كتاب صفة الجنة للحافظ ضياء المقدسي

كتاب صفة الجنة -الحافظ ضياء الدين-أأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي

Translate

الثلاثاء، 17 يناير 2023

ج25وج26.الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي

 

ج25. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

== وعطف ما ليس بظرف على الظرف، لان معنى الظرف الحال وهو متعلق بمحذوف. والمعنى يسعى كائنا (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وكائنا (بِأَيْمانِهِمْ)، وليس قوله: (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) متعلقا بنفس (يَسْعى ). وقيل: أراد بالنور القرآن. وعن ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله فيطفأ مرة ويوقد أخرى. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن من المؤمنين من يضئ نوره كما بين المدينة وعدن أو ما بين المدينة وصنعاء ودون ذلك حتى يكون منهم من لا يضئ نوره إلا موضع قدميه) قال الحسن: ليستضيئوا به على الصراط كما تقدم. وقال مقاتل: ليكون دليلا لهم إلى الجنة. والله أعلم. قوله تعالى: (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) التقدير يقال لهم: (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) دخول جنات. ولا بد من تقدير حذف المضاف، لان البشرى حدث، والجنة عين فلا تكون هي هي. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحتهم أنهار اللبن والماء والخمر والعسل من تحت مساكنها. (خالِدِينَ فِيها) حال من الدخول المحذوف، التقدير (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) دخول جنات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مقدرين الخلود فيها ولا تكون الحال من بشراكم، لان فيه فصلا بين الصلة والموصول. ويجوز أن يكون مما دل عليه البشرى، كأنه قال: تبشرون خالدين. ويجوز أن يكون الظرف الذي هو (الْيَوْمَ) خبرا عن (بُشْراكُمُ) و(جَنَّاتٌ) بدلا من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم. و(خالِدِينَ) حال حسب ما تقدم. وأجاز الفراء نصب (جَنَّاتٌ) على الحال على أن يكون (الْيَوْمَ) خبرا عن (بُشْراكُمُ) وهو بعيد، إذ ليس في (جَنَّاتٌ) معنى الفعل. وأجاز أن يكون (بُشْراكُمُ) نصبا على معنى يبشرونهم بشرى وينصب (جَنَّاتٌ) بالبشرى وفية تفرقة بين الصلة والموصول.

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

[سورة الحديد (57): الآيات 13 الى 15]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) العامل في (يَوْمَ) (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .. وقيل: هو بد ل من اليوم الأول. (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ) قراءة العامة بوصل الالف مضمومة الظاء من نظر، والنظر الانتظار أي انتظرونا. وقرا الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب (انْظُرُونا) بقطع الالف وكسر الظاء من الانظار. أي أمهلونا وأخرونا، أنظرته أخرته، واستنظرته أي استمهلته. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني انتظرني، وأنشد لعمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
أي انتظرنا. (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي نستضئ من نوركم. قال ابن عباس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة- قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء- ثم يعطون نورا يمشون فيه. قال المفسرون: يعطي الله المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم، دليله قوله تعالى: (وَهُوَ خادِعُهُمْ)
«1». وقيل: إنما يعطون النور، لان جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه، قاله ابن عباس. وقال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور ويترك الكافر والمنافق بلا نور. وقال الكلبي: بل يستضئ المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون
__________
(1). راجع ج 5 ص 421.

إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قوله تعالى: (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) «1» يقوله المؤمنون، خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ). (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي قالت لهم الملائكة (ارْجِعُوا). وقيل: بل هو قول المؤمنين لهم (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا فإنكم لا تقتبسون من نورنا. فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ). وقيل: أي هلا طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا. (بِسُورٍ) أي سور، والباء صلة. قال الكسائي. والسور حاجز بين الجنة والنار. وروي أن ذلك السور ببيت المقدس عند موضع يعرف بوادي جهنم. (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) يعني ما يلي منه المؤمنين (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يعني ما يلي المنافقين. قال كعب الأحبار: هو الباب الذي ببيت المقدس المعروف بباب الرحمة. وقال عبد الله بن عمرو: إنه سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يعني جهنم. ونحوه عن ابن عباس. وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة ابن الصامت على سور بيت المقدس الشرقي فبكى، وقال: من ها هنا أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رأى جهنم. وقال قتادة: هو حائط بين الجنة والنار (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) يعني الجنة (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يعني جهنم. وقال مجاهد: إنه حجاب كما في (الأعراف) وقد مضى القول فيه «2». وقد قل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين. قوله تعالى: (يُنادُونَهُمْ) أي ينادي المنافقون المؤمنين (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الدنيا يعني نصلي مثل ما تصلون، ونغزوا مثل ما تغزون، ونفعل مثل ما تفعلون (قالُوا بَلى ) أي يقول المؤمنون (بَلى ) قد كنتم معنا في الظاهر (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي استعملتموها في الفتنة. وقال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق. وقيل: بالمعاصي، قاله أبو سنان. وقيل: بالشهوات واللذات،
__________
(1). راجع ج 7 ص 211
(2). راجع ج 7 ص 211

رواه أبو نمير الهمداني. (وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) أي (تَرَبَّصْتُمْ) بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموت، وبالمؤمنين الدوائر. وقيل: (تَرَبَّصْتُمْ) بالتوبة (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في التوحيد والنبوة (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) أي الأباطيل. وقيل: طول الأمل. وقيل: هو ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ونزول الدوائر بهم. وقال قتادة: الأماني هنا خدع الشيطان. وقيل: الدنيا، قاله عبد الله بن عباس «1». وقال أبو سنان: هو قولهم سيغفر لنا. وقال بلال بن سعد: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة. (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ) يعني الموت. وقيل: نصرة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال قتادة: إلقاؤهم في النار. (وَغَرَّكُمْ) أي خدعكم (بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي الشيطان، قاله عكرمة. وقيل: الدنيا، قاله الضحاك. وقال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا، والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومن ذكر المنية نسي الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل. وجاء (الْغَرُورُ) على لفظ المبالغة للكثرة. وقرا أبو حيوة ومحمد بن السميقع وسماك بن حرب (الغرور) بضم الغين يعني الأباطيل وهو مصدر. وعن ابن عباس: أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خط لنا خطوطا، وخط منها خطا ناحية فقال: (أتدرون ما هذا هذا مثل ابن آدم ومثل التمني وتلك الخطوط الآمال بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت (. وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطا مربعا، وخط وسطه خطا وجعله خارجا منه، وخط عن يمينه ويساره خطوطا صغارا فقال: (هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله وهذه الخطوط الصغار الاعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا (. قوله تعالى:) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أيها المنافقون (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إياسهم من النجاة. وقراءة العامة (يُؤْخَذُ) بالياء، لان التأنيث غير. حقيقي، ولأنه قد فصل بينها وبين الفعل. وقرا ابن عامر ويعقوب (تؤخذ) بالتاء وأختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية. والأول
__________
(1). في ب، ز، س، ل، هـ: (عبد الله بن عياش).

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

اختيار أبي عبيد، أي لا يقبل منكم بدل ولا عوض ولا نفس أخرى. (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي مقامكم ومنزلكم (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي أولى بكم، والمولى من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن كان ملازما للشيء. وقيل: أي النار تملك أمرهم، بمعنى أن الله تبارك وتعالى يركب فيها الحياة والعقل فهي تتميز غيظا على الكفار، ولهذا خوطبت في قوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ «1» مَزِيدٍ). (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ساءت مرجعا ومصيرا.

[سورة الحديد (57): الآيات 16 الى 17]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي يقرب ويحين، قال الشاعر:
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا
وماضيه أنى بالقصر يأنى. ويقال: آن لك- بالمد- أن تفعل كذا يئين أينا أي حان، مثل أنى لك وهو مقلوب منه. وأنشد ابن السكيت:
ألما يئن لي أن تجلى عمايتي ... وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
فجمع بين اللغتين. وقرا الحسن (ألما يأن) واصلها (ألم) زيدت (ما) فهي نفي لقول القائل: قد كان كذا، و(لم) نفي لقوله: كان كذا. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إلا أربع سنين. قال الخليل: العتاب مخاطبة الا دلال ومذاكرة الموجدة، تقول عاتبته معاتبة (أَنْ تَخْشَعَ) أي تذل وتلين (قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)
__________
(1). راجع ص 18 من هذا الجزء.

روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله يستبطئكم بالخشوع) فقالوا عند ذلك: خشعنا. وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت: (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ «1» الْمُبِينِ) إلى قوله: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) الآية، فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول فنزلت: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان. قال السدي وغيره: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالظاهر وأسروا الكفر (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ). وقيل: نزلت في المؤمنين. قال سعد: قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ «2» الْحَدِيثِ) فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) ونحوه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟ قال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه. وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لأنه قال عقيب هذا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى، إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم. قوله تعالى: (وَلا يَكُونُوا) أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفا على (أَنْ تَخْشَعَ). وقيل: مجزوم على النهي، مجازه ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية رويس عن يعقوب (لا تكونوا) بالتاء، وهي قراءة عيسى وابن اسحق. يقول: لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى، أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم. قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل
__________
(1). راجع ج 9 ص 118.
(2). راجع ج 15 ص 248. [.....]

لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم وإلا فاقتلوهم. ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإن أبى قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في [قرن وعلقه «1» في ] عنقه ثم لبس عليه ثيابه، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره، وقال: آمنت بهذا يعني المعلق على صدره. فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم أصحاب ذي القرن. قال عبد الله: ومن يعش منكم فسيرى منكرا، وبحسب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وقال مقاتل بن حيان «2»: يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد واستبطئوا بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع. وقيل: من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم. وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى. ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمنوا به، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فسقهم الله. وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا. وذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها- أو قال في ذنوبكم- كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. وهذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله
__________
(1). الزيادة من تفسير الطبري.
(2). في بعض التفاسير: مقاتل بن سليمان وهو المفسر.

تعالى. ذكر أبو المطرف عبد الرحمن بن مروان القلانسي قال: حدثنا أبو محمد الحسن ابن رشيق، قال حدثنا علي بن يعقوب الزيات، قال حدثنا إبراهيم بن هشام، قال حدثنا زكريا ابن أبي أبان، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدثنا الحسن بن داهر، قال سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده قال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين «1» السحر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان- يعني العود الذي بيده- ويقول: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري. وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود:
ألم يأن لي منك أن ترحما ... وتعص العواذل واللوما
وترثي لصب بكم مغرم ... أقام على هجركم مأتما
يبيت إذا جنه ليله ... يراعي الكواكب والانجما
وماذا على الظبي لو أنه ... أحل من الوصل ما حرما
وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعه من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
__________
(1). هكذا في الأصول ولم نقف عليها بعد البحث.

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي (يُحْيِ الْأَرْضَ) الجدبة (بَعْدَ مَوْتِها) بالمطر. وقال صالح المري: المعنى يلين القلوب بعد قساوتها. وقال جعفر ابن محمد: يحييها بالعدل بعد الجور. وقيل: المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الايمان بعد موته بالكفر والضلالة. وقيل: كذلك يحيي الله الموتى من الأمم، ويميز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه لمحيي الموتى.

[سورة الحديد (57): الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق، أي المصدقين بما أنزل الله تعالى. الباقون بالتشديد أي المتصدقين والمتصدقات فأدغمت التاء في الصاد، وكذلك في مصحف أبى. وهو حث على الصدقات، ولهذا قال: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) بالصدقة والنفقة في سبيل الله. قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع. وقيل: هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبا صادقا. وإنما عطف بالفعل على الاسم، لان ذلك الاسم في تقدير الفعل، أي إن الذين صدقوا وأقرضوا (يُضاعَفُ لَهُمْ) أمثالها. وقراءة العامة بفتح العين على ما لم يسم فاعله. وقرا الأعمش (يضاعفه) بكسر العين وزيادة هاء. وقرا ابن كثير وابن عامر ويعقوب (يضعف) بفتح العين وتشديدها. (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يعني الجنة.

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أختلف في (الشُّهَداءُ) هل هو مقطوع مما قبل أو متصل به. فقال مجاهد وزيد ابن أسلم: إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون وأنه متصل، وروي معناه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يوقف على هذا على قوله: (الصِّدِّيقُونَ) وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية. قال القشيري قال الله تعالى: (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) «1» فالصديقون هم الذين يتلون الأنبياء، والشهداء هم الذين يتلون الصديقين، والصالحون يتلون الشهداء، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل، أعني (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ). ويكون المعنى بالشهداء من شهد لله بالوحدانية، فيكون صديق فوق صديق في الدرجات، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أهل الجنات العلا ليراهم من دونهم كما يرى أحدكم الكوكب الذي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما)»
وروي عن ابن عباس ومسروق أن الشهداء غير الصديقين. فالشهداء على هذا منفصل مما قبله والوقف على قوله: (الصِّدِّيقُونَ) حسن. والمعنى والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم) أي لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم. وفيهم قولان أحدهما- أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب، قاله الكلبي، ودليله قوله تعالى: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ «3» شَهِيداً). الثاني- أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة، وفيما يشهدون به قولان: أحدهما- أنهم يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية. وهذا معنى قول مجاهد. الثاني- يشهدون لأنبيائهم بتبليغهم الرسالة إلى أممهم، قاله الكلبي. وقال مقاتل قولا ثالثا: إنهم القتلى في سبيل الله تعالى. ونحوه عن ابن عباس أيضا قال: أراد شهداء المؤمنين. والواو واو الابتداء. والصديقون على هذا القول مقطوع من الشهداء.
__________
(1). راجع ج 5 ص 271. وص 197.
(2). (أنعما) أي زادا وفضلا. وقيل معناه: صارا إلى النعيم ودخلا فيه.
(3). راجع ج 5 ص 271. وص 197.

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

وقد أختلف في تعيينهم، فقال الضحاك: هم ثمانية نفر، أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة. وتابعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ألحقه الله بهم لما صدق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مقاتل بن حيان: الصديقون هم الذين آمنوا بالرسل ولم يكذبوهم طرفة عين، مثل مؤمن آل فرعون، وصاحب آل ياسين، وأبي بكر الصديق، وأصحاب الأخدود. قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بالرسل والمعجزات (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) فلا أجر لهم ولا نور.

[سورة الحديد (57): الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل، وخوفا من لزوم الموت، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى. و(ما) صلة تقديره: اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي. وقال قتادة: لعب ولهو: أكل وشرب. وقيل: إنه على المعهود من اسمه، قال مجاهد: كل لعب لهو. وقد مضى هذا المعنى

في (الانعام) «1» وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة، أي شغل عنها. وقيل: اللعب الاقتناء، واللهو النساء. (وَزِينَةٌ) الزينة ما يتزين به، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) أي يفخر بعضكم على بعض بها. وقيل: بالخلقة والقوة. وقيل: بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء. وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب) الحديث. وقد تقدم جميع هذا. (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) لان عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال، وتكاثر المؤمنين بالايمان والطاعة. قال بعض المتأخرين: (لَعِبٌ) كلعب الصبيان (وَلَهْوٌ) كلهو الفتيان (وَزِينَةٌ) كزينة النسوان (وَتَفاخُرٌ) كتفاخر الاقران (وَتَكاثُرٌ) كتكاثر الدهقان «2». وقيل: المعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء. وعن علي رضي الله عنه قال لعمار: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها. ثم ضرب الله تعالى لها مثلا بالزرع في غيث فقال: (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) الكفار هنا: الزراع لأنهم يغطون البذر «3». والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن. وقد مضى معنى هذا المثل في (يونس) «4» و(الكهف) «5». وقيل:
__________
(1). راجع ج 6 ص (414)
(2). الدهقان- بكسر الدال وضمها-: التاجر، فارسي معرب.
(3). مأخوذ من الكفر- بفتح الكاف- وهو التغطية.
(4). راجع ج 8 ص (327)
(5). راجع ج 10 ص 412

الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين. وهذا قول حسن، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم، ومنهم يظهر ذلك، وهو التعظيم للدنيا وما فيها. وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة. وموضع الكاف رفع على الصفة. (ثُمَّ يَهِيجُ) أي يجف بعد خضرته (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) أي متغيرا عما كان عليه من النضرة. (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه، كذلك دنيا الكافر. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي للكافرين. والوقف عليه حسن، ويبتدئ (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ) أي للمؤمنين. وقال الفراء: (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ) تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة، فلا يوقف على (شَدِيدٌ). (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) هذا تأكيد ما سبق، أي تغر الكفار، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا، وترغيبا في العمل للآخرة. قوله تعالى: (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتوبة، لأنها تؤدي إلى المغفرة، قاله الكلبي. وقيل التكبيرة الاولى مع الامام، قال مكحول. وقيل: الصف الأول. (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لو وصل بعضها ببعض. قال الحسن: يعني جميع السموات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل: يريد لرجل واحد أي لكل واحد جنة بهذه السعة. وقال ابن كيسان: عني به جنة واحدة من الجنات. والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله. قال:
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
وقد مضى هذا كله في (آل عمران) «1». وقال طارق بن شهاب: قال قوم من أهل الحيرة لعمر رضي الله عنه: أرأيت قول الله عز وجل: (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)
__________
(1). راجع ج 4 ص 204

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم الليل إذا ولى وجاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة مثله. (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) شرط الايمان لا غير، وفية تقوية الرجاء. وقد قيل: شرط الايمان هنا وزاد عليه في (آل عمران) «1» فقال: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي أن الجنة لا تنال ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله. وقد مضى هذا في (الأعراف) «2» وغيرها. (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

[سورة الحديد (57): الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قوله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) بالاوصاب والاسقام، قاله قتادة. وقيل: إقامة الحدود، قاله ابن حيان. وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. (إِلَّا فِي كِتابٍ) يعني في اللوح المحفوظ. (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) الضمير في (نَبْرَأَها) عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي خلق ذلك وحفظ جميعه (عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) هين. قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد ابن جبير رضي الله عنه بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب
__________
(1). راجع ج 4 ص (206)
(2). راجع ج 7 ص 209 [.....]

إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية. وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها). وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الامر، ثم أدبهم فقال هذا: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يجد أحدكم طعم الايمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه) ثم قرأ (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي من الدنيا، قاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى مالا يجوز، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ «1» فَخُورٍ) أي متكبر بما أوتى من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة (آتاكُمْ) بمد الالف أي أعطاكم من الدنيا. وأختاره أبو حاتم. وقرا أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو (أتاكم) بقصر الالف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل ل (فاتَكُمْ) ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم مالك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرز جمهر: أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات،
__________
(1). راجع ج 14 ص 69.

ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لان الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور. قوله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) أي لا يحب المختالين (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) ف (الَّذِينَ) في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم «1»، قاله السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) يعني بالعلم (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن أسلم: إنه البخل بأداء حق الله عز وجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قاله عامر بن عبد الله الأشعري. وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني- أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. (وَمَنْ يَتَوَلَّ) أي عن الايمان (فَإِنَّ اللَّهَ) غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة (بِالْبُخْلِ) بضم الباء وسكون الخاء. وقرا أنس وعبيد بن عمير ويحيى ابن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي (بالبخل) بفتحتين وهى لغة الأنصار. وقرا أبو العالية وابن السميقع (بالبخل) بفتح الباء واسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم (البخل) بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر (آل عمران) «2».
__________ (1). يريد ما يأكلونه من الناس باسم الدين من الأموال.
(2). راجع ج 4 ص 293

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)

وقرا نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بغير (هُوَ). والباقون (هُوَ الْغَنِيُّ) على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و(الْغَنِيُّ) خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا، لان حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.

[سورة الحديد (57): الآيات 25 الى 26]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)
قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة. وقيل: الإخلاص لله تعالى في العبادة، واقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي الكتب، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم (وَالْمِيزانَ) قال ابن زيد: هو ما يوزن به ويتعامل (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله: (بِالْقِسْطِ) يدل على أنه أراد الميزان المعروف. وقال قوم: أراد به العدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب:
علفتها تبنا وماء باردا

ويدل على هذا قوله تعالى: (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) ثم قال: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) وقد مضى القول فيه «1». (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد
__________
(1). راجع ص 154 من هذا الجزء.

والنار والماء والملح (. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به، يقال وقعت الحديدة أقعها أي حددتها. وفي الصحاح: والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها، والمطرقة والمسن الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي لإهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء، لأنه يوم جرى فيه الدم. وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم). وقيل: (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي أنشأناه وخلقناه، كقوله تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) «1» وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء. وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه. (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يعني السلاح والكراع والجنة. وقيل: أي فيه من خشية القتل خوف شديد. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) قال مجاهد: يعني جنة. وقيل: يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل: هو عطف على قوله تعالى: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الأشياء، ليتعامل الناس بالحق، (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) وليرى الله من ينصر دينه (وَ) ينصر (رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) قال ابن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم (بِالْغَيْبِ) أي وهم لا يرونهم. (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (قَوِيٌّ) في أخذه (عَزِيزٌ) أي منيع غالب. وقد تقدم. وقيل: (بِالْغَيْبِ) بالإخلاص.
__________
(1). راجع ج 15 ص 235

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) فصل ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم وجعل النبوة في نسلهما (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمما يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم (فَمِنْهُمْ) أي من ائتم بإبراهيم ونوح (مُهْتَدٍ). وقيل: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) أي من ذريتهما مهتدون. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) كافرون خارجون عن الطاعة.

[سورة الحديد (57): آية 27]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنا) أي اتبعنا (عَلى آثارِهِمْ) أي على آثار الذرية. وقيل: على آثار نوح وإبراهيم (بِرُسُلِنا) موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وهو الكتاب المنزل عليه. وتقدم اشتقاقه في أول سورة (آل عمران) «1». الثانية- قوله تعالى: (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على دينه يعني الحواريين وأتباعهم (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) أي مودة فكان يواد بعضهم بعضا. وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس والان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه. والرأفة اللين، والرحمة الشفقة. وقيل: الرأفة تخفيف الكل، والرحمة تحمل الثقل. وقيل: الرأفة أشد الرحمة. وتم الكلام. ثم قال:
__________
(1). راجع ج 4 ص 5

(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أي من قبل أنفسهم. والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل، قال أبو علي: وابتدعوها رهبانية ابتدعوها. وقال الزجاج: أي ابتدعوها رهبانية، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت. وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها. قال الماوردي: وفيها قراءتان، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. قال الضحاك: إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع: (هي لحوقهم بالبراري والجبال). (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قاله ابن زيد. وقوله تعالى: (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله، قاله ابن مسلم. وقال الزجاج: (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة. ويكون (ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) بدلا من الهاء والألف في (كَتَبْناها) والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وقيل: (إِلَّا ابْتِغاءَ) الاستثناء منقطع، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص، لان الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس واكل أموالهم، كما قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ «1» اللَّهِ) وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الامر. وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل،
__________
(1). راجع ج 8 ص 122

وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة. فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا. فطائفة قالت: ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا. وطائفة قالت: ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا. وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) الآية. يقول: ابتدعها هؤلاء الصالحون (فَما رَعَوْها) المتأخرون (حَقَّ رِعايَتِها) (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبق منهم إلا قليل، جاءوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثالثة- وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية. وعن أبى أمامة الباهلي- واسمه صدى بن عجلان- قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، انما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فان ناسا من بنى إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها). الرابعة- وفى الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والاخوان. وقد مضى بيان هذا في سورة (الكهف) «1» مستوفى والحمد لله. وفى مسند أحمد بن حنبل من حديث أبى أمامة الباهلي رضى الله عنه قال:
__________
(1). راجع ج 10 ص 360

خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية من سراياه فقال: مر رجل بغار فيه شي من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا. قال: لو أنى أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له فان أذن لي فعلت والا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبى الله! انى مرت بغار فيه ما يقوتنى من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال: فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (م أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة (. وروى الكوفيون عن ابن مسعود، قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هل تدرى أي الناس أعلم) قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وان كان مقصرا في العمل وان كان يزحف على استه هل تدرى من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الايمان فقاتلوهم فهزم أهل الايمان ثلاث مرات فلم يبق منهم الا القليل فقالوا ان أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى- يعنون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر- وتلا (وَرَهْبانِيَّةً) الآية- أتدرى ما رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والصلاة والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على احدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى- عليه السلام- حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهى التي قال الله تعالى فيهم: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) الآية- فمن

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

آمن بى واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بى فأولئك هم الفاسقون) يعنى الذي تهودوا وتهصروا. وقيل: هؤلاء الذين أدركوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون. وفى الآية تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي ان الأولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك ان أصروا على الكفر. والله أعلم.

[سورة الحديد (57): الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي آمنوا بموسى وعيسى (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي مثلين من الأجر على ايمانكم بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وهذا مثل قوله تعالى: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) وقد تقدم القول «1» فيه. والكفل الحظ والنصيب وقد مضى في (النساء) «2» وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط، قاله ابن جريح. ونحوه قال الأزهري، قال: اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه إذا ارتدفه لئلا يسقط، فتأويله يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي كما يحفظ الكفل الراكب. وقال أبو موسى الأشعري: (كِفْلَيْنِ) ضعفين بلسان الحبشة. وعن ابن زيد: (كِفْلَيْنِ) أجر الدنيا والآخرة. وقيل: لما نزلت (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) افتخر مؤمنو أهل
__________
(1). راجع ج 13 ص (297)
(2). راجع ج 4 ص 295

الكتاب على أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت هذه الآية. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الحسنة إنما لها من الأجر مثل واحد، فقال: الحسنة اسم عام ينطلق على كل نوع من الايمان، وينطلق على عمومه، فإذا انطلقت الحسنة على نوع واحد فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد. وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين كان الثواب عليها مثلين، بدليل هذه الآلة فإنه قال: (كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) والكفل النصيب كالمثل، فجعل لمن اتقى الله وآمن برسوله نصيبين، نصيبا لتقوى الله ونصيبا لإيمانه برسوله. فدل على أن الحسنة التي جعل لها عشر هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات، وهو الايمان الذي جمع الله تعالى في صفته عشرة أنواع، لقوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية بكمالها. فكانت هذه الأنواع العشرة التي هي ثوابها أمثالها فيكون لكل نوع منها مثل. وهذا تأويل فاسد، لخروجه عن عموم الظاهر، في قوله تعالى: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «1» بما لا يحتمله تخصيص العموم، لان ما جمع عشر حسنات فليس يجزى عن كل حسنة إلا بمثلها. وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها والاخبار دالة عليه. وقد تقدم ذكرها «2». ولو كان كما ذكر لما كان بين الحسنة والسيئة فرق. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً) أي بيانا وهدى، عن مجاهد. وقال ابن عباس: هو القرآن. وقيل: ضياء (تَمْشُونَ بِهِ) في الآخرة على الصراط، وفي القيامة إلى الجنة. وقيل تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رئاسة كنتم فيها. وذلك أنهم خافوا أن تزول رئاستهم لو آمنوا بمحمد عليه السلام. وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله، لا الرياسة الحقيقية في الدين. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلم، و(أن لا) صلة زائدة مؤكدة، قاله الأخفش. وقال الفراء: معناه لان يعلم و(لا) صلة زائدة في كل كلام دخل عليه
__________
(1). راجع ج 14 ص (187)
(2). راجع ج 7 ص 150 وج 13 ص 244

جحد. قال قتادة: حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي لان يعلم أهل الكتاب أنهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ). وقال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل. فلما خرج من العرب كفروا فنزلت: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) أي ليعلم أهل الكتاب (أَلَّا يَقْدِرُونَ) أي أنهم يقدرون، كقوله تعالى: (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ «1» قَوْلًا). وعن الحسن: (ليلا يعلم أهل الكتاب) وروي ذلك عن ابن مجاهد. وروى قطرب بكسر اللام وإسكان «2» الياء. وفتح لام الجرلغة معروفة. ووجه إسكان الياء أن همزة (أن) حذفت فصارت (لن) فأدغمت النون في اللام فصار (للا) فلما اجتمعت اللامات أبدلت الوسطى منها ياء، كما قالوا في أما: أيما. وكذلك القول في قراءة من قرأ (ليلا) بكسر اللام إلا أنه أبقى اللام على اللغة المشهورة فيها فهو أقوى من هذه الجهة. وعن ابن مسعود (لكيلا يعلم) وعن حطان بن عبد الله (لان يعلم). وعن عكرمة (ليعلم) وهو خلاف المرسوم. (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) قيل: الإسلام. وقيل: الثواب. وقال الكلبي: من رزق الله. وقيل: نعم الله التي لا تحصى. (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) ليس بأيديهم فيصرفون النبوة عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى من يحبون. وقيل: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) أي هو له (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). وفي البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، قال حدثنا شعيب عن الزهري، قال أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول وهو قائم على المنبر: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى أنتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين قال أهل التوراة ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا قال هل
__________
(1). راجع ج 11 ص 236.
(2). روى قطرب عن الحسن أيضا كما في السمين وغيره، فتكون للحسن قراءتان فتح اللام وكسرها مع اسكان الياء فيهما. [.....]

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

ظلمتكم من أجركم من شي قالوا لا فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء) في رواية: (فغضبت اليهود والنصارى وقالوا ربنا) الحديث (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). [تم تفسير سورة (الحديد) والحمد لله «1» [.

[تفسير سورة المجادلة]
تفسير سورة المجادلة وهى اثنتان وعشرون آية مدنية في قول الجميع. إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) نزلت بمكة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المجادلة (58): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
فيه مسألتان: الاولى قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) التي اشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة. وقيل بنت حكيم. وقيل أسمها جميلة. وخولة أصح، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ح، س، ط، هـ.

بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟ وقالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه كل شي، إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) خرجه ابن ماجة في السنن. والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها). وقال الماوردي: هي خولة بنت ثعلبة. وقيل: بنت خويلد. وليس هذا بمختلف، لان أحدهما أبوها والآخر جدها فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت. وقال الثعلبي قال ابن عباس: هي خولة بنت خويلد الخزرجية، كانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكانت حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها- قال عروة «1»: وكان امرأ به لمم «2» فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لها: (حرمت عليه) فقالت: والله ما ذكر طلاقا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: (حرمت عليه) فما زالت تراجعه ومراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما أوحى إلي في هذا شي) فقالت: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شي وطوي عنك هذا؟! فقال: (هو ما قلت لك) فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله.
__________
(1). عروة هو راوي حديث عائشة المتقدم.
(2). اللم: طرف من الجنون يلم بالإنسان أي يعتريه.

فأنزل الله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) الآية. وروى الدارقطني من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدثه قال: إن أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: ظاهر حين كبرت سني ورق عظمي. فأنزل الله تعالى آية الظهار، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأوس: (أعتق رقبة) قال: مالي بذلك يدان. قال: (فصم شهرين متتابعين) قال: أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكل بصري. قال: (فأطعم ستين مسكينا) قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة. قال: فأعانه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له [والله غفور رحيم «1»]. (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) قال: فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكينا، وفي الترمذي وسنن ابن ماجة: أن سلمة ابن صخر البياضي ظاهر من امرأته، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: (أعتق رقبة) قال: فضربت صفحة عنقي بيدي. فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: (فصم شهرين) فقلت: يا رسول الله! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام. قال: (فأطعم ستين مسكينا) الحديث. وذكر ابن العربي في أحكامه: روي أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها، فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألته عن ذلك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قد حرمت عليه) فقالت: أشكو إلى الله حاجتي. [ثم عادت فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حرمت عليه) فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه «2»] وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن، ثم تحولت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي، فذهبت أن تعيد، فقالت عائشة: اسكتي فإنه قد نزل الوحي. فلما نزل القرآن قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزوجها: (أعتق رقبة) قال: لا أجد. قال: (صم شهرين متتابعين) قال: إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري. قال: (فأطعم ستين مسكينا). قال: فأعني. فأعانه بشيء. قال أبو جعفر النحاس: أهل التفسير على أنها خولة
__________
(1). الزيادة من ح، ز، ل، هـ.
(2). الزيادة من الأحكام لابن العربي.

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)

وزوجها أوس بن الصامت، واختلفوا في نسبها، قال بعضهم: هي أنصارية وهي بنت ثعلبة، وقال بعضهم: هي بنت دليج، وقيل: هي بنت خويلد، وقال بعضهم: هي بنت الصامت، وقال بعضهم: هي أمة كانت لعبد الله بن أبي، وهي التي أنزل الله فيها (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) لأنه كان يكرهها على الزنى. وقيل: هي بنت حكيم. قال النحاس: وهذا ليس بمتناقض، يجوز أن تنسب مرة إلى أبيها، ومرة إلى أمها، ومرة إلى جدها، ويجوز أن تكون أمة كانت لعبد الله بن أبي فقيل لها أنصارية بالولاء، لأنه كان في عداد الأنصار وإن كان من المنافقين. الثانية- قرئ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) بالإدغام و(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) بالإظهار. والأصل في السماع إدراك المسموعات، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن. وقال ابن فورك: الصحيح أنه إدراك المسموع. قال الحاكم أبو عبد الله في معنى السميع: إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الاذن، كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لادراك الصوت. والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. وشكي واشتكى بمعنى واحد. وقرى (تحاورك) أي تراجعك الكلام و(تُجادِلُكَ) أي تسائلك.

