا، وبين «1» من كانوا. وكذا قال القراء، قال: الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا. فال ابن عطية: ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث، وذلك من نبل المملكة، وهو أمر مفيد. وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم، ومنه" كِتابٌ مَرْقُومٌ «2»". ومنه الأرقم لتخطيطه. ومنه رقمه الوادي، أي مكان جرى الماء وانعطافه. وما روى عن ابن عباس ليس بمتناقض، لان القول الأول إنما سمعه من كعب. والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده. وروى عنه سعيد بن جبير قال: ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال: إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال: ليكونن لهم نبأ، وأحضر لوحا من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته، فذلك اللوح هو الرقيم. وقيل: إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان، فالله اعلم. وعن ابن عباس أيضا: الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام. وقال النقاش عن قتادة: الرقيم دراهمهم. وقال أنس بن مالك والشعبي: الرقيم كلبهم. وقال عكرمة: الرقيم الدواة. وقيل: الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر. وقيل: الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم، فذكر كل واحد منهم أصلح عمله. قلت: وفى هذا خير معروف أخرجه الصحيحان، «3» وإليه نحا البخاري. وقال قوم: أخبر الله عن أصحاب الكهف، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء. وقال الضحاك: الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف، فعلى هذا هم
__________
(1). في ج: وبنى من كانوا.
(2). راجع ج 19 ص 254.
(3). راجع صحيح مسلم ج 8 ص 89 طبع الاستانة. وشرح القسطلاني على صحيح البخاري ج 4 ص 217، ج 5 ص 509 وج 9 ص 5 طبع بولاق.

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)

فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف. والله اعلم. وقيل: الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف، مأخوذ من رقمه الوادي وهى موضع الماء، يقال: عليك بالرقمة ودع الصفة، ذكره الغزنوي،. قال ابن عطية: وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير [كهف ] فيه موتى، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة «1». ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورائهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها. قلت: ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم، لان الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف:" لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً". وقد قال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم: قد منع الله من هو خير منك عن ذلك، وسيأتي في آخر القصة. وقال مجاهد في قول" كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً" قال: هم عجب. كذا روى ابن جريج عنه، يذهب إلى أنه بإنكار على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون عنده أنهم عجب. وروى ابن نجيح عنه قال: يقول ليس بأعجب آياتنا.

[سورة الكهف (18): آية 10]
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) روى أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، [يقال فيه: دقلوس «2» [. ويقال فيه: دقنيوس: وروى أنهم كانوا
__________
(1). الاثارة: البقية.
(2). من ج.

مطوقين مسورين بالذهب ذوى «1» ذوائب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى. وقيل: كانوا قبل عيسى، والله اعلم. وقال ابن عباس: إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس. وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام، وكان بها سبعة أحداث يعبدون سرا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا، ومروا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا، فقال الملك: سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا. وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين- حسبما ذكر النقاش أو من مؤمنى الأمم قبلهم- فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله، فرفع أمرهم إلى الملك وقيل لي: إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى «2» مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل، فقالوا له فيما روى:" رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ-" إلى قوله-" وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ". وروى أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم بل استأنى فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمرى، وضرب لهم في ذلك أجلا، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إنى أعرف كهفا في جبل كذا، وكان أبى يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا، فخرجوا فيما روى يلعبون بالصولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم. وروى أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك. وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حوارى لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة. عظيمة،
__________
(1). في ج هامش: حتى رؤسهم.
(2). في ج: في مجلسه.

فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من [أهل ] «1» المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه. واشتهرت خلطتهم به، فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة «2» بها، فنهاه ذلك الحوارى فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي، فدخل فماتا فيه جميعا، فاتهم ذلك الحوارى وأصحابه بقتلهما، ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف. وقيل في خروجهم غير هذا. وأما الكلب فروى أنه كان كلب صيد لهم، وروى أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم، قال ابن عباس. واسم الكلب حمران وقيل قطمير. وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واه. والذي ذكره الطبري هي هذه: مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومحسيميلنينا ويمليخا، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا، وكان أسنهم وصاحب غنم. الثانية- هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فارا بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما تقدم «3» في سورة" النحل". وقد نص الله تعالى على ذلك في" براءة" وقد تقدم «4». وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. فسكنى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء. وقد فضل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العزلة، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال:" فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ".
__________
(1). من ج:
(2). في ج: الدخول بها.
(3). في ج: ما قدمناه. راجع ص 159 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 8 ص 143 وما بعدها. [.....]

وقال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب، ومرة في السواحل والرباط، ومرة في البيوت، وقد جاء في الخبر:" إذا كانت الفتنة فاخف مكانك وكف لسانك". ولم يخص موضعا من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر واهلة بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبار ك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت. وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم". وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" نعم صوامع المؤمنين بيوتهم" من مراسل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما النجاة يا رسول الله؟ فقال:" يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وآبك على خطيئتك". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن". خرجه البخاري. وذكر على بن سعد عن الحسن بن واقد قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لامتي العزبة والعزلة والترهب في رءوس الجبال". وذكر أيضا على بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر «1» إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة". قالوا: يا رسول الله، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال:" إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران". قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال:" يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها".
__________
(1). الحجر: الموضع. وكل ما حجرته من حائط فهو جحر.

قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهى أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بداية أمره، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية، فقال:" وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ «1»". ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل، وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذا هم، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعا، أعمى بصيرا، سكوتا نطوقا. وقد قيل: إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب، مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل للرباط والذكر، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم- والله اعلم- لان ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها، فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه، كما ذكرنا، والله الموفق وبه العصمة. وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" يعجب «2» ربك من راعى غنم في رأس شظية «3» الجبل يؤذن بالصلاة ويصلى فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدى يؤذن ويقيم الصلاة يخاف منى قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة". خرجه النسائي. الثالثة- قوله تعالى: (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله تعالى فقالوا:" رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً" أي مغفر ورزقا. (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) توفيقا للرشاد. وقال ابن عباس: مخرجا من الغار في سلامة. وقيل صوابا. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه «4» أمر فزع إلى الصلاة.
__________
(1). راجع ص 367 من هذا الجزء.
(2). يعجب: كيسمع، أي يرضى منه ويثيبه.
(3). الشظية (بفتح الشين وكسر الظاء): قطعة مرتفعة في رأس الجبل
(4). أي إذا نزل به مهم أو أصابة غم. وفى الأصول:" إذا أحزنه" والتصويب عن كتب الحديث.

فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)

[سورة الكهف (18): آية 11]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11)
عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم. وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله. قال الزجاج: أي منعناهم عن أن يسمعوا، لان النائم إذا سمع انتبه. وقال ابن عباس: ضربنا على آذانهم بالنوم، أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها. وقيل: المعنى" فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ" أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم، وأنمناهم. والمعنى كله متقارب. وقال قطرب: هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف. قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا:
ومن الحوادث لا أبا لك أننى ... ضربت على الأرض بالاسداد «1»
وأما تخصيص الأذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع. ومن ذكر الاذن في النوم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) خرجه الصحيح. أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم، لا يقوم الليل. و" عَدَداً" نعت للسنين، أي معدودة، والقصد به العبارة عن التكثير، لان القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف. والعد المصدر، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط. وقال أبو عبيدة:" عَدَداً" نصب على المصدر. ثم قال قوم: بين الله تعالى عدد تلك السنين من بعد فقال:" وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً".

[سورة الكهف (18): آية 12]
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)
قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي من بعد نومهم. ويقال لمن أحيى أو أقيم من نومه: مبعوث، لأنه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف.
__________
(1). واحد الأسداد: سد، وهو ذهاب البصر، يقول: سدت على الطريق، أي عميت على مذاهبي.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)

قوله تعالى: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى )" لِنَعْلَمَ" عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته، وهذا على نحو كلام العرب، أي نعلم ذلك موجودا، إلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين أحصى الأمد. وقرا الزهري" ليعلم" بالياء. والحزبان الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا. والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية. وهذا قول الجمهور من المفسرين. وقالت فرقة: هما حزبان من الكافرين، اختلفا في مدة أصحاب الكهف. وقيل: هما حزبان من المؤمنين. وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية. و" أَحْصى " فعل ماض. و" أَمَداً" نصب على المفعول به، قاله أبو على. وقال الفراء: نصب على التمييز. وقال الزجاج: نصب على الظرف، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد، والأمد الغاية. وقال مجاهد:" أَمَداً" نصب معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب. وقال الطبري:" أَمَداً" منصوب ب" لَبِثُوا". ابن عطية: وهذا غير متجه، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، و" أَحْصى " فعل رباعي. وقد يحتج له بأن يقال: إن أفعل في الرباعي قد كثر، كقولك: ما أعطاه للمال وآتاه للخير. وقال في صفة حوضه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ماؤه أبيض من اللبن". وقال عمر بن الخطاب: فهو لما سواها أضيع.

[سورة الكهف (18): آية 13]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) لما اقتضى قوله تعالى" لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى " اختلافا وقع في أمد الفتية، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع. وقوله تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة، كذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الايمان. وقال الجنيد: الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى. وقيل: الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم. وقيل غير هذا. وهذا القول حسن جدا، لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة.

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)

قوله تعالى: (وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي يسرناهم للعمل الصالح، من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا. وهذه زيادة على الايمان. وقال السدى: زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم، فرفع الكلب بدية إلى السماء كالداعي فأنطقه الله، فقال: يا قوم! لم تطردونني، لم ترجمونني! لم تضربونني! فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة، فزادهم الله بذلك هدى.

[سورة الكهف (18): آية 14]
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)
قوله تعالى: (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) عبارة عن شدة عزم وقوه صبر، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار:" رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً". ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوه التصميم أن يشبه الربط، ومنه يقال: فلان رابط الجأش، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها. ومنه الربط على قلب أم موسى. وقوله تعالى:" وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ" وقد تقدم «1». قوله تعالى: (إِذْ قامُوا فَقالُوا) فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (إِذْ قامُوا فَقالُوا) يحتمل ثلاثة معان: أحدها- أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر- كما تقدم، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا في ذات الله هيبته. والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد، فقال أسنهم: إنى أجد في نفسي أن ربى رب السموات والأرض، فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا. فقاموا جميعا فقالوا:" رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً".
__________
(1). راجع ج 7 ص 371.

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)

أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا. والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام، عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد. الثانية- قال ابن عطية: تعلقت الصوفية في القيام والقول بقول" إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ". قلت: وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم، وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء. أين هذا من ضرب الأرض بالاقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان، هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء. ثم هذا حرام عند جماعة العلماء، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى «1». وقد تقدم في" سبحان" عند قوله:" وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً «2»" ما فيه كفاية. وقال الامام أبو بكر الطرسوسي وسيل عن مذهب الصوفية فقال: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، على ما يأتي.

[سورة الكهف (18): آية 15]
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)
قوله تعالى: (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي قال بعضهم لبعض: هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة. (لَوْ لا) أي هلا. (يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي بحجة على عبادتهم الصنم. وقيل:" عَلَيْهِمْ" راجع إلى الآلهة، أي هلا أقاموا بينة على الأصنام في كونها آلهة، فقولهم" لَوْ لا" تحضيض بمعنى التعجيز، وإذا لم يمكنهم ذلك لع يجب أن يلتفت إلى دعواهم.
__________
(1). راجع ج 14 ص 69 فما بعد.
(2). راجع ص 260 من هذا الجزء.

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)

[سورة الكهف (18): آية 16]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
قوله تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) قيل: هو من قول الله لهم. أي وإذ اعتزلتموهم فاءوا إلى الكهف. وقيل: هو من قول رئيسهم يمليخا، فيما ذكر ابن عطية. وقال الغزنوي: رئيسهم مكسلمينا، قال لهم ذلك، أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون. ثم استثنى وقال (إِلَّا اللَّهَ) أي إنكم لم تتركوا عبادته، فهو استثناء منقطع. قال ابن عطية: وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله، ولا علم لهم به، وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط. وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل، لان الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله. وفى مصحف عبد الله بن مسعود" وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ". قال قتادة هذا تفسيرها. قلت: ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله تعالى:" وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" قال: كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله. ابن عطية: فعلى ما قال قتادة تكون" إِلَّا" بمنزلة غير، و" ما" من قوله" وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" قي موضع نصب، عطفا على الضمير في قول" اعْتَزَلْتُمُوهُمْ". ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض: إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله، فإنه سيبسط لنا رحمته، وينشرها علينا، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا. وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم. وقال أبو جعفر محمد بن على بن الحسين رضى الله عنه: كان أصحاب الكهف صياقلة «1»، واسم الكهف حيوم. (مِرفَقاً) قرئ بكسر الميم وفتحها، وهو ما يرتفق به وكذلك مرفق الإنسان ومرفقه، ومنهم من يجعل" المرفق" بفتح الميم [وكسر الفاء من الامر، والمرفق من الإنسان، وقد قيل: المرفق بفتح الميم «2»] الموضع كالمسجد وهما لغتان.
__________
(1). صياقلة: شحاذ السيوف.
(2). من ج ...

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)

[سورة الكهف (18): الآيات 17 الى 18]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
قوله تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم. والمعنى: إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا، لا أن المخاطب رآهم على التحقيق." تَتَزاوَرُ" تتنحى وتميل، من الازورار. والزور الميل. والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين، كما قال ابن أبى ربيعة:
وجنبي خيفة القوم أزور «1»

ومن اللفظة قول عنترة:
ازور من وقع القنا بلبانه «2»

وفى حديث غزوة موتة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة. وقرا أهل الحرمين وأبو عمرو" تزاور" بإدغام التاء في الزاي، والأصل" تتزاور". وقرا عاصم وحمزة والكسائي" تَتَزاوَرُ" مخففة الزاي.
__________
(1). والبيت بتمامه كما في ديوانه:
وخفض عنى الصوت أقبلت مشية ال ... حباب وشخصي خشية الحي أزور
والحباب (بالضم): الحية. وقيل هذا بيت:
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبت بالعشاء وأنور
وغاب قمير كنت أهوى غيوبه ... وروّح رعيان ونوّم سمر

(2). وتمامه:
وشكا إلى بعبرة وتحمم

واللبان (بالفتح): الصدر. والتحمحم: صوت مقطع ليس بالصهيل.

وقرأ ابن عامر" تزور" مثل تحمر. وحكى الفراء" تزوار" مثل تحمار، كلها بمعنى واحد. (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم، قاله مجاهد. وقال قتادة: تدعهم. النحاس: وهذا معروف في اللغة، حكى البصريون أنه يقال: قرضه يقرضه إذا تركه، والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة كرامة لهم، وهو قول ابن عباس. يعنى أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال، أي شمال الكهف، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار. وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها، وتغير ألوانهم وتبلى ثيابهم. وقد قيل: إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته. وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقرأت فرقة" يقرضهم" بالياء من القرض وهو القطع، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس. وقيل:" وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ
" أي يصيبهم يسير منها، مأخوذ من قارضة الذهب والفضة، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها. وقالوا: كان في مسها لهم بالعشي إصلاح لأجسادهم. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار. وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر. والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم، والتأذي بحر أو برد. (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي من الكهف والفجوة المتسع، وجمعها فجوات وفجاء، مثل ركوة وركاء وركوات وقال الشاعر:
ونحن ملأنا كل واد وفجوة ... رجالا وخيلا غير ميل «1» ولا عزل
أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء. (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) لطف بهم. وهذا يقوى قول الزجاج. وقال أهل التفسير: كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون، فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا. وقيل: تحسبهم أيقاظا وقيل: (تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه. و(أَيْقاظاً)
__________
(1). ميل: جمع أميل وهو والجبان. وله معالن. [.....]

جمع يقظ ويقظان، وهو المنتبه. (وَهُمْ رُقُودٌ) كقولهم: وهم قوم ركوع وسجود وقعود، فوصف الجمع بالمصدر. (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) قال ابن عباس: لئلا تأكل الأرض لحومهم. قال أبو هريرة: كان لهم في كل عام تقليبتان. وقيل: في كل سنة مرة. وقال مجاهد: في كل سبع سنين مرة. وقالت فرقة: إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا. وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فيضاف إلى الله تعالى. قوله تعالى: (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) فيه أربع مسائل الاولى- قوله تعالى:" وَكَلْبُهُمْ" قال عمرو بن دينار: إن مما أخذ على العقرب ألا تضر «1» أحدا [قال «2»] في ليله أو في نهاره: صلى «3» الله على نوح. وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه [إذا قال «4»]: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ. أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه، على ما قال مقاتل. واختلف في لونه اختلافا كثيرا، ذكره الثعلبي. تحصيله: أي لون ذكرت أصبت، حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء. واختلف أيضا في اسمه، فعن على: ريان. ابن عباس: قطمير. الأوزاعي: مشير «5». عبد الله بن سلام: بسيط. كعب: صهيا. وهب: نقيا. وقيل قطفير «6»، ذكره الثعلبي. وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا. وقال ابن عباس: هربوا ليلا، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم. وقال كعب: مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي، فنطق فقال: لا تخافوا منى أنا أحب أحباء الله تعالى فناموا حتى أحرسكم. الثانية- ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان". وروى الصحيح أيضا عن
__________
(1). في ج: إلا تضرب.
(2). زيادة من كتاب حياة الحيوان.
(3). في حياة الحيوان:" سلام على نوح".
(4). زيادة من كتاب حياة الحيوان.
(5). في ج: تبر.
(6). من ج.

أبى هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انقص من أجره كل يوم قيراط". قال الزهري: وذكر لابن عمر قول أبى هريرة فقال: يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع. فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية. وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة، إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه، أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته، على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهى عن اتخاذ ما لا منفعة فيه، والله اعلم. وقال في إحدى الروايتين" قيراطان" وفى الأخرى" قيراط". وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر، كالأسود الذي أمر عليه السلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر، أخرجه الصحيح. وقال:" عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فإنه شيطان". ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط. وأما المباح اتخاذه فلا ينقص، كالفرس والهرة. والله اعلم. الثالثة- وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع. وقد تقدم في" المائدة «1»" من أحكام الكلاب ما فيه كفاية، والحمد لله. الرابعة- قال ابن عطية: وحدثني أبى رضى الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله. قلت: إذ كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين
__________
(1). راجع ج 6 ص، 65

المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله خير آل. روى الصحيح عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما أعددت لها" قال فكأن الرجل استكان، ثم قال: ويا رسول الله، ما أعددت بها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال:" فأنت مع من أحببت". في رواية قال أنس بن مالك: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فأنت مع من أحببت". قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم. قلت: وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذى نفس، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين، كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الايمان وكلمة الإسلام، وحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،" وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «1»". وقالت فرقة: لم يكن كلبا حقيقة، و. إنما كان أحدهم، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم، «2» ... كما سمى النجم التابع للجوزاء كلبا، لأنه منها كالكلب من الإنسان، ويقال له: كلب الجبار «3» قال ابن عطية: فسمى باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب". وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت
__________
(1). راجع ص 293 من هذا الجزء.
(2). في بعض نسخ الأصل بعد قوله" طليعة لهم":" قال ابن عطية: فسمى باسم الحيوان الملازم لذلك الموضوع" ونراها غير لازمة. والذي في حياة الحيوان للدميري في اسم الكلب:" وقالت فرقة: كأن أحدهم وكان قد فعد عند باب الغار طليعة يهم، فسمى باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس كما سمى النجم التابع للجوزاء كلبا لأنه منها كالكلب من الإنسان، وهذا القول يضعفه ..." إلخ.
(3). الجبار: اسم الجوزاء.

أنه قرئ" وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد". فيحتمل أن يريد بالكالب هذا لرجل على ما روى، إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفى بنفسه. ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب. وقرا جعفر بن محمد الصادق" كالبهم" يعنى صاحب الكلب. قوله تعالى: (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي، لأنها حكاية حال ولم يفصد الاخبار عن فعل الكلب. والذرع من طرف المرفق الطرف الإصبع الوسطى. ثم قيل: بسط ذراعيه لطول المدة. وقيل: نام الكلب، وكان ذلك من الآيات. وقيل: نام مفتوح العين. الوصيد: القناء، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير، أي فناء الكهف، والجمع وصائد ووصد. وقيل الباب. وقال ابن عباس أيضا. وأنشد:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... على ومعروفي بها غير منكر
وقد تقدم. وقال عطاء: عتبة الباب، والباب الموصد هو المغلق. وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته. والوصيد: النبات المتقارب الأصول، فهو مشترك، والله اعلم. قوله تعالى: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) قرأ الجمهور بكسر الواو. والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها. (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم. (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي لما حفهم الله تعالى من الرعب واكتنفهم من الهيبة. وقيل: لوحشة مكانهم، وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش «1» في الظاهر لينقر الناس عنهم. وقيل: كان الناس محجوبين عنهم بالرعب، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم. وقيل: الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم، وذكر المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري. وهذا بعيد، لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض: لبثنا يوما أو بعض يوم. ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها، إلا أن يقال: إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم. قال «2» ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم
__________
(1). مكان وحش: خال.
(2). في ج: قاله ابن عطية.

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)

آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم. وقرا نافع وابن كثير وابن عباس واهل مكة والمدينة" لملئت منهم" بتشديد اللام على تضعيف المبالغة، أي ملئت ثم ملئت. وقرا الباقون" لَمُلِئْتَ" بالتخفيف، والتخفيف أشهر في اللغة. وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي:
وإذ فتك النعمان بالناس محرما ... فملّئ من كعب بن عوف سلاسله
وقرأ الجمهور" رُعْباً" بإسكان العين. وقرا بضمها أبو جعفر. قال أبو حاتم: هما لغتان. و" فِراراً" نصب على الحال و" رُعْباً" مفعول ثان أو تمييز.

[سورة الكهف (18): الآيات 19 الى 20]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
قوله تعالى: (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ) البعث: التحريك عن سكون. والمعنى: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا، أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليهم من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم. قال الشاعر:
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعا بين عاث ونشوان «1»
أي أيقظت واللام في قوله" لِيَتَسائَلُوا" لام الصيرورة وهى لام العاقبة، كقوله" لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً" فبعثهم لم سكن لأجل تساؤلهم.
__________
(1). البيت لامرى القيس. والسحرة (بالضم): السحرة وقيل: أعلى السحر. وقيل: هو من ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر.

قوله تعالى: (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وذلك أنهم دخلوه غدوة وبعثهم الله في آخر النهار، فقال رئيسهم يمليخا أو مكسلمينا: الله اعلم بالمدة. قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) فيه سبع مسائل: الاولى- قال ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الربع «1»، ذكره النحاس. وقرا ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم" بِوَرِقِكُمْ" بكسر الراء. وقرا أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم" بورقكم" بسكون الراء، حذفوا الكسرة لثقلها، وهما لغتان. وقرا الزجاج" بورقكم" بكسر الواو وسكون الراء. ويروى أنهم انتبهوا جياعا، وأن المبعوث هو يمليخا، كان أصغرهم، فيما ذكر الغزنوي. والمدينة: أفسوس ويقال هي طرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس، فلما جاء الإسلام سموها طرسوس. وقال ابن عباس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم. الثانية- قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) قال ابن عباس: أحل ذبيحة، لان أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم: وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم. ابن عباس: كان عامتهم مجوسا. وقيل:" أَزْكى طَعاماً" أي أكثر بركة. قيل: إنهم أمروه أن يشترى ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم، ثم إذا طبخ كفى جماعة، ولهذا قيل: ذلك الطعام الأرز. وقيل:" كان زبيبا. وقيل: تمرا، فالله أعلم. وقيل:" أَزْكى " أطيب. وقيل: أرخص. (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي بقوت. (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي في دخول المدينة وشراء الطعام. (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي لا يخبرن. وقيل: إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه. (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) قال الزجاج: معناه بالحجارة، وهو أخبت القتل. وقيل: يرموكم بالسب والشتم، والأول أصح، لأنه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم. والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله [عقوبة «2»] مخالفة دين الناس، إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها.
__________
(1). الربع (كمضر): الفصيل ينتج في الربيع. [.....]
(2). زيادة يقتضيها السياق.

الثالثة- في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها. وقد وكل على بن أبى طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضى الله عنه، ولا خلاف فيها في الجملة. والوكالة معروفه في الجاهلية والإسلام، ألا ترى إلى عبد الرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة، أي يحفظهم، وأمية مشرك، والتزم عبد الرحمن لامية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه. روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتى بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن، قال: لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو ... وذكر الحديث. قال الأصمعي: صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه، وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال، وكل مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى، من كتاب الافعال. الرابعة- الوكالة عقد نيابة، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه. وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب، منها هذه الآية، وقوله تعالى:" وَالْعامِلِينَ عَلَيْها «1»" وقوله" اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا «2»". وأما من السنة فأحاديث كثيرة، منها حديث عروة البارقي، وقد تقدم في آخر الانعام «3». روى جبر بن عبد الله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت له: إنى أردت الخروج إلى خيبر، فقال: (إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته «4»" خرجه أبو داود. والأحاديث كثيرة في هذه المعنى، وفى إجماع الامة على جوازها كفاية. الخامسة- الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه، فلو وكل الغاصب لم يجز، وكان هو الوكيل، لان كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه. السادسة- في هذه الآية نكتة بديعة، وهى أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بعم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم. وجواز توكيل ذوى العذر متفق
__________
(1). راجع ج 8 ص 177.
(2). راجع ج 9 ص 258.
(3). راجع ج 7 ص 156.
(4). الترقوة: العظم الذي بين ثغره النحر والعاتق.

عليه، فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها. وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز. قال ابن العربي: وكان سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت، إنصافا منهم وإذلالا لهم، وهو الحق، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل. قلت: هذا حسن، فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبى هريرة قال: كان لرجل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال:" أعطوه" فطلبوا له سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال:" أعطوه" فقال: أوفيتني أوفى الله لك. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن خيركم أحسنكم قضاء". لفظ البخاري. فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه، وذلك توكيد منه لهم على ذلك، ولم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مريضا ولا مسافرا. وهذا يرد قول أبى حنيفة وسحنون في قولهما: أنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه، وهذا الحديث خلاف قولهما. السابعة- قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية جواز الشركة لان الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء. وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر، ومثله قوله تعالى:" وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ" حسبما تقدم بيانه في" البقرة «1»". ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغنى ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل من اشترى له أضحية. قال ابن العربي: ليس في الآية دليل على ذلك، لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفردا فلا يكون فيه اشتراك. ولا معول في هذه المسألة
__________
(1). راجع ج 3 ص 62.

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)

إلا على حديثين: أحدهما: أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه. الثاني- حديث أبى عبيدة في جيش الخبط «1». وهذا دون الأول في الظهور، لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه. قلت: ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله تعالى:" وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ" وقوله:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً «2»" على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

[سورة الكهف (18): آية 21]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)
قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم. و" أعثر" تعدية عثر بالهمزة، واصل العثار في القدم. (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يعنى الامة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم. وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا: إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض. وقال بعضهم: تبعث الروح والجسد جميعا، فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدرى كيف يتبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله تعالى في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف، فيقال: إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه «3» لبعد العهد، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه، فلما
__________
(1). سموا جيش الخبط لأنهم خرجوا في سرية إلى أرض جهينة فأصابهم جوع فأكلوا الخبط، فسموا به وهو خبط ورق العضاة من الطلح ونحوه وهو إسقاط ورقه بالخيط.
(2). راجع ج 12 ص 317.
(3). في ج: ورقة.

نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم، وسأل الفتى فأخبره، فسر الملك بذلك وقال: لعل الله قد بعث لكم آية، فلنسر إلى الكهف معه، فركب أهل المدينة إليهم، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليحا: أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الامر وأن الامة أمة إسلام، فروى أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم. وأكثر الروايات على انهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق، على ما يأتي. ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين. فهذا معنى" أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ. لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق" إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ". وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم. فقال الملك: ابنوا عليهم بنيانا، فقال الذين. هم على دين الفتية: اتخذوا عليهم مسجدا. وروى أن طائفة كافرة قالت: نبنى بيعة أو مضيفا «1»، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا. وروى أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين. وروى عن عبد الله «2» بن عمر أن الله تعالى أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم، فذلك دعا [الملك «3»] إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم. وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل، فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود، فدعنا. وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة، فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهى عنه ممنوع لا يجوز، لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. قال الترمذي: وفى الباب عن أبى هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن. وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وام سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن أولئك ذا كان فيهم
__________
(1). في ج ووحاشية الجمل عن القرطبي: مصنعا.
(2). في ج:" عن عبيد بن عمير".
(3). من الجمل عن المصنف.

الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة". لفظ مسلم. قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد. وروى الأئمة عن أبى مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدى إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. فحذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مثل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال:" اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد". وروى الصحيحان عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم «1» بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك «2»:" لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا «3». وروى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى الصحيح عن أبى الهياج الأسدي قال قال لي على بن أبى طالب: ألا أبعثك «4» على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته- في رواية- ولا صورة إلا طمستها. وأخرجه أبو داود والترمذي. قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة»
. وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبر صاحبيه رضى الله عنهما- على ما ذكر مالك في الموطأ- وقبر أبينا آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على ما رواه الدارقطني
__________
(1). قوله:" إذا أغتم" أي تسخن بالخميصة واخذ بنفسه من شدة الحر.
(2). أي في حالة الطرح والكشف. [.....]
(3). أي يحذر أمته أن يصنعوا بقبره مثل صنيع اليهود بقبور أنبيائهم.
(4). قوله" ألا" بتشديد اللام التحضيض. وقيل: بفتحها للتنبيه.
(5). لاطئة: لاصقة بالأرض.

من حديث ابن عباس. وأما ثعلبة البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال، فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها. وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهى أن ينبغي أن يقال: هو حرام. والتسنيم في القبر: ارتفاعه قدر شبر، مأخوذ من سنام البعير. ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح. وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر. وقال أبو حنيفة: لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط. ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة، لما رواه أبو بكر الأثرم قال: حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلمته بصخرة، ذكره أبو عمر. وأما الجائزة- فالدفن في التابوت، وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة. روى أن دانيال صلوات الله عليه كان في تابوت من حجر، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية «1» مخافة أن يعبد، وبقي كذلك إلى زمان موسى صلوات الله عليهم أجمعين، فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام. وفى الصحيح عن سعد ابن أبى وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: اتخذوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا، كما صنع برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اللحد: هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن. وهو أفضل عندنا من الشق، لأنه الذي اختاره الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبه قال أبو حنيفة قال: السنة اللحد. وقال الشافعي: الشق. ويكره الآجر في اللحد. وقال الشافعي: لا بأس به لأنه نوع من الحجر. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه، لان الآجر لأحكام البناء، والقبر وما فيه للبلى، فلا يليق به الأحكام. وعلى هذا يسوى بين الحجر والآجر. وقيل: إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا، فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر. قالوا: ويستحب اللبن والقصب لما روى أنه وضع على قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزمة من قصب. وحكى عن الشيخ الامام
__________
(1). الركية البئر.

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)

أبو بكر محمد بن الفضل الحنفي رحمه الله أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض. وقال: لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به، لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد. قلت: ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن المدينة سبخة «1»، قال شقران: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبر. قال أبو عيسى الترمذي: حديث شقران حديث حسن [صحيح «2»] غريب.

[سورة الكهف (18): آية 22]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)
قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) الضمير في" سَيَقُولُونَ" يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذلك أنهم اختلفوا عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص. وقيل: المراد به النصارى، فإن قوما منهم حضروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة ثامنهم كلبهم. وقيل: هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أصحاب الكهف. والواو في قول" وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ" طريق النحو بين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم، لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا غاية «3» ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام. وقالت فرقة منها ابن خالويه: هي واو الثمانية. وحكى الثعلبي عن أبى بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية، فتدخل الواو في الثمانية. وحكى نحوه القفال، فقال:
__________
(1). أرض سبخة: ذات ملح ونز.
(2). من ج.
(3). في ج: نهاية.==

ج16. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

إن قوما قالوا العدد ينتهى عند العرب إلى سبعة، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو، كقوله" التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ"- ثم قال-" وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ «1»". يدل عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم" حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها «2»" بلا واو، ولما ذكر الجنة قال: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها بالواو. وقال" خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ «3»" ثم قال:" وَأَبْكاراً" فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا. قال القشيري أبو نصر: ومثل هذا الكلام تحكم، ومن أين السبعة نهاية عندهم ثم هو منقوض بقوله تعالى:" هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ «4»" ولم يذكر الاسم الثامن بالواو. وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة: إنما ذكر الواو في قوله" سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ" لينبه على أن هذا العدد هو الحق، وأنه مباين للإعداد الأخر التي قال فيها أهل الكتاب، ولهذا قال تعالى في الجملتين المتقدمتين" رَجْماً بِالْغَيْبِ" ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشيء، فكأنه قال لنبيه هم سبعة وثامنهم كلبهم. والرجم: القول بالظن، يقال لكل ما يخرص: رجم فيه ومرجوم ومرجم، كما قال:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم «5»
قلت: قد ذكر الماوردي والغزنوي: وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق كانوا ثمانية، وجعلا قوله تعالى" وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ" أي صاحب كلبهم. وهذا مما يقوى طريق النحويين في الواو، وأنها كما قالوا. وقال القشري: لم يذكر الواو في قوله: رابعهم سادسهم، ولو كان بالعكس لكان جائزا، فطلب الحكمة والعلة في مثل هذه الواو تكلف بعيد، وهو كقوله في موضع آخر" وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ «6»". وفى موضع آخر:" إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى «7»". قوله تعالى: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه عز وجل. ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل. والمراد به قوم من
__________
(1). راجع ج 8 ص 269.
(2). راجع ج 5 ص 284.
(3). راجع ج 18 ص 193.
(4). راجع ج 18 ص 45.
(5). البين من معلقة زهير.
(6). راجع ص 3 من هذا الجزء.
(7). راجع ج 13 ص ... [.....]

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

أهل الكتاب، في قول عطاء. وكان ابن عباس يقول: أنا من ذلك القليل، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، ثم ذكر السبعة بأسمائهم، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر، فوق القلطي «1» ودون الكردي. وقال محمد بن سعيد بن المسيب: هو كلب صيني. والصحيح أنه زبيري. وقال: ما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عنى هذا الحديث إلا من لم يقدر له. قال: وكتبه أبو عمرو الحيري عنى. قوله تعالى: (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى. وقيل: معنى المراء الظاهر أن تقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك. وفى هذا دليل على أن الله تعالى لم يبين لاحد عددهم فلهذا قال" إِلَّا مِراءً ظاهِراً" أي ذاهبا، كما قال:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها «2»

ولم يبح له في هذه الآية أن يماري، ولكن قوله" إِلَّا مِراءً" استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب. سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر، ففارق المراء الحقيقي المذموم. والضمير في قوله" فِيهِمْ" عائد على أهل الكهف. وفى قوله:" مِنْهُمْ" عائد على أهل الكتاب المعارضين. وقوله:" فَلا تُمارِ فِيهِمْ" يعنى في عدتهم، وجذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها. قوله تعالى: (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) روى أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهى عن السؤال. وفى هذا دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شي من العلم.

[سورة الكهف (18): الآيات 23 الى 24]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)
__________
(1). القلطي (كعربي): القصير من الناس والسنانير والكلاب. قال الدميري:" والقلطي: كلب صيني".
(2). هذا عجر بيت لابي ذؤيب. وصدره:
وعيرها الواشون أنى أحبها

قوله تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) فيه مسألتان: الاولى- قال العلماء: عاتب الله تعالى نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين: غدا أخبركم بجواب أسئلتكم، ولم يستثن في ذلك. فاحتبس الوحى عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة. وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إنى أفعل غدا كذا وكذا، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل حتى لا يكون محققا لحكم الخبر، فإنه إذا قال: لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبا، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن بكون محققا للمخبر عنه. واللام في قوله" لِشَيْ ءٍ" بمنزلة في، أو كأنه قال لأجل شي. الثانية- قال ابن عطية: وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الايمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين. وقوله:" إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ" في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز، تقديره: إلا أن تقول إلا أن يشاء الله، أو إلا أن تقول إن شاء الله. فالمعنى: إلا أن يذكر مشيئة الله، فليس" إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ" من القول الذي نهى عنه. قلت: ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائي والفراء والأخفش. قال البصريون: المعنى إلا بمشيئة الله. فإذا قال الإنسان أنا أفعل هذا إن شاء الله فمعناه بمشيئة الله. قال ابن عطية: وقالت فرقة" إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ" استثناء من قوله" وَلا تَقُولَنَّ". قال: وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى. وقد تقدم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في" المائدة «1»". قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) فيه مسألة واحدة، وهو الامر بالذكر بعد النسيان واختلف في الذكر المأمور به، فقيل: هو قوله (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) قال محمد الكوفي المفسر: إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل
__________
(1). راجع ج 6 ص 264.

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)

من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء. وقال الجمهور: هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص. وقيل: هو قوله" إِنْ شاءَ اللَّهُ" [الصافات: 102] الذي كان نسيه عند يمينه. حكى عن ابن عباس أنه إن نسى الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفا. وهو قول مجاهد. وحكى إسماعيل بن إسحاق ذلك عن أبى العالية في قوله تعالى:" وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ" قال: يستثنى إذا ذكره. الحسن: ما دام في مجلس الذكر. ابن عباس: سنتين، ذكره الغزنوي قال: فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم. فأما الاستثناء المفيد «1» حكما فلا يصح إلا متصلا. السدى: أي كل صلاة نسيها إذا ذكرها «2». وقيل: استثن باسمه لئلا تنسى. وقيل: اذكره متى ما نسيته. وقيل: إذا نسيت شيئا فاذكره يذكركه. وقيل: اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك، فذلك حقيقة الذكر. وهذه الآية مخاطبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهى استفتاح كلام على الأصح، ولست من الاستثناء في المين بشيء، وهى بعد تعم جميع أمته، لأنه حكم يتردد في الناس لكثرة وقوعه. والله الموفق.

[سورة الكهف (18): آية 25]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)
هذا خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم. وفى قراءة ابن مسعود" وقالوا لبثوا". قال الطبري: إن بنى إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الاعثار عليهم إلى مدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بعضهم: إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر الله تعالى نبيه أن هذه المدة في كونهم نياما، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر. فأمر الله تعالى أن يرد علم ذلك إليه. قال ابن عطية: فقوله على هذا" لَبِثُوا" الأول يريد في نوم الكهف، و" لَبِثُوا" الثاني يريد بعد الاعثار «3» إلى مدة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو إلى وقت عدمهم بالبلاء. مجاهد: إلى وقت نزول القرآن. الضحاك: إلى أن ماتوا. وقال بعضهم: إنه لما قال" وَازْدَادُوا تِسْعاً" لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام. واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمر الله تعالى برد العلم إليه في التسع، فهي على هذا مبهمة. وظاهر كلام العرب المفهوم منه أنها أعوام، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى
__________
(1). في ى وهـ ج: المغير.
(2). في ى: أي صل صلاة نسيتها إذا ذكرتها.
(3). في ج: بعد الانتشار.

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

بيسير وقد بقيت من الحواريين بقية. وقيل غير هذا على ما يأتي. قال القشيري: لا يفهم من التسع تسع ليال وتسع ساعات لسبق «1» ذكر السنين، كما تقول: عندي مائة درهم وخمسة، والمفهوم منه خمسة دراهم. وقال أبو على" وَازْدَادُوا تِسْعاً" أي ازدادوا لبث تسع، فحذف. وقال الضحاك: لما نزلت" وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ" قالوا سنين أم شهور أم جمع أم أيام، فأنزل الله عز وجل" سِنِينَ". وحكى النقاش ما معناه أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأيام «2»، فلما كان الاخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، وهذه الزيادة هي ما بين الحسابين. ونحوه ذكر الغزنوي. أي باختلاف سنى الشمس والقمر، لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلاثمائة تسع سنين. وقرا الجمهور" ثلاثمائة سنين" بتنوين مائة ونصب سنين، على التقديم والتأخير، أي سنين ثلاثمائة فقدم الصفة على الموصوف، فتكون" سِنِينَ" على هذا بدلا أو عطف بيان. وقيل: على التفسير والتمييز. و" سِنِينَ" في موضع سنة. وقرا حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين، وترك التنوين، كأنهم جعلوا سنين بمنزلة سنة إذ المعنى بهما واحد. قال أبو على: هذه الاعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى الجموع. وفى مصحف عبد الله" ثلاثمائة سنة". وفرا الضحاك" ثلاثمائة سنون" بالواو. وقرا أبو عمرو بخلاف" تِسْعاً" بفتح التاء وقرا الجمهور بكسرها. وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة.

[سورة الكهف (18): آية 26]
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) قيل بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم، على قول مجاهد. أو إلى أن ماتوا، على قول الضحاك. أو إلى وقت تغيرهم بالبلى، على ما تقدم. وقيل: بما لبثوا في الكهف، وهى المدة التي ذكرها الله تعالى عن اليهود وإن ذكروا زيادة ونقصانا. أي لا يعلم علم ذلك إلا الله أو من علمه ذلك (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).
__________
(1). في ج وى: لنسق.
(2). في ج وى: الأمم. ولعل هذا أوجه لان الأمم لا تستعمل إلا الشمسية.

قوله تعالى: (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي ما أبصره وأسمعه. قال قتادة: لا أحد أبصر من الله ولا اسمع. وهذه عبارات عن الإدراك. ويحتمل أن يكون المعنى" أَبْصِرْ بِهِ" أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور، واسمع به العالم، فيكونان أمرين لا على وجه التعجب. وقيل. المعنى أبصرهم وأسمعهم ما قال الله فيهم. (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ) أي لم يكن لأصحاب الكهف ولى يتولى حفظهم دون الله. ويحتمل أن يعود الضمير في" لَهُمْ" على معاصري محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكفار. والمعنى: ما لهؤلاء المختلفين في مدة لبثهم ولى دون الله يتولى تدبير أمرهم، فكيف يكونون اعلم منه، أو كيف يتعلمون من غير إعلامه إياهم. قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) قرئ بالياء ورفع الكاف، على معنى الخبر عن الله تعالى. وقرا ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري" ولا تشرك" بالتاء من فوق وإسكان الكاف على جهة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكون قوله" وَلا يُشْرِكُ" عطفا على قوله:" أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ". وقرا مجاهد" يُشْرِكُ" بالياء من تحت والجزم. قال يعقوب: لا أعرف وجهه. مسألة: اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا، أو هم نيام وأجسادهم محفوظة، فروى عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته مع ناس على موضع الكهف وجبله، فمشى الناس معه إليه فوجدوا عظاما فقالوا: هذه عظام أهل الكهف. فقال لهم ابن عباس: أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة، فسمعه راهب فقال: ما كنت أحسب أن أحدا من العرب يعرف هذا، فقيل له: هذا ابن عم نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروت فرقة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ليحجن عيسى بن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بع". ذكره ابن عطية. قلت: ومكتوب في التوراة والإنجيل أن عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، وأنه يمر بالروحاء حاجا أو معتمرا أو يجمع الله له ذلك فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم، فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا. وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في كتاب" التذكرة". فعلى هذا هم نيام ولم يموتوا إلى يوم القيامة، بل يموتون قبيل الساعة.

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)

[سورة الكهف (18): آية 27]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
قوله تعالى: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ قيل: هو من تمام قصة أصحاب الكهف، أي اتبع القرآن فلا مبدل لكلمات الله ولا خلف فيما أخبر به من قصة أصحاب الكهف. وقال الطبري: لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه. (وَلَنْ تَجِدَ) أنت (مِنْ دُونِهِ) إن لم تتبع القرآن وخالفته. (مُلْتَحَداً) أي ملجأ. وقيل موئلا وأصله الميل ومن لجأت إليه فقد ملت إليه. قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم: وهذا آخر قصة أصحاب الكهف. ولما غزا معاوية غزوة المضيق نحو الروم وكان معه ابن عباس فانتهى إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم، فقال ابن عباس: قد منع الله من هو خير منك عن ذلك، فقال:" لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً" فقال: لا انتهى حتى اعلم علمهم، وبعث قوما لذلك، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم، ذكره الثعلبي أيضا. وذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل الله أن يريه إياهم، فقال إنك لن تراهم في دار الدنيا ولكن أبعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الايمان، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل عليه السلام: كيف أبعثهم؟ فقال: ابسط كساءك واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر وعلى الطرف الآخر عمر وعلى الثالث عثمان وعلى الرابع على بن أبى طالب، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان فإن الله تعالى يأمرها أن تطيعك، ففعل فحملتهم الريح إلى باب الكهف، فقلعوا منه حجرا، فحمل الكلب عليهم فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ إليهم برأسه أن ادخلوا فدخلوا الكهف فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد الله على الفتية أرواحهم فقاموا بأجمعهم وقالوا: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقالوا لهم: معشر الفتية، إن النبي محمد بن عبد الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ عليكم السلام، فقالوا: وعلى محمد رسول الله السلام ما دامت السموات والأرض، وعليكم بما أبلغتم، وقبلوا

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)

دينه وأسلموا، ثم قالوا: أقرئوا محمدا رسول الله منا السلام، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدى. فيقال: إن المهدى يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة، فأخبر جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما كان منهم، ثم ردتهم الريح فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كيف وجدتموهم"؟ فأخبروه الخبر؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اللهم لا تفرق بيني وبين أصحابي وأصهاري واغفر لمن أجنبي وأحب أهل بيتي وخاصتي وأصحابي". وقيل: إن أصحاب الكهف دخلوا الكهف قبل المسيح، فأخبر الله تعالى المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الفترة بين عيسى ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: كانوا قبل موسى عليه السلام وأن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: دخلوا الكهف بعد المسيح، فالله اعلم أي ذلك كان.

[سورة الكهف (18): آية 28]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) هذا مثل قوله:" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ"" الانعام: «1»" وقد مضى الكلام فيه. وقال سلمان الفارسي رضى الله عنه: جاءت المؤلف قلوبهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عيينة بن حصن والافرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم- يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها- جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى" وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. وَاصْبِرْ"
__________
(1). راجع ج 6 ص 432.

" نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ- حتى بلغ- إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها". يتهددهم بالنار. فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال:" الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي طاعته. وقرا نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن" ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة «1» والعشي" وحجتهم أنها في السواد بالواو. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لأنها معروفة. روى عن الحسن" وَلا تَعْدُ «2» عَيْناكَ عَنْهُمْ" أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أبناء الدنيا طلبا لزينتها، حكاه اليزيدي. وقيل: لا تحتقرهم عيناك، كما يقال فلان تنبو عنه العين، أي مستحقرا. (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي تزيين بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا أبعاد الفقراء من مجلسك، ولم يرد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفعل ذلك، ولكن الله نهاه عن أن يفعله، وليس هذا بأكثر من قوله:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «3»". وإن كان الله أعاذه من الشرك. و" تُرِيدُ" فعل مضارع في موضع الحال، أي لا تعد عينا مريدا، كقول امرئ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وزعم بعضهم أن حق الكلام: لا تعد عينيك عنهم، لان" تعد" متعد بنفسه. قيل له: والذي وردت به التلاوة من رفع العينين يئول إلى معنى النصب فيها، إذا كان لا تعد عيناك عنهم بمنزلة لا تنصرف عيناك عنهم، ومعنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم، فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى:
__________
(1). كذا في الأصول أراد: قرأ هؤلاء هنا وفى الانعام" الغدوة".
(2). في كتاب روح المعاني:" وقرا الحسن (ولا تعد عينيك) بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة، من أعداء، ونصب العينين. وعنه وعن عيسى والأعمش أنهم قرءوا (ولا تعد عينيك) بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة، من عداه يعديه" ونصب العينين أيضا.
(3). راجع ج 15 ص 276.

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)

فلا تعجبك أموالهم «1»" فأسند الإعجاب إلى الأموال، والمعنى: لا تعجبك يا محمد أموالهم. ويزيدك وضوحا قول الزجاج: إن المعنى لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوى الهيئات والزينة. قوله تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) يروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى:" وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا" قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة، فأنزل الله تعالى:" وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا" يعنى من ختمنا على قلبه عن التوحيد. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) يعنى الشرك. (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) قيل: هو من التفريط الذي هو التقصير وتقديم العجز بترك الايمان. وقيل: من الافراط ومجاوزة الحد، وكان القوم قالوا: نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس، وكان هذا من التكبر والافراط في القول. وقيل:" فُرُطاً" أي قدما في الشر، من قولهم: فرط منه أمر أي سبق. وقيل: معنى" أَغْفَلْنا قَلْبَهُ" وجدناه غافلا، كما تقول: لقيت فلانا فأحمدته، أي وجدته محمودا. وقال عمرو بن معد يكرب لبنى الحارث بن كعب: والله لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم، أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين. وقيل: نزلت،" وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا" في عيينة بن حصن الفزاري، ذكره عبد الرزاق، وحكاه النحاس عن سفيان الثوري. والله أعلم.

[سورة الكهف (18): آية 29]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)" الْحَقُّ" رفع على خبر الابتداء المضمر، أي قل هو الحق. وقيل: هو رفع على الابتداء، وخبره في قوله:
__________
(1). راجع ج 8 ص 164.

" مِنْ رَبِّكُمْ". ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس! من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدى من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر، ليس إلى من ذلك شي، فالله يؤتى الحق من يشاء وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء وإن كان قويا غنيا، ولست بطارد المؤمنين لهواكم، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا. وليس هذا بترخيص وتخيير بين الايمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد. أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة. قوله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي أعددنا. (لِلظَّالِمِينَ) أي للكافرين الجاحدين. (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) قال الجوهري: السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف «1» فهو سرادق. قال رؤبة «2»:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود
يقال: بيت مسردق. وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز «3» وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة:
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ... صدور الفيول بعد بيت مسردق
وقال ابن الاعرابي:" سُرادِقُها" سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي: عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة. القتبي: السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط. وقال ابن عزيز. وقيل: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة" والمرسلات". حيث يقول:" انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ «4»" وقوله:" وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ «5»" قاله قتادة. وقيل: إنه البحر المحيط بالدنيا. وروى يعلى بن أمية قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" البحر هو جهنم- ثم تلا- نارا أحاط بهم سرادقها"-
__________
(1). الكرفس: القطن. [.....]
(2). كذا في الأصل واللسان، واستدرك عليه صاحب اللسان بأنه الكذب الحرمازي، وتابعه على هذا سيبويه والأعلم الشنتمرى. مدح الراجز أحد بنى المنذر بن الجارود العبدى، وحكم هذا أحد ولاة البصرة لهشام بن عبد الملك. وسمي جده الجارود لأنه أعار على قوم فاكتسح أموالهم: فشبه بالسيل الذي يجرد ما مر به.
(3). بفتح الواو وكسرها، ملك من ملوك الفرس.
(4). راجع ج 19 ص 160.
(5). راجع ج 17 ص 212.

ثم قال- والله لا أدخلها أبدا دمت حيا ولا يصيبني منها قطرة" ذكره الماوردي. وخرج ابن المبارك من حديث أبى سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لسرادق النار أربع جدر كثف «1» كل جدار مسيرة أربعين سنة". وخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب. قلت: وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار، وجدره ما وصف. قوله تعالى: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) قال ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دردي «2» الزيت. مجاهد: القيح والدم. الضحاك: ماء أسود، وإن جهنم لسوداء، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود. وقال أبو عبيدة: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقصدير، فتموج بالغليان، فذلك المهل. ونحوه عن ابن مسعود قال سعيد بن جبير: هو الذي قد انتهى حره. وقال: المهل ضرب من القطران، يقال: مهلت البعير فهو ممهول. وفيل: هو السم. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وفى الترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله" كَالْمُهْلِ" قال:" كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه" قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه. وخرج عن أبى أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:" وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ «3»" قال:" يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه إذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره. يقول الله تعالى" وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «4»" يقول" وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً" قال: حديث غريب. قلت: وهذا يدل على صحة تلك الأقوال، وأنها مرادة، والله اعلم. وكذلك نص عليها أهل اللغة. في الصحاح" المهل" النحاس المذاب. ابن الاعرابي: المهل لمذاب من
__________
(1). الكثف: جمع كثيف، وهو الثخين الغليظ.
(2). الدردي (بالضم): ما يبقى في الأسفل.
(3). راجع ج 9 ص 51 3.
(4). راجع ج 16 ص 236.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

الرصاص. وقال أبو عمرو. المهل دردي الزيت. والمهل أيضا القيح والصديد. وفى حديث أبى بكر: ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب. (مُرْتَفَقاً) قال مجاهد: معناه مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة. ابن عباس: منزلا. عطاء: مقرا. وقيل مهادا. وقال القتبي: مجلسا، والمعنى متقارب، وأصله من المتكأ، يقال منه: ارتفقت أي اتكأت على المرفق. قال الشاعر:
قالت له وارتفقت ألا فتى ... يسوق بالقوم غزالات الضحا «1»
ويقال: ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذؤيب الهذلي:
نام الخلى وبت الليل مرتفقا «2» ... كأن عيني فيها الصاب مدبوح

الصاب: عصارة شجر مر.

[سورة الكهف (18): الآيات 30 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب. وفى الكلام إضمار، أي نضيع أجر من أحسن منهم عملا، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط." عَمَلًا" نصب على التمييز، وإن شئت بإيقاع" أَحْسَنَ" عليه. وقيل:
__________
(1). غزالة الضحى وغزالاته: بعد ما تنبسط الشمس وتضحى. وقيل: هو أول الضحا إلى مد النهار الأكبر حتى يمضى من النهار نحو من خمسه.
(2). رواية الديوان:" مشتجرا" والمشتجر: الذي قد شجر نفسه ووضع يده تحت شجرة على حنكه أو على فمه. والشجر: ما بين اللحيين. ومذبوح،. شقوق.

إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا" كلام معترض، والخبر قوله (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) و" جَنَّاتُ عَدْنٍ" سرة الجنة، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها، لان كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة وقيل: العدن الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه، ومنه" جَنَّاتُ عَدْنٍ" أي جنات إقامة ومنه سمى المعدن (بكسر الدال)، لان الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شي معدنه والعادن: الناقة المقيمة في المراعى. وعدن بلد، قاله الجوهري. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) تقدم في غير موضع «1». (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) وهو جمع سوار. قال سعيد بن جبير: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ. قلت: هذا منصوص في القرآن، قال هنا" مِنْ ذَهَبٍ" وقال في الحج «2» وفاطر «3»" مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً" وفى الإنسان «4»" مِنْ فِضَّةٍ". وقال أبو هريرة: سمعت خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" خرجه مسلم. وحكى الفراء:" يُحَلَّوْنَ" بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام خفيفة، يقال: حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي. وحلى الشيء بعيني يحلى، ذكره النحاس. والسوار سوار المرأة، والجمع أسورة، وجمع الجمع أساورة. وقرى" فلولا ألقى عليه أساورة من ذهب «5»": وقد يكون الجمع أساور. وقال الله تعالى" يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ" قاله الجوهري. وقال ابن عزيز: أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار وسوار، وهو الذي يلبس في الذراع من ذهب، فإن كان من فضة فهو قلب وجمعه قلبة، فإن كان من قرن أو عاج فهي مسكة وجمعه مسك. قال النحاس: وحكى قطرب في واحد الأساور إسوار، وقطرب صاحب شذوذ، قد تركه يعقوب وغيره فلم يذكره.
__________
(1). راجع ج 1 ص 239.
(2). راجع ج 12 ص 28.
(3). راجع ج 14 ص ...
(4). راجع ج 19 ص 141. [.....]
(5). راجع ج 16 ص 100.