[سورة المجادلة (58): آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)

فيه ثلاث وعشرون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) «1» قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف (يظاهرون) بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرا نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (يظاهرون) بحذف الالف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء. وقرا أبو العالية وعاصم وزر ابن حبيش (يظاهرون) بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء. وقد تقدم هذا في (الأحزاب) «2». وفي قراءة أبى (يتظاهرون) وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة. وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنى عنه بالظهر، لان ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره، فكنى بالظهر عن الركوب. ويقال: نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب. ومعنى أنت علي كظهر أمي: أي أنت علي محرمة لا يحل لي ركوبك. الثانية- حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر. وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. واختلف فيه عن الشافعي رضى الله عنه، فروي عنه نحو قول مالك، لأنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالأم. وروى عنه أبو ثور: أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها. وهو مذهب قتادة والشعبي. والأول قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري. الثالثة- أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا. فإن قال: أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت علي مثل أمي، فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك،
__________
(1). نسخ الأصل على (يظهرون) وهى قراءة نافع التي يقرأ بها المؤلف فيما يأتي.
(2). راجع ج 14 ص 118 ولم يذكر هناك شيئا بل أحال الكلام على هذه السورة.

وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا. ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكناية الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت. الرابعة- ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية، فالصريح أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي. وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر، مثل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يكون ظهارا. وهذا ضعيف منه، لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافا لابي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه. ومتى شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف. وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء، وعند الامام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا. والكناية أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية. فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة. وقد تقدم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا. أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فان معنى اللفظ فيه موجود- واللفظ بمعناه- ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم، قاله ابن العربي. الخامسة- إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان مظاهرا، خلافا لابي حنيفة في قوله: إنه إن شبهها بعضو يحل له النظر إليه لم يكن مظاهرا. وهذا لا يصح، لان النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له، وفية وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر، وقد قال الامام الشافعي في قول: إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده. وهذا فاسد، لان كل عضو منها محرم، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر، ولان المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى.

السادسة- إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الأول، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا، فمنهم من قال: يكون ظهارا. ومنهم من قال: يكون طلاقا. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئا. قال ابن العربي: وهذا فاسد، لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر، والأسماء بمعانيها عندنا، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم. قلت: الخلاف في الظهار بالأجنبية قوي عند مالك. وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن. ومنهم من لا يجعله شيئا. ومنهم من يجعله في الأجنبية طلاقا. وهو عند مالك إذا قال: كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه. وقد روي عنه أيضا: أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء، كما قال الكوفي والشافعي. وقال الأوزاعي: لو قال لها أنت علي كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها. والله أعلم. السابعة- إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا، لان قوله: أنت حرام علي يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لاحد الاحتمالين يقضي به فيه. الثامنة- الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه. وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزم. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: وهي مسألة عسيرة جدا علينا، لان مالكا يقول: إذا قال لامته أنت علي حرام لا يلزم. فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته. ولكن تدخل الامة في عموم قوله: (مِنْ نِسائِهِمْ) لأنه أراد من محللاتهم. والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فصح في الامة، أصله الحلف بالله تعالى.

التاسعة- ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك. ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى: (مِنْ نِسائِهِمْ) وهذه ليست من نسائه. وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة (براءة) عند
قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ) «1» الآية. العاشرة- الذمي لا يلزم ظهاره. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يصح ظهار الذمي، ودليلنا قوله تعالى: (مِنْكُمْ) يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. فإن قيل: هذا استدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو استدلال بالاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ»
مِنْكُمْ) وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال. الحادية عشرة قوله تعالى: (مِنْكُمْ) يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه. وحكاه الثعلبي عن مالك، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام. الثانية عشرة- وقال مالك رضي الله عنه: ليس على النساء تظاهر، وإنما قال الله تعالى: والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجال. قال ابن العربي: هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد. وهو صحيح معنى، لان الحل والعقد [والتحليل والتحريم «3»] في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شي وهذا إجماع. قال أبو عمر: ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة. وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: ليس ظهار المرأة من الرجل بشيء قبل النكاح كان أو بعده. وقال الشافعي: لإظهار للمرأة من الرجل. وقال الأوزاعي إذا قالت المرأة لزوجها، أنت علي كظهر أمي «4»
__________
(1). راجع ج 8 ص 210.
(2). راجع ج 18 ص 157.
(3). الزيادة من ابن العربي.
(4). لفظ (أمي) ساقط من ح، ز، س، هـ.

فلانة فهي يمين تكفرها. وكذلك قال إسحاق، قال: لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها. وقال الزهري: أرى أن تكفر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها، رواه عنه معمر. وابن جريج عن عطاء قال: حرمت ما أحل الله، عليها كفارة يمين. وهو قول أبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا شي عليها. الثالثة عشرة- من به لمم وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره، لما روي في الحديث: أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته. الرابعة عشرة- من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه. وفي بعض طرق هذا الحديث، قال يوسف بن عبد الله بن سلام: حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت، قالت: كان بيني وبينه شي، فقال: أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه. فقولها: كان بيني وبينه شي، دليل على منازعة أحرجته «1» فظاهر منها. والغضب لغو لا يرفع حكما ولا يغير شرعا وكذلك السكران. وهى: الخامسة عشرة- يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظم كلامه، لقوله تعالى: (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) على ما تقدم في (النساء) «2» بيانه. والله أعلم. السادسة عشرة- ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، خلافا للشافعي في أحد قوليه، لان قوله: أنت علي كظهر أمي يقتضي تحريم كل استمتاع بلفظه ومعناه، فإن وطئها قبل أن يكفر، وهي: السابعة عشرة- أستغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة. وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان. روى سعيد عن قتادة، ومطرف عن رجاء بن حيوة عن قبيصة ابن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر: إذا وطئ قبل أن يكفر عليه كفارتان. ومعمر عن قتادة قال: قال قبيصة بن ذؤيب: عليه كفارتان. وروى جماعة من الأئمة منهم ابن ماجة
__________
(1). في ح، ز، س، ل: (أحوجته) بالواو بدل الراء.
(2). راجع ج 5 ص 203

والنسائي عن ابن عباس: أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فقال: (ما حملك على ذلك) فقال: يا رسول الله! رأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها. فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمره ألا يقربها حتى يكفر. وروى ابن ماجة والدارقطني عن سليمان بن يسار عن سلمة ابن صخر أنه ظاهر في زمان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا. الثامنة عشرة- إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطئ إحداهن وأجزأته كفارة واحدة. وقال الشافعي: تلزمه أربع كفارات. وليس في الآية دليل على شي من ذلك، لان لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعول على المعنى. وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة. وهذا إجماع. التاسعة عشرة- فإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن. وقد قيل: لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر. والأول هو المذهب. الموفية عشرين: وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة «1»، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفر، فإن قال لها: أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار، لان المبتوتة لا يلحقها طلاق.
__________
(1). يريد بالبتة منا الطلاق الثلاث كما يفهم من العبارة بعد وكما في ابن العربي حيث قال: إذا طلقها ثلاثا بعد الظهار ثم عادت إليه بنكاح جديد لم يطأ حتى يكفر. [.....]

وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

الحادية والعشرون- قال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية، وهذا ليس بشيء، لان أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياسا ونظرا. والله أعلم. الثانية والعشرون- قوله تعالى: (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أي ما نساؤهم بأمهاتهم. وقراءة العامة (أُمَّهاتِهِمْ) بخفض التاء على لغة أهل الحجاز، كقوله تعالى: (ما هذا بَشَراً). وقرا أبو معمر والسلمى وغيرهما (أمهاتهم) بالرفع على لغة تميم. قال الفراء: أهل نجد وبنو تميم يقولون (ما هذا بشر)، و(ما هن أمهاتهم) بالرفع. (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما أمهاتهم إلا الوالدات. وفي المثل: ولدك من دمي عقبيك. وقد تقدم القول في اللائي في (الأحزاب) «1». الثالثة والعشرون- قوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أي فظيعا من القول لا يعرف في الشرع. والزور الكذب (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر.

[سورة المجادلة (58): الآيات 3 الى 4]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
__________
(1). ليس في الأحزاب كلام على اللائي ويبد وأن سقطا وقع في نسخ الأصل التي بأيدينا.

فيه اثنتا عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ هذا ابتداء والخبر (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة. وقيل: أي فكفارتهم عتق رقبة. والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) فمن قال هذا القول حرم عليه وطئ امرأته. فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار، لقوله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة: الأول- أنه العزم على الوطي، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك: فإن عزم على وطئها كان عودا، وإن لم يعزم لم يكن عودا. الثاني- العزم على الإمساك بعد التظاهر منها، قاله مالك. الثالث- العزم عليهما. وهو قول مالك في موطئة، قال مالك في قوله الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال: سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه. قال مالك: وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر. القول الرابع- أنه الوطي نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا، قاله الحسن ومالك أيضا. الخامس- وقال الامام الشافعي رضي الله عنه: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، لأنه لما ظاهر قصد التحريم، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه. وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة. السادس- أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. ومعنى العود عند القائلين بهذا: أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد. السابع- هو تكرير الظهار بلفظه. وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس، قالوا: إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود، وإن لم يكرر فليس بعود. ويسند ذلك إلى بكير بن

الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضا، وهو قول الفراء. وقال أبو العالية: وظاهر الآية يشهد له، لأنه قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي إلى قول ما قالوا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) هو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي. فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار. قال ابن العربي: فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، وأيضا فإن المعنى ينقضه، لان الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة، وهذا لا يعقل، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطئ في صوم أو غيره. قلت: قول يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل منه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم، وأما قول الشافعي: بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات: الأول- أنه قال: (ثُمَّ) وهذا بظاهره يقتضي التراخي. الثاني- أن قوله تعالى: (ثُمَّ يَعُودُونَ) يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه. الثالث- أن الطلاق الرجعى لا ينافي البقاء على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالايلاء. فإن قيل: فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الام بالنكاح. وهذه عمدة أهل ما وراء النهر. قلنا: إذا عزم على خلاف ما قال ورآها خلاف الام كفر وعاد إلى أهله. وتحقيق هذا القول: أن العزم قول نفسي، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار، ثم عاد لما قال وهو التحليل، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد، لان العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما
اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله، لقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). وهذا تفسير بالغ [في فنه «1»].
__________
(1). الزيادة من أحكام القرآن لابن العربي.

الثانية- قال بعض أهل التأويل: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ) إلى ما كانوا عليه من الجماع (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) لما قالوا، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله: (لِما قالُوا) متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم، قال الأخفش. وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. وقيل: المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة. الفراء: اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطي. وقال الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا واحد، واللام وإلى يتعاقبان، قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي «1» هَدانا لِهذا) وقال: (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ «2» الْجَحِيمِ) وقال: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى «3» لَها) وقال: (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) «4». الثالثة- قوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعليه إعتاق رقبة، يقال: حررته أي جعلته حرا. ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي، كالرقبة في كفارة القتل. وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكافرة ومن فيها شائبة «5» رق كالمكاتبة وغيرها. الرابعة- فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولا عند أبي حنيفة. وقال الشافعي يجزئ، لان نصف العبدين في معنى العبد الواحد، ولان الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزي كالاطعام، ودليلنا قوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس برقبة، وليس ذلك مما يدخله التلفيق، لان العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها، أصله إذا اشترك رجلان في أضحيتين، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا، ولأنه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم. والإطعام وغيره لا يتجزى في الكفارة عندنا.
__________
(1). راجع ج 7 ص (208)
(2). راجع ج 15 ص (83)
(3). راجع ج 20 ص (149)
(4). راجع ج 9 ص (29)
(5). في ح، ز، س، ط، ل: (شعبة رق) والعنى واحد.

الخامسة- قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطي قبل التكفير، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير. وحكي عن مجاهد: أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى. وعن غيره: أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شي أصلا، لان الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها. والصحيح ثبوت الكفارة، لأنه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها. وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة «1». وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام. وقال أبو حنيفة: إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطي من القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء. وقاله الحسن وسفيان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وقيل: وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس، وهو قول مالك واحد قولي الشافعي. وقد تقدم. السادسة- قوله تعالى: (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أي تؤمرون به (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) من التكفير وغيره. السابعة- من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك: إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة، وهى: الثامنة- فعليه صوم شهرين متتابعين. فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض، فقيل: يبني، قاله ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وابن دينار والشعبي. وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبه. وقال مالك:
__________
(1). لم يتقدم العود في حديث أوس، وانما هو في مظاهر آخر وهو القائل: رأيت خلخالها في ضوء القمر.

إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح. ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ. وهو أحد قولي الشافعي. التاسعة- إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي، لأنه بذلك أمر حين دخل فيه. ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء. وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر «1»، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، لقوله: (مُتَتابِعَيْنِ). ويبني في قول الحسن البصري، لأنه عذر [وقياسا «2» على رمضان، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع ]. العاشرة- إذا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا، بطل التتابع في قول الشافعي، وليلا فلا يبطل، لأنه ليس محلا للصوم. وقال مالك وأبو حنيفة: يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة، لقوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين، وإلى أبعاضهما، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به، فلزمه استئنافه، كما لو قال: صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة، أو قال: صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها، لان هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا، والله أعلم. الحادية عشرة- ومن تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام. ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطئ امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام. ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه. الثانية عشرة- ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم. ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام. وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر. ولو جامعها في عدمه
__________
(1). لفظة (فأفطر) ساقطة من ز، ل.
(2). ما بين المربعين ساقط من ح، ز، س، هـ، ل.

وعسره ولم يصم حتى أيسر لزمه العتق. ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر فإن كان مضى من صومه صدر صالح نحو الجمعة وشبهها تمادى. وإن كان اليوم واليومين ونحوهما ترك الصوم وعاد إلى العتق وليس ذلك بواجب عليه. ألا ترى أنه غير واجب على من طرأ الماء عليه وهو قد دخل بالتيمم في الصلاة أن يقطع ويبتدئ الطهارة عند مالك. الثالثة عشرة- ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو قتل أو فطر في رمضان وأشرك بينهما في كل واحدة منهما لم يجزه. وهو بمنزلة من أعتق رقبة واحدة عن كفارتين. وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهر حتى يصوم عن كل واحدة منهما شهرين. وقد قيل: إن ذلك يجزيه. ولو ظاهر من امرأتين ل فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطئ واحدة منهما حتى يكفر كفارة أخرى. ولو عين الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفارة عن الأخرى. ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهن ثلاث رقاب، وصام شهرين، لم يجزه العتق ولا الصيام، لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين، وإن لم يقدر فرق بخلاف العتق والصيام، لان صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق. فصل وفية ست مسائل: الاولى- ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان يمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن أطعم مدا بمد هشام، وهو مدان إلا ثلثا، أو أطعم مدا ونصفا بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجزأه. قال أبو عمر بن عبد البر: وأفضل ذلك مدان بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان الله عز وجل لم يقل في كفارة الظهار (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ) «1» فواجب قصد الشبع. قال ابن العربي: وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم: مد بمد هشام وهو الشبع ها هنا، لان الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط. وقال في رواية أشهب: مدان بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2»: [قيل له: ألم تكن قلت مد هشام؟ قال: بلى، مدان بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلي ]. وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا.
__________
(1). راجع ج 6 ص (265)
(2). ما بين المربعين ساقط من أو الأصل المطبوع.

قلت: وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك: أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد، أصله كفارة الإفطار واليمين. ودليلنا قوله تعالى: (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) وإطلاق الإطعام يتناول الشبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب: قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال نعم! الشبع عندنا مد بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والشبع عندكم أكثر، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن. وقال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا. قال ابن العربي: وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول بها ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه: (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشبع في الاخبار كثيرا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال، فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا «1» ذكره ويمحو رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسوله بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كفارة الظهار أحب إلينا من
__________
(1). في ل: (يدعوا) بدل (يلغوا).

الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب: الشبع عندنا بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشبع عندكم أكثر لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا لنا بالبركة. وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أديت بالسنة، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه «1». والله أعلم «2». الثانية- ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. الثالثة- قال القاضي أبو بكر بن العربي: من غريب الامر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل. واحتج بقوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ولم يفرق بين الرشيد والسفيه، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره، فإن هذه الآية عامة، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشيا والنظر يقتضيه، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام. الرابعة- وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما. الخامسة- قوله تعالى: (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة (لِتُؤْمِنُوا) أي لتصدقوا أن الله أمر به. وقد أستدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى، لما ذكرها وأوجبها قال: (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانا، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل: معنى قوله: (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور.
__________
(1). في ح، ز، س، هـ: (لقلبه). [.....]
(2). في ح، ز، س، ل، هـ: (والله الموفق لا رب غيره).

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)

قيل له: قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا، إذ كان الله منع من مسيسها، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله، لأنها حدود تحفظونها، وطاعات تؤدونها والطاعة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمان. وبالله التوفيق. السادسة- قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار، وطاعته الكفارة. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.

[سورة المجادلة (58): الآيات 5 الى 6]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها. والمحادة المعاداة والمخالفة في الحدود، وهو مثل قوله تعالى:لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
«1». وقيل: (يُحَادُّونَ اللَّهَ) أي أولياء الله كما في الخبر: (من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة). وقال الزجاج: المحادة أن تكون في حد يخالف حد صاحبك. واصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب. (كُبِتُوا) قال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا. وقال قتادة: أخزوا كما أخزي الذين من قبلهم. وقال ابن زيد: عذبوا. وقال السدي: لعنوا. وقال الفراء: غيظوا يوم الخندق. وقيل: يوم بدر. والمراد المشركون. وقيل: المنافقون. (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وقيل: (كُبِتُوا)
__________
(1). راجع ج 18 ص 6

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

أي سيكبتون، وهو بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريبا للمخبر عنه. وقيل: هي بلغة مذحج «1». (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ). قوله تعالى: (يَوْمَ) نصب ب (عَذابٌ مُهِينٌ) أو بفعل مضمر تقديره واذكر تعظيما لليوم. (يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً) أي الرجال والنساء يبعثهم من قبورهم في حالة واحدة (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم (بِما عَمِلُوا) في الدنيا (أَحْصاهُ اللَّهُ) عليهم في صحائف أعمالهم (وَنَسُوهُ) هم حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مطلع وناظر لا يخفى عليه شي.

[سورة المجادلة (58): آية 7]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يخفى عليه سر ولا علانية. (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ) قراءة العامة بالياء، لأجل الحائل بينهما. وقرا أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة وعيسى (ما تكون) بالتاء لتأنيث الفعل. والنجوى: السرار، وهو مصدر والمصدر قد يوصف به، يقال: قوم نجوى أي ذوو نجوى، ومنه قوله تعالى: (وَإِذْ هُمْ نَجْوى ) «2». وقوله تعالى: (ثَلاثَةٍ) خفض بإضافة (نَجْوى ) إليها. قال الفراء: (ثَلاثَةٍ) نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت (نَجْوى ) إليها. ولو نصب على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة (ثلاثة) و(خمسة) بالنصب على الحال بإضمار يتناجون، لان نجوى يدل عليه، قاله الزمخشري. ويجوز رفع (ثلاثة) على البدل من موضع (نَجْوى ). ثم قيل: كل سرار نجوى. وقيل: النجوى ما يكون من
__________
(1). مذحج- كمسجد-: أبو قبيلة باليمن.
(2). راجع ج 10 ص 272

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)

خلوة ثلاثة يسرون شيئا ويتناجون به. والسرار ما كان بين اثنين. (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) يعلم ويسمع نجواهم، يدل عليه افتتاح الآية بالعلم ثم ختمها بالعلم. وقيل: النجوى من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض، فالمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الأرض عما يتصل به، والمعنى: أن سمع الله محيط بكل كلام، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها. (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) قرأ سلام ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بالرفع على موضع (مِنْ نَجْوى ) قبل دخول (مِنْ) لان تقديره ما يكون نجوى، و(ثلاثة) يجوزان يكون مرفوعا على محل (إِلَّا) مع (أَدْنى ) كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء، كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد مضى في (البقرة) «1» بيان هذا مستوفى. وقرا الزهري وعكرمة (أكبر) بالباء. والعامة بالثاء وفتح الراء على اللفظ وموضعها جر. وقال الفراء في قوله: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) قال: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود لأنه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفى عليه خافية، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد دون بعض. وقيل: معنى ذلك أن الله معهم بعلمه حيث كانوا من غير زوال ولا انتقال. ونزل ذلك في قوم من المنافقين كانوا فعلوا شيئا سرا فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قاله ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: نزلت في اليهود. (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) يخبرهم (بِما عَمِلُوا) من حسن وسيء (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

[سورة المجادلة (58): آية 8]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
__________
(1). راجع ج 3 ص 266 فما بعد.

فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ) قيل: إن هذا في اليهود والمنافقين حسب ما قدمناه. وقيل: في المسلمين. قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسؤهم ذلك فكثرت شكواهم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت. وقال مقاتل: كان بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين اليهود موادعة، فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا، فيعرج عن طريقه، فنهاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينتهوا فنزلت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيسأله الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك فنزلت. الثانية- روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى) فقلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيخ- يعني الدجال- فرقا «1» منه. فقال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: (الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل) ذكره الماوردي. وقرا حمزة وخلف ورويس عن يعقوب (وينتجون) في وزن يفتعلون وهي قراءة عبد الله وأصحابه. وقرا الباقون (ويتناجون) في وزن يتفاعلون، وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالى: (إِذا تَناجَيْتُمْ) و(تَتَناجَوْا). النحاس: وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا فعلى هذا (يَتَناجَوْنَ) و(ينتجون) واحد. ومعنى (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) أي الكذب والظلم. (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي مخالفته. وقرا الضحاك ومجاهد وحميد (ومعصيات الرسول) بالجمع.
__________
(1). في ل: (خوفا منه).

الثالثة- قوله تعالى: (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقولون: السام عليك. يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا، فيقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عليكم) في رواية، وفي رواية أخرى (وعليكم). قال ابن العربي: وهي مشكلة. وكانوا يقولون: لو كان محمد نبيا لما أمهلنا الله بسبه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبه، فكيف من سب نبيه. وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا أحد أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم) فأنزل الله تعالى هذا كشفا لسرائرهم، وفضحا لبواطنهم، معجزة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أصحابه فقال: السام عليكم. فرد عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: (أتدرون ما قال هذا) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (قال كذا ردوه علي) فردوه، قال: (قلت السام عليكم) قال: نعم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت) فأنزل الله تعالى: (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ). قلت: خرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وثبت عن عائشة أنها قالت: جاء أناس من اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم وفعل. فقال عليه السلام: (مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) فقلت: يا رسول الله الست ترى ما يقولون؟! فقال: (الست ترين أرد عليهم ما يقولون أقول وعليكم) فنزلت هذه الآية (بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) أي إن الله سلم عليك وهم يقولون السام عليك، والسام الموت. خرجه البخاري ومسلم بمعناه. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم) كذا الرواية (وعليكم) بالواو تكلم عليها العلماء، لان الواو العاطفة يقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من

سامه ديننا وهو الملال. يقال: سئم يسأم سامه وسآما. فقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي لما أجزنا انتحى فزاد الواو. وقال بعضهم: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم. وقال بعضهم: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك، لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روى الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سلم ناس من يهود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: (وعليكم) فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: (بلى قد سمعت فرددت عليهم وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا) خرجه مسلم. ورواية الواو أحسن معنى، وإثباتها أصح رواية وأشهر. وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة، للأمر بذلك. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل عليك. وقد اختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام أي أرتفع عنك. واختار بعض أصحابنا: السلام بكسر السين يعني الحجارة. وما قاله مالك أولى أتباعا للسنة، والله أعلم. وروى مسروق عن عائشة قالت: أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: (وعليكم) قالت عائشة: قلت بل عليكم السام والذام. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا عائشة لا تكوني فاحشة) فقالت: ما سمعت ما قالوا! فقال: (أو ليس قد رددت عليهم الذي قالوا قلت وعليكم). وفي رواية قال: ففطنت بهم عائشة فسبتهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش) وزاد فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) إلى آخر الآية. الذام بتخفيف الميم هو العيب، وفي المثل (لا تعدم الحسناء ذاما) أي عيبا، ويهمز ولا يهمز
،

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)

يقال: ذامه يذأمه، مثل ذاب يذاب، والمفعول مذءوم مهموزا، ومنه (مذموما مدحورا) «1» ويقال: ذامه يذومه مخففا كرامة يرومه. قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ) قالوا: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا الله. وقيل: قالوا إنه يرد علينا ويقول وعليكم السام والسام الموت، فلو كان نبيا لاستجيب له فينا ومتنا. وهذا موضع تعجب منهم، فإنهم كانوا أهل كتاب، وكانوا يعلمون أن الأنبياء قد يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب. (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي كافيهم جهنم عقابا غدا (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع.

[سورة المجادلة (58): آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) أي تساررتم. (فَلا تَتَناجَوْا) هذه قراءة العامة. وقرا يحيى بن وثاب وعاصم ورويس عن يعقوب (فلا تنتجوا) من الانتجاء (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) أي بالطاعة (وَالتَّقْوى ) بالعفاف عما نهى الله عنه. وقيل: الخطاب للمنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا بزعمهم. وقيل: أي يا أيها الذين آمنوا بموسى. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون في الآخرة.

[سورة المجادلة (58): آية 10]
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
__________
(1). راجع ج 10 ص 235

فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أي من تزيين الشياطين (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) إذ توهموا أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو إذا أجروا «1» اجتماعهم على مكايدة المسلمين، وربما كانوا يناجون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ) أي التناجي (شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي بمشيئته وقيل: بعلمه. وعن ابن عباس: بأمره. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي يكلون أمرهم إليه، ويفوضون جميع شئونهم إلى عونه، ويستعيذون به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا ولو شاء لصرفه عنه. الثانية- في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد). وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه) فبين في هذا الحديث غاية المنع وهي أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر، ذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة. خرجه الموطأ. وفية أيضا التنبيه على التعليل بقوله: (من أجل أن يحزنه) أي يقع في نفسه ما يحزن لأجله. وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنه لم يروه أهلا ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان وأحاديث النفس. وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الاعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى. وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور. وسواء أكان التناجي في مندوب أو مباح أو واجب فإن الحزن يقع به. وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك كان
__________
(1). في ح، ز، هـ: (أو إذا رأوا إجماعهم).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

في أول الإسلام، لان ذلك كان في حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك. وقال بعضهم: ذلك خاص بالسفر في المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا، فإنه يجد من يعينه، بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم المغيث «1». والله أعلم.

[سورة المجادلة (58): آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) «2» لما بين أن اليهود يحيونه بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك وصل به الامر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنظر إليه. قال قتادة ومجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض. وقاله الضحاك. وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. قال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأول «3» فلا يوسع بعضهم لبعض، رغبة في القتال والشهادة فنزلت. فيكون كقوله: (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) «4». وقال مقاتل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصفة، وكان في المكان ضيق يوم الجمعة، وكان النبي صلى الله عليه
__________
(1). في ح، ز، س، ل، هـ: (الغوث).
(2). الأصول على قراءة نافع (في المجلس) بالإفراد.
(3). في ل: (الأول فالأول).
(4). راجع ج 4 ص 184

وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس ابن شماس وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لمن حوله من [غير»
] أهل بدر: (قم يا فلان وأنت يا فلان) بعدد القائمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكراهية في وجوههم، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا: ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. (تَفَسَّحُوا) أي توسعوا. وفسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا أي وسع له، ومنه قولهم: بلد فسيح ولك في كذا فسحة، وفسح يفسح مثل منع يمنع، أي وسع في المجلس، وفسح يفسح فساحة مثل كرم يكرم [كرامة «2»] أي صار واسعا، ومنه مكان فسيح. الثانية- قرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم (فِي الْمَجالِسِ). وقرا قتادة وداود ابن أبي هند والحسن باختلاف عنه (إذا قيل لكم تفاسحوا) الباقون (تفسحوا في المجلس) فمن جمع فلأن قوله: (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) ينبئ أن لكل واحد مجلسا. وكذلك إن أريد به الحرب. وكذلك يجوز أن يراد مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجمع لان لكل جالس مجلسا. وكذلك يجوز إن أريد بالمجلس المفرد مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويجوز أن يراد به الجمع على مذهب الجنس، كقولهم: كثر الدينار والدرهم. قلت: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه [قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق «3» به)] ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ فيخرجه الضيق عن موضعه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن
__________
(1). الزيادة من ل، وأسباب النزول وبعض التفاسير وفى ز: (قم أنت يا فلان وأنت يا فلان).
(2). زيادة من ل. [.....]
(3). الزيادة من حاشية الجمل نقلا عن القرطبي.

النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه). وعنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا. وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه. لفظ البخاري. الثالثة- إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا). فرع- القاعد في المكان إذا قام حتى يقعد غيره موضعه نظر، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الامام لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الامام كره له ذلك، لان فيه تفويت حظه. الرابعة- إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه، فإذا جاء قام له منه. فرع- وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد «1». الخامسة- روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا قام أحدكم- وفي حديث أبي عوانة من قام من مجلسه- ثم رجع إليه فهو أحق به) قال علماؤنا: هذا يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أولى به وأحرى. وقد قيل: إن ذلك على الندب، لأنه موضع غير متملك لاحد لا قبل الجلوس ولا بعده. وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلمنا أنه غير متملك لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار كأنه يملك منفعته، إذ قد منع غيره من يزاحمه عليه. والله أعلم.
__________
(1). في ز، س، هـ، ل بياض في هذه النسخ، بعد قوله: (من المسجد) نبه عليه الناسخ بالهامش بقوله: بياض بالأصل.

السادسة- قوله تعالى: (يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) أي في قبوركم. وقيل: في قلوبكم. وقيل: يوسع عليكم في الدنيا والآخرة. (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. وكسر الباقون، وهما لغتان مثل (يَعْكُفُونَ) «1» و(يَعْرِشُونَ) «2» والمعنى انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، قال أكثر المفسرين. وقال مجاهد والضحاك: إذ نودي للصلاة فقوموا إليها. وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة فنزلت. وقال الحسن ومجاهد أيضا: أي انهضوا إلى الحرب. وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال الله تعالى: (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَانْشُزُوا) فإن له حوائج فلا تمكثوا. وقال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف. وهذا هو الصحيح، لأنه يعم. والنشز الارتفاع، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها، يقال نشز ينشز وينشز إذا انتحى من موضعه، أي ارتفع منه. وامرأة ناشز منتحية عن زوجها. واصل هذا من النشز، والنشز هو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكره النحاس. السابعة- قوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم «3» على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم (دَرَجاتٍ) أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به. وقيل: كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف فيستبقون إلى مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالخطاب لهم. وراي عليه الصلاة والسلام رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال: (يا فلان خشيت أن يتعدى غناك إليه أو فقره إليك) وبين في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والايمان لا بالسبق إلى صدور المجالس. وقيل: أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرءوا القرآن. وقال يحيى بن يحيى عن مالك: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) الصحابة (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) يرفع الله بها العالم والطالب للحق.
__________
(1). راجع ج 7 ص 272 وص 273.
(2). راجع ج 7 ص 272 وص 273.
(3). والمعنى يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين.

قلت: والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية، فيرفع المؤمن «1» بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا. وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة، فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) «2» فسكتوا، فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلمه الله إياه. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. وفي البخاري عن عبد الله ابن عباس قال: قدم عيينة ابن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. الحديث وقد مضى في آخر (الأعراف) «3». وفي صحيح مسلم أن نافع بن عبد الحرث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملته على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. فقال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين) وقد مضى أول الكتاب «4». ومضى القول في فضل العلم والعلماء في غير موضع من هذا الكتاب «5» [والحمد لله «6» [. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة). وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب). وعنه عليه الصلاة والسلام: (يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء) فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن ابن عباس: خير سليمان ] عليه السلام [بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.
__________
(1). في ح، ز، س، ل، هـ: (فيرفع المرء).
(2). راجع ج 20 ص 229.
(3). راجع ج 7 ص 357.
(4). راجع ج 1 ص 6.
(5). راجع ج 14 ص 343.
(6). من س وط.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

[سورة المجادلة (58): آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) (ناجَيْتُمُ) ساررتم. قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى شقوا عليه، فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قال ذلك كف كثير من الناس. ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها. وقال الحسن: نزلت بسبب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه. وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدا مناجاته. فكان ذلك يشق على المسلمين، لان الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) الآية، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية، فانتهى أهل الباطل عن النجوى، لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الايمان وامتنعوا من النجوى، لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بما بعد الآية. الثانية- قال ابن العربي: وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال: (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر.

وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبد الرحمن وقد ضعفه العلماء. والامر في قوله تعالى: (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) نص متواتر في الرد على المعتزلة. والله أعلم. الثالثة- روى الترمذي عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) [سألته «1»] قال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما ترى دينارا) قلت لا يطيقونه. قال: (فنصف دينار) قلت: لا يطيقونه. قال: (فكم) قلت: شعيرة. قال: (إنك لزهيد) قال فنزلت: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية. قال: فبي «2» خفف الله عن هذه الامة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، ومعنى قوله: شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب. قال ابن العربي: وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين: الاولى- نسخ العبادة قبل فعلها. والثانية- النظر في المقدرات بالقياس، خلافا لابي حنيفة. قلت: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة. وقد روي عن مجاهد: أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روي أنه تصدق بخاتم. وذكر القشيري وغيره عن علي بن أبن طالب أنه قال: (في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي:) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) كان لي دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ). وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها. وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي من إمساكها (وَأَطْهَرُ) لقلوبكم من المعاصي (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) يعني الفقراء (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
__________
(1). زيادة من ح، ز، س، ل، هـ.
(2). كلمة: (فبى) ساقطة من ل.

أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)

[سورة المجادلة (58): آية 13]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ) استفهام معناه التقرير. قال ابن عباس: (أَأَشْفَقْتُمْ) أي أبخلتم بالصدقة، وقيل: خفتم، والإشفاق الخوف من المكروه. أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم (أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ). قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ. وكذا قال قتادة. والله أعلم. الثالثة- قوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أي نسخ الله ذلك الحكم. وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فنسخت فرضيه الزكاة هذه الصدقة. وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف، لان الله تعالى قال: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) وهذا يدل على أن أحدا لم يتصدق بشيء. والله أعلم. (أَطِيعُوا اللَّهَ) في فرائضه (وَرَسُولَهُ) في سننه (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

[سورة المجادلة (58): الآيات 14 الى 16]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم. قال السدي ومقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجرة من حجراته إذ قال: (يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان) فدخل عبد الله بن نبتل- وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية- فقال عليه الصلاة والسلام: (علام تشتمني أنت وأصحابك) فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فعلت) فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية. وقال معناه ابن عباس. روى عكرمة عنه، قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسا في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه إذ قال: (يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر شيطان) فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعا به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (علام تشتمني أنت وأصحابك) قال: دعني أجيئك بهم. فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شي، فأنزل الله عز وجل: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً) إلى قوله: (هُمُ الْخاسِرُونَ) واليهود مذكورون في القرآن و(غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ). (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ) أي لهؤلاء المنافقين (عَذاباً شَدِيداً) في جهنم وهو الدرك الأسفل. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس الأعمال أعمالهم (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) يستجنون بها من القتل. وقرا الحسن وأبو العالية (إيمانهم) بكسر الهمزة هنا وفي (المنافقون) «1». أي إقرارهم اتخذوه جنة، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، وكفرت قلوبهم (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) في الدنيا بالقتل وفى الآخرة بالنار. والصد المنع (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي عن الإسلام. وقيل: في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق. وقيل: أي بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم.
__________
(1). راجع ج 18 ص 123. [.....]

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)

[سورة المجادلة (58): الآيات 17 الى 19]
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
قوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أى من عذابه شيئا.
وقال مقاتل: قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة، لقد شقينا إذا! فو اللّه لتنصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت «1» يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أى لهم عذاب مهين يوم يبعثهم فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ اليوم. وهذا أمر عجيب وهو مغالطتهم باليمين غدا، وقد صارت المعارف ضرورية. وقال ابن عباس: هو قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2». وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ بإنكارهم وحلفهم. قال ابن زيد:
ظنوا أنهم ينفعهم في الآخرة. وقيل: وَيَحْسَبُونَ في الدنيا أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار. والأوّل أظهر. وعن ابن عباس قال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم:
«ينادى مناد يوم القيامة أين خصماء اللّه فتقوم القدرية مسودّة وجوههم مزرقّة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون واللّه ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا، ولا اتخذنا من دونك إلها». قال ابن عباس: صدقوا واللّه! أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ هم واللّه القدرية. ثلاثا.
قوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أى غلب واستعلى، أى بوسوسته في الدنيا.
وقيل: قوى عليهم. وقال المفضّل: أحاط بهم. ويحتمل رابعا أى جمعهم وضمهم. يقال:
أحوذ الشيء أى جمعه وضم بعضه إلى بعض، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوى عليهم وأحاط بهم.
__________
(1). في ح، ز، س، هـ، ل: «فنزلت الآية قوله تعالى».
(2). راجع ج 6 ص 401.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)

فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أى أوامره في العمل بطاعته. وقيل: زواجره في النهى عن معصيته.
والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ طائفته ورهطه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ في بيعهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.

[سورة المجادلة (58): الآيات 20 الى 21]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تقدم أوّل السورة. أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أى من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أى قضى اللّه ذلك.
وقيل: كتب في اللوح المحفوظ، عن قتادة. الفراء: كتب بمعنى قال. أَنَا توكيد وَرُسُلِي من بعث منهم بالحرب فإنه غالب «1» بالحرب، ومن بعث منهم بالحجة فإنه غالب «1» بالحجة. قال مقاتل قال المؤمنون: لئن فتح اللّه لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا اللّه على فارس والروم، فقال عبد اللّه بن أبىّ بن سلول: أتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها؟! واللّه إنهم لأكثر عددا، وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي». نظيره: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «2».

[سورة المجادلة (58): آية 22]
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
__________
(1). في ح، ز، س، ل، هـ: «فإن الرسول غالب».
(2). راجع ج 15 ص 139.

فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ أى يحبون ويوالون مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تقدّم «1» وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ قال السدى: نزلت في [عبد اللّه بن «2»] عبد اللّه بن أبىّ، جلس إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فشرب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ماء، فقال له: باللّه يا رسول اللّه ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبى، لعل اللّه يطهّر بها قلبه؟ فأفضل له فأتاه بها، فقال له عبد اللّه: ما هذا؟ فقال:
هي فضلة من شراب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم جئتك بها تشر بها لعل اللّه يطهّر قلبك بها.
فقال له أبوه: فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها. فغضب وجاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وقال: يا رسول اللّه! أما أذنت لي في قتل أبى؟ فقال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم:
«بل ترفق به وتحسن إليه». وقال ابن جريح: حدّثت أن أبا قحافة سب النبىّ صلى اللّه عليه وسلم فصكّه أبو بكر أبنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: «أوفعلته، لا تعد إليه، فقال: والذي بعثك بالحق نبيّا ولو كان السيف منى قريبا لقتلته. وقال ابن مسعود: نزلت في أبى عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبد اللّه بن الجراح يوم أحد وقيل: يوم بدر. وكان الجراح يتصدّى لأبى عبيدة وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل اللّه حين قتل أباه: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» الآية. قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام. وقد سألت رجالا من بنى الحرث بن فهر فقالوا: توفى أبوه من قبل الإسلام. أَوْ أَبْناءَهُمْ يعنى أبا بكر دعى ابنه عبد اللّه إلى البراز يوم بدر، فقال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم: «متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر». أَوْ إِخْوانَهُمْ يعنى مصعب بن عمير
__________
(1). راجع ج 8 ص 194.
(2). زيادة لازمة، فقد كان عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبى ابن سلول رضى اللّه عنه من فضلاء الصحابة وخيارهم وكان أبوه عبد اللّه رأس المنافقين وفيه نزلت الآية.

قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر. أَوْ عَشِيرَتَهُمْ يعنى عمر بن الخطاب قتل خاله العاص ابن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليّا وحمزه قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر. وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبى بلتعة، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبىّ صلى اللّه عليه وسلم عام الفتح، على ما يأتى بيانه أوّل سورة «الممتحنة» إن شاء اللّه تعالى. بيّن أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب.
الثانية- استدل مالك رحمه اللّه من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم.
قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في اللّه، لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان. وعن عبد العزيز بن أبى داود أنه لقى المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يقول:
«اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإنى وجدت فيما أوحيت لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ- إلى قوله- أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» أى خلق في قلوبهم التصديق، يعنى من لم يوال من حاد اللّه. وقيل: كتب أثبت، قاله الربيع بن أنس. وقيل: جعل، كقوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «1» أى أجعلنا وقوله «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» «2» وقيل: «كتب» أى جمع، ومنه الكتيبة، أى لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
وقراءة العامة بفتح الكاف من «كتب» ونصب النون من «الإيمان» بمعنى كتب اللّه وهو الأجود، لقوله تعالى: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وقرأ أبو العالية وزرّ بن حبيش والمفضل عن عاصم «كتب» على ما لم يسمّ فاعله «الإيمان» برفع النون. وقرأ زرّ بن حبيش «وعشيراتهم» بألف وكسر التاء على الجمع، ورواها الأعمش عن أبى بكر عن عاصم. وقيل: كتب في قلوبهم» أى على قلوبهم، كما في قوله فِي جُذُوعِ «3» النَّخْلِ وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. «وَأَيَّدَهُمْ» قوّاهم ونصرهم بروح منه، قال الحسن: وبنصر منه. وقال
__________
(1). راجع ج 4 ص 97.
(2). راجع ج 7 ص 296.
(3). راجع ج 11 ص 224
.

الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه. و؟ قال ابن جريج: بنور وإيمان وبرهان وهدى. وقيل:
برحمة من اللّه. وقال بعضهم: أيدهم بجبريل عليه السلام. وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أى قبل أعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ فرحوا بما أعطاهم أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قال سعيد بن أبى سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه، قال داود عليه السلام: إلهى! من حزبك وحول عرشك؟ فأوحى اللّه إليه:
«يا داود الغاضّة أبصارهم، النقية قلوبهم، السليمة أكفهم، أولئك حزبي وحول عرشي».
ختمت والحمد للّه سورة «المجادلة»
18 ربيع الثانى سنة 1385 15
اغسطس سنة 1965
محقّقه أحمد عبد العليم البردونى
ثم بعون اللّه تعالى الجزء السابع عشر من تفسير القرطبي.
يتلوه إن شاء اللّه تعالى الجزء الثاني عشر، وأوّله:
«سورة (الحشر)»

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)

[الجزء الثامن عشر]

[تفسير سورة الحشر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة الحشر مدنية في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية روى ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قرأ سورة الحشر لم يبق شي من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوام والريح والسحاب والطير والدواب والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له. فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا (. خرجه الثعلبي. وخرج الثعالبي عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قرأ آخر سورة «1» الحشر لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الحشر: 21]- إلى آخرها- فمات من ليلته مات شهيدا). وروى الترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرا ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به «2» سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيدا ومن قرأها حين يمسي فكذلك (. قال: حديث حسن غريب.

[سورة الحشر (59): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
1 تقدم «3».

[سورة الحشر (59): آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
__________
(1). في أ، ح:" من قرأ سورة الحشر ...". وفى هـ:" من قرأ آخر الحشر ...".
(2). كلمة" به" ساقطة من هـ.
(3). راجع ج 17 ص 235.

2 قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل سورة النضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من أمرهم ما نص الله عليه. الثانية- قوله تعالى: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الحشر الجمع، وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال الزهري: كانوا من سبط «1» لم يصبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا «2» وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. قال ابن عباس وعكرمة: من شك أن المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: (اخرجوا) قالوا إلى أين؟ قال: (إلى أرض المحشر). قال قتادة: هذا أول المحشر. قال ابن عباس: هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره. وقيل: إنهم أخرجوا إلى خيبر، وأن معنى لِأَوَّلِ الْحَشْرِ إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخره إخراج عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعات. وقيل تيماء وأريحا، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم. وأما الحشر الثاني:
__________
(1). السبط: ولد الولد. والسبط من اليهود: كالقبيلة من العرب. [.....]
(2). ما بين المربعين ساقط من هـ.

فحشرهم قرب القيامة. قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف. وهذا ثابت في الصحيح، وقد ذكرناه في (كتاب التذكرة). ونحوه روى ابن وهب عن مالك قال: قلت لمالك هو جلاؤهم من ديارهم؟ فقال لي: الحشر يوم القيامة حشر اليهود. قال: وأجلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن المال فكتموه، فاستحلهم بذلك. قال ابن العربي: للحشر أول ووسط وآخر، فالأول إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء خيبر، والآخر حشر يوم القيامة. وعن الحسن: هم بنو قريظة. وخالفه بقية المفسرين وقالوا: بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا. حكاه الثعلبي. الثالثة- قال الكيا الطبري: ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شي لا يجوز الآن، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ. والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم. قوله تعالى: (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) يريد لعظم أمر اليهود ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين، واجتماع كلمتهم «1». (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) قيل: هي الوطيح والنطاة والسلالم والكتيبة. (مِنَ اللَّهِ) أي من أمره. وكانوا أهل حلقة- أي سلاح- كثير- وحصون منيعة، فلم يمنعهم شي منها. (فَأَتاهُمُ اللَّهُ) أي أمره وعذابه. (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي لم يظنوا. وقيل: من حيث لم يعلموا. وقيل: مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا بقتل كعب بن الأشرف، قاله ابن جريج والسدي وأبو صالح. قوله تعالى: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وكان الذي قتله هو محمد بن مسلمة وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش- وكان أخا كعب ابن الأشرف من الرضاعة- وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وخبره مشهور في السيرة. وفي الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر) فكيف لا ينصر به مسيرة ميل من المدينة إلى محلة بني النضير. وهذه خصيصي لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون غيره.
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من هـ.

قوله تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) قراءة العامة بالتخفيف من أخرب، أي يهدمون. وقرا السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو يخربون بالتشديد من التخريب. قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد لان الاخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن، وبنو النضير لم يتركوها خرابا وإنما خربوها بالهدم، يؤيده قوله تعالى: بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. وقال آخرون: التخريب والاخراب بمعنى واحد، والتشديد بمعنى التكثير. وحكى سيبويه: أن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان، نحو أخربته»
وخربته وأفرحته وفرحته. واختار أبو عبيد وأبو حاتم الاولى. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. فروي أنهم صالحوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت «2» في التوراة، فلا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة ثم صبحهم بالكتائب، فقال لهم: اخرجوا من المدينة. فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فدس إليهم عبد الله ابن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولين أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح، فأبى عليهم إلا الجلاء، على ما يأتي بيانه. وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة والعمود «3» فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وعن ابن زيد أيضا: كانوا يخربونها لئلا يسكنها المسلمون بعدهم. وقال ابن عباس: كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع موضع القتال، وهم ينقبون دورهم من أدبارها إلى التي بعدها ليتحصنوا فيها، ويرموا
__________
(1). في هـ:" أحزنته وحزنته".
(2). في ح، هـ:" الذي بعث الله في التوراة".
(3). في: هـ:" أو العمود" بزيادة لفظ" أو".

وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)

بالتي أخرجوا منها المسلمين. وقيل: ليسدوا بها أزقتهم. وقال عكرمة بِأَيْدِيهِمْ في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذه المسلمون. وب أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ في إخراب «1» ظاهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها" فخربوها من داخل وخربها المسلمون من خارج. وقيل: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بنقض المواعدة وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بالمقاتلة، قاله الزهري أيضا. وقال أبو عمرو بن العلاء بِأَيْدِيهِمْ في تركهم لها. وب أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ في أجلائهم عنها. قال ابن العربي التناول للافساد إذا كان باليد كان حقيقة، وإذا كان بنقض العهد كان مجازا، إلا أن قول الزهري في المجاز أمثل من قول أبي عمرو بن العلاء. قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي اتعظوا يا أصحاب العقول والألباب. وقيل: يا من عاين ذلك ببصره، فهو جمع للبصر. ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحصون من الله فأنزلهم الله منها. ومن وجوهه: أنه سلط عليهم من كان ينصرهم. ومن وجوهه أيضا: أنهم هدموا أموالهم بأيديهم. ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه. وفي الأمثال الصحيحة:" السعيد من وعظ بغيره".

[سورة الحشر (59): الآيات 3 الى 4]
وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
قوله تعالى: (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم وأنهم يبقون مدة فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن. (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) أي بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. والجلاء مفارقة الوطن يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الابعاد واحدا من وجهين: أحدهما- أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من هـ.

مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

الأهل والولد. الثاني- أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة، قاله الماوردي. قوله تعالى: (ذلِكَ) أي ذلك الجلاء (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ) أي عادوه وخالفوا أمره. (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ) قرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميقع (ومن يشاقق الله) بإظهار التضعيف كالتي في" الأنفال" «1»، وأدغم الباقون.

[سورة الحشر (59): آية 5]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) ما في محل نصب ب قَطَعْتُمْ، كأنه قال: أي شي قطعتم. وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزل على حصون بني النضير- وهي البؤيرة- حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها. واختلفوا في عدد ذلك، فقال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة. وكان ذلك عن إقرار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بأمره، إما لاضعافهم بها و«2» إما لسعة المكان بقطعها. فشق ذلك عليهم فقالوا- وهم يهود أهل الكتاب-: يا محمد، الست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع الخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ووجد المؤمنون «3» في أنفسهم حتى اختلفوا، فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: اقطعوا لنغيظهم بذلك. فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله. وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك:
__________
(1). راجع ج 7 ص 379.
(2). في ح، هـ:" أو لسعة".
(3). في ح، س، هـ:" المسلمون".

ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم ... على عهد موسى ولم نصدف
وأنتم رعاء الشاء عجاف ... بسهل تهامة والأخيف
ترون الرعاية مجدا لكم ... لدى كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا ... عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الدهور ... يدلن من العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها «1» ... وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت:
تفاقد «2» معشر نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير
همو أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمي عن التوراة بور
كفرتم بالقران وقد أبيتم «3» ... بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لوي ... حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها «4» السعير
ستعلم أينا منها بنزه ... ونعلم أي أرضينا تصير
فلو كان النخيل بها ركابا ... لقالوا لا مقام لكم فسيروا
الثانية- كان خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه في الحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودس عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغتروا بذلك. فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكف عن
__________
(1). في سيرة ابن هشام:" وأحلافها".
(2). في سيرة ابن هشام:" تعاهد".
(3). في السيرة:" أتيتم".
(4). في السيرة:" في طرائقها".

دمائهم ويجليهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم، كحيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع. فدانت لهم خيبر. الثالثة: ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع نخل بني النضير وحرق. ولها يقول حسان:
وهان على سراة بني لوي ... حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ الآية. واختلف الناس في تخريب دار العدو وتحريقها وقطع ثمارها على قولين: الأول- أن ذلك جائز، قال في المدونة. الثاني- إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن يئسوا فعلوا، قاله مالك في الواضحة. وعليه يناظر أصحاب الشافعي. ابن العربي: والصحيح الأول. وقد علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نخل بني النضير له، ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها. وإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحة جائزة شرعا، مقصودة عقلا. الرابعة- قال الماوردي: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب. وقاله الكيا الطبري قال: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرهم، ولا شك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأي ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذا باطل، لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما يدل على اجتهاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما لم ينزل عليه، أخذا بعموم الأذية للكفار، ودخولا في الاذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، وذلك قوله تعالى: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ. الخامسة: اختلف في اللينة ما هي، على أقوال عشرة: الأول- النخل كله إلا العجوة، قاله الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل. وعن ابن عباس ومجاهد

والحسن: أنها النخل كله، ولم يستثنوا عجوة ولا غيرها. وعن ابن عباس أيضا: أنها لون من النخل. وعن الثوري: أنها كرام النخل. وعن أبي عبيدة: أنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني «1». وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة. وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه السلام في السفينة. والعتيق: الفحل. وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها، حكاه الماوردي. وقيل: هي ضرب من النخل يقال لتمره: اللون، تمره أجود التمر، وهو شديد الصفرة، يرى نواه من خارجه ويغيب فيه الضرس، النخلة منها أحب إليهم من وصيف «2». وقيل: هي النخلة القريبة من الأرض. وأنشد الأخفش.
قد شجاني الحمام حين تغنى ... بفراق الأحباب من فوق لينه
وقيل: إن اللينة الفسيلة، لأنها ألين من النخلة. ومنه قول الشاعر:
غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام «3»
وقيل: إن اللينة الأشجار كلها للينها بالحياة، قال ذو الرمة:
طراق الخوافي واقع فوق لينة ... ندى ليله في ريشه يترقرق
والقول العاشر- أنها الدقل، قاله الأصمعي. قال: واهل المدينة يقولون لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان، يعنون الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين: أحدهما- أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. الثاني- أن الاشتقاق يعضده، واهل اللغة يصححونه، فإن اللينة وزنها لونه، واعتلت على أصولهم فآلت إلى لينة فهي لون، فإذا دخلت الهاء كسر أولها، كبرك الصدر (بفتح الباء) وبركه (بكسرها) لأجل الهاء. وقيل لينة أصلها لونه فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وجمع اللينة لين. وقيل: ليان، قال امرؤ القيس يصف عنق فرسه:
وسالفة كسحوق الليا ... ن أضرم فيها الغوي السعر
__________ (1). (البرني بفتح فسكون): ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة كثير اللحاء، عذب الحلاوة. [.....]
(2). الوصيف: الخادم، غلاما كان أو جارية.
(3). في ح، س، هـ:" بالأكمام".

وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

وقال الأخفش: إنما سميت لينة اشتقاقا من اللون لا من اللين. المهدوي: واختلف في اشتقاقها، فقيل: هي من اللون واصلها لونه. وقيل أصلها لينة من لان يلين. وقرا عبد الله" ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماء على أصولها" أي قائمة على سوقها. وقرا الأعمش" ما قطعتم من لينة أو تركتموها قوما على أصولها" المعنى لم تقطعوها. وقرى" قوماء على أصلها". وفية وجهان: أحدهما- أنه جمع أصل، كرهن ورهن. والثاني- اكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرى" قائما على أصوله" ذهابا إلى لفظ ما. فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه.

[سورة الحشر (59): الآيات 6 الى 7]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
قوله تعالى: (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) هذه الآية والتي بعدها إلى قوله شَدِيدُ الْعِقابِ «1» فيه عشر مسائل: الاولى- قوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ يعني ما رده الله تعالى عَلى رَسُولِهِ من أموال بني النضير. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ أوضعتم عليه. والإيجاف: الإيضاع في السير وهو الإسراع، يقال: وجف الفرس إذا أسرع، وأوجفته أنا أي حركته وأتعبته، ومنه قول تميم بن مقبل:
مذاويد بالبيض الحديث صقالها ... عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا
والركاب الإبل، واحدها راحلة. يقول: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حربا
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ح، س.

ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، قاله الفراء. فمشوا إليها مشيا ولم يركبوا خيلا ولا إبلا، إلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه ركب جملا وقيل حمارا مخطوما بليف، فافتتحها صلحا وأجلاهم واخذ أموالهم. فسأل المسلمون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقسم لهم فنزلت: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ الآية. فجعل أموال بني النضير للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين. قال الواقدي: ورواه ابن وهب عن مالك، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين، منهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقيل: إنما أعطى رجلين، سهلا وأبا دجانة. ويقال: أعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: سفيان ابن عمير، وسعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها. وفي صحيح مسلم عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وكانت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع «1» والسلاح عدة في سبيل الله تعالى. وقال العباس لعمر- رضي الله عنهما-: اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن- يعني عليا رضي الله عنه- فيما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير. فقال عمر: أتعلمان أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا نورث ما تركناه صدقة) قالا نعم. قال عمر: إن الله عز وجل كان خص رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخاصة ولم يخصص بها أحدا غيره. قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ (ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا) فقسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال ... الحديث بطوله، خرجه مسلم. وقيل: لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم فيها حظ كالغنائم، فبين الله تعالى أنها في وكان قد جرى ثم بعض القتال، لأنهم حوصروا أياما وقاتلوا وقتلوا،
__________
(1). قوله" في الكراع": في الدواب التي تصلح للحرب.

ثم صالحوا على الجلاء. ولم يكن قتال على التحقيق، بل جرى مبادئ القتال وجرى الحصار، وخص الله تلك الأموال برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مجاهد: أعلمهم الله تعالى وذكرهم أنه إنما نصر رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصرهم بغير كراع ولا عدة. (وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي من أعدائه. وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون أصحابه. الثانية- قوله تعالى: (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) قال ابن عباس: هي قريظة والنضير، وهما بالمدينة وفدك، وهي على ثلاثة أيام من المدينة وخيبر. وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله. وبين أن في ذلك المال الذي خصه بالرسول عليه السلام سهمانا لغير الرسول نظرا منه لعباده. وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها، هل معناهما واحد أو مختلف، والآية التي في الأنفال، فقال قوم من العلماء: إن قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى منسوخ بما في سورة الأنفال من كون الخمس لمن سمي له، والأخماس الاربعة لمن قاتل. وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف ولا يكون لمن قاتل عليها شي. وهذا قول يزيد بن رومان وقتادة وغيرهما. ونحوه عن مالك. وقال قوم: إنما غنم بصلح من غير إيجاف خيل ولا ركاب، فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئا والاولى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين. وقال معمر: الاولى: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والثانية: هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه. والثالثة: الغنيمة في سورة الأنفال للغانمين. وقال قوم منهم الشافعي: إن معنى الآيتين واحد، أي ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهم، أربعة منها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان الخمس الباقي على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا وسهم لذوي القربى- وهم بنو هاشم وبنو المطلب- لأنهم منعوا الصدقة فجعل لهم حق في الفيء. وسهم لليتامى. وسهم للمساكين. وسهم لابن السبيل، وأما بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالذي كان من الفيء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصرف عند الشافعي في قول إلى المجاهدين المترصدين للقتال في الثغور، لأنهم القائمون

مقام الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي قول آخر له: يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر، يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء. فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهو لمصالح المسلمين بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا خلاف، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليس لي من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم). وقد مضى القول فيه في سورة" الأنفال" «1». وكذلك ما خلفه من المال غير موروث، بل هو صدقة يصرف عنه إلى مصالح المسلمين، كما قال عليه السلام: (إنا لا نورث ما تركناه صدقة). وقيل: كان مال الفيء لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ فأضافه إليه، غير أنه كان لا يتأثل «2» مالا، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيا ت، أما الآية الاولى فهي قوله: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر: 2] ثم قال تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني من أهل الكتاب معطوفا عليهم. (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يريد كما بينا، فلا حق لكم فيه، ولذلك قال عمر: إنها كانت خالصة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني بني النضير وما كان مثلها. فهذه آية واحدة ومعنى متحد. الآية الثانية: قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول. وسمي الآية الثالثة آية الغنيمة، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق ثان لمستحق آخر، بيد أن الآية الاولى والثانية، اشتركتا في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الاولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى عن
ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من هاهنا، فمن طائفة قالت: هي ملحقة بالأولى، وهو مال الصلح كله ونحوه.
__________
(1). راجع ج 8 ص 11.
(2). المتأثل: الجامع.

ومن طائفة قالت: هي ملحقة بالثانية وهي آية الأنفال. والذين قالوا أنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا، هل هي منسوخة- كما تقدم- أو محكمة؟ وإلحاقها بشهادة الله بالتي قبلها «1» أولى، لان فيه تجديد فائدة ومعنى. ومعلوم أن حمل الحرف من الآية فضلا عن الآية على فائدة متجددة أولى من حمله على فائدة معادة. وروى ابن وهب عن مالك في قوله تعالى: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ بني النضير «2»، لم يكن فيها خمس ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. كانت صافية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار، حسب ما تقدم. وقوله ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى هي قريظة، وكانت قريظة والخندق في يوم واحد. قال ابن العربي: قول مالك إن الآية الثانية في بني قريظة، إشارة إلى أن معناها يعود إلى آية الأنفال، ويلحقها النسخ. وهذا أقوى «3» من القول بالأحكام. ونحن لا نختار إلا ما قسمنا وبينا أن الآية الثانية لها معنى مجدد حسب ما دللنا عليه. والله اعلم. قلت- ما اختاره حسن. وقد قيل إن سورة" الحشر" نزلت بعد الأنفال، فمن المحال أن ينسخ المتقدم المتأخر. وقال ابن أبي نجيح: المال ثلاثة: مغنم، أو في، أو صدقة، وليس منه درهم إلا وقد بين الله موضعه. وهذا أشبه. الثالثة- الأموال التي للائمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم، كالصدقات والزكوات. والثاني- الغنائم، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث: الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف، كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له. فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملين عليها، حسب ما ذكره الله تعالى، وقد مضى في" براءة" «4». وأما الغنائم فكانت
__________
(1). في المطبوعة:" بشهادة الله بالأولى أولى".
(2). في ز، ل:" هي النضير".
(3). في ح، ز، س، ط، هـ:" وهو أقوى منا من القول ...".
(4). راجع ج 8 ص 67.

في صدر الإسلام للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع فيها ما شاء، كما قال في سورة" الأنفال": قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1]، ثم نسخ بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال: 41] الآية. وقد مضى في الأنفال بيانه «1». فأما الفيء فقسمته وقسمة الخمس سواء. والامر عند مالك فيهما إلى الامام، فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل، وإن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قسمه كله بين الناس، وسوى فيه بين عربيهم ومولاهم. ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا، ويعطوا ذوو القربى من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفيء سهمهم على ما يراه الامام، وليس له حد معلوم. واختلف في إعطاء الغني منهم، فأكثر الناس على إعطائه لأنه حق لهم. وقال مالك: لا يعطي منه غير فقرائهم، لأنه جعل لهم عوضا من الصدقة. وقال الشافعي: أيما حصل من أموال الكفار من غير قتال كان يقسم في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خمسة وعشرين سهما: عشرون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل فيها ما يشاء. والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة. قال أبو جعفر أحمد ابن الداودي: وهذا قول ما سبقه به أحد علمناه، بل كان ذلك خالصا له، كما ثبت في الصحيح عن عمر مبينا للآية. ولو كان هذا لكان قوله: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ «2» [الأحزاب: 50] يدل على أنه يجوز الموهبة لغيره، وأن قوله: خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ «3» [الأعراف: 32] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم. وقد مضى قول الشافعي مستوعبا في ذلك والحمد لله. ومذهب الشافعي رضي الله عنه: أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعه أخماسه كانت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي بعده لمصالح المسلمين. وله قول آخر: أنها بعده للمرصدين أنفسهم للقتال بعده خاصة، كما تقدم. الرابعة- قال علماؤنا: ويقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينتقل ذلك إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أعوام الرمادة، وكانت خمسة أعوام أو ستة. وقد قيل عامين. وقيل:
__________
(1). راجع ج 8 ص 9
(2). راجع ج 14 ص 205.
(3). راجع ج 7 ص 195.

عام فيه اشتد الطاعون مع الجوع. وإن لم يكن ما وصفنا وراي الامام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين، ويعطى منه المنفوس ويبدأ بمن أبوه فقير. والفيء حلال للأغنياء. ويسوى بين الناس فيه إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة. والتفضيل فيه إنما يكون على قدر الحاجة. ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم. ويعطي منه الجائزة والصلة إن كان ذلك أهلا، ويرزق القضاء والحكام ومن فيه منفعة للمسلمين. وأولاهم بتوفر الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعا. ومن أخذ من الفيء شيئا في الديوان كان عليه أن يغزو إذا غزي. الخامسة- قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً قراءة العامة يَكُونَ بالياء. دُولَةً بالنصب، أي كي لا يكون الفيء دولة وقرا أبو جعفر والأعرج وهشام- عن ابن عامر- وأبو حيوة" تكون" بتاء (دولة) بالرفع، أي كي لا تقع دولة. فكان تامة. و(دولة) رفع على اسم كان ولا خبر له. ويجوز أن تكون ناقصة وخبرها بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ. وإذا كانت تامة فقوله: بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ متعلق ب دُولَةً على معنى تداول بين الأغنياء منكم. ويجوز أن يكون بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وصفا ل دُولَةً. وقراءة العامة دُولَةً بضم الدال. وقرأها السلمي وأبو حيوة بالنصب. قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة (بالفتح) الظفر في الحرب وغيره، وهي المصدر. وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال. وكذا قال أبو عبيدة: الدولة اسم الشيء الذي يتداول. والدولة الفعل. ومعنى الآية: فعلنا ذلك في هذا الفيء، كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لان أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع. ثم يصطفي منها أيضا بعد المرباع ما شاء، وفيها قال شاعرهم:
لك المرباع منها والصفايا «1»
__________
(1). البيت بتمامه:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
وهو لعبد الله بن عنمة الضبي يخاطب بسطام بن قيس. والنشيطة ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى مجتمع الحي. والفضول: ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة كالبعير والفرس ونحوهما. [.....]

يقول: كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية. فجعل الله هذا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقسمه في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا جاء خمس وقع بين المسلمين جميعا. السادسة- قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عنه من الأخذ والغلول «1» فانتهوا، قاله الحسن وغيره. السدي: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. الماوردي: وقيل إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه، لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد. قلت: هذا هو معنى القول الذي قبله. فهي ثلاثة أقوال. السابعة- قال المهدوي: قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر من الله تعالى. والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونواهيه دخل فيها. وقال الحكم بن عمير- وكانت له صحبة- قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه يسير على من اتبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (. الثامنة- قال عبد الرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له: انزع عنك هذا. فقال الرجل: أتقرأ علي بهذا آية من كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى وسنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال فقلت له ما تقول- أصلحك الله- في المحرم يقتل الزنبور؟ قال فقال:
__________
(1). الغلول: الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة.

بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر). حدثنا سفيان ابن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه أمر بقتل الزنبور. قال علماؤنا: وهذا جواب في نهاية الحسن، أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدي فيه بعمر، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالاقتداء به، وأن الله سبحانه أمر بقبول ما يقوله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسنة. وقد مضى هذا المعنى من قول عكرمة حين سئل عن أمهات الأولاد فقال: هن أحرار في سورة" النساء" عند قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1» [النساء: 59]. وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات «2» والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في كتاب الله! فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه! أما قرأت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا! قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه .. الحديث. وقد مضى القول فيه في" النساء" «3» مستوفي. التاسعة- قوله تعالى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة فإن معناه الامر، بدليل قوله تعالى: وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا بالأمر، والدليل على فهم ذلك ما ذكرناه قبل مع قوله عليه الصلاة السلام: (إذا) هامش (
__________
(1). راجع ج 5 ص 259 وص 392.
(2). المتنمصات:) جمع متنمصة) وهى التي تنتف الشعر من وجهها. والمتفلجات: (جمع متفلجة) وهى التي تتكلف أن تفرق بين منها من الثنايا والرباعيات.
(3). راجع ج 5 ص 259 وص 392.

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)

أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شي فاجتنبوه (. وقال الكلبي: إنها نزلت في رؤساء المسلمين، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أموال، المشركين: يا رسول الله، خذ صفيك والربع، ودعنا والباقي، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية. وأنشدوه:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
فأنزل الله تعالى هذه الآية. العاشرة- قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي عذاب الله، إنه شديد لمن عصاه. وقيل: اتقوا الله في أوامره ونواهيه فلا تضيعوها. (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالف ما أمره به.

[سورة الحشر (59): آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
أي الفيء والغنائم لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ. وقيل: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ ولكن يكون لِلْفُقَراءِ. وقيل: هو بيان لقوله: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فلما ذكروا بأصنافهم قيل المال لهؤلاء، لأنهم فقراء ومهاجرون وقد أخرجوا من ديارهم، فهم أحق الناس به. وقيل: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ للفقراء المهاجرين لكيلا يكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا. وقيل: والله شديد العقاب للمهاجرين، أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم. ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى . وقيل: هو عطف على ما مضى، ولم يأت بواو العطف كقولك: هذا المال لزيد لبكر لفلان لفلان. والمهاجرون هنا: من هاجر إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبا فيه ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والأوطان حبا لله ولرسوله، حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)

ماله دثار غيرها. وقال عبد الرحمن بن أبزى وسعيد بن جبير: كان ناس من المهاجرين لأحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحج عليها ويغزو فنسبهم الله إلى الفقر وجعل لهم سهما في الزكاة. ومعنى أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي أخرجهم كفار مكة، أي أحوجوهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل. (يَبْتَغُونَ) يطلبون. (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) أي غنيمة في الدنيا (وَرِضْواناً) في الآخرة، أي مرضاة ربهم. (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في الجهاد في سبيل الله. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في فعلهم ذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية «1» فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبى بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله تعالى جعلني له خازنا وقاسما. ألا وإني باد بأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين، أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا.

[سورة الحشر (59): آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها. وَالْإِيمانَ نصب بفعل غير تبوأ، لان التبوء إنما يكون في الأماكن. ومِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ صلة تبوأ والمعنى: والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الايمان وأخلصوه، لان الايمان
__________
(1). بلدة دمشق.

ليس بمكان يتبوأ، كقوله تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ «1» [يونس: 71] أي وادعوا شركاءكم، ذكره أبو علي والزمخشري وغيرهما. ويكون من باب قوله: علفتها تبنا وماء باردا. ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: تبوءوا الدار ومواضع الايمان. ويجوز حمله على ما دل عليه تبوأ، كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الايمان فلم يفارقوهما. ويجوز أن يكون تبوأ الايمان على طريق المثل، كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم. والتبوء: التمكن والاستقرار. وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم. الثانية- واختلف أيضا هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة، فتأول قوم أنها معطوفة على قوله: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض. ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه، لان الله تعالى يقول: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا إلى قوله الْفاسِقِينَ [الحشر: 5- 2] فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع. ثم قال: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ فأخبر أن ذلك للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه لم يوجف عليه حين خلوه. وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الامر. ثم قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وهذا كلام غير معطوف على الأول. وكذا وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين، وكأنه قال، الفيء للفقراء المهاجرين، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء. وكذا وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] ابتداء كلام، والخبر يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا [الحشر: 10]. وقال إسماعيل ابن إسحاق: إن قوله وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالَّذِينَ جاؤُ معطوف على ما قبل، وأنهم
__________
(1). راجع ج 8 ص 362.

شركاء في الفيء، أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوءوا الدار. وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ [التوبة: 60] فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ- حتى بلغ- لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ، وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير»
نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه. وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تثبتوا الامر وتدبروه ثم أغدوا علي. ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت. فلما غدوا عليه قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة" الحشر" وتلا ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى - إلى قوله- لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ فلما بلغ قوله: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] قال: ما هي لهؤلاء فقط. وتلا قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ- إلى قوله- رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك. والله اعلم. الثالثة- روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر. وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة: أن عمر أبقى سواد «2» العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم، لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحشوة والذراري، وأن الزبير وبلالا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم، فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك، فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش، فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين قلة. ومن أبى أعطاه ثمن حظه. فمن قال: إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه قسم خيبر، لان اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها. وقيل: إنه أبقاها بغير شي أعطاه أهل الجيوش. وقيل: إنه
__________
(1). سرو حمير: منازل حمير بأرض اليمن. والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل.
(2). سواد البلدة: ما حولها من الريف والقرى.

تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ- إلى قوله- رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ على ما تقدم. والله اعلم «1». الرابعة- واختلف العلماء في قسمة العقار، فقال مالك: للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين. وقال أبو حنيفة: الامام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفا لمصالح المسلمين. وقال الشافعي: ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال. فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعله وقفا عليهم فله. ومن لم تطب نفسه فهو أحق بمال. وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم. قلت: وعلى هذا يكون «2» قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] مقطوعا مما قبله، وانهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم. الخامسة- قال ابن وهب: سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إن المدينة تبوئت بالايمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ الآية. وقد مضى الكلام في هذا، وفي فضل الصلاة في المسجدين: المسجد الحرام ومسجد المدينة، فلا معنى للإعادة. السادسة- قوله تعالى: (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، كذلك قال الناس. وفية تقدير حذف مضافين، المعنى مس حاجة من فقد ما أوتوا. وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم. ثم قال: (إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم (. فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: بل نقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله
__________
(1). جملة" والله أعلم" ساقطة من س.
(2). في ح، س:" وعلى هذا يجئ".

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار). وأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم «1». ويحتمل أن يريد به وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا إذا كان قليلا بل يقنعون به ويرضون عنه. وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دنيا، ثم كانوا عليه بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحكم الدنيا. وقد أنذرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: (سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). السابعة- قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه مسلم أيضا. وخرج عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شي؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم «2» بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (قد عجب «3» الله عز وجل- من صنيعكما بضيفكما الليلة). وفي رواية عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه. فقال: (ألا رجل يضيف هذا رحمه الله)؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة. فانطلق به إلى رحله ...، وساق الحديث بنحو الذي قبله، وذكر فيه نزول الآية. وذكر المهدوي عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل
__________
(1). راجع ص 11 من هذا الجزء.
(2). علله بكذا: شغله ولهاه به.
(3). أي عظم ذلك عنده وكبر عليه، وإطلاق العجب على الله مجاز، لأنه لا يخفى عليه أسباب الأشياء.

من الأنصار- نزل به ثابت- يقال له أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية، وقدم ما كان عنده إلى ضيفه. وكذا ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار- يقال له أبو المتوكل- ثابت بن قيس ضيفا، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية، فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ- إلى قوله- فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة. وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم: وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ. ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهودا فوجه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول، فنزلت: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية. وقال ابن عباس قال النبي للأنصار يوم بني النضير: (إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا) فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة، فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية. والأول أصح. وفي الصحيحين عن أنس: أن الرجل كان يجعل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه. لفظ مسلم. وقال الزهري عن أنس بن مالك: لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شي، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمئونة، وكانت أم أنس بن مالك تدعي أم سليم، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة، كان أخا لأنس لامه، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عذاقا «1» لها، فأعطاها رسول الله صلى
__________
(1). العذاق- بكسر العين جمع عذق بفتحها- ومعناها النخلات. [.....]

الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، ثم أسامة بن زيد. قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم. قال: فرد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أمي عذاقها، وأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم أيمن مكانهن من حائطه. خرجه مسلم أيضا. الثامنة- الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنياوية، ورغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا، أي خصصته به وفضلته. ومفعول الإيثار محذوف، أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها، حسب ما تقدم بيانه. وفي موطأ مالك:" أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها «1». فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك. قال علماؤنا: هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجل منه ما يشاء ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه. ومن ترك شيئا لله لم يجد فقده. وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وقى شح نفسه وأفلح فلاحا لا خسارة بعده. ومعنى (شاة وكفنها) فإن العرب- أو بعض العرب أو بعض وجوههم- كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غطوه كله بعجين البر وكفنوه به ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شي إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم. وروى النسائي عن نافع
__________
(1). أي أنها كانت ملفوفة بالرغف، وسيأتي معناه بأوضح من هذا. وقولها:" ما كان يهدى لنا" تريد أن عائشة رضى الله عنها لم تعلم بذلك ولم تحتسب به فتثق به وتعول عليه، ولكن الله سبحانه عوضها من حيث لا تحتسب. (شرح الموطإ).

أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنبا، فاشترى له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه، فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء المسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه، ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه، فأراد السائل أن يرجع فمنع. ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه، لان ما خرج لله لا يعود فيه. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا محمد بن مطرف قال: حدثنا أبو حازم عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار، فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبئت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن! والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة! بعضهم من بعض. ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها، وكان عشرة آلاف وكان المنكدر دخل عليها «1». فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه. فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم، فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ «2» [البقرة: 177]. وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك. والإمساك لمن لا يصبر
__________
(1). بعد كلمة" عليها" بياض في ح، ز، س، هـ، نبه عليه الناسخ بقوله: بياض في الأصل.
(2). راجع ج 2 ص 243.

ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. وروي أن رجلا جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل البيضة من الذهب فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: (يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس). والله اعلم. التاسعة:- والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال السائرة:
والجود بالنفس أقصى غاية الجود «1»

ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حد المحبة: أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام، آثرته على نفسها فقالت: أنا راودته عن نفسه. وأفضل الجود بالنفس الجوة على حماية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتطلع ليرى القوم. فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله! لا يصيبونك! نحري دون نحرك ووقى بيده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشلت. وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي- ومعي شي من الماء- وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ! قدم علينا حاجا فقال لي: يا با يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا. وإن فقدنا صبرنا.
__________
(1). هو من بيت لمسلم بن الوليد، صدره:
تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها

يقول: تجود بنفسك في الحرب إذ أنت الضنين بها في الذم. ويروى:
يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها

فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا. وسيل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا، إيثارا لصاحبه على نفسه. العاشرة: قوله تعالى «1»: وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ الخصاصة: الحاجة التي تختل بها الحال. واصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة، أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر:
أما الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر
الحادية عشرة- قوله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الشح والبخل سواء، يقال: رجل شحيح بين الشح والشح والشحاحة. قال عمرو بن كلثوم:
ترى اللحز الشحيح إذا أمرت ... عليه لماله فيها مهينا «2»
وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص، تقول: شححت (بالكسر) تشح. وشححت أيضا تشح وتشح. ورجل شحيح، وقوم شحاح وأشحة. والمراد بالآية: الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة، وما شا كل ذلك. فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه. ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه. وروى الأسود عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت؟ قال:
__________
(1). جملة" قوله تعالى" ساقطة من س.
(2). في شرح التبريزي:" اللحز: الضيق البخيل. وقيل: هو السيئ الخلق اللئيم. وقوله: إذا أمرت عليه. أي أديرت، والمعنى: أن الخمر إذا كثر دورانها عليه أهان ماله، يقال: فلا مهين لماله، إذا كان سخيا. وفلان معز لماله، إذا كان بخيلا".

وما ذاك؟ قال: سمعت الله عز وجل يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا. فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل. ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام، لا يقنع. ابن جبير: الشح منع الزكاة وادخار الحرام. ابن عيينة: الشح الظلم. الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل الايمان فذلك الشحيح. ابن زيد: من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عنه، ولم يدعه الشح على أن يمنع شيئا من شي أمره الله به، فقد وقاه الله شح نفسه. وقال أنس: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة). وعنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو (اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووساوسها). وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلا في الطواف يدعو: اللهم قني شح نفسي. لا يزيد على ذلك شيئا، فقلت له؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل. فإذا الرجل عبد الرحمن ابن عوف. قلت: يدل على هذا قول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم (. وقد بيناه في آخر" آل عمران" «1». وقال كسرى لأصحابه: أي شي أضر بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشح أضر من الفقر، لان الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا.
__________
(1). راجع ج 4 ص 293.

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

[سورة الحشر (59): آية 10]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والايمان، والذين جاءوا من بعدهم. فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن شمسا، فإن لم تستطع فكن قمرا، فإن لم تستطع فكن كوكبا مضيئا، فإن لم تستطع فكن كوكبا صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع. ومعنى هذا: كن مهاجريا. فإن قلت: لا أجد، فكن أنصاريا. فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد ابن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخى أنت من قوم قال الله فيهم: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الآية. قال لا! قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية «1» فأنت من قوم قال الله فيهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ الآية. وقد قيل: إن محمد ابن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، روى عن أبيه: أن نفرا من أهل العراق جاءوا إليه، فسبوا أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- ثم عثمان- رضي الله عنه- فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا لا. فقال: أفمن الذين تبوءوا الدار والايمان من
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من س، هـ.

قبلهم؟ فقالوا لا. فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ قوموا، فعل الله بكم وفعل!! ذكره النحاس. الثانية- هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة، لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحدا منهم أو اعتقد فيه شرا إنه لا حق له في الفيء، روي ذلك عن مالك وغيره. قال مالك: من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في في المسلمين، ثم قرأ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية. الثالثة- هذه الآية تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والأرض شملا «1» بين المسلمين أجمعين، كما فعل عمر رضي الله عنه، إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمرا فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس عليه وأن هذه الآية قاضية بذلك، لان الله تعالى أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف: المهاجرين والأنصار- وهم معلمون- وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ. فهي عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أن رأيت «2» إخواننا) قالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ فقال: (بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض). فبين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم، لا كما قال السدي والكلبي: إنهم الذين هاجروا بعد ذلك. وعن الحسن أيضا وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ من قصد إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة.
__________
(1). كذا في الأصول. والمراد جعلها عامة شاملة بين المسلمين.
(2). في صحيح مسلم:" أنا قد رأينا ...".

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)

الرابعة- قوله تعالى: (يَقُولُونَ) نصب في موضع الحال، أي قائلين. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) فيه وجهان: أحدهما- أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الامة من مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة رضي الله عنها فأمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم. الثاني: أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالاستغفار لأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وقالت عائشة: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد فسببتموهم، سمعت نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا تذهب هذه الامة حتى يلعن آخرها أولها) وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعن الله أشركم). وقال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الامة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم. وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا تثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وإدحاض حجتهم. أعاذنا الله وإياكم من الاهواء المضلة. وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي حقدا وحسدا (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)

[سورة الحشر (59): آية 11]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)

لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)

تعجب «1» من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا. ومن جملة المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد. وقيل: رافعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا، وقالوا ليهود قريظة والنضير: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ). وقيل: هو من قول بني النضير لقريظة. وقوله: (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) يعنون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نطيعه في قتالكم. وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهة علم الغيب، لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا، وقوتلوا فلم ينصروهم، كما قال الله تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي في قولهم وفعلهم.

[سورة الحشر (59): آية 12]
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)
قوله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أي منهزمين. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ قيل: معنى لا يَنْصُرُونَهُمْ طائعين. وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ مكرهين لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ. وقيل: معنى لا يَنْصُرُونَهُمْ لا يدومون على نصرهم. هذا على أن الضميرين متفقان. وقيل: إنهما مختلفان، والمعنى لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون، ولين قوتلوا لا ينصرونهم. وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ أي ولين نصر اليهود المنافقين لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ. وقيل: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ أي علم الله منهم أنهم لا يخرجون إن أخرجوا. وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ أي علم الله منهم ذلك. ثم قال: لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ فأخبر عما قد أخبر أنه لا يكون كيف كان يكون لو كان؟ وهو كقوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا «2» عَنْهُ [الانعام: 28]. وقيل: معنى وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ أي ولين شئنا أن ينصروهم زينا ذلك لهم. لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ.
__________
(1). في أ:" عجب".
(2). راجع ج 6 ص 410.

لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)

[سورة الحشر (59): آية 13]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13)
قوله تعالى: (لَأَنْتُمْ) يا معشر المسلمين (أَشَدُّ رَهْبَةً) أي خوفا وخشية (فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) يعني صدور بني النضير. وقيل: في صدور المنافقين. ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين، أي يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ذلك الخوف. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.

[سورة الحشر (59): آية 14]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
قوله تعالى: (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) يعني اليهود (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أي بالحيطان والدور، يظنون أنها تمنعهم منكم. (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي من خلف حيطان يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. وقراءة العامة جُدُرٍ على الجمع، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، لأنها نظير قوله تعالى: فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ وذلك جمع. وقرا ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو" جدار" على التوحيد، لان التوحيد يؤدي عن الجمع. وروي عن بعض المكيين" جدر" (بفتح الجيم وإسكان الدال)، وهي لغة في الجدار. ويجوز أن يكون معناه من وراء نخيلهم وشجرهم، يقال: أجدر النخل إذا طلعت رءوسه في أول الربيع. والجدر: نبت واحدته جدره. وقرى" جدر" (بضم الجيم وإسكان الدال) جمع الجدار. ويجوز أن تكون الالف في الواحد كألف كتاب، وفي الجمع كألف ظراف. ومثله ناقة هجان ونوق هجان، لأنك تقول في التثنية: هجانان، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى، قاله ابن جني.

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)

قوله تعالى: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يعني عداوة بعضهم لبعض. وقال مجاهد: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي بالكلام والوعيد لنفعلن كذا. وقال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد. وقيل: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي إذا لم يلقوا عدوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، ولكن إذا لقوا العدو انهزموا. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى يعني اليهود والمنافقين، قاله مجاهد. وعنه أيضا يعني المنافقين. الثوري: هم المشركون واهل الكتاب. وقال قتادة: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أي مجتمعين على أمر وراي. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة. فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وعن مجاهد أيضا: أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود، وهذا ليقوي أنفس المؤمنين عليهم. وقال الشاعر:
إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى وهي أمس جمع
وفي قراءة ابن مسعود" وقلوبهم أشت" يعني أشد تشتيتا، أي أشد اختلافا. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك التشتيت والكفر بأنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله.

[سورة الحشر (59): آية 15]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
قال ابن عباس: يعني به قينقاع، أمكن الله منهم قبل بني النضير. وقال قتادة: يعني بني النضير، أمكن الله منهم قبل قريظة. مجاهد: يعني كفار قريش يوم بدر. وقيل: هو عام في كل من انتقم منه على كفره قبل بني الضير من نوح إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومعنى وَبالَ جزاء كفرهم. ومن قال: هم بنو قريظة، جعل وَبالَ أَمْرِهِمْ نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية. وهو قول الضحاك. ومن قال المراد بنو النضير قال: وَبالَ أَمْرِهِمْ الجلاء والنفي. وكان بين النضير وقريظة سنتان. وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، فلذلك قال: قَرِيباً وقد قال قوم: غزوة بني النضير بعد وقعة أحد. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» في الآخرة.
__________
(1). كلمة أَلِيمٌ ساقطة من هـ.

كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)

[سورة الحشر (59): الآيات 16 الى 17]
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف، ولم يقل: وكمثل الشيطان، لان حذف حرف العطف كثير كما تقول: أنت عاقل أنت كريم أنت عالم. وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر، راهب تركت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفا أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له فتبرأ منه فأسلمه. ذكره القاضي إسماعيل وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر خبره مطولا ابن عباس ووهب بن منبه. ولفظهما مختلف. قال ابن عباس في قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ: كان راهب في الفترة يقال له: برصيصا، قد تعبد في صومعته سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، حتى أعيا إبليس، فجمع إبليس مردة الشياطين فقال: ألا أجد منكم من يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذي قصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي، فجاء جبريل فدخل بينهما، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند فذلك قوله تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «1» [التكوير: 20] فقال: أنا أكفيكه، فانطلق فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوما، ولا يفطر إلا في كل عشره أيام، وكان يواصل العشرة
__________
(1). راجع ج 19 ص 238. [.....]

الأيام والعشرين والأكثر، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا من صلاته، رأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فندم حين لم يجبه، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أن أكون معك، فأتأدب بأدبك، وأقتبس من عملك، ونجتمع على العبادة، فقال: إني في شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض أيضا على الصلاة، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده وعبادته قال له: ما حاجتك؟ فقال: أن تأذن لي فارتفع إليك. فأذن له فأقام الأبيض معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعين يوما يوما واحدا، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما مد إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه. ثم قال الأبيض: عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلي والمجنون، فعلمه إياها. ثم جاء إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. ثم تعرض لرجل فخنقه، ثم قال لأهله- وقد تصور في صورة الآدميين-: إن بصاحبكم جنونا أفأطبه؟ قالوا نعم. فقال: لا أقوى على جنيته، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، فجاءوه فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنه الشيطان. ثم جعل الأبيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون. فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكا فمات واستخلف أخاه، وكان عمها ملكا في بني إسرائيل فعذبها وخنقها. ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال: إن شيطانها مارد لا يطاق، ولكن اذهبوا بها إلى برصيصا فدعوها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت، فقالوا: لا يجيبنا إلى هذا، قال: فابنوا صومعة في جانب صومعته ثم ضعوها فيها، وقولوا: هي أمانة عندك فاحتسب فيها. فسألوه ذلك فأبى، فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية، فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده، فجاءها الشيطان فخنقها فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها. وكان يكشف عنها ويتعرض بها لبرصيصا، ثم جاءه الشيطان فقال: ويحك! واقعها، فما تجد

مثلها ثم تتوب بعد ذلك. فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها. فقال له الشيطان: ويحك! قد افتضحت. فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تفتضح، فإن جاءوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها. فقتلها برصيصا ودفنها ليلا، فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجا من التراب، ورجع برصيصا إلى صلاته. ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال: إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا، وقتلها ودفنها في جبل كذا وكذا، فاستعظموا ذلك وقالوا لبرصيصا: ما فعلت أختنا؟ فقال: ذهب بها شيطانها، فصدقوه وانصرفوا. ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال: إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف ردائها خارج من التراب، فانطلقوا فوجدوها، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه، وحملوه إلى الملك فأقر على نفسه فأمر بقتله. فلما صلب قال الشيطان: أتعرفني؟ قال لا والله قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد بني إسرائيل ثم لم يكفك صنيعك حتى فضحت نفسك، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس فان مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. فقال: كيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم. قال: وما ذاك؟ قال تسجد لي سجدة واحدة، فقال: أنا أفعل، فسجد له من دون الله. فقال: يا برصيصا، هذا أردت منك، كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك، إني برئ منك، إني أخاف الله رب العالمين. وقال وهب ابن منبه: إن عابدا كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكرا، ليست لهم أخت غيرها، فخرج البعث على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم، ولا عند من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. قال فاجتمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غزاتهم، فأبى ذلك عليهم وتعوذ بالله منهم ومن أختهم. قال فلم يزالوا به حتى أطمعهم «1» فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا، ينزل إليها الطعام من
__________
(1). كذا في الأصول. ولعلها" أطاعهم".

صومعته، فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها. قال: فلبث بذلك زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر، وقال له: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك، قال: فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها قال: فلبثت بذلك زمانا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه، وقال: لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة. قال: فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع عليها من فوق صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد على باب بيتها فتحدثك كان أنس لها. فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها، وتخرج الجارية من بيتها، فلبثا زمانا يتحدثان، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من باب بيتها كان آنس لها. فلم يزل به حتى فعل. قال: فلبثا زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له: لو دنوت من باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها، ففعل. فكان ينزل من صومعته فيقعد على باب بيتها فيحدثها. فلبثا بذلك حينا ثم جاءه إبليس فقال: لو دخلت البيت معها تحدثها ولم تتركها تبرز وجهها لاحد كان أحسن بك. فلم يزل به حتى دخل البيت، فجعل يحدثها نهاره كله، فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها. فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاما، فجاءه إبليس فقال له: أرأيت أن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك! كيف تصنع! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك! فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل. فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها. فلم يزل به حتى ذبحها

وألقاها في الحفيرة مع ابنها، وأطبق عليها صخرة عظيمة، وسوى عليها التراب، وصعد في صومعته يتعبد فيها، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، حتى قفل إخوتها من الغزو، فجاءوه فسألوه عنها فنعاها لهم وترحم عليها، وبكى لهم وقال: كانت خير أمة، وهذا قبرها فانظروا إليه. فأتى إخوتها القبر فبكوا على قبرها وترحموا عليها، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم. فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم، فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها، فكذبه الشيطان وقال: لم يصدقكم أمر أختكم، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فزعا منكم، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله. فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما هنالك جميعا كما أخبرتكم. قال: وأتى الأوسط في منامه وقال له مثل ذلك. ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك. فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض، يقول كل واحد منهم: لقد رأيت عجبا، فأخبر بعضهم بعضا بما رأى. قال أكبرهم: هذا حلم ليس بشيء، فامضوا بنا ودعوا هذا. قال أصغرهم: لا أمضي حتى أتي ذلك المكان فأنظر فيه. قال: فانطلقوا جميعا حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم، فسألوا العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدوا «1» عليه ملكهم، فأنزل من صومعته فقدموه ليصلب، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحت ابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلصتك مما أنت فيه. قال: فكفر العابد بالله، فلما كفر خلى عنه الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه. قال: ففيه نزلت هذه الآية: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ- إلى
قوله- جَزاءُ الظَّالِمِينَ.
__________
(1). أي استعانوا به فأنصفهم منه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قال ابن عباس: فضرب الله هذا مثلا للمنافقين مع اليهود. وذلك أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام أن يجلي بنى النضير من المدينة، فدس إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم كنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخذلهم المنافقون، وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد. فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقية «1» والكتمان. وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أم جريج الراهب، وبرأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس. وقيل: المعنى مثل المنافقين في غدرهم «2» لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي «3» جارٌ لَكُمْ [الأنفال: 48] الآية. وقال مجاهد المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم. ومعنى قول تعالى: إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أي أغواه حتى قال: إني كافر. وليس قول الشيطان: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ وفتح الياء من (إني) نافع وابن كثير وأبو عمرو. وأسكن الباقون. (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) نصب على الحال. والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان. ومن جعلها في الجنس فالمعنى: وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين. ونصب عاقِبَتَهُما على أنه خبر كان. والاسم أَنَّهُما فِي النَّارِ وقرا الحسن (فكان عاقبتهما) بالرفع على الضد من ذلك. وقرا الأعمش" خالدان فيها" بالرفع وذلك خلاف المرسوم. ورفعه على أنه خبر" أن" والظرف ملغى.

[سورة الحشر (59): آية 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
__________
(1). أي يظهرون الصلح والاتفاق وباطنهم بخلاف ذلك.
(2). في أ:" وعدهم".
(3). راجع ج 8 ص 26.

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)

قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يعني يوم القيامة. والعرب تكني عن المستقبل بالغد. وقيل: ذكر الغد تنبيها على أن الساعة قريبة، كما قال الشاعر:
وإن غدا للناظرين قريب «1»

وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلها كغد. ولا شك أن كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى ما قَدَّمَتْ يعني من خير أو شر. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أعاد هذا تكريرا، كقولك: اعجل اعجل، ارم ارم. وقيل التقوى الاولى التوبة فيما مضى من الذنوب، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قال سعيد بن جبير: أي بما يكون منكم. والله اعلم.

[سورة الحشر (59): آية 19]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)
قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ) أي تركوا أمره (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أن يعلموا لها خيرا، قاله ابن حبان. وقيل: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم، قاله سفيان. وقيل: نَسُوا اللَّهَ بترك شكره وتعظيمه. فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضا، حكاه ابن عيسى. وقال سهل بن عبد الله: نَسُوا اللَّهَ عند الذنوب فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ
عند التوبة. ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في فَأَنْساهُمْ إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه الذي تركوه. وقيل: معناه وجدهم تاركين أمره ونهيه، كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا. وقيل: نَسُوا اللَّهَ في الرخاء (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ في الشدائد. (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قال ابن جبير: العاصون. وقال ابن زيد: الكاذبون. واصل الفسق الخروج، أي الذين خرجوا عن طاعة الله.
__________
(1). في فرائد اللئالي: أن قائل هذا هو فراد بن أجدع للنعمان بن المندز. ولفظ البيت:
فإن بك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب

[سورة الحشر (59): آية 20]
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)

قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي في الفضل والرتبة (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي المقربون المكرمون. وقيل: الناجون من النار. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في" المائدة" عند قوله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ «1». [المائدة: 100] وفي سورة" السجدة" عند قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «2» [السجدة: 18]. وفي سورة" ص" أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ «3» كَالْفُجَّارِ [ص: 28] فلا معنى للإعادة، والحمد لله «4».

[سورة الحشر (59): آية 21]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
21 قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً) حث على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة، أي متشققة من خشية الله. والخاشع: الذليل. والمتصدع: المتشقق. وقيل: خاشِعاً لله بما كلفه من طاعته. مُتَصَدِّعاً من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه. وقيل: هو على وجه المثل للكفار. قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي إنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع لوعده وتصدع لوعيده وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من
__________
(1). راجع ج 6 ص ص 327.
(2). راجع ج 14 ص 105.
(3). راجع ج 15 ص 101.
(4). جملة" والحمد لله" ساقطة من أ.

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)

وعيده وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، وتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتنانا عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. وقيل: إنه خطاب للامة، وأن الله تعالى لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله. والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتا، فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على رده إن عصى، لأنه موعود بالثواب، ومزجور بالعقاب.

[سورة الحشر (59): آية 22]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) قال ابن عباس: عالم السر والعلانية. وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل. عالم بالآخرة والدنيا. وقيل: الْغَيْبِ ما لم يعلم العباد ولا عاينوه. وَالشَّهادَةِ ما علموا وشاهدوا. (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) تقدم».

[سورة الحشر (59): آية 23]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) أي المنزه عن كل نقص، والطاهر عن كل عيب. والقدس (بالتحريك): السطل بلغة أهل الحجاز، لأنه يتطهر به. ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء من البئر بالسانية «2». وكان سيبويه يقول: قدوس وسبوح، بفتح أولهما. وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابيا فصيحا يكني أبا الدينار يقرأ الْقُدُّوسُ بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على
__________
(1). راجع ج 1 ص 103.
(2). من معنى السانية: الدلو وأدواته. والمراد هنا الأدوات إلى يستخرج بها الماء.