قلت: قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء: واحدها إسوار. وقال المفسرون: لما كانت الملفى الدنيا الأساور. والتيجان جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة. قوله تعالى: (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) السندس: الرفيق «1» النحيف، واحده سندسة، قال الكسائي. والإستبرق: ما ثخن منه- عن عكرمة- وهو الحرير. قال الشاعر:
تراهن يلبسن المشاعر مرة ... وإستبرق الديباج طورا لباسها
فالاستبرق الديباج. ابن بحر: المنسوج بالذهب. القتبي: فارسي معرب. الجوهري: وتصغيره أبيرق. وقيل: هو استفعل من البريق. والصحيح أنه وفاق بين اللغتين، إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، على ما تقدم، والله اعلم. وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر، لان البياض يبدد النظر ويؤلم، والسواد يذم، والخضرة بين البياض والسواد، وذلك يجمع الشعاع. والله اعلم. روى النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص فال: بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب الجنة، أخلق يخلق أم نسج ينسج؟ فضحك بعض القوم. فقال لهم:" مم تضحكون من جاهل يسأل عالما"؟ فجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أين السائل عن ثياب الجنة"؟ فقال: ها هو ذا يا رسول الله، قال" لا بل تشقق عنها ثمر الجنة" قالها ثلاثا. وقال أبو هريرة: دار المؤمن درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بإصبعه أو قال بإصبعيه سبعين حلة منظمة بالدر والمرجان. ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وابن المبارك في رقائقه. وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة. وذكر في الحديث أنه يكون على كل واحد منهم الحلة لها وجهان لكل وجه لون، يتكلمان به بصوت يستحسنه سامعه، يقول أحد الوجهين للآخر: أنا أكرم على ولى الله منك، أنا ألى جسده وأنت لا تلى. ويقول الآخر: أنا أكرم على ولى الله منك، أنا أبصر وجهه وأنت لا تبصر.
__________
(1). الرقيق أي من الديباج.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)

قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ)" الْأَرائِكِ" جمع أريكة، وهى السرر في الحجال «1». وقيل الفرش في الحجال، قاله الزجاج. ابن عباس: هي الأسرة من ذهب، وهى مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال، الأريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية. واصل متكئين موتكئين، وكذلك اتكأ أصله أو تكأ، واصل التكأة وكأة، ومنه التوكؤ للتحامل على الشيء، فقلبت الواو تاء وأدغمت. ورجل وكأة كثير الاتكاء. (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) يعنى الجنات، عكس" وَساءَتْ مُرْتَفَقاً". وقد تقدم. ولو كان" نعمت" لجاز لأنه اسم للجنة. وعلى هذا" وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً". وروى البراء ابن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال: إنى رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ" الآية، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الاربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم" ذكره الماوردي، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن، قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن على بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبن إسحاق عن البراء بن عازب قال: قام أعرابي ...، فذكره. وأسنده السهيلي في كتاب الاعلام. وقد روينا جميع ذلك بالإجارة، والحمد لله.

[سورة الكهف (18): الآيات 32 الى 34]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34)
__________
(1). الحجال، جمع الحجلة (بفتحتين) كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور والأسرة للعروس.

قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ". واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما، فقال الكلبي: نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، زوج أم سلمة قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد، وهما الاخوان المذكوران في سورة" الصافات" في قوله" قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ «1»"، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدهما مال في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال ...، ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل: نزلت في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واهل مكة. وقيل: هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر. وقيل: هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه، شبههم الله برجلين من بنى إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا، في قول ابن عباس. وقال مقاتل: اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال: اسم الخير منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع، وبنى أيضا مساجد، وفعل خيرا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى، وأدركت الأول الحاجة، فأراد أن يستخدم «2» نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بى فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له: ألم أكن قاسمتك المال نصفين! فما صنعت بمالك؟. قال: اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى. فقال. أينك
__________
(1). راجع ج 15 ص 81 فما بعد.
(2). في ج وى: يستأجر.

لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال، وذلك أنى كسبت وسفهت أنت، اخرج عنى. ثم كان من قصة هذا الغنى ما ذكره الله تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان. وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب. قال عطاء: كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار. وقيل: ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشترى منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق [بألف «1» دينار [، بها ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشترى منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال: ما فعل ما لك؟ فأخبره قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما، فقال صاحبه: والله لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه. فقال: سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق، فقال له: يا أخى إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمى شبكته ويسمى باسم صنمه، فتطلع متدفقه سمكا. وجعل المؤمن يرمى شبكته ويسمى باسم الله فلا يطلع له فيها شي، فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال: فضج الملك الموكل بهما، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال: وعزتك لا يضره ما ناله من
__________
(1). من ج وى

الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا، واراه منازل الكافر في جهنم فقال: وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة وراي ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال:" إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ." يقول أإنك لمن المصدقين «1» الآية، فنادى مناد: يا أهل الجنة! هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم، فنزلت" وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا". بين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة" الصافات" في قول" إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ"- إلى قوله-" لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ". قال ابن عطية: وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى غيره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة، وإياها عنى بهذه الآية. وقد قيل: إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الامة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا، ذكره الماوردي. وسياق الآية يدل على خلاف هذا، والله اعلم. قوله تعالى:" وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ" أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفه، ويقال: حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به، ومنه" حافين من حول العرش «2»" (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع. (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ) أي كل واحدة من الجنتين، (آتَتْ أُكُلَها) تاما، ولذلك لم يقل آتنا. واختلف في لفظ" كلتا وكلا" هل هو مفرد أو مثنى، فقال أهل البصرة: هو مفرد، لان كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير" كل" في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى، فإذا ولى «3» اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول: رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين، فإذا اتصل بمضمر قلبت الالف ياء في موضع الجر والنصب، تقول:
__________
(1). راجع ج 15 ص 81 فما بعد.
(2). راجع ج 15 ص 84 2 فما بعد.
(3). كذا في الأصول والصحاح للجوهري وقد نقله عنه صاحب اللسان. وكان الاولى أنى قال:" فإذا وليه اسم ظاهر ...".

رأيت كليهما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما. وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الالف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر:
في كلت رجليها سلامى «1» واحده ... كلتاهما مقرونة بزائده
أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة، لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر، ولان معنى" كلا" مخالف لمعنى" كل" لان" كلا" للإحاطة و" كلا" يدل على شي مخصوص، وأما هذا الشاعر فإنما حذف الالف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم" نحن" اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير:
كلا يومى أمامة يوم صد «2» ... وإن لم نأتها إلا لماما
فأخبر عن" كلا" بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله" آتَتْ" ولو كان مثنى لقال آتتا، ويوما. واختلف أيضا في الف" كِلْتَا"، فقال سيبويه: ألف" وكِلْتَا" للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهى واو والأصل كلوا، وإنما أبدلت تاء لان في التاء علم التأنيث، والألف" في" كلتا" قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الامر على ما زعم، لقالوا في النسبة إليها كلتوى، فلما قالوا كلوى وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي، ذكره الجوهري. قال أبو جعفر النحاس: وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول: كلتا الجنتين آتتا أكلهما، لان المعنى المختار «3» كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء: كلتا الجنتين آتى أكله، قال: لان المعنى كل
__________
(1). السلامي كحبارى: عظام الأصابع في اليد والقدم.
(2). كذا في الأصول واللسان مادة" كلا". وفى ديوانه المطبوع:" يوم صدق". والبيت من قصيدة مطلعها:
ألا حي المنازل والخيا ... ما وسكنا طال فيها ما أقاما

(3). في ج الجنتان كلتاهما.

الجنتين. قال: وفى قراءة عبد الله" كل الجنتين أتى أكله". والمعنى على هذا عند الفراء: كل شي من الجنتين آتى أكله. والأكل (بضم الهمزة) ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل، ومنه قوله تعالى:" أُكُلُها دائِمٌ" وقد تقدم «1». (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي لم تنقص. قوله تعالى: (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. (وكان له ثمر) قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبى إسحاق" ثمر" بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله" وأحيط بثمره" جمع ثمرة. قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار، مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر، مئل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار، مثل أعناق وعنق. والثمر أيضا المال المثمر، يخفف ويثقل. وقرا أبو عمرو" وكان له ثمر" بضم الثاء وإسكان الميم، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين. قال ابن عباس: ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في" الانعام" «2» نحو هذا مبينا. ذكر النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال [أخبرنا «3»] هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال: لو سمعت أحدا يقرأ" وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ" لقطعت لسانه، فقلت للأعمش: أتأخذ بذلك؟ فقال: لا! ولا نعمة عين «4». فكان يقرأ" ثَمَرٌ" ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس: فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمار على ثمر، وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه والله اعلم، لان قوله" كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها" يدل على أن له ثمرا. قوله تعالى: (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب. ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا، أي ما رد جوابا. (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً) النفر: الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ها هنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه.
__________
(1). راجع ج 9 ص 324.
(2). راجع ج 7 ص 49. [.....]
(3). من ج وفى ى: حدثنا.
(4). في هذا الكلمة اثنا عشر لغة: نعم عين ونعمة ونعام ونعيم (بفتحتين) ونعمى ونعامى ونعام ونعم ونعمة (بضمهن) ونعمة ونعام (بكسرها). وتنصب الكل بإضمار الفعل، أي أفعل ذلك أنعاما لعينك وإكراما.

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)

[سورة الكهف (18): الآيات 35 الى 36]
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قوله تعالى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) قيل: أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها. (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي بكفره، وهو جملة في موضع الحال. ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه. (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) أنكر فناء الدار. (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي لا أحسب البعث كائنا. (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه، وهو معنى قوله: (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الايمان بالحشر والنشر. وفي مصاحف مكة والمدينة والشام" منهما". وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة" منها" على التوحيد، والتثنية أولى، لان الضمير أقرب إلى الجنتين.

[سورة الكهف (18): الآيات 37 الى 38]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)
قوله تعالى: (قالَ لَهُ صاحِبُهُ) يهوذا أو تمليخا، على الخلاف في اسمه. (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة. و" سَوَّاكَ رَجُلًا" أي جعلك معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء ذكرا. (لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) كذا قرأه أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية. وروى عن الكسائي" لكن هو الله" بمعنى لكن الامر هو الله ربي، فأضمر اسمها فيها. وقرا الباقون" لكِنَّا" بإثبات الالف. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير،

تقديره: لكن الله هو ربي أنا، فحذفت الهمزة من" أنا" طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف" أنا" في الوصل وأثبتت في الوقف. وقال النحاس: مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة. وقال أبو عبيدة: الأصل لكن أنا، فحذفت الالف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك، وأنشدنا الكسائي:
لهنك من عبسية لوسيمة ... على هنوات كاذب من يقولها
أراد: لله إنك [لوسيمة «1»]، فأسقط إحدى اللامين من" لله" وحذف الالف من إنك. وقال آخر فجاء به على الأصل:
وترمينني «2» بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أي لكن أنا. وقال أبو حاتم: ورووا عن عاصم" لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي" وزعم أن هذا لحن، يعني إثبات الالف في الإدراج. قال الزجاج: إثبات الالف في" لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي" في الإدراج جيد، لأنه قد حذفت الالف من أنا فجاءوا بها عوضا. قال: وفي قراءة أبي" لكن أنا هو الله ربي". وقرا ابن عامر والمسيلي «3» عن نافع ورويس عن يعقوب" لكِنَّا" في حال الوقف والوصل معا بإثبات الالف. وقال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما
وقال الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوافي ... بعد المشيب كفى ذاك عارا
ولا خلاف في إثباتها في الوقف. (هُوَ اللَّهُ رَبِّي)" هُوَ" ضمير القصة والشأن والامر، كقوله" فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا «4»" وقوله:" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «5»". (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً)
__________
(1). من ج وى.
(2). في ج وى: ويرميني بالطرف أي أنت مذنب. ويقليني لكن إياه لا أقلي.
(3). هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد. وهذه النسبة إلى مسيله (كسفينة) بلدة بالقطر الجزائري.
(4). راجع ج 11 ص 340.
(5). راجع ج 20 ص 244.

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)

دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركا بالله تعالى يعبد غيره. ويحتمل أنه أراد لا أرى الغني والفقر إلا منه، واعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه، وهو الذي آتاني الفقر. ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه، فهو إشراك.

[سورة الكهف (18): الآيات 39 الى 41]
وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
قوله تعالى: (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) فيه مسألتان: الأولى- قوله تعالى: (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أو أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه، إذ قال" ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً" و"ما" في موضع رفع، تقديره: هذه الجنة هي ما شاء الله. وقال الزجاج والفراء: الامر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله، أي الامر مشيئة الله تعالى. وقيل: الجواب مضمر، أي ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون." لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع. الثانية- قال أشهب قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة: رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا" ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ". وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لابي هريرة:" ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة- أو قال كنز من كنوز الجنة" قلت: بلى يا رسول الله، قال" لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدى واستسلم" أخرجه مسلم

في صحيحه من حديث أبي موسى. وفية: فقال" يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة- في رواية على كنز من كنوز الجنة-" قلت: ما هي يا رسول الله؟ قال:" لا حول ولا قوة إلا بالله". وعنه قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة" قلت: بلى، فقال" لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". وروى أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال: باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات. وقالت عائشة: إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من قال- يعني إذا خرج من بيته- باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان" هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه- فقال له:" هديت وكفيت ووقيت". وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدى ووقي وكفي". وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تحاجت الجنة والنار فقالت هذه- يعني الجنة- يدخلني الضعفاء" من الضعيف؟ قال: الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. وقال أنس بن مالك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين". وقد قال قوم: ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شي إلا رضي به. وروى أن من قال أربعا أمن من أربع: من قال هذه أمن من العين، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال وأفوض أمرى إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.

قوله تعالى: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً)" إِنْ" شرط" تَرَنِ" مجزوم به، والجواب" فَعَسى رَبِّي" و" أَنَا" فاصلة لا موضع لها من الاعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرا عيسى بن عمر" إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ" بالرفع، يجعل" أَنَا" مبتدأ
و" أَقَلَّ" خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء، إلا أن الياء حذفت لان الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و(فَعَسى ) بمعنى لعل أي فلعل ربي. (أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. (وَيُرْسِلَ عَلَيْها) أي على جنتك. (حُسْباناً) أي مرامي من السماء، واحدها حسبانه، قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة. وقال ابن الاعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة. وقال الجوهري: والحسبان (بالضم): العذاب. وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب، قال الله تعالى:" الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «1»" وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج: الحسبان من الحساب، أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك، فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضا: سهام قصار يرمى بها في طلق واحد، وكان من رمى الاكاسرة. والمرامى من السماء عذاب." فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً" يعنى أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهى أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض، و" زَلَقاً" تأكيد لوصف الصعيد، أي وتزل عنها الاقدام لملاستها. يقال: مكان زلق (بالتحريك) أي دحض، وهو في الأصل مصدر قولك: زلقت رجله تزلق زلقا، وأزلقها غيره. والزلق أيضا عجز الدابة. قال رؤبة:
كأنها حقباء بلقاء الزلق

والمزلقة والمزلقة: الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه، قال الجوهري. والزلق المحلوق، كالنقض والنقض. وليس المراد
__________
(1). راجع ج 17 152.

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)

أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حللا يبقى عليه شعر، قاله القشيري. (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) أي غائرا ذاهبا، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم، كما يقال: رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم:
تظل جياده نوحا عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
آخر:
هريقي من دموعهما سجاما ... ضباع وجاوبى نوحا قياما
أي نائحات. وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غور، فحذف المضاف، مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1»" ذكره النحاس. وقال الكسائي: ماء غور. وقد غار الماء يغور غورا وغئورا، أي سفل في الأرض، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغئورا، دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال:
أغارت عينه أم لم تغارا

وغارت الشمس تغور غيارا، أي غربت. قال أبو ذؤيب:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
(فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي لن تستطيع رد الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة. وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.

[سورة الكهف (18): آية 42]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)
قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى" أُحِيطَ بِثَمَرِهِ" أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه. (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) أي فأصبح الكافر يضرب إحدى
__________
(1). راجع ج 9 ص 245 فما بعد.

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)

يديه على الأخرى ندما، لان هذا يصدر من النادم. وقيل: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق، وهذا لان الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم: في يده مال، أي فملكه مال. ودل قوله" فَأَصْبَحَ" على أن هذا الإهلاك جرى بالليل، كقوله" فَطافَ «1» عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ" ويقال: أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي خالية قد سقط بعضها على بعض، مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواء أقوت، وكذلك إذا سقطت، ومنه قوله تعالى:" فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما «2» ظَلَمُوا" ويقال: ساقطة، كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها، فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل، وهذا من أعظم الجوانح، مقابلة على بغية. (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) أي يا ليتني عرفت نعم الله على، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به. وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم.

[سورة الكهف (18): آية 43]
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43)
قوله تعالى: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ)" فِئَةٌ" اسم" تَكُنْ" و" لَهُ" الخبر." يَنْصُرُونَهُ" في موضع الصفة، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون" يَنْصُرُونَهُ" الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم" لَهُ". وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول الله عز وجل" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ" «3». وقد أجاز سيبويه الآخر. و" يَنْصُرُونَهُ" على معنى فئة، لان معناها أقوام، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره، أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم. (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ممتنعا، قاله قتادة. وقيل: مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في" آل عمران «4»". والهاء عوض من الياء التي نقصت
__________
(1). راجع ج 18 ص 238.
(2). راجع ج 13 ص 216 فما بعد.
(3). راجع ج 20 ص 344. فما بعد.
(4). راجع ج 4 ص 24.

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)

من وسطه، أصله في مثل فيع، لأنه من فاء، ويجمع على فئون وفيات مئل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد.

[سورة الكهف (18): آية 44]
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
قوله تعالى: (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) اختلف في العامل في قوله" هُنالِكَ" وهو ظرف، فقيل: العامل فيه" وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ" ولا كان هنالك، أي ما نصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب. وقيل: تم الكلام عند قوله" مُنْتَصِراً". والعامل في قوله" هُنالِكَ":" الْوَلايَةُ". وتقديره على التقديم والتأخير: الولاية لله الحق هنالك، أي في القيامة. وقرا أبو عمرو والكسائي" الحق" بالرفع نعتا للولاية. وقرا أهل المدينة وحمزة" الْحَقِّ" بالخفض نعتا لله عز وجل، والتقدير: لله ذى الحق. قال الزجاج: ويجوز" الحق" بالنصب على المصدر والتوكيد، كما تقول: هذا لك حقا. وقرا الأعمش وحمزة والكسائي" الولاية" بكسر الواو، الباقون بفتحها، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة. وقيل: الولاية بالفتح من الموالاة، كقوله" اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا «1»"." ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا" «2». وبالكسر يعنى السلطان والقدرة والامارة، كقوله" وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «3»" أي له الملك والحكم يومئذ، أي لا يرد أمره إلى أحد، والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوى والتوهمات يوم القيامة. وقال أبو عبيد: إنها بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق. (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وليس ثم غير يرجى منه، ولكنه أراد في ظن الجهال، أي هو خير من يرجى. (وَخَيْرٌ عُقْباً) قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى" عُقْباً" ساكنة القاف، الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد، أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به. يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه، أي آخره.
__________
(1). راجع ج 3 ص 282 فما بعد. [.....]
(2). راجع ج 16 ص 234.
(3). راجع ج 19 ص 247.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)

[سورة الكهف (18): آية 45]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45)
قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها. (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي بالماء. (نَباتُ الْأَرْضِ) حتى استوى. وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء، لان النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في" يونس «1»" مبينا. وقالت الحكماء: إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لان الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولان الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولان الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولان الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولان الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفى حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له رجل: يا رسول الله، إنى أريد أن أكون من الفائزين، قال:" ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفى والكثير منها يطغى". وفى صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه". (فَأَصْبَحَ) أي النبات (هَشِيماً) أي متكسرا من اليبس متفتتا، يعنى بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه. والهشم: كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلان إلا هشيمة كرم، إذا كان سمحا. ورجل هشيم: ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف. واهتشم
__________
(1). راجع ج 8 ص 326.

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)

ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال: هشم الثريد، ومنه سمى هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفية يقول عبد الله بن الزبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون «1» ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعنى كسره وثردة، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة، فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم، فسمى بذلك هاشما. (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) أي تفرقه، قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة: تنسفه. ابن كيسان: تذهب به وتجيء. ابن عباس: تديره، والمعنى متقارب. وقرا طلحة بن مصرف" تذريه الريح". قال الكسائي: وفى قراءة عبد الله" تذريه". يقال: ذرته الريح تذروه ذروا و[تذريه ] ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء:
فقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيذرك «2» من أخرى القطاة فتزلق
قوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) من الإنشاء والإفناء والأحياء، سبحانه.

[سورة الكهف (18): آية 46]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
قوله تعالى: (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ويجوز" زينتا" وهو خبر الابتداء في التثنية والافراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لان في المال جمالا ونفعا، وفى البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معقرينة الصفة للمال
__________
(1). في ج: سنوات.
(2). في كتاب سيبويه:" فيدنك" وهى رواية أخرى في البيت. وقد نسبه سيبويه إلى عمرو بن عمار الطائي. ومعنى صوب: خذ القصد في السير وارفق بالفرس ولا تجهد. وأخرى القطاة: آخرها والقطاة: وقعد الرديف. (أي مؤخر الظهر حيث يكون ردف الراكب) يقول هذه لغلامه وقد حمله على فرسه ليصيد له. (راجع الشنتمرى على كتاب سيبويه).

والبنين، لان المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقر فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح، إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه في ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك. ويكفى قي هذا قول الله تعالى:" أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
«1» وقال تعالى:" إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ «2»". قوله تعالى: (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات. (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أي أفضل. (وَخَيْرٌ أَمَلًا) أي أفضل من ذى المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه خرج مخرج قوله:" أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «3»". وقيل: خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم. واختلف العلماء في" الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ"، فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل: هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضا: أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء الله، لان كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا. وقال لي رضى الله عنه: الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن الله تعالى لأقوام. وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. خرجه مالك في موطئة عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. أسنده النسائي عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله
__________
(1). راجع ج 18 ص 140.
(2). راجع ج 18 ص 140.
(3). راجع ج 13 ص 21 ص فما بعد.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" استكثروا من الباقيات الصالحات) قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: [المسألة. قيل وما هي يا رسول الله؟ قال «1»:]" التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا باله". صححه أبو محمد عبد الحق رحمه الله. وروى قتادة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال:" إن المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات". ذكره الثعلبي، وخرجه ابن ماجة بمعناه من حديث أبى الدرداء قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعنى يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها". وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال:" إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة". قال: هذا حديث غريب ولا نعرف للأعمش سماعا من أنس، ولا أنه قد رآه ونظر إليه. وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بى فقال يا محمد أقرئ أمتك منى السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" قال: حديث حسن غريب، خرجه الماوردي بمعناه. وفية- فقلت: ما غراس الجنة؟ قال:" لا حول ولا قوة إلا بالله". وخرج ابن ماجة عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر به وهو يغرس غرسا فقال:" يا أبا هريرة ما الذي تغرس"؟ قلت غراسا. قال:" ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة". وقد قيل: إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات، لان بها تقبل الأعمال وترفع، قال الحسن. وقال عبيد بن عمير: هن البنات، يدل عليه أوائل، الآية، قال الله تعالى:" الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا" ثم قال" وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ" يعنى البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا،
__________
(1). من ج وى.

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)

وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن. يدل عليه ما روته عائشة رضى الله عنها قالت: دخلت على امرأة مسكينة ... الحديث، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله:" يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ" الآية «1». وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" لقد رأيت رجلا من أمتي أمر به إلى النار فتعلق به بناته وجعلن يصرخن ويقلن رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا فرحمه الله بهن". وقال قتادة في قوله تعالى:" فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً «2»" قال: أبدلهما منه ابنة فتزوجها نبى فولدت له اثنى عشر غلاما كلهم أنبياء.

[سورة الكهف (18): آية 47]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47)
قوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) قال بعض النحويين: التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال. قال النحاس: وهذا غلط من أجل الواو وقيل: المعنى واذكر يوم نسير الجبال، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض، ونسيرها كما نسير السحاب، كما قال في آية أخرى" وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «3»" ثم تكسر فتعود إلى الأرض، كما قال:" وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا «4»". وقرا ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر" ويوم تسير" بتاء مضمومة وفتح الياء. و" الْجِبالَ" رفعا على الفعل المجهول. وقرا ابن محيصن ومجاهد" ويوم تسير الجبال" بفتح التاء مخففا من سار." الجبال" رفعا. دليل قراءة أبى عمرو" وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ «5»". ودليل قراءة ابن محيصن" وتسير الجبال سيرا «6»". واختار أبو عبيد القراءة الاولى" نُسَيِّرُ" بالنون لقوله" وَحَشَرْناهُمْ". ومعنى" بارِزَةً" ظاهرة، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان، أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها، وهدم بنيانها، فهي بارزة ظاهرة. وعلى هذا القول أهل التفسير. وقيل:" وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً" أي برز ما فيها من الكنوز والأموات، كما قال
__________ (1). راجع ص 117 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 211 ص 33 فما بعد.
(3). راجع ج 13 ص ...
(4). راجع ج 17 ص 194 فما بعد.
(5). راجع ج 19 ص 225 فما بعد. [.....]
(6). راجع ج 17 ص 194 فما بعد.

وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)

" وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ «1» وقال" وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «2»" وهذا قول عطاء. (وَحَشَرْناهُمْ) أي إلى الموقف. (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي لم نترك، يقال: غادرت كذا أي تركته. قال عنترة:
غادرته متعفرا أوصاله ... والقوم بين مجرح ومجدل
أي تركته. والمغادرة الترك، ومنه الغدر، لأنه ترل الوفاء. وإنما سمى الغدير من الماء غديرا لان الماء ذهب وتركه. ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها. يقول: حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم.

[سورة الكهف (18): آية 48]
وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)
قوله تعالى:َ- عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا)
"فًّا
" نصب على الحال. قال مقاتل: يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفا، لا أنهم صف واحد. وقيل: جميعا، كقوله" ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا «3»" أي جميعا. وقيل قياما. وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن مندة في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن الله تبارك وتعالى ينادى يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسئولون محاسبون. يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب". قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية، ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة، ومنه نقلناه والحمد لله.َقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
أي يقال لهم: لقد جئتمونا حفاة عراة، لا مال معكم ولا ولدا. وقيل فرادى، دليله قوله" وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «4»". وقد تقدم. وقال الزجاج: أي بعثناكم كما خلقناكم.َلْ زَعَمْتُمْ)
هذا خطاب لمنكري
__________
(1). راجع ج 19 ص 267 فما بعد.
(2). راجع ج 20 ص 147.
(3). راجع ج 11 ص 215 فما بعد.
(4). راجع ج 7 ص 42

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

البعث، أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدا للبعث. وفى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال:" يا عائشة، الأملا أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض"." غرلا" أي غير مختونين. وقد تقدم في" الانعام «1»" بيانه.

[سورة الكهف (18): آية 49]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
قوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتابُ)" الْكِتابُ" اسم جنس، وفية وجهان: أحدهما- أنها كتب الأعمال في أيدي العباد، قاله مقاتل. الثاني- أنه وضع الحساب، قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة. والقول الأول أظهر، ذكره ابن المبارك قال: أخبرنا الحكم أو أبو الحكم- شك نعيم- عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن رجل من بنى أسد قال قال عمر لكعب: ويحك يا كعب! حدثنا من حديث الآخرة، قال: نعم يا أمير المؤمنين! إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله- قال- ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى:" وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها" قال الأسدي: الصغيرة ما دون الشرك، والكبيرة الشرك، إلا أحصاها- قال كعب، ثم يدعى المؤمن فيعطى. كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لي حسنات فلم تذكر فأحب الله أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر
__________ (1). راجع ج 7 ص 42.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)

ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة، فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول" هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ «1»" ثم يدعى بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يلف فيجعل من وراء ظهره ويلوى عنقه، فذلك قوله" وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ «2»" فينظر في كتابه فإذا سيئاته باديات للناس وينظر في حسناته لكيلا يقول أفأثاب على السيئات. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه! ضجوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر. قال ابن عباس: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك، يعنى ما كان من ذلك في معصية الله عز وجل، ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عن ابن عباس أن الصغيرة الضحك. قلت فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية، وعلى هذا تكون كبيرة، فيكون وجه الجمع هذا والله أعلم. أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردي على التبسم، وقد قال تعالى:" فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها «3»" وقال سعيد بن جبير: إن الصغائر اللمم كالمسيس والقبل، والكبيرة المواقعة والزنى. وقد مضى في" النساء «4»" بيان هذا. قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء، وما اشتكى أحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. وقد مضى. ومعنى." أَحْصاها" عدها وأحاط بها، وأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسعا. (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرا. وقيل: وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) أي لا يأخذ أحدا بجرم أحد، ولا يأخذوه بما لم يعمله، قال الضحاك. وقيل: لا ينقص طائعا من ثوابه ولا يزيد عاصيا في عقابه.

[سورة الكهف (18): آية 50]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)
__________
(1). راجع ج 18 ص 268 فما بعد.
(2). راجع ج 19 ص 170.
(3). راجع ج 13 ص 175.
(4). راجع ج 5 ص 158.

قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) تقدم في" البقرة" هذا مستوفى «1». قال أبو جعفر النحاس: وفى هذه الآية سؤال، يقال: ما معنى." فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ" ففي هذا قولان: أحدهما- وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه، كما تقول: أطعمته عن جوع. والقول الآخر- وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى: ففسق عن رد أمر ربه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ يا بنى آدم وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ أي أعداء، فهو اسم جنس (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) أي بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله. أو بئس إبليس بدلا عن الله. واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه، فقال الشعبي: سألني رجل فقال هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله" أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ" فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم. وقال مجاهد: إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات، فهذا أصل ذريته. وقيل: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفى اليسرى فرجا، فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بنى آدم فتنة، وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذريته أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس أتباعا وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بنى آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الامر فيه على نقل صحيح. قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الامام أبى بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسندا عن أبى محمد عبد الغنى بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبى عثمان عن سلمان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تكن
__________
(1). راجع ج 1 ص 291.

أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ". وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله اعلم. قال ابن عطية: وقول" وَذُرِّيَّتَهُ" ظاهر اللفظ يقتضى الموسوسين من الشياطين، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل. وذكر الطبري وغيره أن مجاهدا قال: ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدهم: زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق. وثبر صاحب المصائب، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب، والدعاء بالويل والحرب. والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط «1» صاحب الاخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا. وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. قال الأعمش: وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلم، فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا هذه وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم أعوذ بالله منه زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد: والأبيض، وهو الذي يوسوس للأنبياء. وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان عليه السلام. والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها. والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها. ومرة وهو صاحب المزامير وبه يكنى. والهفاف يكون بالصحاري يضل الناس ويتيههم. ومنهم الغيلان. وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب، ولقوس صاحب التحريش، والأعور صاحب أبواب السلطان. قال وقال الداراني: إن لإبليس شيطانا يقال له المتقاضي، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة، فيحدث به في العلانية. قال ابن عطية: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطانا يسمى خنزب. وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان. قلت: أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح، وأما أن له اتباعا وأعوانا وجنودا فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره.
__________
(1). في ج: وشوط.

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدرى ما اسمه يحدث. وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته". وفي مسند أحمد بن حنبل قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال: إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق زوجته، قال: يوشك أن يتزوج. ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عق، قال: يوشك أن يبر. فال ويقول القائل: لم أزل بفلان حتى شرب، قال: أنت! قال ويقول: لم أزل بفلان حتى زنى، قال: أنت قال ويقول: لم أزل بفلان حتى قتل، قال: أنت أنت! وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجئ أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجئ أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال فيدنيه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت. وقد تقدم وسمعت شيخنا الامام أبا محمد عبد المعطي بثغر الإسكندرية يقول: إن شيطانا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين «1» في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا.
__________
(1). في ج: المواظبين.
حققه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش
تم الجزء العاشر من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء تعالى الجزء الحادي عشر، وأوله قوله تعالى" ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)

الجزء الحادي عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
[تتمة تفسير سورة الكهف ]

[سورة الكهف (18): الآيات 51 الى 53]
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
قوله تعالى: (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) قيل: الضمير عائد على إبليس وذريته، أي لم أشاورهم في خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقتهم على ما أردت. وقيل: ما أشهدت إبليس وذريته خلق السموات والأرض" وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ" أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني؟. وقيل: الكناية في قوله:" ما أَشْهَدْتُهُمْ" ترجع إلى المشركين، وإلى الناس بالجملة، فتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين واهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من يتخوض «1» في هذه الأشياء. وقال ابن عطية: وسمعت أبي رضي الله عنه يقول سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد «2» بن معاذ المهدوي بالمهدية يقول: سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول، ويتأول هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف. وذكر هذا بعض الأصوليين. قال ابن عطية وأقول: إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن، حين يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأول بالمضلين، وتندرج هذه الطوائف في معناهم. قال الثعلبي: وقال بعض أهل العلم" ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" رد على المنجمين أن قالوا: إن الأفلاك تحدث في الأرض وفي بعضها في بعض، وقوله:" وَالْأَرْضِ" رد على أصحاب الهندسة حيث قالوا:
__________
(1). من ج وفي ا: ينخرط وفي ك وى والبحر: يتخرص. [.....]
(2). في ك: أبا عبد الله بن عبد الله.

إن الأرض كرية والأفلاك تجري تحتها، والناس ملصقون عليها وتحتها، وقوله:" وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ" رد على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس. وقرا أبو جعفر:" ما أشهدناهم" بالنون والألف على التعظيم. الباقون بالتاء بدليل قوله: (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ) يعني ما استعنتهم على خلق السموات والأرض ولا شاورتهم. (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) يعني الشياطين. وقيل: الكفار. (عَضُداً) أي أعوانا يقال: اعتضدت بفلان إذا استعنت به وتقويت. والأصل فيه عضد اليد، ثم يوضع موضع العون، لان اليد قوامها العضد. يقال: عضده وعاضده على كذا إذا أعانه وأعزه. ومنه قوله تعالى:" سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ" «1» [القصص: 35] أي سنعينك بأخيك. ولفظ العضد على جهة المثل، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. وقرا أبو جعفر الجحدري:" وَما كُنْتُ" بفتح التاء أي وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضدا. وفي عضد ثمانية أوجه:" عَضُداً" بفتح العين وضم الضاد وهي قراءة الجمهور، وهي أفصحها. و" عضدا" بفتح العين وإسكان الضاد، وهي لغة بني تميم. و" عضدا" بضم العين والضاد، وهي قراءة أبي عمرو والحسن. و" عضدا" بضم العين وإسكان الضاد، وهي قراءة عكرمة. و" عضدا" بكسر العين وفتح الضاد، وهي قراءة الضحاك. و" عضدا" بفتح العين والضاد وهي قراءة عيسى بن عمر. وحكى هارون القارئ" عضدا" واللغة الثامنة" عضدا" على لغة من قال: كتف وفخذ. قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي اذكروا يوم يقول الله: أين شركائي؟ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي. وإنما يقول ذلك لعبدة الأوثان. وقرا حمزة ويحيى وعيسى بن عمر" نقول" بنون. الباقون بالياء، لقوله:" شُرَكائِيَ" ولم يقل: شركاءنا. (فَدَعَوْهُمْ) أي فعلوا ذلك. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا. (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) قال أنس ابن مالك: هو واد في جهنم من قيح ودم. وقال ابن عباس: أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا. وقيل: بين الأوثان وعبدتها، نحو قوله:" فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ 10: 28" «2». (هامش)
__________
(1). راجع ج 1 ص 284.
(2). راجع ج 8 ص 333.

قال ابن الاعرابي: كل شي حاجز بين شيئين موبق، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله تعالى:" مَوْبِقاً" قال واد في جهنم يقال له موبق، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال: يحجز بينهم وبين المؤمنين. عكرمة: هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار. وروى زيد «1» بن درهم عن أنس بن مالك قال:" مَوْبِقاً" (واد من قيح ودم في جهنم). وقال عطاء والضحاك: مهلكا في جهنم، ومنه يقال: أوبقته ذنوبه إيباقا. وقال أبو عبيدة: موعدا للهلاك. الجوهري: وبق يبق وبوقا هلك، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد، ومنه قوله تعالى:" وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً". وفية لغة أخرى: وبق يوبق وبقا. وفية لغة ثالثة: وبق يبق بالكسر فيهما، وأوبقه أي أهلكه. وقال زهير:
ومن يشتري حسن الثناء بماله ... يصن عرضه من كل شنعاء موبق
قال الفراء: جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة. قوله تعالى: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ)" رَأَى" أصله رأي، قلبت الياء ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها، ولهذا زعم الكوفيون أن" رَأَى" يكتب بالياء، وتابعهم على هذا القول بعض البصريين. فأما البصريون الحذاق، منهم محمد بن يزيد فإنهم يكتبونه بالألف. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكل ما كان من ذوات الياء إلا بالألف، ولا فرق بين ذوات الياء وبين [ذوات «2»] الواو في الخط كما أنه لا فرق، بينهما في اللفظ، ولو وجب أن يكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن يكتب ذوات الواو بالواو، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون رمى بالياء رماه بالألف، فإن كانت العلة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء، ثم يكتبون ضحا جمع ضحوة، وكسا جمع كسوة، وهما من ذوات الواو بالياء، وهذا ما لا يحصل ولا يثبت على أصل. (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها)" فَظَنُّوا" هنا بمعنى اليقين والعلم كما قال: «3»
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
__________
(1). في الأصول: يزيد وهو تحريف والتصويب عن (التهذيب).
(2). الزيادة من ك و(إعراب القرآن) للنحاس.
(3). هو دريد بن الصمة، وتمام البيت:
سراتهم في الفارسي المسرد

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

أي أيقنوا، وقد تقدم «1». قال ابن عباس: (أيقنوا أنهم مواقعوها) وقيل: رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها، وظنوا أنها تأخذهم في الحال. وفي الخبر: (إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة). والمواقعة ملابسة الشيء بشدة. [وعن علقمة أنه قرأ «2»]:" فظنوا أنهم ملاقوها" أي مجتمعون فيها، واللفف الجمع. (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب. وقال القتبي: معدلا ينصرفون إليه. وقيل: ملجأ يلجئون إليه، والمعنى واحد. وقيل: ولم تجد الأصنام مصرفا للنار عن المشركين.

[سورة الكهف (18): الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
__________
(1). راجع ج 1 ص 375 فما بعد.
(2). الزيادة من تفسير (البحر المحيط).

قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتمل وجهين: [أحدهما [ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية. الثاني ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في" سبحان" «1»، فهو على الوجه الأول زجر، وعلى الثاني بيان. (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) أي جدالا ومجادلة والمراد به النضر بن الحرث وجداله في القرآن وقيل: الآية في أبي بن خلف. وقال الزجاج: أي الكافر أكثر شي جدلا، والدليل على أنه أراد الكافر قوله" وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ". وروي أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول الله له ما صنعت فيما أرسلت إليك فيقول رب آمنت بك وصدقت برسلك وعملت بكتابك فيقول الله له هذه صحيفتك ليس فيها شي من ذلك فيقول يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة فيقال له هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك فيقول ولا أقبلهم يا رب وكيف أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي فيقول الله تعالى هذا اللوح المحفوظ أم الكتاب قد شهد بذلك فقال يا رب ألم تجرني من الظلم قال بلى فقال يا رب لا أقبل إلا شاهدا علي من نفسي فيقول الله تعالى الآن نبعث عليك شاهدا من نفسك فيتفكر من ذا الذي يشهد عليه من نفسه فيختم على فيه ثم تنطق جوارحه بالشرك ثم يخلى بينه وبين الكلام فيدخل النار وإن بعضه ليلعن بعضا يقول لاعضائه لعنكن الله فعنكن كنت أناضل فتقول أعضاؤه لعنك الله أفتعلم أن الله تعالى يكتم حديثا فذلك قوله تعالى:" (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)" أخرجه مسلم بمعناه من حديث أنس أيضا. وفي صحيح مسلم عن علي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرقه وفاطمة [ليلا «2»] فقال: (ألا تصلون) فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول:" وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (قوله تعالى:) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ) أي القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي سنتنا في إهلاكهم
__________
(1). راجع ج 10 ص 264 فما بعد.
(2). من ج.

إي ما منعهم عن الايمان إلا حكمي عليهم بذلك، ولو حكمت عليهم بالايمان آمنوا. وسنة الأولين عادة الأولين في عذاب الاستئصال. وقيل: المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين فحذف. وسنة الأولين معاينة العذاب، فطلب المشركون ذلك، وقالوا" اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1»" [الأنفال: 32] الآية. (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا) «2» نصب على الحال، ومعناه عيانا، قاله ابن عباس. وقال الكلبي: هو السيف يوم بدر. وقال مقاتل: فجأة. وقرا أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي" قُبُلًا" بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كله «3»، جمع قبيل نحو سبيل وسبل. النحاس: ومذهب الفراء أن" قُبُلًا" جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا. ويجوز عنده أن يكون المعنى عيانا. وقال الأعرج: وكانت قراءته" قُبُلًا" معناه جميعا. وقال أبو عمرو: وكانت قراءته" قبلا" ومعناه عيانا. قوله تعالى: (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) أي بالجنة لمن آمن (وَمُنْذِرِينَ) أي مخوفين بالعذاب من الكفر. وقد تقدم. (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) قيل: نزلت في المقتسمين كانوا يجادلون في الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقولون: ساحر ومجنون وشاعر وكاهن كما تقدم «4». ومعنى:" يدحضوا" يزيلوا ويبطلوا واصل الدحض الزلق. يقال: دحضت رجله أي زلقت، تدحض دحضا ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ودحضت حجته دحوضا بطلت، وأدحضها الله. والإدحاض الإزلاق. وفي وصف الصراط: (ويضرب الجسر على جهنم «5» وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم) قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال:" دحض مزلقة" أي تزلق فيه القدم. قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت كما حاد البعير عن الدحض
__________
(1). راجع ج 7 ص 398.
(2). هذه قراءة (نافع) التي كان يقرأ بها المفسر رحمه الله تعالى.
(3). في ك: كأنه.
(4). راجع ج 10 ص 58. [.....]
(5). تحل: تقع ويؤذن فيها وهو (بكسر الحاء) وقيل: (بضمها). النووي.

(وَاتَّخَذُوا آياتِي) يعني القرآن. (وَما أُنْذِرُوا) من الوعيد (هُزُواً) و" ما" بمعنى المصدر أي والإنذار وقيل: بمعنى الذي، أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا، وقد تقدم في" البقرة" «1» بيانه. وقيل: هو قول أبي جهل في الزبد والتمر هذا هو الزقوم وقيل: هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الأولين، وقالوا للرسول:" هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" «2» [الأنبياء: 3]" وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" «3» [الزخرف: 31] و" ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا" «4» [المدثر: 31]. قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها. (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها، فالنسيان هنا بمعنى الترك قيل: المعنى نسي ما قدم لنفسه وحصل من العذاب، والمعنى متقارب. (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) بسبب كفرهم، أي نحن منعنا الايمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم. (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى ) أي إلى الايمان، (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) نزل في قوم معينين، وهو يرد على القدرية قولهم، وقد تقدم معنى هذه الآية في" سبحان" «5» [الاسراء: 1] وغيرها. قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) أي للذنوب. وهذا يختص به أهل الايمان دون الكفرة بدليل قوله:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ" «6» [النساء: 48]." ذُو الرَّحْمَةِ" فيه أربع تأويلات: أحدها- ذو العفو. الثاني- ذو الثواب، وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الايمان دون الكفر. [الثالث ] ذو النعمة. [الرابع ] ذو الهدى، وهو على هذين الوجهين يعم أهل الايمان والكفر، لأنه ينعم في الدنيا على الكافر، كإنعامه على المؤمن. وقد أوضح هداه للكافر كما أوضحه للمؤمن وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر. ومعنى قوله: (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا) أي من الكفر والمعاصي. (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) ولكنه يمهل. (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) أي أجل مقدر يؤخرون إليه، نظيره:" لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ" «7» [الانعام: 67]،" لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ" «8» [الرعد: 38]
__________
(1). راجع ج 3 ص 156 فما بعد.
(2). راجع ص 269 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 16 ص 82.
(4). راجع ج 19 ص 80.
(5). راجع ج 10 ص 271.
(6). راجع ج 5 ص 245.
(7). راجع ج 7 ص 11.
(8). راجع ج 9 ص 328.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)

أي إذا حل لم يتأخر عنهم إما في الدنيا وإما في الآخرة. (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) أي ملجأ، قاله ابن عباس وابن زيد، وحكاه الجوهري في الصحاح. وقد وأل يئل وألا ووءولا على فعول أي لجأ، وواءل منه على فاعل أي طلب النجاة. وقال مجاهد: محرزا. قتادة: وليا. وأبو عبيدة: منجى. وقيل: محيصا، والمعنى واحد. والعرب تقول: لا وألت نفسه أي لا نجت، ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خليتها ... للعامريين ولم تكلم
وقال الأعشى:
وقد أخالس رب البيت غفلته ... وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو. قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ)" تِلْكَ" في موضع رفع بالابتداء." الْقُرى " نعت أو بدل. و" أَهْلَكْناهُمْ" في موضع الخبر محمول على المعنى، لان المعنى أهل القرى. ويجوز أن تكون" تِلْكَ" في موضع نصب على [قول «1»] من قال: زيدا ضربته، أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم، نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط أهلكناهم لما ظلموا وكفروا. (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) «2» أي وقتا معلوما لم تعده. و" مهلك" من أهلكوا. وقرا عاصم:" مهلكهم" بفتح الميم واللام وهو مصدر هلك. وأجاز الكسائي والفراء" لمهلكهم" بكسر اللام وفتح الميم. النحاس: [قال الكسائي ] «3» وهو أحب إلي لأنه من هلك. الزجاج: [مهلك «4»] اسم للزمان والتقدير: لوقت مهلكهم، كما يقال: أتت الناقة على «5» مضربها.

[سورة الكهف (18): آية 60]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)
__________
(1). الزيادة من (إعراب القرآن) للنحاس.
(2). هذه قراءة الجمهور كما في البحر وغيره.
(3). من ك.
(4). من ك.
(5). ضرب الجمل الناقة يضربها إذا نزا عليها وأتت الناقة على مضربها: أي على الزمن والوقت الذي ضربها الفحل فيه جعلوا الزمان كالمكان. [.....]

فيه أربه مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ) 60 الجمهور من العلماء واهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره. وقالت فرقة منها نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى ابن عمران. وقد رد هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره. وفتاه: هو يوشع بن نون. وقد مضى ذكره في" المائدة" «1» وآخر" يوسف" «2». ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون. (لا أَبْرَحُ) 60 أي لا أزال أسير، قال الشاعر: «3»
وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقا مجيدا
وقيل:" لا أَبْرَحُ 60" لا أفارقك. (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) 60 أي ملتقاهما. قال قتادة: وهو بحر فارس والروم، وقاله مجاهد. قال ابن عطية: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجمع البحرين على هذا القول. وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم. وقيل: مجمع البحرين عند طنجة، قاله محمد بن كعب. وروي عن أبي بن كعب: أنه بإفريقية. وقال السدي: الكر والرس «4» بأرمينية. وقال بعض أهل العلم: هو بحر الأندلس من البحر المحيط، حكاه النقاش، وهذا مما يذكر كثيرا. وقالت فرقة: إنما هما موسى والخضر، وهذا قول ضعيف، وحكي عن ابن عباس، ولا يصح، فإن الامر بين من الأحاديث أنه إنما وسم «5» له بحر ماء. وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن موسى عليه السلام قام خطيبا
__________
(1). راجع ج 6 ص 130 فما بعد.
(2). راجع ج 9 ص 270 فما بعد.
(3). هو خداش بن زهير يقول: لا أزال أجنب فرسي جوادا ويقال: إنه أراد قولا يستجاد في الثناء على قومي وفي (اللسان): (على الاعداء) يدل (بحمد الله).
(4). الكر والرس: نهران.
(5). في ج وك: إنما رسم له بحرتا.

في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم) وذكر الحديث، واللفظ للبخاري. وقال ابن عباس: (لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكرهم بأيام الله، فخطب قومه فذكرهم ما آتاهم الله من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، واستخلفهم في الأرض، ثم قال: وكلم الله نبيكم تكليما، واصطفاه لنفسه، وألقى علي «1» محبة منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، فجعلكم أفضل أهل الأرض، ورزقكم العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والتوراة بعد أن كنتم جهالا، فقال له رجل من بني إسرائيل: عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا، فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث الله جبريل: أن يا موسى وما يدريك أين [أضع «2»] علمي؟ بلى! إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك، وذكر الحديث. قال علماؤنا: وقوله في الحديث: (هو أعلم منك) أي بأحكام وقائع مفصلة، وحكم نوازل معينة، لا مطلقا بدليل قول الخضر لموسى: إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه لا تعلمه أنت، وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه واحد منهما ولا يعلمه الآخر، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة، وهمته العالية، لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه: إنه أعلم منك، فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف «3» السبيل، فأمر بالارتحال على كل حال. وقيل له: احمل معك حوتا مالحا في مكتل-- وهو الزنبيل- فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل، فانطلق مع فتاه لما وأتاه، مجتهدا طلبا قائلا:" لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ 60". (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) 60 بضم الحاء والقاف وهو الدهر «4»، والجمع أحقاب. وقد تسكن قافه فيقال حقب. وهو ثمانون سنة. ويقال: أكثر من ذلك. والجمع حقاب. والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وهي السنون.
__________
(1). في ى: عليه.
(2). الزيادة من كتب التفسير.
(3). في ج وك: فكيف.
(4). في البحر: الحقب السنون.

الثانية- في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم وذلك كان دأب السلف الصالح وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام. قال البخاري: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث. الثالثة- قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) 60 للعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدهما- أنه كان معه يخدمه والفتى في كلام العرب الشاب ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم: فتى على جهة حسن الأدب وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يقل أحدكم عبدى ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي) فهذا ندب إلى التواضع، وقد تقدم هذا قي (يوسف) «1». والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم ابن يوسف عليه السلام. ويقال: هو ابن أخت موسى عليه السلام. وقيل: إنما سمى فتى موسى لأنه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرا، وهذا معنى الأول. وقيل: إنما سماه فتى لأنه قام مقام الفتى وهو العبد قال الله تعالى: (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) «2» وقال: (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) 30 «3» قال ابن العربي: فظاهر القرآن يقتضى أنه عبد وفي الحديث: أنه كان يوشع بن نون. وفي (التفسير) أنه ابن أخته وهذا كله مما لا يقطع به والتوقف فيه أسلم. الرابعة- قوله تعالى: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) 60 قال عبد الله بن عمر: والحقب ثمانون سنة. مجاهد: سبعون خريفا. قتادة: زمان، النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطا وقوما مبهم غير محدود: وجمعه أحقاب.
__________
(1). راجع ج 9 ص 194 وص 176 وص 222.
(2). راجع ج 9 ص 194 وص 176 وص 222.
(3). راجع ج 9 ص 194 وص 176 وص 222.

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)

[سورة الكهف (18): الآيات 61 الى 65]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)
قوله تعالى: (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) الضمير في قوله:" بَيْنِهِما" للبحرين، قاله مجاهد. والسرب المسلك، قاله مجاهد [أيضا] «1». وقال قتادة: جمد الماء فصار كالسرب. وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر. وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر وقوله:" نَسِيا حُوتَهُما" وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل: المعنى، نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى:" يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ" «2» [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح، وقوله:"امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ 130
" «3» وإنما الرسل من الانس لا من الجن. وفي البخاري: فقال لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كبيرا، فذلك قوله عز وجل:" وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ 60" يوشع بن نون- ليست عن سعيد «4»- قال: فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان «5» إذ تضرب «6» الحوت وموسى نائم
__________
(1). من ك.
(2). راجع ج 17 ص 161. [.....]
(3). راجع ج 7 ص 85.
(4). أي قال ابن جريج- هو أحد رواة الحديث- ليست تسمية الفتى عن سعيد بن جبير. (قسطلاني).
(5). ثريان: يقال مكان ثريان وأرض ثريا إذا كان في ترابهما بلل وندى.
(6). تضرب: اضطرب وتحرك إذ حيي في المكمل.

فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا أستيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر، قال لي عمرو «1»: هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما (. وفي رواية. وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار [عليه «2»] مثل الطاق «3»، فلما أستيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه:" آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً" ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه:" أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ" (. وقيل: إن النسيان كان منهما لقوله تعالى:" نَسِيا" فنسب النسيان إليهما، وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى لأنه الذي أمر به، فلما مضيا كان فتاه هو الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا (فَلَمَّا جاوَزا) يعني الحوت هناك منسيا- أي متروكا- فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين وهو الصخرة، فقد كان موسى شريكا في النسيان لان النسيان التأخير، من ذلك قولهم في الدعاء: أنسأ الله في أجلك. فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت. قوله تعالى: (آتِنا غَداءَنا) فيه مسألة واحدة، وهو اتخاذ الزاد في الاسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار «4»، الذين يقتحمون المهامة والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار، هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد. وفي صحيح البخاري: إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى" وَتَزَوَّدُوا" وقد مضى هذا في" البقرة" «5». واختلف في زاد موسى ما كان، فقال ابن عباس: كان حوتا مملوحا في زنبيل، وكانا يصيبان منه غداء وعشاء، فلما انتهيا إلى
__________
(1). أي قال ابن جريج قال لي عمرو ... إلخ.
(2). من ج وك وى.
(3). الطاق: عقد البناء.
(4). الأغمار جمع غمر (بالضم): وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور.
(5). راجع ج 2 ص 411 فما بعد.