فعول فهو مفتوح الأول، مثل سفود «1» وكلوب وتنور وسمور وشبوط، إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان. وكذلك الذروح «2» بالضم وقد يفتح. (السَّلامُ) أي ذو السلامة من النقائص. وقال ابن العربي: اتفق العلماء رحمة الله عليهم على أن معنى قولنا في الله السَّلامُ: النسبة، تقديره ذو السلامة. ثم اختلفوا في ترجمة النسبة على ثلاثة أقوال: الأول: معناه الذي سلم من كل عيب وبرئ من كل نقصى. الثاني: معناه ذو السلام، أي المسلم على عباده في الجنة، كما قال: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58]. الثالث: أن معناه الذي سلم الخلق من ظلمه. قلت: وهذا قول الخطابي، وعليه والذي قبله يكون صفة فعل. وعلى أنه البرئ من العيوب والنقائص يكون صفة ذات. وقيل: السَّلامُ معناه المسلم لعباده. الْمُؤْمِنُ) أي المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب. وقيل: المؤمن الذي يؤمن أولياءه من عذابه ويؤمن عباده من ظلمه، يقال: آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف، كما قال تعالى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «3» [قريش: 4] فهو مؤمن، قال النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند «4»
وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقول: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «5» [آل عمران: 18]. وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار. وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي، حتى إذا لم يبق فيها من يوافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم
__________
(1). السفود: حديدة يشوى عليها اللحم، والجمع سفافيد. والكلوب: حديدة معطوفة كالخطاف. والتنور: الكانون يخبز فيه. والسمور: حيوان برى يشبه السنور يتخذ من جلده فراء ثمينة للينها وخفتها وادفائها وحسنها. والشبوط: سمك رقيق الذنب عريض الوسط لين المس صغير الرأس. والجمع شبابيط.
(2). الذروح: دويبة حمراء منقطة بسواد تطير، وهى من السموم القاتلة. [.....]
(3). راجع ج 20 ص 209.
(4). العائذات: ما عاذ بالبيت من الطير. والغيل: الشجر الكثير الملتف. والسند: ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح.
(5). راجع ج 4 ص 40.

المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين. (الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ) تقدم الكلام في المهيمن في" المائدة" «1» وفى الْعَزِيزُ في غير موضع «2»، (الْجَبَّارُ) قال ابن عباس: هو العظيم. وجبروت الله عظمته. وهو على هذا القول صفة ذات، من قولهم: نخلة جبارة. قال امرؤ القيس:
سوامق جبار أثيث فروعه ... وعالين قنوانا من البسر أحمرا «3»
يعني النخلة التي فاتت اليد. فكان هذا الاسم يدل على عظمة الله وتقديسه عن أن تناله النقائص وصفات الحدث. وقيل: هو من الجبر وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم فجبر، إذا أصلحته بعد الكسر، فهو فعال من جبر إذا أصلح الكسير وأغنى الفقير. وقال الفراء: هو من أجبره على الامر أي قهره. قال: ولم أسمع فعالا من أفعل إلا في جبار ودراك من أدرك. وقيل: الْجَبَّارُ الذي لا تطاق سطوته. (الْمُتَكَبِّرُ) الذي تكبر بربوبيته فلا شي مثله. وقيل: الْمُتَكَبِّرُ عن كل سوء المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم. واصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلة الانقياد. وقال حميد بن ثور:
عفت مئل ما يعفو الفصيل فأصبحت ... بها كبرياء الصعب وهي ذلول
والكبرياء في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار (. وقيل: المتكبر معناه العالي. وقيل: معناه الكبير لأنه أجل من أن يتكلف كبرا. وقد يقال: تظلم بمعنى ظلم، وتشتم بمعنى شتم، واستقر بمعنى قر. كذلك المتكبر بمعنى الكبير. وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف بتفعل إذا نسب إلى ما لم يكن منه. ثم نزه نفسه فقال: (سُبْحانَ اللَّهِ) أي تنزيها لجلالته وعظمته عَمَّا يُشْرِكُونَ.
__________
(1). راجع ج 6 ص 210.
(2). راجع ج 2 ص 131.
(3). سوامق: مرتفعات. والاثيث: الملتف. والقنوان: العذق.

هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

[سورة الحشر (59): آية 24]
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) الْخالِقُ هنا المقدر. والْبارِئُ المنشئ المخترع. والْمُصَوِّرُ مصور الصور ومركبها على هيئات مختلفه. فالتصوير مرتب على الخلق والبراية «1» وتابع لهما. ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل. وخلق الله الإنسان في أرحام الأمهات ثلاث خلق: جعله علقة، ثم مضغة، ثم جعله صورة وهو التشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. وقال النابغة:
الخالق البارئ المصور في ال ... أرحام ماء حتى يصير دما
وقد جعل بعض الناس الخلق بمعنى التصوير، وليس كذلك، وإنما التصوير آخرا والتقدير أولا والبراية بينهما. ومنه قول الحق: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ «2» [المائدة: 110]. وقال زهير:
ولانت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
يقول: تقدم ما تقدر ثم تفريه، أي تمضيه على وفق تقديرك، وغيرك يقدر ما لا يتم له ولا يقع فيه مراده، إما لقصوره في تصور تقديره أو لعجزه عن تمام مراده. وقد أتينا على هذا كله في" الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" والحمد لله. وعن حاطب ابن أبي بلتعة أنه قرأ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ بفتح الواو ونصب الراء، أي الذي يبرأ المصور، أي يميز ما يصوره بتفاوت الهيئات. ذكره الزمخشري. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم الكلام فيه «3». وعن أبي هريرة قال: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اسم الله الأعظم فقال: (يا أبا هريرة،
__________
(1). كذا في نسخ الأصل. والذي في كتب اللغة:" برأ الله الخلق برءا وبروءا".
(2). راجع ج 6 ص 362
(3). راجع ج 1 ص 287 وج 2 ص 131 وج 10 ص 266)
(

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)

عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها) فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي. وقال جابر بن زيد: إن اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر). وعن أبي أمامة قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فقبضه الله في تلك الليلة أو ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة (.

[تفسير سورة الممتحنة]
سورة الممتحنة مدنية في قول الجميع، وهى ثلاث عشرة آية الممتحنة (بكسر الحاء) أي المختبرة، أضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة" براءة" المبعثرة والفاضحة، لما كشفت من عيوب المنافقين. ومن قال في هذه السورة: الممتحنة (بفتح الحاء) فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قال الله تعالى: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ [الممتحنة: 10] الآية «1». وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الممتحنة (60): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
__________
(1). راجع ص 61 من هذا الجزء.

قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) عدى اتخذ إلى مفعولين وهما عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ. والعدو فعول من عدا، كعفو من عفا. ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجماعة إيقاعه على الواحد. وفى هذه الآية سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) روى الأئمة- واللفظ لمسلم- عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا والزبير والمقداد فقال: (ائتوا روضة خاخ «1» فإن بها ظعينة «2» معها كتاب فخذوه منها) فانطلقنا تعادى «3» بنا خيلنا، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة ... إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا حاطب ما هذا؟ قال لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت أمرأ ملصقا في قريش قال سفيان: كان حليفا لهم، ولم يكن من أنفسها وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صدق). فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: (إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ. قيل: اسم المرأة سارة من موالي قريش. وكان في الكتاب: أما بعد، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لاظفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره. ذكره بعض المفسرين.
__________
(1). موضع بين مكة والمدينة على اثنى عشر ميلا من المدينة.
(2). الظعينة: هي المرأة في الهودج. ولا يقال ظعينة إلا وهى كذلك.
(3). أي تجرى.

وذكر القشيري والثعلبي: أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن، وكان له حلف بمكة في بني أسد بن عبد العزى رهط الزبير بن العوام. وقيل: كان حليفا للزبير بن العوام، فقدمت من مكة سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام بن عبد مناف إلى المدينة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتجهز لفتح مكة. وقيل: كان هذا في زمن الحديبية، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أمهاجرة جئت يا سارة). فقالت لا. قال: (أمسلمة جئت) قالت لا. قال: (فما جاء بك) قالت: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة، وقد ذهب الموالي- تعني قتلوا يوم بدر- وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني، فقال عليه الصلاة والسلام: (فأين أنت عن شباب أهل مكة) وكانت مغنية، قالت: ما طلب مني شي بعد وقعة بدر. فحث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها، فكسوها وأعطوها وحملوها فخرجت إلى مكة، وأتاها حاطب فقال: أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة. وكتب في الكتاب: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدكم فخذوا حذركم. فخرجت سارة، ونزل جبريل فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فبعث عليا والزبير وأبا مرثد الغنوي. وفي رواية: عليا والزبير والمقداد. وفي رواية: أرسل عليا وعمار بن ياسر. وفي رواية: عليا وعمار اوعمر والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد- وكانوا كلهم فرسانا- وقال لهم: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها فان لم تدفعه لكم فأضربوا عنقها) فأدركوها في ذلك المكان، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت ما معها كتاب، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا، فهموا بالرجوع فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذبنا! وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا والله لأجردنك ولأضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها- وفي رواية من حجزتها «1»- فخلوا سبيلها ورجحوا بالكتاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأرسل إلى حاطب فقال:
__________
(1). الحجزة: معقد الإزار. وموضع التكة من السراويل. [.....]

(هل تعرف الكتاب؟) قال نعم. وذكر الحديث بنحو ما تقدم. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم. الثانية- السورة أصل في النهي عن مولاة الكفار. وقد مضى ذلك في غير موضع «1». من ذلك قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 28]. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118]. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51]. ومثله كثير. وذكر أن حاطبا لما سمع يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا غشي عليه من الفرح بخطاب الايمان. الثالثة- قوله تعالى: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) يعني بالظاهر، لان قلب حاطب كان سليما، بدليل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: (أما صاحبكم فقد صدق) وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. والباء في بِالْمَوَدَّةِ زائدة، كما تقول: قرأت السورة وقرأت بالسورة، ورميت إليه ما في نفسي وبما في نفسي. ويجوز أن تكون ثابتة على أن مفعول تُلْقُونَ محذوف، معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وكذلك تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بسبب المودة. وقال الفراء: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ من صلة أَوْلِياءَ ودخول الباء في المودة وخروجها سواء. ويجوز أن تتعلق ب لا تَتَّخِذُوا حالا من ضميره. وب أَوْلِياءَ صفة له، ويجوز أن تكون استئنافا. ومعنى تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم، وقاله الزجاج. الرابعة: من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين.
__________
(1). راجع ج 4 ص 57 و178 وج 6 ص 216.

الخامسة- إذا قلنا لا يكون بذلك كافرا فهل يقتل بذلك حدا أم لا؟ اختلف الناس فيه، فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد في ذلك الامام. وقال عبد الملك: إذا كانت عادته تلك قتل، لأنه جاسوس، وقد قال مالك بقتل الجاسوس- وهو صحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض. ولعل ابن الماجشون إنما اتخذ التكرار في هذا لان حاطبا أخذ في أول فعله. والله أعلم. السادسة- فإن كان الجاسوس كافرا فقال الأوزاعي: يكون نقضا لعهده وقال أصبغ: الجاسوس الربي يقتل، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بعين للمشركين اسمه فرات بن حيان، فأمر به أن يقتل، فصاح: يا معشر الأنصار، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فأمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخلى سبيله. ثم قال: (إن منكم من أكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان). وقوله: وَقَدْ كَفَرُوا حال، إما من لا تَتَّخِذُوا وإما من تُلْقُونَ أي لا تتولوهم أو توادوهم، وهذه حالهم. وقرا الجحدري (لما جاءكم) أي كفروا لأجل ما جاءكم من الحق. السابعة- قوله تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ استئناف كلام كالتفسير لكفرهم وعتوهم، أو حال من كَفَرُوا. وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تعليل ل يُخْرِجُونَ المعنى يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لان تؤمنوا بالله أي لأجل إيمانكم بالله. قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فلا تلقوا إليهم بالمودة. وقيل: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي شرط وجوابه مقدم. والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. ونصب جِهاداً وابْتِغاءَ لأنه مفعول له. وقوله: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بدل من

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)

تُلْقُونَ ومبين عنه. والافعال تبدل من الافعال، كما قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «1» [الفرقان: 69- 68]. وأنشد سيبويه:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
وقيل: هو على تقدير أنتم تسرون إليهم بالمودة، فيكون استئنافا. وهذا كله معاتبة لحاطب. وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه «2». كما قال:
أعاتب ذا المودة من صديق ... إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ود ... ويبقى الود ما بقي العتاب
ومعنى بِالْمَوَدَّةِ أي بالنصيحة في الكتاب إليهم. والباء زائدة كما ذكرنا، أو ثابتة غير زائدة. قوله تعالى: (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ) أضمرتم وَما أَعْلَنْتُمْ أظهرتم. والباء في بِما زائدة، يقال: علمت كذا وعلمت بكذا. وقيل: وأنا اعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون، فحذف من كل أحد. كما يقال فلان اعلم وأفضل من غيره. وقال ابن عباس: وأنا اعلم بما أخفيتم في صدوركم، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد. (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي من يسر إليهم ويكاتبهم منكم (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي أخطأ قصد الطريق.

[سورة الممتحنة (60): آية 2]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
قوله تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يلقوكم ويصادفوكم، ومنه المثاقفة، أي طلب مصادفة الغرة في المسايفة وشبهها. وقيل: يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم ويتمكنوا منكم
__________
(1). راجع ج 13 ص 75.
(2). في ح، ز، س:" لحبيب".

لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)

(يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالشتم. (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) بمحمد، فلا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم.

[سورة الممتحنة (60): آية 3]
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قوله تعالى: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) لما اعتذر حاطب بأن له أولادا وأرحاما فيما بينهم، بين الرب عز وجل أن الأهل والأولاد لا ينفعون شيئا يوم القيامة إن عصي من أجل ذلك. (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكافرين النار. وفي يَفْصِلُ قراءات سبع: قرأ عاصم" يفصل" بفتح الياء وكسر الصاد مخففا. وقرا حمزة والكسائي مشددا إلا أنه على ما لم يسم فاعله. وقرا طلحة والنخعي بالنون وكسر الصاد مشددة. وروي عن علقمة كذلك بالنون مخففة. وقرا قتادة وأبو حيوة" يفصل" بضم الياء وكسر الصاد مخففة من أفصل. وقرا الباقون" يفصل" بياء مضمومة وتخفيف الفاء وفتح الصاد على الفعل المجهول، واختاره أبو عبيد. فمن خفف فلقوله: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ «1» [الانعام: 57] وقوله: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ «2» [الدخان: 40]. ومن شدد فلان ذلك أبين في الفعل الكثير المكرر المتردد. ومن أتى به على ما لم يسم فاعله فلان الفاعل معروف. ومن أتى به مسمى الفاعل رد الضمير إلى الله تعالى. ومن قرأ بالنون فعلى التعظيم. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

[سورة الممتحنة (60): الآيات 4 الى 5]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
__________
(1). راجع ج 6 ص 483.
(2). ج 16 ص 147.

قوله تعالى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) لما نهى عز وجل عن مولاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار، أي فاقتدوا به وأتموا، إلا في استغفاره لأبيه. والأسوة والأسوة ما يتأسى به، مثل القدوة والقدوة. ويقال: هو أسوتك، أي مثلك وأنت مثله. وقرا عاصم أُسْوَةٌ بضم الهمزة لغتان. (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين. وقال ابن زيد: هم الأنبياء (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) الكفار (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي الأصنام. وبُرَآؤُا جمع برئ، مثل شريك وشركاء، وظريف وظرفاء. وقراءة العامة على وزن فعلاء. وقرا عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق" براء" بكسر الباء على وزن فعال، مثل قصير وقصار، وطويل وطوال، وظريف وظراف. ويجوز ترك الهمزة حتى تقول: برا، وتنون. وقرى" براء" على الوصف بالمصدر. وقرى" براء" على إبدال الضم من الكسر، كرخال ورباب «1». والآية نص في الامر بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام في فعله. وذلك يصحح أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله. (كَفَرْنا بِكُمْ) أي بما آمنتم به من الأوثان. وقيل: أي بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن تكونوا على حق. (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفرون للمشركين، فإنه كان عن
__________
(1). رخال: جمع رخل، الأنثى من أولاد الضأن. والرباب: جمع الربى، الشاة التي وضعت حديثا. وقيل: إذا مات ولدها.

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)

موعدة منه له قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه، ثم بين عذره في سورة" التوبة" «1». وفى هذا دلالة على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء، لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «2» [الحشر: 7] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله. وقيل: هو استثناء منقطع، أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، إنما جرى لأنه ظن أنه أسلم، فلما بان له أنه لم يسلم تبرأ منه. وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظن، فلم توالوهم. (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) هذا من قول إبراهيم عليه السلام لأبيه، أي ما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به. (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) هذا من دعاء إبراهيم عليه السلام وأصحابه. وقيل: علم المؤمنين أن يقولوا هذا. أي تبرءوا من الكفار وتوكلوا على الله وقولوا: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا أي اعتمدنا (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي رجعنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) لك الرجوع في الآخرة (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تظهر عدونا علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل: لا تسلطهم علينا فيفتنونا ويعذبونا. (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

[سورة الممتحنة (60): الآيات 6 الى 7]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) أي في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء. (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي في التبرؤ من الكفار. وقيل: كرر للتأكيد. وقيل: نزل الثاني بعد
__________
(1). راجع ج 8 ص 274.
(2). راجع ص 17 من هذا الجزء.

لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)

الأول بمدة، وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه. (وَمَنْ يَتَوَلَّ) أي عن الإسلام وقبول هذه المواعظ (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ) أي لم يتعبدهم لحاجته إليهم. (الْحَمِيدُ) في نفسه وصفاته. ولما نزلت عادى المسلمون أقرباءهم من المشركين فعلم الله شدة وجد المسلمين في ذلك فنزلت: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) وهذا بأن يسلم الكافر. وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وخالطهم المسلمون، كأبي سفيان ابن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. وقيل: المودة تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلانت عند ذلك «1» عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة. قال ابن عباس: كانت المودة بعد الفتح تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت تحت عبد الله بن جحش، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة. فأما زوجها فتنصر وسألها أن تتابعه على دينه فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية. فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى النجاشي فخطبها، فقال النجاشي لأصحابه: من أولاكم بها؟ قالوا: خالد بن سعيد بن العاص. قال فزوجها من نبيكم. ففعل، وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار. وقيل: خطبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عثمان بن عفان، فلما زوجه إياها بعث إلى النجاشي فيها، فساق عنه المهر وبعث بها إليه. فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته: ذلك الفحل لا يقدع أنفه." يقدع" بالدال غير المعجمة، يقال: هدا فحل لا يقدع أنفه، أي لا يضرب أنفه. وذلك إذا كان كريما.

[سورة الممتحنة (60): آية 8]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
__________
(1). العريكة: الطبيعة. ولانت عريكته: إذا انكسرت نخوته. والشكيمة: الأنفة. ومن اللجام: الحديدة المعترضة في الفم.

قوله تعالى: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) فيه ثلاث مسائل: الاولى- هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الامر بالقتال ثم نسخ. قال قتادة: نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» [التوبة: 5]. وقيل: كان هذا الحكم لعلة وهو الصلح، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى. وقيل: هي مخصوصة في حلفاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه، قاله الحسن. الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقاله أبو صالح، وقال: هم خزاعة. وقال مجاهد: هي مخصوصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا. وقيل: يعني به النساء والصبيان لأنهم ممن لا يقاتل، فأذن الله في برهم. حكاه بعض المفسرين. وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة. واحتجوا بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل تصل أمها حين قدمت عليها مشركة؟ قال: (نعم) خرجه البخاري ومسلم. وقيل: إن الآية فيها نزلت. روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن أبا بكر الصديق طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين كفار قريش، فأهدت، إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق قرطا وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له، فأنزل الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ. ذكر هذا الخبر الماوردي وغيره، وخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده. الثانية- قوله تعالى: (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أَنْ في موضع خفض على البدل من الَّذِينَ، أي لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم. وهم خزاعة، صالحوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم، حكاه الفراء. (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة. وليس يريد به من العدل، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، قاله ابن العربي.
__________
(1). راجع ج 8 ص 136.

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

الثالثة- قال القاضي أبو بكر في كتاب الأحكام له:" استدل به بعض من تعقد عليه الخناصر على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر. وهذه وهلة «1» عظيمة، إذ الاذن في الشيء أو ترك النهى عنه لا يدل على وجوبه، وإنما يعطيك الإباحة خاصة. وقد بينا أن إسماعيل بن إسحاق القاضي دخل عليه ذمي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم".

[سورة الممتحنة (60): آية 9]
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قوله تعالى: (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي جاهدوكم على الدين (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) وهم عتاة أهل مكة. (وَظاهَرُوا) أي عاونوا على إخراجكم وهم مشركو أهل مكة (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أَنْ في موضع جر على البدل على ما تقدم في أَنْ تَبَرُّوهُمْ. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي يتخذهم أولياء وأنصارا وأحبابا (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

[سورة الممتحنة (60): آية 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
__________
(1). وهل عن الشيء وفى الشيء- بالكسر-: إذا غلط فيه رمها.

قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) فيه ست عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) لما أمر المسلمين بترك مولاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة، فبين أحكام مهاجرة النساء. قال ابن عباس: جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية، على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم، فجاءت سعيدة «1» بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية بعد، فأقبل زوجها وكان كافرا- وهو صيفي بن الراهب. وقيل: مسافر المخزومي- فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يردها. وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فرد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخويها وحبسها، فقالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ردها علينا للشرط، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كان الشرط في الرجال لا في النساء) فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن عروة قال: كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية: ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل، يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك. وقيل إن التي جاءت أميمة بنت بشر، كانت عند ثابت بن الشمراخ ففرت منه وهو يومئذ كافر، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبد الله، قاله زيد بن حبيب. كذا قال الماوردي: أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ. وقال المهدوي: وروى ابن وهب عن خالد أن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف. وهي امرأة حسان بن الدحداح، وتزوجها بعد هجرتها سهل بن حنيف. وقال مقاتل: إنها سعيدة «2» زوجة صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة. والأكثر من أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة.
__________
(1). في الأصل المطبوع:" سبيعة" وهو تحريف. راجع أسد الغابة ج 5 ص 745.
(2). في الأصل المطبوع:" سبيعة" وهو تحريف. راجع أسد الغابة ج 5 ص 745.

الثانية- واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظا أو عموما، فقالت طائفة منهم: قد كان شرط ردهن في عقد المهادنة لفظا صريحا فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه، وبقاه في الرجال على ما كان. وهذا يدل على أن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجتهد رأيه «1» في الأحكام، ولكن لا يقره الله على خطأ. وقالت طائفة من أهل العلم: لم يشترط ردهن في العقد لفظا، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال. فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه. وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم. الثاني- أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم. فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم. الثالثة- قوله تعالى: (فَامْتَحِنُوهُنَّ) قيل: إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها فقالت: سأهاجر إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلذلك أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بامتحانهن. واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقوال: الأول: قال ابن عباس: كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منا، بل حبا لله ولرسوله. فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها، فذلك قوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. الثاني- أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قاله ابن عباس ايضا. الثالث- بما بينه في السورة بعد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ [الممتحنة: 12] قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمتحن إلا بالآية التي قال الله: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ [الممتحنة: 12] رواه معمر عن الزهري عن عائشة. خرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
__________
(1). الاجتهاد: بذل الوسع في طلب الامر. [.....]

الرابعة- أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشا، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء: كله منسوخ في الرجال والنساء، ولا يجوز أن يهادن الامام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما، لان إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز. وهذا مذهب الكوفيين. وعقد الصلح على ذلك جائز عند مالك. وقد احتج الكوفيون لما ذهبوا إليه من ذلك بحديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى قوم من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم، فوداهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصف الدية، وقال" أنا برئ من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى نارهما»
قالوا: فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين، إذ كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد برئ ممن أقام معهم في دار الحرب. ومذهب مالك والشافعي أن هذا الحكم غير منسوخ. قال الشافعي: وليس لاحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره، لأنه يلي الأموال كلها. فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود. الخامسة- قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) أي هذا الامتحان لكم، والله اعلم بإيمانهن، لأنه متولي السرائر. (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أي بما يظهر من الايمان. وقيل: إن علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أي لم يحل الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة. وهذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين. وإليه إشارة في مذهب مالك
__________ (1). الأصل في" تراءى" تتراءى. والترائي تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا وإسناد الترائي إلى النارين مجاز. أي يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله. ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم. وإنما كره مجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان وحث المسلمين على الهجرة. (عن نهاية ابن الأثير).

بل عبارة. والصحيح الأول، لان الله تعالى قال: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام وليس باختلاف الدار. والله اعلم. وقال أبو عمر: لا فرق بين الدارين لا في الكتاب ولا في السنة ولا في القياس، وإنما المراعاة في ذلك الدينان، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما، لا بالدار. والله المستعان. السادسة- قوله تعالى: (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أمر الله تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يرد على زوجها ما أنفق وذلك من الوفاء بالعهد، لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام، أمر برد المال إليه حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين: الزوجة والمال. السابعة- ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا. فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع. وإن كان المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا، لأنه لا قيمة له. وللشافعي في هذه الآية قولان: أحدهما: أن هذا منسوخ. قال الشافعي: وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهدنة مسلمة مهاجرة من دار الحرب إلى الامام في دار السلام أو في دار الحرب، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض. وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان: أحدهما- يعطي العوض، والقول ما قال الله عز وجل،. وفية قول آخر: أنه لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة العوض. فإن شرط «1» الامام رد النساء كان الشرط ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يرد النساء كان شرط من شرط رد النساء منسوخا وليس عليه عوض، لان الشرط المنسوخ باطل ولا عوض الباطل.
__________
(1). ما بين المربعين هكذا ورد في جميع نسخ الأصل، وهو مضطرب. وقد نقل المؤلف رحمه الله هذه المسألة من كتاب الناسخ والمنسوخ لابي جعفر النحاس ونصها فيه: وإن شرط الامام رد النساء كان الشرط متنقضا. ومن قال هذا قال: إن شرط رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الحديبية فيه إن يرد من جاء منهم، وكان النساء منهم كان شرطا صحيحا، فنسخه الله ورد العوض، فلما قضى الله عز وجل ثم رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يرد النساء كان شرط شرط رد النساء منسوخا وليس عليه أن يعوض، لان شرطه المنسوخ باطل ولا عوض الباطل".

الثامنة- أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج، وأن المخاطب بهذا الامام ينفذ مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف. وقال مقاتل: يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شي. وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق. والامر كما قاله «1». التاسعة- قوله تعالى: (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة. فإن أسلمت قبل الدخول «2» ثبت النكاح في الحال ولها التزوج. العاشرة- قوله تعالى: (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أباح نكاحها بشرط المهر، «3» لان الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر. الحادية عشرة- قوله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك. وهو اختيار أبي عبيد لقوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: 231]. وقرا الحسن وأبو العالية وأبو عمرو" ولا تمسكوا" مشددة من التمسك. يقال: مسك يمسك تمسكا، بمعنى أمسك يمسك. وقرى" ولا تمسكوا" بنصب التاء، أي لا تتمسكوا والعصم جمع العصمة، وهو ما اعتصم به. والمراد بالعصمة هنا النكاح. يقول: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها، فليست له امرأة، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك «4» في هذه الآية. فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين: قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة. وام كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة، فتزوجها أبو جهم بن حذافة وهما على شركهما. فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة لئلا يرى عمر سلبه في بيتك، فأبي معاوية من ذلك. وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى
__________
(1). في ح، ز، س:" كما قاله رحمه الله".
(2). ما بين المربعين ساقط من ح، ز، هـ.
(3). في س:" بشرط الإسلام، لان المهر والإسلام ...".
(4). كلمة:" ذلك" ساقطة من ح، س.

بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فر إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نساء الكفار، فحبسها وزوجها خالدا. وزوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب ابنته- وكانت كافرة- من أبي العاص بن الربيع، ثم أسلمت وأسلم زوجها بعدها. ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن رجل عن ابن شهاب قال: أسلمت زينب بنت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهاجرت بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهجرة الاولى، وزوجها أبو العاص بن الربيع عبد العزى مشرك بمكة. الحديث. وفية: أنه أسلم بعدها. وكذلك قال الشعبي. قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة أبي العاص بن الربيع، فأسلمت ثم لحقت بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أتى زوجها المدينة فأمنته فأسلم فردها عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس: بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئا. قال محمد بن عمر في حديثه: بعد ست سنين. وقال الحسن بن علي: بعد سنتين. قال أبو عمر: فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين: إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أن الامر فيها منسوخ بقول الله عز وجل: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ [البقرة: 228] يعني في عدتهن. وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أنه عني به العدة. وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله في قصة زينب هذه: كان قبل أن تنزل الفرائض. وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة" براءة" بقطع العهود بينهم وبين المشركين. والله اعلم. الثانية عشرة- قوله تعالى: (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب. وقيل: هي عامة، نسخ منها نساء أهل الكتاب. ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه. وعلى القول الأول إذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرق بينهما. وهذا قول بعض أهل العلم. ومنهم من قال: ينتظر بها تمام العدة. فمن قال يفرق بينهما في الوقت ولا ينتظر تمام العدة إذا عرض عليها الإسلام ولم تسلم- مالك بن أنس. وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء

وعكرمة وقتادة والحكم، واحتجوا بقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. وقال الزهري: ينتظر بها العدة. وهو قول الشافعي وأحمد. واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمر الظهران «1» ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال. ثم أسلمت بعده بأيام، فاستقرا على نكاحهما لان عدتها لم تكن انقضت. قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ لان نساء المسلمين محرمات على الكفار، كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر والوثنيات ولا المجوسيات بقول الله عز وجل: ولا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ثم بينت السنة أن مراد الله من قوله هذا أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الباقي منهما في العدة. وأما الكوفيون وهم سفيان وأبو حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا في الكافرين الذميين: إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام، فإن أسلم وإلا فرق بينهما. قالوا: ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعا في دار الحرب أو في دار الإسلام. وإن كان أحدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب انقطعت العصمة بينهما فراعوا الدار، وليس بشيء. وقد تقدم. الثالثة عشرة- هذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها، فإن كانت غير مدخول بها فلا نعلم اختلافا في انقطاع العصمة بينهما، إذ لا عدة عليها. كذا يقول مالك في المرأة ترتد زوجها مسلم: انقطعت العصمة بينهما. وحجته وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي. ومذهب الشافعي وأحمد أنه ينتظر بها تمام العدة. الرابعة عشرة- فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ففيها أيضا اختلاف. ومذهب مالك وأحمد والشافعي الوقوف إلى تمام العدة. وهو قول مجاهد. وكذا الوثني تسلم زوجته، إنه إن أسلم في عدتها فهو
أحق بها، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل
__________
(1). مر الظهران: قرية قرب مكة.

وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما، على حديث ابن شهاب. ذكره مالك في الموطأ. قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. ومن العلماء من قال: ينفسخ النكاح بينهما. قال يزيد بن علقمة: أسلم جدي ولم تسلم جدتي ففرق عمر بينهما رضي الله عنه، وهو قول طاوس. وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قالوا: لا سبيل عليها إلا بخطبة. الخامسة عشرة- قوله تعالى: (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها. ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها. وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالتين. وكان هذا حكم الله مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الامة، قال ابن العربي. السادسة عشرة- قوله تعالى: (ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ) أي ما ذكر في هذه الآية، (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تقدم في غير موضع «1».

[سورة الممتحنة (60): آية 11]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) في الخبر: أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم الله، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
__________
(1). راج ج 1 ص 287

أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا. وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: حكم الله عز وجل بينكم فقال جل ثناؤه: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا فكتب إليهم المسلمون: قد حكم الله عز وجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا بصداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها. فكتبوا إليهم: أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا، فإن كان لنا عندكم شي فوجهوا به، فأنزل الله عز وجل: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا
. وقال ابن عباس في قوله تعالى: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم إلى بعض. قال الزهري: ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إليهم صداقا. وقال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أيعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة. وقالا: هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد. وقالا: ومعنى فَعاقَبْتُمْ فاقتصصتم. فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا يعني الصدقات. فهي عامة في جميع الكفار. وقال قتادة أيضا: وإن فاتكم شي من أزواجكم إلى الكفار الذين «1» بينكم وبينهم عهد، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا. ثم نسخ هذا في سورة" براءة". وقال الزهري: انقطع هذا عام الفتح. وقال سفيان الثوري: لا يعمل به اليوم. وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضا. حكاه القشيري. الثانية- قوله تعالى: (فَعاقَبْتُمْ) قراءة العامة فَعاقَبْتُمْ وقرا علقمة والنخعي وحميد والأعرج" فعقبتم" مشددة. وقرا مجاهد" فأعقبتم" وقال: صنعتم كما صنعوا بكم. وقرا الزهري" فعقبتم" خفيفة بغير ألف. وقرا مسروق وشقيق بن سلمة" فعقبتم" بكسر القاف خفيفة. وقال: غنمتم. وكلها لغات بمعنى واحد. يقال: عاقب وعقب وعقب وأعقب وتعقب واعتقب وتعاقب إذا غنم. وقال القتبي فَعاقَبْتُمْ فغزوتم معاقبين غزوا بعد غزو. وقال ابن بحر: أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين.
__________
(1). في ح، ز، س، ط، ل، هـ" إلى الكفار الذين ليس بينكم وبينهم عهد" بزيادة" ليس".

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

الثالثة- قوله تعالى: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) قال ابن عباس: يقول إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري: يعطي من مال الفيء. وعنه يعطى من صداق من لحق بنا. وقيل: أي إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم. قال الأعمش: هي منسوخة. وقال عطاء: بل حكمها ثابت. وقد تقدم جميع هذا. القشيري: والآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت وتركت زوجها عياض ابن غنم القرشي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام. وحكى الثعلبي عن ابن عباس: هن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شداد الفهري «1». وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة، وكانت تحت عمر بن الخطاب، فلما هاجر عمر أبت وارتدت. وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان. وعبدة بنت عبد العزى، كانت تحت هشام بن العاص. وام كلثوم بنت جرول تحت عمر بن الخطاب. وشهبه بنت غيلان. فأعطاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهور نسائهم من الغنيمة. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.

[سورة الممتحنة (60): آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
فيها ثماني مسائل
__________
(1). هو عياض بن غنم بن زهير بن أبى شداد القرشي الفهري.

الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) «1» لما فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة جاء نساء أهل مكة يبايعنه، فأمر أن يأخذ عليهن ألا يشركن. وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمتحن بقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انطلقن فقد بايعتكن) ولا والله ما مست يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النساء قط إلا بما أمره الله عز وجل، وما مست كف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن (قد بايعتكن كلاما). وروي أنه عليه الصلاة والسلام بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن. وقيل: لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ومعه عمر أسفل منه، فجعل يشترط على النساء البيعة وعمر يصافحهن. وروي أنه كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن. ابن العربي: وذلك ضعيف، وإنما ينبغي التعويل على ما في الصحيح. وقالت أم عطية: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام، فقال: أنا رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكن، ألا تشركن بالله شيئا. فقلن نعم. فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمس يده فيه ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه. الثانية: روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً) قالت هند بنت عتبة وهي منتقبة خوفا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم أحد: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان بايع الرجال
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ل، ز.

يومئذ على الإسلام والجهاد فقط- فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ولا يسرفن) فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قوتنا. فقال أبو سفيان: هو لك حلال. فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفها وقال: (أنت هند)؟ فقالت: عفا الله عما سلف. ثم قال: (وَلا يَزْنِينَ) فقالت هند: أو تزني الحرة! ثم قال: (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ) أي لا يئدن الموءودات ولا يسقطن الأجنة. فقالت هند: ربينا هم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر. وروى مقاتل أنها قالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، وأنتم وهم اعلم. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. وكان حنظلة بن أبي سفيان وهو بكرها قتل يوم بدر. ثم قال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قيل: معنى بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ ألسنتهن بالنميمة. ومعنى بين أَرْجُلِهِنَّ فروجهن. وقيل: ما كان بين أيديهن من قبلة أو جسه، وبين أرجلهن الجماع وقيل: المعنى لا يلحقن برجالهن ولدا من غيرهم. وهذا قول الجمهور. وكانت المرأة تلتقط ولدا فتلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء. وقيل: ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد، لان بطنها الذي تحمل فيه الولد بين يديها، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها. وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج وإن سبق النهي عن الزنى. وروي أن هندا لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، ما تأمر إلا بالارشد ومكارم الأخلاق!. ثم قال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال قتادة: لا ينحن. ولا تخلو امرأة منهن إلا بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب، ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم: هو إلا يخمشن وجها. ولا يشققن جيبا، ولا يدعون ويلا ولا ينشرن شعرا ولا يحدثن الرجال إلا ذا محرم. وروت أم عطية عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ذلك في النوح. وهو قول ابن عباس. وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقال: (هو النوح). وقال مصعب بن نوح: أدركت عجوزا ممن بايع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحدثتني عنه عليه الصلاة والسلام في قول: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقال:

(النوح). وفي صحيح مسلم عن أم عطية لما نزلت هذه الآية: يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً- إلى قوله- وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: (كان منه النياحة) قالت: فقلت يا رسول الله، إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال، رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إلا آل فلان). وعنها قالت: أخذ علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع البيعة إلا ننوح، فما وفت منا امرأة إلا خمس: أم سليم، وام العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ. وقيل: إن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله، قاله ميمون بن مهران. وقال بكر بن عبد الله المزني: لا يعصينك في كل أمر فيه رشدهن الكلبي: هو عام في كل معروف أمر الله عز وجل ورسوله به. فروي أن هندا قالت عند ذلك: ما جلسنا في مجلسا هذا وفي أنفسا أن نعصيك في شي. الثالثة: ذكر الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام في صفة البيعة خصالا شتى، صرح فيهن بأركان النهي في الدين ولم يذكر أركان الامر. وهي ستة أيضا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة. وذلك لان النهي دائم في كل الأزمان وكل الأحوال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد. وقيل: إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ولا يحجزهن عنها شرف النسب، فخصت بالذكر لهذا. ونحو منه قوله عليه الصلاة والسلام لوفد عبد القيس: (وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت) «1» فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي، لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها.
__________
(1). الدباء: هو القرع اليابس. والحنتم: الجرة. والنقير: أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء. والمزفت: الإناء الذي طلى بالزفت. قال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية:" عن أبى بكرة قال: أما الدباء فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حتى يهدر ثم يموت. وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت. وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر. وأما المزفت فهي الأوعية التي فيها الزفت ... ومعنى النهى عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع إليها الإسكار فربما يشرب منها من إلا يشعر بذلك. ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهى عن شرب كل مسكر".

الرابعة: لما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البيعة: (وَلا يَسْرِقْنَ) قالت هند: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن آخذ ما يكفيني وولدي؟ قال (لا إلا بالمعروف) فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع أو تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا) ألا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف، يعني من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة. قال ابن العربي وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجابه ولا يضبط عليه بقفل فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه كانت سارقة تعصى به وتقطع يدها الخامسة: قال عبادة بن الصامت: أخذ علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أخذ على النساء: (إلا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا يعضه بعضكم بعضا ولا تعصوا في معروف أمركم به (. معنى" يعضه" يسحر. والعضة: السحر. ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ إنه السحر. وقال الضحاك: هذا نهى عن البهتان، أي لا يعضهن رجلا ولا امرأة بِبُهْتانٍ أي بسحر. والله اعلم. يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ والجمهور على أن معنى بِبُهْتانٍ بولد يفترينه بين أيديهن" ما أخذته لقيطا." وأرجلهن" ما ولدته من زنى. وقد تقدم. السادسة- قوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ في البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء. واختلف في معناه على ما ذكرنا. والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وينهى عنه، فيدخل فيه النوح وتخريق الثياب وجز الشعر والخلوة بغير محرم إلى غير ذلك. وهذه كلها كبائر ومن أفعال الجاهلية. وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) فذكر منها النياحة. وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين صفا عن اليمين وصفا عن اليسار ينبحن كما تنبح الكلاب في يوم

كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يؤمر بهن إلى النار (. وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة «1» (وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها. فقيل: يا أمير المؤمنين، المرأة المرأة! قد وقع خمارها. فقال: إنها لا حرمة لها. أسند جميعه الثعلبي رحمه الله. أما تخصيص قوله: فِي مَعْرُوفٍ مع قوة قوله: وَلا يَعْصِينَكَ ففيه قولان: أحدهما- أنه تفسير للمعنى على التأكيد، كما قال تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ «2» بِالْحَقِّ [الأنبياء: 112] لأنه لو قال احكم لكفى. الثاني- إنما شرط المعروف في بيعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يكون تنبيها على أن غيره أولى بذلك وألزم له وأنفى للاشكال. السابعة- روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (أتبايعوني على إلا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا) قرأ آية النساء. وأكثر لفظ سفيان قرأ في الآية (فمن وفى منكم فأجر هـ على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له منها (. وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب، فنزل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكأني انظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ- حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ-: أنتن على ذلك (؟ فقالت: امرأة واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، لا يدري الحسن «3» من هي. قال: (فتصدقن) وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ «4» والخواتيم في ثوب بلال. لفظ البخاري.
__________
(1). الارنان: الصيحة الشديدة والصوت الحزين عند الغناء أو البكاء، يقال: رنت المرأة ترن رنينا، وأرنت، صاحت.
(2). راجع ج 11 ص (350) [.....]
(3). هو الحسن بن مسلم راوي الحديث.
(4). الفتخ (بفتحات وآخره خاء معجمة): الخواتيم العظام، أو حلق من فضة لا فص فيها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

الثامنة- قال المهدوي: أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا، والامر بذلك ندب لا إلزام. وقال بعض أهل النظر: إذا احتيج إلى المحنة من أجل تباعد الدار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة.

[سورة الممتحنة (60): آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) يعني اليهود. وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ويواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم فنهوا عن ذلك. (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) يعني اليهود قاله ابن زيد. وقيل: هم المنافقون. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى. قال ابن مسعود: معناه أنهم تركوا العمل للآخرة وآثروا الدنيا. وقيل: المعنى يئسوا من ثواب الآخرة، قاله مجاهد. ومعنى (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) أي الأحياء من الكفار. (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أن يرجعوا إليهم، قاله الحسن وقتادة. قال ابن عرفة: وهم الذين قالوا: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ «1» [الجاثية 24]. وقال مجاهد: المعنى كما يئس الكفار الذين في القبور أن يرجعوا إلى الدنيا. وقيل: إن الله تعالى ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار، وهى خطاب لحاطب بن أبى بلتعة وغيره. قال ابن عباس: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا أي لا توالوهم ولا تناصحوهم، رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبى بلتعة. يريد أن كفار قريش قد يئسوا من خير الآخرة كما يئس الكفار المقبورون من حظ يكون لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى. وقال القاسم بن أبى بزة في قوله تعالى قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قال: من مات من الكفار يئس من الخير. والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 16 ص 170

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)

[تفسير سورة الصف ]
سورة الصف مدنية في قول الجميع، فيما ذكر الماوردي. وقيل: إنها مكية، ذكره النحاس عن ابن عباس. وهي أربع عشرة آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الصف (61): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
تقدم «1».

[سورة الصف (61): الآيات 2 الى 3]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه، فأنزل الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ حتى ختمها. قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ختمها. قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة وقرأها علينا يحيى وقرأها علينا الأوزاعي وقرأها علينا «2» محمد. وقال ابن عباس قال عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله
__________
(1). راجع ج 17 ص (235)
(2). هذا الحديث كما ورد في مسند الدارمي. وقد ذكر في الأصول مضطربا.

لعملناه، فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي: قال المؤمنون يا رسول الله، لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها، فنزلت هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «1» [الصف: 10] فمكثوا زمانا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين، فدلهم الله تعالى عليها بقول: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] الآية. فابتلوا يوم أحد ففروا، فنزلت تعيرهم بترك الوفاء. وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثواب شهداء بدر قالت الصحابة: اللهم أشهد! لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد فعيرهم الله بذلك. وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون نحن جاهدنا وأبلينا ولم يفعلوا. وقال صهيب: كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر وأنكاهم فقتلته. فقال رجل يا نبي الله، إني قتلت فلانا، ففرح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك. فقال عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف: يا صهيب، أما أخبرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنك قتلت فلانا! فإن فلانا انتحل قتله، فأخبره فقال: (أكذلك يا أبا يحيى)؟ قال نعم، والله يا رسول الله، فنزلت الآية في المنتحل. وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين، كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا، فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا. الثانية- هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها. وفي صحيح مسلم عن أبي «2» موسى أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم. وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ب" براءة" فأنسيتها، غير أني قد حفظت منها" لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب". وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني
__________
(1). راجع ص 87 من هذه السورة.
(2). الذي في صحيح مسلم: حدثني سويد بن سعيد حدثنا على ابن مسحر؟ عن داود عن أبى حرب بن أبى الأسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى ... إلخ".

حفظت منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدين. أما قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة. وأما قول:" شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة" فمعنى ثابت في الدين، فإن من التزم شيئا لزمه شرعا. والملتزم على قسمين: أحدهما: النذر، وهو على قسمين، نذر تقرب مبتدأ كقول: لله علي صلاة وصوم وصدقة، ونحوه من القرب. فهذا يلزم الوفاء به إجماعا. ونذر مباح وهو ما علق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو علق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة. فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة، يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقواله: إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا، لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه: إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة. وهذا وإن كان من جنس القربة لكنه لم يقصد به القربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الاقدام على فعل. قلنا: القرب الشرعية مشقات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا «1». فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا فقيل يلزم بتعلقه «2». وتعلقوا بسبب الآية، فإنه روي أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهو حديث لا بأس به. وقد روي عن مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل. والصحيح عندي: أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر.
__________
(1). زيادة عن ابن العربي.
(2). في ابن العربي:" بمطلقه".

قلت: قال مالك: فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى ذلك يلزمه. وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء فقال: أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدي «1» إليكم، فإن هذا يلزمه. وأما أن يقول نعم أنا أفعل، ثم يبدو له، فلا أرى عليه ذلك. قلت: أي لا يقضي عليه بذلك، فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم. وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره فقال: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا «2» [البقرة: 177]، وقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] وقد تقدم بيانه «3». الثالثة- قال النخعي: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ «4» [البقرة: 44]، وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ «5» [هود: 88]، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة أن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت «6» قلت:) من هؤلاء يا جبريل (؟ قال:) هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرءون كتاب الله ولا يعملون (. وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا، فسكت. ثم قيل له: حدثنا. فقال: أترونني «7» أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله!. الرابعة- قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله. أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل فيكون خلفا، وكلاهما مذموم. وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ أي لم تقولون ما ليس الامر فيه إليكم، فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون. فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول. (هامش)
__________
(1). كذا في أ، وفى ح، س:" من أين"، ولعل صوابها:" وهبت له ما يؤدى إليكم".
(2). راجع ج 2 ص (239)
(3). راجع ج 11 ص (114)
(4). راجع ج 1 ص (365)
(5). راجع ج 9 ص (89) [.....]
(6). وفت: تمت وطالت.
(7). في أ، ط، هـ:" تأمرونى" وفى ح، س:" تأمرونني".

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

الخامسة- قوله تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) قد يحتج به في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي. وأَنْ وقع بالابتداء وما قبلها الخبر، وكأنه قال: قولكم ما لا تفعلون مذموم، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف. الكسائي: أَنْ في موضع رفع، لان كَبُرَ فعل بمنزلة بئس رجلا أخوك. ومَقْتاً نصب بالتمييز، المعنى كبر قولهم ما لا يفعلون مقتا. وقيل: هو حال. والمقت والمقاتة مصدران، يقال: رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبه الناس.

[سورة الصف (61): آية 4]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) أي يصفون صفا: والمفعول مضمر، أي يصفون أنفسهم صفا. (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) قال الفراء: مرصوص بالرصاص. وقال المبرد: هو من رصصت البناء إذا لاءمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة. وقيل: هو من الرصيص وهو انضمام الأسنان بعضها إلى بعض. والتراص التلاصق، ومنه وتراصوا في الصف. ومعنى الآية: يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء. وقال سعيد بن جبير: هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم. الثانية- وقد استدل بعض أهل التأويل بهذا على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لان الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. المهدوي: وذلك غير مستقيم، لما جاء في فضل الفارس في الأجر والغنيمة. ولا يخرج الفرسان من معنى الآية، لان معناه الثبات. الثالثة- لا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان، أو في رسالة يرسلها الامام، أو في منفعة تظهر في المقام، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها. وفي الخروج عن

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)

الصف للمبارزة خلاف على قولين أحدهما: أنه لا بأس بذلك إرهابا للعدو، وطلبا للشهادة وتحريضا على القتال. وقال أصحابنا: لا يبرز أحد طالبا لذلك، لان فيه رياء وخروجا إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو. وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر، كما كانت في حروب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر وفي غزوة خيبر، وعليه درج السلف. وقد مضى القول مستوفى في هذا في" البقرة" عند قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1» [البقرة: 195].

[سورة الصف (61): آية 5]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) لما ذكر أمر الجهاد بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد وجاهدا في سبيل الله، وحل العقاب بمن خالفهما، أي واذكر لقومك يا محمد هذه القصة. قوله تعالى: (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) وذلك حين رموه بالادرة، حسب ما تقدم في آخر سورة" الأحزاب" «2». ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون: إنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور»
. ومن الأذى قولهم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ «4» آلِهَةٌ [الأعراف: 138]. وقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «5» [المائدة: 24]. وقولهم: إنك قتلت هارون. وقد تقدم «6» هذا. (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) والرسول يحترم ويعظم. ودخلت قَدْ على تَعْلَمُونَ للتأكيد، كأنه قال: وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه. (فَلَمَّا زاغُوا) أي مالوا عن الحق (أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أي أمالها عن الهدى. وقيل: فَلَمَّا زاغُوا عن الطاعة أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الهداية.
__________
(1). راجع ج 2 ص (361)
(2). راجع ج 14 ص (250)
(3). راجع ج 13 ص (210)
(4). راجع ج 7 ص (273)
(5). راجع ج 6 ص (8 12)
(6). راجع ج 7 ص 294

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

وقيل: فَلَمَّا زاغُوا عن الايمان أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الثواب. وقيل: أي لما تركوا ما أمروا به من احترام الرسول عليه السلام وطاعة الرب، خلق الله الضلالة في قلوبهم عقوبة لهم على فعلهم.

[سورة الصف (61): آية 6]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي واذكر لهم هذه القصة أيضا. وقال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ ولم يقل" يا قوم" كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه. (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) أي بالإنجيل. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) لان في التوراة صفتي، وأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة فتنفروا عني. (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ) مصدقا. وَمُبَشِّراً نصب على الحال، والعامل فيها معنى الإرسال. وإِلَيْكُمْ صلة الرسول. (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (من بعدي) بفتح الياء. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش وأبي بكر عن عاصم. واختاره أبو حاتم لأنه اسم، مثل الكاف من بعدك، والتاء من قمت. الباقون بالإسكان. وقرى (من بعدي اسمه أحمد) بحذف الياء من اللفظ. وأَحْمَدُ اسم نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو اسم علم منقول من صفة لا من فعل، فتلك الصفة أفعل التي يراد بها التفضيل. فمعنى أَحْمَدُ أي أحمد الحامدين لربه. والأنبياء صلوات الله عليهم كلهم حامدون الله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا. وأما محمد فمنقول من صفة أيضا، وهي في معنى محمود، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار. فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. كما أن المكرم من الكرم مرة بعد مرة. وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه سماه قبل أن يسمي به نفسه. فهذا علم

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)

من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة. وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ. ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى عليه السلام فقال: اسْمُهُ أَحْمَدُ. وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لان حمده لربه كان قبل حمد الناس له. فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل. وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (اسمي في التوراة أحيد لاني أحيد أمتي عن النار واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الأوثان واسمي في الإنجيل أحمد واسمي في القرآن محمد لاني محمود في أهل السماء والأرض (. وفي الصحيح (لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي تحشر الناس على قدمي وأنا العاقب (. وقد تقدم «1».) (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) قيل عيسى. وقيل: محمد صلى الله عليهما وسلم. (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) قرأ الكسائي وحمزة" ساحر" نعتا للرجل وروي أنها قراءة ابن مسعود. الباقون" سحر" نعتا لما جاء به الرسول.

[سورة الصف (61): آية 7]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) تقدم في غير موضع «2». (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) هذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد بعد المعجزات التي ظهرت لهما. وقرا طلحة بن مصرف (وهو يدعى) بفتح الياء والدال وشدها وكسر العين، أي ينتسب. ويدعي وينتسب سواء. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي من كان في حكمه أنه يختم له بالضلالة.
__________
(1). راجع ج 14 ص (200)
(2). راجع ج 6 ص 401 وج 7 ص 39

[سورة الصف (61): آية 8]
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8)

قوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) الإطفاء هو الاخماد، يستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور. ويفترق الإطفاء والاخماد من وجه، وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير، والاخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال أخمدت السراج. وفي نُورَ اللَّهِ هنا خمسة أقاويل: أحدها: أنه القرآن، يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول، قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني: إنه الإسلام، يريدون دفعه بالكلام، قاله السدي الثالث- أنه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يريدون هلاكه بالأراجيف، قاله الضحاك. الرابع: حجج الله ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم، قاله ابن بحر. الخامس: أنه مثل مضروب، أي من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلا ممتنعا فكذلك من أراد إبطال الحق، حكاه ابن عيسى. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبطأ عليه الوحي أربعين يوما، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحي بعدها، حكى جميعه الماوردي رحمه الله. (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) أي بإظهاره في الآفاق. وقرا «1» ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ بالإضافة على نية الانفصال، كقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] وشبهه، حسب ما تقدم بيانه في" آل عمران «2»". الباقون مُتِمُّ نُورِهِ لأنه فيما يستقبل، فعمل. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) من سائر الأصناف.
__________
(1). كلمة" وقرا" ساقطة من ج، س.
(2). راجع ج 4 ص 297

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)

[سورة الصف (61): آية 9]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ) أي محمدا بالحق والرشاد. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي بالحجج. ومن الظهور الغلبة باليد في القتال، وليس المراد بالظهور ألا يبقى دين آخر من الأديان، بل المراد يكون أهل الإسلام عالين غالبين. ومن الإظهار ألا يبقى دين سوى الإسلام في آخر الزمان. قال مجاهد: وذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام. وقال أبو هريرة: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بخروج عيسى. وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص «1» فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد). وقيل: لِيُظْهِرَهُ أي ليطلع محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سائر الأديان، حتى يكون عالما بها عارفا بوجوه بطلانها، وبما حرفوا وغيروا منها. عَلَى الدِّينِ أي الأديان، لان الدين مصدر يعبر به عن جمع.

[سورة الصف (61): الآيات 10 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
__________
(1). القلاص (بكسر القاف): الناقة الشابة.

فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) قال مقاتل: نزلت في عثمان بن مظعون، وذلك أنه قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت واختصيت وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبدا، ولا أفطر بنهار أبدا! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن من سنتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس منى (. فقال عثمان: والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها، فنزلت. وقيل: أَدُلُّكُمْ أي سأدلكم. والتجارة الجهاد، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] الآية «1». وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل: لأهل الكتاب. الثانية- قوله تعالى: (تُنْجِيكُمْ) أي تخلصكم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي مؤلم. وقد تقدم «2». وقراءة العامة تُنْجِيكُمْ بإسكان النون من الإنجاء. وقرا الحسن وابن عامر أبو حيوة (تنجيكم) مشددا من التنجية. ثم بين التجارة وهى المسألة: الثالثة- فقال: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ذكر الأموال أولا لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق. (ذلِكُمْ) أي هذا الفعل (خَيْرٌ لَكُمْ)/ 11 من أموالكم وأنفسكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وتُؤْمِنُونَ عند المبرد والزجاج في معنى آمنوا، ولذلك جاء يَغْفِرْ لَكُمْ مجزوما على أنه جواب الامر. وفي قراءة عبد الله (آمنوا بالله) وقال الفراء يَغْفِرْ لَكُمْ جواب الاستفهام، وهذا إنما يصح على الحمل على المعنى، وذلك أن يكون تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ عطف بيان على قوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ كأن التجارة لم يدر ما هي، فبينت بالايمان والجهاد، فهي هما في المعنى. فكأنه قال: هل تؤمنون بالله وتجاهدون يغفر لكم. الزمخشري: وجه قول الفراء أن متعلق الدلالة
__________
(1). راجع ج 8 ص (267) [.....]
(2). راجع ج 1 ص 198

هو التجارة والتجارة مفسرة بالايمان والجهاد. كأنه قيل: هل تتجرون بالايمان والجهاد يغفر لكم. قال المهدوي: فإن لم تقدر هذا التقدير لم تصح المسأله، لان التقدير يصير إن دللتم يغفر لكم، والغفران إنما نعت بالقبول والايمان لا بالدلالة. قال الزجاج: ليس إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقرا زيد بن علي تؤمنوا، وتجاهدوا على إضمار لام الامر، كقوله:
محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شي تبالا «1»
أراد لتفد. وأدغم بعضهم فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ والأحسن ترك الإدغام، لان الراء حرف متكرر قوي فلا يحسن إدغامه في اللام، لان الأقوى لا يدغم في الأضعف. الرابعة- قوله تعالى: (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) خرج أبو الحسين الآجري عن الحسن قال: سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن تفسير هذه الآية وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فقالا: على الخبير سقطت، سألنا رسول الله صلى الله عيلة وسلم عنها فقال: (قصر من لؤلؤة في الجنة فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زبر جدة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطي الله تبارك وتعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله (. فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي السعادة الدائمة الكبيرة. واصل الفوز الظفر بالمطلوب. الخامسة- قوله تعالى: (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) قال الفراء والأخفش: أُخْرى معطوفة على تِجارَةٍ فهي في محل خفض. وقيل: محلها رفع أي ولكم خصلة أخرى وتجارة أخرى تحبونها (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ) أي هو نصر من الله، ف نَصْرٌ على هذا تفسير
__________
(1). اختلف في قائله، فقيل إنه لحسان، وقيل لابي طالب عم الرسول صلوات الله عليه، وقيل للأعشى. (راجع خزانة الأدب في الشاهد الثمانين بعد المائة). والتبال: سوء العاقبة، وهو بمعنى الوبال. وقد ورد صدر هذا البيت في ح، وز، وس، ط مضطربا وغير واضح.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

وَأُخْرى . وقيل: رفع على البدل من أُخْرى أي ولكم نصر من الله. (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي غنيمة في عاجل الدنيا، وقيل فتح مكة. وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) برضا الله عنهم.

[سورة الصف (61): آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
أكد أمر الجهاد، أي كونوا حوارى نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواري عيسى على من خالفهم. وقرا ابن كثير وأبو عمرو ونافع أنصارا لله بالتنوين. قالوا: لان معناه اثبتوا وكونوا أعوانا لله بالسيف على أعدائه وقرا الباقون من أهل البصرة والكوفة والشام أَنْصارَ اللَّهِ بلا تنوين، وحذفوا لام الإضافة من اسم الله تعالى. واختاره أبو عبيدة لقوله: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ولم ينون، ومعناه كونوا أنصارا لدين الله. ثم قيل: في الكلام إضمار، أي قل لهم يا محمد كونوا أنصار الله. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله، أي كونوا أنصارا كما فعل أصحاب عيسى فكانوا بحمد الله أنصارا وكانوا حواريين. والحواريون خواص الرسل. قال معمر: كان ذلك بحمد الله، أي نصروه وهم سبعون رجلا، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة. وقيل: هم من قريش. وسماهم قتادة: أبا بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد بن مالك وأبا عبيدة- واسمه عامر- وعثمان بن مظعون وحمزة بن عبد المطلب، ولم يذكر سعيدا فيهم، وذكر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلا، وقد مضت أسماؤهم في" آل عمران" «1»، وهم أول من آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس. وقال مقاتل:
__________
(1). راجع ج 4 ص 97، ويلاحظ أنه لم تذكر أسماؤهم، بل ذكر سبب تسميتهم.

قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصارون «1» فاسألهم النصرة، فأتاهم عيسى وقال: من أنصاري إلى الله؟ قالوا: نحن ننصرك. فصدقوه ونصروه. ومعنى من أنصارى إلى الله أي من أنصاري مع الله، كما تقول: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود. وقيل: أي من أنصاري فيما يقرب إلى الله." وقد مضى هذا في آل عمران «2» (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) والطائفتان في زمن عيسى افترقوا بعد رفعه إلى السماء، على ما تقدم في آل عمران" بيانه." فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم الذين كفروا بعيسى. فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي غالبين. قال ابن عباس: أيد الله الذين آمنوا في زمن عيسى بإظهار محمد على دين الكفار. وقال مجاهد: أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى. وقيل أيدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين، من قال كان الله فارتفع، ومن قال كان ابن الله فرفعه الله إليه، لان عيسى بن مريم لم يقاتل أحدا ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال. وقال زيد بن علي وقتادة: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ غالبين بالحجة والبرهان، لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل والله تعالى لا يأكل!. وقيل: نزلت هذه الآية في رسل عيسى عليه الصلاة والسلام. قال ابن إسحاق: وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والاتباع فطرس وبولس إلى رومية، واندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس. وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق. وفيلبس إلى قرطاجنة وهي إفريقية. ويحنس إلى دقسوس قرية أهل الكهف. ويعقوبس إلى أوريشلم وهي بيت المقدس،. وابن تلما إلى العرابية وهي أرض الحجاز. وسيمن إلى أرض البربر. ويهودا وبردس إلى الإسكندرية وما حولها «3». فأيدهم الله بالحجة. فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي عالين، من قولك: ظهرت على الحائط أي علوت عليه. والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب «4».
__________
(1). القصار: محور الثياب ومبيضها راجع ج 4 ص 97 وص (100)
(2). القصار: محور الثياب ومبيضها راجع ج 4 ص 97 وص (100)
(3). يلاحظ أن هذه الأسماء وردت محرفة في نسخ الأصل، وأئبتناها كما وردت في تاريخ الطبري (ج 3 قسم أول ص 737 طبع أوربا).
(4). ما بين المربعين ساقط من ح، ز، س، ط

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)

[تفسير سورة الجمعة]
سورة الجمعة مدنية في قول الجميع، وهي إحدى عشرة آية. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفية أدخل الجنة وفية أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة (. وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) نحن الآخرون الأولون «1» يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة «2» بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له- قال- يوم الجمعة فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجمعة (62): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
تقدم الكلام فيه. وقرا أبو العالية ونصر بن عاصم (الملك القدوس العزيز الحكيم) كلها رفعا، أي هو الملك.

[سورة الجمعة (62): آية 2]
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. وقيل: الأميون
__________
(1). زيادة عن صحيح مسلم.
(2)." بيد": بمعنى غير.

وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)

الذين لا يكتبون. وكذلك كانت قريش. وروى منصور عن إبراهيم قال: الأمي الذي يقرأ ولا يكتب. وقد مضى في" البقرة" «1». (رَسُولًا مِنْهُمْ) يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وما من حي من العرب إلا ولرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم قرابة وقد ولدوه. قال ابن إسحاق: إلا حي تغلب، فإن الله تعالى طهر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم لنصرانيتهم فلم يجعل لهم عليه ولادة. وكان أميا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الماوردي: فإن قيل ما وجه الامتنان فإن بعث نبيا أميا؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء. الثاني: لمشاكلة حال لأحوالهم، فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها. قلت: وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته. قوله تعالى: (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يعني القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يجعلهم أزكياء القلوب بالايمان، قاله ابن عباس. وقيل: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب، قاله ابن جريج ومقاتل. وقال السدي: يأخذ زكاة أموالهم (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) يعني القرآن (وَالْحِكْمَةَ) السنة، قاله الحسن. وقال ابن عباس: الْكِتابَ الخط بالقلم، لان الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط. وقال مالك بن أنس: الْحِكْمَةَ الفقه في الدين. وقد مضى القول في هذا في" البقرة" «2». (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبله وقبل أن يرسل إليهم. (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في ذهاب عن الحق.

[سورة الجمعة (62): آية 3]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قوله تعالى: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) هو عطف على الْأُمِّيِّينَ أي بعث في الأميين وبعث في آخرين منهم. ويجوز أن يكون منصوبا بالعطف على الهاء والميم في يُعَلِّمُهُمُ وَيُزَكِّيهِمْ،
__________
(1). راجع ج 2 ص 5 وص 136
(2). راجع ج 2 ص 5 وص 136

ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

أي يعلمهم ويعلم آخرين من المؤمنين، لان التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مسندا إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه. (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم. قال ابن عمرو سعيد بن جبير: هم العجم. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ نزلت عليه سورة" الجمعة" فلما قرأ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثا. قال وفينا سلمان الفارسي. قال: فوضع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على سلمان ثم قال: (لو كان الايمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء). في رواية (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس- أو قال- من أبناء فارس حتى يتناوله لفظ مسلم. وقال عكرمة: هم التابعون. مجاهد: هم الناس كلهم، يعني من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقاله ابن زيد ومقاتل ابن حيان. قالا: هم من دخل في الإسلام بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يوم القيامة. وروى سهل بن سعد الساعدي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن في أصلاب أمتي رجالا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب- ثم تلا- وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ. والقول الأول أثبت. وقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (رأيتني أسقي غنما سودا ثم أتبعتها غنما عفرا أولها يا أبا بكر) فقال: يا رسول الله، أما السود فالعرب، وأما الغفر فالعجم تتبعك بعد العرب. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كذا أولها الملك) يعني جبريل عليه السلام. رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو علي ابن أبي طالب رضي الله عنه.

[سورة الجمعة (62): آية 4]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش. وقيل: يعنى الإسلام، فضل الله يؤتيه من يشاء، قاله الكلبي. وقيل: يعنى الوحي والنبوة، قاله مقاتل. وقول رابع: إنه المال

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)

ينفق في الطاعة، وهو معنى قول أبي صالح. وقد روى مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم. فقال: (وما ذاك)؟ قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة). قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). وقول خامس: أنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخولهم في دينه ونصرته. والله اعلم.

[سورة الجمعة (62): آية 5]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
ضرب مثلا لليهود لما تركوا العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي كلفوا العمل بها، عن ابن عباس. وقال الجرجاني: هو من الحمالة بمعنى الكفالة، أي ضمنوا أحكام التوراة. (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) هي جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ. قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل، «1» فهكذا اليهود. وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه، لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء. وقال الشاعر: «2»
__________
(1). في ح، ز، س، هـ:" أم ز بل".
(2). هو مروان بن سليمان بن يحيى بن أبى حفصة، يهجو قوما من رواة الشعر.