الصخرة على ساحل البحر، وضع فتاه «1» المكتل، فأصاب الحوت جري البحر فتحرك الحوت في المكتل، فقلب المكتل وانسرب الحوت، ونسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى. وقيل: إنما كان الحوت دليلا على موضع الخضر لقوله في الحديث: (أحمل معك حوتا في مكتل فحيث فقدت الحوت فهو ثم) على هذا فيكون تزودا شيئا آخر غير الحوت، وهذا ذكره شيخنا الامام أبو العباس وأختاره. وقال ابن عطية: قال أبي رضي الله عنه، سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم. وقوله: (نَصَباً) أي تعبا، والنصب التعب والمشقة. وقيل: عنى به هنا الجوع، وفي هذا دليل على جواز الاخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض، وأن ذلك لا يقدح في الرضا، ولا في التسليم للقضاء لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا سخط. وفى قوله: (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) أن مع الفعل بتأويل المصدر، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في" أَنْسانِيهُ" وهو بدل الظاهر من المضمر، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وفي مصحف عبد الله" وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان". وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، فقال: ما كلفت كبيرا، فاعتذر بذلك القول. قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى، أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس. ويحتمل أن يكون قوله:" وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ" تمام الخبر، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه:" عَجَباً" لهذا الامر. وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الأيسر ثم حي بعد ذلك. قال أبو شجاع في كتاب" الطبري": رأيته- أتيت به- فإذا هو شق حوت وعين واحدة، وشق آخر ليس فيه شي. قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شي عليه قشرة رقيقة ليست «2» تحتها شوكه. ويحتمل أن يكون قوله:" وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ" إخبارا من الله تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا، أي تعجب منه. وإما أن يخبر
__________
(1). في ك: صاحبه.
(2). سقط من ك وى: ليست.

عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس. ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية: أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هناك تدعى عين الحياة، ما مست قط شيئا إلا حيي (. وفي التفسير: إن العلامة كانت أن يحيا الحوت، فقيل: لما نزل موسى بعد ما أجهده السفر على صخرة إلى جنبها ماء الحياة أصاب الحوت شي من ذلك الماء فحيي. وقال الترمذي في حديثه قال سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة، ولا يصيب ماؤها شيئا «1» إلا عاش. قال: وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش. وذكر صاحب كتاب" العروس" أن موسى عليه السلام توضأ من عين الحياة فقطرت من لحيته على الحوت قطرة فحيي، والله أعلم. قوله تعالى: (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) «2» أي قال موسى لفتاه أمر «3» الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا له ثم، فرجعا يقصان أثارهما لئلا يخطئا طريقهما. وفي البخاري: فوجدا خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك من سلام؟! من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك؟ قال جئت لتعلمني مما علمت رشدا (، الحديث. وقال الثعلبي في كتاب" العرائس": إن موسى وفتاه وجدا الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو متشح بثوب أخضر فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه فقال: وأنى بأرضنا السلام؟! ثم رفع رأسه واستوى جالسا وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال له موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراك بي ودلك علي «4»، ثم قال: يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل، قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لاتبعك وأتعلم من علمك، ثم جلسا يتحدثان، فجاءت خطافة وحملت بمنقارها من الماء) وذكر الحديث على ما يأتي.
__________
(1). في ك: ميتا.
(2). في الأصول: (نبغي) بالياء وهي قراءة (نافع).
(3). في ك: لما مر الحوت وفقده. [.....]
(4). الذي في كتاب (العرائس) للثعلبي. (فقال أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، قال يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل ... إلخ) ولعل ما هنا زيادة في بعض النسخ.

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)

قوله تعالى: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) العبد هو الخضر عليه السلام في قول الجمهور، وبمقتضى الأحاديث الثابتة. وخالف من لا يعتد بقوله، فقال: ليس صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر. وحكى أيضا هذا القول القشيري، قال: وقال قوم هو عبد صالح، والصحيح أنه كان الخضر، بذلك ورد الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مجاهد: سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء) هذا حديث صحيح غريب. الفروة هنا وجه الأرض، قاله الخطابي وغيره. والخضر نبي عند الجمهور. وقيل: هو عبد صالح غير نبي، والآية تشهد بنبوته لان بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي. وأيضا فان الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي. وقيل: كان ملكا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن. والأول الصحيح، والله أعلم. قوله تعالى: (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) الرحمة في هذه الآية النبوة. وقيل: النعمة. (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أي علم الغيب. ابن عطية: كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها، وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم.

[سورة الكهف (18): الآيات 66 الى 70]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)

قوله تعالى: (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [فيه مسألتان ]: الاولى قوله تعالى:" قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ" هذا سؤال الملاطف، والمخاطب المستنزل «1» المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك ويخف عليك؟ وهذا كما في الحديث: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ؟ وعلى بعض التأويلات يجئ كذلك قوله تعالى:" هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ" [المائدة: 112] حسب ما تقدم بيانه في" المائدة" «2». الثانية- في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضله الله، فالخضر إن كان وليا فموسى أفضل منه، لأنه نبي والنبي أفضل من الولي، وإن كان نبيا فموسى فضله بالرسالة. والله أعلم. و" رُشْداً" مفعول ثان ب"- تُعَلِّمَنِ". (قال) الخضر: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي، لان الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب. وهي معنى قوله: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) والأنبياء لا يقرون على منكر، لا يجوز لهم التقرير. أي لا يسعك السكوت جريا على عادتك وحكمك. وأنتصب" خُبْراً" على التمييز المنقول عن الفاعل. وقيل: على المصدر الملاقي في المعنى، لان قوله:" لَمْ تُحِطْ". معناه لم تخبره، فكأنه قال: لم تخبره خبرا، وإليه أشار مجاهد. والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها. قوله تعالى: (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً) أي سأصبر بمشيئة الله. (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) أي قد ألزمت نفسي طاعتك وقد اختلف في الاستثناء، هل هو يشمل قوله:" وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً" أم لا؟ فقيل: يشمله كقوله:" وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ" «3» [الأحزاب: 35]. وقيل: استثنى في الصبر فصبر، وما استثنى في قوله:" وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً" فاعترض
__________
(1). في ك: المشترك.
(2). راجع ج 6 ص 365.
(3). راجع ج 14 ص 185.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)

وسأل، قال علماؤنا: إنما كان ذلك منه، لان الصبر أمر مستقبل ولا يدرى كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه. ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبا لنا بخلاف فعل المعصية وتركها، فإن ذلك كله مكتسب لنا، والله أعلم. قوله تعالى: (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) 70 أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والاعراض.

[سورة الكهف (18): الآيات 71 الى 73]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)
قوله تعالى: (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) [فيه مسألتان ] الاولى- في صحيح مسلم والبخاري: (فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ [موسى «1»] إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها" لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً". قال: وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وكانت الاولى من موسى نسيانا) قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقر في البحر، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. قال علماؤنا: حرف السفينة طرفها وحرف كل شي طرفه، [ومنه حرف الجبل «2»] وهو أعلاه المحدد. والعلم هنا بمعنى المعلوم، كما قال:
__________
(1). الزيادة من البخاري.
(2). الزيادة من كتب اللغة.

" وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ" «1» [البقرة: 255] أي من معلوماته، وهذا من الخضر تمثيل، أي معلوماتي ومعلوماتك لا أثر لها في علم الله، كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر، وإنما مثل له ذلك بالبحر لأنه أكثر ما يشاهده مما بين أيدينا، وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل والتفهيم، إذ لا نقص في علم الله، ولا نهاية لمعلوماته. وقد أوضح هذا المعنى البخاري فقال: والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر وفي (التفسير) عن أبي العالية: لم ير الخضر حين خرق السفينة غير موسى وكان عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله له أن يريه، ولو رآه القوم لمنعوه من خرق السفينة. وقيل: خرج أهل السفينة إلى جزيرة، وتخلف الخضر فخرق السفينة، وقال ابن عباس: (لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحية، وقال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل! كنت في بني إسرائيل أتلو كتاب الله عليهم غدوة وعشية فيطيعوني! قال له الخضر: يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك؟ قال: نعم. قال: كذا وكذا قال: صدقت، ذكره الثعلبي في كتاب (العرائس). الثانية- في خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرب بعضه. وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض. وقرا حمزة والكسائي:" ليغرق" بالياء" أهلها" بالرفع فاعل يغرق، فاللام على قراءة الجماعة في" لِتُغْرِقَ" لام المآل مثل" لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً" «2». وعلى قراءة حمزة لام كي، ولم يقل لتغرقني، لان الذي غلب عليه في الحال فرط الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم .. (إِمْراً) معناه عجبا، قاله القتبي، وقيل: منكرا، قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة: الامر الداهية العظيمة، وأنشد:
قد لقى الاقران مني نكرا ... داهية دهياء إدا إمرا
وقال الأخفش: يقال أمر أمره يأمر [أمرا «3»] إذا أشتد والاسم الامر.
__________
(1). راجع ج 3 ص 268.
(2). راجع ج 13 ص 252.
(3). الزيادة من كتب اللغة.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)

قوله تعالى: (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) في معناه قولان: أحدهما- يروى عن ابن عباس، قال: هذا من معاريض الكلام. والآخر- أنه نسي فاعتذر، ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره، وقد تقدم، ولو نسى في الثانية لاعتذر.

[سورة الكهف (18): الآيات 74 الى 76]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76)
قوله تعالى: (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) في البخاري قال يعلى قال سعيد: وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين،" قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ" لم تعمل بالحنث «1»، وفي الصحيحين وصحيح الترمذي: ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، قال له موسى:" أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً" قال «2» وهذه أشد من الاولى." قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً". لفظ البخاري. وفي (التفسير): إن الخضر مر بغلمان يلعبون فأخذ بيده «3» غلاما ليس فيهم أضوأ منه، واخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه، فقتله. قال أبو العالية: لم يره إلا موسى، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام.
__________
(1). لأنها لم تبلغ الحلم وهو تفسير لقوله: (زَكِيَّةً) أي أقتلت نفسا زكية لم تعمل الحنث بغير نفس. ولابي ذر: لم تعمل الخبث (بخاء معجمة وموحدة مفتوحتين). قسطلاني كذا في ك.
(2). هو سفيان بن عيينة كما في القسطلاني. وقيل: كانت هذه أشد من الاولى لما فيها من زيادة (لك).
(3). في ك وى: بيد غلام.

قلت: ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة، فإنه يحتمل أن يكون دمغه أولا بالحجر، ثم أضجعه فذبحه، ثم اقتلع رأسه، والله أعلم بما كان من ذلك وحسبك بما جاء في الصحيح. وقرا الجمهور:" زاكية" بالألف. وقرا الكوفيون وابن عامر:" زكية" بغير ألف وتشديد الياء، قيل: المعنى واحد، قاله الكسائي. وقال ثعلب: الزكية أبلغ. قال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب قط والزكية التي أذنبت ثم تابت. قوله تعالى:" غُلاماً" اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا؟ فقال الكلبي: كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الأخرى، فأخذه الخضر فصرعه، ونزع رأسه عن جسده. قال الكلبي: واسم الغلام شمعون. وقال الضحاك: حيسون. وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمي. وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوي. وقال الجمهور: لم يكن بالغا، ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام، فان الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، وتقابله الجارية في النساء. وكان الخضر قتله لما علم من سيره، وأنه طبع كافرا كما في صحيح الحديث، وأنه لو أدرك لا رهق أبويه كفرا، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك، فان الله تعالى الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء، وفي كتاب العرائس: إن موسى لما قال للخضر أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً"- الآية- غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب: كافر لا يؤمن بالله أبدا. وفد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية: «1»
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
وقال صفوان لحسان: «2»
تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر
__________
(1). البيت من قصيدة مدحت بها الحجاج بن يوسف وقبله:
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها

(2). قد كان حسان رضى الله عنه قال شعرا يعرض فيه صفوان بن المعطل ويمن أسلم من العرب من مضر فاعترضه ابن المعطل وضربه بالسيف وقال البيت. (راجع القصة في سيرة ابن هشام). [.....]

وفي الخبر: إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض، ويقسم لأبويه أنه ما فعل، فيقسمان على قسمه، ويحميانه ممن يطلبه، قالوا وقوله:" بِغَيْرِ نَفْسٍ" يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغا عاصيا. قال ابن عباس: كان شابا يقطع الطريق. وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أبي وابن عباس" وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين" والكفر والايمان من صفات المكلفين، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعين أن يصار إليه. والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق. قوله تعالى:" نُكْراً" اختلف الناس أيهما أبلغ" أَمْراً" أو قوله" نُكْراً" فقالت فرقة: هذا قتل بين، وهناك مترقب، ف"- نُكْراً" أبلغ. وقالت فرقة: هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة ف" إِمْراً" أبلغ. قال ابن عطية: وعندي أنهما لمعنيين وقوله:" إمرا" أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم، و" نكرا" بين في الفساد لان مكروهه قد وقع، وهذا بين. قوله: (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) شرط وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء، والتزم للأنبياء. وقوله: (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) يدل على قيام الاعتذار «1» بالمرة الواحدة مطلقا، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع، قاله ابن العربي. ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوم «2» ثلاثة، فتأمله. قوله تعالى: (فَلا تُصاحِبْنِي) كذا قرأ الجمهور أي تتابعني. وقرا الأعرج: (تصحبني) بفتح التاء والباء وتشديد النون. وقرى: (تصحبني) أي تتبعني. وقرا يعقوب: (تصحبني) بضم التاء وكسر الحاء، ورواها سهل عن أبي عمرو قال الكسائي: معناه فلا تتركني أصحبك." قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً" أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي، وقرا الجمهور:" مِنْ لَدُنِّي" بضم الدال، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون، فهي" لدن" اتصلت بها ياء
__________
(1). في ك: الاعذار.
(2). في ك وى: التلوم. ولعله الأشبه.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)

المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه. وقرا أبو بكر عن عاصم" لدني" بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون. وروي عن عاصم" لدني" بضم اللام وسكون الدال، قال ابن مجاهد: وهي غلط، قال أبو علي: هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة. وقرا الجمهور:" عذر". وقرا عيسى:" عذرا" بضم الذال. وحكى الداني «1» أن أبيا روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" عذري" بكسر الراء وياء بعدها. مسألة: أسند الطبري قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دعا لاحد بدأ بنفسه، فقال يوما:" رحمه الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال:" فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً" (. والذي في صحيح مسلم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب) قال: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه: رحمة الله علينا وعلى أخى كذا. وفي البخاري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما). الذمامة بالذال المعجمة المفتوحة، وهو بمعنى المذمة بفتح الذال وكسرها، وهي الرقة والعار من تلك «2» الحرمة: يقال أخذتني منك مذمة ومذمة وذمامة. وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.

[سورة الكهف (18): الآيات 77 الى 78]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)
__________
(1). كذا في ج وك وى. وفي ا: الداراني. وهو غلط.
(2). في ج وك وى: ترك الحرمة.

فيه ثلاث عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لئام" فطافا في المجلس «1» ف"- اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ" يقول: مائل قال:" فَأَقامَهُ" الخضر بيده قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا، ولم يطعمونا،" لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً، قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً" قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما). الثانية- واختلف العلماء في القرية فقيل: هي أبلة، قاله قتادة، وكذلك قال محمد ابن سيرين، وهى أبخل قرية وأبعدها من السماء. وقيل: أنطاكية وقيل: بجزيرة الأندلس، روي ذلك عن أبي هريرة وغيره، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء. وقالت فرقة: هي باجروان وهي بناحية أذربيجان. وحكى السهيلي وقال: إنها برقة. الثعلبي: هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة، واليها تنسب النصارى، وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى. والله أعلم بحقيقة ذلك. الثالثة- كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر، ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء، وفي القرية سألا القوت، وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة، منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا «2» لغيره. قلت: وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه:" آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً" فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع، والله أعلم. وقيل: لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت «3». الرابعة- في هذه الآية دليل على سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال «4» المتصوفة. والاستطعام سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة،
__________
(1). في ك وى: في المجالس.
(2). في ك: متبعا.
(3). في ك: والقوة.
(4). في ك: للجهال من المتصوفة.

بدليل قوله:" فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما" فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا، وينسبوا إلى اللؤم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام. قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء. وقد تقدم القول في الضيافة في" هود" «1» والحمد لله. ويعفو الله عن الحريري «2» حيث استخف في هذه الآية وتمجن، وأتى بخطل من القول وزل، فاستدل بها على الكدية «3» والإلحاح فيها، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله، ولا منقصة عليه، فقال:
وإن رددت فما في الرد منقصة ... عليك قد رد موسى قبل والخضر
قلت: وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي شنشنة أدبية، وهفوة سخافية، ويرحم الله السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبا بشيء فإياك أن تلعب بدينك. الخامسة- قوله تعالى: (جِداراً) الجدار والجدر بمعنى، وفي الخبر: (حتى يبلغ الماء الجدر) «4». ومكان جدير بني حواليه جدار، وأصله الرفع. وأجدرت الشجرة طلعت، ومنه الجدري. السادسة- قوله تعالى: (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) أي قرب أن يسقط، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله: (مائل) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور. وجميع الافعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكانهما إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل، وهذا في كلام العرب وأشعارها كثير، فمن ذلك قول الأعشى:
__________
(1). راجع ج 9 ص 64 فما بعد.
(2). هو صاحب المقامات المشهورة والبيت الذي لمح فيه إلى الآية من مقامته (الصعدية)، في ك: تسخف.
(3). الكدية: تكفف الناس.
(4). الحديث في مخاصمة الزبير لرجل من الأنصار في سيول شريج الحرة فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" أراد ما دفع حول المزرعة كالجدار.

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط «1» ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
فأضاف النهي إلى الطعن. ومن ذلك قول الآخر:
يريد الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل
وقال آخر:
إن دهرا يلف شملي بجمل ... لزمان يهم بالإحسان
وقال آخر:
في مهمه فلقت به هاماتها ... فلق الفئوس إذا أردن نصولا
أي ثبوتا في الأرض، من قولهم: نصل السيف إذا ثبت في الرمية، فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفئوس في الأرض، فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج. وقال حسان بن ثابت:
لو أن اللؤم ينسب كان عبدا ... قبيح الوجه أعور من ثقيف
وقال عنترة:
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرة وتحمحم
وقد «2» فسر هذا المعنى بقوله:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

وهذا في هذا المعنى كثير جدا. ومنه قول الناس: إن داري تنظر إلى دار فلان. وفي الحديث: (اشتكت النار إلى ربها). وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن، منهم أبو إسحاق الاسفرايني وأبو بكر محمد بن داود الأصبهاني وغيرهما، فإن كلام الله عز وجل وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين، لأنه يقص الحق كما أخبر الله تعالى في كتابه. ومما احتجوا به أن قالوا: لو خاطبنا الله تعالى بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز
__________
(1). الشطط: الجور والظلم يقول لا ينهى الظالم عن ظلمه إلا الطعن الجائف الذي يغيب فيه الفتل.
(2). أي عنترة وتمام البيت:
ولكان لو علم الكلام مكلمي

[.....]

أيضا، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وهو على الله تعالى محال، قال الله تعالى:" يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ" «1» [النور: 24] وقال تعالى:" وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ 50: 30" «2» [ق: 30] وقال تعالى:" إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً" «3» [الفرقان: 12] وقال تعالى:" تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى 70: 17" «4» [المعارج: 17] و(اشتكت النار إلى ربها) (واحتجت النار والجنة) وما كان مثلها حقيقة، وأن خالقها الذي أنطق كل شي أنطقها. وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر «5» من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه). هذا في الآخرة. وأما في الدنيا، ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الانس وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده) [قال أبو عيسى «6»]: وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب. السابعة- قوله تعالى: (فَأَقامَهُ) قيل: هدمه ثم قعد يبنيه. فقال موسى للخضر:" لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً" لأنه فعل يستحق أجرا. وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ:" فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه" قال أبو بكر: وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول عليه الصلاة والسلام مجرى التفسير للقرآن، وأن بعض الناقلين أدخل [تفسير «7»] قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان، على ما قاله بعض الطاعنين، وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه فقام، وهذا القول هو الصحيح، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والأولياء، وفي بعض الاخبار: إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، فأقامه الخضر
__________
(1). راجع ج 12 ص 210.
(2). راجع ج 17 ص 18.
(3). راجع ج 13 ص 6.
(4). راجع ج 18 ص 286 فما بعد.
(5). ليعذر: بالبناء للفاعل من الاعذار والمعنى: ليزيل الله عذره من قبل نفسه.
(6). الزيادة من صحيح الترمذي.
(7). زيادة يقتضيها السباق. وفي الأصول: (أدخل قرآنا ... إلخ).

عليه السلام أي سواه بيده فاستقام، قاله الثعلبي في كتاب العرائس: فقال موسى للخضر:" لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً" أي طعاما نأكله، ففي هذا دليل على كرامات الأولياء، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر عليه السلام في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة، هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي. وقول تعالى:" وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي" [الكهف: 82] يدل على نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف «1» والأحكام، كما أوحى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول، والله أعلم. الثامنة- واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه، لان في حديث النبي عليه الصلاة والسلام (إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي). قال أبو عبيد القاسم بن سلام: كان أبو عبيدة يقول: الطربال شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة، والبناء المرتفع، قال جرير:
ألوى «2» بها شذب العروق مشذب ... فكأنما وكنت على طربال
يقال منه: وكن يكن إذا جلس، وفي الصحاح: الطربال القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل، وطرابيل الشام صوامعها. ويقال: طربل بوله إذا مده إلى فوق. التاسعة- كرامات الأولياء ثابتة، على ما دلت عليه الاخبار الثابتة، والآيات المتواترة ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد، أو الفاسق الحائد، فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء- على ما تقدم- وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية، على الخلاف. ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال كان نبيا، لان إثبات النبوة لا يجوز بأخبار
__________
(1). كذا في ك وى. وفي اوج وح: التكليف.
(2). ألوى: ذهب بها حيث أراد. شذب العروق: ظاهر العروق لقلة اللحم، من قولهم: رجل مشذب أي خفيف قليل اللحم.

الآحاد، لا سيما وقد روي من طريق التواتر- من غير أن يحتمل تأويلا- بإجماع الامة قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نبي بعدي) وقال تعالى:" وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ 40" «1» [الأحزاب: 40] والخضر و[إلياس «2»] جميعا باقيان مع هذه الكرامة، فوجب أن يكونا غير نبيين، لأنهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده. قلت: [الجمهور أن [ «3» الحضر كان نبيا- على ما تقدم- وليس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، أي يدعي النبوة بعده ابتداء الله أعلم. العاشرة- اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا؟ على قولين: أحدهما- أنه لا يجوز، وأن ما يظهر على يديه يجب أن يلاحظه بعين خوف المكر، لأنه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له، وقد حكي عن السري أنه كان يقول: لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به، ولأنه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف، وحصل له الأمن. ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة، كما قال عز وجل:" تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا 30" «4» [فصلت: 30] ولان الولي من كان مختوما له بالسعادة، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالخواتيم). القول الثاني- أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي، ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام يجوز أن يعلم أنه ولي، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم «5» أنه ولي الله تعالى، فجاز له أن يعلم ذلك. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم، بل كانوا أكثر تعظيما لله انه سبح وتعالى، وأشد خوفا وهيبة، فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم. وكان الشبلي يقول: أنا أمان هذا الجانب، فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم، واستولوا على بغداد، ويقول الناس: مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم. ولا يقال: إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لأنه
__________
(1). راجع ج 14 ص 196.
(2). في الأصول: (دانيال) وهو تحريف.
(3). من ج وك وى.
(4). راجع ج 15 ص 357.
(5). في ك وى: أن يعرفه. [.....]

لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي الله، لجواز أن يكون ذلك استدراجا، فلما لم يجز ذلك لان فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا، لان فيه إبطال الكرامات. وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله:" فَانْسَلَخَ مِنْها" «1» [الأعراف: 175] فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية. وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم، والله أعلم. والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار، والمعجزة من شرطها الإظهار. وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك. وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة، والحمد لله تعالى وحده لا شريك له. وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات، فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة رهط سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري «2» وهو جد «3» عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهداة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجوا إلى فدفد «4»، وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما فو الله لا أنزل اليوم في ذمة الكافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموا بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، وهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة ورجل آخرا «5»، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر! والله لا أصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة- يريد القتلى- فجزروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، فانطلقوا بخبيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحرث بن
__________
(1). راجع ج 7 ص 319
(2). وقيل: أمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي
(3). قال القسطلاني: هذا وهم، وإنما هو خال عاصم لان أم عاصم جميلة بنت ثابت
(4). فدفد: رابية مشرفة
(5). الرجل الآخر هو عبد الله بن طارق

عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا، فأخبر عبيد الله بن عياض أن بنت الحرث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، [قالت [ «1»: ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل ] من [ «2» قطف عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله تعالى خبيبا، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: دعوني أركع ركعتين، فتركوه فركع ركعتين ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت «3»، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله بنو الحرث، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا، فاستجاب الله تعالى لعاصم يوم أصيب، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه خبرهم وما أصيبوا. وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر «4» فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا. وقال ابن إسحاق في هذه القصة: وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد «5»، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه «6» الخمر فمنعهم الدبر، فلما حالت بينه وبينهم قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث الله تعالى الوادي فاحتمل عاصما فذهب، وقد كان عاصم أعطى الله تعالى عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته، فمنعه الله تعالى بعد وفاته مما امتنع منه في حياته. وعن عمرو بن أمية الضمري:
__________
(1). من ج وك وى.
(2). من ج وى.
(3). في ك: لطولتهما.
(4). الدبر: الزنابير أو ذكور النحل.
(5). في ج وى: الشهيد.
(6). القحف: الجمجمة.

وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه عينا وحده فقال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته، فوقع في الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم ألتفت فكأنما ابتلعته الأرض. وفي رواية أخرى زيادة: فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة، ذكره البيهقي. الحادية عشرة- ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها وجهه «1» وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فافرغ ماءه في حرة «2» فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته «3» فقال يا عبد الله ما أسمك قال فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له يا عبد الله لم سألتني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وارد فيها ثلثه) وفي رواية (وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل). قلت: وهذا الحديث لا يناقضه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا) خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن، فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال، قال عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح). وقد أكثر الناس في كرامات الأولياء وما ذكرناه فيه كفاية، والله الموفق للهداية. الثانية عشرة- قوله تعالى:" لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً" فيه دليل على صحة جواز الإجارة، وهى سنة الأنبياء والأولياء على ما يأتي بيانه في سورة" القصص" «4» إن شاء الله تعالى. وقرا الجمهور" لاتخذت" وأبو عمرو" لتخذت" وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة، وهما
__________
(1). من ج وك وى. وهذا أشبه.
(2). حرة: أرض ذات حجارة سود. والشرجة: طريق الماء ومسيله.
(3). المسحاة: المجرفة من الحديد. [.....]
(4). راجع ج 13 ص 267.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

لغتان بمعنى واحد من الأخذ، مثل قولك: تبع واتبع، وتقى واتقى. وأدغم بعض القراء الذال في التاء، ولم يدغمها بعضهم. وفي حديث أبي بن كعب: لو شئت لاوتيت أجرا (. وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض، فعند ذلك قال له الخضر:" هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ" بحكم ما شرطت على نفسك. وتكريره" بَيْنِي وَبَيْنِكَ" وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. قال سيبويه: كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك، أي منا. وقال ابن عباس: وكان قول موسى في السفينة والغلام لله، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شي من الدنيا، فكان سبب الفراق. وقال وهب بن منبه: كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع. الثالثة عشرة- قوله تعالى: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) تأويل الشيء مآله أي قال له: إني أخبرك لم فعلت ما فعلت. وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر: إنها حجة على موسى لا عجبا له. وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم! فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه! فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر!

[سورة الكهف (18): الآيات 79 الى 82]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

قوله تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) استدل بهذا من قال: إن المسكين أحسن حالا من الفقير، وقد مضى هذا المعنى مستوفي في سورة" براءة" «1». وقد وقيل: إنهم كانوا تجارا ولكن من حيث هم مسافرون على قلت «2» في لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عبر عنهم بمساكين، إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها، وهذا كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب: مسكين. وقال كعب وغيره: كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى، وخمسة يعملون في البحر. وقيل: كانوا سبعة لكل واحد منهم زمانة ليست بالآخر. وقد ذكر النقاش أسماءهم، فأما العمال منهم فأحدهم كان مجذوما، والثاني أعور، والثالث أعرج، والرابع آدر، والخامس محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم، والخمسة الذين لا يطيقون العمل: أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون، وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم، ذكره الثعلبي. وقرأت فرقة:" لمساكين" بتشديد السين، واختلف في ذلك فقيل: هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل السفينة، وكل الخدمة تصلح لامساكه فسمى الجميع مساكين. وقالت فرقة: أراد بالمساكين دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك. والأظهر قراءة:" مساكين" بالتخفيف جمع مسكين، وأن معناها: إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم. والله أعلم. قوله تعالى: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أي أجعلها ذات عيب، يقال: عبت الشيء فعاب إذا صار ذا عيب، فهو معيب وعائب. وقوله: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) قرأ ابن عباس وابن جبير: (صحيحة) وقرا أيضا ابن عباس وعثمان بن عفان (صالحة). و(وراء) أصلها بمعنى خلف، فقال بعض المفسرين: إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه. والأكثر على أن معنى (وراء) هنا أمام، يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير" وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا". قال ابن عطية:" وراءهم" هو عندي على بابه، وذلك
__________
(1). راجع ج 8 ص 168 فما بعد.
(2). من ج وك وى: أي على شرف هلاك أو خوف. في ط الاولى قلة وليست بصواب.

أن هذه الألفاظ إنما تجئ مراعى بها الزمان وذلك أن الحدث «1» المقدم الموجود هو الامام، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها: إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصب هذا الملك، ومن قرأ" أمامهم" أراد في المكان، أي كأنهم يسيرون إلى بلد، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) «2» يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمان، وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ، ووقع لقتادة في كتاب الطبري" وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ" قال قتادة: أمامهم ألا تراه يقول: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ 10" «3» وهي بين أيديهم، وهذا القول غير مستقيم، وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها، قاله الزجاج. قلت: وما اختاره هذا الامام قد سبقه إليه في ذلك ابن عرفة، قال الهروي قال ابن عرفة: يقول القائل كيف قال" من ورائه" وهي أمامه؟ فزعم أبو عبيد وأبو علي قطرب أن هذا من الأضداد، وأن وراء في معنى قدام، وهذا غير محصل، لان أمام ضد وراء، وإنما يصلح هذا] في الأماكن [ «4» والأوقات، كقولك للرجل إذا وعد وعدا في رجب لرمضان ثم قال: ومن ورائك شعبان لجاز وإن كان أمامه، لأنه يخلفه إلى وقت وعده، وأشار إلى هذا القول أيضا القشيري وقال: إنما يقال هذا في الأوقات، ولا يقال للرجل أمامك إنه وراءك، قال الفراء: وجوزه غيره، والقوم ما كانوا عالمين بخبر الملك، فأخبر الله تعالى الخضر حتى عيب السفينة، وذكره الزجاج. وقال الماوردي: اختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقوال: أحدها- يجوز استعمالها بكل حال وفي كل مكان وهو من الأضداد قال الله تعالى:" مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ 10" [الجاثية: 10] أي من أمامهم: وقال الشاعر: «5»
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
__________
(1). في ج وك وى: الحادث المقدم الوجود.
(2). الحديث في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
(3). راجع ج 16 ص 159.
(4). من ج وك وى.
(5). هو سوار بن المضرب.

يعني أمامي. والثاني- أن وراء تستعمل في موضع أمام في المواقيت والأزمان لان الإنسان قد يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها. الثالث- أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما، وهذا قول علي بن عيسى. واختلف في اسم هذا الملك فقيل: هدد بن بدد. وقيل: الجلندى، وقاله السهيلي. وذكر البخاري اسم الملك الآخذ لكل سفينة غصبا فقال: هو [هدد بن بدد والغلام المقتول «1»] اسمه جيسور، وهكذا قيدناه في (الجامع) من رواية يزيد المروزي، وفي غير هذه الرواية حيسور بالحاء وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة: وهي حيسون. وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبا فلذلك عابها الخضر وخرقها، ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه، وقد تقدم. وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله: فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها، فأصلحوها بخشبة، الحديث. وتحصل من هذا الحض على الصبر في الشدائد، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد، وهذا معنى قوله:" وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" «2» [البقرة: 216]. قوله تعالى: (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) 80 جاء في صحيح الحديث: (أنه طبع يوم طبع كافرا) وهذا يؤيد ظاهره أنه غير بالغ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه مع كونه بالغا، وقد تقدم. [هذا المعنى [ «3». قوله تعالى: (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) 80 قيل: هو من كلام الخضر عليه السلام، وهو الذي يشهد له سياق الكلام، وهو قول كثير من المفسرين، أي خفنا (أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) 80، وكان الله قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة. وقيل: هو من كلام الله تعالى وعنه عبر الخضر. قال الطبري: معناه فعلمنا، وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا، وهذا كما كنى عن العلم بالخوف في قوله" إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ" «4» [البقرة: 229]. وحكى أن أبيا قرأ:" فعلم ربك" وقيل: الخشية بمعنى الكراهة، يقال: فرقت بينهما خشية أن
__________
(1). الزيادة من صحيح البخاري.
(2). راجع ج 3 ص 39 وص 137.
(3). من ج وك وى.
(4). الزيادة من صحيح البخاري.

يقتتلا، أي كراهة ذلك. قال ابن عطية: والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين. وقرا ابن مسعود" فخاف ربك" وهذا بين في الاستعارة، وهذا نظير ما وقع في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى وأن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون. و" يُرْهِقَهُما 80" يجشمهما ويكلفهما، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه فيضلا ويتدينا بدينه. قوله تعالى: (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما) قرأ الجمهور بفتح الباء وشد الدال، وقرا عاصم بسكون الباء وتخفيف الدال، أي أن يرزقهما الله ولدا. (خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أي دينا وصلاحا، يقال: بدل وأبدل مثل مهل وأمهل ونزل وأنزل. (وَأَقْرَبَ رُحْماً) قرأ ابن عباس" رحما" بالضم، قال الشاعر:
وكيف بظلم جارية ... ومنها اللين والرحم
الباقون بسكونها، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
يا منزل الرحم على إدريسا ... ومنزل اللعن على إبليسا
واختلف عن أبي عمرو. و" رُحْماً" معطوف على" زَكاةً" أي رحمة، يقال: رحمه رحمة ورحما، والفة للتأنيث، ومذكره رحم. وقيل: إن الرحم هنا بمعنى الرحم، قرأها ابن عباس." وأوصل رحما" أي رحما، وقرا أيضا" أزكى منه". وعن ابن جبير وابن جريج أنهما بدلا جارية، قال الكلبي فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم. قتادة: ولدت أثنى عشر نبيا، وعن ابن جريج أيضا أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملا بغلام مسلم وكان المقتول كافرا. وعن ابن عباس: فولدت جارية ولدت نبيا، وفي رواية: أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيا، وقاله جعفر بن محمد عن أبيه، قال علماؤنا: وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم، ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعا من الأكباد، ومن سلم

للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء. قال قتادة: لقد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما. فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب. قوله تعالى: (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ) هذان الغلامان صغيران بقرينة وصفهما باليتم، واسمهما أصرم وصريم «1». وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتم بعد بلوغ) هذا هو الظاهر. وقد يحتمل أن يبقى عليهما أسم اليتم بعد البلوغ إن كانا يتيمين، على معنى الشفقة عليهما. وقد تقدم «2» أن اليتم في الناس من قبل فقد الأب، وفي غيرهم من الحيوان من قبل فقد الام. ودل قوله:" في المدينة" على أن القرية تسمى مدينة، ومنه الحديث (أمرت بقرية «3» تأكل القرى) وفي حديث الهجرة (لمن أنت) فقال الرجل: من أهل المدينة، يعني مكة. قوله تعالى: (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) اختلف الناس في الكنز، فقال عكرمة وقتادة: كان مالا جسيما وهو الظاهر من اسم الكنز إذ هو في اللغة المال المجموع، وقد مضى القول «4» فيه. وقال ابن عباس: كان علما في صحف مدفونة. وعنه أيضا قال: كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبت لمن يؤمن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وروي نحوه عن عكرمة وعمر مولى غفرة، ورواه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله تعالى: (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دنية «5». وقيل: هو الأب السابع، قاله جعفر بن محمد. وقيل: العاشر فحفظا فيه وإن لم يذكر بصلاح، وكان يسمى كاشحا، قاله مقاتل اسم أمهما دنيا «6»، ذكره النقاش «7». ففيه ما يدل على أن الله تعالى
__________
(1). في ج وك وى: أصيرم.
(2). راجع ج 2 ص 14. [.....]
(3). القرية هي مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى أكلها القرى ما يفتح على أيدي أهلها من المدن ويصيبون من غنائمها.
(4). راجع ج 8 ص 123.
(5). دنية: لحا وهو الأب الأقرب.
(6). في روح المعاني: دهنا.
(7). في ى: النحاس.

يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه. وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته «1»، وعلى هذا يدل قوله تعالى:" إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ" «2» [الأعراف: 196]. قوله تعالى: (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) يقتضي أن الخضر نبي، وقد تقدم الخلاف في ذلك. (ذلِكَ تَأْوِيلُ) أي تفسير. (ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) قرأت فرقة:" تستطيع". وقرا الجمهور:" تَسْطِعْ" قال أبو حاتم: كذا نقرأ كما في خط المصحف. وهنا خمس مسائل: الاولى- إن قال قائل: لم يسمع لفتى موسى ذكر في أول الآية ولا في آخرها، قيل له: اختلف في ذلك، فقال عكرمة لابن عباس: لم يسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال: شرب الفتى من الماء فخلد، واخذه العالم فطبق عليه سفينة «3» ثم أرسله في البحر، وإنها لتموج به فيه إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب منه. قال القشيري: وهذا إن ثبت فليس الفتى يوشع بن نون، فإن يوشع بن نون قد عمر بعد موسى وكان خليفته، والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر. وقال شيخنا الامام أبو العباس: يحتمل أن يكون أكتفي بذكر المتبوع عن التابع والله أعلم. الثانية- إن قال قائل: كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وقال في خرق السفينة:" فأرادت أن أعيبها" فأضاف العيب إلى نفسه؟ قيل له: إنما أسند الإرادة في الجدار إلى الله تعالى لأنها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد ذلك فالذي أعلمه الله تعالى أن يريده. وقيل: لما كان ذلك خيرا كله أضافه إلى الله تعالى وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله:" وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ 80" «4» فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقص ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح، وهذا كما
__________
(1). في هامش ج: ذويه.
(2). راجع ج 7 ص 342.
(3). في ج وك: سفينته.
(4). راجع ج 13 ص 110.

قال «1» تعالى:" بِيَدِكَ الْخَيْرُ" «2» [آل عمران: 26] وأقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع، إذ هو على كل شي قدير، وهو بكل شي خبير. ولا اعتراض بما حكاه عليه السلام عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني) فإن ذلك تنزل في الخطاب وتلطف في العتاب مقتضاه التعريف بفضل ذي الجلال وبمقادير ثواب هذه الأعمال. وقد تقدم هذا المعنى. والله تعالى أعلم. ولله تعالى أن يطلق على نفسه ما يشاء، ولا نطلق نحن إلا ما أذن لنا فيه من الأوصاف الجميلة والافعال الشريفة. جل وتعالى عن النقائص والآفات علوا كبيرا. وقال في الغلام:" فَأَرَدْنا" فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى الله تعالى. والأشد كمال الخلق والعقل. وقد مضى الكلام فيه في" الانعام" «3» والحمد لله. الثالثة- قال شيخنا الامام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء «4» والعامة، وأما الأولياء واهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يزاد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الاكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون. قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب، لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته «5» وكلامه المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى:" اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ
__________
(1). في ج وك وى: قاله.
(2). راجع ج 4 ص 55.
(3). راجع ج 7 ص 134 فما بعد.
(4). كذا في الأصول وهو واضح.
(5). في ج وك وى: رسالاته. [.....]

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" «1» [الحج: 75] وقال تعالى:" اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ" «2» [الانعام: 241] وقال تعالى:" كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ" «3» [البقرة: 213] [الآية «4»] إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شي منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه [هو] «5» حكم الله تعالى وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو ما قاله [رسول الله «6»] عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي) الحديث. الرابعة- ذهب الجمهور من الناس إلى أن الخضر مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقالت فرقة: [إنه [ «7» حي لأنه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الأرض وأنه يحج البيت. قال بن عطية: وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي ابن أبي طالب رضى الله عنه وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. ولو كان الخضر عليه السلام حيا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور، والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره. ومما يقضي بموت الخضر عليه السلام الآن قوله عليه السلام: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد) «8». قلت: إلى هذا ذهب البخاري واختاره القاضي أبو بكر بن العربي، والصحيح القول الثاني وهو أنه حي على ما نذكره. وهذا والحديث خرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله ابن عمر قال صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على
__________
(1). راجع ج 12 ص 98.
(2). هذه قراءة نافع التي كان يقرأ بها المفسر. راجع ج 7 ص 79.
(3). راجع ج 3 ص 30.
(4). من ج وك وى.
(5). من ج وك وى.
(6). من ج وك وى.
(7). من ج وك وى.
(8). الحديث كما في الأصول تصحيحه بما يأتي بعد.

ظهر الأرض أحد) قال ابن عمر: فوهل «1» الناس في مقالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال [رسول الله «2»] عليه الصلاة والسلام: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد) يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ورواه أيضا من حديث جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول قبل أن يموت بشهر: (تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة «3» تأتي عليها مائة سنة) وفي أخرى قال سالم: تذاكرنا أنها (هي مخلوقة يومئذ). وفي أخرى: (ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ). وفسرها عبد الرحمن صاحب السقاية قال: نقص «4» العمر. وعن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث قال علماؤنا: وحاصل ما تضمنه هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أخبر قبل موته بشهر أن كل من كان من بني آدم موجودا في ذلك لا يزيد عمره على مائة سنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من نفس منفوسة) وهذا اللفظ لا يتناول الملائكة ولا الجن إذ لم يصح عنهم أنهم كذلك، ولا الحيوان غير العاقل، لقوله: (ممن هو على ظهر الأرض أحد) وهذا إنما يقال بأصل وضعه على من يعقل، فتعين أن المراد بنو آدم. وقد بين ابن عمر هذا المعنى، فقال: يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ولا حجة لمن استدل به على بطلان قول من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله: (ما من نفس منفوسة) لان العموم وإن كان مؤكد الاستغراق فليس نصا فيه، بل هو قابل للتخصيص. فكما لم يتناول عيسى عليه السلام، فإنه لم يمت ولم يقتل فهو حي بنص القرآن ومعناه، ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة «5»، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام وليس مشاهد للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقد قيل: إن أصحاب الكهف أحياء
__________
(1). وهل إلى الشيء كضرب أي غلط وذهب وهمه إلى خلاف الصواب والمعنى أن الصحابة رضى الله عنهم غلطوا وذهب وهمهم إلى خلاف الصواب في تأويل مقالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان بعضهم يقول: تقوم الساعة عند انقضاء مائة سنة فبين ابن عمر مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ويجوز وهل كتعب.
(2). من ج وى.
(3). منفوسة: مولودة.
(4). في ج وى: بعض العمر.
(5). الجساسة: دابة الأرض التي تخرج آخر الزمان وسميت جساسة لتجسسها الاخبار للدجال.

ويحجون مع عيسى عليه الصلاة والسلام، كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا. وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتاب (العرائس) له: والصحيح أن الخضر «1» نبي معمر محجوب عن الأبصار، وروى محمد بن المتوكل عن [ضمرة بن ربيعة] عن عبد الله ابن [شوذب «2»] قال: الخضر عليه السلام من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان كل عام في الموسم. وعن عمرو بن دينار قال: إن الخضر وإلياس لا يزالان حيين في الأرض ما دام القرآن على الأرض، فإذا رفع ماتا. وقد ذكر شيخنا الامام أبو محمد عبد المعطي ابن محمود بن عبد المعطي اللخمي في شرح الرسالة له للقشيري حكايات كثيرة عن جماعة من الصالحين والصالحات بأنهم رأوا الخضر عليه السلام ولقوه، يفيد مجموعها غلبة الظن بحياته مع ما ذكره النقاش والثعلبي وغيرهما. وقد جاء في صحيح مسلم: (أن الدجال ينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس- أومن خير الناس) الحديث، وفي آخره قال أبو إسحاق: يعني «3» أن هذا الرجل هو الخضر. وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الهواتف: بسند يرفعه «4» إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه لقي الخضر وعلمه هذا الدعاء، وذكر أن فيه ثوابا عظيما ومغفرة ورحمة لمن قاله في أثر كل صلاة، وهو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم من إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك. وذكر أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الدعاء بعينه نحوا مما ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في سماعه من الخضر. وذكر أيضا اجتماع إلياس مع النبي عليه الصلاة والسلام. وإذا جاز بقاء إلياس إلى عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاز بقاء الخضر، وقد ذكر أنهما يجتمعان عند البيت في كل حول، وأنهما يقولان عند افتراقهما: (ما شاء الله ما شاء الله، لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله ما شاء الله ما يكون من نعمة فمن الله ما شاء الله ما شاء الله، توكلت على الله، حسبنا الله ونعم الوكيل) وأما خبر إلياس فيأتي في" الصافات" «5» إن شاء الله تعالى. وذكر أبو عمر
__________
(1). في ج وك: والخضر على جميع الأقوال. [.....]
(2). الزيادة والتصويب من (عقد الجمان) للعينى نقلا عن الثعلبي. وفي ج وك وى: روى محمد بن المتوكل عن ضمرة عن عبد الله بن سوار".
(3). في ج وك وى: يقال
(4). كذا في اوك وفي ج: يوقفه
(5). راجع ج 15 ص 115.

ابن عبد البر في كتاب (التمهيد) عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لما توفي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم أهل البيت" كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ" «1» [أل عمران: 185]- الآية- إن في الله خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. فكانوا يرون أنه الخضر عليه الصلاة السلام. يعني أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. والألف واللام في قوله: (على الأرض) للعهد لا للجنس وهي أرض العرب، بدليل تصرفهم فيها واليها غالبا دون أرض يأجوج ومأجوج، وأقاصي جزر الهند والسند مما لا يقرع السمع اسمه، ولا يعلم علمه. ولا جواب عن الدجال. قال السهيلي: واختلف في اسم الخضر اختلافا متباينا، فعن ابن منبه أنه قال: أيليا ابن ملكان بن فالغ بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح. وقيل: هو ابن عاميل بن سماقحين ابن أريا بن علقما بن عيصو بن إسحاق، وأن أباه كان ملكا، وأن أمه كانت بنت فارس واسمها ألمي، وأنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هنالك وشاه ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فرباه، فلما شب وطلب الملك- أبوه- كاتبا وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، كان ممن أقدم عليه من الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه، فلما استحسن خطه ومعرفته وبحث عن جلية أمره عرف أنه ابنه «2» فضمه لنفسه «3» وولاه أمر الناس ثم إن الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها، فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى. وقيل: لم يدرك زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا لا يصح. وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إنه مات قبل انقضاء المائة، من قوله عليه الصلاة والسلام: (إلى رأس مائة عام لا يبقى على هذه الأرض ممن هو عليها أحد) يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة.
__________
(1). راجع ج 4 ص 297.
(2). في ج: عرف اسمه.
(3). في ك: إلى نفسه.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)

قلت: قد ذكرنا هذا الحديث والكلام عليه، وبينا حياة الخضر إلى الآن، والله أعلم. الخامسة- قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني، قال: كن بساما ولا تكن ضحاكا، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران.

[سورة الكهف (18): الآيات 83 الى 91]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) قال ابن إسحاق: وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شي من الخلق. قال ابن إسحاق: حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان [رجلا «1»] من أهل مصر اسمه مرزبان ابن مردبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح. قال ابن هشام: واسمه الإسكندر
__________
(1). من ج وك وى.

وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه. قال ابن إسحاق: وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي- وكان خالد رجلا قد أدرك الناس- أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن ذي القرنين فقال: (ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب). وقال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول يا ذا القرنين، فقال: [عمر «1»] اللهم غفرا «2» أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة! فقال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان؟ أقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك أم لا؟ والحق ما قال. قلت: وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مثل قول عمر، سمع رجل يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال علي: أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة! وعنه أنه عبد ملك (بكسر اللام) صالح نصح الله فأيده. وقيل: هو نبي مبعوث فتح الله تعالى على يديه الأرض. وذكر الدارقطني في كتاب الاخبار أن ملكا يقال له رباقيل «3» كان ينزل على ذي القرنين، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة، وينقصها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة «4»، فيما ذكر بعض أهل العلم. وقال السهيلي: وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها، كما أن قصة خالد ابن سنان في تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها، وهو مالك عليه السلام وعلى جميع الملائكة أجمعين. ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته، وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها: نار الحدثان، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها، فردها خالد ابن سنان فلم تخرج بعد. واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به بذلك اختلافا كثيرا، فأما اسمه فقيل: هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه فيقال: المقدوني. وقيل: اسمه هرمس. ويقال: اسمه هرديس. وقال ابن هشام: هو الصعب
__________
(1). من ج وك وى.
(2). في ج: عفوا.
(3). كذا في الأصول وفي قصص الأنبياء الثعلبي (رفائيل) وفي الدر المنثور (زرافيل).
(4). الساهرة: أرض يجددها الله يوم القيامة.

ابن ذي يزن الحميري من ولد وائل بن حمير، وقد تقدم قول ابن إسحاق. وقال وهب بن منبه: هو رومي. وذكر الطبري حديثا عن النبي عليه الصلاة والسلام أن ذا القرنين شاب من الروم. وهو حديث واهي السند، قاله ابن عطية. قال السهيلي: والظاهر من علم الاخبار أنهما اثنان: أحدهما- كان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال: إنه الذي قضى لإبراهيم عليه السلام حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام. والآخر: أنه كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام. وقيل: إنه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم عليه السلام، أو قبله بزمان. وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به، فقيل: إنه كان ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما، ذكره الثعلبي وغيره. والضفائر قرون الرأس، ومنه قول الشاعر: «1»
فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وقيل: إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس، فسمي بذلك ذا القرنين. وقيل: إنما سمي بذلك لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا. وقالت طائفة: إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين، أو قرني الشيطان بها. وقال وهب بن منبه: كان له قرنان تحت عمامته. وسأل ابن الكواء عليا رضي الله تعالى عنه عن ذي القرنين انبئا كان أم ملكا؟ فقال: لا ذا ولا ذا، كان عبدا صالحا دعا قومه إلى الله تعالى فشجوه على قرنه، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر، فسمي ذا القرنين. واختلفوا أيضا في وقت زمانه، فقال قوم: كان بعد موسى. وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى وقيل: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل. وكان الخضر عليه السلام صاحب لوائه الأعظم، وقد ذكرناه في" البقرة" «2». وبالجملة فإن الله تعالى مكنه وملكه ودانت له الملوك، فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها
__________
(1). هو عمر بن أبي ربيعة والنزيف: المحموم الذي منع من الماء والسكران. والحشرج: النقرة في الجبل يجتمع فيها الماء فيصفو، والكوز الصغير اللطيف أيضا.
(2). راجع ج 3 ص 289. [.....]

أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر، والكافران نمروذ وبخت نصر، وسيملكها من هذه الامة خامس لقوله تعالى:" لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" «1» [التوبة: 33] وهو المهدي وقد قيل: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه. وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي. وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا. وقيل: لأنه أعطي علم الظاهر والباطن. وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور. وقيل: لأنه ملك فارس والروم. قوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) قال علي رضي الله عنه: (سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل والنهار عليه سواء. وفي حديث عقبة ابن عامر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال: (إن أول أمره كان غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له أنظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه محيطا بها هو البحر وإنما أراد الله تعالى أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الأرض. فعلم الجاهل وثبت العالم) الحديث. قوله تعالى: (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) قال ابن عباس: من كل شي علما يتسبب به إلى ما يريد. وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: من كل شي يحتاج إليه الخلق. وقيل: من كل شي يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الاعداء. واصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شي. (فَأَتْبَعَ سَبَباً) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي:" فأتبع سببا" مقطوعة الالف. وقرا أهل المدينة وأبو عمرو:" فاتبع سببا" بوصلها، أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى، مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله تعالى:" إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ 10" «2» [الصافات: 10] ومنه الاتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح. قال النحاس: وأختار أبو عبيد قراءة
__________
(1). راجع ج 8 ص 128 وص 291. وج 18 ص 86.
(2). راجع ج 15 ص 64.

أهل الكوفة قال: لأنها من السير، وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعه واتبعه إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه، قال أبو عبيد: ومثله،" فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ 60" «1». قال النحاس: وهذا [من «2»] التفريق وإن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل. وقوله عز وجل:" فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ 60" [الشعراء: 60] ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث لما خرج موسى عليه السلام وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر. والحق في هذا أن تبع وأتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وألا يكون. (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) قرأ ابن عاصم وعامر وحمزة والكسائي" حامية" أي حارة. الباقون" حمئة" أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء، تقول: حمات البئر حمأ (بالتسكين) إذا نزعت حماتها. وحميت البئر حمأ (بالتحريك) كثرت حماتها. ويجوز أن تكون" حامية" من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء. وقد يجمع بين القراءتين فيقال: كانت حارة وذات حمأة. وقال عبد الله بن عمرو: نظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشمس حين غربت، فقال: (نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض). وقال ابن عباس: أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ"، وقال معاوية: هي" حامية" فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فأنا مع أمير المؤمنين، فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا: يا كعب كيف تجد هذا في التوراة؟ فقال: أجدها تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس. وقال الشاعر وهو تبع اليماني:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد «3»
الخلب: الطين. والثأط: الحمأة. والحرمد: الأسود. وقال القفال قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا حتى وصل إلى جرمها ومسها، لأنها تدور
__________
(1). راجع ج 13 ص 105.
(2). من ك.
(3). حرمد (بالفتح والكسر) كجعفر وزبرج.

مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ولهذا قال:" وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً 90" ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد «1» أنهم أول من تطلع عليهم. وقال القتبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم. (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) أي عند العين، أو عند نهاية العين، وهم أهل جابرس، ويقال لها بالسريانية: جرجيسا، يسكنها قوم من نسل ثمود «2» بقيتهم الذين آمنوا بصالح، ذكره السهيلي. وقال وهب ابن منبه: (كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله تعالى: يا ذا القرنين! إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الأرض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول الأرض كله، وأمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والانس ويأجوج ومأجوج، فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل، وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تأويل. فقال ذو القرنين: إلهي! قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم؟ وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة؟ فقال الله تعالى: سأظفرك بما حملتك، أشرح لك صدرك فتسمع كل شي، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شي، وألبسك الهيبة فلا يروعك شي، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك. فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الامة التي عند مغرب الشمس، لأنها
__________
(1). في ك: المراد.
(2). في ك: هود. ولعله خطأ من الناسخ.

كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوه وبأسا لا يطيقه إلا الله. وألسنة مختلفة، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى الله تعالى بصوت واحد: إنا آمنا، فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا، ثم أنطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه، والنور أمامه يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الامة التي في قطر الأرض الأيمن وهي هاويل، وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، ففرغ منهم، واخذ جيوشهم وأنطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الاولى، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تأويل، وهي الامة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض، ففعل فيها كفعله فيما قبلها، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الانس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت له أمة صالحة من الانس: يا ذا القرنين! إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى كثيرا ليس لهم عدد، وليس فيهم مشابهة من الانس، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله تعالى في الأرض، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، فإن طالت المدة

فسيملئون الأرض، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟ ذكر الحديث، وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية. قوله تعالى: (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) قال القشيري أبو نصر: إن كان نبيا فهو وحي، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله تعالى. (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) قال إبراهيم بن السرى: خيره بين هذين كما خير محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" «1» [المائدة: 42] ونحوه. وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى أن الله تعالى خيره بين هذين الحكمين، قال النحاس: ورد علي بن سليمان عليه قوله، لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل:" ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ"؟ وكيف يقول:" فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ" فيخاطبه بالنون؟ قال: التقدير، قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر النحاس: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شي. أما قوله:" قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ" فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه:" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" «2» [محمد: 4]، وأما إشكال" فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ" فإن تقديره أن الله تعالى خيره بين القتل في قوله تعالى:" إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ" وبين الاستبقاء في قوله عز وجل:" وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً". قال لأولئك القوم: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي أقام على الكفر منكم، (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أي بالقتل: (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ)
أي يوم القيامة: (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي شديدا في جهنم. (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) أي تاب من الكفر: (وَعَمِلَ صالِحاً) قال أحمد بن يحيى: (إِنَّ) في موضع نصب في (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) قال: ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو، كما قال:
فسيرا فإما حاجة تقضيانها ... وإما مقيل صالح وصديق
(فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم:" فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى " بالرفع على الابتداء
أو بالاستقرار. و" الْحُسْنى " في موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة، أي له جزاء الحسنى عند الله تعالى في الآخرة وهي الجنة، فأضاف الجزاء إلى الجنة، كقوله:
__________
(1). راجع ج 6 ص 182 فما بعد.
(2). راجع ج 16 ص 225 فما بعد.

" حَقُّ الْيَقِينِ" «1» [الواقعة: 95]،" وَلَدارُ الْآخِرَةِ 10" «2» [الانعام: 32]، قاله الفراء. ويحتمل أن يريد ب" الْحُسْنى " الأعمال الصالحة. ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين، أي أعطيته وأتفضل عليه. ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون" الْحُسْنى " في موضع رفع على البدل عند البصريين، وعلى الترجمة عند الكوفيين، وعلى هذا قراءة ابن أبى إسحاق" فله جزاء الحسنى" إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود. وقرا سائر الكوفيين" فله جزاء الحسنى" منصوبا منونا، أي فله الحسنى جزاء. قال الفراء:" جَزاءُ" منصوب على التمييز. وقيل: على المصدر، وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال، أي مجزيا بها جزاء. وقرا ابن عباس ومسروق:" فله جزاء الحسنى" منصوبا غير منون وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل" فله جزاء الحسنى" في أحد الوجهين [في الرفع «3»]. النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ويكون تقديره: فله الثواب جزاء الحسنى. قوله تعالى: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل. (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) 90 وقرا مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام، يقال: طلعت الشمس والكواكب طلوعا ومطلعا. والمطلع والمطلع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري. المعنى: أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس. والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة فهذا معنى قوله تعالى: (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) 90. وقد أختلف فيهم، فعن وهب بن منبه ما تقدم، وأنها أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك، وقاله مقاتل. وقال قتادة: يقال لهما «4»: الزنج وقال الكلبي: هم تارس وهاويل ومنسك، حفاة عراة عماة عن الحق، يتسافدون مثل الكلاب، ويتهارجون تهارج الحمر. وقيل: هم أهل جابلق وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لهم بالسريانية مرقيسا. والذين عند مغرب الشمس هم أهل جابرس «5»، ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، وبين كل بابين فرسخ. ووراء جابلق أمم وهم تافيل «6» وتارس وهم يجاورون يأجوج ومأجوج.
__________
(1). راجع ج 17 ص 232.
(2). راجع ج 10 ص 100
(3). كذا في ك وى.
(4). في ك: إنهم.
(5). في ج: جابرلقا. جابرسا. [.....]
(6). كذا في الأصول. وتقدم تأويل. ولعل هذا تحريف من النساخ.

واهل جابرس وجابلق آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام (مر بهم ليلة الاسراء فدعاهم فأجابوه، ودعا الأمم الآخرين فلم يجيبوه)، ذكره السهيلي وقال: اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورواه الطبري مسندا إلى مقاتل يرفعه، والله أعلم. قوله تعالى: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) 90 أي حجابا يستترون منها عند طلوعها. قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم، يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها. وقال أمية: وجدت رجالا بسمرقند يحدثون الناس، فقال بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا يرينيهم حتى صبحتهم، فوجدت أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى وكان صاحبي يحسن كلامهم، فبتنا بهم، فقالوا: فيم جئتم؟ قلنا: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي على ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي على الماء كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعت أدخلوني سربا لهم، فلما ارتفع النهار وزالت الشمس عن رؤوسهم خرجوا يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس فينضج. وقال ابن جريج: جاءهم جيش مرة، فقال لهم أهلها: لا تطلع الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتى تطلع الشمس. قالوا: ما هذه العظام؟ قالوا: هذه والله عظام جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال فولوا هاربين في الأرض. وقال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا «1» في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم. قلت: وهذه الأقوال تدل على أن لا مدينة هناك. والله أعلم. وربما يكون منهم من يدخل في النهر ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة.
__________
(1). في ك: تهربوا.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

[سورة الكهف (18): الآيات 92 الى 98]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96)
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
قوله تعالى: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. روى عطاء الخراساني عن ابن عباس:" بَيْنَ السَّدَّيْنِ" الجبلين أرمينية وأذربيجان (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) أي من ورائهما: (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا). وقرا حمزة والكسائي:" يفقهون" بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم كلاما. الباقون بفتح الياء والقاف، أي يعلمون. والقراءتان صحيحتان، فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقهون غيرهم. قوله تعالى: (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) أي قالت له أمة من الانس صالحة: (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) قال الأخفش: من همز" يَأْجُوجَ" فجعل الألفين من الأصل يقول: يأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار. قال: ومن لا يهمز ويجعل الألفين زائدتين يقول:" يأجوج" من يججت ومأجوج من مججت وهما غير مصروفين، قال رؤبة:
لو أن يأجوج ومأجوج معا ... وعاد عاد واستجاشوا تبعا

ذكره الجوهري. وقيل: إنما لم ينصرفا لأنهما اسمان أعجميان، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين، علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف والتأنيث. وقالت فرقة: هو معرب من أج وأجج علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث. وقال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فمن همز" يأجوج" فهو على وزن يفعول مثل يربوع، من قولك أجت النار أي ضويت، ومنه الأجيج، ومنه ملح أجاج، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس، وأما" مأجوج" فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة، ويجوز أن يكون فاعولا من مج، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. واختلف في إفسادهم، [فقال [ «1» سعيد بن عبد العزيز: إفسادهم أكل بني آدم. وقالت فرقة: إفسادهم إنما كان متوقعا، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم. وقالت فرقة: إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، والله أعلم. وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم من ولد يافث. روى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان (. وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة الأب لا من جهة الام. وهذا فيه نظر، لان الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل). يعني يأجوج ومأجوج. وقال أبو سعيد: (هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل ذكره القشيري. وقال عبد الله بن مسعود: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن يأجوج ومأجوج، فقال، عليه الصلاة والسلام: (يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف [أمة «2»] كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل
__________
(1). (من ج وك.
(2). الزيادة من الدر المنثور.
(

منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح) قيل: يا رسول الله صفهم لنا. قال: (هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز «1»- شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع- وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبئت المقدس (. وقال علي رضي الله تعالى عنه: وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئاب، وشعور تقيهم الحر والبرد، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، ويحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان، حتى يقولون: ننقبه غدا إن شاء الله تعالى فينقبونه ويخرجون، ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخا بالدم، ثم يهلكهم الله تعالى بالنغف «2» في رقابهم. ذكره الغزنوي. وقال علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده). قلت: وقد جاء مرفوعا من حديث أبي هريرة، خرجه ابن ماجة في السنن قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحقرونه ويخرجون على الناس فينشفون «3» الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم- الذي أحفظ «4»- فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله تعالى عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها) قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم) قال الجوهري:
__________
(1). الأرز: شجر الصنوبر.
(2). النغف (بالتحريك): دود يكون في أنوف الإبل والغنم واحدتها نغفة.
(3). ينشفون الماء: أي ينزحونه.
(4). هذا من كلام الراوي. (هامش ابن ماجة).

شكرت الناقة تشكر شكرا فهي شكره، وأشكر الضرع امتلأ لبنا. وقال وهب بن منبه: رآهم ذو القرنين، وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في مواضع الاظفار وأضراس وأنياب كالسباع، وأحناك كأحناك الإبل، وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكرا، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى. وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. قال السدي: بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك. وقاله قتادة. قلت: وإذا كان هذا فقد نعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الترك كما نعت يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر) في رواية (ينتعلون الشعر) خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. ولما علم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام: (اتركوا الترك ما تركوكم). وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم. وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين- قال ابن يحيى قال أبو معمر وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء (. الغائط المطمئن من الأرض والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة. وبنو قنطوراء هم الترك. يقال: إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ولدت له أولادا جاء من نسلهم الترك.

قوله تعالى: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا «1» فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) استفهام على جهة حسن الأدب." خَرْجاً" أي جعلا. وقرى:" خراجا" والخرج أخص من الخراج. يقال: أد خرج رأسك وخراج مدينتك. وقال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة، ويقع على [مال ] «2» الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة. والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال. والخرج: المصدر. وقوله تعالى: (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي ردما، والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل. وثوب مردم أي مرقع قاله الهروي. يقال: ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي سددتها. والردم أيضا الاسم وهو السد. وقيل: الردم أبلغ من السد إذ السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض. ومنه قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم

«3» أي من قول يركب بعضه على بعض. وقرى" سدا" بالفتح في السين، فقال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد. وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة: ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح. ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرءوا" سَدًّا 10" بالفتح وقبله" بين السدين" بالضم، وهي قراءة حمزة والكسائي. وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح. الثانية- في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون «4» ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه.
__________
(1). قراءة نافع.
(2). من ك.
(3). تمامه:
أم هل عرفت الدار بعد توهم

(4). في ك: ينكلون.

قوله تعالى: (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ" المعنى قال لهم ذو القرنين ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي برجال وعمل منكم بالأبدان «1»، والآلة التي أبني بها الردم وهو السد. وهذا تأييد من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولو كلوه إلى البنيان ومعونته «2» بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج. وقرا ابن كثير وحده:" ما مكنني" بنونين. وقرا الباقون:" ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي". الثانية- في هذه الآية دليل على أن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم التي تفي عليهم، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره، حتى لو أكلتها الحقوق، وأنفذتها المؤن، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم، وعليه حسن النظر لهم، وذلك بثلاثة شروط: الأول: ألا يستأثر عليهم بشيء. الثاني- أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم. الثالث- أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير، وتصريف بتدبير، فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج قال: لست أحتاج إليه وإنما أحتاج إليكم." فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ" أي اخدموا بأنفسكم معي، فان الأموال عندي والرجال عندكم، وراي أن الأموال لا تغني عنهم، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه، فيعود بالأجر عليهم، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى. وضابط الأمور لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك، المال جهرا لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستيثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر. والله تعالى الموفق للصواب. قوله تعالى: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها أمرهم بنقل الآلة، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية التي بغير معنى الهبة، وإنما هو استدعاء للمناولة،
__________
(1). في ج وك: بالأيدي.
(2). في ك: معونتهم. [.....]

لأنه قد ارتبط من قوله: إنه لا يأخذ منهم الخرج فلم يبق إلا استدعاء المناولة، وأعمال الأبدان. و" زُبَرَ الْحَدِيدِ" قطع الحديد. واصل الكلمة الاجتماع، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. وزبرت الكتاب أي كتبته وجمعت حروفه. وقرا أبو بكر والمفضل" ردما ايتوني" من الإتيان الذي هو المجيء، أي جيئوني بزبر الحديد، فلما سقط الخافض انتصب الفعل على نحو قول الشاعر: «1»
أمرتك الخير ...

حذف الجار فنصب الفعل. وقرا الجمهور" زبر" بفتح الباء. وقرا الحسن بضمها، وكل ذلك جمع زبرة وهي القطعة العظيمة منه. قوله تعالى: (حَتَّى إِذا ساوى ) يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه. (بين الصدفين) قال أبو عبيدة: هما جانبا الجبل، وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما. وقاله الزهري وابن عباس، كأنه يعرض عن الآخر، من الصدوف قال، الشاعر:
كلا الصدفين ينفذه سناها ... توقد مثل مصباح الظلام
ويقال للبناء المرتفع: صدف تشبيه بجانب الجبل. وفي الحديث: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي. قال أبو عبيد: الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع. ابن عطية: الصدفان الجبلان المتناوحان «2» ولا يقال للواحد صدف، وإنما يقال: صدفان للاثنين، لان أحدهما يصادف الآخر. وقرا نافع وحمزة والكسائي" الصدفين" بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعمر بن عبد العزيز، وهي اختيار أبي عبيدة لأنها أشهر اللغات. وقرا ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو:" الصدفين" بضم الصاد والدال وقرا عاصم في رواية أبي بكر:" الصدفين" بضم الصاد وسكون الدال، نحو الجرف والجرف. فهو تخفيف. وقرا ابن الماجشون: بفتح الصاد وضم الدال. وقرا قتادة:" بين الصدفين" بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد. وهما الجبلان المتناوحان.
__________
(1). هو عمرو بن معدى كرب الزبيدي والبيت بتمامه:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب

(2). التناوح: التقابل.

قوله تعالى:" قالَ انْفُخُوا" إلى آخر الآية أي على زبر الحديد بالاكيار، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، فذلك قوله تعالى:" حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً" ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه على تلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل فصار جبلا صلدا. قال قتادة: هو كالبرد المحبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. ويروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! إني رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: (كيف رأيته) قال: رأيته كالبرد المحبر، طريقة صفراء وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قد رأيته). ومعنى" حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً" أي كالنار. ومعنى: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي أعطوني قطرا أفرغ عليه، على التقديم والتأخير. ومن قرأ:" ائتوني" فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا. والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب، وأصله من القطر، لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء. وقالت فرقة: القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة منهم ابن الأنباري: الرصاص المذاب. وهو مشتق من قطر يقطر قطرا. ومنه" وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ" «1». قوله تعالى: (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه، لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام. وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا. وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ: وفي عرضه خمسون فرسخ، قاله وهب بن منبه. (وما استطاعوا له نقبا) لبعد عرضه وقوته. وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وعقد وهب بن منبه بيده تسعين- وفي رواية- وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، وذكر الحديث. وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن يأجوج ومأجوج
__________
(1). راجع ج 14 ص 268.
(

يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستخرقونه [غدا «1»] إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس) الحديث وقد تقدم. قوله تعالى:" فَمَا اسْطاعُوا" بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور. وقيل: هي لغة بمعنى استطاعوا. وقيل: بل استطاعوا بعينه كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا: اسطاعوا. وحذف بعضهم منه الطاء فقال: استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة. وقرا حمزة وحده:" فما اسطاعوا" بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها، وهي قراءة ضعيفة الوجه، قال أبو علي: هي غير جائزة «2». وقرا الأعمش" فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا" بالتاء في الموضعين. قوله تعالى: (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) القائل ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم، والقوة عليه، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج. وقرا ابن أبي عبلة" هذه رحمة من ربي". قوله تعالى: (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي يوم القيامة. وقيل: وقت خروجهم. (جعله دكا) أي مستويا بالأرض، ومنه قوله تعالى:" إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا" «3» [الفجر: 21] قال ابن عرفة: أي جعلت مستوية لا أكمة فيها، ومنه قوله تعالى:" جَعَلَهُ دَكًّا" قال اليزيدي: أي مستويا، يقال: ناقة دكاء إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أي جعله مدكوكا ملصقا بالأرض. وقال الكلبي: قطعا متكسرا، قال:
هل غير غاد دك غارا فانهدم
__________
(1). من ك وى. وفي اوح وج: فستحفرونه.
(2). وقال النحاس: لا يقدر أحد أن يتعلق بها، لان السين ساكنة والطاء المدغمة ساكنة، وقال سيبويه: هذا محال.
(3). راجع 20 ص 54.

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

وقال الأزهري: يقال دككته أي دققته. ومن قرأ" دكاء" أراد جعل الجبل أرضا دكاء، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات. قرأ حمزة وعاصم والكسائي" دكاء" بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره: جعله في مثل دكاء، ولا بد من تقدير هذا الحذف. لان السد مذكر فلا يوصف بدكاء. ومن قرأ:" دكا" فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض، ويحتمل أن يكون" جعل" بمعنى خلق. وينصب" دَكَّاءَ" على الحال. وكذلك النصب أيضا في قراءة من مد يحتمل الوجهين.

[سورة الكهف (18): الآيات 99 الى 110]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

قوله تعالى: (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) الضمير في" تَرَكْنا" لله تعالى، أي تركنا الجن والانس يوم القيامة يموج بعضهم في بعض. وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج" يَوْمَئِذٍ" أي وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض. واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض، كالمولهين من هم وخوف، فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض. وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم. قلت: فهذه ثلاثة أقوال أظهرها أوسطها، وأبعدها آخرها، وحسن الأول، لأنه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله تعالى:" فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي". والله أعلم. قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) تقدم في (الانعام) «1». (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) يعني الجن والانس في عرصات القيامة. (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) 100 أي أبرزناها لهم. (يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) 100 (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ) في موضع خفض نعت" للكافرين". (فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) 10 أي هم بمنزلة من عينه مغطاة فلا ينظر إلى دلائل الله تعالى. (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) 10 أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى، فهم بمنزلة من صم. قوله تعالى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) 10 أي ظن. وقرا علي وعكرمة ومجاهد وابن محيصن:" أفحسب" بإسكان السين وضم الباء، أي كفاهم. (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) 10 يعني عيسى والملائكة وعزيرا. (مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) 10 ولا أعاقبهم، ففي الكلام حذف. وقال الزجاج: المعنى، أفحسبوا أن ينفعهم ذلك. (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا) 10. قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا) 10 إلى قوله: (وَزْناً) فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا) 10- الآية- فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة، والمراد هنا الكفر. روى البخاري عن مصعب قال:
__________
(1). راجع ج 7 ص 20 فما بعد.

سألت أبي" قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا 10" أهم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى. وأما اليهود فكذبوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعد يسميهم الفاسقين. والآية معناها التوبيخ، أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غدا، فهم الأخسرون أعمالا، وهم" الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 10" في عبادة من سواي. قال ابن عباس: يريد كفار أهل مكة. وقال علي: هم الخوارج أهل حروراء. وقال مرة: هم الرهبان أصحاب الصوامع (. وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالا فقال له: أنت وأصحابك. قال ابن عطية: ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك:" أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ 10". وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور، وإنما هذه صفة مشركي مكة «1» عبدة الأوثان، وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من هذه «2» الآية. و" أَعْمالًا 10" نصب على التمييز. و" حبطت" قراءة الجمهور بكسر الباء. وقرا ابن عباس:" حبطت" بفتحها «3». الثانية- قوله تعالى: (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) 10 قراءة الجمهور" نُقِيمُ 10" بنون العظمة. وقرا مجاهد: بياء الغائب، يريد فلا يقيم الله عز وجل، وقرا عبيد بن عمير" فلا يقوم" ويلزمه أن يقرأ:" وزن" وكذلك قرأ مجاهد:" فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن". قال عبيد بن عمير: يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة. قلت: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي، وقد ثبت معناه مرفوعا صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) 10. والمعنى أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار. وقال أبو سعيد الخدري: يؤتى بأعمال
__________
(1). في ج: العرب.
(2). في ك وى: من صدر الآية.
(3). في ج: بفتح الباء.

كجبال تهامة فلا تزن شيئا. وقيل: يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة، كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ «1»، والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين). ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم- قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن (وهذا ذم. وسبب ذلك أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره، والدعة والراحة والأمن والاسترسال مع النفس على شهواتها، فهو عبد نفسه لا عبد ربه، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به، وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ" «2» [محمد: 12] فإذا كان المؤمن يتشبه بهم، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الايمان، والقيام بوظائف الإسلام؟! ومن كثر أكله وشربه كثر نهمة وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائما، وليله نائما. وقد مضى في" الأعراف" «3» هذا المعنى، وتقدم فيها ذكر الميزان «4»، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الأعمال فلا معنى للإعادة. وقال عليه الصلاة والسلام حين ضحكوا من حمش «5» ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة: (تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الأرض) فدل هذا على أن الاشخاص توزن، ذكره الغزنوي. قوله تعالى: (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ)" ذلِكَ" إشارة إلى ترك الوزن، وهو في موضع رفع بالابتداء" جَزاؤُهُمْ" خبره و(جَهَنَّمُ) 20 بدل من المبتدإ الذي هو" ذلِكَ" و" ما" في قوله:" بِما كَفَرُوا 10" مصدرية، والهزء الاستخفاف والسخرية، وقد تقدم.
__________
(1). في ك: يوم القيامة.
(2). راجع ج 16 ص 234.
(3). راجع ج 7 ص 191 فما بعد وص 165.
(4). راجع ج 7 ص 191 فما بعد وص 165. [.....]
(5). حمش الساق: دقيقها.

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) 10 قال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأعلاها وأفضلها وأرفعها. وقال أبو أمامة الباهلي: الفردوس سرة الجنة. وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس، فيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها) قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة- أراه قال- وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) وقال مجاهد: والفردوس البستان بالرومية. الفراء: هو عربي. والفردوس حديقة في الجنة. وفردوس اسم روضة دون اليمامة. والجمع فراديس، قال أمية بن أبي الصلت الثقفي:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس والفومان والبصل
والفراديس موضع بالشام. وكرم مفردس أي معرش. (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين. (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا) 10 أي لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها. والحول بمعنى التحويل، قاله أبو علي. وقال الزجاج: حال من مكانه حولا كما يقال: عظم عظما. قال: ويجوز أن يكون من الحيلة، أي لا يحتالون منزلا غيرها. وقال الجوهري: التحول التنقل من موضع إلى وضع، والاسم الحول، ومنه قوله تعالى:" خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا 10". قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) 10 نفد الشيء إذا تم وفرغ، وقد تقدم. (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) 10 أي زيادة على البحر عددا أو وزنا. وفي مصحف أبي" مِداداً 10" وكذلك قرأها مجاهد وابن محيصن وحميد. وانتصب" مَدَداً 10" على التمييز أو الحال. وقال ابن عباس: قالت اليهود لما قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" «1» [الاسراء: 85] قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة، ومن
__________
(1). راجع ج 10 ص 323.

أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزلت:" قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ 10" الآية. وقيل: قالت اليهود إنك أوتيت الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم زعمت أنك لا علم لك بالروح؟! فقال الله تعالى قل وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات الله تعالى قليلة، قال ابن عباس:" لِكَلِماتِ رَبِّي 10" أي مواعظ ربي. وقيل: عنى بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من فرائد الكلمات، ولأنه ينوب منا بها، فجازت العبادة عنها بصيغة الجمع تفخيما، وقال الأعشى:
ووجه نقي اللون صاف يزينه ... مع الجيد لبات لها ومعاصم
فعبر باللبات عن اللبة. وفي التنزيل" نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
" «1» [فصلت: 31] و" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ" «2» [الحجر: 9]" وإنا لنحن نحيي ونميت" «3» [الحجر: 23] وكذلك" إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً 120" «4» [النحل: 120] لأنه ناب مناب أمة. وقيل: أي ما نفدت العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه سبحانه وتعالى. وقال السدي: أي إن كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد صفات الجنة التي هي دار الثواب. وقال عكرمة: لنفد البحر قبل أن ينفد ثواب من قال لا إله إلا الله. ونظير هذه الآية:" وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ" «5» [لقمان: 27]. وقرا حمزة والكسائي:" قبل أن ينفد" بالياء لتقدم الفعل. قوله تعالى: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) 110 أي لا أعلم إلا ما يعلمني الله تعالى، وعلم الله تعالى لا يحصى، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا الله. (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) 110 أي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) 110 قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري قال: يا رسول الله إني أعمل العمل لله تعالى، وأريد به وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه) فنزلت الآية. وقال طاوس قال رجل: يا رسول الله! إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى وأحب أن يرى مكاني فنزلت
__________
(1). راجع ج 15 ص 357.
(2). راجع ج 10 ص 5 وص 18 وص 198.
(3). راجع ج 10 ص 5 وص 18 وص 198.
(4). راجع ج 10 ص 5 وص 18 وص 198.
(5). راجع ج 13 ص 76.

هذه الآية. وقال مجاهد: جاء رجل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله! إني أتصدق واصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يقل شيئا، فأنزل الله تعالى" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً 110". قلت: والكل مراد، والآية تعم ذلك كله وغيره من الأعمال. وقد تقدم في سورة" هود" «1» حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين يقضى عليهم أول الناس. وقد تقدم في سورة" النساء" «2» الكلام على الرياء، وذكرنا من الاخبار هناك ما فيه كفاية. وقال الماوردي وقال جميع أهل التأويل: معنى قوله تعالى:" وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً 110" إنه لا يرائي بعمله أحدا. وروى الترمذي الحكيم رحمه الله تعالى في (نوادر الأصول) قال: حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الواحد ابن زيد عن عبادة بن نسي قال: أتيت شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي، فقلت: ما الذي أبكاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما، إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أرى بوجهك؟ قال: (أمرا أتخوفه على أمتي من بعدي) قلت: ما هو يا رسول الله؟ قال: (الشرك والشهوة الخفية) قلت: يا رسول الله! وتشرك أمتك من بعدك؟ قال: (يا شداد أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراءون بأعمالهم) قلت: [يا رسول الله «3»] والرياء شرك هو؟ قال: (نعم). قلت: فما الشهوة الخفية؟ قال: (يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوات الدنيا فيفطر) قال عبد الواحد: فلقيت الحسن، فقلت: يا أبا سعيد! أخبرني عن الرياء أشرك هو؟ قال: نعم، أما تقرأ" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً 110". وروى إسماعيل بن أسحق قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث عن شهر بن حوشب قال: كان عبادة بن الصامت وشداد
__________
(1). راجع ج 9 ص 14.
(2). راجع ج 5 ص 180 فما بعد.
(3). من ج وك وى.

ابن أوس جالسين، فقالا: إنا نتخوف على هذه الامة من الشرك والشهوة الخفية، فأما الشهوة الخفية فمن قبل النساء. وقالا: سمعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صياما يرائي به فقد أشرك) ثم تلا" فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (. قلت: وقد جاء تفسير الشهوة الخفية بخلاف هذا، وقد ذكرناه في" النساء" «1». وقال سهل بن عبد الله: وسيل الحسن عن الإخلاص والرياء فقال: من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكر قوله تعالى:" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً. 110"" وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا 60" «2» [المؤمنون: 10] الآية، يؤتون الإخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم، وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا، قيل لها: كيف يكون هذا؟ قال: من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله تعالى والدار الآخرة فهو رياء. وقال علماؤنا رضي الله تعالى عنهم: وقد يفضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به، كما يحكى أن طاهر بن الحسين قال لابي عبد الله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فقال يا أبا عبد الله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين. وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك؟! فقال: وأنا مع ذلك صائم. أين هذا من قول الأشعث بن قيس وقد صلى فخفف، فقيل له إنك خففت، فقال: إنه لم يخالطها رياء، فخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، والتصنع من صلاته، وقد تقدم في" النساء" دواء الرياء من قول لقمان، وأنه كتمان العمل. وروى الترمذي الحكيم حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: أنبأنا الحماني قال: أنبأنا جرير عن ليث عن شيخ عن «3» معقل بن يسار قال قال أبو بكر وشهد به على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرك، قال: (هو فيكم أخفى من دبيب النمل
__________
(1). راجع ج 5 ص 181.
(2). راجع ج 12 ص 132.
(3). في ك: قال.
(

وسأدلك على شي إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات (. وقال عمر بن قيس الكندي سمعت معاوية تلا هذه الآية على المنبر" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ 110" فقال: إنها لآخر آية نزلت من السماء. وقال عمر قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أوحى إلي أنه من قرأ" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً 110" رفع له نور ما بين عدن إلى مكة حشوه الملائكة يصلون عليه ويستغفرون له (. وقال معاذ بن جبل قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء) وعن ابن عباس أنه قال له رجل: إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم، فقال: (إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك:" قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي 10" إلى آخر السورة فإن الله تعالى يوقظك متى شئت من الليل (، ذكر هذه الفضائل الثعلبي رضي الله تعالى عنه. وفي مسند الدارمي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش قال: من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقوم من الليل قامها، قال عبدة: فجربناه فوجدناه كذلك. قال ابن العربي: كان شيخنا الطرطوشي الأكبر يقول: لا تذهب بكم الأزمان في مصاولة الاقران، ومواصلة الاخوان، وقد ختم سبحانه وتعالى البيان بقوله:" فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعيادة ربه أحدا".

تفسير سورة مريم عليها السلام
وهي مكية بإجماع. وهي تسعون وثمان آيات ولما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فاهدوا إلى النجاشي، وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله ابن أبي ربيعة، فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعثهما، فبعث رسول الله صلى الله عليه

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم" كهيعص" وقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم" وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ" [المائدة: 82]. وقرا إلى قوله:" الشاهدين" «1». ذكره أبو داود. وفي السيرة، فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شي؟ قال جعفر: نعم، فقال له النجاشي: اقرأه علي. قال: فقرأ" كهيعص" فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم، فقال النجاشي: [إن [ «2» هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا، وذكر تمام الخبر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة مريم (19): الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
__________
(1). راجع ج 6 ص 285 فما بعد. [.....]
(2). من ج وك وى.

قوله تعالى: (كهيعص) تقدم الكلام في أوائل السور «1». وقال ابن عباس في" كهيعص": أن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، ذكره ابن عزيز. القشيري عن ابن عباس، معناه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم بهم، صادق في وعده، ذكره الثعلبي عن الكلبي السدي ومجاهد والضحاك. وقال الكلبي أيضا: الكاف من كريم وكبير وكاف، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، والمعنى واحد. وعن ابن عباس أيضا: هو اسم من أسماء الله تعالى، وعن علي رضي الله عنه هو اسم الله عز وجل وكان يقول: يا كهيعص اغفر لي، ذكره الغزنوي. السدي: هو اسم الله الأعظم الذي سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. وقتادة: هو اسم من أسماء القرآن، ذكره عبد الرزاق عن معمر عنه. وقيل: هو اسم للسورة، وهو اختيار القشيري في أوائل الحروف، وعلى هذا قيل: تمام الكلام عند قوله:" كهيعص" كأنه إعلام باسم السورة، كما تقول: كتاب كذا أو باب كذا ثم تشرع في المقصود. وقرا أبو جعفر هذه الحروف متقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء: وابن عامر وحمزة بالعكس، وأمالهما جميعا الكسائي وأبو بكر وخلف. وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة نافع وغيره. وفتحهما الباقون. وعن خارجة: أن الحسن كان يضم كاف، وحكى غيره أنه كان يضم ها، وحكى إسماعيل بن إسحاق أنه كان يضم يا. قال أبو حاتم: ولا يجوز ضم الكاف ولا «2» الهاء والياء، قال النحاس: قراءة أهل المدينة
__________
(1). راجع ج 1 ص 154 فما بعد.
(2). من ك.

من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في هاويا. وأما قراءة الحسن فأشكلت على جماعة حتى قالوا: لا تجوز، منهم أبو حاتم. والقول فيها ما بينه هرون القارئ، قال: كان الحسن يشم الرفع فمعنى هذا أنه كان يومئ، كما حكى سيبويه أن من العرب من يقول: الصلاة والزكاة يومئ إلى الواو، ولهذا كتبتا «1» في المصحف بالواو. وأظهر الدال من هجاء" ص" نافع وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد، وأدغمها الباقون. قوله تعالى: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا). فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ" في رفع" ذِكْرُ" ثلاثة أقوال، قال الفراء: هو مرفوع ب"- كهيعص"، قال الزجاج: هذا محال، لان" كهيعص" ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا، وقد خبر الله تعالى عنه وعن ما بشر به، وليس" كهيعص" من قصته. وقال الأخفش: التقدير، فيما يقص «2» عليكم ذكر رحمة ربك. والقول الثالث: أن المعنى هذا الذي يتلوه عليكم ذكر رحمة ربك. وقيل:" ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ" رفع بإضمار مبتدإ، أي هذا ذكر رحمة ربك، وقرا الحسن" ذكر رحمت ربك" أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرى" ذكر" على الامر." ورحمة" تكتب ويوقف عليها بالهاء وكذلك كل ما كان مثلها، لا اختلاف فيها بين النحويين. واعتلوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء فرقا بينها وبين الافعال. الثانية- قوله تعالى:" عبده" قال الأخفش: هو منصوب ب"- رَحْمَتِ"." زَكَرِيَّا" بدل منه، كما تقول: هذا ذكر ضرب زيد عمرا، فعمرا منصوب بالضرب، كما أن" عبده" منصوب بالرحمة. وقيل: هو على التقديم والتأخير، معناه: ذكر ربك عبده زكريا برحمة، ف"- عَبْدَهُ" منصوب بالذكر، ذكره الزجاج والفراء. وقرا بعضهم" عبده زكريا" بالرفع، وهي قراءة أبي العالية. وقرا يحيى بن يعمر:" ذكر" بالنصب على معنى هذا القرآن ذكر رحمة عبده زكريا. وتقدمت اللغات والقراءة في" زكريا" في" آل عمران" «3».
__________
(1). من ج وك وفي اوج وى: كتبها.
(2). في ك: نقص.
(3). راجع ج 4 ص 70.

الثالثة- قوله تعالى: (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) مثل قوله:" ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [الأعراف: ( [55) وقد تقدم «1». والنداء الدعاء والرغبة، أي ناجى ربه بذلك في محرابه. دليله قوله:" فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ" «2» [آل عمران: 39] فبين أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة. واختلف في إخفائه هذا النداء، فقيل: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن، ولأنه أمر دنيوي، فإن أجيب فيه نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد. وقيل: مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى. وقيل: لما كانت الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه. وقيل:" خفيا" سرا من قومه في جوف الليل، والكل محتمل والأول أظهر، والله أعلم. وقد تقدم أن المستحب من الدعاء الإخفاء في سورة" الأعراف" وهذه الآية نص في ذلك، لأنه سبحانه أثنى بذلك على زكريا. وروى إسماعيل قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي) وهذا عام. قال يونس بن عبيد: كان الحسن يرى أن يدعو الامام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت، وتلا يونس:" إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا". قال ابن العربي: وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي، والجهر به أفضل، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو به جهرا. قوله تعالى: (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) فيه مسألتان «3»: الاولى- قوله تعالى:" قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ" قرئ" وهن" بالحركات الثلاث أي ضعف. يقال: وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن. وقال أبو زيد يقال: وهن يهن ووهن يوهن. وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن
__________
(1). راجع ج 7 ص 223 فما بعد.
(2). راجع ج 4 ص 74.
(3). كذا في الأصول إلا أنها ثلاث غيرك ففيها مسألتان.

منه. ووحده لان الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. الثانية- قوله تعالى: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أدغم السين في الشين أبو عمرو. وهذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب. والاشتعال انتشار شعاع النار، شبه به انتشار الشيب في الرأس، يقول: شخت وضعفت، وأضاف الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا عليه السلام. و" شَيْباً" في نصبه وجهان: أحدهما- أنه مصدر لان معنى اشتعل شاب، وهذا قول الأخفش. وقال الزجاج: وهو منصوب على التمييز. النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل فالمصدر أولى به. والشيب مخالطة الشعر الأبيض الأسود. الثالثة- قال العلماء: يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع، لان قوله تعالى:" وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي" إظهار للخضوع. وقوله: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته، أي لم أكن بدعائي إياك شقيا، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، أي إنك عودتني الإجابة فيما مضى. يقال: شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وعن بعضهم: أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إليه في وقت كذا، فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا، وقضى حاجته. قوله تعالى: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ" قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي ابن الحسين ويحيى بن يعمر رضي الله تعالى عنهم:" خفت" بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من" الموالي" لأنه في رفع ب" خفت" ومعناه انقطعت [أي «1»] بالموت. وقرا الباقون" خِفْتُ" بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من" الْمَوالِيَ" لأنه
__________
(1). من ج وك.

في موضع نصب ب"- خِفْتُ" و" الْمَوالِيَ" هنا الأقارب بنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب. والعرب تسمي بني العم الموالي. قال الشاعر: «1»
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد. وقالت طائفة: إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده، حكى هذا القول الزجاج، وعليه فلم يسل من يرث ماله، لان الأنبياء لا تورث. وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال، لما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) وفي كتاب أبي داود: (إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم). وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله:" يرثني". الثانية- هذا الحديث يدخل في التفسير المسند، لقوله تعالى:" وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ" «2» وعبارة عن قول زكريا:" فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده، وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب، هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض، وإلا ما روى عن الحسن أنه قال:" يَرِثُنِي" مالا" وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" النبوة والحكمة، وكل قول يخالف قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مدفوع مهجور، قاله أبو عمر. قال ابن عطية: والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال، ويحتمل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنا معشر الأنبياء لا نورث) ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم، فتأمله. والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة. ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بلغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره: قوله" من آل يعقوب" يريد العلم والنبوة.
__________
(1). هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وهو من شعراء بني هاشم في عهد بني أمية.
(2). راجع ج 13 ص 163.

الثالثة- قوله تعالى:" مِنْ وَرائِي" قرأ ابن كثير بالمد والهمز وفتح الياء. وعنه أنه قرأ أيضا مقصورا مفتوح الياء مثل عصاي. الباقون بالهمز والمد وسكون الياء. والقراء على قراءة" خِفْتُ" مثل نمت إلا ما ذكرنا عن عثمان. وهي قراءة شاذة بعيدة جدا، حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز. قال كيف يقول: خفت الموالي من بعدي أي من بعد موتي وهو حي؟!. النحاس: والتأويل لها ألا يعني بقوله:" مِنْ وَرائِي" أي من بعد موتى، ولكن من ورائي في ذلك الوقت، وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفوا في ذلك الوقت وقلوا، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا" أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ" «1». ابن عطية" مِنْ وَرائِي" من بعدي في الزمن، فهو الوراء على ما تقدم في" الكهف" «2». الرابعة- قوله تعالى:" وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً" امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا ابن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا، قاله الطبري. وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في" آل عمران" «3» بيانه. وقال القتبي: امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الاسراء قال عليه الصلاة والسلام: (فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى) شاهدا للقول الأول «4». والله أعلم. والعاقر التي لا تلد لكبر سنها، وقد مضى بيانه في" آل عمران". والعاقر من النساء أيضا التي لا تلد من غير كبر. ومنه قوله تعالى:" وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً 50" «5» [الشورى: 50]. وكذلك العاقر من الرجال، ومنه قول عامر بن الطفيل:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا ... جبانا فما عذري لدى كل محضر
الخامسة- قوله تعالى:" فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا" سؤال ودعاء. ولم يصرح بولد لما علم من حاله وبعده عنه بسبب المرأة. قال قتادة: جرى له هذا الامر وهو ابن بضع وسبعين سنة. مقاتل: خمس وتسعين سنة، وهو أشبه، فقد كان غلب على ظنه انه لا يولد له لكبره، ولذلك قال:" وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا". وقالت طائفة: بل طلب الولد،
__________
(1). راجع ج 4 ص 85 وص 79.
(2). راجع ص 34 وما بعدها من هذا الجزء. [.....]
(3). راجع ج 4 ص 85 وص 79.
(4). المراد بالقول الأول هنا قول القتبي.
(5). راجع ج 16 ص 48.

ثم طلب أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد ولكن يحترم، ولا يتحصل منه الغرض. السادسة- قال العلماء: دعاء زكريا عليه السلام في الولد إنما كان لإظهار دينه، وإحياء نبوته، ومضاعفة لأجره لا للدنيا، وكان ربه قد عوده الإجابة، ولذلك قال:" وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا" أي بدعائي إياك. وهذه وسيلة حسنة، أن يتشفع إليه بنعمه، ويستدر «1» فضله بفضله، يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله، فقال له حاتم: من أنت؟ قال: أنا الذي أحسنت إليه عام أول، فقال: مرحبا بمن تشفع إلينا بنا. فإن قيل كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن؟ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الأنبياء وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى، فإنه تعالى قال:" كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ" [آل عمران: 37] فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته، فقال تعالى:" هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة" «2» [آل عمران: 38] الآية. السابعة- إن قال قائل: هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك، فقال:"نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
" «3» [التغابن: 15]." إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم" «4» [التغابن: 14]. فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدم في" آل عمران" «5» بيانه. ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال: (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) وقال:" وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا". والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة وقد دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنس خادمه فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته) فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة. وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده، ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء، [الأولياء [ «6» وقد تقدم في" آل عمران" «7» بيانه.
__________
(1). في اوج: ويسأله
(2). راجع ج 4 ص 72 فما بعد.
(3). راجع ج 18 ص 140 فما بعد.
(4). راجع ج 18 ص 140 فما بعد.
(5). راجع ج 4 ص 72 فما بعد.
(6). من ج وك وى.
(7). راجع ج 4 ص 72 فما بعد.

قوله تعالى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" يَرِثُنِي" قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة:" يَرِثُنِي وَيَرِثُ" بالرفع فيهما. وقرا يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: بالجزم فيهما، وليس هما جواب" هب" على مذهب سيبويه، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث، والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا، أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حاله وصفته، لان الأولياء منهم من لا يرث، فقال: هب لي الذي يكون وارثي، قاله أبو عبيد، ورد قراءة الجزم، قال: لان معناه إن وهبت ورث، وكيف يخبر الله عز وجل بهذا وهو أعلم به منه؟! النحاس: وهذه حجة متقصاة «1»، لان جواب الامر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة، تقول: أطع الله تعالى يدخلك الجنة، أي إن تطعه يدخلك الجنة. الثانية- قال النحاس: فأما معنى" يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة، قيل: هي وراثة نبوة. وقيل: هي وراثة حكمة. وقيل: هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة فمحال، لان النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبي مرسل. ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن، وفي الحديث (العلماء ورثة الأنبياء). وأما وراثة المال فلا يمتنع، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا نورث ما تركنا صدقة) فهذا لا حجة فيه، لان الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع. وقد يؤول هذا بمعنى: لا نورث الذي تركنا صدقة، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخلف شيئا يورث عنه، وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه:" وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ" [الأنفال: 41] لان معنى" لِلَّهِ" لسبيل الله، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دام حيا، فإن قيل: ففي بعض الروايات (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) ففيه التأويلان جميعا، أن يكون" ما" بمعنى الذي. والآخر لا يورث من كانت هذه حاله. وقال أبو عمر: وأختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: (لا نورث ما تركنا صدقة) على قولين: أحدهما- وهو
__________
(1). في ج وك وى: مستفيضة.

الأكثر وعليه الجمهور- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يورث وما ترك صدقة. والآخر- أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يورث، لان الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره، وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن علية، وسائر علماء المسلمين على القول الأول. الثالثة- قوله تعالى:" مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" قيل: هو يعقوب بن إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب، لأنها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هرون أخي موسى، وهرون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق. وقيل: المعنى بيعقوب ها هنا يعقوب بن ما ثان أخو عمران بن ما ثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام، لان يعقوب وعمران ابنا ما ثان، وبنو ما ثان رؤساء بني إسرائيل، قاله مقاتل وغيره. وقال الكلبي: وكان آل يعقوب أخواله، وهو يعقوب بن ما ثان، وكان فيهم الملك، وكان زكريا من ولد هرون بن عمران أخي موسى. وروى قتادة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يرحم الله- تعالى- زكريا ما كان عليه من ورثته). ولم ينصرف يعقوب لأنه أعجمي. الرابعة- قوله تعالى:" وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا" أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله. وقيل: راضيا بقضائك وقدرك. وقيل: رجلا صالحا ترضى عنه. وقال أبو صالح: نبيا كما جعلت أباه نبيا. قوله تعالى:" يا زَكَرِيَّا" في الكلام حذف، أي فاستجاب الله دعاءه فقال:" يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى " فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء: أحدها- إجابة دعائه، وهي كرامة. الثاني- إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث- أن يفرد بتسميته، وقد تقدم معنى تسميته [بيحيى «1»] في" آل عمران" «2». وقال مقاتل: سماه يحيى لأنه حيي بين أب شيخ وام عجوز، وهذا فيه نظر، لما تقدم من أن امرأته كانت عقيما لا تلد. والله أعلم.
__________
(1). من ج وك.
(2). راجع ج 4 ص 75 فما بعد.

قوله تعالى: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي لم نسم أحدا قبل يحيى بهذا الاسم، قاله ابن عباس وقتادة وابن أسلم والسدي. ومن عليه تعالى بأن لم يكل تسميته إلى الأبوين. وقال مجاهد وغيره:" سَمِيًّا" معناه مثلا ونظيرا، وهو مثل قوله تعالى:" هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا" «1» [مريم: 65] معناه مثلا ونظيرا [وهذا «2»] كأنه من المساماة والسمو، هذا فيه بعد، لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى، اللهم إلا أن يفضل في خاص كالسؤدد والحصر حسب ما تقدم بيانه" في آل عمران" «3». وقال ابن عباس أيضا: معناه لم تلد العواقر مثله ولدا. وقيل: إن الله تعالى اشترط القبل، لأنه أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي هذه الآية دليل وشاهد على أن الأسامي السنع «4» جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنزه عن النبز حتى قال قائل:
سنع الأسامي مسبلي أزر ... حمر تمس الأرض بالهدب
وقال رؤبة للنسابة البكري وقد سأله عن نسبه: أنا ابن العجاج، فقال: قصرت وعرفت. قوله تعالى: (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) 40 ليس على معنى الإنكار لما أخبر الله تعالى به، بل على سبيل التعجب من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير. وقيل: غير هذا مما تقدم في" آل عمران" «5» بيانه. (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) يعني النهاية في الكبر واليبس والجفاف، ومثله العسي، قال الأصمعي: عسا الشيء يعسو عسوا وعساء ممدود أي يبس وصلب، وقد عسا الشيخ يعسو عسيا ولى وكبر مثل عتا، يقال: عتا الشيخ يعتو عتيا وعتيا كبر وولى، وعتوت يا فلان تعتو عتوا وعتيا. والأصل عتو لأنه من ذوات الواو، فابدلوا من الواو ياء، لأنها أختها وهي أخف منها، والآيات على الياءات. ومن قال:" عِتِيًّا" كره الضمة مع الكسرة والياء، وقال الشاعر:
إنما يعذر الوليد ولا يع ... - ذر من كان في الزمان عتيا
__________
(1). راجع ص 130 من هذا الجزء. [.....]
(2). من ج وك.
(3). راجع ج 4 ص 74 وص 79.
(4). الجميلة.
(5). راجع ج 4 ص 74 وص 79.

وقرا ابن عباس" عسيا" وهو كذلك في مصحف أبي. وقرا يحيي بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص:" عِتِيًّا" بكسر العين وكذلك" جثيا" و" صليا" حيث كن. وضم حفص" بكيا" خاصة، وكذلك الباقون في الجميع، وهما لغتان. وقيل:" عتيا" قسيا، يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب. قوله تعالى: (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي قال له الملك" كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ" والكاف في موضع رفع، أي الامر كذلك، أي كما قيل لك:" هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ". قال الفراء: خلقه علي هين. (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل يحيى. وهذه قراءة أهل المدينة والبصرة وعاصم. وقرا سائر الكوفيين" وقد خلقناك" بنون وألف بالجمع على التعظيم. والقراءة الاولى أشبه بالسواد. (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي كما خلقك الله تعالى بعد العدم ولم تك شيئا موجودا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده. قوله تعالى: (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) طلب آية على حملها «1» بعد بشارة الملائكة إياه، وبعد قول الله تعالى:" وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً" زيادة طمأنينة، أي تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة. وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى منه بيحيى لا من الشيطان، لان إبليس أو همه ذلك. قاله الضحاك وهو معنى قول السدي، وهذا فيه نظر لأخبار الله تعالى بأن الملائكة نادته حسب ما تقدم في" آل عمران" «2». (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) 10 تقدم في (آل عمران) «3» بيانه فلا معنى للإعادة. قوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى:" فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ" أي أشرف عليهم من المصلى. والمحراب أرفع المواضع، وأشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما أرتفع من الأرض، دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي. واختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة:
__________
(1). في ج وك: حبلها.
(2). راجع ج 4 ص 80 فما بعد.
(3). راجع ج 4 ص 80 فما بعد.

هو مأخوذ من الحرب كأن (؟ يلازمه) يحارب الشيطان والشهوات. وقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب (بفتح الراء) كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا. الثانية- هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم في صلاتهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الامام أحمد [ابن حنبل «1»] وغيره متمسكا بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الامام. قلت: وهذا فيه نظر، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه «2»، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا- أوينهى عن ذلك! قال: بلى، قد ذكرت حين مددتني. وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم) أو نحو ذلك، فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي. قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائدا في الصلاة، وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما أعتذر به أصحابنا من أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان معصوما من الكبر، لان كثيرا من الأئمة يوجد لا كبر عندهم، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا، والله أعلم. الثالثة- قوله تعالى:" فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا" قال الكلبي وقتادة وابن منبه: أوحى إليهم أشار. القتبي: أومأ «3». مجاهد: كتب على الأرض. عكرمة: كتب في كتاب. والوحي في كلام العرب الكتابة، ومنه قول ذي الرمة:
__________
(1). من ج وك.
(2). في ج: جذبه.
(3). في ج وك: أوصى.

سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها ... بقية وحي في بطون الصحائف
وقال عنترة:
كوحي صحائف من عهد كسرى ... فأهداها لأعجم طمطمي «1»
و" بُكْرَةً وَعَشِيًّا" ظرفان. وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمت، قال: وقد يكون العشي جمع عشية. الرابعة- قد تقدم الحكم في الإشارة في" آل عمران" «2». واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا، أو أرسل إليه رسولا، فقال مالك: إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته، ثم رجع فقال: لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله. قال ابن القاسم: إذا قرأ كتابه حنث، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه. وقال أشهب: لا يحنث إذا قرأه الحالف، وهذا بين، لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم. فإن حلف ليكلمنه لم يبر إلا بمشافهته، وقال ابن الماجشون: وإن حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا بر، ولو علماه جميعا لم يبر، حتى يعلمه لان علمهما مختلف. الخامسة- واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه، قال الكوفيون: إلا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شي. قال الطحاوي: الخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز المأيوس منه الجماع، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة. قوله تعالى: (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) في الكلام حذف، المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود:" يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ". وهذا اختصار يدل الكلام عليه. و" الكتاب" التوراة بلا خلاف." بِقُوَّةٍ" أي بجد واجتهاد، قاله مجاهد. وقيل العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لأوامره، والكف عن نواهيه، قاله زيد بن أسلم، وقد تقدم
__________
(1). الطمطمى: الأعجم الذي لا يفصح.
(2). راجع ج 4 ص 81.

في" البقرة" «1». [قوله تعالى [ «2»: (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) قيل: الأحكام والمعرفة بها. وروى معمر أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقت. فأنزل الله تعالى" وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا". وقال قتادة: كان ابن سنتين أو ثلاث سنين. وقال مقاتل: كان ابن ثلاث سنين. و" صَبِيًّا" نصب على الحال. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا. وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا). وقال قتادة: إن يحيى عليه السلام لم يعص الله ] تعالى [ «3» قط بصغيرة ولا كبيرة ولا هم بامرأة. وقال مجاهد: وكان طعام يحيى عليه السلام العشب، كان للدمع في خديه مجار ثابتة. وقد مضى الكلام في معنى قوله:" وَسَيِّداً وَحَصُوراً" [آل عمران: 39] في" آل عمران" «4». قوله تعالى: (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا)" حنانا" عطف على" الْحُكْمَ". وروي عن ابن عباس أنه قال: والله ما أدري ما" الحنان"؟. وقال جمهور المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة، وهو فعل من أفعال النفس. النحاس: وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان: أحدهما- قال: تعطف الله عز وجل عليه بالرحمة. والقول الآخر ما أعطيه من رحمه الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك «5». وأصله من حنين الناقة على ولدها. ويقال: حنانك وحنانيك، قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: حنانيك تثنية الحنان. وقال أبو عبيدة: والعرب تقول: حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد، تريد رحمتك. وقال امرؤ القيس:
ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان «6»
وقال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال الزمخشري:" حَناناً" رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة، وأنشد سيبويه:
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
__________
(1). راجع ج 1 ص 437.
(2). من ج وك. [.....]
(3). من ك.
(4). راجع ج 4 ص 86.
(5). في ج: الشر.
(6). (حنانك ذا الحنان) معناه: رحمتك يا رحمان. رواية اللسان: ويمنعها.

قال ابن الاعرابي: الحنان من صفة الله تعالى مشددا الرحيم. والحنان مخفف: العطف والرحمة. والحنان: الرزق والبركة. ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في حديث بلال: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا، وذكر هذا الخبر الهروي، فقال: وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذب فقال: والله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا، أي لا تمسحن به. وقال الأزهري: معناه لا تعطفن عليه ولا ترحمن عليه لأنه من أهل الجنة. قلت: فالحنان العطف، وكذا قال مجاهد. و" حَناناً" أي تعطفا منا عليه أو منه على الخلق، قال الحطيئة:
تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
عكرمة: محبة. وحنة الرجل امرأته لتوادهما، قال الشاعر:
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف

قوله تعالى: (وَزَكاةً)" الزكاة" التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر، أي جعلناه مباركا للناس يهديهم. وقيل: المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا. وقيل:" زَكاةً" صدقة به على أبويه، قاله ابن قتيبة. (وَكانَ تَقِيًّا) أي مطيعا لله تعالى، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلم بها. قوله تعالى: (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ)
البر بمعنى البار وهو الكثير البر. و(جَبَّاراً)
متكبرا وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح. قوله تعالى:" وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
" قال الطبري وغيره: معناه أمان. ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان، لان الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله تعالى عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى «1» عظيم الحول.
__________
(1). في ج وك: وعظم الهول.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

قلت: وهذا قول حسن، وقد ذكرنا معناه عن سفيان بن عيينة في سورة" سبحان" «1» [الاسراء: 1] عند قتل يحيى. وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيى التقيا- وهما ابنا الخالة- فقال يحيى لعيسى: ادع الله لي فأنت خير مني، فقال له عيسى: بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني، سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي، فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى، بأن قال: إدلاله التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه. قال ابن عطية: ولكل وجه.