زوامل للأسفار لا علم عندهم ... وبجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه «1» أو راح ما في الغرائر «2»
وقال يحيى بن يمان: يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر، فإذا سئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتب. وقال الشاعر:
إن الرواة على جهل بما حملوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع
لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع
وقال منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله فأحسن:
انعق بما شئت تجد أنصارا ... ووزم أسفارا تجد حمارا
يحمل ما وضعت من أسفار ... يحمله كمثل الحمار
يحمل أسفارا له وما درى ... إن كان ما فيها صوابا وخطاء «3»
إن سئلوا قالوا كذا روينا ... ما إن كذبنا ولا اعتدينا
كبيرهم يصغر عند الحفل ... لأنه قلد «4» أهل الجهل
ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يعملوا بها. شبههم- والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها- بالحمار يحمل كتبا وليس له إلا ثقل الحمل من غير فائدة. ويَحْمِلُ في موضع نصب على الحال، أي حاملا. ويجوز أن يكون في موضع جر على الوصف، لان الحمار كاللئيم. قال:
ولقد أمر على اللئيم يسبني «5»

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) المثل الذي ضربناه لهم، فحذف المضاف. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي من سبق في علمه أنه يكون كافرا.
__________
(1). الوسق (بفتح الواو وسكون السين): حمل البعير. [.....]
(2). الغرائر: جمع الغرارة (بالكسر) الجوالق.
(3). كذا في الأصول، مع هذه الزيادة التي يستقيم بها الوزن. ويحتمل أن يكون صوابه:
أكان ما فيها جمانا أو بري

والجمان (بالضم): اللؤلؤ. والبرى: التراب.
(4). في نسخة:" قدر".
(5). وتمامه:
فضيت ثمت قلت لا يعنيني

قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)

[سورة الجمعة (62): الآيات 6 الى 7]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
لما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] قال الله تعالى: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فللأولياء عند الله الكرامة. (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لتصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي أسلفوه من تكذيب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو تمنوه لماتوا، فكان في ذلك بطلان قولهم وما ادعوه من الولاية. وفي حديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما نزلت هذه الآية: (والذي نفس محمد بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات). وفى هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد مضى معنى هذه الآية في" البقرة" في قوله تعالى-: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» [البقرة: 94].

[سورة الجمعة (62): آية 8]
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قال الزجاج: لا يقال: إن زيدا فمنطلق، وها هنا قال: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ «2» لما في معنى الَّذِي من الشرط والجزاء، أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه. قال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
قلت: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله قوله: الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ثم يبتدئ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ. وقال طرقة:
__________
(1). راجع ج 2 ص (33)
(2). ما بين المربعين ساقط من ح، س.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)

وكفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر
فاذكر الموت وحاذر ذكره ... إن في الموت لذي اللب عبر
كل شي سوف يلقى حتفه ... في مقام أو على ظهر سفر
والمنايا حوله ترصده ... ليس ينجيه من الموت الحذر

[سورة الجمعة (62): آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
فيه ثلاث عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قرأ عبد الله بن الزبير والأعمش وغيرهما (الجمعة) بإسكان الميم على التخفيف. وهما لغتان. وجمعهما جمع وجمعات. قال الفراء: يقال الجمعة (بسكون الميم) والْجُمُعَةِ (بضم الميم) والجمعة (بفتح الميم) فيكون صفة اليوم، أي تجمع الناس. كما يقال: ضحكة للذي يضحك. وقال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرءوها جمعة، يعني بضم الميم. وقال الفراء وأبو عبيد: والتخفيف أقيس وأحسن، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وحجرة وحجر. وفتح الميم لغة بني عقيل. وقيل: إنها لغة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن سلمان أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إنما سميت جمعة لان الله جمع فيها خلق آدم). وقيل: لان الله تعالى فرغ فيها من خلق كل شي فاجتمعت فيها المخلوقات. وقيل: لتجتمع الجماعات فيها. وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة. ومِنْ بمعنى في، أي في يوم، كقوله تعالى: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «1» [فاطر: 40] أي في الأرض. الثانية: قال أبو سلمة: أول من قال:" أما بعد" كعب بن لوي، وكان أول من سمى الجمعة جمعة. وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة. وقيل: أول من سماها جمعة الأنصار.
__________
(1). راجع ج 15 ص 58

قال ابن سيرين: جمع أهل المدينة من قبل أن يقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سموها الجمعة، وذلك أنهم قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه، في كل سبعة أيام يوم وهو السبت. وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه- ونستذكر- أو كما قالوا- فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة (أبو أمامة رضي الله عنه) فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا. فذبح لهم أسعد شاة فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم. فهذه أول جمعه في الإسلام. قلت: وروي أنهم كانوا اثني عشر رجلا على ما يأتي. وجاء في هذه الرواية: أن الذي جمع بهم وصلي أسعد بن زرارة، وكذا في حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب على ما يأتي. وقال البيهقي: وروينا عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري أن مصعب ابن عمير كان أول من جمع الجمعة بالمدينة للمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال البيهقي: يحتمل أن يكون مصعب جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة فأضافه كعب إليه. والله اعلم. وأما أول جمعة جمعها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه، فقال أهل السير والتواريخ: قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجرا حتى نزل بقباء، على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى. ومن تلك السنة يعد التاريخ. فأقام بقباء إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم. ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا، فجمع بهم وخطب. وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، وقال فيها: (الحمد لله. أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفر به. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسول، أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع

من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد. ومن يعص الله ورسول فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا. أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله. واحذروا ما حذركم الله من نفسه، فإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر «1» الآخرة. ومن يصلح الذي بينه وبين ربه من أمره في السر والعلانية، لا ينوي به إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم. وما كان مما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ»
[آل عمران: 30]. وهو الذي صدق قول، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «3» [ق: 29]. فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً «4» [الطلاق: 5]. ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما. وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه. وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة. فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله تعالى، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (. وأول جمعة جمعت بعدها جمعة بقرية يقال لها
:" جواثى" من قرى البحرين. وقيل: إن أول من سماها الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب، كما تقدم. والله اعلم.
__________
(1). زيادة عن تاريخ الطبري والبداية والنهاية.
(2). ج 4 ص (59)
(3). ج 17 ص (17)
(4). ص 166 من هذا الجزء.

الثالثة: خاطب الله المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفا لهم وتكريما فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثم خصه بالنداء، وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1» [المائدة: 58] ليدل على وجوبه وتأكيد فرضه. وقال بعض العلماء: كون الصلاة الجمعة ها هنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ قال ابن العربي: وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة وهي قول: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وذلك يفيده، لان النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة. فأما غيرها فهو عام في سائر الأيام. ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة. الرابعة: فقد تقدم حكم الأذان في سورة" المائدة" مستوفي «2». وقد كان الأذان على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في سائر الصلوات، يؤذن واحد إذا جلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر. وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة. ثم زاد عثمان على المنبر أذانا ثالثا «3» على داره التي تسمى" الزوراء «4»" حين كثر الناس بالمدينة. فإذا سمعوا أقبلوا، حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يخطب عثمان. خرجه ابن ماجة في سننه من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: ما كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مؤذن واحد، إذا خرج أذن وإذا نزل أقام. وأبو بكر وعمر كذلك. فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها" الزوراء"، فإذا خرج أذن وإذا نزل أقام. خرجه البخاري من طرق بمعناه. وفي بعضها: أن الأذان الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الامام. وقال الماوردي: فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها. وقد كان عمر رضي الله عنه أمر أن
__________
(1). آية 58 سورة المائدة.
(2). راجع ج 6 ص 224 وما بعدها.
(3). أي أول الوقت عند الزوال. وسماه ثالثا باعتبار كونه مزيدا على الأذان بين يدي الامام والإقامة للصلاة. فهو أول باعتبار الوجود، ثالث باعتبار مشروعية عثمان له باجتهاده وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار. [.....]
(4). الزوراء: موضع بالسوق بالمدينة، قيل إنه مرتفع كالمنارة. وقيل: حجر كبير عند باب المسجد.

يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد، فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد. قال ابن العربي. وفي الحديث الصحيح: أن الأذان كان على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدا، فلما كان زمن عثمان زاد الأذان الثالث على الزوراء، وسماه في الحديث ثالثا لأنه أضافه إلى الإقامة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء) يعني الأذان والإقامة. ويتوهم الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهما، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم. ورأيتهم يؤذنون بمدينة السلام بعد أذان المنار بين يدي الامام تحت المنبر في جماعة.، كما كانوا يفعلون عندنا في الدول الماضية. وكل ذلك محدث. الخامسة- قوله تعالى (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) أختلف في معنى السعي ها هنا على ثلاثة أقوال: أولها: القصد. قال الحسن: والله ما هو بسعي على الاقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. الثاني: أنه العمل، كقوله تعالى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ «1» [الاسراء: 19]، وقوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى
«2» [الليل: 4]، وقوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «3» [النجم: 39]. وهذا قول الجمهور. وقال زهير:
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم «4»

وقال أيضا:
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعد ما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم «5»
أي فاعملوا على المضي إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والتطهير والتوجه إليه. الثالث: أن المراد به السعي على الاقدام. وذلك فضل وليس بشرط. ففي البخاري: أن
__________
(1). راجع ج 10 ص (235)
(2). راجع ج 20 ص (82)
(3). راجع ج 17 ص (114)
(4). وعجزه:
فلم يفعلوا ولم يلاموا ولم يألوا

(5). في شرح ديوان زهير:" الساعيان": الحارث بن عوف، وهرم بن سنان، سعيا في الديات. وقيل: خارجة بن سنان والحارث بن عوف،" سعيا" أي عملا حسنا. و" غيظ بن مرة": حي من غطفان بن سعد. و" تبزل بالدم": أي تشقق. يقول: كان بينهم صلح فتشقق بالدم. يقول: سعيا بعد ما تشقق فأصلحا.

أبا عبس بن جبر- واسمه عبد الرحمن وكان من كبار الصحابة- مشى إلى الجمعة راجلا وقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار). ويحتمل ظاهره رابعا: وهو الجري والاشتداد قال ابن العربي: وهو الذي أنكره الصحابة الاعلمون والفقهاء الأقدمون. وقرأها عمر:" فامضوا إلى ذكر الله" فرارا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل على الظاهر. وقرا ابن مسعود كذلك وقال: لو قرأت فَاسْعَوْا لسعيت حتى يسقط ردائي. وقرا ابن شهاب:" فامضوا إلى ذكر الله سالكا تلك السبيل". وهو كله تفسير منهم، لا قراءة قرآن منزل. وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير. قال أبو بكر الأنباري: وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود، وأن خرشة بن الحر قال: رآني عمر رضي الله عنه ومعي قطعة فيها فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فقال لي عمر: من أقرأك هذا؟ قلت أبي. فقال: إن أبيا أقرؤنا للمنسوخ. ثم قرأ عمر" فامضوا إلى ذكر الله". حدثنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم عن خرشة، فذكره. وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا محمد وهو ابن سعدان قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: ما سمعت عمر يقرأ قط إلا" فامضوا إلى ذكر الله". وأخبرنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أن عبد الله بن مسعود قرأ" فامضوا إلى ذكر الله" وقال: لو كانت فَاسْعَوْا لسعيت حتى يسقط ردائي. قال أبو بكر: فاحتج عليه بأن الامة أجمعت على فَاسْعَوْا برواية ذلك عن الله رب العالمين ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأما عبد الله بن مسعود فما صح عنه" فامضوا" لان السند غير متصل، إذ إبراهيم النخعي لم يسمع عن عبد الله بن مسعود شيئا، وإنما ورد" فامضوا" عن عمر رضي الله عنه. فإذا انفرد أحد بما يخالف الآية والجماعة كان ذلك نسيانا منه. والعرب مجمعة على أن السعي يأتي بمعنى المضي، غير أنه لا يخلو من الجد والانكماش. قال زهير:
سعى ساعيا غيظ بمرة بعد ما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم

أراد بالسعي المضي بجد وانكماش، ولم يقصد للعدو والإسراع في الخطو. وقال الفراء وأبو عبيدة: معنى السعي في الآية المضي. واحتج الفراء بقولهم: هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله، معناه هو يمضي بجد واجتهاد. واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر:
أسعى على جل بني مالك ... كل امرئ في شأنه ساعي
فهل يحتمل السعي في هذا البيت إلا مذهب المضي بالانكماش، ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود على فصاحته وإتقان عربيته. قلت: ومما يدل على أنه ليس المراد ها هنا العدو قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة). قال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الاقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك. وهذا حسن، فإنه جمع الأقوال الثلاثة. وقد جاء في الاغتسال للجمعة والتطيب والتزين باللباس أحاديث مذكورة في كتب الحديث. السادسة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمكلفين بإجماع. ويخرج منه المرضى والزمنى والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة. روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) خرجه الدارقطني وقال علماؤنا رحمهم الله: ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه منه الإتيان إليها، مثل المرض الحابس، أو خوف الزيادة في المرض، أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع. ولو يره مالك عذرا له، حكاه المهدوي. ولو تخلف عنها متخلف على ولي حميم له قد حضرته الوفاة، ولم يكن عنده من يقوم بأمره رجا أن يكون في سعة. وقد فعل ذلك ابن عمر.

ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الامام أعاد، ولا
يجزيه أن يصلي قبله. وهو في تخلفه عنها مع إمكانه لذلك عاص لله بفعله. السابعة: قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ يختص بوجوب الجمعة على «1» القريب الذي يسمع النداء، فأما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب. واختلف فيمن يأتي الجمعة من الداني والقاصي، فقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس: تجب الجمعة على من في المصر على ستة أميال. وقال ربيعة: أربعة أميال. وقال مالك والليث: ثلاثة أميال. وقال الشافعي: اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صيتا، «2» والأصوات هادئة، والريح ساكنة وموقف المؤذن عند سور البلد. وفي الصحيح عن عائشة: أن الناس كانوا ينتابون «3» الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في الغبار «4» ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو اغتسلتم ليؤمكم هذا) قال علماؤنا: والصوت إذا كان منيعا والناس في هدوء وسكون فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال. والعوالي من المدينة أقربها على ثلاثة أميال. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: تجب الجمعة على من سمع النداء. وروى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إنما الجمعة على من سمع النداء). وقال أبو حنيفة وأصحابه تجب على من في المصر، سمع النداء أو لم يسمعه، ولا تجب على من هو خارج المصر وإن سمع النداء. حتى سئل: وهل تجب الجمعة على أهل زبارة- بينها وبين الكوفة مجرى نهر-؟ فقال لا. وروي عن ربيعه أيضا: أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة. وقد روي عن الزهري: أنها تجب عليه إذا سمع الأذان. الثامنة: قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ دليل على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت، بدليل قوله
__________
(1). التكملة عن ابن العربي.
(2). رجل صيت: شديد الصوت عاليه.
(3). أي يحضرونها نوبا. وفى رواية" يتناوبون".
(4). في ح، ز، س" في العباء" بفتح العين المهملة والمد، جمع عباءة.

عليه الصلاة والسلام: (إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليومكما أكبر كما) قاله لمالك ابن الحويرث وصاحبه. وفي البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. وقد روي عن أبي الصديق وأحمد بن حنبل أنها تصلي قبل الزوال. وتمسك أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع: كنا نصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ننصرف وليس للحيطان ظل. وبحديث ابن عمر: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. ومثله عن سهل. خرجه مسلم. وحديث سلمة محمول على التبكير. رواه هشام بن عبد الملك عن يعلي بن الحارث عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه. وروى وكيع عن يعلي عن إياس عن أبيه قال: كنا نجمع مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء. وهذا مذهب الجمهور من الخلف والسلف، وقياسا على صلاة الظهر. وحديث ابن عمر وسهل، دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها، فلا يتناولون ذلك إلا بعد انقضاء الصلاة. وقد رأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. وتأول قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من راح في الساعة الاولى فكأنما قرب بدنة ...) الحديث بكماله إنه كان في ساعة واحدة. وحمله سائر العلماء على ساعات النهار الزمانية الاثنتي عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب زيادة النهار ونقصانه. ابن العربي: وهو أصح، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها. التاسعة: فرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم، ردا على من يقول: إنها فرض على الكفاية، ونقل عن بعض الشافعية. ونقل عن مالك من لم يحقق: أنها سنة. وجمهور الامة والأئمة أنها فرض على الأعيان، لقول الله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ. وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين (. وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها. وفي سنن ابن ماجة عن أبي الجعد الضمري- وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها

طبع الله على قلبه (. إسناده صحيح. وحديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه (. ابن العربي: وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:) الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم (. العاشرة: أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات، لقوله عز وجل: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] الآية «1». وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور). وأغربت طائفة فقالت: إن غسل الجمعة فرض. ابن العربي: وهذا باطل، لما روى النسائي وأبو داود في سننهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من توضأ يوم الجمعة «2» فأحسن الوضوء ثم راح إلى الجمعة فاستمع وأنصت غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ومن مس الحصى «3» فقد لغا «4» وهذا نص. وفي الموطأ: أن رجلا دخل يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب ...- الحديث «5» إلى أن قال:- ما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا؟ وقد علمت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر بالغسل. فأمر «6» عمر بالغسل ولم يأمره بالرجوع، فدل على أنه محمول على الاستحباب. فلم يمكن وقد تلبس بالفرض- وهو الحضور والإنصات للخطبة- أن يرجع عنه إلى السنة، وذلك بمحضر فحول الصحابة وكبار المهاجرين حوالي عمر، وفي مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1). راجع ج 6 ص 6
(2). ما بين المربعين لم يرد في صحيح مسلم.
(3). أي سواه للسجود غير مرة في الصلاة.
(4). اللغو: الكلام المطرح الساقط. [.....]
(5). الحديث كما ورد في الموطإ وشرحه:" دخل رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد يوم الجمعة وعمر يخطب. فقال عمر: أية ساعة هذه؟ (إشارة إلى أن هذه الساعة ليست من ساعات الرواح إلى الجمعة لأنه وقت طويت فيه الصحف)- فقال: يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت- (اعتذار منه على أنه لم يشتغل بغير الفرض مبادرة إلى سماع الخطبة والذكر)- فقال عمر: الوضوء أيضا! وقد علمت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر بالغسل. (معناه أنك مع ما فاتك من التهجير فاتتك فضيلة الغسل الذي قد علمت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر به)
(6). في الأصول:" فأقر" بالقاف. والتصويب عن ابن العربي.

الحادية عشرة- لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد، خلافا لأحمد بن حنبل فإنه قال: إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة، لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها. وتعلق في ذلك بما روي أن عثمان أذن في يوم عيد لأهل العوالي «1» أن يتخلفوا عن الجمعة. وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه. والامر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام. وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في العيدين وفي الجمعة: ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى. 1] وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الغاشية: 1] قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصلاتين. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. الثانية عشرة- قوله تعالى: (إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) أي الصلاة. وقيل الخطبة والمواعظ، قاله سعيد بن جبير. ابن العربي: والصحيح أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة. وبه قال علماؤنا، إلا عبد الملك بن الماجشون فإنه رآها سنة. والدليل على وجوبها أنها تحرم البيع ولولا وجوبها ما حرمته، لان المستحب لا يحرم المباح. وإذا قلنا: إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة. والعبد يكون ذاكرا لله بفعله كما يكون مسبحا لله بفعله. الزمخشري: فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك! قلت: ما كان من ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله. فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحقاء بعكس ذلك، فهو من ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل. الثالثة عشرة- قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها. والبيع لا يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ «2» [النحل 81]. وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق. ومن لا يجب عليه حضور الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء.
__________
(1). العوالي: أما كن بأعلى أراضي المدينة وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية.
(2). راجع ج 10 ص 160

فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)

وفي وقت التحريم قولان: إنه من بعد الزوال إلى الفراغ منها، قاله الضحاك والحسن وعطاء. الثاني- من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة، قاله الشافعي. ومذهب مالك أن يترك البيع إذا نودي للصلاة، ويفسخ عنده ما وقع من ذلك من البيع في ذلك الوقت. ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره، إذ ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع. قالوا: وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ. ابن العربي: والصحيح فسخ الجميع، لان البيع إنما منع منه للاشتغال به. فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا. المهدوي. وراي بعض العلماء البيع في الوقت المذكور جائزا، وتأول النهي عنه ندبا، واستدل بقوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ. قلت:- وهذا مذهب الشافعي، فإن البيع ينعقد عنده ولا يفسخ. وقال الزمخشري في تفسيره: إن عامة العلماء على أن ذلك لا يؤدي فساد البيع. قالوا: لان البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب. وعن بعض الناس أنه فاسد. قلت: والصحيح فساده وفسخه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد). أي مردود. والله اعلم.

[سورة الجمعة (62): آية 10]
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
قوله تعالى: (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) هذا أمر إباحة، كقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» [المائدة: 2]. يقول: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم. (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أي من رزقه. وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت
__________
(1). راجع ج 6 ص 44

وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. وقال جعفر ابن محمد في قوله تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إنه العمل في يوم السبب. وعن الحسن ابن سعيد بن المسيب: طلب العلم. وقيل: صلاة التطوع. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شي من الدنيا، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة الأخ في الله تعالى. قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً) أي بالطاعة واللسان، وبالشكر على ما به أنعم عليكم من التوفيق لأداء الفرائض. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) كي تفلحوا. قال سعيد بن جبير: الذكر طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح. وقد مضى هذا مرفوعا في" البقرة" «1».

[سورة الجمعة (62): آية 11]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
فيه سبع عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخطب قائما يوم الجمعة، فجاءت عير «2» من الشام فانفتل «3» الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا- في رواية أنا فيهم- فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً. في رواية: فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد ذكر الكلبي وغيره: أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما يحتاج الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت، «4» وضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثني عشر رجلا. وقيل: أحد عشر رجلا. قال الكلبي: وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليها، وبقي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانية رجال، حكاه الثعلبي عن ابن عباس، وذكر
__________
(1). راجع ج 2 ص (171)
(2). العير- بكسر العين-: الإبل محمل الميرة، ثم غلب على كل قافلة. وانفئل الناس: انصرفوا.
(3). العير- بكسر العين-: الإبل محمل الميرة، ثم غلب على كل قافلة. وانفئل الناس: انصرفوا.
(4). أحجار الزيت: مكان في سوق المدينة.

الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطبنا يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع، «1» فالتفتوا إليها وانفضوا إلها وتركوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس معه إلا أربعون رجلا أنا فيهم. قال: وأنزل الله عز وجل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً). قال الدارقطني: لم يقل في هذا الاسناد" إلا أربعين رجلا" غير علي بن عاصم عن حصين، وخالفه أصحاب حصين فقالوا: لم يبق مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا اثنا عشر رجلا. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا)، ذكره الزمخشري. وروي في حديث مرسل أسماء الاثني عشر رجلا، رواه أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد. وفية: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن ابن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد وبلال، وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين. وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر. قلت: لم يذكر جابرا، وقد ذكر مسلم أنه كان فيهم، والدارقطني أيضا. فيكونون ثلاثة عشر. وإن كان عبد الله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر. وقد ذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقا بفضلهم ألا يفعلوا، فقال: حدثنا محمود بن خالد قال حدثنا الوليد قال أخبرني أبو معاذ بكر بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل، رجل فقال: إن دحية بن خليفة الكلبي قدم بتجارة، «2» وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شي، فأنزل الله عز وجل: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها. فقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة. وكان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يشير إليه
__________
(1). البقيع: مقبرة بالمدينة.
(2). في س، ز، ط، ل، هـ:" قدم بتجارته".

بإصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يشير إليه بيده. فكان من المنافقين من ثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، وكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستترا به حتى يخرج، فأنزل الله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً «1» [النور: 63] الآية. قال السهيلي: وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوجب أن يكون صحيحا. وقال قتادة: وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات، كل مرة عير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة. وقيل: إن خروجهم لقدوم دحية الكلبي بتجارته ونظرهم إلى العير تمر، لهو لا فائدة فيه، إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على غير ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الاعراض عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والانفضاض عن حضرته، غلظ وكبر ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وجاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (كل ما يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه). الحديث. وقد مضى في سورة (الأنفال"»
فلله الحمد. وقال جابر بن عبد الله: كانت الجواري إذا نكحن يمررن «3» بالمزامير والطبل فانفضوا إليها، فنزلت وإنما رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم. وقرا طلحة بن مصرف" وإذا رأوا التجار واللهو انفضوا إليها". وقيل: المعنى وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه فحذف لدلالته. كما قال:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
وقيل: الأجود في العربية أن يجعل الراجع في الذكر للآخر من الاسمين. الثانية- واختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أقوال، فقال الحسن: تنعقد الجمعة باثنين. وقال الليث وأبو يوسف، تنعقد بثلاثة. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة: بأربعة. وقال ربيعة: باثني عشر رجلا. وذكر النجاد أبو بكر أحمد بن سليمان «4» قال: حدثنا أبو خالد يزيد بن الهيثم بن طهمان الدقاق، حدثنا صبح بن دينار قال حدثنا
__________
(1). راجع ج 12 ص (322)
(2). راجع ج 8 ص (35)
(3). في أ:" يزمرن". [.....]
(4). في بعض المصادر:" سلمان".

المعافي بن عمران حدثنا معقل بن عبيد الله عن الزهري بسنده إلى مصعب بن عمير: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى المدينة، وأنه نزل في دار سعد بن معاذ، فجمع بهم وهم اثنا عشر رجلا ذبح لهم يومئذ شاة. وقال الشافعي: بأربعين رجلا. وقال أبو إسحاق الشيرازي في (كتاب التنبيه على مذهب الامام الشافعي): كل قرية فيها أربعون رجلا بالغين عقلاء أحرارا مقيمين، لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة، وأن يكونوا حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة وجبت عليهم الجمعة. ومال أحمد وإسحاق إلى هذا القول ولم يشترطا هذه الشروط. وقال مالك: إذا كانت قرية فيها سوق ومسجد فعليهم الجمعة من غير اعتبار عدد. وكتب عمر بن عبد العزيز: أي قرية اجتمع فيها ثلاثون بيتا فعليهم الجمعة وقال أبو حنيفة: لا تجب الجمعة على أهل السواد والقرى، لا يجوز لهم إقامتها فيها. واشترط في وجوب الجمعة وانعقادها: المصر الجامع والسلطان القاهر والسوق القائمة والنهر الجاري. واحتج بحديث علي: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ورفقة تعينهم «1». وهذا يرده حديث ابن عباس، قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقرية من قرى البحرين يقال لها جواثى. وحجة الامام الشافعي في الأربعين حديث جابر المذكور الذي خرجه الدارقطني. وفي سنن ابن ماجة والدارقطني أيضا ودلائل النبوة للبيهقي عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان، صلى على أبي أمامة واستغفر له- قال- فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان بالجمعة إلا فعل ذلك، فقلت له: يا أبة، استغفارك لابي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة، ما هو؟ قال: أي بني، هو أول من جمع بالمدينة في هزم «2» من حرة بني بياضة يقال له نقيع الخضمات، قال قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال أربعون رجلا. وقال جابر بن عبد الله:
__________
(1). ما بين المربعين كذا ورد في نسخ الأصل.
(2). الهزم: ما اطمأن من الأرض. وحرة بنى بياضة: قرية على ميل من المدينة. و" بياضة": بطن من الأنصار.

مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرا، وذلك أنهم جماعة. خرجه الدارقطني. وروى أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد: قرئ على عبد الملك ابن محمد الرقاشي وأنا أسمع حدثني رجاء بن سلمة قال حدثنا أبي قال حدثنا روح بن غطيف الثقفي قال حدثني الزهري عن أبي سلمة قال: قلت لابي هريرة على كم تجب الجمعة من رجل؟ قال: لما بلغ أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسين رجلا جمع بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قرئ على عبد الملك بن محمد وأنا أسمع قال حدثنا رجاء بن سلمة قال حدثنا عباد ابن عباد المهلبي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تجب الجمعة على خمسين رجلا ولا تجب على من دون ذلك). قال ابن المنذر: وكتب عمر بن عبد العزيز: أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلا فليصلوا الجمعة. وروى الزهري عن أم عبد الله الدوسية قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة). يعني بالقرى: المدائن. لا يصح هذا عن الزهري. في رواية (الجمعة واجبة على أهل كل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم). الزهري «1» لا يصح سماعه من الدوسية. والحكم «2» هذا «3» متروك. الثالثة- وتصح الجمعة بغير إذن الامام وحضوره. وقال أبو حنيفة: من شرطها الامام أو خليفته. ودليلنا أن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما فصلى ابن مسعود بالناس من غير إذنه. وروي أن عليا صلى الجمعة يوم حصر عثمان ولم ينقل أنه استأذنه. وروي أن سعيد بن العاصي والي المدينة لما خرج من المدينة صلى أبو موسى بالناس الجمعة من غير استئذان. وقال مالك: إن لله فرائض في أرضه لا يضيعها، وليها وال أو لم يلها. الرابعة- قال علماؤنا: من شرط أدائها المسجد المسقف. قال ابن العربي: ولا اعلم وجهه.
__________
(1). الزيادة عن الدارقطني.
(2). هو الحكم بن عبد الله، أحد رجال سند هذا الحديث.
(3). الزيادة عن الدارقطني.

قلت: وجهه قوله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ «1» [الحج: 26]، وقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ «2» [النور: 36 وحقيقة البيت أن يكون ذا حيطان وسقف. هذا العرف، والله اعلم. الخامسة- قوله تعالى: (وَتَرَكُوكَ قائِماً) شرط في قيام الخطيب على المنبر إذا خطب. قال علقمة: سئل عبد الله أكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب قائما أو قاعدا؟ فقال: أما تقرأ وَتَرَكُوكَ قائِماً. وفي صحيح مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا فقال: انظروا إلى هذا الخبيث، يخطب قاعدا وقال الله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً. وخرج عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة. وعلى هذا جمهور الفقهاء وأئمة العلماء. وقال أبو حنيفة: ليس القيام بشرط فيها. ويروى أن أول من خطب قاعدا معاوية. وخطب عثمان قائما حتى رق فخطب قاعدا. وقيل: إن معاوية إنما خطب قاعدا لسنه. وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم ولا يتكلم في قعدته. رواه جابر بن سمرة. ورواه ابن عمر في كتاب البخاري. السادسة: والخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها، وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن: هي مستحبة. وكذا فال ابن الماجشون: إنها سنة وليست بفرض. وقال سعيد بن جبير: هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذا تركها وصلي الجمعة فقد ترك الركعتين من صلاة الظهر. والدليل على وجوبها قوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً. وهذا ذم، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعا، ثم إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يصلها إلا بخطبة. السابعة: ويخطب متوكئا على قوس أو عصا. وفي سنن ابن ماجة قال حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد قال حدثني أبي عن أبيه عن جده
__________
(1). راجع ج 12 ص 36. وص 265
(2). راجع ج 12 ص 36. وص 265

أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا. الثامنة: ويسلم إذا صعد المنبر على الناس عند الشافعي وغيره. ولم يره مالك. وقد روى ابن ماجة من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صعد المنبر سلم. التاسعة: فإن خطب على غير طهارة الخطبة كلها أو بعضها أساء عند مالك، ولا إعادة عليه إذا صلى طاهرا. وللشافعي قولان في إيجاب الطهارة، فشرطها في الجديد ولم يشترطها في القديم. وهو قول أبي حنيفة. العاشرة: وأقل ما يجزي في الخطبة أن يحمد الله ويصلي على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويوصي بتقوى الله ويقرأ آية من القران. ويجب في الثانية أربع كالأولى، إلا أن الواجب بدلا من قراءة الآية في الاولى الدعاء، قال أكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة: لو اقتصر على التحميد أو التسبيح أو التكبير أجزأه. وعن عثمان رضي الله عنه أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله، وارتج عليه فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل فصلى. وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد. وقال أبو يوسف ومحمد: الواجب ما تناوله اسم خطبة. وهو قول الشافعي. قال أبو عمر بن عبد البر: وهو أصح ما قيل في ذلك. الحادية عشرة: في صحيح مسلم عن يعلى بن أمية أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ على المنبر وَنادَوْا يا مالِكُ «1» [الزخرف: 77]. وفية عن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لعمرة قالت: ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] إلا من في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة. وقد مضى في أول «2»" ق". وفي مراسيل أبي داود عن الزهري قال: كان صدر خطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الحمد لله. نحمده ونستعينه ونستغفره،
__________
(1). راجع ج 16 ص (116)
(2). راجع ج 17 ص 1

ونعوذ به من شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله (. وعنه قال: بلغنا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول إذا خطب: (كل ما هو آت قريب، و«1» لا بعد لما هو آت. لا يعجل الله لعجلة أحد، «2» ولا يخف لأمر الناس. ما شاء الله لا ما شاء الناس. يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس. ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله. لا يكون شي إلا بإذن الله عز وجل. وقال جابر: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة يخطب فيقول بعد أن يحمد الله ويصلي على أنبيائه: (أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات. والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم (. وقد تقدم ما خطب به عليه الصلاة والسلام أول جمعة عند قدومه المدينة. الثانية عشرة: السكوت للخطبة واجب على من سمعها وجوب سنة. والسنة أن يسكت لها من يسمع ومن لم يسمع، وهما إن شاء الله في الأجر سواء. ومن تكلم حينئذ لغا، ولا تفسد صلاته بذلك. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والامام يخطب فقد لغوت). الزمخشري: وإذا قال المنصت لصاحبه صه، فقد لغا، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغيا؟ نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام.
__________
(1). زيادة عن مراسيل أبى داود.
(2). في الأصول:" لعجله آت" والتصويب عن مراسيل أبى داود.