[سورة مريم (19): الآيات 16 الى 26]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
__________
(1). راجع ج 10 ص 220.

قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ)
القصة إلى آخرها. هذا ابتداء قصة ليست من الاولى. والخطاب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. (إِذِ انْتَبَذَتْ)
أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي، قال الله تعالى:" فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ" «1» [آل عمران: 187]. (مِنْ أَهْلِها)
أي ممن كان معها." إِذِ 30
" بدل من" مَرْيَمَ
" بدل اشتمال، لان الأحيان مشتملة على ما فيها. والانتباذ الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت، فقال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله، وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفا على سدانة المعبد «2» وخدمته والعبادة فيه، فتنحت من الناس لذلك، ودخلت المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عليها جبريل عليه السلام. فقوله: (مَكاناً شَرْقِيًّا)
أي مكانا من جانب الشرق. والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شي أفضل من سواها، حكاه الطبري. وحكى عن آبن عباس أنه قال: إني لأعلم الناس لم أتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل:" إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
" فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة، وقالوا: لو كان شي من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوة مريم، فقيل: كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك. وقيل: لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك كما رؤي جبريل [عليه السلام ] في صفة دحية [الكلبي «3»] حين سؤاله عن الايمان والإسلام. والأول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في" أل عمران" «4» والحمد لله. قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا)
قيل: هو روح عيسى عليه السلام، لان الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل: هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه
__________
(1). راجع ج 2 ص 40 وص 305 ج 4.
(2). في ج وك: المتعبد.
(3). من ج وك.
(4). راجع ج 4 ص 83 وما بعدها.

السلام، لقوله: (فَتَمَثَّلَ لَها)
أي تمثل الملك لها. (بَشَراً)
تفسير أو حال. (سَوِيًّا) 10
أي مستوي الخلقة، لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء ف (- قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)
أي ممن يتقي الله. البكالي: فنكص جبريل عليه السلام فزعا من ذكر الرحمن تبارك وتعالى. الثعلبي: كان رجلا صالحا فتعوذت به تعجبا. وقيل: تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه. في البخاري قال أبو وائل: علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت:" إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
". وقيل: تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت قاله وهب بن منبه، حكاه مكي وغيره ابن عطية: وهو ضعيف ذاهب مع التخرص. فقال لها جبريل عليه السلام: (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا)
جعل الهبة من قبله لما كان الاعلام بها من قبله. وقرا ورش عن نافع" ليهب لك" على معنى أرسلني الله ليهب لك. وقيل: معنى" لِأَهَبَ
" بالهمز محمول على المعنى، أي قال: أرسلته لأهب لك. ويحتمل" ليهب" بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة. فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه ف (- قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) 20 أي بنكاح. (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) 20 أي زانية. وذكرت هذا تأكيدا، لان قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام. وقيل: ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد؟ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء؟ وروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها، قاله ابن جريج. ابن عباس: أخذ جبريل عليه السلام ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. قال الطبري: وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع أثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، فكان جميع عمرها نيفا «1» وخمسين سنة. وقوله: (وَلِنَجْعَلَهُ) متعلق بمحذوف، أي ونخلقه لنجعله: (آيَةً) 10 دلالة على قدرتنا عجيبة (وَرَحْمَةً) [أي «2»] لمن آمن به. (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) مقدرا «3» في اللوح مسطورا.
__________
(1). في ج: ستا وخمسين.
(2). من ك.
(3). في ج: مقدورا.

قوله تعالى: (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد، قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال، وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر، لان الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل. وقيل: غير ذلك على ما يأتي: قوله تعالى: (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ)" أجاءها" [بمعنى [ «1» اضطرها، وهو تعدية جاء بالهمز. يقال: جاءه «2» به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال: ذهب به وأذهبه. وقرا شبيل ورويت عن عاصم" فَأَجاءَهَا" من المفاجأة. وفي مصحف أبي" فلما أجاءها المخاض". وقال زهير:
وجار سار معتمدا إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء
وقرا الجمهور" الْمَخاضُ" بفتح الميم. وابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها. مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا. وناقة ماخض أي دنا ولادها." إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ" كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن ولهذا لم يقل إلى النخلة. (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما- أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني- لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة" يوسف" «3» عليه السلام. والحمد لله. قلت: وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول: اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك، و(قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا). النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه.
__________
(1). من ج وك. [.....]
(2). في ك جاءه وأجاءه.
(3). راجع ج 9 ص 269.

وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا: احفظوا أنساءكم، الانساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى. ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه:
أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ... ولست بنسي في معد ولا دخل
وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فقول مريم:" نَسْياً مَنْسِيًّا" أي حيضة ملقاة. وقرى" نسيا" بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر. وقرا محمد بن كعب القرظي بالهمز:" نسيا" بكسر النون. وقرا نوف البكالي:" نسيا" بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره. وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب. وقرا بكر بن حبيب:" نسا" بتشديد السين وفتح النون دون همز. وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت: مريم أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، وذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم، قال السدي فذلك قوله:" مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ" «1» [آل عمران: 39]. وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك. قال الكلبي: قيل ليوسف- وكانت سميت له أنها حملت من الزنى- فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهم في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: إنه من روح القدس، قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف. وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرت حاملا على عرف النساء «2»، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر. قاله عكرمة، ولذلك قيل: لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصة عيسى. وقيل: ولدته لتسعة. وقيل: لستة. وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر. والله أعلم. قوله تعالى: (فَناداها مِنْ تَحْتِها) قرئ بفتح الميم وكسرها. قال ابن عباس: المراد ب"- مِنْ" جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وقاله علقمة والضحاك وقتادة، ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله [تعالى «3»] فيها مراد عظيم. وقوله:
__________
(1). راجع ج 4 ص 74.
(2). في ج وك: عرف البشر.
(3). من ك.

(أَلَّا تَحْزَنِي) تفسير النداء، و" أن" مفسرة بمعنى أي، المعنى: فلا تحزني بولادتك. (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) يعني عيسى. والسري من الرجال العظيم الخصال السيد. قال الحسن: كان والله سريا من الرجال. ويقال: سري فلان على فلان أي تكرم. وفلان سري من قوم سراة. وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة. قال ابن عباس: كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمى سريا لان الماء يسري فيه، قال الشاعر:
سلم «1» ترى الدالي منه أزورا ... إذا يعب في السرى هرهرا
وقال لبيد:
فتوسطا عرض السرى وصدعا «2» ... مسجورة متجاورا قلامها
وقيل: ناداها عيسى «3»، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها، والأول أظهر. وقرا ابن عباس: (فناداها ملك من تحتها) قالوا: وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها. قوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَهُزِّي" أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع. والباء في قوله:" بجذع" زائدة مؤكدة كما يقال: خذ بالزمام، وأعط بيدك قال الله تعالى:" فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ" «4» أي فليمدد سببا. وقيل: المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة. و" تُساقِطْ" أي تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرا حمزة" تساقط" مخففا فحذف التي أدغمها غيره. وقرا عاصم في رواية حفص" تساقط" بضم التاء مخففا وكسر القاف. وقرى:" تتساقط" بإظهار التاءين و" يساقط" بالياء وإدغام التاء" وتسقط"
__________
(1). السلم: الدلو التي لها عروة واحدة كدلو السقائين. والمدالي: المستقى بالدلو. والهرهرة: صوت الماء إذا جرى.
(2). أي شق العير والأتان النبت الذي على الماء. ومسجورة: عين مملوءة. والمتجاور المتقارب والقلام: نبت وقيل: هو القصب. والبيت من معلقته.
(3). أي على قراءة من فتح من وتحتها.
(4). راجع ج 12 ص 22.

و" يسقط" و" تسقط" و" يسقط" بالتاء للنخلة وبالياء للجذع، فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه." رُطَباً" نصب بالهز، أي إذا هززت الجذع هززت بهزه" رُطَباً جَنِيًّا" وعلى الجملة ف"- رُطَباً" يختلف نصبه بحسب معاني القراءات، فمرة يستند الفعل إلى الجذع، ومرة إلى الهز، ومرة إلى النخلة. و" جَنِيًّا" معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهي من جنيت الثمرة. ويروى عن ابن مسعود- ولا يصح- أنه قرأ" تساقط عليك رطبا جنيا برنيا" «1». وقال مجاهد:" رُطَباً جَنِيًّا" قال: كانت عجوة. وقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله:" رُطَباً جَنِيًّا" فقال: لم يذو. قال وتفسيره: لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه، وهذا هو الصحيح. قال الفراء: الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح. وقال غير الفراء: الجني المقطوع من نخلة واحدة، والمأخوذ من مكان نشأته، وأنشدوا:
وطيب ثمار في رياض أريضة ... وأغصان أشجار جناها على قرب

يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ. قال ابن عباس: كان جذعا نخزا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم أخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا، ثم رطبا، كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شي. الثانية- استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما، فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه، لأنه أمر مريم بهز النخلة «2» لترى آية، وكانت الآية تكون بألا تهز. الثالثة- الامر بتكليف الكسب في الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة، وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه. وقد كانت قبل ذلك يأتيها رزقها من غير تكسب كما قال:" كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً"
__________
(1). البرني: ضرب من التمر أصفر مدور وهو أجود التمر واحد برنية.
(2). في ج وك: الجذع.

«1» الآية [آل عمران: 37]. فلما ولدت أمرت بهز الجذع. قال علماؤنا: لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، وكلها إلى كسبها، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده. وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها: لا تحزني، فقالت له وكيف لا أحزن وأنت معي؟! لا ذات زوج ولا مملوكة! أي شي عذري عند الناس؟!!" يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا" فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام. الرابعة- قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا: التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك. وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، ذكره الزمخشري. قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى:" رُطَباً جَنِيًّا" الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد. والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب، فهذا مكروه، يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته، فلا ينبغي لاحد أن يفعله، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه، ولا حكما بطيبه. وقد مضى هذا القول في الانعام «2». والحمد لله. وعن طلحة بن سليمان" جنيا" بكسر الجيم للاتباع، أي جعلنا «3» لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما الأكل والشرب، والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين. وهو [معنى «4»] قوله تعالى: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أي فكلي من الجني، واشربي من السري،" وَقَرِّي عَيْناً" برؤية الولد النبي. وقرى بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة" وقرى" بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال: قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وضعف فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن، وفلان قرة عيني، أي
__________
(1). راجع ج 4 ص 69.
(2). راجع ج 7 ص 50 وما بعدها.
(3). في ج وك: جمعنا. [.....]
(4). الزيادة من الكشاف للزمخشري.

نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني:" وَقَرِّي عَيْناً" معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره. و" عَيْناً 60" نصب على التمييز، كقولك: طب نفسا. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين، وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفسا، وتفقأت شحما، وتصببت عرقا، ومثله كثير. قوله تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" فَإِمَّا تَرَيِنَّ" الأصل في ترين ترأيين «1» فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار" تريين" ثم قلبت الياء الاولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الالف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الالف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لان إن حرف شرط وما صلة فبقي ترى، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين، لان النون المثقلة بمنزلة نونين الاولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد:
إما ترى رأسي حاكي لونه «2»

وقول الأفوه:
إما ترى رأسي أزرى به «3»

وإنما دخلت النون هنا بتوطئة" ما" كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرا طلحة وأبو جعفر وشيبة" ترين" بسكون الياء وفتح النون خفيفة، قال أبو الفتح: وهى شاذة. الثانية- قوله تعالى:" فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ" هذا جواب الشرط وفية إضمار، أي فسألك عن ولدك" فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً" أي صمتا، قاله ابن عباس وأنس ابن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب" إنى نذرت للرحمن صوما صمتا" وروي عن أنس.
__________
(1). أي قبل التوكيد ودخول الجازم وهي بوزن تمنعين.
(2). تمامه:
طرت صبح تحت أذيال الدجى

(3). تمامه:
ماس زمان ذي انتكاس مئوس

وعنه أيضا" وصمتا" بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا، فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الاخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت، لان الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس" وصمتا" بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام- أو ابنها على الخلاف المتقدم- بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى" قولي" بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري: وفية أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها. الثالثة- من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس، كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا، وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس «1». وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام. قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح، قال عليه الصلاة والسلام (إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم). وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
__________
(1). الحديث كما في البخاري عن ابن عباس قال: بينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه).

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)

[سورة مريم (19): الآيات 27 الى 28]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
قوله تعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) روى أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه. قال ابن عباس: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار. وقال الكلبي: ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين، فقالوا منكرين: (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه. قال مجاهد:" فَرِيًّا" عظيما. وقال سعيد بن مسعدة: أي مختلقا مفتعلا، يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد. والولد من الزنى كالشيء المفترى. قال الله تعالى:" وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ 60: 12" «1» [الممتحنة: 12] أي بولد يقصد إلحاقه بالزوج وليس منه. يقال: فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة: الفري العجيب النادر، وقاله الأخفش. قال: فريا عجيبا. والفري القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا. وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية، أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه. وقرا أبو حيوة:" شَيْئاً فَرِيًّا" بسكون الراء. وقال السدى ووهب بن منبه: لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدت امرأة يدها إليها لتضربها فاجف الله شطرها فحملت كذلك. وقال آخر: ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى، فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون، فقالوا:" يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا" أي عظيما قال «2» الراجز: (هامش)
__________
(1). راجع ج 18 ص 70 فما بعد.
(2). هو زرارة بن صعب بن دهر يخاطب العامرية وكان قد خرج معها في سفر يمتارون من اليمامة فلما امتاروا وصدروا جعل زرارة بن صعب يأخذه بطنه فكان يتخلف خلف القوم فقالت العامرية:
لقد رأيت رجلا دهريا ... يمشى وراء القوم سيتهيا

كأنه مضطغن صبيا

يريد أنه امتلأ بطنه فأجابها زرارة بالأبيات. و(حجريا) منسوب إلى حجر اليمامة وهو قصبتها.

قد أطعمتني دقلا حوليا ... مسوسا مدودا حجريا

قد كنت تفرين به الفريا

أي [تعظمينه «1»]. قوله تعالى: (يا أُخْتَ هارُونَ) اختلف الناس في معنى هذه الاخوة ومن هارون؟ فقيل: هو هارون أخو موسى، والمراد من كنا نظنها مثل هرون في العبادة تأتي بمثل هذا. قيل: على هذا كانت مريم من ولد هرون أخي موسى فنسبت إليه بالاخوة لأنها من ولده، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم وللعربي يا أخا العرب. وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هرون، لان هذا الاسم كان كثيرا في بنى إسرائيل تبركا باسم هرون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بنى إسرائيل، قاله الكلبي. وقيل: هرون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هرون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هرون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل، إذ كانت موقوفة على خدمة البيع، أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك. وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن مريم ليست بأخت هرون أخى موسى، فقالت له عائشة: كذبت. فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة. قال: فسكتت. وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرءون" يا أُخْتَ هارُونَ" وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألته عن ذلك، فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم). وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هرون وبينهما في المدة ستمائة سنة؟! قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، وذكر الحديث. والمعنى أنه اسم وافق اسما. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء، والله أعلم.
__________
(1). في الأصول: (تطعمينه) ولعله تصحيف.

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

قلت: فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهرون زمان مديد. الزمخشري: كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهرون، وإن صح فكما قال السدي لأنها كانت من نسله، وهذا كما تقول للرجل من قبيلة: يا أخا فلان. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أخا صداء «1» قد أذن فمن أذن فهو يقيم) وهذا هو القول الأول. ابن عطية: وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هرون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ، ذكره الطبري ولم يسم قائله. قلت: ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه. والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح. وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة" النور" القول فيه إن شاء الله تعالى «2». وهذا القول الأخير يرده الحديث الصحيح، وهو نص صريح فلا كلام لاحد معه، ولا غبار عليه. والحمد لله. وقرا عمر بن لجأ التيمي: (ما كان أباك امرؤ «3» سوء).

[سورة مريم (19): الآيات 29 الى 33]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
فيه خمس مسائل الاولى- قوله تعالى: (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت
__________
(1). هو زياد بن الحرث الصدائي كان قد أمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤذن لصلاة الفجر فأذن فأراد بلال أن يقيم فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن أخا صداء قد أذن ..." الحديث.
(2). راجع ج 12 ص 159 فما بعده
(3). قال في (البحر): يجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة وحسن ذلك قليلا كونها فيها مسوغ جواز الابتداء بالنكرة وهو الإضافة.

ب" إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً" وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها ب"- قولي" إنما أريد به الإشارة. ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير" كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا" و" كانَ" هنا ليس يراد بها الماضي «1»، لان كل واحد قد كان في المهد صبيا، وإنما هي في معنى هو [الآن «2»]. وقال أبو عبيدة: (كانَ) هنا لغو، كما قال: «3»
وجيران لنا كانوا كرام

وقيل: هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله:" وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ 280" «4» وقد تقدم. وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت" صَبِيًّا" ولا أن يقال" كانَ" بمعنى حدث، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول: كان الحر وتكتفي به. والصحيح أن" مَنْ" في معنى الجزاء و" كانَ" بمعنى يكن، والتقدير: من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه؟! كما تقول: كيف أعطي من كان لا يقبل عطية، أي من يكن لا يقبل. والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء، كقوله تعالى" تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ 10" «5» أي إن يشأ يجعل. وتقول: من كان إلى منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلى إحسان يكن إليه مني مثله. و" الْمَهْدِ" قيل: كان سريرا كالمهد. وقيل" الْمَهْدِ" هاهنا حجر الام. وقيل: المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ 30) وهي: الثانية- فقيل: كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و" قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ 30" فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وبربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه. والكتاب الإنجيل، قيل: آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوة كما علم آدم
__________
(1). في ج وك: المضي.
(2). الزيادة من كتب التفسير.
(3). هو الفرزدق وصدر البيت:
فكيف إذا رأيت ديار قوم

[.....]
(4). راجع ج 3 ص 371.
(5). راجع ج 13 ص 6.

الأسماء كلها، وكان يصوم ويصلي. وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا. وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلا في الحال، وهذا أصح. (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له. التستري «1»: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف. (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي لاؤديهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح. (ما دُمْتُ حَيًّا) [ما «2»] في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي. [قوله تعالى [ «3»: (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) قال ابن عباس: لما قال" وَبَرًّا بِوالِدَتِي" ولم يقل بوالدي علم أنه شي من جهة الله تعالى. (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) أي متعظما متكبرا يقتل ويضرب على الغضب. وقيل: الجبار الذي لا يرى لاحد عليه حقا قط. (شَقِيًّا) أي خائبا من الخير. ابن عباس: عاقا. وقيل: عاصيا لربه وقيل: لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره. الثالثة- قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة. ولم ينقل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره من وقت الولاد لكان مثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله. ويدل أيضا على أنه تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى. والدليل على ذلك إجماع الفرق على أنها لم تحد. وإنما صح براءتها من الزنى بكلامه في المهد. ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الأمم
__________
(1). في ك: القشيري.
(2). من ج وك.
(3). من ج وك.

السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره. وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع، يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جنه الليل، لا مسكن له، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الرابعة- الإشارة بمنزلة الكلام وتفهم ما يفهم القول. كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال:" فَأَشارَتْ إِلَيْهِ" وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: (كَيْفَ نُكَلِّمُ) وقد مضى هذا في" آل عمران" «1» مستوفى. الخامسة- قال الكوفيون: لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. وروى مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا، ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطي الحلال والشبهة. قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس. وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط. وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك. قال المهلب: وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة. وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام. (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) أي السلامة علي من الله تعالى. قال الزجاج: ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الالف واللام. وقوله: (يَوْمَ وُلِدْتُ) يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في" آل عمران" «2». (وَيَوْمَ أَمُوتُ) يعني
__________
(1). راجع ج 4 ص 81 وص 68.
(2). راجع ج 4 ص 81 وص 68.

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

في القبر (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) يعني في الآخرة. لان له أحوالا ثلاثة: في الدنيا حيا، وفي القبر ميتا، وفي الآخرة مبعوثا، فسلم في أحواله كلها وهو معنى قول الكلبي. ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان. وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته «1» فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك، فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به.

[سورة مريم (19): الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
قوله تعالى: (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة، وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى: إنه الاله أو ابن الاله. (قَوْلَ الْحَقِّ) قال الكسائي:" قَوْلَ الْحَقِّ" نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم ] قول الحق [ «2». وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله، والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. قال ابن عباس: (يريد هذا كلام عيسى ] ابن مريم [ «3» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قول الحق ليس بباطل، وأضيف القول إلى الحق كما قال:) وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ( «4» [الأحقاف: 16] أي الوعد والصدق. وقال:
__________
(1). في ج: زمانه.
(2). زيادة يقتضيها المقام.
(3). من ج وك.
(4). راجع ج 16 ص 195 فما بعد.

" وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ 10" «1» [الانعام: 32] أي ولا الدار الآخرة. وقرا عاصم وعبد الله بن عامر" قَوْلَ الْحَقِّ" بالنصب على الحال، أي أقول قولا حقا. والعامل معنى الإشارة في (ذلِكَ). الزجاج: هو مصدر أي أقول قول الحق لان ما قبله يدل عليه. وقيل: مدح. وقيل: إغراء. وقرا عبد الله:" قال الحق". وقرا الحسن:" قول الحق" بضم القاف، وكذلك في" الانعام" «2»" قَوْلَ الْحَقِّ". والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. (الَّذِي) من نعت عيسى. (فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يشكون، أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق. وقيل:" يَمْتَرُونَ" يختلفون. ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية. فقالت الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع- على ما قال- فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ «3» مِنَ النَّاسِ) [آل عمران: 21]. وقال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قوله (الذي فيه تمترون) بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وغيره. قال ابن عباس: فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه، ذكره الماوردي. قلت: ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوحى إلى يوسف النجار
__________
(1). راجع ج 10 ص 100 فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 17 فما بعد.
(3). راجع ج 4 ص 46. [.....]

في الحلم وقال له: قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه: وامتثل أمر ربه واخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة «1»، وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض «2»، ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عند ما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر. وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين «3» وقسقام «4» المعروفة الآن بالمحرقة «5» فلذلك يعظمها النصارى إلى ألان، ويحضرون إليها في عيد الفصح من كل مكان، لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام. والله أعلم. قوله تعالى: (ما كانَ لِلَّهِ) أي ما ينبغي له ولا يجوز: (أن يتخذ من ولد)" مِنْ" صلة للكلام، أي أن يتخذ ولدا. و" أَنْ" في موضع رفع اسم" كانَ" أي ما كان لله أن يتخذ ولدا، أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال: (سُبْحانَهُ) أن يكون له ولد. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تقدم في (البقرة) «6» مستوفى. (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو: بفتح" أن" واهل الكوفة" وإن" بكسر الهمزة على أنه مستأنف. تدل عليه قراءة أبي" كن فيكون. إن الله" بغير واو على العطف على" قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ 30". وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى، ولان الله ربي وربكم، وكذا" وَأَنَّ الْمَساجِدَ «7» لِلَّهِ" ف"- أن" في موضع نصب عندهما. وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضا في موضع
__________
(1). بضاحية المطرية.
(2). في ك: ذلك المكان.
(3). الأشمونين: إحدى قرى مركز ملوي.
(4). قسقام: هي القوصية الآن إحدى قرى مركز منفلوط.
(5). المحرقة: وتعرف اليوم بالدير المحرق بمركز منفلوط.
(6). راجع ج 2 ص 87 فما بعد.
(7). راجع ج 19 ص 19

خفض بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى، والامر أن الله ربي وربكم. وفيها قول خامس: حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أن الله ربي وربكم، فهي معطوفة على قوله:" أَمْراً" من قوله:" إِذا قَضى أَمْراً" والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله. ولا يبتدأ ب"- أن" على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث. ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية. (فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي دين قويم لا اعوجاج فيه. قوله تعالى: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ)" مِنْ" زائدة أي اختلف الأحزاب بينهم. وقال قتادة: أي ما بينهم فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام. فاليهود بالقدح والسحر. والنصارى قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. والملكانية ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله، فأفرطت النصارى وغلت، وفرطت اليهود وقصرت. وقد تقدم هذا في" النساء" «1». وقال ابن عباس: المراد من بالأحزاب الذين تحزبوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبوه من المشركين. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور. ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال: ويل لفلان من قتال يوم كذا، أي من حضوره ذلك اليوم. وقيل: المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق. وقيل: فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة. قوله تعالى: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب، فتقول: أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره. قال: فمعناه أنه عجب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [المائدة: 1161]. وقيل:" أَسْمِعْ"
__________
(1). راجع ج 6 ص 21 فما بعد وص 374 فما بعد.

بمعنى الطاعة، أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم. و(لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ) يعني في الدنيا. (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وأى ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام، واكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إله؟! ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذب، ولكنه لا ينفعه ذلك، قال معناه قتادة وغيره. قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه. وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله." إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ" أي فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة واهل النار النار. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا دخل أهل الجنة الجنة واهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح «1» فيوقف بين الجنة والنار فيقال يأهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت- قال- ثم يقال يأهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت- قال- فيؤمر به فيذبح ثم يقال يأهل الجنة خلود فلا موت ويأهل النار خلود فلا موت- ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجة من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح. وقد ذكرنا ذلك في كتاب" التذكرة" وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال: إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة. قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) 40 أي نميت سكانها فنرثها. (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) 40 يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم هذا في" الحجر" «2» وغيرها.
__________
(1). الأملح: الذي بياضه أكثر من سواده وقيل النفي البياض.
(2). راجع ج 10 ص 18 فما بعد.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

[سورة مريم (19): الآيات 41 الى 50]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) المعنى: واذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره. وقد تقدم معنى الصديق في" النساء" «1» واشتقاق الصدق في" البقرة" «2» فلا معنى للإعادة. ومعنى الآية: اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده، فإنه كان حنيفا مسلما وما كان يتخذ الأنداد، فهؤلاء لم يتخذون الأنداد؟! وهو كما قال" وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ 130" [البقرة: 130]. قوله تعالى: (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ)
وهو آزر وقد تقدم «3». (يا أَبَتِ)
قد تقدم القول فيه في (يوسف) «4» (لِمَ تَعْبُدُ)
أي لاي شي تعبد: (ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)
__________
(1). راجع ج 5 ص 272.
(2). راجع ج 1 ص 233 وج 2 ص 132.
(3). راجع ج 7 ص 22.
(4). راجع ج 9 ص 121. [.....]
(

يريد الأصنام. (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت، وأن من عبد غير الله عذب إلى ما أدعوك إليه. (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة. (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده. (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (كانَ) صلة زائدة وقيل: [كان «1»] بمعنى صار. وقيل بمعنى الحال أي هو للرحمن. وعصيا وعاص بمعنى واحد قاله الكسائي. (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) أي إن مت على ما أنت عليه. ويكون" أَخافُ" بمعنى أعلم. ويجوز أن يكون" أَخافُ" على بابها فيكون المعنى: إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب. (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي قرينا في النار. (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) أي أترغب عنها إلى غيرها. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) قال الحسن: يعني بالحجارة. الضحاك: بالقول، أي لأشتمنك. ابن عباس: لأضربنك. وقيل: لأظهرن أمرك. (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا). قال ابن عباس: أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبنك منى معرة، واختاره الطبري، فقوله:" مَلِيًّا" على هذا حال من إبراهيم. وقال الحسن ومجاهد:" مَلِيًّا" دهرا طويلا، ومنه قول المهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته ... وبكت عليه المرملات مليا
قال الكسائي: يقال هجرته مليا وملوة وملوة وملاوة وملاوة، فهو على هذا القول ظرف، وهو بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل منه. قوله تعالى: (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بسوء الرد، لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره. والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية، قال الطبري: معناه أمنة مني لك. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال النقاش: حليم خاطب سفيها، كما قال:" وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا «2» سَلاماً" [الفرقان: 63]. وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق، وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها. قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم، قال الله تعالى:
__________
(1). من ك.
(2). راجع ج 13 ص 67 فما بعد.

" لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 60: 8" «1» [الممتحنة: 8]. وقال:" قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ 60: 4" «2» [الممتحنة: 4] الآية، وقال إبراهيم لأبيه" سَلامٌ عَلَيْكَ". قلت: الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة، وفي الباب حديثان صحيحان: روى أبو هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه) خرجه البخاري ومسلم. وفي الصحيحين عن أسامة ابن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة «3» في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحديث. فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء لان ذلك إكرام، والكافر ليس أهله. والحديث الثاني يجوز ذلك. قال الطبري: ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة فإنه ليس في أحدهما خلاف للآخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص. وقال النخعي: إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام فبان بهذا أن حديث أبى هريرة (لا تبدءوهم بالسلام) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدءوهم بالسلام، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جوار أو سفر. قال الطبري: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب. وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه، قال علقمة: فقلت له يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدءوا بالسلام؟! قال: نعم، ولكن حق الصحبة. وكان أبو أمامة «4» إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له في ذلك فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وسيل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم.
__________
(1). راجع ج 18 ص 58 فما بعد،.
(2). راجع ج 18 ص 55 فما بعد.
(3). في ج وك: معاذ.
(4). في الطبعة الاولى: أسامة وليس بصحيح.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)

قلت: وقد احتج أهل المقالة الاولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الامة، لحديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة) الحديث، ذكره الترمذي الحكيم، وقد مضى في الفاتحة «1» بسنده. وقد مضى الكلام في معنى قوله:" سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي". وارتفع السلام بالابتداء، وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة. قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا): الحفي المبالغ في البر والالطاف، يقال: حفي به وتحفى إذا بره. وقال الكسائي يقال: حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء:" إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا" أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته. قوله تعالى: (وَأَعْتَزِلُكُمْ): العزلة المفارقة وقد تقدم في" الكهف" «2» بيانها. وقوله: (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) قيل: أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه. ولهذا قال: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي آنسنا وحشته بولد، عن ابن عباس وغيره. وقيل:" عيسى" يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل. وقيل: دعا لأبيه بالهداية. ف" عسى" شك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا؟ والأول أظهر. وقوله: (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) 50 أي أثنينا عليهم ثناء حسنا، لان جميع الملل تحسن الثناء عليهم. واللسان يذكر ويؤنث، وقد تقدم «3».

[سورة مريم (19): الآيات 51 الى 53]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
__________
(1). راجع ج 1 ص 130.
(2). راجع ج 10 ص 367.
(3). راجع ج 1 ص 121.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)

قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى ) أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى. (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) «1» في عبادته غير مرائي. وقرا أهل الكوفة بفتح اللام، أي أخلصناه فجعلناه مختارا. (وَنادَيْناهُ) أي كلمناه ليلة الجمعة. (مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي يمين موسى، وكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر، قاله الطبري وغيره فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) نصب على الحال، أي كلمناه من غير وحي. وقيل: أدنيناه لتقريب المنزلة حتى كلمناه. وذكر وكيع وقبيصة عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل:" وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا" أي أدنى حتى سمع صريف الأقلام. (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) وذلك حين سأل فقال:" وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي" «2».

[سورة مريم (19): الآيات 54 الى 56]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) اختلف فيه، فقيل: هو إسماعيل ابن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته. والجمهور أنه إسماعيل الذبيح أبو العرب ابن إبراهيم. وقد قيل: إن الذبيح إسحاق، والأول أظهر على ما تقدم ويأتي في" والصافات" «3» إن شاء الله تعالى. وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له وإكراما، كالتلقيب بنحو الحليم والأواه والصديق، ولأنه المشهور المتواصف «4» من خصاله.
__________
(1). بكسر اللام قراءة (نافع).
(2). راجع ص 191 فما بعد من هذا الجزء.
(3). راجع ج 15 ص 98 فما بعد.
(4). كذا في ج وا وح وك. وفي ى: المتراحف وصوابه: المتراصف: أي المنتظم.

الثانية- صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخلف مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين على ما تقدم بيانه في" براءة" «1». وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد. واختلف في ذلك، فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى. هذا في قول من يرى أنه الذبيح. وقيل: وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء، فقال له: ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس. وقيل: انتظره ثلاثة أيام. وقد فعل مثله نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بعثه، ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أبى الحمساء قال: بايعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: (يا فتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك) لفظ أبي داود. وقال يزيد الرقاشي: انتظره إسماعيل اثنين وعشرين يوما، ذكره الماوردي. وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة. وذكره الزمخشري عن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظر سنة. وذكره القشيري قال: فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال: إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له. وهذا بعيد ولا يصح. وقد قيل: إن إسماعيل لم يعد شيئا إلا وفى به، وهذا قول صحيح، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية، والله أعلم. الثالثة- من هذا الباب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (العدة دين). وفي الأثر (وأى «2» المؤمن واجب) أي في أخلاق المؤمنين. وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة، ولا يقضى به. والعرب تمتدح بالوفاء، وتذم بالخلف والغدر، وكذلك سائر الأمم، ولقد أحسن القائل:
متى ما يقل حر لصاحب حاجة ... نعم يقضها والحر للواي ضامن
__________
(1). راجع ج 8 ص 212 فما بعد. [.....]
(2). الوأي، الوعد.

ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم. وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفى بنذره، وكفى بهذا مدحا وثناء، وبما خالفه ذما. الرابعة- قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه. قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها «1» شي لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري" وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ"، وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال البخاري «2»: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع. الخامسة- (وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا) قيل: أرسل إسماعيل إلى جرهم. وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا، وخص إسماعيل بالذكر تشريفا له. والله أعلم. السادسة- (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ) قال الحسن: يعني أمته. وفي حرف ابن مسعود" وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة". (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)
أي رضيا زاكيا صالحا. قال الكسائي والفراء: من قال مرضى بناه على رضيت قالا: واهل الحجاز يقولون: مرضو. وقال الكسائي والفراء: من العرب من يقول رضوان «3» ورضيان فرضوان على مرضو، ورضيان على مرضى ولا يجيز البصريون أن يقولوا إلا رضوان وربوان. قال أبو جعفر النحاس: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: يخطئون في الخط فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشد من هذا فيقولون ربيان ولا يجوز إلا ربوان ورضوان قال الله تعالى:" وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ «4» النَّاسِ 30: 39".
__________
(1). في ى: لا يلزم فيها بشيء.
(2). قاله في (التاريخ الأوسط) كما في (تهذيب التهذيب).
(3). أي في تثنية الرضا.
(4). راجع ج 13 ص 36.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)

[سورة مريم (19): الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها. وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى. وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر. الزمخشري: وقيل سمي إدريس إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى، وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح، لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل على العجمة، وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون، ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات، يجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي مشتقا من الدرس. قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما: وهو جد نوح وهو خطأ، وقد تقدم في" الأعراف" «1» بيانه. وكذا وقع في السيرة أن نوحا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون. والله تعالى أعلم. وكان أول من أعطى النبوة «2» من بني آدم، وخط بالقلم. ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [فالله أعلم «3»]. قوله تعالى: (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وغيرهما: يعني السماء الرابعة. وروي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقاله كعب الأحبار. وقال ابن عباس والضحاك: يعني السماء السادسة، ذكره المهدوي. قلت: ووقع في البخاري «4» عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسرى برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مسجد الكعبة، الحديث وفية: كل سماء فيها أنبياء- قد سماهم- منهم إدريس في الثانية. وهو وهم، والصحيح أنه في السماء
__________
(1). راجع ج 7 ص 232 فما بعد.
(2). يتأمل هذا مع ما ثبت من نبوة آدم وشيث.
(3). من ج وك وى.
(4). في ج: من حديث شريف.

الرابعة، كذلك رواه ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره مسلم في الصحيح. وروى مالك بن صعصعة قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة). خرجه مسلم أيضا. وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما: أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال: (يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه من ثقلها. يعني الملك الموكل بفلك الشمس (، يقول إدريس: اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها. فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل مالا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه؟ فقال الله تعالى:" أما إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته" فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيني وبينه خلة. فأذن الله له حتى أتى إدريس، وكان إدريس عليه السلام يسأله. فقال أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي، فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقال للملك: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي قال نعم. ثم حمله «1» على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم قال لملك الموت: لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله. فقال: ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت علمه أعلمته متى يموت. قال":" نعم" ثم نظر في ديوانه، فقال: إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدا. قال" وكيف"؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال: فإني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شي. فرجع الملك فوجده ميتا. وقال السدي: إنه نام ذات يوم، واشتد عليه حر الشمس، فقام وهو منها في كرب فقال: اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، فإنه يمارس نارا حامية. فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور عنده سبعون ألف ملك عن يمينه، ومثلها عن يساره يخدمونه، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه، فقال ملك الشمس: يا رب من أين لي هذا؟. قال" دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس" ثم ذكر نحو حديث كعب. قال فقال له ملك الشمس: أتريد حاجة؟ قال: نعم وددت أني لو رأيت الجنة.
__________
(1). في ج: حمله ملك الشمس.

قال: فرفعه على جناحه، ثم طار به، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء، ينظر يمينا وشمالا، فسلم عليه ملك الشمس، وقال: يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه فقال ملك الموت: سبحان الله! ولاي معنى رفعته هاهنا؟ قال: رفعته لاريه الجنة. قال: فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة. قلت: يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة، فنزلت فإذا هو معك، فقبض روحه فرفعها إلى الجنة، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة، فذلك قوله تعالى:" وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا" قال وهب بن منبه: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة آدمي، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل. ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس، وقال له: من أنت! قال أنا ملك الموت، استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي، فقال: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: أن تقبض روحي. فأوحى «1» الله تعالى إليه أن اقبض روحه، فقبضه ورده الله إليه بعد ساعة، وقال له ملك الموت: ما الفائدة في قبض روحك؟ قال لا ذوق كرب الموت فأكون له أشد استعدادا. ثم قال له إدريس بعد ساعة «2»: إن لي إليك حاجة أخرى. قال: وما هي؟ قال أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار، فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني الجنة، فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود إلى مقرك. فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج؟ قال: لان الله تعالى قال:" كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ" «3» [آل عمران: 185] وأنا ذقته، وقال:" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها" «4» [مريم: 71] وقد وردتها، وقال:" وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ" «5» [الحجر: 48] فكيف أخرج؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت:" بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج" فهو حي هنالك فذلك قوله تعالى" وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا" قال النحاس: قول إدريس:" وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ" يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس، ثم نزل القرآن به. قال وهب ابن منبه: فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة يعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء.
__________
(1). في ج: فأذن الله له.
(2). في ج وك: بعد حين.
(3). راجع ج 4 ص 297.
(4). راجع ص 135 من هذا الجزء: إن صح هذا فهو دليل على ورود النظر. [.....]
(5). راجع ج 10 ص 33.

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)

[سورة مريم (19): آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) يريد إدريس وحده. (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) يريد إبراهيم وحده (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب. (وَ) من ذرية (إِسْرائِيلَ) موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى. فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوح ولإسمعيل وإسحاق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم. (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) أي إلى الإسلام: (وَاجْتَبَيْنا) بالايمان. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ). وقرا شبل بن عباد المكي" يتلى" بالتذكير لان التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل. (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) وصفهم بالخشوع لله والبكاء. وقد مضى في" سبحان" «1» [الاسراء: 1]. يقال بكى يبكي بكاء وبكى وبكيا، إلا أن الخليل قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن، أي ليس معه صوت كما قال الشاعر: «2»
بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل
و" سُجَّداً" نصب على الحال" وَبُكِيًّا" عطف عليه. الثانية- في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرا في القلوب. قال الحسن: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) الصلاة. وقال الأصم: المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها. والمروي عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون
__________ (1). راجع ج 10 ص 341 فما بعد.
(2). هو عبد الله بن رواحة يبكى حمزة بن عبد المطلب رحمه الله وأنشده أبو زيد لكعب بن مالك في أبيات.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)

عند تلاوته، قال الكيا: وفي هذه [الآية «1»]: دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصا بإنزاله إليه. الثالثة- احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ. قال الكيا: وهذا بعيد فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى. وضم السجود إلى البكاء، وأبان به عن طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة. الرابعة- قال العلماء: ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها، فإن قرأ سورة السجدة" الم تَنْزِيلُ" قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة" سبحان 10" قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك.

[سورة مريم (19): الآيات 59 الى 63]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) أي أولاد سوء. قال أبو عبيدة: حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الامة
__________
(1). من ك.

أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زنى. وقد تقدم القول في" خَلْفٌ 80" في" الأعراف" «1» فلا معنى للإعادة. الثانية- قوله تعالى: (أَضاعُوا الصَّلاةَ) وقرا عبد الله والحسن:" أضاعوا الصلوات" على الجمع. وهو ذم ونص في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق بها صاحبها ولا خلاف في ذلك، وقد قال عمر: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. واختلفوا فيمن المراد بهذه الآية، فقال مجاهد: النصارى خلفوا بعد اليهود. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد أيضا وعطاء: هم قوم من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر الزمان، أي يكون في هذه الامة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية. واختلفوا أيضا في معنى إضاعتها، فقال القرظي: هي إضاعة كفر وجحد بها. وقال القاسم بن مخيمرة، وعبد الله بن مسعود: هي إضاعة أوقاتها، وعدم القيام بحقوقها وهو الصحيح، وأنها إذا صليت مخلى بها لا تصح ولا تجزئ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي صلى وجاء فسلم عليه (ارجع فصل فإنك لم تصل) ثلاث مرات خرجه مسلم، وقال حذيفة لرجل يصلي فطفف «2»: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال منذ أربعين عاما. قال: ما صليت، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال: إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن. خرجه البخاري واللفظ للنسائي، وفي الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل) يعني صلبه في الركوع والسجود، قال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود، قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تلك الصلاة صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى أذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا (. وهذا ذم لمن يفعل ذلك. وقال فروة بن خالد بن سنان: استبطأ
__________
(1). راجع ج 7 ص 310 فما بعد.
(2). أي نقص والتطفيف يكون بمعنى الزيادة والنقص.

أصحاب الضحاك مرة أميرا في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقرأ الضحاك هذه الآية، ثم قال: والله لان أدعها أحب إلي من أن أضيعها. وجملة القول هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه، ولا دين لمن لا صلاة له. وقال الحسن: عطلوا المساجد، واشتغلوا بالصنائع والأسباب." وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ" أي اللذات والمعاصي. الثالثة- روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضبي أنه أتى المدينة فلقي أبا هريرة فقال له: يا فتى ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به، قلت: بلى. قال: (إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلك (. قال يونس: وأحسبه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لفظ أبي داود. وقال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا داود بن أبي هند عن زرارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا المعنى. قال: (ثم الزكاة مثل ذلك) (ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك). وأخرجه النسائي عن همام عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر- قال همام: لا أدري هذا من كلام قتادة أو من الرواية- فإن انتقص من فريضته شي قال انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك (. خالفه أبو العوام فرواه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شي قال انظروا هل تجدون له من

تطوع يكمل ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك) قال النسائي: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل قال أنبأنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أكملها وإلا قال الله عز وجل انظروا لعبدي من تطوع فإن وجد له تطوع قال أكملوا به الفريضة (. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب" التمهيد" أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون- والله أعلم- فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أو لم يحسن ركوعها وسجودها ولم يدر قدر ذلك وأما من تركها، أو نسي ثم ذكرها فلم يأت بها عامدا واشتغل بالتطوع عن أداء فرضها وهو ذاكر له فلا يكمل له فريضة من تطوعه والله أعلم. وقد روى من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكوني عن عبد الله بن قرط عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم). قال أبو عمر: وهذا لا يحفظ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من هذا الوجه وليس بالقوي وإن كان صح كان معناه أنه خرج من صلاة كان قد أتمها عند نفسه وليست في الحكم بتامة [والله أعلم «1»]. قلت: فينبغي للإنسان أن يحسن فرضه ونفله حتى يكون له نفل يجده زائدا على فرضه يقربه من ربه كما قال سبحانه وتعالى: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" الحديث. فأما إذا كان نفل يكمل به الفرض فحكمه في المعنى حكم الفرض. ومن لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى وأولى ألا يحسن التنفل لا جرم تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان والخلل لخفته عندهم وتهاونهم به حتى كأنه غير معتد به. ولعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه ويظن به العلم تنفله كذلك
بل فرضه إذ ينقره نقر الديك لعدم معرفته بالحديث فكيف بالجهال الذين لا يعلمون. وقد قال العلماء: ولا يجزئ ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا
__________
(1). من ب وج وط وز وك.

وساجدا وجالسا. وهذا هو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء واهل النظر. وهذه رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك. وقد مضى هذا المعنى في" البقرة" «1». وإذا كان هذا فكيف يكمل بذلك التنفل ما نقص من هذا الفرض على سبيل الجهل والسهو؟! بل كل ذلك غير صحيح ولا مقبول لأنه وقع على غير المطلوب والله أعلم. [الرابعة «2»]- قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) هو من بنى [المشيد «3»] وركب المنظور «4» وليس المشهور. قلت: الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه. وفي الصحيح: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات). وما ذكر عن علي رضي الله عنه جزء من هذا. قوله تعالى: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال ابن زيد: شرا أو ضلالا أو خيبة، قال «5»:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقال عبد الله بن مسعود: هو واد في جهنم. والتقدير عند أهل اللغة فسوف يلقون هذا الغي، كما قال جل ذكره:" وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً" «6» [الفرقان: 68] والأظهر أن الغي اسم للوادي سمي به لان الغاوين يصيرون إليه. قال كعب: يظهر في آخر الزمان قوم بأيديهم سياط كأذناب البقر ثم قرأ [الآية «7»]:" فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" أي هلاكا وضلالا في جهنم. وعنه: غي واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر يسمى البهيم كلما خبت جهنم فتح الله تعالى تلك البئر فتسعر بها جهنم. وقال ابن عباس: غي واد في جهنم وأن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصر على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه.
__________
(1). راجع ج 1 ص 190 فما بعد.
(2). من ب وج وز وط وك.
(3). كذا في روح المعاني وهو الصواب وفي الأصول وكثير من المراجع: (من بني الشديد).
(4). في ى: وركب المقطور. ولعله أشبه.
(5). البيت للمرقش كما في اللسان.
(6). راجع ج 13 ص 76.
(7). من ب وج وز وط وك. [.....]

قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ تابَ) 60 أي من تضييع الصلاة واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة ربه. (وَآمَنَ) 110 به (وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) 60. قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر: (يدخلون) بفتح الخاء. وفتح الياء الباقون. (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) 60 أي لا ينقص من أعمالهم الصالحة شي إلا أنهم «1» يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبعمائة. (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدلا من الجنة فانتصبت. قال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز" جنات عدن" على الابتداء. قال أبو حاتم: ولولا الخط لكان" جنة عدن" لان قبله" يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ". (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي من عبده وحفظ عهده بالغيب وقيل: آمنوا بالجنة ولم يروها.- إنه كان وعده مأتيا (" مَأْتِيًّا" مفعول من الإتيان. وكل ما وصل إليك فقد وصلت إليه تقول: أتت علي ستون سنة وأتيت على ستين سنة. ووصل إلي من فلان خير ووصلت منه إلى خير. وقال القتبي:" مأتيا" بمعنى آت فهو مفعول بمعنى فاعل. و" مأتيا" مهموز لأنه من أتى يأتي. ومن خفف الهمزة جعلها ألفا. وقال الطبري: الوعد هاهنا الموعود وهو الجنة أي يأتيها أولياؤه. (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي في الجنة. واللغو معناه الباطل من الكلام والفحش منه والفضول وما لا ينتفع به. ومنه الحديث: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والامام يخطب فقد لغوت) ويروى" لغيت" وهي لغة أبي هريرة كما قال الشاعر «2»:
ورب أسراب حجيج كظم ... عن اللغا ورفث التكلم
قال ابن عباس: اللغو كل ما لم يكن فيه ذكر الله تعالى أي كلامهم في الجنة حمد الله وتسبيحه. (إِلَّا سَلاماً) أي لكن يسمعون سلاما فهو من الاستثناء المنقطع يعني سلام بعضهم على بعض وسلام الملك عليهم قاله مقاتل وغيره. والسلام اسم جامع للخير والمعنى أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون. قوله تعالى: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا أي في قدر هذين الوقتين إذ لا بكرة ثم ولا عشيا
__________
(1). في ى: إلا أنه.
(2). هو رؤبة ونسبه ابن بري العجاج. (اللسان).

كقوله تعالى:" غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها «1» شَهْرٌ" أي قدر شهر، قال معناه ابن عباس وابن جريج وغيرهما. وقيل: عرفهم اعتدال أحوال أهل الجنة وكان أهنأ النعمة عند العرب التمكين من المطعم والمشرب بكرة وعشيا. قال يحيى بن أبي كثير وقتادة كانت العرب في زمانها من وجد غداء وعشاء معا فذلك هو الناعم فنزلت. وقيل: أي رزقهم فيها غير منقطع كما قال: (لا مقطوعة ولا ممنوعة) «2» كما تقول: أنا أصبح وأمسي في ذكرك. أي ذكري لك دائم. ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم والعشي بعد فراغهم من لذاتهم لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال. وهذا يرجع إلى القول الأول. وروى الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس قال قال مالك بن أنس: طعام المؤمنين في اليوم مرتان وتلا قول الله عز وجل" وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا" ثم قال: وعوض الله عز وجل المؤمنين في الصيام السحور بدلا من الغداء ليقووا به على عبادة ربهم. وقيل: إنما ذكر ذلك لان صفة الغداء وهيئته [غير «3»] صفة العشاء وهيئته، وهذا لا يعرفه إلا الملوك. وكذلك يكون في الجنة رزق الغداء غير رزق العشاء تتلون عليهم النعم ليزدادوا تنعما وغبطة. وخرج الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا قال رجل: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال (وما هيجك على هذا) قال سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب:" وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا" فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة) وهذا في غاية البيان لمعنى الآية وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة). وقال العلماء: ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب. ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما.
__________
(1). راجع ج 14 ص 268.
(2). راجع ج 17 ص 210.
(3). من ب وز وط وك.

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

قوله تعالى: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي) أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها (نورث) بالتخفيف. وقرا يعقوب:" نورث" بفتح الواو وتشديد الراء. والاختيار التخفيف، لقوله تعالى:" أَوْرَثْنَا الْكِتابَ" «1» [فاطر: 32]. (مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) قال ابن عباس: (أي من اتقاني وعمل بطاعتي). وقيل هو على التقديم والتأخير تقديره نورث من كان تقيا من عبادنا.

[سورة مريم (19): الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
روى الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى لجبريل (ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا) قال: فنزلت هذه الآية (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) إلى آخر الآية. قال هذا حديث حسن غريب. ورواه البخاري: حدثنا خلال بن يحيى حدثنا عمر بن ذر قال سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجبريل: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا) فنزلت:" وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ" الآية، قال كان هذا الجواب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مجاهد أبطأ الملك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أتاه فقال: (ما الذي أبطأك) قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم، ولا تنقون رواجبكم «2»، ولا تستاكون، قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا. وقال مجاهد أيضا وقتادة وعكرمة والضحاك ومقاتل والكلبي: أحتبس جبريل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيبهم ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ما سألوه عنه قال عكرمة: فأبطأ عليه أربعين يوما. وقال مجاهد: اثنتي عشرة ليلة. وقيل: خمسة عشر يوما وقيل ثلاثة عشر وقيل ثلاثة أيام فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أبطأت علي حتى
__________
(1). راجع ج 14 ص ...
(2). الرواجب: ما بين عقد الأصابع من داخل أو مفاصل أصول الأصابع واحدتها راجبة.
(

ساء ظني واشتقت إليك) فقال جبريل عليه السلام إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت الآية (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) وأنزل: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى . ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ) «1». ذكره الثعلبي والواحدي والقشيري وغيرهم. وقيل: هو إخبار من أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك وعلى هذا تكون الآية متصلة بما قبل. وعلى ما ذكرنا من الأقوال قيل: تكون غير متصلة بما قبلها والقرآن سور ثم السور تشتمل على جمل، وقد تنفصل جملة عن جملة" وَما نَتَنَزَّلُ" أي قال الله تعالى قل يا جبريل" وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ". وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنا إذا أمرنا نزلنا عليك. الثاني- إذا أمرك ربك نزلنا عليك فيكون الامر على [الوجه «2»] الأول متوجها إلى النزول وعلى الوجه الثاني متوجها إلى التنزيل. قوله تعالى: (لَهُ) أي لله. (ما بَيْنَ أَيْدِينا) أي علم ما بين أيدينا (وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) قال ابن عباس وابن جريج: ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الآخرة." وَما بَيْنَ ذلِكَ" البرزخ. وقال قتادة ومقاتل:" لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا" من أمر الآخرة" وَما خَلْفَنا" ما مضى من الدنيا" وَما بَيْنَ ذلِكَ" ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة. الأخفش:" ما بَيْنَ أَيْدِينا" ما كان قبل أن نخلق" وَما خَلْفَنا" ما يكون بعد أن نموت" وَما بَيْنَ ذلِكَ" ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت. وقيل:" ما بَيْنَ أَيْدِينا" من الثواب والعقاب وأمور الآخرة" وَما خَلْفَنا" ما مضى من أعمالنا في الدنيا (وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي ما يكون من هذا الوقت إلى يوم القيامة. ويحتمل خامسا:" ما بَيْنَ أَيْدِينا" السماء" وَما خَلْفَنا" الأرض" وَما بَيْنَ ذلِكَ" أي ما بين السماء والأرض. وقال ابن عباس في رواية" لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا" يريد الدنيا إلى الأرض" وَما خَلْفَنا" يريد السموات وهذا على عكس ما قبله" وَما بَيْنَ ذلِكَ" يريد الهواء ذكر الأول الماوردي والثاني القشيري. الزمخشري: وقيل ما مضى من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها. ولم يقل ما بين ذينك لان المراد ما بين ما ذكرنا كما قال" لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" «3»
__________
(1). راجع ج 20 ص 91 فما بعد.
(2). من ب وج وز وط وك وى.
(3). راجع ج 1 ص 448.

أي بين ما ذكرنا. (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل وقيل: المعنى لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي. وقيل: المعنى أنه عالم بجميع الأشياء متقدمها ومتأخرها ولا ينسى شيئا منها. قوله تعالى: (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي ربهما وخالقهما وخالق ما بينهما ومالكهما ومالك ما بينهما، فكما إليه تدبير الأزمان كذلك إليه تدبير الأعيان. (فَاعْبُدْهُ) أي وحده لذلك. وفي هذا دلالة على أن اكتسابات الخلق مفعولة لله تعالى كما يقوله أهل الحق وهو القول الحق لان الرب في هذا الموضع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماء والأرض دخل في ذلك اكتساب الخلق ووجبت عبادته لما ثبت أنه المالك على الإطلاق وحقيقة العبادة الطاعة بغاية الخضوع ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود. (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أي لطاعته ولا تحزن لتأخير الوحي عنك بل اشتغل بما أمرت به. واصل اصطبر اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل من التاء طاء كما تقول من الصوم: اصطام. (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال ابن عباس: يريد هل تعلم له ولدا أي نظيرا «1»، أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن. وقاله مجاهد. مأخوذ من المساماة. وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: هل تعلم له أحدا سمي الرحمن. قال النحاس: وهذا أجل إسناد علمته روي في هذا الحرف وهو قول صحيح ولا يقال الرحمن إلا لله. قلت وقد مضى هذا مبينا في البسملة «2». والحمد لله. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال: مثلا. ابن المسيب: عدلا. قتادة والكلبي هل تعلم أحدا يسمى الله تعالى غير الله أو يقال له الله إلا الله وهل بمعنى لا، أي لا تعلم. والله تعالى أعلم.
__________
(1). في ط الاولى: أي. خطأ.
(2). راجع ج 1 ص 103 فما بعد.

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)

[سورة مريم (19): الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
قوله تعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) الإنسان هنا أبي ابن خلف وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال: زعم محمد أنا نبعث بعد الموت قاله الكلبي ذكره الواحدي والثعلبي والقشيري وقال المهدوي نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه وهو قول ابن عباس. واللام في" لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا" للتأكد. كأنه قيل له إذا ما مت لسوف تبعث حيا فقال" أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا"! قال ذلك منكرا فجاءت اللام في الجواب كما كانت في القول الأول ولو كان مبتدئا لم تدخل اللام لأنها للتأكيد والإيجاب وهو منكر للبعث. وقرا ابن ذكوان" إذا ما مت" على الخبر والباقون بالاستفهام على أصولهم بالهمز. وقرا الحسن وأبو حيوة:" لسوف اخرج حيا" قاله استهزاء لأنهم لا يصدقون بالبعث. والإنسان هاهنا الكافر. قوله تعالى: (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) أي أو لا يذكر هذا القائل (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل سؤاله وقول هذا القول (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) فالإعادة مثل الابتداء فلم يناقض. وقرا أهل الكوفة إلا عاصما واهل مكة وأبو عمر وأبو جعفر" أولا يذكر" وقرا شيبة ونافع وعاصم:" أَوَلا يَذْكُرُ" بالتخفيف. والاختيار التشديد وأصله يتذكر لقوله تعالى" إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ" «1» وأخواتها وفي حرف أبي" أولا يتذكر" وهذه القراءة على التفسير لأنها مخالفة لخط المصحف: ومعنى" يتذكر" يتفكر ومعنى" يذكر" يتنبه ويعلم قاله النحاس.
__________
(1). راجع ج 15 ص 340.

قوله تعالى: (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) أقسم بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى المعاد كما يحشر المؤمنين. (وَالشَّياطِينَ) أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم. قيل: يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة كما قال:" احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ" «1» [الصافات: 22] الزمخشري والواو في" وَالشَّياطِينَ" يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع. والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذي أغووهم، يقرنون «2» كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة فإن أريد الأناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة. فإن قلت: هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت لم يفرق بينهم في المحشر وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة وسرورا إلى سرور ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم «3» وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم فإن قلت ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت أما إذا فسر الإنسان بالخصوص فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا «4» على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو قال الله تعالى" وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً" «5» [كل «6»] على الحالة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات من تجاثي أهلها على الركب. لما في ذلك من الاستيفاز والقلق «7» وإطلاق الجثا خلاف الطمأنينة أو لما «8» يدهمهم من شدة الامر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجثون على ركبهم جثوا. وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم. على أن" جِثِيًّا" حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التواقف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب. ويقال: إن معنى (لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)
__________
(1). راجع ج 15 ص 72 فما بعد. [.....]
(2). كذا في اوفي ب وج وز وط وك. يقرن. وفي ى: يحشر.
(3). في ز: حزنهم.
(4). العتل: الدفع والإرهاق بالسوق العنيف. قعد مستوفز أي غير مطمئن. ( (
(5). راجع ج 16 ص 174.
(6). من ج وط وك.
(7). الاستيفاز: عدم الاطمئنان قال الجوهري:
(8). في ج: ولما يدهمهم.

أي جثيا على ركبهم عن مجاهد وقتادة أي أنهم لشدة ما هم فيه لا يقدرون على القيام. و" حَوْلَ جَهَنَّمَ" يجوز أن يكون داخلها كما تقول: جلس القوم حول البيت أي داخله مطيفين به فقوله: (حَوْلَ جَهَنَّمَ) على هذا يجوز أن يكون بعد الدخول. ويجوز أن يكون قبل الدخول. و" جِثِيًّا" جمع جاث. يقال: جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثوا وجثيا على فعول فيهما. وأجثاه غيره. وقوم جثى أيضا مثل جلس جلوسا وقوم جلوس وجثى أيضا بكسر الجيم لما بعدها من الكسر. وقال ابن عباس:" جِثِيًّا" جماعات. وقال مقاتل: جمعا جمعا وهو على هذا التأويل جمع جثوة وجثوة وجثوة ثلاث لغات وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع فأهل الخمر على حدة واهل الزنى على حدة وهكذا قال طرفة:
ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد
وقال الحسن والضحاك: جاثية على الركب. وهو على هذا التأويل جمع جاث على ما تقدم. وذلك لضيق المكان أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسا تاما. وقيل: جثيا على ركبهم للتخاصم كقوله تعالى:" ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" «1». وقال الكميت:
هم تركوا سراتهم جثيا ... وهم دون السراة مقرنينا
قوله تعالى: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي لنستخرجن من كل أمة واهل دين (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) النحاس: وهذه آية مشكلة في الاعراب لان القراء كلهم يقرءون" أَيُّهُمْ" بالرفع إلا هرون القارئ الأعور فإن سيبويه حكى عنه" ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ" بالنصب أوقع على أيهم لننزعن. قال أبو إسحاق: في رفع" أَيُّهُمْ" ثلاثة أقوال، قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه: إنه مرفوع على الحكاية والمعنى ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال من أجل عتوه أيهم أشد على الرحمن عتيا وأنشد الخليل فقال:
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم. وقال أبو جعفر النحاس: ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه قال: لأنه معنى قول أهل التفسير. وزعم أن معنى
__________
(1). راجع ج 15 ص 254.

" ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ" ثم لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى. كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثم الذي يليه وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس:" لَنَنْزِعَنَّ" بمنزلة الافعال التي تلغى ورفع" أَيُّهُمْ" على الابتداء. المهدوي: والفعل هو" لَنَنْزِعَنَّ" عند يونس معلق قال أبو علي: معنى ذلك أنه يعمل في موضع" أَيُّهُمْ أَشَدُّ" لا أنه ملغى. ولا يعلق عند الخليل وسيبويه مثل" لَنَنْزِعَنَّ" إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه. وقال سيبويه:" أيهم" مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف، لأنك لو قلت: رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحا، حتى تقول من هو أفضل، والحذف في" أيهم" جائز. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا وسمعت أبا إسحاق يقول: ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما، قال: وقد علمنا أن سيبويه أعرب أيا وهى مفردة لأنها تضاف، فكيف يبنيها وهي مضافة؟! ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال. أبو علي: إنما وجب البناء على مذهب سيبويه لأنه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه كما حذف في" مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ 30: 4" «1» ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه لان الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه. قال أبو جعفر: وفية أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق قال الكسائي:" لَنَنْزِعَنَّ" واقعة على المعنى كما تقول: لبست من الثياب واكلت من الطعام ولم يقع" لَنَنْزِعَنَّ" على" أَيُّهُمْ" فينصبها. زاد المهدوي: وإنما الفعل عنده واقع على موضع" مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ" وقوله:" أَيُّهُمْ أَشَدُّ" جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء ولا يرى سيبويه زيادة" من" في الواجب. وقال الفراء: المعنى ثم لننزعن بالنداء ومعنى:" لَنَنْزِعَنَّ" لننادين. المهدوي: ونادى فعل يعلق إذا كان بعده جملة كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ قال أبو جعفر وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في" أَيُّهُمْ" معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها والمعنى: ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول: ضربت القوم أيهم غضب والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو جعفر فهذه ستة
__________
(1). راجع ج 14 ص 1 فما بعد.

أقوال وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال" أَيُّهُمْ" متعلق ب" شِيعَةٍ" فهو مرفوع بالابتداء والمعنى ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيا وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون. و" عِتِيًّا" نصب على البيان. [قوله تعالى «1»]: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) 70
«2» أي أحق بدخول النار يقال: صلى يصلى صليا نحو مضى الشيء يمضي مضيا إذا ذهب وهوى يهوي هويا. وقال الجوهري: ويقال صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية وقرى" وَيَصْلى سَعِيراً" «3». ومن خفف فهو من قولهم: صلى فلان بالنار (بالكسر) يصلى صليا أحترق قال الله تعالى" هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا 70" قال العجاج: «4»
والله لولا النار أن نصلاها

ويقال أيضا صلي بالأمر إذا قاسى حره وشدته. قال الطهوي:
ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين
واصطليت بالنار وتصليت بها. قال أبو زبيد:
وقد تصليت حر حربهم ... كما تصلى المقرور من قرس
وفلان لا يصطلى بناره إذا كان شجاعا لا يطاق. قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَإِنْ مِنْكُمْ" هذا قسم والواو يتضمنه. ويفسره حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يموت لاحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة
__________
(1). من ب وج وز وك.
(2). (صليا) بضم الصاد قراءة (نافع) وعليها التفسير.
(3). راجع ج 19 ص 270.
(4). ونسبه في اللسان مادة (فيه) إلى الزفيان، وأورده في أبيات هي:
ما بال عين شوقها استبكاها ... في رسم دار لبست بلاها
تالله لولا النار أن نصلاها ... أو يدعو الناس علينا الله

لما سمعنا لأمير قاها

ألقاه: الطاعة.

القسم ( «1» قال الزهري: كأنه يريد هذه الآية (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ذكره أبو داود الطيالسي فقوله:" إلا تحلة القسم" يخرج في التفسير المسند لان القسم المذكور في هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها" وقد قيل إن المراد بالقسم قوله تعالى:" وَالذَّارِياتِ ذَرْواً" إلى قوله" إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ" «2» والأول أشهر، والمعنى متقارب. الثانية- وأختلف الناس في الورود فقيل: الورود الدخول روي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم." ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا" أسنده أبو عمر في كتاب" التمهيد". وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم وروي عن يونس [عن الحسين «3»] أنه كان يقرأ:" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها" الورود الدخول على التفسير للورود فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن. وفي مسند الدارمي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر «4» الفرس ثم كالراكب المجد في رحله ثم كشد الرجل في مشيته (. وروى عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي: أما أنا وأنت فلا بد أن نردها أما أنا فينجيني الله منها وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك. وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر وقد بيناه في" التذكرة". وقالت فرقة: الورود الممر على الصراط. وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقاله الحسن أيضا قال: ليس الورود الدخول إنما تقول: وردت البصرة ولم أدخلها. قال: فالورود أن يمروا على الصراط. قال أبو بكر الأنباري: وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة واحتجوا بقول الله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ 10"
__________
(1). (إلا تحلة القسم): أي لا يدخل النار ليعاقبه بها ولكنه يجوز عليها فلا يكون ذلك إلا بقدر ما يبر الله به قسمه. [.....]
(2). راجع ج 17 ص 29.
(3). من ب وج وز وط وك.
(4). الحضر (بالضم): العدو وشد الرجل: عدوه أيضا.

«1» قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها. وكان هؤلاء يقرءون" ثم" بفتح الثاء" نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا". واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الاولى بأن معنى قوله:" أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ 10" عن العذاب فيها والإحراق بها. قالوا: فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها في الحقيقة. ويستدلون بقوله تعالى:" ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا" بضم الثاء ف" ثُمَّ" تدل على نجاء بعد الدخول. قلت: وفي صحيح مسلم (ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم) قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: (دحض مزلة «2» فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم) الحديث. وبه أحتج من قال إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنته هذه الآية لا الدخول فيها. وقالت فرقة: بل هو ورود إشراف وأطلاع وقرب. وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة" وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ" أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى" وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ" «3» أي أشرف عليه لا أنه دخله. وقال زهير:
فلما وردن الماء زرقا «4» (جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم
وروت حفصة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية) قالت فقلت: يا رسول الله وأين قول الله تعالى" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها" فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فمه" ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا"). أخرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عند حفصة.
__________
(1). راجع ص 345 من هذا الجزء.
(2). دحض مزلة: هما بمعنى وهو الموضع الذي نزل فيه الاقدام ولا تستقر.
(3). راجع ج 13 ص 267.
(4). يقال: ماء أزرق إذا كان صافيا. وجمام جمع جم وجمه وهو الماء المجتمع. والحاضر: النازل على الماء. والمتخيم: المقيم وأصله من تخيم إذا نصب الخيمة. يصف زهير الظعائن بأنهن في أمن ومنعة فإذا نزلن نزلن آمنات كنزول من هو في أهله ووطنه. والبيت من معلقته.

الحديث. ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ 10" وقال مجاهد: ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم عاد مريضا من وعك به فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول:" هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار" (أسنده أبو عمر قال: حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله [عن أبي صالح «1»] الأشعري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاد مريضا فذكره. وفي الحديث (الحمى حظ المؤمن من النار). وقالت فرقة: الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى. واحتجوا بحديث ابن عمر: (إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) الحديث. وروى وكيع عن شعبة عن عبد الله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قال: هذا خطاب للكفار. وروي عنه أنه كان يقرأ:" وإن منهم" ردا على الآيات التي قبلها في الكفار: قوله" فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا. ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا. 70- 68 وإن منهم [مريم: 68] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة وعليها فلا شغب «2» في هذه القراءة. وقالت فرقة: المراد ب (- مِنْكُمْ) الكفرة والمعنى: قل لهم يا محمد. وهذا التأويل أيضا سهل التناول والكاف في (مِنْكُمْ) راجعة إلى الهاء في (لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ. ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء، فقد عرف ذلك في قوله عز وجل" وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً" «3» [الإنسان: 22- 21] معناه كان لهم فرجعت الكاف إلى الهاء وقال الأكثر: المخاطب العالم كله ولا بد من ورود الجميع وعليه نشأ
__________
(1). الزيادة من (تهذيب التهذيب) وتفسير الطبري.
(2). كذا في ب وج وك: بالمعجمة. وفي اوز وط بالمهملة.
(3). راجع ج 19 ص 141 فما بعد.

الخلاف في الورود. وقد بينا أقوال العلماء فيه. وظاهر الورود الدخول لقوله عليه الصلاة والسلام: (فتمسه النار) لان المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين وينجون منها سالمين. قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يقل ربنا: إنا نرد النار؟ فيقال لقد وردتموها فألقيتموها رمادا. قلت: وهذا القول يجمع شتات لأقوال فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونجي منها. نجانا الله تعالى منها بفضله وكرمه وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما وخرج منها غانما. فإن قيل: فهل يدخل الأنبياء النار؟ قلنا: لا نطلق هذا ولكن نقول: إن الخلق جميعا يردونها كما دل عليه حديث جابر أول الباب فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بون. وقال أبن الأنباري محتجا لمصحف عثمان وقراءة العامة: جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب كما قال: (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) فأبدل الكاف من الهاء. وقد تقدم هذا المعنى في (يونس) «1». الثالثة- الاستثناء في قوله عليه السلام (إلا تحلة القسم) يحتمل أن يكون استثناء منقطعا: لكن تحلة القسم وهذا معروف في كلام العرب والمعنى ألا تمسه النار أصلا وتم الكلام هنا ثم ابتدأ (إلا تحلة القسم) أي لكن تحلة القسم لأبد منها في قوله تعالى:" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها" وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شي من مسيس لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار) والجنة الوقاية والستر ومن وقى النار وستر عنها فلن تمسه أصلا ولو مسته لما كان موقى. الرابعة: هذا الحديث يفسر الأول لان فيه ذكر الحسبة، ولذلك جعله مالك بأثره مفسرا له. ويقيد هذا الحديث الثاني أيضا ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابا «2» من النار- أو-
__________
(1). راجع ج 8 ص 324 فما بعد.
(2). كان (: بالإفراد واسمها ضمير يعود. على الموت المفهوم مما سبق أي كان موتهم له حجابا. ولابي ذر عن الكشميهني (كانوا له حجابا). (قسطلاني).

دخل الجنة) فقوله عليه السلام (لم يبلغوا الحنث)- ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحلم ولم يبلغوا أن يلزمهم حنث- دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة- والله أعلم- لان الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل [من «1»] ليس بمرحوم. وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم في المشيئة وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم الغلط، إلى ما روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أخبار الآحاد الثقات العدول، وأن قوله عليه الصلاة والسلام (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه) الحديث مخصوص، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يشق بدليل الأحاديث والإجماع. وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضى الله تعالى عنها: (يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم) ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به. وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه. وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة ابن إياس المزني عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلا من الأنصار مات له أبن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما يسرك ألا تأتى بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك) فقالوا: يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال (بل للمسلمين عامة) قال أبو عمر: هذا حديث ثابت صحيح بمعنى «2» ما ذكرناه مع إجماع الجمهور، وهو يعارض حديث يحيى ويدفعه. قال أبو عمر: الوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر، وصبر واحتسب في مصيبته، فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الأغلب من أمرهم ما وصفنا وهم الصحابة رضى الله تعالى عنهم أجمعين. وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال: نسخ قوله تعالى" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها" قوله:" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ 10"
__________
(1). من ب وز وط وك.
(2). في اوب وج وز وط وك. وفي ى: يعني. [.....]

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)

[الأنبياء: 101] وهذا ضعيف، وهذا ليس موضع نسخ. وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها. وفي الخبر: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي). الخامسة- قوله تعالى:" كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا" الحتم إيجاب القضاء أي كان ذلك حتما." مَقْضِيًّا" أي قضاه الله تعالى عليكم. وقال ابن مسعود: أي قسما واجبا. قوله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي نخلصهم (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) وهذا مما يدل على أن الورود الدخول لأنه لم يقل: وندخل الظالمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو. وقالت المرجئة: لا يدخل. وقالت الوعيدية: يخلد. وقد مضى بيان هذا في غير موضع. وقرا عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة" ثم ننجي" مخففة من أنجى. وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي. وثقل الباقون. وقرا ابن أبي ليلى:" ثمه" بفتح الثاء أي هناك. و" ثم" ظرف إلا أنه مبني لأنه غير محصل فبني كما بني ذا، والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فتثبت في الوصل تاء.

[سورة مريم (19): الآيات 73 الى 76]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قوله تعالى: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) 10: 15 أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى:" أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا" [مريم: 66]. وقال فيهم:" وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا" أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا، وقالوا: فما بالنا- إن كنا على باطل- أكثر أموالا وأعز نفرا. وغرضهم إدخال الشبهة المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه

المحق في دينه وكأنهم لم يروا في الكفار فقيرا ولا في المسلمين غنيا ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها. و" بَيِّناتٍ" معناه مرتلات الألفاظ ملخصه المعاني، مبينات المقاصد، إما محاكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولا أو فعلا. أو ظاهرات الاعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى:" وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً" «1» لان آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة وحججا. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) 110 يريد مشركي قريش النضر بن الحرث وأصحابه. (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني فقراء أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا). قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد" مقاما" بضم الميم وهو موضع الإقامة. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة. الباقون" مَقاماً" بالفتح، أي منزلا ومسكنا. وقيل: المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة، أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا." وَأَحْسَنُ نَدِيًّا" أي مجلسا، عن ابن عباس. وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي. ومنه دار الندوة لان المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم. وناداه جالسه في النادي. قال:
أنادي به آل الوليد وجعفرا

والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي [والمنتدى «2»] والمتندى، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري. قوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من أمة وجماعة. (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً) أي متاعا كثيرا، قال: «3»
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
__________
(1). راجع ج 2 ص 29.
(2). الزيادة من (الصحاح) للجوهري.
(3). هو امرؤ القيس. والفرع: الشعر التام. والمتن ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم. والفاحم الشديد السواد. وأثيث: كثير أصل النبات. والقنو: العذق وهو الشمراخ. والمتعثكل الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته. وقيل: المتدلي.

والأثاث متاع البيت. وقيل: هو ماجد الفرش والخرثي ما لبس منها وأنشد الحسن ابن علي الطوسي فقال:
تقادم العهد من أم الوليد بنا ... دهرا وصار أثاث البيت خرثيا
وقال ابن عباس: هيئة. مقاتل ثيابا" وَرِءْياً" أي منظرا حسنا. وفية خمس قراءات: قرأ أهل المدينة:" وريا" بغير همز. وقرا أهل الكوفة:" ورئيا" بالهمز. وحكى يعقوب أن طلحة قرأ:" وريا" بياء واحدة مخففة. وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس «1»:" هم أحسن أثاثا وزيا" بالزاي، فهذه أربع قراءات. قال أبو إسحاق: ويجوز" هم أحسن أثاثا وريئا" بياء بعدها همزة. النحاس: وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها تقريران: أحدهما- أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء. وكان هذا حسنا لتتفق رءوس الآيات لأنها غير مهموزات. وعلى هذا قال ابن عباس: الرئي المنظر، فالمعنى: هم أحسن أثاثا ولباسا. والوجه الثاني- أن جلودهم مرتوية من النعمة، فلا يجوز الهمز على هذا. وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر" وَرِءْياً" بالهمز تكون على الوجه الأول. وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل. وقراءة طلحة بن مصرف (وريا) بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا. وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء، ثم حذفت إحدى الياءين. المهدوي: ويجوز أن يكون" رِءْياً" فقلبت ياء فصارت رئيا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت. وقد قرأ بعضهم" وريا" على القلب وهي القراءة الخامسة. وحكى سيبويه راء بمعنى رأى. الجوهري: من همزه جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة. وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الرئي الجميل من الأثاث
ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا، أي امتلأت وحسنت. وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي «2»
__________
(1). الذي في الشواذ لسعيد بن جبير.
(2). في التهذيب: الكوفي.

ويزيد البربري" وزيا" بالزاي فهو الهيئة والحسن. ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت، فيكون أصلها زويا فقلبت الواو ياء. ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (زويت لي الأرض) أي جمعت، أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى، فليعش هؤلاء ما شاءوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا، أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به. قوله تعالى: (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) أي في الكفر (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أي فليدعه في طغيان جهله وكفره فلفظه لفظ الامر ومعناه الخبر أي من كان الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك أشد لعقابه. نظيره:" إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً" «1» [آل عمران: 178] وقوله:" وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 110" «2» [الانعام: 110] ومثله كثير، أي فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر، فمصيره إلى الموت والعقاب. وهذا غاية في التهديد والوعيد. وقيل: هذا دعاء أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تقول: من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده: فهو دعاء على السارق. وهو جواب الشرط. وعلى هذا فليس قوله:" فَلْيَمْدُدْ" خبرا. قوله تعالى: (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) قال:" رَأَوْا" لان لفظ" من" يصلح للواحد والجمع. و" إذا" مع الماضي بمعنى المستقبل، أي حتى يروا ما يوعدون والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر، وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا). قوله تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى ويزيدهم في النصرة وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم وقيل: يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم قال معناه الكلبي ومقاتل.
__________
(1). راجع ج 4 ص 286 فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 65.

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)

ويحتمل ثالثا- أي" وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا" إلى الطاعة" هُدىً" إلى الجنة والمعنى متقارب. وقد تقدم القول في معنى زيادة الأعمال وزيادة الايمان والهدى في" آل عمران" «1» وغيرها. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) تقدم في (الكهف) «2» القول فيها. (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أي جزاء: (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي في الآخرة مما افتخر به الكفار في الدنيا. و(المرد) مصدر كالرد، أي وخير ردا على عاملها بالثواب، يقال: هذا أرد عليك أي أنفع لك. وقيل" خَيْرٌ مَرَدًّا" أي مرجعا فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.

[سورة مريم (19): الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) روى الأئمة- واللفظ لمسلم- عن خباب قال: كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد. قال: فقلت له لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟! فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال وكيع: كذا قال الأعمش، فنزلت هذه الآية:" أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً" إلى قوله:" وَيَأْتِينا فَرْداً 80". في رواية قال: كنت قينا «3» في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل عملا، فأتيته أتقاضاه. خرجه البخاري أيضا. وقال الكلبي ومقاتل: كان خباب قينا فصاغ للعاص حليا ثم تقاضاه أجرته فقال العاص: ما عندي اليوم ما أقضيك. فقال خباب: لست بمفارقك حتى تقضيني فقال العاص: يا خباب ما لك؟! ما كنت هكذا، وأن كنت لحسن الطلب. فقال خباب: إني كنت على دينك فأما اليوم فأنا على دين الإسلام مفارق لدينك، قال: أو لستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب: بلى قال فأخرني حتى أقضيك
__________
(1). راجع ج 4 ص 280 فما بعد.
(2). راجع ج 10 ص 414 فما بعد.
(3). القين: الحداد والصائغ.

في الجنة- استهزاء- فو الله لئن كان ما تقول حقا إني لاقضيك فيها، فوالله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها مني، فأنزل الله تعالى" أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا" يعني العاص ابن وائل الآيات." أَطَّلَعَ الْغَيْبَ" قال ابن عباس: (أنظر في اللوح المحفوظ)؟!. وقال مجاهد: أعلم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟!" أم آتخذ عند الرحمن عهدا" قال قتادة والثوري: أي عملا صالحا. وقيل: هو التوحيد. وقيل: هو من الوعد. وقال الكلبي: عاهد الله تعالى أن يدخله الجنة." كَلَّا" رد عليه أي لم يكن ذلك لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا وتم الكلام عند قوله:" كَلَّا". وقال الحسن: إن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة. والأول أصح لأنه مدون في الصحاح. وقرا حمزة والكسائي:" وولدا" بضم الواو، والباقون بفتحها. واختلف في الضم والفتح على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم. وقال الحرث بن حلزة:
ولقد رأيت معاشرا ... قد ثمروا مالا وولدا
وقال آخر:
فليت فلانا كان في بطن أمه ... وليت فلانا كان ولد حمار
والثاني- أن قيسا تجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا. قال الماوردي: وفي قوله تعالى:" لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً" وجهان: أحدهما- أنه أراد في الجنة استهزاء بما وعد الله تعالى على طاعته وعبادته، قاله الكلبي. الثاني: أنه أراد في الدنيا وهو قول الجمهور وفية وجهان محتملان: أحدهما إن أقمت على دين آبائي وعبادة آلهتي لأوتين مالا وولدا. الثاني: ولو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا. قلت: قول الكلبي أشبه بظاهر الأحاديث بل نصها يدل على ذلك قال مسروق: سمعت خباب بن الأرت يقول: جئت العاصي بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده. فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد. فقلت: لا حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لميت ثم مبعوث؟! فقلت: نعم. فقال: إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت [أفرأيت الذي كفر بآياتنا «1»] الآية قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
__________
(1). من ب وج وز وط وك وى.

قوله تعالى: (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) ألفه ألف استفهام لمجيء" أَمِ" بعدها ومعناه التوبيخ وأصله أاطلع فحذفت الالف الثانية لأنها ألف وصل فإن قيل فهلا أتوا بمدة بعد الالف فقالوا أطلع كما قالوا" لله خير" «1»" آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ" «2» قيل له كان الأصل في هذا" أالله"" أالذكرين" فابدلوا من الالف الثانية مدة ليفرقوا بين الاستفهام والخبر وذلك أنهم لو قالوا: الله خير بلا مد لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله:" أطلع" لان ألف الاستفهام مفتوحة وألف الخبر مكسورة وذلك أنك تقول في الاستفهام: أطلع؟ أفترى؟ أصطفى؟ استغفرت؟ بفتح الالف، وتقول في الخبر: اطلع، افترى، اصطفى، استغفرت لهم بالكسر، فجعلوا الفرق بالفتح والكسر ولم يحتاجوا إلى فرق آخر قوله تعالى: (كَلَّا) ليس في النصف «3» الأول ذكر" كَلَّا" وإنما جاء ذكره في النصف الثاني. وهو يكون بمعنيين: أحدهما بمعنى حقا. والثاني بمعنى لا. فإذا كانت بمعنى حقا جاز الوقف على ما قبله ثم تبتدئ" كَلَّا" أي حقا. وإذا كانت بمعنى لا كان الوقف على" كَلَّا" جائز كما في هذه الآية لان المعنى: لا ليس الامر كذا. ويجوز أن تقف على قوله" عَهْداً 80" وتبتدئ" كَلَّا" أي حقا" سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ" وكذا قوله تعالى:" لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا 100" «4» [المؤمنون: 100] يجوز الوقف على" كَلَّا" وعلى" تَرَكْتُ". وقوله:" وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا" «5»." الوقف على" كَلَّا" لان المعنى لا- وليس الامر كما تظن." فَاذْهَبا". فليس للحق في هذا المعنى موضع. وقال الفراء" كلا" بمنزلة سوف لأنها صلة وهي حرف رد فكأنها" نعم" و" لا" في الاكتفاء. قال: وإن جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقولك: كلا ورب الكعبة، لا تقف على كلا لأنها بمنزلة إي ورب الكعبة. قال الله تعالى" كَلَّا وَالْقَمَرِ" «6» [المدثر: 32] فالوقف على" كَلَّا" قبيح لأنه صلة لليمين. وكان أبو جعفر محمد بن سعدان يقول في" كَلَّا" مثل قول الفراء وقال الأخفش معنى
__________
(1). راجع ج 13 ص 219 فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 113.
(3). أي من القرآن قال الألوسي: (وهذا أول موضع فيه من القرآن وقد تكرر في النصف الأخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعا). [.....]
(4). راجع ج 12 ص 149 فما بعد.
(5). راجع ج 13 ص 91.
(6). راجع ج 19 ص 82.

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)

كلا الردع والزجر وقال أبو بكر بن الأنباري وسمعت أبا العباس يقول: لا يوقف على" كَلَّا" جميع القرآن لأنها جواب والفائدة تقع فيما بعدها. والقول الأول هو قول أهل التفسير. قوله تعالى: (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أي سنحفظ عليه قوله فنجازيه به في الآخرة. (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) أي سنزيده عذابا فوق عذاب. (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) 80 أي نسلبه ما أعطيناه في الدنيا من مال وولد. وقال ابن عباس وغيره: أي نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه. وقيل: نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد ونجعله لغيره من المسلمين. (وَيَأْتِينا فَرْداً) 80 أي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره.

[سورة مريم (19): الآيات 81 الى 82]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) يعني مشركي قريش. و" عِزًّا" معناه أعوانا ومنعة يعني أولادا. والعز المطر الجود «1» أيضا قاله الهروي. وظاهر الكلام أن" عِزًّا" راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله. ووحد لأنه بمعنى المصدر أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله فقال الله تعالى: (كلا) أي ليس الامر كما ظنوا وتوهموا بل يكفرون بعبادتهم أي ينكرون أنهم عبدوا الأصنام أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قال «2»:" تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ" «3» [القصص: 63] وذلك أن الأصنام جمادات لا تعلم العبادة" وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا" أي أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم عن مجاهد والضحاك: يكونون لهم أعداء. ابن زيد: يكونون عليهم بلاء فتحشر آلهتهم وتركب لهم عقول فتنطق وتقول: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك و" كلا" هنا يحتمل أن تكون بمعنى لا ويحتمل أن تكون بمعنى حقا أي حقا" سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ" وقرا
__________
(1). المطر الجود: الغزير.
(2). في ك: قالوا.
(3). راجع ج 13 ص 303 فما بعد.

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)

أبو نهيك:" كلا سيكفرون" بالتنوين. وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها. قال المهدوي" كَلَّا" ردع وزجر وتنبيه ورد لكلام متقدم، وقد تقع لتحقيق ما بعدها والتنبيه عليه كقوله:" كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى " «1» [العلق: 6] فلا يوقف عليها على هذا ويوقف عليها في المعنى الأول فان صلح فيها المعنيان جميعا جاز الوقف عليها والابتداء بها. فمن نون (كلا) من قوله: (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) مع فتح الكاف فهو مصدر كل ونصبه بفعل مضمر والمعنى: كل هذا الرأي والاعتقاد كلا يعني اتخاذهم الآلهة." لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا" فيوقف على هذا على" عِزًّا" وعلى" كَلَّا". وكذلك في قراءة الجماعة لأنها تصلح للرد لما قبلها والتحقيق لما بعدها. ومن روى ضم الكاف مع التنوين فهو منصوب أيضا بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون." كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ" يعني الآلهة. قلت: فتحصل في" كَلَّا" أربعة معان: التحقيق وهو أن تكون بمعنى حقا والنفي والتنبيه وصلة للقسم ولا يوقف منها إلا على الأول. وقال الكسائي:" لا" تنفى فحسب و" كلا" تنفي شيئا وتثبت شيئا فإذا قيل: أكلت تمرا قلت: كلا إني أكلت عسلا لا تمرا ففي هذه الكلمة نفي ما قبلها، وتحقق ما بعدها والضد يكون واحدا ويكون جمعا كالعدو والرسول وقيل: وقع الضد موقع المصدر أي ويكونون عليهم عونا فلهذا لم يجمع وهذا في مقابلة قوله:" لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا" والعز مصدر فكذلك ما وقع في مقابلته. ثم قيل: الآية في عبدة الأصنام فأجري الأصنام مجرى من يعقل جريا على توهم الكفرة. وقيل: فيمن عبد المسيح أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فالله تعالى أعلم.

[سورة مريم (19): الآيات 83 الى 87]
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
__________
(1). راجع ج 20 ص 122 فما بعد.

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي سلطناهم عليهم بالإغواء وذلك حين قال لإبليس:" وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ" «1» [الاسراء: 64]. وقيل" أَرْسَلْنَا" أي خلينا يقال: أرسلت البعير أي خليته، أي خلينا الشياطين وإياهم ولم نعصمهم من القبول منهم. الزجاج: قيضنا. (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قال ابن عباس: تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية. وعنه تغريهم إغراء بالشر: أمض أمض في هذا الامر حتى توقعهم في النار. حكى الأول الثعلبي والثاني الماوردي والمعنى واحد. الضحاك: تغويهم إغواء مجاهد: تشليهم أشلاء وأصله الحركة والغليان، ومنه الخبر المروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قام إلى الصلاة ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء). وائتزت القدر ائتزازا اشتد غليانها. والأز التهييج والإغراء قال الله تعالى" أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا" أي تغريهم على المعاصي. والأز الاختلاط. وقد أززت الشيء أؤزه أزا أي ضممت بعضه إلى بعض قاله الجوهري. قوله تعالى: (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) أي تطلب العذاب لهم. (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) قال الكلبي: آجالهم يعني الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء أجل العذاب. وقال الضحاك: الأنفاس. ابن عباس: أي نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم. وقيل الخطوات. وقيل: اللذات. وقيل: اللحظات وقيل الساعات. وقال قطرب: نعد أعمالهم عدا. وقيل لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثما. روي: أن المأمون قرأ هذه السورة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد. وقيل في هذا المعنى:
حياتك أنفاس تعد فكلما ... مضى نفس منك انتقصت به جزءا
يميتك ما يحييك في كل ليلة ... ويحدوك حاد ما يريد به الهزءا
ويقال: إن أنفاس ابن آدم بين اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس: اثنا عشر ألف نفس في اليوم واثنا عشر ألفا في الليلة- والله أعلم- فهي تعد وتحصى إحصاء ولها عدد معلوم وليس لها مدد فما أسرع ما تنفد.
__________
(1). راجع ج 10 ص 288.

قوله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) في الكلام حذف أي إلى جنة الرحمن، ودار كرامته. كقوله:" إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ" «1» [الصافات: 99] وكما في الخبر (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله). والوفد اسم للوافدين كما يقال: صوم وفطر وزور فهو جمع الوافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهو من وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة إذا خرج إلى ملك في فتح أو أمر خطير. الجوهري: يقال وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا فهو وافد، والجمع وفد مثل صاحب وصحب وجمع الوفد وفاد «2» ووفود والاسم الوفادة وأوفدته أنا إلى الأمير أي أرسلته. وفي التفسير:" وَفْداً" أي ركبانا على نجائب طاعتهم. وهذا لان الوافد في الغالب يكون راكبا والوفد الركبان ووحد لأنه مصدر. ابن جريج: وفدا على النجائب. وقال عمرو بن قيس الملائي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا- إلا إن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا أركبني اليوم وتلا" يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً" وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا- إلا إن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك. فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيئ طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك. وتلا" وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ" «3» [الانعام: 31]. ولا يصح من قبل إسناده. قاله ابن العربي في" سراج المريدين". وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم القشيري عن ابن عباس بلفظه ومعناه. وقال أيضا عن ابن عباس: من كان يحب [ركوب «4»] الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تروث ولا تبول لجمها من الياقوت الأحمر ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض وسروجها من السندس والإستبرق ومن كان يحب ركوب الإبل فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول أزمتها من الياقوت والزبرجد ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من [زبرجد و«5»] ياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الأهوال. وقال أيضا عن علي رضي الله عنه: ولما نزلت الآية قال علي رضي الله عنه: يا رسول الله!
__________
(1). راجع ج 15 ص 97.
(2). في ج وب وز وك: أو فاد.
(3). راجع ج 6 ص 423.
(4). من ب وج وز وط وك وى.
(5). من ب وج وز وط وك وى.

إنى قد رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا فما وفد الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنهم لا يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وزمامها الزبرجد فيركبونها حتى يقرعوا باب الجنة (. ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن علي أبين. وقال علي لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا. قال: (يا علي إذا كان المنصرف من بين يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة" سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ" «1» [الزمر: 73]. قلت: وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف وأما إذا خرجوا من القبور فمشاة حفاة عراة غرلا «2» إلى الموقف بدليل حديث ابن عباس قال قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموعظة فقال: (يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله- تعالى- حفاة عراة غرلا) الحديث. خرجه البخاري ومسلم وسيأتي بكماله في سورة" المؤمنين" إن شاء الله تعالى. وتقدم في" آل عمران" «3» من حديث عبد الله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى. ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء فيكون حديث ابن عباس مخصوصا! والله أعلم. وقال أبو هريرة:" وَفْداً" على الإبل. ابن عباس: ركبانا يؤتون بنوق من الجنة عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها وقال علي: ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رجالها من ذهب ونجب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن حركوها طارت. وقيل: يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن على ما تقدم عن ابن عباس. والله أعلم. وقيل إنما قال:" وَفْداً" لان من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات وينتظرون الجوائز فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) السوق الحث على السير. و" وِرْداً" عطاشا قاله ابن عباس
__________
(1). راجع ج 15 ص 284 فما بعد. [.....]
(2). الغرل (جمع الأغرل): وهو الأقلف.
(3). راجع ج 4 ص 273.

وأبو هريرة رضى الله عنهما والحسن. والأخفش والفراء وابن الاعرابي: حفاة مشاة. وقيل: أفرادا «1». وقال الأزهري: أي مشاة عطاشا كالإبل ترد الماء فيقال جاء ورد بني فلان. القشيري: وقوله: (وِرْداً) يدل على العطش لان الماء إنما يورد في الغالب للعطش. وفي" التفسير" مشاة عطاشا تتقطع أعناقهم من العطش وإذا كان سوق المجرمين إلى النار فحشر المتقين إلى الجنة. وقيل" وِرْداً" أي الورود كقولك: جئتك إكراما لك أي لاكرامك أي نسوقهم لورود النار. قلت: ولا تناقض بين هذه الأقوال فيساقون عطاشا حفاة مشاة أفرادا «2». قال ابن عرفة: الورد القوم يردون الماء، فسمي العطاش وردا لطلبهم ورود الماء كما تقول: قوم صوم أي صيام وقوم زور أي زوار فهو اسم على لفظ المصدر واحدهم وارد. والورد أيضا الجماعة التي ترد الماء من طير وابل. والورد الماء الذي يورد. وهذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء. والورد الجزء [من القرآن «3»] يقال: قرأت وردي. والورد يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت. فظاهره لفظ مشترك. وقال الشاعر يصف قليبا «4».
يطمو إذا الورد عليه التكا «5»

أي الوراد الذين يريدون الماء. قوله تعالى: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) أي هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لاحد (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) وهم المسلمون فيملكون الشفاعة فهو استثناء الشيء من غير جنسه أي لكن" مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً" يشفع، ف"- مَنِ" في موضع نصب على هذا. وقيل: هو في موضع رفع على البدل من الواو في" يَمْلِكُونَ" أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة" إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً" فإنه يملك وعلى هذا يكون الاستثناء
__________
(1). في ا: أفواجا.
(2). في ا: أفواجا.
(3). الزيادة من (اللسان).
(4). القليب: البئر.
(5). صدره:
صبحن من وشحى قليبا سكا

وشحى: اسم بئر. والسك: الضيقة. والتك الورد: ازدحم وضرب بعضه بعضا. وطمت البئر تطمو طموا وتطمى طميا: امتلأت.

متصلا. و" الْمُجْرِمِينَ" في قوله:" وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً" يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم لا يملكون الشفاعة إلا العصاة المؤمنون فإنهم يملكونها بأن يشفع فيهم. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فيقول يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي) خرجه مسلم بمعناه. وقد تقدم. وتظاهرت الاخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون، وعلى القول الأول يكون الكلام متصلا بقوله:" وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا" فلا تقبل غدا شفاعة عبدة الأصنام لاحد، ولا شفاعة الأصنام لاحد، ولا يملكون شفاعة أحد لهم أي لا تنفعهم شفاعة كما قال: (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) «1». وقيل: أي نحشر المتقين والمجرمين ولا يملك أحدا شفاعة." إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً" أي إذا أذن له الله «2» في الشفاعة. كما قال:" مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ" «3» [البقرة: 255]. وهذا العهد هو الذي قال:" أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً" وهو لفظ جامع للايمان وجميع [الأعمال ] الصالحات التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع. وقال ابن عباس: العهد لا إله إلا الله. وقال مقاتل وابن عباس أيضا: لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله وتبرأ من الحول والقوة «4» لله ولا يرجو إلا الله تعالى. وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأصحابه: (أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا) قيل يا رسول الله وما ذاك؟ قال (يقول عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك [ (فلا تكلني إلى «5» نفسي ] فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الله عهد فيقوم فيدخل الجنة.
__________
(1). راجع ج 19 ص 82.
(2). في ب وج وز وك: الرب.
(3). راجع ج 3 ص 268 فما بعد.
(4). أي من حوله وقوته لله.
(5). الزيادة من رواية الترمذي.

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)

[سورة مريم (19): الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
قوله تعالى: (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) يعنى اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله. وقرا يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم وخلف:" ولدا" بضم الواو وإسكان اللام، في أربعة مواضع: من هذه السورة قوله تعالى:" لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً" [مريم: 77] وقد تقدم، وقوله:" أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً". وفي سورة نوح" مالُهُ وَوَلَدُهُ" «1» [نوح: 21]. ووافقهم في" نوح" خاصة ابن كثير ومجاهد وحميد وأبو عمرو ويعقوب. والباقون في الكل بالفتح في الواو واللام وهما لغتان مثل والعرب والعرب والعجم والعجم قال:
ولقد رأيت معاشرا ... قد ثمروا مالا وولدا
وقال آخر:
وليت فلانا كان في بطن أمه ... وليت فلانا كان ولد حمار
وقال في معنى ذلك النابغة:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد
ففتح. وقيس يجعلون الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا. قال الجوهري: الولد قد يكون واحدا وجمعا وكذلك الولد بالضم. ومن أمثال بني أسد: ولدك من دمى عقبيك «2». وقد يكون الولد جمع الولد مثل أسد وأسد والولد بالكسر لغة في الولد. النحاس: وفرق
__________
(1). راجع ج 18 ص 306.
(2). أي من نفست به فأدمى النفاس عقبيك فهو ابنك. [.....]

أبو عبيدة بينهما فزعم أن الولد يكون للأهل والولد جميعا. قال أبو جعفر وهذا قول مردود لا يعرفه أحد من أهل اللغة ولا يكون الولد والولد إلا ولد الرجل، وولد ولده، إلا أن ولدا أكثر في كلام العرب، كما قال:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد
قال أبو جعفر وسمعت محمد بن الوليد يقول: يجوز أن يكون ولد جمع ولد كما يقال وثن ووثن وأسد وأسد، ويجوز أن يكون ولد وولد بمعنى واحد كما يقال عجم وعجم وعرب وعرب كما تقدم. قوله تعالى (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أي منكرا عظيما، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. قال الجوهري: الإد والادة الداهية والامر الفظيع ومنه قوله تعالى:" لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا" وكذلك الآد مثل فاعل. وجمع الادة أدد. وأدت فلانا داهية تؤده إدا (بالفتح). والاد أيضا الشدة. [والاد الغلبة والقوة «1»] قال الراجز:
نضون عني شدة وأدا ... من بعد ما كنت صملا جلدا «2»
انتهى كلامه. وقرا أبو عبد الرحمن «3» السلمي:" إدا" بفتح الهمزة. النحاس: يقال أد يؤد إدا فهو آد والاسم الإد، إذا جاء بشيء عظيم منكر. وقال الراجز:
قد لقي الاقران مني نكرا ... داهية دهياء إدا إمرا
عن غير النحاس الثعلبي: وفيه ثلاث لغات" إِدًّا" بالكسر وهي قراءة العامة" وادا" بالفتح وهى قراءة السلمي و" آد" مثل ماد وهي لغة لبعض العرب رويت عن ابن عباس وأبي العالية، وكأنها مأخوذة من الثقل [يقال ]: آده الحمل يئوده أودا أثقله. قوله تعالى: (تَكادُ السَّماواتُ) قراءة العامة هنا وفي" الشورى" «4» بالتاء. وقراءة نافع ويحيى والكسائي" يكاد" بالياء لتقدم الفعل. (يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) 90 أي يتشققن. وقرا نافع وابن كثير وحفص وغيرهم: بتاء بعد الياء وشد الطاء من التفطر هنا وفي" الشورى".
__________
(1). في الأصول: الإد القوة والشدة في ج الإد: أيضا القوة. وصوابه كما في اللسان: الإد بالكسر الشدة والاد بالفتح الغلبة والقوة.
(2). الصمل الشديد الصلب. وورد في كتب اللغة: (صملا نهدا) والنهد: القوى الشديد.
(3). ليس في الأصول أبو عبد الله إلا نسخة ا.
(4). راجع ج 16 ص 4.

ووافقهم حمزة وابن عامر في" الشورى". وقرا هنا" ينفطرن" من الانفطار: وكذلك قرأها أبو عمرو وأبو بكر والمفضل في السورتين. وهي اختيار أبي عبيد، لقوله تعالى:" إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ" «1» [الانفطار: 1] وقوله:" السماء منفطر به" «2» [المزمل: 18]. وقوله: (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) 90 أي تتصدع. (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) 90 قال ابن عباس: هدما أي تسقط بصوت شديد. وفي الحديث (اللهم إنى أعوذ بك من الهد والهدة) قال شمر قال أحمد بن غياث المروزي: الهد الهدم والهدة الخسوف. وقال الليث هو الهدم الشديد كحائط يهد بمرة يقال: هدني الامر وهد ركني أي كسرني وبلغ مني قاله الهروي والجوهري: وهد البناء يهده هدا كسره وضعضعه وهدته المصيبة أي أوهنت ركنه وانهد الجبل أي انكسر. الأصمعي: والهد الرجل الضعيف يقول الرجل للرجل إذا أوعده: إنى لغير هد أي غير ضعيف. وقال ابن الاعرابي: الهد من الرجال الجواد الكريم وأما الجبان الضعيف فهو الهد بالكسر وأنشد «3»:
ليسوا يهدين في الحروب إذا ... تعقد فوق الحراقف النطق
والهدة صوت وقع الحائط ونحوه تقول منه: هد يهد (بالكسر) هديدا والهاد صوت يسمعه أهل الساحل يأتيهم من قبل البحر له دوي في الأرض وربما كانت منه الزلزلة ودويه هديده. النحاس" هَدًّا 80" مصدر لان معنى" تَخِرُّ 90" تهد. وقال غيره: حال أي مهدودة (أن دعوا للرحمن ولدا)" أَنْ" في موضع نصب عند الفراء لان دعوا ومن أن دعوا فموضع" أَنْ" نصب بسقوط الخافض. وزعم الفراء أن الكسائي قال: هي في موضع خفض بتقدير الخافض. وذكر ابن المبارك: حدثنا مسعر عن واصل عن عون بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود: إن الجبل ليقول للجبل يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال: نعم سربه ثم قرأ عبد الله" وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً" الآية قال: «4» أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير؟!. قال: وحدثني عوف عن غالب بن عجرد «5» قال:
__________
(1). راجع 19 ص 242 وص 47 فما بعد.
(2). راجع 19 ص 242 وص 47 فما بعد.
(3). البيت للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. والحراقف (جمع حرقفة): مجتمع رأس الفخذ. والنطق (جمع نطاق): ما تشد به الأوساط.
(4). أي قال عون كما في (الدر المنثور) وغيره.
(5). كذا في الأصول ولعله (غالب بن حجرة) وط هنا تحريف.

حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال: إن الله تعالى لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة، فلم تزل الأرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم تلك الكلمة العظيمة قولهم" اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً" فلما قالوها اقشعرت الأرض وشاك الشجر. وقال ابن عباس: اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي الأشجار الشوك. وقال ابن عباس أيضا وكعب: فزعت السموات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم وشاك الشجر واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا: اتخذ الله ولدا. وقال محمد بن كعب: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى" تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً 90" قال ابن العربي: وصدق فإنه قول عظيم سبق به القضاء والقدر ولولا أن الباري تبارك وتعالى لا يضعه كفر الكافر ولا يرفعه إيمان المؤمن ولا يزيد هذا في ملكه كما لا ينقص ذلك من ملكه لما جرى شي من هذا على الألسنة ولكنه القدوس الحكيم الحليم فلم يبال بعد ذلك بما يقول المبطلون قوله تعالى: (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) نفى عن نفسه سبحانه وتعالى الولد لان الولد يقتضي الجنسية والحدوث على ما بيناه في" البقرة" «1» أي لا يليق به ذلك ولا يوصف به ولا يجوز في حقه لأنه لا يكون ولد إلا من والد يكون له والد واصل والله سبحانه يتعالى عن ذلك ويتقدس. قال: «2»
في رأس خلقاء من عنقاء مشرفة ... ما ينبغي دونها سهل ولا جبل
__________
(1). راجع ج 2 ص 85.
(2). هو ابن أحمر الباهلي يصف جبلا. والخلقاء: الصخرة ليس فيها وصم ولا كسر أي الملساء. والعنقاء: أكمة جبل مشرف.

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً)" إِنْ" نافية بمعنى ما أي ما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرا له بالعبودية خاضعا ذليلا كما قال:" وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ" «1» [النمل: 87] أي صاغرين أذلاء أي الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولدا له عز وجل تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. و" آتي" بالياء في الخط والأصل التنوين فحذف استخفافا وأضيف. الثانية- في هذه الآية دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد خلافا لمن قال إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق عليه إلا إذا أعتقه. وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الأولاد والملك فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات عتق عليه. ووجه الدليل عليه من هذه الآية أن الله تعالى جعل الولدية والعبدية في طرفي تقابل فنفى أحدهما وأثبت الآخر ولو اجتمعا لما كان لهذا القول فائدة يقع الاحتجاج بها وفي الحديث الصحيح (لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه) خرجه مسلم. فإذا لم يملك الأب ابنه مع مرتبته عليه فالابن بعدم ملك الأب أولى لقصوره عنه. الثالثة- ذهب إسحاق بن راهويه في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: (من أعتق شركا له في عبد) أن المراد به ذكور العبيد دون إناثهم فلا يكمل على من أعتق شركا في أنثى وهو على خلاف ما ذهب إليه الجمهور من السلف ومن بعدهم فإنهم لم يفرقوا بين الذكر والأنثى لان لفظ العبد يراد به الجنس كما قال تعالى:" إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً" فإنه قد يتناول الذكر والأنثى من العبيد «2» قطعا. وتمسك إسحاق بأنه قد حكى عبدة في المؤنث. الرابعة- روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يقول الله تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفوا أحد) وقد تقدم في [البقرة «3»] وغيرها وإعادته في مثل هذا الموضع حسن جدا.
__________
(1). راجع ج 13 ص 239 فما بعد.
(2). كذا في ج وفي اوح: العبد.
(3). تقدم الحديث في ج 2 ص 85 بلفظ آخر. [.....]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)

قوله تعالى: (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) أي علم عددهم (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) تأكيد أي فلا يخفى عليه أحد منهم. قلت: ووقع لنا في أسمائه سبحانه المحصي أعني في السنة من حديث أبي هريرة خرجه الترمذي واشتقاق هذا الفعل يدل عليه. وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال:" ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" «1». ووقع في تفسير ابن عباس أن معنى" لقد أحصاهم وعدهم عدا" يريد أقروا له بالعبودية وشهدوا له بالربوبية. قوله تعالى: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي واحدا لا ناصر له ولا مال معه لينفعه «2» كما قال تعالى:" يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" «3» فلا ينفعه إلا ما قدم من عمل وقال:" وَكُلُّهُمْ آتِيهِ" على لفظ وعلى المعنى آتوه. وقال القشيري: وفية إشارة إلى أنكم لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم والكل عبيده فكيف رضيتم له مالا ترضون لأنفسكم. وقد رد عليهم في مثل هذا في أنهم لا يرضون لأنفسهم بالبنات ويقولون: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك وقولهم: الأصنام بنات الله. وقال:" فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم" «4».

[سورة مريم (19): آية 96]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)
قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا" أي صدقوا." وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا" أي حبا في قلوب عباده. كما رواه الترمذي من حديث سعد وأبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه- قال- فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض. فذلك قوله تعالى:" سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا"
__________
(1). راجع ج 18 ص 213 فما بعد.
(2). كذا في الأصول إلا ا: ينفعه.
(3). راجع ج 13 ص 113 فما بعد.
(4). راجع ج 7 ص 89 فما بعد.

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)

وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إني أبغضت فلانا فينادي في السماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض (" قال هذا حديث حسن صحيح. وخرجه البخاري ومسلم بمعناه ومالك في الموطأ وفي نوادر الأصول. وحدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال: حدثنا أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله أعطى المؤمن الالفة «1» والملاحة والمحبة في صدور الصالحين والملائكة المقربين- ثم تلا-" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا". واختلف فيمن نزلت فقيل في علي رضي الله تعالى عنه روى البراء بن عازب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي بن أبي طالب: (قل يا علي اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة) فنزلت الآية ذكره الثعلبي. وقال ابن عباس: نزلت في عبد الرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة لا يلقاه مؤمن إلا وقره لا مشرك ولا منافق إلا عظمه. وكان هرم بن حيان يقول: ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الايمان إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وقيل: يجعل الله تعالى لهم مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة. قلت: إذا كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا ولا يرضى إلا خالصا نقيا جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل عليه السلام فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء- قال- ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه [قال «2»] فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه- قال- فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض..

[سورة مريم (19): آية 97]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97)
__________
(1). في ب وج وز وط: المقة: والمقة بكسر الميم وآخره هاء: المحبة وفي ك: الشفقة.
(2). من ب وج وط وك.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)

قوله تعالى: (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي القرآن يعني بيناه بلسانك العربي وجعلناه سهلا على من تدبره وتأمله. وقيل: أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه. (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) [أي المؤمنين «1»] (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) اللد جمع الألد وهو الشديد الخصومة ومنه قوله تعالى:" أَلَدُّ الْخِصامِ «2»" وقال الشاعر:
أبيت نجيا للهموم كأنني ... أخاصم أقواما ذوي جدل لدا
وقال أبو عبيدة: الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل. الحسن: اللد الصم عن الحق. قال الربيع: صم أذان القلوب. مجاهد: فجارا. الضحاك: مجادلين في الباطل. ابن عباس: شدادا في الخصومة. وقيل: الظالم الذي لا يستقيم والمعنى واحد. وخصوا بالإنذار لان الذي لا عناد عنده يسهل انقياده

[سورة مريم (19): آية 98]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
قوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من أمة وجماعة من الناس يخوف أهل مكة. (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) في موضع نصب أي هل ترى منهم أحد وتجد." أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً" أي صوتا عن ابن عباس وغيره أي قد ماتوا وحصلوا [على «3»] أعمالهم. وقيل: حسا، قاله ابن زيد. وقيل: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة قاله اليزيدي وأبو عبيدة كركز الكتيبة وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد:
وتوجست ركز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها «4»
وقيل: الصوت الخفي. ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. وقال طرفة:
وصادقتا سمع التوجس للسري ... لركز خفي أو لصوت مندد «5»
__________
(1). من ب وج وز وط وك.
(2). راجع ج 3 ص 14 فما بعد.
(3). من ب وج وط وك وز.
(4). توجست: تسمعت البقرة صوت الناس فأفزعها ولم تر الناس. والأنيس سقامها معناه: والأنيس هلاكها: أي يصيدها.
(5). يصف طرفة في هذا البيت أذني ناقته يعنى أذنيها لا تكذبها النبأة. والمندد صفة للصوت والصوت المندد المبالغ في النداء. ويروى: (لصوت مندد) بالإضافة وكسر الدال والاولى هي الرواية الجيدة.

وقال ذو الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب:
إذا توجس ركزا مقفر ندس ... بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي ما في استماعه كذب أي هو صادق الاستماع. والندس الحاذق فيقال: ندس وندس كما يقال: حذر وحذر ويقظ ويقظ، والنبأة الصوت الخفي وكذلك الركز والركاز المال المدفون. والله تعالى أعلم بالصواب.

[تفسير سورة طه عليه السلام ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تفسير سورة طه عليه السلام سورة طه عليه السلام مكية في قول الجميع. نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه. روى الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له إن ختنك [وأختك «1»] قد صبوا «2» فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خباب وكانوا يقرءون:" طه". فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه- وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ واخذ الكتاب فقرأ:" طه". وذكره ابن إسحاق مطولا: فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقتله فلقيه نعيم ابن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟!. فقال: وأى أهل بيتي؟. قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها
__________
(1). من ب وج وز وط وك.
(2). صبا الرجل: خرج من دين إلى دين آخر.

" طه" يقرئهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال: ما هذه الهينمة «1» التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا. قال: بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا إلى دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها. فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك. ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. وكان كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال لها: لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام عمر وأغتسل فأعطته الصحيفة وفيها" طه" [فقرأها «2»] فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب) فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم وذكر الحديث. مسألة أسند الدارمي أبو محمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله تبارك وتعالى قرأ" طه" و" يس" قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لامة ينزل هذا عليها وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا) قال ابن فورك معنى قوله: (إن الله تبارك وتعالى قرأ" طه" و" يس") أي أظهر وأسمع وأفهم كلامه من أراد من خلقه من الملائكة في ذلك الوقت والعرب تقول: قرأت الشيء إذا تتبعته وتقول: ما قرأت هذه
__________
(1). الهينمة: الكلام الخفي لا يفهم. [.....]
(2). من ب وج وط وز وك.

طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)

الناقة في رحمها سلا قط أي ما ظهر فيها ولد فعلى هذا يكون الكلام سائغا وقراءته إسماعه وإفهامه بعبارات يخلقها وكتابة يحدثها. وهي معنى قولنا قرأنا كلام الله ومعنى قوله:" فاقرءوا ما تيسر من القرآن"" فاقرءوا ما تيسر منه" «1». ومن أصحابنا من قال معنى قوله: (قرأ) أي تكلم به وذلك مجاز كقولهم ذقت هذا القول «2» ذواقا بمعنى اختبرته. ومنه قول تعالى:" فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ" «3» أي ابتلاهم الله تعالى به فسمي ذلك ذواقا والخوف لا يذاق على الحقيقة لان الذوق في الحقيقة بالفم دون غيره من الجوارح. قال ابن فورك: وما قلناه أولا أصح في تأويل هذا الخبر لان كلام الله تعالى أزلي قديم سابق لجملة الحوادث وإنما أسمع وأفهم من أراد من خلقه على ما أراد في الأوقات والأزمنة لا أن عين كلامه يتعلق وجوده بمدة وزمان.

[سورة طه (20): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
قوله تعالى:" طه" اختلف العلماء في معناه فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: هو من الاسرار ذكره الغزنوي ابن عباس معناه يا رجل ذكره البيهقي. وقيل: إنها لغة معروفة في عكل. وقيل في عك قال الكلبي: لو قلت في عك لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول طه. وأنشد الطبري في ذلك فقال: «4»
دعوت بطه في القتال فلم يجب ... فخفت عليه أن يكون موائلا
__________
(1). راجع ج 19 ص 50 فما بعد.
(2). في ب وج وط وز وك: هذا الامر.
(3). راجع ج 10 ص 193 فما بعد.
(4). هو متمم بن نويرة ووائل: طلب النجاة.

ويروى مزايلا. وقال عبد الله بن عمرو: يا حبيبي بلغة عك ذكره الغزنوي وقال قطرب: هو بلغة طئ وأنشد ليزيد بن المهلهل:
إن السفاهة طه من شمائلكم ... لا بارك الله في القوم الملاعين
وكذلك قال الحسن: معنى" طه" يا رجل. وقاله عكرمة وقال هو بالسريانية كذلك ذكره المهدوي وحكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا ومجاهد. وحكى الطبري: أنه بالنبطية يا رجل. وهذا قول السدي وسعيد بن جبير وابن عباس أيضا قال:
إن السفاهة طه من خلائقكم ... لا قدس الله أرواح الملاعين
وقال عكرمة أيضا: هو كقولك يا رجل بلسان الحبشة ذكره الثعلبي. والصحيح أنها وإن وجدت في لغة أخرى فإنها من لغة العرب كما ذكرنا وأنها لغة يمنية في عك وطئ وعكل أيضا. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقسم أقسم به. وهذا أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو اسم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماه الله تعالى به كما سماه محمدا. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (لي عند ربي عشرة أسماء) فذكر أن فيها طه ويس وقيل: هو اسم للسورة ومفتاح لها. وقيل: إنه اختصار من كلام الله خص الله تعالى رسوله بعلمه. وقيل: إنها حروف مقطعة يدل كل حرف منها على معنى واختلف في ذلك فقيل الطاء شجرة طوبى والهاء النار الهاوية والعرب تعبر عن الشيء كله ببعضه كأنه أقسم بالجنة والنار. وقال سعيد بن جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب والهاء افتتاح اسمه هادي. وقيل" طاء" يا طامع الشفاعة للامة" هاء" يا هادي الخلق إلى الله «1». وقيل: الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: يا طاهرا من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب. وقيل الطاء طبول الغزاة والهاء هيبتهم في قلوب الكافرين. بيانه قوله تعالى:" سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ" «2» وقوله:" وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ" «3». وقيل: الطاء طرب أهل الجنة في الجنة والهاء هو ان أهل النار في النار. وقول سادس: إن معنى." طه" طوبى لمن اهتدى قاله مجاهد ومحمد بن الحنفية.
__________
(1). في الأصول جميعا: يا هادي الخلق إلى الملة.
(2). راجع ج 4 ص 232 فما بعد.
(3). راجع ج 18 ص 3 فما بعد.

وقول سابع: إن معنى" طه" طإ الأرض وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى الترويح بين قدميه فقيل له: طإ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح حكاه ابن الأنباري. وقد ذكر القاضي عياض في" الشفاء" أن الربيع بن أنس قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى:" طه" يعني طإ الأرض يا محمد. (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ) 20: 2. الزمخشري: وعن الحسن" طه" وفسر بأنه أمر بالوطي وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا وأن الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قلبت [ألفا «1»] في (يطأ) فيمن قال:
...... لا هناك المرتع «2»

ثم بنى عليه هذا الامر والهاء للسكت. وقال مجاهد: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل من طول القيام ثم نسخ ذلك بالفرض فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي: لما نزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل فكان بعد هذه الآية يصلي وينام. وقال مقاتل والضحاك: فلما نزل القرآن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام هو وأصحابه فصلوا فقال كفار قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى" طه" فيقول: يا رجل" ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى 20: 2" أي لتتعب، على ما يأتي. وعلى هذا القول: إن" طه" [طاها أي «3»] طإ الأرض فتكون الهاء والألف ضمير الأرض أي طإ الأرض برجليك في صلواتك وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة. وقرأت طائفة:" طه" وأصله طأ بمعنى
__________
(1). الزيادة من تفسير الزمخشري.
(2). الشعر للفرزدق وتمام البيت:
راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
قال هذا حين عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق ووليها عمر بن هبيرة الفزاري فهجاهم الفرزدق ودعا لقومه ألا يهنئوا النعمة بولايته. وأراد بغال البريد التي قدمت بمسلمة عند عزله. (شواهد سيبويه).
(3). الزيادة من كتب التفسير.

طإ الأرض فحذفت الهمزة وأدخلت هاء السكت: وقال زر بن حبيش: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود" طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى 20: 2- 1" فقال له عبد الله:" طه" فقال: يا أبا عبد الرحمن أليس قد أمر أن يطأ الأرض برجليه أو بقدميه. فقال:" طه" كذلك أقرأنيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمال أبو عمرو وأبو إسحاق الهاء وفتحا الطاء. وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش. وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين واختاره أبو عبيد. الباقون بالتفخيم قال الثعلبي: وهي كلها لغات صحيحة فصيحة. النحاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: إحداهما أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان. قوله تعالى:" ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى 20: 2" وقرى." ما نزل عليك القرآن لتشقى". قال النحاس: بعض النحويين يقول هذه لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود. وقال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: إنها لام الخفض والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء. والشقاء يمد ويقصر. وهو من ذوات الواو. واصل الشقاء في اللغة العناء والتعب أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب. قال الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فمعنى لتشقى:" لتتعب" بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ" «1» [الكهف: 6] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة. وروى أن أبا جهل [بن هشام «2»]- لعنه الله تعالى- والنضر بن الحرث قالا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز والسبب في درك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وعلى الأقوال المتقدمة أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدت «3» قدماه فقال له جبريل: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة وتذيقها المشقة الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة.
__________
(1). راجع ج 10 ص 353.
(2). من ب وج وط وز وك.
(3). كذا في ب وج وط وز وى. أي تورمت كذا في ا. [.....]

قوله تعالى: (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ) 20: 3 قال أبو إسحاق الزجاج: هو بدل من" تشقى" أي ما أنزلناه إلا تذكرة. النحاس: وهذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من أجل أن التذكرة ليست بشقاء وإنما هو منصوب على المصدر أي أنزلنا لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى. (تَنْزِيلًا) 10 مصدر أي نزلناه تنزيلا. وقيل: بدل من قوله" تَذْكِرَةً". وقرا أبو حيوة الشامي:" تنزيل" بالرفع على معنى هذا تنزيل. (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى ) أي العالية الرفيعة وهى جمع العليا كقوله: كبرى وصغرى وكبر وصغر أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله ثم قال: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) 20: 5 ويجوز النصب على المدح. قال أبو إسحاق الخفض على البدل. وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن. النحاس: يجوز الرفع بالابتداء والخبر" لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ" فلا يوقف على" اسْتَوى " وعلى البدل من المضمر في" خَلَقَ" فيجوز الوقف على" اسْتَوى ". وكذلك إذا كان خبر ابتداء محذوف ولا يوقف على" الْعُلى ". وقد تقدم القول في معنى الاستواء في" الأعراف" «1». والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف كما يكون استواء المخلوقين. وقال ابن عباس يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى ) 20: 6 يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى. وقال محمد بن كعب يعني الأرض السابعة. ابن عباس «2»: الأرض على نون والنون على البحر وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي التي قال الله تعالى فيها" فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ" والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله تعالى. وقال وهب بن منبه: على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضون سبع
__________
(1). راجع ج 7 ص 219 فما بعد.
(2). هذه الرواية وما شاكلها رواها عن ابن عباس رواة غير ثقات وقد تكلم العلماء في هذه الرواية وأمثالها.

بين كل أرضين بحر فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم ولولا عظمه وكثرة مائه وبرده لأحرقت جهنم كل من عليها. قال: وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من الظلمة لا يعلم عظمه «1» إلا الله تعالى وذلك الحجاب على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق. قوله تعالى: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ) 20: 7 قال ابن عباس: السر ما حدث به الإنسان غيره في خفاء وأخفى منه ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره. وعنه أيضا السر حديث نفسك وأخفى من السر ما ستحدث به نفسك مما لم يكن وهو كائن أنت تعلم ما تسر به نفسك اليوم ولا تعلم ما تسر به غدا والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسره غدا والمعنى: الله يعلم السر وأخفى من السر وقال ابن عباس أيضا" السر" ما أسر ابن آدم في نفسه" وأخفى" ما خفى على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه فالله تعالى يعلم ذلك كله وعلمه فيما مضى من ذلك وما يستقبل علم واحد وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة وقال قتادة وغيره:" السِّرَّ 20: 7" ما أضمره الإنسان في نفسه" وَأَخْفى 20: 7" منه ما لم يكن ولا أضمره أحد. وقال ابن زيد:" السر" [سر «2»] الخلائق" وَأَخْفى 20: 7" منه سره عز وجل وأنكر ذلك الطبري وقال إن الذي [هو «3»]" أَخْفى 20: 7" ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه كما قال ابن عباس. (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى )" اللَّهُ" رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدإ أو على البدل من الضمير في" يَعْلَمُ". وحد نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له فكبر ذلك عليهم فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن قال للوليد بن المغيرة: محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى: [" الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 20: 5" وأنزل ]:" قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى 110" «4» وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال" اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى 20: 8". وقد تقدم التنبيه عليها في سورة (الأعراف)
«5».
__________
(1). في ب وج وز وط وك وى: غلظه.
(2). من ب وج وز وط وك وى.
(3). من ب وج وز وط وك وى.
(4). راجع ج 10 ص 342.
(5). راجع ج 7 ص 325 فما بعد.

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)

[سورة طه (20): الآيات 9 الى 16]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
قوله تعالى: (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ) 20: 9 قال أهل المعاني: هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه، أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه وقد أتاك، قاله ابن عباس. وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه بعد ثم أخبره. (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) 20: 10 قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا: يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة- لما سبق في علم الله تعالى- وكانت ليلة مظلمة. وقال مقاتل: وكان ليلة الجمعة في الشتاء. وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله وغنمه، وولد له في الطريق غلام في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور «1» المقدحة شيئا، إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق" فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا 20: 10" أي أقيموا بمكانكم." إِنِّي آنَسْتُ ناراً" أي أبصرت. قال ابن عباس فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة
__________
(1). في ى: توره.

ماء الشجرة ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار. وذكر المهدوي: فرأى النار- فيما روى- وهي في شجرة من العليق، فقصدها فتأخرت عنه، فرجع وأوجس في نفسه خيفة، ثم دنت منه وكلمه الله عز وجل من الشجرة. الماوردي: كانت عند موسى نارا: وكانت عند الله تعالى نورا. وقرا حمزة" لأهله امكثوا" بضم الهاء، وكذا في" القصص" «1». قال النحاس هذا على لغة من قال: مررت بهو يا رجل، فجاء به على الأصل، وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. وقال:" امْكُثُوا" ولم يقل أقيموا، لان الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك. و" آنَسْتُ" أبصرت، قاله ابن الاعرابي. ومنه قوله:" فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً" «2» [النساء: 6] أي علمتم. وآنست الصوت سمعته، والقبس شعلة من نار، وكذلك المقياس. يقال: قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي أعطاني منه قبسا، وكذلك اقتبست منه نارا واقتبست منه علما أيضا أي استفدته، قال اليزيدي: أقبست الرجل علما وقبسته نارا، فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سواء. وقال: وقبسته أيضا فيهما." هُدىً" أي هاديا. قوله تعالى: (فَلَمَّا أَتاها) يعني النار (نُودِيَ) أي من الشجرة كما في سورة" القصص" أي من جهتها وناحيتها على ما يأتي: (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) 20: 12- 11. قوله تعالى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) 20: 12 فيه خمس مسائل: الاولى: قوله تعالى:" فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ 20: 12" روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت) قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج [حميد- هو ابن علي الكوفي «3»-] منكر الحديث، وحميد ابن قيس الأعرج المكي صاحب مجاهد ثقة، والكمة القلنسوة الصغيرة. وقرا العامة" إني" بالكسر، أي نودي فقيل له يا موسى إني، واختاره أبو عبيد. وقرا أبو عمرو وابن كثير
__________
(1). راجع ج 13 ص 280.
(2). راجع ج 5 ص 33 فما بعد.
(3). الزيادة من الترمذي.

وابن محيصن وحميد" أني" بفتح الالف بإعمال النداء. واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين. والخلع النزع. والنعل ما جعلته وقاية لقدميك من الأرض. فقيل: أمر بطرح النعلين، لأنها نجسة إذ هي من جلد غير مذكى، قاله كعب وعكرمة وقتادة. وقيل: أمر بذلك لينال بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن جريج. وقيل: أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى. وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت. وقيل: إعظاما لذلك الموضع كما أن الحرم لا يدخل بنعلين إعظاما له. قال سعيد بن جبير: قيل له طإ الأرض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا. والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الإنسان إلى غاية التواضع، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا تبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها. وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة، والجثة الكريمة. ومن هذا المعنى قول عليه الصلاة والسلام لبشير بن الخصاصية وهو يمشي بين القبور بنعليه: (إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك) قال: فخلعتهما. وقول خامس: إن ذلك عبارة عن تفريغ قلبه من أمر الأهل والولد. وقد يعبر عن الأهل بالنعل. وكذلك هو في التعبير: «1» من رأى أنه لابس نعلين فإنه يتزوج. وقيل: لان الله تعالى بسط له بساط النور والهدى، ولا ينبغي أن يطأ [على «2»] بساط رب العالمين بنعله. وقد يحتمل أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان ذلك أول فرض عليه، كما كان أول ما قيل لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) «3» [المدثر: 5- 4- 3- 2] والله أعلم بالمراد من ذلك. الثانية- في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. وقال أبو الأحوص: زار عبد الله أبا موسى في داره، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى، فقال أبو موسى لعبد الله: تقدم. فقال عبد الله: تقدم أنت في دارك. فتقدم وخلع «4» نعليه، فقال عبد الله: أبا الوادي المقدس أنت؟! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال: قلت
__________
(1). قوله في التعبير: يعنى تعبير الرؤيا.
(2). من ب وج وز وط وى.
(3). راجع ج 19 ص 58 فما بعد. [.....]
(4). في ب وج وز وط: نزع.

لأنس أكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في نعلين قال: نعم. ورواه النسائي عن عبد الله ابن السائب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح فوضع نعليه عن يساره. وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا) وقال: (إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما). صححه أبو محمد عبد الحق. وهو يجمع بين الحديثين قبله، ويرفع بينهما التعارض. ولم يختلف العلماء في جواز الصلاة في النعل إذا كانت طاهرة من ذكي، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة فيهما أفضل، وهو معنى قوله تعالى:" خذوا زينتكم عند كل مسجد" «1» [الأعراف: 31] على ما تقدم. وقال إبراهيم النخعي في الذين يخلعون نعالهم: لوددت أن محتاجا جاء فأخذها. الثالثة- فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك، فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه). وقال أبو هريرة للمقبري: أخلعهما بين رجليك ولا تؤذ بهما مسلما. وما رواه عبد الله بن السائب رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما عن يساره فإنه كان إماما، فإن كنت إماما أو وحدك فافعل ذلك إن أحببت، وإن كنت مأموما في الصف فلا تؤذ بهما من على يسارك، ولا تضعهما بين قدميك فتشغلاك، ولكن قدام قدميك. وروي عن جبير بن مطعم أنه قال: وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة. الرابعة- فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول «2» بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأوراثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا؟ قولان عندنا. وأطلق الاجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور. وقال
__________
(1). راجع ج 7 ص 188 فما بعد.
(2). في ك: من قبل.

أبو حنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل. وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك كله إلا الماء. والصحيح قول من قال: إن المسح يطهره من الخف والنعل، لحديث أبي سعيد. فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث، على ما تقدم بيانه في سورة" النحل" «1». ومضى في سورة" براءة" «2» القول في إزالة النجاسة والحمد لله. الخامسة- قوله تعالى: (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) 20: 12 المقدس: المطهر. والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة أي المطهرة، سميت بذلك لان الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين. وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض، ولبعض الحيوان كذلك. ولله أن يفضل ما شاء. وعلى هذا فلا اعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين، فقد شاركه في ذلك غيره. و(طُوىً) اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال الضحاك: هو واد عميق مستدير مثل الطوى. وقرا عكرمة:" طوى". الباقون" طُوىً". قال الجوهري:" طُوىً" اسم موضع بالشام، تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. وقال بعضهم:" طُوىً" مثل" طوى" وهو الشيء المثنى، وقالوا في قوله:" الْمُقَدَّسِ طُوىً": طوي مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له:" طُوىً" لان موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي، فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه، فكأنه قال: (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) 20: 12 الذي طويته طوى، أي تجاوزته فطويته بسيرك. الحسن: معناه أنه قدس مرتين، فهو مصدر من طويته طوى أيضا.
__________
(1). راجع ج 10 ص 156 فما بعد.
(2). راجع ج 8 ص 262 فما بعد.

قوله تعالى: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) 20: 13 أي اصطفيتك للرسالة. وقرا أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي" وَأَنَا اخْتَرْتُكَ 20: 13". وقرا حمزة" وأنا اخترناك". والمعنى واحد إلا أن" وَأَنَا اخْتَرْتُكَ 20: 13" ها هنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام، لقوله عز وجل:" يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ 20: 12- 11" وعلى هذا النسق جرت المخاطبة، قاله النحاس. قوله تعالى: (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى ) 20: 13 فيه مسألة واحدة- قال ابن عطية: وحدثني أبي- رحمه الله- قال سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه:" فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى 20: 13" وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا. قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال:" الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ «1» اللَّهُ" [الزمر: 18] وذم على خلاف هذا الوصف فقال:" نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ" «2» الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال:" وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 20" «3» [الأعراف: 204] وقال ها هنا:" فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى 20: 13" لان بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. روى عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم. وقال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل ثم النشر، فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نورا.
__________
(1). راجع ج 15 ص 243 فما بعد.
(2). راجع ج 10 ص 272.
(3). راجع ج 7 ص 353.

قوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فيه سبع مسائل: الاولى- اختلف في تأويل قوله:" لِذِكْرِي" فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول. وقيل: المعنى، أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه، وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمى الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله:" فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ" «1» [الجمعة: 9]. وقيل: المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر (فليصلها إذا ذكرها). أي لا تسقط الصلاة بالنسيان. الثانية- روى مالك وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) 20: 14 (. وروى أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث حجاج بن حجاج «2»- وهو حجاج الأول الذي روى عنه يزيد بن زريع- قال حدثنا قتادة عن أنس بن مالك [رضى الله عنه «3»] قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يرقد عن الصلاة ويغفل عنها قال: (كفارتها أن يصليها إذا ذكرها) تابعه إبراهيم بن طهمان عن حجاج، وكذا يروي همام بن يحيى عن قتادة. وروى الدارقطني عن أبي هريرة [رضى الله عنه ] عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها) فقوله: (فليصلها إذا ذكرها) دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل، كثرت الصلاة أو قلت، وهو مذهب عامة العلماء وقد حكى خلاف شاذ لا يعتد به، لأنه مخالف لنص الحديث عن بعض الناس فيما زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء. قلت: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، ونص على أوقات معينة، فقال:" أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ" «4» الآية وغيرها من الآي. ومن أقام بالليل ما أمر بإقامته بالنهار، أو بالعكس لم يكن فعله مطابقا لما أمر به، ولا ثواب له على فعله وهو عاص، وعلى هذا الحد كان لا يجب عليه قضاء ما فات وقته. ولولا قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) لم ينتفع أحد بصلاة وقعت في غير وقتها، وبهذا الاعتبار كان قضاء لا أداء، لان القضاء بأمر متجدد وليس بالأمر الأول.
__________
(1). راجع ج 18 ص 97 فما بعد.
(2). في ج وط وك وى. ابن أبي الحجاج وما أثبتناه في الأصل هو ما عليه التهذيب.
(3). من ج وك.
(4). راجع ج 10 ص 302 فما بعد.

الثالثة- فأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا إلا داود. ووافقه أبو عبد الرحمن الأشعري الشافعي، حكاه عنه ابن القصار. والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، حط المأثم، فالمتعمد مأثوم وجميعهم قاضون. والحجة للجمهور قوله تعالى:" أَقِيمُوا الصَّلاةَ" «1» [الانعام: 72] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعدها. هو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا فقد ثبت الامر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير مأثومين، فالعامد أولى. وأيضا قوله: (من نام عن صلاة أو نسيها) والنسيان الترك، قال الله تعالى:" نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" «2» [التوبة: 67] و" نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ" «3» [الحشر: 19] سواء كان مع ذهول أو لم يكن، لان الله تعالى لا ينسى. وإنما معناه تركهم. و" ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها 10" «4» [البقرة: 106] أي نتركها. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره. قال الله تعالى:" من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" وهو تعالى لا ينسى [فيكون ذكره بعد نسيان «5»] وإنما معناه علمت. فكذلك يكون معنى قوله: (إذا ذكرها) أي علمها. وأيضا فإن الديون التي للآدمين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء كان في ديون الله تعالى ألا يصح فيها الإبراء أولى ألا يسقط قضاؤها إلا بإذن منه. وأيضا فقد اتفقنا أنه لو ترك يوما من رمضان متعمدا بغير عذر لوجب قضاؤه فكذلك الصلاة. فان قيل فقد روى عن مالك: من ترك الصلاة متعمدا لا يقضي أبدا. فالإشارة إلى أن ما مضى لا يعود، أو يكون كلاما خرج على التغليظ، كما روي عن ابن مسعود وعلي: أن من أفطر في رمضان عامدا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه. ومع هذا فلا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء، وإتباعه بالتوبة، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. وقد روى أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه) وهذا يحتمل أن لو صح كان معناه التغليظ، وهو حديث ضعيف خرجه أبو داود. وقد جاءت الكفارة بأحاديث «6» صحاح، وفي بعضها قضاء اليوم، والحمد لله تعالى. الرابعة- قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها) الحديث يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ)
__________
(1). راجع ج 1 ص 344 فما بعد.
(2). راجع ج 8 ص 199 فما بعد. [.....]
(3). راجع ج 18 ص 43.
(4). راجع ج 2 ص 61.
(5). من ج وك وط وى.
(6). في ب وز وك: بأسانيد.

والمراد بالرفع هنا رفع المأثم لا رفع الفرض عنه، وليس هذا من باب قوله: (وعن الصبي حتى يحتلم) وإن كان ذلك جاء في أثر واحد، فقف على هذا الأصل. الخامسة- اختلف العلماء في هذا المعنى فيمن ذكر صلاة فائتة وهو في آخر وقت صلاة، أو ذكر صلاة وهو في صلاة، فجملة مذهب مالك: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها، وعلى نحو هذا مذهب أبي حنيفة والثوري والليث، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقد روى عن الثوري وجوب الترتيب، ولم يفرق بين القليل والكثير. وهو تحصيل مذهب الشافعي. قال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر. وقال: لا ينبغي لاحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه. وروى الدارقطني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه الصلاة والسلام: (إذا ذكر أحدكم صلاة وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي) وعمر بن أبي عمر مجهول «1». قلت: وهذا لو صح كانت حجة للشافعي في البداءة بصلاة الوقت. والصحيح ما رواه أهل الصحيح عن جابر بن عبد الله: أن عمر يوم الخندق جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فو الله إن صليتها) «2» فنزلنا البطحان «3» فتوضأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتوضأنا فصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها
__________
(1). عمر بن أبي عمر: هو أحد رواة هذا الحديث عن مكحول عن ابن عباس. ولفظ الحديث في الدارقطني هكذا: (إذا نس أحدكم الصلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسى) كذا في ب وز وك.
(2). إن نافية أي ما صليتها.
(3). بطحان (بالضم أو الصواب الفتح وكسر الطاء): موضع بالمدينة.

المغرب. وهذا نص في البداءة بالفائتة قبل الحاضرة، ولا سيما والمغرب وقتها واحد مضيق غير ممتد في الأشهر عندنا، وعند الشافعي كما تقدم. وروى الترمذي عن أبي عبيدة بن عبد الله ابن مسعود عن أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء،. وبهذا أستدل العلماء على أن من فاتته صلوات، قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد. واختلفوا إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال: يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة، وبه قال مالك والليث والزهري وغيرهم كما قدمناه. الثاني- يبدأ بالحاضرة وبه قال الحسن والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث والمحاسبي وابن وهب من أصحابنا. الثالث- يتخير فيقدم أيتهما شاء، وبه قال أشهب. وجه الأول: كثرة الصلوات ولا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة، قاله القاضي عياض. واختلفوا في مقدار اليسير، فعن مالك: الخمس فدون، وقد قيل: الأربع فدون لحديث جابر، ولم يختلف المذهب أن الست كثير. السادسة- وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة، فإن كان وراء الامام فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به [يقول «1»]، يتمادى مع الامام حتى يكمل صلاته. والأصل في هذا ما رواه مالك والدارقطني عن ابن عمر قال: (إذا نسي أحدكم صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الامام فليصل مع الامام فإذا فرغ من صلاته فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الامام) لفظ الدارقطني، وقال موسى بن هرون: وحدثناه أبو إبراهيم الترجماني، قال: حدثنا سعيد [به «2»] ورفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووهم في رفعه، فإن كان قد رجع عن رفعه فقد وفق للصواب. ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: يصلى التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الامام إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات، على ما قدمنا ذكره عن الكوفيين. وهو مذهب جماعة من أصحاب مالك المدنيين. وذكر الخرقي «3» عن
__________
(1). في ك وط وى.
(2). الزيادة من الدارقطني.
(3). هذه النسبة إلى بيع الخرق والثياب.

أحمد بن حنبل أنه قال: من ذكر صلاة وهو في أخرى فإنه يتمها ويقضي المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت واسعا فإن خشي خروج الوقت وهو فيها أعتقد ألا يعيدها، وقد أجزأته ويقضي التي عليه. وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين سلم من ركعتين، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. هذا هو الظاهر من مذهب مالك، وليس عند أهل النظر من أصحابه كذلك، لان قوله فيمن ذكر صلاة في صلاة قد صلى منها ركعة أنه يضيف إليها أخرى ويسلم. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة ولو انهدمت عليه كما ذكر وبطلت لم يؤمر أن يضيف إليها أخرى، كما لو أحدث بعد ركعة لم يضف إليها أخرى. السابعة- روى مسلم عن أبى قتادة قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر حديث الميضأة بطوله، وقال فيه ثم قال: (أما لكم في أسوة) ثم قال: (أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها) وأخرجه الدارقطني هكذا بلفظ مسلم سواء، فظاهره يقتضي إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وحضور مثلها من الوقت الآتي، ويعضد هذا الظاهر ما أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين، وذكر القصة وقال في آخرها: (فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها). قلت: وهذا ليس على ظاهره، ولا تعاد غير مرة واحدة، لما رواه الدارقطني عن عمران ابن حصين قال: سرينا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة- أو قال في سرية- فلما كان وقت السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعا دهشا، فلما استيقظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا فارتحلنا، ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام فصلينا الغداة، فقلنا: يا نبي الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم). وقال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بهذا وجوبا، ويشبه

أن يكون الامر به استحبابا ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. والصحيح ترك العمل لقوله عليه السلام: (أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم) ولان الطرق الصحاح من حديث عمران بن حصين ليس فيها من تلك الزيادة شي، إلا ما ذكر من حديث أبي قتادة وهو محتمل كما بيناه. قلت: ذكر الكيا الطبري في [أحكام القرآن ] له أن من السلف من خالف قوله عليه الصلاة والسلام: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) فقال: يصبر إلى مثل وقته فليصل، فإذا فات الصبح فليصل من الغد. وهذا قول بعيد شاذ. قوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) 20: 15 آية مشكلة، فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ" أَكادُ أُخْفِيها 20: 15" بفتح الهمزة، قال: أظهرها." لِتُجْزى " أي الإظهار للجزاء، رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء بن إياس عن سعيد ابن جبير. وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد، حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي، ح- وحدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيى الحماني حدثنا محمد بن سهل. قال النحاس، وأجود من هذا الاسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ:" أَكادُ أُخْفِيها 20: 15" بضم الهمزة. قلت: وأما قراءة ابن جبير" أخفيها" بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء: معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذ أظهرته. وأنشد الفراء لامرئ القيس:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أراد لا نظهره، وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون" أُخْفِيها 20: 15" بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته إذا أظهرته، فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار. وقال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد، النحاس: وهذا حسن، وقد

حكاه عن أبي الخطاب «1» وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه، وقد روى عنه سيبويه
وأنشد:
وإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون. وقال امرؤ القيس أيضا:
خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن ودق من عشي مجلب «2»
أي أظهرهن. وروى:" من سحاب مركب" بدل" من عشي مجلب". وقال أبو بكر الأنباري: وتفسير للآية آخر:" إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ 20: 15" انقطع الكلام على" أَكادُ 20: 15" وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء" أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ 20: 15" قال ضابئ البرجمي: «3»
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلا كالفعل المضمر معه في القرآن. قلت: هذا الذي اختاره النحاس، وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خفى الشيء يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضا إذا أظهره، وليس بالمعروف، قال: وقد رأيت علي بن سليمان لما أشكل عليه معنى" أُخْفِيها 20: 15" عدل إلى هذا القول، وقال: معناه كمعنى" أُخْفِيها 20: 15". قال النحاس: ليس المعنى على أظهر ولا سيما و" أُخْفِيها 20: 15" قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، ومعنى المضمر أولى، ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها، ودل:" آتِيَةٌ" على آتي بها، ثم قال:" أُخْفِيها 20: 15" على الابتداء. وهذا معنى صحيح، لان الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والامر عنده مبهم فلا يؤخر التوبة.
__________
(1). هو الأخفش الأكبر عبد الحميد بن عبد المجيد.
(2). خفاهن: اظهرهن. والإنفاق: (جمع نفق): وهو الحجر. والودق: المطر. والمجلب: الذي له جلبة. وقبله:
ترى الغار في مستيفع القاع لاحبا ... على جدد الصحراء من شد ملهب
يقول: وقع حوافر الفرس على الأرض أخرج الفأر من حجرتها لأنه ظنه مطرا.
(3). قاله وهو محبوس حبسه سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه لهجائه بعض بني جرول بن نهشل ولم يزل في حبسه إلى أن مات.

قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في" لِتُجْزى " متعلقة ب"- أُخْفِيها 20: 15". وقال أبو على: هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى" أُخْفِيها 20: 15" أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخفاء الا خفية [وهي الأكسية «1»] والواحد خفاء بكسر الخاء [ما تلف به «2»] القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت. ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداءه ولم أحوجه إلى إعادته. وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن" كاد" زائدة موكدة. قال: ومثله" إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها 40" «3» [النور: 40] لان الظلمات التي ذكرها الله تعالى بعضها يحول بين الناظر والمنظور إليه. وروى معناه عن ابن جبير، والتقدير: إن الساعة آتية أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. وقال الشاعر: «4»
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه ... فما إن يكاد قرنه يتنفس
أراد فما يتنفس. وقال آخر:
وألا ألوم النفس فيما أصابني ... وألا أكاد بالذي نلت أنجح
معناه: وألا أنجح بالذي نلت، فأكاد توكيد للكلام. وقيل: المعنى" أَكادُ أُخْفِيها 20: 15" أي أقارب ذلك، لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم. ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب. قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء. وشاهده قول الله عزت عظمته:" فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ" «5» [البقرة: 71] معناه: وفعلوا بعد إبطاء لتعذر وجدان البقرة عليهم. وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما فعلت ولا قاربت إذا أكد الكلام بأكاد. وقيل: معنى." أَكادُ أُخْفِيها 20: 15" أريد أخفيها. قال الأنباري: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
معناه: أرادت وأردت. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين فيما ذكره الثعلبي: إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف أبي. وفي مصحف ابن مسعود: أكاد
__________
(1). من ك وز. [.....]
(2). من ك وز.
(3). راجع ج 12 ص 283 فما بعد.
(4). هو زيد الخيل.
(5). راجع ج 1 ص 452 فما بعد.

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)

أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق. وفي بعض القراءات: فكيف أظهرها لكم. وهذا محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي. والله تعالى لا يخفي عليه شي، قال معناه قطرب وغيره. [والله أعلم «1»] وقال الشاعر:
أيام تصحبني هند وأخبرها ... ما أكتم النفس من حاجي وأسراري
فكيف يخبرها بما تكتم نفسه. ومن هذا [الباب «2»] قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) الزمخشري وقيل معناه: أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح، والذي غرهم منه أن في مصحف أبي: أكاد أخفيها من نفسي، وفي بعض المصاحف: أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها. قلت: وقيل إن معنى قول من قال أكاد أخفيها من نفسي، أي إن إخفاءها كان من قبلي ومن عندي لا من قبل غيري. وروي عن ابن عباس أيضا: أكاد أخفيها من نفسي، ورواه طلحة بن عمرو عن عطاء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا أظهر عليها أحدا. وروى عن سعيد بن جبير قال: قد أخفاها. وهذا على أن كاد زائدة. أي إن الساعة آتية أخفيها، والفائدة في إخفائها التخويف والتهويل. وقيل: تعلق" لِتُجْزى " بقول تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) فيكون في الكلام تقديم وتأخير، أي أقم الصلاة لتذكرني. (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) أي بسعيها. (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) 20: 15. والله أعلم. وقيل: هي متعلقة بقوله: (آتِيَةٌ) أي إن الساعة آتية لتجزى (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) 20: 16 أي لا يصرفنك عن الايمان بها والتصديق لها. (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى ) 20: 16 أي فتهلك. وهو في موضع نصب بجواب النهي.

[سورة طه (20): الآيات 17 الى 18]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18)
__________
(1). من ج وط وك وى.
(2). من ج وط وك وى.

فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) 20: 17 قيل: كان هذا الخطاب من الله تعالى لموسى وحيا، لأنه قال: (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى ) 20: 13 ولا بد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك. ويجوز أن يكون ما أراه في الشجرة آية كافية له في نفسه، ثم تكون اليد والعصا زيادة توكيد، وبرهانا يلقى به قومه. واختلف في" ما" في قوله: (وَما تِلْكَ) 20: 17 فقال الزجاج والفراء: هي اسم ناقص وصلت ب"- يمينك" أي ما التي بيمينك؟ وقال الفراء أيضا:" تِلْكَ" بمعنى هذه، ولو قال: ما ذلك لجاز، أي ما ذلك الشيء: ومقصود السؤال تقرير الامر حتى يقول موسى: هي عصاي، لتثبت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل. وقال ابن الجوهري وفي بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن، فقيل له: ألقها لترى منها العجب فتعلم أنه لا ملك عليها ولا تنضاف إليك. وقرا ابن أبي إسحاق:" عصي" على لغة هذيل، ومثله" يا بُشْرى " «1» و" محيي" «2» وقد تقدم. وقرا الحسن:" عَصايَ 20: 18" بكسر الياء لالتقاء الساكنين. ومثل هذا قراءة حمزة:" وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ" «3» [إبراهيم: 22]. وعن ابن أبي إسحاق سكون الياء. الثانية- في هذه الآية دليل على جواب السؤال «4» بأكثر مما سئل، لأنه لما قال:" وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى 20: 17" ذكر معاني أربعة: وهي: إضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا، والتوكؤ، والهش والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه عظمها وجمهورها وأجمل سائر ذلك. وفي الحديث سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت: ألهذا حج؟ قال (نعم ولك أجر). ومثله في الحديث كثير. الثالثة- قوله تعالى: (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) 20: 18 أي أتحامل عليها في المشي والوقوف، ومنه الاتكاء (وَأَهُشُّ بِها) 20: 18" وَأَهُشُّ 20: 18" أيضا، ذكره النحاس. وهي قراءة النخعي «5»، أي أخبط بها
__________
(1). راجع ج 9 ص 152 وص 357.
(2). راجع ج 7 ص 152.
(3). راجع ج 9 ص 357.
(4). في ج وط وك وى: المسئول.
(5). وروى عن النخعي أيضا أنه قرأ: (وأهش) بضم الهمزة والشين من (أهش) رباعيا.

الورق، أي أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها، فيسهل على غنمي تناوله فتأكله. قال الراجز:
أهش بالعصا على أغنامي ... من ناعم الأراك والبشام
يقال: هش على غنمه يهش بضم الهاء في المستقبل. وهش إلى الرجل يهش بالفتح. وكذلك هش للمعروف يهش وهششت أنا: وفي حديث عمر: هششت يوما فقبلت وأنا صائم. قال شمر: أي فرحت واشتهيت. قال: ويجوز هاش بمعنى هش. قال الراعي:
فكبر للرؤيا وهاش فؤاده ... وبشر نفسا كان قبل يلومها
أي طرب. والأصل في الكلمة الرخاوة. يقال رجل هش وزوج هش. وقرا عكرمة:" وأهس" بالسين غير معجمة، قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: معناهما مختلف، فالهش بالاعجام خبط الشجر، والهس بغير إعجام زجر الغنم، ذكره الماوردي، وكذلك ذكر الزمخشري. وعن عكرمة:" وأهس" بالسين أي أنحي عليها زاجرا لها والهس زجر الغنم. الرابعة- قوله تعالى: (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى ) 20: 18 أي حوائج. واحدها مأربه ومأربه ومأربه. وقال:" أُخْرى " على صيغة الواحد، لان مآرب في معنى الجماعة، لكن المهيع «1» في توابع جمع ما لا يعقل الافراد والكناية عنه بذلك، فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة، كقوله تعالى" وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها 180" «2» [الأعراف: 180] وكقوله:" يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ 10" «3» [سبأ: 10] وقد تقدم هذا في" الأعراف" «4». الخامسة- تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس، قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم.
__________
(1). المهيع: الطريق الواضح الواسع البين.
(2). راجع ج 7 ص 325 وص 327 فما بعد.
(3). راجع ج 14 ص 264 فما بعد. [.....]
(4). راجع ج 14 ص 264 فما بعد.

وروى عنه ميمون بن مهران قال: إمساك العصا سنة للأنبياء، وعلامة للمؤمن. وقال الحسن البصري: فيها ست خصال، سنة للأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الاعداء، وعون للضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الطاعات. ويقال: إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان، ويخشع منه المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى، وقوه إذا أعيا. ولقي الحجاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت يا أعرابي؟ قال: من البادية. قال: وما في يدك؟ قال: عصاي أركزها لصلاتي «1»، واعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، واثب بها النهر، وتؤمنني من العثر، وألقي عليها كسائي فيقيني الحر، ويدفئني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي محمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الاقران، ورثتها عن أبي، وأورثها بعدي ابني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى. قلت: منافع العصا كثيرة، ولها مدخل في مواضع من الشريعة: منها أنها تتخذ قبلة في الصحراء، وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام عنزة «2» تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أم بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها، وذلك ثابت في الصحيح. والحربة والعنزة والنيزك والآلة اسماء لمسمى واحد. وكان له محجن وهو عصا معوجة الطرف يشير به إلى الحجر إذا لم يستطع أن يقبله، ثابت في الصحيح أيضا. وفي الموطأ عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر. وفي الصحيحين: أنه عليه الصلاة والسلام كان له مخصرة «3». والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذة من أصل كريم، ومعدن شريف، ولا ينكرها إلا جاهل. وقد جمع الله لموسى
__________
(1). في ج: لصلواتي.
(2). العنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر شيئا وفيها سنان مثل سنان الرمح.
(3). المخصرة بالخاء المعجمة والصاد المهملة: ما يختصره الإنسان بيده فيمسكه من عصا أو عكازة أو مقرعة أو قضيب وقد يتكئ عليه. النهاية.

في عصاه من البراهين العظام، والآيات الجسام، ما آمن به السحرة المعاندون. واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنزته، وكان يخطب بالقضيب- وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا- وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء، وعادة العرب العرباء، الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعاني. والشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم. قال مالك: كان عطاء بن السائب يمسك المخصرة يستعين بها. قال مالك: والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشباب يقوى بها عند قيامه. قلت: وفي مشيته كما قال بعضهم:
قد كنت أمشي على رجلين معتمدا ... فصرت أمشي على أخرى من الخشب
قال مالك رحمه الله ورضي عنه: وقد كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصي يتوكئون عليها، حتى لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من بعض من يجلس إليه حتى يقوم. ومن منافع العصا ضرب الرجل نساءه بها فيما يصلحهم، ويصلح حاله وحالهم معه. ومنه قوله عليه السلام: (وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) «1» في إحدى الروايات. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال لرجل أوصاه:: (لا ترفع عصاك عن أهلك أخفهم في الله) رواه عبادة بن الصامت، خرجه النسائي. ومن هذا المعنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (علق سوطك حيث يراه أهلك) وقد تقدم هذا في" النساء" «2». ومن فوائدها التنبيه على الانتقال من هذه الدار، كما قيل لبعض الزهاد: مالك تمشي على عصا ولست بكبير ولا مريض؟ قال: إني أعلم أني مسافر، وأنها دار قلعة، وأن العصا من آلة السفر، فأخذه بعض الشعراء فقال:
حملت العصا لا الضعف أوجب حملها ... علي ولا أني تحنيت من كبر
ولكنني ألزمت نفسي حملها ... لأعلمها أن المقيم على سفر
__________
(1). هذا من حديث فاطمة بنت قيس حيث جاءت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت له أن أبا جهم بن حذيفة ومعاوية بن أبي سفيان خطباها فقال: (أما أبو جهم فرجل لا يرفع عصاه عن النساء وأما معاوية فصعلوك لا مال له) الترمذي.
(2). راجع ج 5 ص 174.

قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)

[سورة طه (20): الآيات 19 الى 23]
قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)
قوله تعالى: (قالَ أَلْقِها يا مُوسى ) 20: 19: لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا،" فَأَلْقاها 20: 20" موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها. وكانت عصا ذات شعبتين فصارت الشعبتان لها فما وصارت حية تسعى أي تنتقل، وتمشي وتلتقم الحجارة فلما رآها موسى عليه السلام رأى عبرة ف"- وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ" «1» [النمل: 10]. فقال الله له:" خُذْها وَلا تَخَفْ 20: 21" وذلك أنه" فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً 20: 67" [طه: 67] أي لحقه ما يلحق البشر. وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهى سيرتها الاولى، وإنما أظهر له هذه الآية لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون. ويقال: إن العصا بعد ذلك كانت تماشيه وتحادثه ويعلق عليها أحماله، وتضيء له الشعبتان بالليل كالشمع، وإذا أراد الاستقاء انقلبت الشعبتان كالدلو وإذا اشتهى ثمرة ركزها في الأرض فأثمرت تلك الثمرة. وقيل: إنها كانت من آس الجنة. وقيل: أتاه جبريل بها. وقيل: ملك. وقيل قال له شعيب: خذ عصا من ذلك البيت فوقعت بيده تلك العصا، وكانت عصا آدم عليه السلام هبط بها من الجنة. والله أعلم. قوله تعالى:" فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى 20: 20" النحاس: ويجوز" حية" يقال: خرجت فإذا زيد جالس وجالسا. والوقف" حيه" بالهاء. والسعي المشي بسرعة وخفة. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شي خافه ونفر منه. وعن بعضهم، إنما خاف منه لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل لما قال له ربه:" لا تَخَفْ 70" بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها." سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى 20: 21" سمعت علي بن سليمان يقول: التقدير إلى سيرتها، مثل" وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ" «2» [الأعراف: 155] قال: ويجوز
__________
(1). راجع ج 13 ص 283.
(2). راجع ج 7 ص 293 فما بعد.

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)

قوله تعالى: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) 20: 22 يجوز في غير القرآن ضم بفتح الميم وكسرها لالتقاء الساكنين، والفتح أجود لخفته، والكسر على الأصل. ويجوز الضم على الاتباع. وئد أصلها يدي على فعل، يدل على ذلك أيد. وتصغيرها يدية. والجناح العضد، قاله مجاهد. وقال:" إِلى " بمعنى تحت. قطرب:" إِلى جَناحِكَ" إلى جيبك، ومنه قول الراجز:
أضمه للصدر والجناح

وقيل: إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح. لأنه مائل في محل الجناح. وقيل إلى عندك. وقال مقاتل" إِلى " بمعنى مع أي مع جناحك. (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير برص نورا ساطعا، يضئ بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا. عن ابن عباس وغيره: فخرجت نورا مخالفة للونه. و" بَيْضاءَ" نصب على الحال، ولا ينصرف لان فيها ألفي التأنيث لا يزايلانها فكأن لزومهما علة ثانية، فلم ينصرف في النكرة، وخالفتا الهاء لان الهاء تفارق الاسم. و" مِنْ غَيْرِ سُوءٍ"" مِنْ" صلة" بَيْضاءَ" كما تقول: ابيضت من غير سوء. (آية أخرى) سوى العصا. فأخرج يده من مدرعة له مصرية لها شعاع مثل شعاع الشمس يعشي «1» البصر. و" آيَةً 10" منصوبة على البدل من بيضاء، قاله الأخفش. النحاس: وهو قول حسن. وقال الزجاج: المعنى آتيناك آية أخرى أو «2» نؤتيك، لأنه لما قال:" تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ" دل على أنه قد آتاه آية أخرى. (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى ) يريد العظمى. وكان حقه «3» أن يقول الكبيرة وإنما قال:" الْكُبْرى 20: 23" لوفاق رءوس الآي. وقيل: فيه إضمار، معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى دليله قول ابن عباس يد موسى أكبر آياته.

[سورة طه (20): الآيات 24 الى 35]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
__________
(1). في ب وز وك: يغشى. بالمعجمة.
(2). في ك: أي.
(3). هذه العبارة يجب اطراحها في كلام الباري فالكبرى معناها العظمى. محققه.

قوله تعالى: (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) لما آنسه بالعصا واليد، واراه ما يدل على أنه رسول، أمره بالذهاب إلى فرعون، وأن يدعوه. و" طَغى 20: 24" معناه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحد. (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي) 20: 30- 25 طلب الإعانة لتبليغ الرسالة. ويقال: إن الله أعلمه بأنه ربط على قلب فرعون وأنه لا يؤمن، فقال موسى: يا رب فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه، فأتاه ملك من خزان الريح فقال: يا موسى انطلق إلى ما أمرك الله به. فقال موسى عند ذلك:" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي 20: 25" أي وسعه ونوره بالايمان والنبوة. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) 20: 26 أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) 20: 27 يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فيه وهو طفل. قال ابن عباس: كانت في لسانه رتة. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم وهو طفل فلطمه لطمة، واخذ بلحيته فنتفها فقال فرعون لآسية: هذا عدوي فهات الذباحين. فقالت آسية: على رسلك فإنه صبي لا يفرق بين الأشياء. ثم أتت بطستين فجعلت في أحدهما جمرا وفي الآخر جوهرا فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها في فيه على لسانه، فكانت تلك الرتة. وروي أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ. ولما دعاه قال إي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة. ثم اختلف هل زالت تلك الرتة، فقيل: زالت بدليل قوله" قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى 20: 36" [طه: 36] وقيل: لم تزل كلها، بدليل قوله حكاية عن فرعون:" وَلا يَكادُ يُبِينُ" «1» [الزخرف: 52]. ولأنه لم يقل: احلل كل لساني، فدل على أنه بقي في لسانه شي من الاستمساك. وقيل: زالت بالكلية بدليل قوله" أُوتِيتَ سُؤْلَكَ 20: 36" [طه: 36] وإنما قال فرعون:" وَلا يَكادُ يُبِينُ" [الزخرف: 52] لأنه عرف منه تلك العقدة في التربية، وما ثبت عنده أن الآفة زالت.
__________
(1). راجع ج 16 ص 99.

قلت: وهذا فيه نظر، لأنه لو كان ذلك لما قال فرعون:" وَلا يَكادُ يُبِينُ" حين كلمه موسى بلسان ذلق فصيح. والله أعلم. وقيل: إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه. (يَفْقَهُوا قَوْلِي) 20: 28 أي يعملوا ما أقوله لهم ويفهموه «1». والفقه في كلام العرب الفهم. قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه. تقول منه: فقه الرجل بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه «2». وأفقهتك الشيء. ثم خص به علم الشريعة، والعالم به فقيه. وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك. وفاقهته إذا باحثته في العلم، قاله الجوهري. والوزير المؤازر كالاكيل المؤاكل، لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. في كتاب النسائي عن القاسم بن محمد: سمعت عمتي «3» تقول قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه). ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله) رواه البخاري. فسأل موسى الله تعالى أن يجعل له وزيرا، إلا أنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى لا يكون شريكا له في النبوة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة. وعين فقال" هارُونَ" وانتصب على البدل من قوله:" وَزِيراً". أو يكون منصوبا ب"- اجْعَلْ" على التقديم والتأخير، والتقدير: واجعل لي هرون أخي وزيرا. وكان هرون أكبر من موسى بسنة، وقيل: بثلاث. (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) أي ظهري. والأزر الظهر من موضع الحقوين، ومعناه تقوى به نفسي، والأزر القوة وأزره قواه. ومنه قوله تعالى:" فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ" «4» [الفتح: 29] وقال أبو طالب: «5»
أليس أبونا هاشم شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
وقيل: الأزر العون، أي يكون عونا يستقيم به أمري. قال الشاعر:
شددت به أزري وأيقنت أنه ... أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه
__________ (1). في ج وز وك: يفقهوه.
(2). معناه لا يعلم ولا يفهم. ونقهت الحديث أنقهه إذا فهمته. [.....]
(3). في ج وى: عمى.
(4). راجع ج 16 ص 295.
(5). هذا البيت من قصيدة له قالها في أمر الشعب والصحيفة.

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)

وكان هرون أكثر لحما من موسى، وأتم طولا، وأبيض جسما، وأفصح لسانا. ومات قبل موسى بثلاث سنين. وكان في جبهة هرون شامة، وعلى أرنبة أنف موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده، وقيل: إنها كانت سبب العقدة «1» التي في لسانه. والله أعلم. (وأشركه في أمرى) أي في النبوة وتبليغ الرسالة. قال المفسرون: كان هارون يومئذ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي هرون، وأوحى إلى هرون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحى إليه، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولا. وقرا العامة" أخي اشدد" بوصل الالف" وَأَشْرِكْهُ 20: 32" بفتح الهمزة على الدعاء، أي أشدد يا رب أزري وأشركه معي في أمري. وقرا ابن عامر ويحيى بن الحرث وأبو حيوة والحسن وعبد الله ابن أبي إسحاق" أشدد" بقطع الالف" وأشركه" [بضم الالف أي أنا أفعل ذلك أشدد أنا به أزري (وأشركه) «2»] أي أي أنا يا رب" فِي أَمْرِي". قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله:" اجْعَلْ لِي وَزِيراً 20: 29" وهذه القراءة شاذة بعيدة، لان جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة، فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري، وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيخبر به، إنما سأل الله عز وجل أن يشركه معه في النبوة. وفتح الياء من" أَخِي" ابن كثير وأبو عمر. (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) 20: 33 قيل: معنى" نُسَبِّحَكَ 20: 33" نصلي لك. ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان. أي ننزهك عما لا يليق بجلالك. و" كَثِيراً" نعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نعتا لوقت. والإدغام حسن. وكذا (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) 20: 34. (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) 20: 35 قال الخطابي: البصير المبصر، والبصير العالم بخفيات الأمور، فالمعنى، أي عالما بنا، ومدركا لنا في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا [أيضا «3»] كذلك يا رب..

[سورة طه (20): الآيات 36 الى 42]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42)
__________
(1). في ب وج وز وط وك وى: سبب العقلة في لسانه. ولهذا اللفظ وجه.
(2). من ب وط وز وك.
(3). من ب وج وى.

قوله تعالى: (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) 20: 36 لما سأله شرح الصدر، وتيسير الامر إلى ما ذكر، أجاب سؤله، وأتاه طلبته ومرغوبة. والسؤل الطلبة، فعل بمعنى مفعول، كقولك خبز بمعنى مخبوز واكل بمعنى مأكول. وقوله تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى ) 20: 37 أي قبل هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الاعداء في الابتداء، وذلك حين الذبح. والله أعلم. والمن الإحسان والإفضال. وقوله: (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ) 20: 38 قيل:" أَوْحَيْنا" ألهمنا. وقيل: أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس [رضى الله عنهما «1»]: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) 20: 39 قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان أسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز. (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) 20: 39 أي اطرحيه في البحر: نهر النيل. (فَلْيُلْقِهِ) 20: 39 قال الفراء:" فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ 20: 39" أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا قوله:" اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ" «2». [العنكبوت: 12]. (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) 20: 39 يعني فرعون، فاتخذت تابوتا، وجعلت فيه نطعا ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وخصاصه- يعني شقوقه- ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون. وروى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وقيرته وجصصته، ثم ألقته في اليم. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية، إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبي أصبح
__________
(1). من ج وك.
(2). راجع ج 13 ص 330 فما بعد.

الناس، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه. ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل، فيه فوهة «1» نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة. والله أعلم. وقيل: وجدته ابنة فرعون وكان بها برص، فلما فتحت التابوت شفيت. وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته، فإذا صبي نوره بين عينيه، وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه. وكانت لفرعون بنت برصاء، وقال له الأطباء: لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت. وقيل: لما نظرت إلى وجهه برئت. والله أعلم. وقيل: وجدته جوار لامرأة فرعون، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيا من أصبح الناس وجها، فأحبه فرعون. فذلك قوله تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) 20: 39 قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية «2»: جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. وقال عكرمة: المعنى جعلت فيك حسنا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك. وقال الطبري: المعنى ألقيت عليك رحمتي. وقال ابن زيد: جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك. (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) 20: 39 قال ابن عباس: يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت، وحيث ألقي التابوت في البحر، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون، فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه، فقالت منهن واحدة: لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لانفسكن. وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري. فذهبن بالتابوت إليها مغلقا، فلما فتحته رأت صبيا لم ير مثله قط، وألقى عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون، فقالت له: [القصص: 9]" قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ" «3» قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. فبلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لو أن فرعون قال
__________
(1). فوهة الوادي بالضم والشد: فمه كفوهته.
(2). في ب وج وز وط وك وى: عطية.
(3). راجع ج 13 ص 250 فما بعد.

نعم هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق) فقالت: هبه لي ولا تقتله، فوهبه لها. وقيل:" وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي" أي تربى وتغذى على مرأى مني، قاله قتادة. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة، يقال: صنعت الفرس وأصنعت إذا أحسنت القيام عليه. والمعنى." وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي 20: 39" فعلت ذلك. وقيل: اللام متعلقة بما بعدها من قوله:" إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ" على التقديم والتأخير ف"- إِذْ" ظرف" لِتُصْنَعَ". وقيل: الواو في" وَلِتُصْنَعَ" زائدة. وقرا ابن القعقاع" ولتصنع" بإسكان اللام على الامر، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب. وقرا أبو نهيك:" ولتصنع" بفتح التاء. والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي وعلى عين منى. ذكره المهدوي." إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ" العامل في" إِذْ تَمْشِي 20: 40"" أَلْقَيْتُ" أو" تصنع". ويجوز أن يكون بدلا من" إِذْ أَوْحَيْنا" وأخته اسمها مريم. (فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا، فقالت: إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي؟. قالت: أمي. فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخى هرون. وكان هرون أكبر من موسى بسنة. وقيل: بثلاث. وقيل: بأربع، وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها، قاله ابن عباس. فجاءت الام فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى: (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) 20: 40 وفي مصحف أبي" فرددناك". (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) وروى عبد الحميد عن ابن عامر" كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها" بكسر القاف. قال الجوهري: وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. ورجل قرير العين، وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في (مريم) «1»." وَلا تَحْزَنَ" أي على فقدك. (وَقَتَلْتَ نَفْساً) 20: 40 قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي
__________
(1). راجع ص 81 فما بعد من هذا الجزء.

عشرة سنة. في صحيح مسلم: وكان قتله خطأ، على ما يأتي. (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ) 20: 40 أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) 20: 40 أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة، وقال قتادة: بلوناك بلاء. مجاهد: أخلصناك إخلاصا. وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها: حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمة إلى صدره، وقال له: أتعبتني وأتبعت نفسك، ولم يغضب عليه. قال وهب ابن منبه: ولهذا اتخذه الله تعالى كليما، وقد مضى في (النساء) «1». قوله تعالى: (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) 20: 40
يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب: لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة إقامة عنده حتى ولد له عنده. وقوله: (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى ) 20: 40 قال ابن عباس وقتادة وعبد الرحمن بن كيسان: يريد موافقا للنبوة والرسالة، لان الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل:" عَلى قَدَرٍ 20: 40" على وعد. وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجئ فيه. والمعنى واحد. أي جئت في الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
قوله تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) 20: 41 قال ابن عباس: أي اصطفيتك لوحي ورسالتي. وقيل:" اصْطَنَعْتُكَ 20: 41" خلقتك، مأخوذ من الصنعة. وقيل: قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمرى ونهى. (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) 20: 42 قال ابن عباس: يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) 20: 42 قال ابن عباس: تضعفا أي في أمر الرسالة، وقاله قتادة. وقيل: تفترا. قال الشاعر: «2»
فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الاله ما مضى وما غبر
__________
(1). راجع ج 6 ص 18.
(2). هو العجاج. [.....]

اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)

والونى الضعف والفتور، والكلال والإعياء [وكله مراد في الآية «1»]. وقال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن غبارا بالكديد المركل «2»
ويقال: ونيت في الامر أني ونى وونيا أي ضعفت فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا أضعفتها وأتعبتها: وفلان لا يني كذا، أي لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة:
كأن القدور الراسيات أمامهم ... قباب بنوها لا تني أبدا تغلى
وعن ابن عباس أيضا: لا تبطئا. وفي قراءة ابن مسعود:" ولا تهنا في ذكري" وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي.

[سورة طه (20): الآيات 43 الى 44]
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (اذْهَبا) قال في أول الآية:" اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي" وقال هنا:" اذْهَبا" فقيل: أمر الله تعالى موسى وهرون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون، وخاطب أولا موسى وحده تشريفا له، ثم كرر للتأكيد. وقيل: بين بهذا أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل: الأول أمر بالذهاب إلى كل الناس، والثاني بالذهاب إلى فرعون. الثانية- في قوله تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً) 20: 44 دليل على جواز الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال:" فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً 20: 44" وقال:" لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى 20: 46" [طه: 46] فكيف بنا فنحن أولى بذلك. وحينئذ يحصل الآمر أو الناهي على مرغوبة، ويظفر بمطلوبه، وهذا واضح.
__________
(1). من ب وج وى.
(2). مسح معناه يصب الجري صبا. والسابحات اللاتي عدوهن سباحة والسباحة في الجري بسط الأيدي. والكديد: الموضع الغليظ. والمركل: الذي يركل بالأيدي. ومعنى البيت: أن الخيل السريعة إذا فترت فأثارت الغبار بأرجلها من التعب جرى هذا الفرس جريا مهلا.

الثالثة- واختلف الناس في معنى قوله: (لَيِّناً) فقالت فرقة منهم الكلبي وعكرمة: معناه كنياه، وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قيل: وكنيته أبو العباس. وقيل: أبو الوليد. وقيل: أبو مرة، فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه. وقد «1» يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه، لان الطمع ليس بحقيقة توجب عملا. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه) ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه، ومن الإكرام دعاؤه بالكنية. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصفوان بن أمية: (أنزل أبا وهب) فكناه. وقال لسعد: (ألم تسمع ما يقوله أبو حباب) يعني عبد الله بن أبي. وروى في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قام على باب فرعون سنة، لا يجد رسولا يبلغ كلاما حتى خرج. فجرى له ما قص الله علينا من ذلك، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين، وربك أعلم بالمهتدين. وقيل قال له موسى: تؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين، على أن لك شبابا لا يهرم إلى الموت، وملكا لا ينزع منك إلى الموت، وينسأ في أجلك أربعمائة سنة، فإذا مت دخلت الجنة. فهذا القول اللين. وقال ابن مسعود: القول اللين قوله تعالى" فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى " «2» [النازعات: 19- 18]. وقد قيل أن القول اللين قول موسى: يا فرعون إنا رسولا ربك رب العالمين. فسماه بهذا الاسم لأنه [كان «3»] أحب إليه مما سواه مما قيل له، كما يسمى عندنا الملك ونحوه. قلت: القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه، يقال: لان الشيء يلين لينا، وشيء لين ولين مخفف منه، والجمع أليناء. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه. وقد قال الله تعالى:" وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً" «4» [البقرة: 83]. على ما تقدم في" البقرة" بيانه والحمد لله. الرابعة- قوله تعالى: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) 20: 44 معناه: على رجائكما وطمعكما، فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر، قاله كبراء النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم في أول (البقرة) «5». قال الزجاج:" لعل" لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون. وقيل" لعل" هاهنا بمعنى
__________
(1). في ج وك: وقيل.
(2). راجع ج 19 ص 189 فما بعد.
(3). من ب وج وي وك وى.
(4). راجع ج 2 ص 16 فما بعد.
(5). راجع ج 1 ص 227.

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)

الاستفهام. والمعنى فانظر هل يتذكر. وقيل: هي بمعنى كي. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن قول هرون لموسى لعله يتذكر أو يخشى، قاله الحسن. وقيل: إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع. وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال:" آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ 10: 90" «1» [يونس: 90]. ولكن لم ينفعه ذلك، قاله أبو بكر الوراق وغيره. وقال يحيي بن معاذ في هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول أنا الاله فكيف رفقك بمن يقول أنت الاله؟!. وقد قيل: إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالايمان، فشاور هامان فقال: لا تفعل، بعد أن كنت مالكا تصير مملوكا، وبعد أن كنت ربا تصير مربوبا. وقال له: أنا أردك شابا فخضب لحيته بالسواد فهو أول من خضب.

[سورة طه (20): آية 45]
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)
قوله تعالى: (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى ) 20: 45 قال الضحاك:" يَفْرُطَ 20: 45" يعجل. قال: و" يَطْغى " يعتدى. النحاس: التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر، قال الفراء: فرط منه أمر أي بدر، قال: وأفرط أسرف. قال: وفرط ترك. وقراءة الجمهور" يفرط" بفتح الياء وضم الراء، ومعناه يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال: فرط مني أمر أي بدر، ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه، قاله المبرد. وقرأت فرقة منهم ابن محيصن" يفرط" بفتح الياء والراء، قال المهدوي: ولعلها لغة. وعنه أيضا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة" يفرط" بضم الياء وكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة وابن محيصن أيضا. ومعناه يشطط في أذيتنا، قال الراجز:
قد أفرط العلج علينا وعجل

[سورة طه (20): آية 46]
قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
__________
(1). راجع ج 8 ص 377 فما بعد.

فيه مسألتان: الاولى- قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف، والخوف من الاعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبد الله- أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لان تختلف الاسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه-: قد خاف من كان خيرا من عامر، موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال له: [الرجل «1»]:" إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 20" «2» [القصص: 21- 20] وقال:" فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ" «3» [القصص: 18] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم:" فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى . قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى 20: 68- 67" [طه: 68- 67]. قلت: ومنه حفر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدا، ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة، وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكم: كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار- أو أرض- البعداء «4» البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن كنا نؤذى ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم. قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم
__________ (1). من ك.
(2). راجع ج 13 ص 264 فما بعد.
(3). راجع ج 13 ص 259.
(4). البعداء: أي في النسب. البغضاء: أي في الدين وقول أسماء: كذبت يا عمر أي أخطأت وقد استعملوا كذب يعنى أخطأ.

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)

[عليه «1»] كاذب، وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا: ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الأرض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك. الثانية- قوله تعالى:" إِنَّنِي مَعَكُما 20: 46" يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقوله:" أسمع وأرى" عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين.

[سورة طه (20): الآيات 47 الى 50]
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50)
قوله تعالى: (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) 20: 47 في الكلام حذف، والمعنى: فأتياه فقالا له ذلك. (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) 20: 47 أي خل عنهم. (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) 20: 47 أي بالسخرة والتعب في العمل. وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم، ويستخدم «2» نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن مالا يطيقونه. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) 20: 47 قال ابن عباس: يريد العصا واليد. وقيل: إن فرعون قال له: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس، غلب نورها على نور الشمس فعجب منها. ولم يره العصا إلا يوم الزينة. (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ) 20: 47 قال الزجاج: أي من أتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال: وليس بتحية، [قال: «3»] والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب.
__________
(1). الزيادة يقتضيها السياق.
(2). في ا: يستحى. [.....]
(3). من ب وج وط وك وى.

الفراء: السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ) يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. (عَلى مَنْ كَذَّبَ) أنبياء الله (وَتَوَلَّى) أعرض عن الايمان. وقال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا. قوله تعالى: (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى ) 20: 49 ذكر فرعون موسى دون هرون لرءوس الآي. وقيل: خصصه بالذكر لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل إنهما جميعا بلغا الرسالة وإن كان ساكتا، لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وازره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم، أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الامر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب، لان الله تعالى قال:" اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ 20: 43" وقال:" اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ 20: 42" وقال:" فَقُولا لَهُ 20: 44" فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله:" فَمَنْ رَبُّكُما 20: 49" أنه كان حاضرا مع موسى. (قالَ) موسى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) 20: 50 أي أنه يعرف بصفاته، وليس له أسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم، وهو الذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا. و" خَلْقَهُ" أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شي يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شي صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، على قول الضحاك على ما يأتي. (ثُمَّ هَدى ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شي زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه، وعن ابن عباس: ثم هداه إلى الالفة والاجتماع والمناكحة. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شي صلاحه، وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: أعطى كل شي صورة، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شي فقدره تقديرا. وقال الشاعر:
وله في كل شي خلقة ... وكذاك الله ما شاء فعل

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)

يعني بالخلقة الصورة، وهو قول عطية ومقاتل. وقال الضحاك: أعطى كل شي خلقه من المنفعة المنوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والاذن للسمع. وقيل: أعطى كل شي ما ألهمه من علم أو صناعة. وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث ثم هدى الذكر للأنثى. فالتقدير على هذا أعطى كل شي مثل خلقه. قلت: وهذا معنى قول ابن عباس. والآية بعمومها تتناول جميع الأقوال. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ" الذي أعطى كل شي خلقه" بفتح اللام، وهي قراءة ابن أبي إسحاق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره، أي أعطى بنى آدم كل شي خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى.

[سورة طه (20): الآيات 51 الى 52]
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (قالَ فَما بالُ) 20: 51 البال الحال، أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله تعالى في اللوح المحفوظ. وقيل: المعنى فما بال القرون الاولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك. وقيل: إنما سأله عن أعمال القرون الاولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة. الثانية- هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع

منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب، فقال:" عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى 20: 52". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي). وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (استعن بيمينك) وأومأ إلى الخط. وهذا نص. وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين، وقد أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لابي شاه- رجل من اليمن- لما سأله كتبها. أخرجه مسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (قيدوا العلم بالكتابة). وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما. وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب، فروى أبو نصرة «1» قال قيل لابي سعيد: أنكتب حديثكم هذا؟ قال: لم تجعلونه قرآنا؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء- قال خالد: ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا، فلما حفظته محوته- وابن عون والزهري. وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه، منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة. وقال هشام بن حسان: ما كتبت حديثا قط إلا حديث الأعماق «2» فلما حفظته محوته. قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالاعماق- أوبدابق) الحديث ذكره في كتاب الفتن. وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ منهم الأعمش وعبد الله بن إدريس وهشيم وغيرهم. وهذا احتياط على الحفظ. والكتب أولى على الجملة، وبه وردت الآي والأحاديث، وهو مروي عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن
__________
(1). كذا في ب وط وى وهو الصواب. وأبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة.
(2). الأعماق: موضع من أطراف المدينة ودابق: اسم موضع سوق بها. والشك من الراوي.

وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير، ومن بعدهم من أهل العلم، قال الله تعالى" وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" «1» [الأعراف: 145]. وقال تعالى:" وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ 10" «2» [الأنبياء: 105]. وقال تعالى:" وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً" «3» [الأعراف: 156] الآية. وقال تعالى:" وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ" «4» [القمر: 53- 52]. وقال:" عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ 20: 52" إلى غير هذا من الآي. وأيضا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد، وتقارب الاسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن حفظه «5» والعمل به، فأما والوقت متباعد، والاسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون، فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى، والدليل على وجوبه أقوى، فإن أحتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه) خرجه مسلم، فالجواب أن ذلك كان متقدما، فهو منسوخ بأمره بالكتابة، وإباحتها لابي شاه وغيره. وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه. وكذا ما روى عن أبي سعيد أيضا- حرصنا أن يأذن لنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتابة فأبى- إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن الثالثة- قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد، ثم الحبر خاصة دون المداد «6» لان السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه، فقال: لم تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لان صورته في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال خالد بن زيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق «7» في ثوب العروس. واخذ هذا المعنى أبو عبد الله البلوى فقال:
مداد المحابر طيب الرجال ... وطيب النساء من الزعفران
فهذا يليق بأثواب ذا ... وهذا يليق بثوب الحصان
__________ (1). راجع ج 7 ص 280 فما بعد.
(2). راجع ص 349 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 7 ص 296.
(4). راجع ج 17 ص 149.
(5). في ب وج وز وط ك وى: تحفظه.
(6). لا فرق في اللغة بين المداد والحبر ولعل المراد الكتابة بالحبر الأسود خاصة فالتفرقة بحسب اللون على ما يبدو.
(7). الخلوق: طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره.

وذكر الماوردي أن عبد الله «1» بن سليمان فيما حكى، رأى على بعض ثيابه أثر صفرة، فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران، وأنشد:
إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدوي عطر الرجال
الرابعة- قوله تعالى: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) 20: 52 اختلف في معناه على أقوال خمسة، الأول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين. وقد كان الكلام تم في قوله:" فِي كِتابٍ". وكذا قال الزجاج، وأن معنى" لا يَضِلُّ" لا يهلك من قوله:" أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ 10" «2» [السجدة: 10]." وَلا يَنْسى 20: 52" شيئا، نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني:" لا يَضِلُّ" لا يخطئ، قاله ابن عباس، أي لا يخطئ في التدبير، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله. القول الثالث:" لا يَضِلُّ" لا يغيب. قال ابن الاعرابي: أصل الضلال الغيبوبة، يقال: ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء. قال: ومعنى." لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى 20: 52" أي لا يغيب عنه شي ولا يغيب عن شي. القول الرابع: قاله الزجاج أيضا: وقال النحاس وهو أشبهها بالمعنى-: أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب، والمعنى لا يضل عنه علم شي من الأشياء ولا معرفتها، ولا ينسى ما علمه منها. قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الاعرابي. وقول خامس: إن" لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى 20: 52" في موضع الصفة ل"- كِتابٍ" أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل، أي غير ذاهب عنه." وَلا يَنْسى 20: 52" أي غير ناس له فهما نعتان ل"- كِتابٍ". وعلى هذا يكون الكلام متصلا، ولا يوقف على" كِتابٍ". تقول العرب. ضلني الشيء إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه. وقرا الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه" لا يضل" بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد، يقال: ضل عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ" لا يضل ربي" أي لا يضيع، هذا مذهب العرب.
__________
(1). في (أدب الدنيا والدين): عبيد الله بن سليمان.
(2). راجع ج 14 ص 91.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)

[سورة طه (20): الآيات 53 الى 55]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) «1»" الَّذِي" في موضع [رفع «2»] نعت ل"- رَبِّي" أي لا يضل ربي الذي جعل. ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي هو" الَّذِي". ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني. وقرا الكوفيون:" مهدا" هنا وفي" الزخرف" بفتح الميم وإسكان الهاء. الباقون" مِهاداً" واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لاتفاقهم على قراءة:" أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً" «3» [النبأ: 6]. النحاس: والجمع أولى لان" مهدا" مصدر وليس هذا موضع مصدر إلا على حذف، أي ذات مهد. المهدوي: ومن قرأ" مهدا" جاز أن يكون مصدرا كالفرش أي مهد لكم الأرض مهدا، وجاز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي ذات مهد. ومن قرأ:" مهادا" جاز أن يكون مفردا كالفراش. وجاز أن يكون جمع" مهد" استعمل استعمال الأسماء فكسر. ومعنى" مِهاداً" أي فراشا وقرارا تستقرون عليها. (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا) 20: 53 أي طرقا. نظيره" والله جعل لكم الأرض بساطا. لتسلكوا منها سبلا فجاجا" «4» [نوح: 20- 19]. وقال تعالى:" الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 10" «5» [الزخرف: 10] (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) تقدم معناه. وهذا آخر كلام موسى، ثم قال الله تعالى:" فَأَخْرَجْنا بِهِ". وقيل: كله من كلام موسى. والمعنى (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بالحرث والمعالجة، لان الماء المنزل سبب خروج النبات. ومعنى (أَزْواجاً) ضروبا وأشباها، أي أصنافا من النبات المختلفة الأزواج والألوان. وقال الأخفش: التقدير أزواجا شتى من نبات. قال: وقد يكون النبات شتى، ف" شَتَّى" يجوز أن يكون نعتا لأزواج، ويجوز أن يكون نعتا للنبات. و" شَتَّى"
__________
(1). (مهادا) بالجمع: قراءة (نافع) وعليها الأصل.
(2). من ب وج وز وي وك وى. [.....]
(3). راجع ج 19 ص 169 فما بعد.
(4). راجع ج 18 ص 306.
(5). راجع ج 16 ص 64.

مأخوذ من شت الشيء أي تفرق. يقال: أمر شت أي متفرق. وشت الامر شتا وشتاتا تفرق، واشتت مثله. وكذلك التشتت. وشتته تشتيتا فرقه. وأشت بي قومي أي فرقوا أمري. والشتيت المتفرق. قال رؤبة يصف إبلا:
جاءت معا وأطرقت شتيتا ... وهي تثير الساطع السختيتا «1»
وثغر شتيت أي مفلج. وقوم شتى، وأشياء شتى، وتقول: جاءوا أشتاتا، أي متفرقين، واحدهم شت، قاله الجوهري. قوله تعالى: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) 20: 54 أمر إباحة." وَارْعَوْا 20: 54" من رعت الماشية الكلا، ورعاها صاحبها رعاية، أي أسامها وسرحها، لازم ومعتد. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ) أي العقول. الواحدة نهية. قال لهم ذلك، لأنهم الذين ينتهى إلى رأيهم. وقيل: لأنهم ينهون النفس عن القبائح. وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله:" فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى 20: 49". وبين أنه إنما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله. قوله تعالى: (مِنْها خَلَقْناكُمْ) 20: 55 يعني آدم عليه السلام لأنه خلق من الأرض، قاله أبو إسحاق الزجاج وغيره. وقيل: كل نطفة مخلوقة من التراب، على هذا يدل ظاهر القرآن. وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته) أخرجه أبو نعيم الحافظ في باب ابن سيرين، وقال: هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل، وهو أحد الثقات الاعلام من أهل البصرة. وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة (الانعام) «2» عن ابن مسعود. وقال عطاء الخراساني: إذا وقعت النطفة في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ومن التراب، فذلك قوله تعالى:" مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى 20: 55". وفي حديث البراء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن العبد المؤمن إذا خرجت روحه صعدت به الملائكة فلا يمرون بها على ملا من الملائكة
__________
(1). السختيت: دقاق التراب: وهو الغبار الشديد الارتفاع. ويروى: (الشختيتا بالشين المعجمة.
(2). راجع ج 6 ص 387 فما بعد.

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)

إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا فيستفتحون لها فيفتح فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل" اكتبوا لعبدي كتابا في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإنى منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى" فتعاد روحه في جسده) وذكر الحديث. وقد ذكرناه بتمامه في كتاب" التذكرة" وروى من حديث علي رضي الله عنه، ذكره الثعلبي. ومعنى" وَفِيها نُعِيدُكُمْ 20: 55" أي بعد الموت" وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ 20: 55" أي للبعث والحساب. (تارَةً أُخْرى ) يرجع هذا إلى قوله:" مِنْها خَلَقْناكُمْ 20: 55" لا إلى" نعيدكم". وهو كقولك: اشتريت ناقة ودارا وناقة أخرى، فالمعنى: من الأرض أخرجناكم ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى.

[سورة طه (20): الآيات 56 الى 61]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60)
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها) 20: 56 أي المعجزات الدالة على نبوة موسى. وقيل: حجج الله الدالة على توحيده. (فَكَذَّبَ وَأَبى ) 20: 56 أي لم يؤمن. وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا. نظيره" وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" «1». قوله تعالى: (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ) 20: 57 لما رأى الآيات التي أتاه بها موسى قال: إنها سحر، والمعنى: جئت لتوهم الناس أنك جئت بآية توجب اتباعك والايمان بك، حتى تغلب على أرضنا وعلينا. (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) 20: 58 أي لنعارضنك
__________
(1). راجع ج 13 ص 163.

بمثل ما جئت به ليتبين للناس أن ما أتيت به ليس من عند الله. (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) 20: 58 هو مصدر، أي وعدا. وقيل: الموعد اسم لمكان الوعد، كما قال تعالى:" وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ" «1» [الحجر: 43] فالموعد ها هنا مكان. وقيل: الموعد اسم لزمان الوعد، كقوله تعالى:" إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ" «2» [هود: 81] فالمعنى: اجعل لنا يوما معلوما، أو مكانا معروفا. قال القشيري: والأظهر أنه مصدر ولهذا قال: (لا نُخْلِفُهُ) 20: 58 أي لا نخلف ذلك الوعد، والأخلاف أن يعد شيئا ولا ينجزه. وقال الجوهري: والميعاد المواعدة والوقت والموضع وكذلك الموعد. وقرا أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج:" لا نخلفه" بالجزم جوابا لقوله" اجعل". ومن رفع فهو نعت ل" مَوْعِدٌ" والتقدير: موعدا غير مخلف. (مَكاناً سُوىً) 20: 58 قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة" سوى" بضم السين. الباقون بكسرها، وهما لغتان مثل عدا وعدا وطوى وطوى. واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين لأنها اللغة العالية الفصيحة. وقال النحاس: والكسر أعرف وأشهر. وكلهم نونوا الواو، وقد روي عن الحسن، واختلف عنه ضم السين بغير تنوين. واختلف في معناه فقيل: سوى هذا المكان، قاله الكلبي. وقيل: مكانا مستويا يتبين للناس ما بيناه فيه، قاله ابن زيد. ابن عباس: نصفا. مجاهد: منصفا، وعنه أيضا وقتادة عدلا بيننا بينك. وقال النحاس: واهل التفسير على أن معنى" سوى" نصف وعدل وهو قول حسن، قال سيبويه يقال: سوى وسوى أي عدل، يعنى مكانا عدل، بين المكانين فيه النصفة، وأصله من قولك: جلس في سواء الدار بالمد أي في وسطها، ووسط كل شي أعدله، وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً" «3» [البقرة: 143] أي عدلا، وقال زهير:
أرونا خطة لا ضيم فيها ... يسوي بيننا فيها السواء
وقال أبو عبيدة والقتبي: وسطا بين الفريقين، وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي:
وإن أبانا كان حل ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
والفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم. وقال الأخفش:" سوى" إذا كان بمعنى غير أو بمعنى العدل يكون فيه ثلاث لغات: إن ضممت السين أو كسرت قصرت فيهما جميعا. وإن فتحت مددت، تقول: مكان سوى وسوى وسواء، أي عدل ووسط فيما بين الفريقين. قال موسى بن جابر:
__________
(1). راجع ج 10 ص 29 فما بعد.
(2). راجع ج 9 ص 81
(3). راجع ج 2 ص 153

وجدنا أبانا كان حل ببلدة

البيت. وقيل:" مَكاناً سُوىً 20: 58" أي قصدا، وأنشد صاحب هذا القول:
لو تمنت حبيبتي ما عدتني ... أو تمنيت ما عدوت سواها
وتقول: مررت برجل سواك وسواك وسوائك أي غيرك. وهما في هذا الامر سواء وإن شئت سواءان. وهم سواء للجميع وهم أسواء، وهم سواسية مثل ثمانية على غير قياس. وانتصب" مكانا" على المفعول الثاني ل"- جعل". ولا يحسن انتصابه بالموعد على أنه مفعول أو ظرف له، لان الموعد قد وصف، والأسماء التي تعمل عمل الافعال إذا وصفت أو صغرت لم ينبغ «1» أن تعمل لخروجها عن شبه الفعل، ولم يحسن حمله على أنه ظرف وقع موقع المفعول الثاني، لان الموعد إذا وقع بعده ظرف لم تجره العرب مجرى المصادر مع الظروف، لكنهم يتسعون فيه كقوله تعالى:" إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ" «2» [هود: 81] و" مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ 20: 59". واختلف في يوم الزينة، فقيل هو يوم عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه، قاله قتادة والسدي وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: كان يوم عاشوراء. وقال سعيد بن المسيب: يوم سوق كان لهم يتزينون فيها، وقاله قتادة أيضا. وقال الضحاك: يوم السبت. وقيل: يوم النيروز، ذكره الثعلبي. وقيل: يوم يكسر فيه الخليج، وذلك أنهم كانوا يخرجون فيه يتفرجون ويتنزهون، وعند ذلك تأمن الديار المصرية من قبل النيل. وقرا الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمى وهبيرة عن حفص" يوم الزينة" بالنصب. ورويت عن أبي عمرو، أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. والباقون بالرفع على أنه خبر الابتداء. (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) 20: 59 أي وجمع الناس، ف"- أَنْ" في موضع رفع على قراءة من قرأ:" يَوْمُ" بالرفع. وعطف" وَأَنْ يُحْشَرَ 20: 59" يقوي قراءة الرفع، لان" أَنْ" لا تكون ظرفا، وإن كان المصدر الصريح يكون ظرفا كمقدم الحاج، لان من قال: آتيك مقدم الحاج لم يقل آتيك أن يقدم الحاج. النحاس: وأولى من هذا أن يكون في موضع خفض عطفا على الزينة. والضحى مؤنثة تصغرها العرب بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها ضحوة، قاله النحاس. وقال الجوهري:
__________
(1). كذا في جميع الأصول.
(2). راجع ج 9 ص 281.

ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحا وهي حين تشرق الشمس، مقصورة تؤنث وتذكر، فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل مثل صرد ونغر، وهو ظرف غير متمكن مثل سحر، تقول: لقيته ضحا، وضحا إذ أردت به ضحا يومك لم تنونه، ثم بعده الضحاء ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. وخص الضحا لأنه أول النهار، فلو امتد الامر فيما بينهم كان في النهار متسع. وروى عن ابن مسعود والجحدري وغيرهما:" وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى 20: 59" على معنى وأن يحشر الله الناس ونحوه. وعن بعض القراء" وأن تحشر الناس" والمعنى وأن تحشر أنت يا فرعون الناس وعن الجحدري أيضا" وأن نحشر" بالنون وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله، وظهور دينه، وكبت الكافر، وزهوق الباطل على رءوس الاشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم، ويكثر المحدث بذلك الامر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جمع أهل الوبر والمدر. قوله تعالى: (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ) 20: 60 أي حيله وسحره، والمراد جمع السحرة. قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصى. وقيل: كانوا أربعمائة. وقيل: كانوا اثنى عشر ألفا. وقيل: أربعة عشرا ألفا. وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا. وقيل: كانوا مجتمعين على رئيس يقال له شمعون. وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، مع كل عريف ألف ساحر. وقيل كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلاثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف وكان رئيسهم أعمى. (ثُمَّ أَتى ) 20: 60 أي أتى الميعاد. (قالَ لَهُمْ مُوسى ) أي قال لفرعون والسحرة (وَيْلَكُمْ) دعاء عليهم بالويل. وهو بمعنى المصدر. وقال أبو إسحاق الزجاج: هو منصوب بمعنى ألزمهم الله ويلا. قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله تعالى:" يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا" «1» [يس: 52] (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً) 20: 61 أي لا تختلقوا عليه الكذب، ولا تشركوا به، ولا تقولوا للمعجزات إنها سحر. (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) 20: 61 من عنده أي يستأصلكم بالإهلاك.
__________
(1). راجع ج 15 ص 39 فما بعد.

فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)

يقال فيه: سحت وأسحت بمعنى. وأصله من استقصاء الشعر. وقرا الكوفيون" فَيُسْحِتَكُمْ 20: 61" من أسحت، الباقون" فيسحتكم" من سحت وهذه لغة أهل الحجاز و[الاولى «1» لغة] بني تميم. وانتصب على جواب النهي. وقال الفرزدق.
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا «2» أو مجلف «3»
الزمخشري: وهذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه. (وقد خاب من افترى) أي خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به.

[سورة طه (20): الآيات 62 الى 64]
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
قوله تعالى: (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) 20: 62 أي تشاوروا، يريد السحرة. (وَأَسَرُّوا النَّجْوى ) قال قتادة" قالُوا": إن كان ما جاء به سحرا فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر، وهذا الذي أسروه. وقيل الذي أسروا قولهم" إِنْ هذانِ لَساحِرانِ 20: 63" الآيات قاله السدي ومقاتل. وقيل الذي أسروا قولهم: إن غلبنا اتبعناه، قاله الكلبي، دليله من ظهر من عاقبة أمرهم. وقيل: كان سرهم أن قالوا حين قال لهم موسى" وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً 20: 61" [طه: 61]: ما هذا بقول ساحر. و" النَّجْوى " المنجاة يكون اسما ومصدرا، وقد تقدم في" النساء" «4» بيانه.
__________
(1). الزيادة من كتب التفسير.
(2). ويروى: (إلا مسحت) ومن وراه كذلك جعل معنى. (لم يدع) لم يتقار ومن رواه (إلا مسحتا) جعل (لم يدع) بمعنى لم يترك. ورفع (مجلف) بإضمار كأنه قال: أو هو مجلف. (اللسان). [.....]
(3). المجلف: الذي بقيت منه بقية.
(4). راجع ج 5 ص 382 فما بعد.

قوله تعالى: (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) 20: 63 قرأ أبو عمرو" إن هذين لساحران". ورويت عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة، وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين، ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري، فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للأعراب مخالفة للمصحف. وقرا الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم: في رواية حفص عنه" إِنْ هذانِ 20: 63" بتخفيف" إِنْ"" لَساحِرانِ" وابن كثير يشدد نون" هذان". وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الاعراب، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران. وقرا المدنيون والكوفيون:" إن هذان" بتشديد" إن"" لَساحِرانِ 20: 63" فوافقوا المصحف وخالفوا الاعراب. قال النحاس: فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة، وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ" إن هذان إلا ساحران" وقال الكسائي في قراءة عبد الله:" إن هذان ساحران" بغير لام، وقال الفراء في حرف أبي" إن ذان إلا ساحران" فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف. قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الرد له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض. وقد خطأها قوم حتى قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله [تعالى «1»] أن أقرأ" إِنْ هذانِ 20: 63". وروى عروة عن عائشة رضى الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى" لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" «2» ثم قال:" وَالْمُقِيمِينَ" «3» وفي" المائدة"" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ" «4» [المائدة: 69] و" إِنْ هذانِ لَساحِرانِ 20: 63" فقالت: يا ابن أختي! هذا خطأ من الكاتب. وقال عثمان ابن عفان رضي الله عنه: في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم. وقال أبان بن عثمان: قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان، فقال: لحن وخطأ، فقال له قائل: ألا تغيروه؟ فقال: دعوه فإنه لا يحرم حلالا ولا يحلل حرما. القول الأول من الأقوال الستة: أنها لغة بنى الحرث بن كعب وزبيد وخثعم. وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف،
__________
(1). من ك:
(2). راجع ج 6 ص 13، وص 246. راجع ما نقله القرطبي في رد هذا الكلام ج 6 ص 15. وكان إغفال المصنف لهذا أولى لأنه قدح في خط المصحف المروي عن أئمة اللغة الثقات.
(3). راجع ج 6 ص 13، وص 246. راجع ما نقله القرطبي في رد هذا الكلام ج 6 ص 15. وكان إغفال المصنف لهذا أولى لأنه قدح في خط المصحف المروي عن أئمة اللغة الثقات.
(4). راجع ج 6 ص 13، وص 246. راجع ما نقله القرطبي في رد هذا الكلام ج 6 ص 15. وكان إغفال المصنف لهذا أولى لأنه قدح في خط المصحف المروي عن أئمة اللغة الثقات.

يقولون: جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، ومنه قوله تعالى:" وَلا أَدْراكُمْ بِهِ 10: 16" [يونس: 16] على ما تقدم «1». وأنشد الفراء لرجل من بني أسد «2»- قال: وما رأيت أفصح منه:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغا لناباه الشجاع لصمما «3»
ويقولون: كسرت يداه وركبت علاه، بمعنى يديه وعليه، قال شاعرهم: «4»
تزود منا بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التراب عقيم
وقال آخر: «5»
طاروا علاهن فطر علاها

أي عليهن وعليها. وقال آخر: «6»
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
أي إن أبا أبيها وغايتها. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية، إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى بعلمه وأمانته، منهم أبو زيد الأنصاري، وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيني، وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحرث بن كعب. وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة. المهدوي: وحكى غيره أنها لغة لخثعم. قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه: وأعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين، الاولى منهما حرف مد ولين وهو حرف الاعراب، قال أبو جعفر فقول سيبويه: وهو حرف الاعراب، يوجب أن الأصل ألا يتغير، فيكون" إن هذان" جاء
__________
(1). راجع ج 8 ص 320 فما بعد.
(2). هو المتلمس كما في (اللسان).
(3). صمم الشجاع في عضته: أي عض ونيب فلم يرسل ما عض.
(4). هو هوبر الحارثي. والهابي من التراب ما ارتفع ودق.
(5). قيل: هو لبعض أهل اليمن وأن قبله:
أي قلوص راكب تراها ... طاروا علاهن فطر علاها
واشدد بمثنى حقب حقواها ... ناجية وناجيا أباها
والحقو: الخاصرة. والناجية: السريعة.
(6). نسبه الجوهري لابي النجم وأن قبله:
واها لسلمى ثم واها واها ... هي المنى لو أننا نلناها
يا ليت عيناها لنا وفاها ... بثمن نرضى به أباها إن أباها ...
إلخ. ونسبه بعضهم لرؤبة. وقيل: لبعض أهل اليمن وأن قبله:
أي قلوص راكب تراها ... طاروا علاهن ...

إلخ.

على أصله ليعلم ذلك، وقد قال تعالى" اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ" «1» [المجادلة: 19] ولم يقل استحاذ، فجاء هذا ليدل على الأصل، وكذلك" إن هذان" ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذ كان الأئمة قد رووها. القول الثاني: أن يكون" إِنْ" بمعنى نعم، كما حكى الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي ب"- إن" بمعنى نعم، وحكى سيبويه أن" إن" تأتي بمعنى أجل، وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسماعيل بن إسحاق القاضي يذهبان، قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق الزجاج وعلي بن سليمان يذهبان إليه. الزمخشري: وقد أعجب به أبو إسحاق. النحاس: وحدثنا علي بن سليمان، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام النيسابوري، ثم لقيت عبد الله بن أحمد [هذا «2»] فحدثني، قال حدثني عمير بن المتوكل، قال حدثنا محمد ابن موسى النوفلي من ولد حرث بن عبد المطلب، قال حدثنا عمر بن جميع الكوفي عن جعفر ابن محمد عن أبيه عن علي- وهو ابن الحسين- عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على منبره:" إن الحمد لله نحمده ونستعينه" ثم يقول:" أنا أفصح قريش كلها وأفصحها بعدي أبان ابن سعيد بن العاص" قال أبو محمد الخفاف قال عمير: إعرابه عند أهل العربية والنحو" إن الحمد لله" بالنصب إلا أن العرب تجعل" إن" في معنى نعم كأنه أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم الحمد لله، وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح [في «3»] خطبها بنعم. وقال الشاعر في معنى نعم:
قالوا غدرت فقلت إن وربما ... نال العلا وشفى الغليل الغادر
وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
بكر العواذل في الصبا ... ح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل:" إن هذان لساحران" بمعنى نعم ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم، قال أنشدني ثعلب:
ليت شعري هل للمحب شفاء ... من جوى حبهن إن اللقاء
__________
(1). راجع ج 17 ص 305.
(2). الزيادة من (إعراب القرآن) للنحاس. [.....]
(3). من ب وج وط وك

قال النحاس: وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئا لأنه إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا تكاد تقع اللام ها هنا، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا: اللام ينوي بها التقديم، كما قال:
خالي لانت ومن جرير خاله ... ينل العلاء ويكرم الاخوالا
آخر:
أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من الشاة بعظم الرقبه
أي لخالي ولام الحليس، وقال الزجاج: والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ. المهدوي: وأنكره أبو علي وأبو الفتح بن جني. قال أبو الفتح:" هما" المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عرف، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام، ويقبح أن تحذف المؤكد وتترك المؤكد. القول الثالث: قاله الفراء أيضا [قال «1»]: وجدت الالف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها كما قلت:" الذي" ثم زدت عليه نونا فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك، ومررت بالذين عندك. القول الرابع: قاله بعض الكوفيين قال الالف في" هذان" مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير. القول الخامس: قال أبو إسحاق: النحويون القدماء يقولون الهاء ها هنا مضمرة، والمعنى إنه هذان لساحران، قال ابن الأنباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب" إِنْ" و" هذانِ 20: 63" خبر" إِنْ" و" ساحران" يرفعها" هما" المضمر [والتقدير «2»] إنه هذان لهما ساحران. والأشبه «3» عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم" إِنْ" و" هذانِ" رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء. القول السادس: قال أبو جعفر النحاس وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي، فقلت: بقولك، فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال:" هذا" في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد فقال: ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنس به، قال ابن كيسان: فقلت له: فيقول القاضي به حتى يؤنس به، فتبسم.
__________
(1). من ب وج وط وك.
(2). الزيادة يقتضيها السياق.
(3). في ب وك: الا ثبت.

قوله تعالى: (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ) 20: 63 هذا من قول فرعون للسحرة، أي غرضهما إفساد دينكم الذي أنتم عليه، كما قال فرعون:" إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ 40: 26" «1» [غافر: 26]. ويقال فلان حسن الطريقة أي حسن المذهب. وقيل: طريقة القوم أفضل القول، وهذا الذي ينبغي أن يسلكوا طريقته ويقتدوا به، فالمعنى: ويذهبا بسادتكم ورؤسائكم، استمالة لهم. أو يذهبا ببني إسرائيل وهم الأماثل وإن كانوا خولا لكم لما يرجعون إليه من الانتساب إلى الأنبياء. أو يذهبا بأهل طريقتكم فحذف المضاف. و" الْمُثْلى 20: 63" تأنيث الأمثل، كما يقال الأفضل والفضلي. وأنث الطريقة على اللفظ، وإن كان يراد بها الرجال. ويجوز أن يكون التأنيث على الجماعة. وقال الكسائي:" بِطَرِيقَتِكُمُ 20: 63" بسنتكم وسمتكم. و" الْمُثْلى 20: 63" نعت كقولك امرأة كبرى. تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم. قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) 20: 64 الإجماع الأحكام والعزم على الشيء. تقول: أجمعت الخروج وعلى الخروج أي عزمت. وقراءة كل الأمصار" فأجمعوا" إلا أبا عمرو فإنه قرأ:" فاجمعوا" بالوصل وفتح الميم. واحتج بقوله تعالى:" فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى 20: 60". قال النحاس: وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف قراءته هذه، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس. قال: لأنه احتج ب"- جمع" وقوله عز وجل:" فَجَمَعَ كَيْدَهُ" قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده" فَأَجْمِعُوا" ويقرب أن يكون بعده" فأجمعوا" أي اعزموا وجدوا، ولما تقدم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه. يقال: أمر مجمع ومجمع عليه. قال النحاس: ويصحح قراءة أبي عمرو" فاجمعوا" أي اجمعوا كل كيد لكم وكل حيلة فضموه مع أخيه. وقاله أبو إسحاق. الثعلبي: القراءة بقطع الالف وكسر الميم لها وجهان: أحدهما- بمعنى الجمع، تقول: أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد، وفي الصحاح: وأجمعت الشيء جعلته جميعا، قال أبو ذؤيب يصف حمرا:
فكأنها بالجزع بين نبايع «2» ... وأولات ذي العرجاء نهب مجمع
__________
(1). راجع ج 15 ص 304 فما بعد.
(2). نبايع: اسم مكان أو جبل أو واد في بلاد هذيل ويجمع على (نبايعات).

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)

أي مجموع. والثاني- أنه بمعنى العزم والأحكام، قال الشاعر:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأمري مجمع
أي محكم. (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) 20: 64 قال مقاتل والكلبي: جميعا. وقيل: صفوفا ليكون أشد لهيبتكم. وهو منصوب بوقوع الفعل عليه على قول أبي عبيدة، قال يقال: أتيت الصف يعني المصلى، فالمعنى عنده ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد. وحكى عن بعض فصحاء العرب: ما قدرت أن آتي الصف، يعني المصلى. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون، فيكون على هذا مصدرا في موضع الحال. ولذلك لم يجمع. وقرى:" ثم ايتوا" بكسر الميم وياء. ومن ترك الهمزة أبدل من الهمزة ألفا. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى ) 20: 64 أي من غلب. وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض. وقيل: من قول فرعون لهم.

[سورة طه (20): الآيات 65 الى 71]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71)

قوله تعالى: (قالُوا يا مُوسى ) يريد السحرة. (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) عصاك من يدك (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ) تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم. (قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ) 20: 66 في الكلام حذف، أي فألقوا، دل عليه المعنى. وقرا الحسن: (وعصيهم) بضم العين. قال هارون القارئ: لغة بنى تميم" وعصيهم" وبها يأخذ الحسن. الباقون بالكسر اتباعا لكسرة الصاد. ونحوه دلي ودلي وقسي وقسي. (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) 20: 66. وقرا ابن عباس وأبو حيوة وابن ذكوان وروح عن يعقوب:" تخيل" بالتاء، وردوه إلى العصي والحبال إذ هي مؤنثة. وذلك أنهم لطخوا العصي بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتهشت واهتزت. قال الكلبي: خيل إلى موسى أن الأرض حيات وأنها تسعى على بطنها. وقرى:" تخيل" بمعنى تتخيل وطريقه طريق" تخيل" ومن قرأ" يخيل" بالياء رده إلى الكيد. وقرى" نخيل" بالنون على أن الله هو المخيل للمحنة والابتلاء. وقيل: الفاعل." أَنَّها تَسْعى " ف"- أن" في موضع رفع، أي يخيل إليه سعيها، قاله الزجاج. وزعم الفراء أن موضعها موضع نصب، أي بأنها ثم حذف الباء. والمعنى في الوجه الأول: تشبه إليه من سحرهم وكيدهم حتى ظن أنها تسعى. وقال الزجاج: ومن قرأ بالتاء جعل" أن" في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي. قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع بدلا من الضمير في" تخيل" وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه بدل اشتمال. و" تَسْعى " معناه تمشي. قوله تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ) أي أضمر. وقيل: وجد. وقيل: أحس. أي من الحيات وذلك على ما يعرض من طباع البشر على ما تقدم. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه. وقيل: خاف حين أبطأ عليه الوحي بإلقاء العصا أن يفترق الناس قبل ذلك فيفتتنوا. وقال بعض أهل الحقائق: إن كان السبب أن موسى عليه السلام لما التقى بالسحرة وقال لهم:" وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ 20: 61" التفت فإذا جبريل على يمينه فقال له يا موسى ترفق بأولياء الله. فقال موسى: يا جبريل هؤلاء سحرة جاءوا بسحر عظيم ليبطلوا المعجزة، وينصروا دين فرعون، ويردوا دين الله، تقول: ترفق

بأولياء الله! فقال جبريل: هم من الساعة إلى صلاة العصر عندك، وبعد صلاة العصر في الجنة. فلما قال له ذلك، أوجس في نفس موسى وخطر أن ما يدريني ما علم الله في، فلعلي أكون الآن في حالة، وعلم الله في على خلافها كما كان هؤلاء. فلما علم الله ما في قلبه أوحى الله إليه" لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى 20: 68" أي الغالب لهم في الدنيا، وفي الدرجات العلا في الجنة، للنبوة والاصطفاء الذي أتاك الله به. واصل" خِيفَةً" خوفة فانقلبت الواو ياء لانكسار الخاء. قوله تعالى: (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) 20: 69 «1» ولم يقل والق عصاك، فجائز أن يكون تصغيرا لها، أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، والق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكثيرة الكبيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شي وأنزره عندها، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. و" تَلْقَفْ" بالجزم جواب الامر، كأنه قال: إن تلقه تتلقف، أي تأخذ وتبتلع. وقرا السلمي وحفص:" تلقف" ساكنة اللام من لقف يلقف لقفا. وقرا ابن ذكوان وأبو حيوة الشامي ويحيى بن الحرث" تلقف" بحذف التاء ورفع الفاء، على معنى فإنها تتلقف. والخطاب لموسى. وقيل: للعصا. واللقف الأخذ بسرعة، يقال: لقفت الشيء" بالكسر" القفة لقفا، وتلقفته أيضا أي تناولته بسرعة. عن يعقوب: يقال رجل لقف ثقف أي خفيف حاذق. واللقف" بالتحريك" سقوط الحائط. ولقد لقف الحوض لقفا أي تهور من أسفله وأتسع. وتلقف وتلقم وتلهم بمعنى. وقد مضى في (الأعراف) «2». لقمت اللقمة" بالكسر" لقما، وتلقمتها إذا ابتلعتها في مهلة. وكذلك لهمه" بالكسر" إذا ابتلعه." ما صنعوا" أي الذي صنعوه. وكذا (إِنَّما صَنَعُوا) أي إن الذي صنعوه" كَيْدُ" بالرفع" سحر" بكسر السين وإسكان الحاء، وهى قراءة الكوفيين إلا عاصما. وفية وجهان: أحدهما- أن يكون الكيد مضافا إلى السحر
__________
(1). تلقف بالتشديد قراءة (نافع).
(2). راجع ج 7 ص 257 فما بعد.

على الاتباع من غير تقدير حذف. والثاني- أن يكون في الكلام حذف أي كيد ذي سحر. وقرا الباقون:" كيد" بالنصب «1» بوقوع الصنع عليه و" ما" كافة ولا تضمر هاء" ساحِرٍ" بالإضافة. والكيد في الحقيقة على هذه القراءة مضاف للساحر لا للسحر. ويجوز فتح" أن" على معنى لان ما صنعوا كيد ساحر. (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) 20: 69 أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض. وقيل: حيث احتال. وقد مضى في (البقرة) «2» حكم الساحر ومعنى السحر فتأمله هناك. قوله تعالى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) 20: 70 لما رأوا من عظيم الامر وخرق العادة في العصا، فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي، وكانت حمل ثلاثمائة بعير ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى. وقد مضى في (الأعراف) «3» هذا المعنى وأمر العصا مستوفى. (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى . قالَ آمَنْتُمْ لَهُ) 20: 71- 70 أي به، يقال: آمن له وآمن به، ومنه" فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ" «4» [العنكبوت: 26] وفي الأعراف قال آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ). إنكار منه عليهم، أي تعديتم وفعلتم ما لم آمركم به. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ). أي رئيسكم في التعليم، وإنما غلبكم لأنه أحذق به منكم. وإنما أراد فرعون بقول هذا ليشبه على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته. (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) 20: 71 أي على جذوع النخل. قال سويد بن أبي كاهل:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
فقطع وصلب حتى ماتوا رحمهم الله تعالى. وقرا ابن محيصن هنا وفي الأعراف" فَلَأُقَطِّعَنَّ 20: 71"" وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ" بفتح الالف والتخفيف من قطع وصلب. (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ) 20: 71 يعني أنا أم رب موسى.
__________
(1). العبارة هنا على إطلاقها تفيد أن هذه قراءة الجمهور. والجمهور قرأ: (كَيْدُ ساحِرٍ) 20: 69 برفع (كَيْدُ) كما في (البحر) وغيره قال في البحر: وقرا الجمهور: (كَيْدُ) بالرفع.
(2). راجع ج 2 ص 43 فما بعد.
(3). راجع ج 7 ص 259.
(4). راجع ج 13 ص 339.===

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام لمحمد رشيد رضا

  حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح  المحمدي العام لمحمد رشيد رضا تعليق: محمد ناصر الدين الألباني  ( صحيح ) عن عائشة رضي الله ...