الثالثة عشرة: ويستقبل الناس الامام إذا صعد المنبر، لما رواه أبو داود مرسلا عن أبان بن عبد الله قال: كنت مع عدي بن ثابت يوم الجمعة، فلما خرج الامام- أو قال صعد المنبر- استقبله وقال: هكذا أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعلون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خرجه ابن ماجة عن عدي بن ثابت عن أبيه، فزاد في الاسناد: عن أبيه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال ابن ماجة: أرجو أن يكون متصلا. قلت: وخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا محمد بن معمر قال حدثنا عبد الله بن محمد ابن ناجية قال حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن الفضل الخراساني عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا. تفرد به محمد بن الفضل بن عطية عن منصور. الرابعة عشرة: ولا يركع من دخل المسجد والامام يخطب، عند مالك رحمه الله. وهو قول ابن شهاب رحمه الله وغيره. وفي الموطأ عنه: فخروج الامام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. وهذا مرسل. وفي صحيح مسلم من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والامام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز «1» فيهما). وهذا نص في الركوع. وبه يقول الشافعي وغيره. الخامسة عشرة: .. «2» .... ابن عون عن ابن سيرين قال: كانوا يكرهون النوم والامام يخطب ويقولون فيه قولا شديدا. قال ابن عون: ثم لقيني بعد ذلك فقال: تدري ما يقولون؟ قال: يقولون مثلهم كمثل سرية أخفقوا، ثم قال: هل تدري ما أخفقوا؟ لم تغنم شيئا. وعن سمرة بن جندب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا نعس أحدكم فليتحول إلى مقعد صاحبه وليتحول صاحبه إلى مقعده).
__________
(1). أي وليخفف أداءهما.
(2). بياض في أ. [.....]

السادسة عشرة: نذكر فيها من فضل الجمعة وفرضيتها ما لم نذكره. روى الأئمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه) وأشار بيده يقللها «1». وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (هي ما بين أن يجلس الامام إلى أن تقضى الصلاة). وروي من حديث أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبطأ علينا ذات يوم، فلما خرج قلنا: احتبست! قال: (ذلك أن جبريل أتاني كهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء فقلت ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة فيها خير لك ولأمتك وقد أرادها اليهود والنصارى فأخطئوها وهداكم الله لها قلت يا جبريل ما هذه النكتة السوداء قال هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه أو ادخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله وإنه خير الأيام عند الله وإن أهل الجنة يسمونه يوم المزيد (. وذكر الحديث. وذكر ابن المبارك ويحيى ابن سلام قالا: حدثنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبى عبيده بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب «2» من كافور أبيض، فيكونون منه في القرب- قال ابن المبارك- على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: كمسارعتهم إلى الجمعة في الدنيا. وزاد فيحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك. قال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه: وهو قوله تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ «3» [ق: 35]. قلت: قوله في كثيب يريد أهل الجنة. أي وهم على كثيب، كما روى الحسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم في كل جمعة على كثيب من كافور لا يرى طرفاه وفية نهر جار حافتاه المسك عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن
__________
(1). أي يشير إلى قلة تلك الساعة وعدم امتدادها.
(2). الكثيب: الرمل المستطيل.
(3). راجع ج 17 ص 21

أصوات سمعها الأولون والآخرون فإذا انصرفوا إلى منازلهم أخذ كل رجل بيد ما شاء منهن ثم يمرون على قناطر من لؤلؤ إلى منازلهم فلولا أن الله يهديهم إلى منازلهم ما اهتدوا إليها لما يحدث الله لهم في كل جمعة) ذكره يحيى بن سلام. وعن أنس قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليلة أسري بي رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل مدائنكم «1» هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدسونه ويقولون في تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد الجمعة اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة) ذكره الثعلبي. وخرج القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي من ولد عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله عز وجل يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها ويبعث الجمعة زهراء منيرة أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضا، وريحهم يسطع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجبا يدخلون الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون ( «2». وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال (الجمعة إلى الجمعة كفارة ما بينهما ما لم تغش الكبائر) خرجه مسلم بمعناه. وعن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الامام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها (. وعن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا. وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا. وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتؤجروا. واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له
__________
(1). في: ح، س، ط، ل، هـ:" مثل دنياكم".
(2). أي الطالبون وجه الله وثوابه.

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)

في أمره. ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له. ألا ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه. ألا لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤم أعرابي مهاجرا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه (. وقال ميمون بن أبي شيبة: أردت الجمعة مع الحجاج فتهيأت للذهاب، ثم قلت: أين أذهب أصلي خلف هذا الفاجر؟ فقلت مرة: أذهب، ومرة لا أذهب، ثم أجمع رأيي على الذهاب، فناداني مناد من جانب البيت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9]. السابعة عشرة- قوله تعالى: (قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) فيه وجهان: أحدهما: ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. الثاني: ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم. وقرا أبو رجاء العطاردي: قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ للذين آمنوا. (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي خير من رزق وأعطى، فمنه فاطلبوا، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة.

[تفسير سورة المنافقين ]
سورة المنافقون مدنية في قول الجميع، وهى إحدى عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المنافقون (63): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1)
قوله تعالى: (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول:" لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا". وقال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ

مِنْهَا الْأَذَلَ
فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبني. فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ- إلى قوله- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- إلى قوله- لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ" فأرسل إلي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: (إن الله قد صدقك) خرجه الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي الترمذي عن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان معنا أناس من الاعراب فكنا نبد الماء، وكان الاعراب يسبقونا إليه فيسبق الاعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة، ويجعل النطع «1» عليه حتى تجئ أصحابه. قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع حجرا «2» فغاض الماء، فرفع الاعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره- وكان من أصحابه- فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله- يعني الاعراب- وكانوا يحضرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الطعام، فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام، فليأكل هو ومن عنده. ثم قال لأصحابه: لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد: وأنا ردف «3» عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحلف وجحد. قال: فصدقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبني. قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبك والمنافقون «4». قال: فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع «5» على أحد. قال: فبينما أنا أسير مع رسول
__________
(1). بساط من جلد.
(2). في الترمذي:" فانتزع قباض الماء".
(3). في الترمذي:" وأنا ردف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(4). في الترمذي:" والمسلمون".
(5). في الترمذي:" فوقع على من الهم ما لم ......".

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر قد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال أبشر! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لابي بكر. فلما أصبحنا قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة المنافقين. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وسيل حذيفة بن اليمان عن المنافق، فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وهو اليوم شر منهم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان). وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر (. أخبر عليه السلام أن من جمع هذه الخصال كان منافقا، وخبره صدق. وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث فقال: إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وأتمنوا فخانوا. إنما هذا القول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال، شفقا أن تقضي بهم إلى النفاق. وليس المعنى: أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق. وقد مضى في سورة" براءة" القول في هذا مستوفي والحمد لله «1». وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (المؤمن إذا حدث صدق وإذا وعد أنجز وإذا ائتمن وفى). والمعنى: المؤمن الكامل إذا حدث صدق. والله اعلم. قوله تعالى: (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) قيل: معنى نَشْهَدُ نحلف. فعبر عن الحلف بالشهادة، لان كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب «2» ومنه قول قيس بن ذريح.
وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا
__________
(1). راجع ج 8 ص (212)
(2). في أ:" لأمر معين".

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)

ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعترافا بالايمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم، وهو الأشبه. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) كما قالوه بألسنتهم. (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم. وقال الفراء: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ بضمائرهم، فالتكذيب راجع إلى الضمائر. وهذا يدل على أن الايمان تصديق القلب، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب. ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب. وقد مضى هذا المعنى في أول" البقرة" مستوفي «1» وقيل: أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ «2» [التوبة: 56].

[سورة المنافقون (63): آية 2]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي سترة. وليس يرجع إلى قوله نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وإنما يرجع إلى سبب الآية التي نزلت عليه، حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن ابن أبي أنه حلف ما قال وقد قال. وقال الضحاك: يعني حلفهم بالله انهم لمنكم وقيل: يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة" براءة" إذ قال: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا «3» [التوبة: 74]. الثانية- من قال أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله أو أشهدت بالله أو أعزمت بالله أو أحلفت بالله، فقال في ذلك كله (بالله) فلا خلاف أنها يمين. وكذلك عند مالك وأصحابه إن قال: أقسم أو أشهد أو أعزم أو أحلف، ولم يقل (بالله)، إذا أراد (بالله). وإن لم يرد (بالله) فليس بيمين. وحكاه الكيا عن الشافعي، قال الشافعي: إذا قال أشهد بالله ونوى اليمين كان يمينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو قال
__________
(1). راجع ج 1 ص (192)
(2). راجع ج 8 ص 164 وص 206 [.....]
(3). راجع ج 8 ص 164 وص 206

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)

أشهد بالله لقد كان كذا كان يمينا، ولو قال أشهد لقد كان كذا دون النية كان يمينا لهذه الآية، لان الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً. وعند الشافعي لا يكون ذلك يمينا وإن نوى اليمين، لان قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً ليس يرجع إلى قوله: قالُوا نَشْهَدُ وإنما يرجع إلى ما في" براءة" من قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا [التوبة: 74]. الثالثة- قوله تعالى: (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي أعرضوا، وهو من الصدود. أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حكم الله عليهم من القتل والسبي واخذ الأموال، فهو من الصد، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا ويقتدي بهم غيرهم. وقيل: فصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام، بإن يقولوا ها نحن كافرون بهم، ولو كان محمد حقا لعرف هذا منا، ولجعلنا نكالا. فبين الله أن حالهم لا يخفي عليه، ولكن حكمه أن من أظهر الايمان أجرى عليه في الظاهر حكم الايمان. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئست أعمالهم الخبيئة- من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله- أعمالا.

[سورة المنافقون (63): آية 3]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)
هذا إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر. أي أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب. وقيل: نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوا (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي ختم عليها بالكفر (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) الايمان ولا الخير. وقرا زيد بن علي فطبع الله على قلوبهم.

[سورة المنافقون (63): آية 4]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
قوله تعالى: (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي هيئاتهم ومناظرهم. (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) يعني عبد الله بن أبي. قال ابن عباس: كان عبد الله بن أبي وسيما

جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالته. وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة. وقال الكلبي: المراد ابن أبى وجد بن قيس ومعتب ابن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. وفي صحيح مسلم: وقوله كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ قال: كانوا رجالا أجمل شي كأنهم خشب مسندة، شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام. وقيل: شبههم بالخشب التي قد تأكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها. وقرا قنبل وأبو عمرو والكسائي خُشُبٌ بإسكان الشين. وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد، لان واحدتها خشبة. كما تقول: بدنة وبدن، وليس في اللغة فعلة يجمع على فعل. ويلزم من ثقلها أن تقول: البدن، فتقرأ (والبدن). وذكر اليزيدي أنه جماع الخشباء، كقوله عز وجل: وَحَدائِقَ غُلْباً واحدتها حديقة غلباء. وقرا الباقون بالتثقيل وهي رواية البزي عن ابن كثير وعياش عن أبي عمرو، وأكثر الروايات عن عاصم. واختاره أبو حاتم، كأنه جمع خشاب وخشب، نحو ثمرة وثمار ثمر. وإن شئت جمعت خشبة على خشبة كما قالوا: بدنة وبدن وبدن. وقد روي عن ابن المسيب فتح الخاء والشين في خُشُبٌ. قال سيبويه: خشبة وخشب، مثل بدنة وبدن، قال: ومثله بغير هاء أسد وأسد ووثن ووثن وتقرأ خشب وهو جمع الجمع، خشبة وخشاب وخشب، مثل ثمرة وثمار وثمر. والاسناد الإمالة، تقول: أسندت الشيء أي أملته. ومُسَنَّدَةٌ للتكثير، أي استندوا إلى الايمان بحقن دمائهم. قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) أي كل أهل صيحة عليهم هم العدو. ف هُمُ الْعَدُوُّ في موضع المفعول الثاني على أن الكلام لا ضمير فيه. يصفهم بالجبن والخور. قال مقاتل والسدي: أي إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون، لما في قلوبهم من الرعب. كما قال الشاعر وهو الأخطل:
ما زلت تحسب كل شي بعدهم ... خيلا تكر عليهم ورجالا

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)

وقيل: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ كلام ضميره فيه لا يفتقر إلى ما بعد، وتقديره: يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم، لان للريبة خوفا. ثم استأنف الله خطاب نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هُمُ الْعَدُوُّ وهذا معنى قول الضحاك وقيل: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر فيها بقتلهم، فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم، ويهتك به أستارهم. وفي هذا المعنى قول الشاعر:
فلو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومة تدعو عبيدا وأزنما
بطن من بني، يربوع. ثم وصفهم الله بقوله: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ حكاه عبد الرحمن ابن أبي حاتم. وفي قوله تعالى: فَاحْذَرْهُمْ وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم. الثاني- فاحذر مما يلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك. (قاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي لعنهم الله قاله ابن عباس وأبو مالك. وهي كلمة ذم وتوبيخ. وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره! فيضعونه موضع التعجب. وقيل: معنى قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي أحلهم محل من قاتله عدو قاهر، لان الله تعالى قاهر لكل معاند. حكاه ابن عيسى. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ)
أي يكذبون، قاله ابن عباس. قتادة: معناه يعدلون عن الحق. الحسن: معناه يصرفون عن الرشد. وقيل: معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل، وهو من الافك وهو الصرف. و(أن) بمعنى كيف، وقد تقدم «1».

[سورة المنافقون (63): آية 5]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ) لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا: افتضحتم بالنفاق فتوبوا إلى رسول الله من النفاق، واطلبوا أن يستغفر لكم. فلووا رؤوسهم، أي حركوها استهزاء وإباء، قاله ابن عباس. وعنه أنه كان
__________
(1). راجع ج 3 ص 92 وج 4 ص 79

لعبد الله بن أبي موقف في كل سبب يحض على طاعة الله وطاعة رسوله، فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضبان: فأته يستغفر لك، فأبى وقال: لا أذهب إليه. وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا بني المصطلق على ماء يقال له" المريسيع" من ناحية" قديد" إلى الساحل، فازدحم أجير لعمر يقال له:" جهجاه" مع حليف لعبد الله بن أبي يقال له:" سنان" على ماء" بالمشلل"، فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالأنصار، فلطم جهجاه سنانا فقال عبد الله بن أبي: أو قد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز- يعني أبيا- الأذل، يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال لقومه: كفوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضوا ويتركوه. فقال زيد بن أرقم- وهو من رهط عبد الله- أنت والله الذليل المنتقص في قومك، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا. فقال عبد الله: اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: فأقسم بالله ما فعل ولا قال، فعذره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال زيد: فوجدت في نفسي ولا مني الناس، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك آيات شديدة فاذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليستغفر لك، فألوى برأسه، فنزلت الآيات. خرجه البخاري ومسلم والترمذي بمعناه. وقد تقدم أول السورة. وقيل: يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ يستتبكم من النفاق، لان التوبة استغفار. (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي يعرضون عن الرسول متكبرين عن الايمان. وقرا نافع" لووا" بالتخفيف. وشدد الباقون، واختاره أبو عبيد وقال: هو فعل لجماعة. النحاس: وغلط في هذا، لأنه نزل في عبد الله بن أبي لما قيل له: تعال يستغفر لك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرك رأسه استهزاء. فإن قيل: كيف أخبر عنه بفعل الجماعة؟ قيل له: العرب تفعل هذا إذا كنت عن الإنسان. أنشد سيبويه لحسان:
ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتم ... وفينا رسول عنده الوحي واضعه
وإنما خاطب حسان ابن الأبيرق في شي سرقه بمكة. وقصته مشهورة.

سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)

وقد يجوز أن يخبر عنه وعمن فعل فعله. وقيل: قال ابن أبي لما لوى رأسه: أمرتموني أن أو من فقد آمنت، وأن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد!.

[سورة المنافقون (63): آية 6]
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
قوله تعالى: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يعنى كل ذلك سواء، لا ينفع استغفارك شيئا، لان الله لا يغفر لهم. نظيره: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»
[البقرة 6]، سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ «2» [الشعراء: 136]. وقد تقدم. (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي من سبق في علم الله أنه يموت فاسقا.

[سورة المنافقون (63): آية 7]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)
ذكرنا سبب النزول فيما تقدم. وابن أبي قال: لا تنفقوا علي من عند محمد حتى ينفضوا، حتى يتفرقوا عنه. فأعلمهم الله سبحانه أن خزائن السموات والأرض له، ينفق كيف يشاء. قال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل فقال: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقال الجنيد: خزائن السموات الغيوب، وخزائن الأرض القلوب، فهو علام الغيوب ومقلب القلوب. وكان الشبلي يقول: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فأين تذهبون. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أنه إذا أراد أمرا يسره.
__________
(1). راجع ج 1 ص (184)
(2). راجع ج 13 ص 125

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

[سورة المنافقون (63): آية 8]
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
القائل ابن أبي كما تقدم. وقيل: إنه لما قال: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات، فاستغفر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألبسه قميصه، فنزلت هذه الآية: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وقد مضى بيانه هذا كله في سورة" براءة" «1» مستوفى. وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول قال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأعز وأنا الأذل، فقاله. توهموا أن العزة بكثرة الأموال والاتباع، فبين الله أن العزة والمنعة والقوة لله.

[سورة المنافقون (63): آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)
حذر المؤمنين أخلاق المنافقين، أي لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون إذ قالوا- للشح بأموالهم-: لا تنفقوا على من عند رسول الله. عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي عن الحج والزكاة. وقيل: عن قراءة القرآن. وقيل: عن إدامة الذكر. وقيل: عن الصلوات الخمس، قاله الضحاك. وقال الحسن: جميع الفرائض، كأنه قال عن طاعة الله. وقيل: هو خطاب للمنافقين، أي آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي من يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.

[سورة المنافقون (63): الآيات 10 الى 11]
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
__________
(1). راجع ج 8 ص 218

فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلا. وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها الثانية- قوله تعالى: (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا. وروى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا بن عباس، اتق الله، إنما سأل الرجعة الكفار. فقال: سأتلوا عليك بذلك قرانا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ إلى قوله وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال «1» مائتين فصاعدا. قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة." قلت": ذكره الحليمي أبو عبد الله الحسين بن الحسن في كتاب (منهاج الدين) مرفوعا فقال: وقال ابن عباس قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من كان عنده مال يبلغه الحج ... الحديث، فذكره. وقد تقدم في" آل عمران" «2» لفظه. الثالثة- قال ابن العربي:" أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل، فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين. وأما القول في الحج ففيه إشكال، لأنا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء، فلا تخرج الآية عليه. وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح، لان من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات. وأما تقدير الامر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء. وليس لكلام ابن عباس
__________
(1). جملة" إذا بلغ المال" ساقطة من س، ح.
(2). راجع ج 4 ص 153

فيه مدخل، لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها، وإنما يدخل في المتفق عليه. والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن، لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد. الرابعة- قوله تعالى: لَوْ لا أي هلا، فيكون استفهاما. وقيل: لا صلة، فيكون الكلام بمعنى التمني. فَأَصَّدَّقَ نصب على جواب التمني بالفاء. وَأَكُنْ عطف على فَأَصَّدَّقَ وهي قراءة أبى عمرو وابن محيصن ومجاهد. وقرا الباقون وَأَكُنْ بالجزم عطفا على موضع الفاء، لان قوله: فَأَصَّدَّقَ لو لم تكن الفاء لكان مجزوما، أي أصدق. ومثله: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ «1» [الأعراف: 186] فيمن جزم. قال ابن عباس: هذه الآية أشد على أهل التوحيد، لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. قلت: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة. (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من خير وشر. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرا أبو بكر عن عاصم والسلمى بالياء، على الخبر عمن مات وقال هذه المقالة." تمت السورة بحمد الله وعونه «2»"

[تفسير سورة التغابن ]
سورة التغابن مدنية في قول الأكثرين. وقال الضحاك: مكية. وقال الكلبي: هي مكية ومدنية. وهي ثماني عشرة آية. وعن ابن عباس أن" سورة التغابن" نزلت بمكة، إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] إلى آخر السورة. وعن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة" سورة التغابن".
__________
(1). راجع ج 7 ص (334)
(2). ما بين المربعين ساقط من ز، ب.

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التغابن (64): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تقدم في غير موضع.

[سورة التغابن (64): آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
قال ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمنا وكافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال: خطبنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشية فذكر شيئا مما يكون فقال: (يولد الناس على طبقات شتى. يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا. ويولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت كافرا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت مؤمنا (. وقال ابن مسعود: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا (. وفي الصحيح من حديث ابن مسعود:) وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (. خرجه البخاري والترمذي وليس فيه ذكر الباع. وفي صحيح مسلم عن سهل ابن سعد الساعدي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة (. قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك

الكفر. وقيل في الكلام محذوف: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه، قاله الحسن وقال غيره: لا حذف فيه، لان المقصود ذكر الطرفين. وقال جماعة من أهل العلم: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا: وتمام الكلام هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ. ثم وصفهم فقال: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ «1» [النور: 45] الآية. قالوا: فالله خلقهم، والمشي فعلهم. واختاره الحسين بن الفضل قال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ. واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) الحديث. وقد مضى في" الروم" مستوفى «2». قال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار وذويه. وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني في شأن الأنواء. وقال الزجاج- وهو أحسن الأقوال، والذي عليه الأئمة والجمهور من الامة-: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الايمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه، لان الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه. ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه، لان وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جعل، ولا يليقان بالله تعالى. وفي هذا سلامة من الجبر والقدر، كما قال الشاعر:
يا ناظرا في الدين ما الامر ... لا قدر صح ولا جبر
وقال سيلان: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ فقال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.
__________
(1). راجع ج 12 ص (290)
(2). راجع ج 14 ص 24

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

[سورة التغابن (64): آية 3]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قوله تعالى: (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) تقدم «1» في غير موضع، أي خلقها حقا يقينا لا ريب فيه. وقيل: الباء بمعنى اللام أي خلقها للحق وهو أن يجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) يعني آدم عليه السلام، خلقه بيده كرامة، له، قاله مقاتل. الثاني: جميع الخلائق. وقد مضى معنى التصوير، وأنه التخطيط والتشكيل «2». فإن قيل: كيف أحسن صورهم؟ قيل له: جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه صورة بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب، كما قال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «3» [التين: 4] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع، فيجازي كلا بعمله.

[سورة التغابن (64): آية 4]
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
تقدم في غير موضع. فهو عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شي

[سورة التغابن (64): آية 5]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5)
الخطاب لقريش أي ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية. (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي عوقبوا. (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع. وقد تقدم «4»
__________
(1). راجع ج 6 ص 384 وج 7 ص (19)
(2). راجع ص 48 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 20 ص (113) [.....]
(4). راجع ج 1 ص 198

ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)

[سورة التغابن (64): آية 6]
ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
أي هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم (بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلائل الواضحة. (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أنكروا أن يكون الرسول من البشر. وارتفع أَبَشَرٌ على الابتداء. وقيل: بإضمار فعل، والجمع على معنى بشر، ولهذا قال: يَهْدُونَنا ولم يقل يهدينا. وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسما للجنس، وواحده إنسان لا واحد له من لفظه. وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد، نحو قوله تعالى: ما هذا بَشَراً [يوسف: 31]. (فَكَفَرُوا) أي بهذا القول، إذ قالوه استصغارا ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده. وقيل: كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الايمان والموعظة. (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) أي بسلطانه عن طاعة عباده، قاله مقاتل. وقيل: استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان، عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية.

[سورة التغابن (64): آية 7]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
قوله تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي ظنوا. الزعم هو القول بالظن. وقال شريح: لكل شي كنية وكنية الكذب زعموا. قيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب حسب ما تقدم بيانه في آخر سورة" مريم" «1»، ثم عمت كل كافر. (قُلْ) يا محمد (بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) أي لتخرجن من قبوركم أحياء. (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ) لتخبرن. (بِما عَمِلْتُمْ) أي بأعمالكم. (وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) إذا لاعادة أسهل من الابتداء.

[سورة التغابن (64): آية 8]
قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
__________
(1). راجع ج 11 ص 145.

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

قوله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أمرهم بالايمان بعد أن عرفهم قيام الساعة. (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن، وهو نور يهتدي به من ظلمة الضلال. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

[سورة التغابن (64): آية 9]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) العامل في يَوْمَ لَتُنَبَّؤُنَّ أو خَبِيرٌ لما فيه من معنى الوعد، كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار اذكر. والغبن: النقص. يقال: غبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته. وقراءة العامة يَجْمَعُكُمْ بالياء، لقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فأخبر. ولذكر اسم الله أولا. وقرا نصر وابن أبي إسحاق والجحدري ويعقوب وسلام نجمعكم بالنون، اعتبارا بقوله: وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا. ويوم الجمع يوم يجمع الله الأولين والآخرين والانس والجن واهل السماء واهل الأرض. وقيل: هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله. وقيل: لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم. وقيل: لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. وقيل: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي. (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أي يوم القيامة. قال:
وما أرتجي بالعيش في دار فرقة ... ألا إنما الراحات يوم التغابن
وسمي يوم القيامة يوم التغابن، لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار. أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة، واخذ أهل النار النار على طريق المبادلة، فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب. يقال: غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك. وكذا أهل الجنة واهل النار، على ما يأتي بيانه. ويقال: غبنت

الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئا، فهو نقصان أيضا. والمغابن: ما انثنى من الخلق نحو الإبطين والفخذين. قال المفسرون: فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الايمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام. قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته. الثانية- فإن قيل: فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها. قيل له: هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع، كما قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «1» [البقرة: 16]. ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، وذكر أيضا أنهم غبنوا، وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة. وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا. وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين: فريقا للجنة وفريقا للنار. ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار. فقد يسبق الخذلان على العبد- كما بيناه في هذه السورة وغيرها- فيكون من أهل النار، فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول، فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن. والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن. وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرقة في هذا الكتاب. وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «2» [المؤمنون: 1] والله اعلم. وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد، ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته. وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف: رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به، وعمل به من تعلمه منه فنجا به. ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه، وفرط في طاعة ربه بسببه، ولم يعمل فيه خيرا، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه. ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية وبه فشقي. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين فيقول الرجل يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام وهؤلاء الخصوم
__________
(1). راجع ج 1 ص (210)
(2). راجع ج 12 ص 108

يطلبون ذلك ولم يبق لي ما أوفي به فتقول المرأة يا رب وما عسى أن أقول اكتسبه حراما وأكلته حلالا وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا فيقول الله تعالى قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به) فذلك يوم التغابن. الثالثة- قال ابن العربي: استدل علماؤنا بقوله تعالى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية، لان الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون واحتجوا عليه «1» بوجوه: منها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحبان بن منقذ:" إذا بايعت فقل لا خلابة «2» ولك الخيار ثلاثا". وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف. نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين، إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لاحد، فمضى في البيوع «3»، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا، لأنه لا يخلو منه، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به. والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم، فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد، إذ رأوه في الوصية وغيرها. ويكون معنى الآية على هذا: ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل. أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا، لان تغابن الدنيا يستدرك بوجهين: إما برد في بعض الأحوال، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى. فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا. وقد قال بعض علماء الصوفية: إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب. وفي الأثر قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن، وإن كان محسنا إن لم يزدد).
__________
(1). في ابن العربي:" عليها"
(2). الخلابة: الخديعة.
(3). في ابن العربي:" في الشرع".

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) قرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما، والباقون بالياء.

[سورة التغابن (64): آية 10]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) يعني القرآن (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكافرين كما تقدم في غير موضع.

[سورة التغابن (64): آية 11]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
قوله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي بإرادته وقضائه. وقال الفراء: يريد إلا بأمر الله. وقيل: إلا بعلم الله. وقيل: سبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل، يقتضي هما أو يوجب عقابا عاجلا أو آجلا فبعلم الله وقضائه. قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ) أي يصدق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله. (يَهْدِ قَلْبَهُ) للصبر والرضا. وقيل: يثبته على الايمان. وقال أبو عثمان الجيزي: من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ عند المصيبة فيقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156]، قاله ابن جبير. وقال ابن عباس: هو أن يجعل الله في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال الكلبي: هو إذا أبتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. وقيل: يهد قلبه إلى نيل الثواب في الجنة. وقراءة العامة يَهْدِ بفتح الياء وكسر الدال، لذكر اسم الله أولا. وقرا السلمي وقتادة (يهد قلبه) بضم الياء وفتح الدال على الفعل المجهول ورفع الباء، لأنه اسم فعل لم يسم فاعله.

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)

وقرا طلحة بن مصرف والأعرج" نهد" بنون على التعظيم قَلْبَهُ بالنصب. وقرا عكرمة" يهدأ قلبه" بهمزة ساكنة ورفع الباء، أي يسكن ويطمئن. وقرا مثله مالك بن دينار، إلا أنه لين الهمزة. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلم لأمره، ولا كراهة من كرهه.

[سورة التغابن (64): الآيات 12 الى 13]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
أي هونوا على أنفسكم المصائب، واشتغلوا بطاعة الله، واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته، فإن توليتم عن الطاعة فليس على الرسول إلا التبليغ. (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود سواه، ولا خالق غيره، فعليه توكلوا.

[سورة التغابن (64): آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جفاء أهله وولده، فنزلت. ذكره النحاس. وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة" التغابن" كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي. وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. وروى الترمذي عن ابن عباس- وسأله رجل عن هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ- قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ الآية. هذا حديث حسن صحيح. الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الايمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة (. وقعود الشيطان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة. والثاني- بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب، قال الله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ «1» [فصلت: 25]. وفي حكمة عيسى عليه السلام: من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا. وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس «2» عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس وانتكس
__________
(1). راجع ج 15 ص 354
(2). قوله:" تعس" هلك. و" الخميصة": كساء أسود مربع له أعلام وخطوط. و" القطيفة": دثار له أهداب." رانتكس" عاوده المرض كما بدأ به. أو انقلب على رأسه، وهو دعاه عليه بالخيبة. و" شيك": أصابته شوكة. و" فلا انتقش" أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش.

إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)

وإذا شيك فلا انتقش (. ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد. الثالثة- كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه. وعموم قوله: مِنْ أَزْواجِكُمْ يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية. والله اعلم. الرابعة- قوله تعالى: (فَاحْذَرُوهُمْ) معناه على أنفسكم. والحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدن، وإما لضرر في الدين. وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة. فحذر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به. الخامسة- قوله تعالى: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) روى الطبري عن عكرمة في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ قال: كان الرجل يريد أن يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول له أهله: أين تذهب وتدعنا؟ قال: فإذا أسلم وفقه قال: لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الامر، فلا فعلن ولأفعلن، قال: فأنزل الله عز وجل: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقال مجاهد في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ قال: ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. وخصوص السبب لا يمنع عموم «1» الحكم.

[سورة التغابن (64): آية 15]
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
قوله تعالى:ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
أي بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله. وفي الحديث (يؤتى برجل يوم القيامة
__________
(1). لفظة" عموم" ساقطة من ح، س.

فيقال أكل عياله حسناته (. وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات. وقال القتيبي:تْنَةٌ
أي إغرام، يقال: فتن الرجل بالمرأة أي شغف بها وقيل:تْنَةٌ
محنة. ومنه قول الشاعر:
لقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا
وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال واهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ: أدخل مِنْ للتبعيض، لان كلهم ليسوا بأعداء. ولم يذكر مِنْ في قوله تعالى:نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما السلام- وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحملهما بين يديه، ثم قال: (صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما) ثم أخذ في خطبته.َ- اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
يعني الجنة، فهي الغاية، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله يقول لأهل الجنة يأهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا رب وأى شي أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا (. وقد تقدم ولا شك في أن الرضا غاية الآمال. وأنشد الصوفية في تحقيق ذلك:
امتحن الله به خلقه ... فالنار والجنة في قبضته
فهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنته

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)

[سورة التغابن (64): الآيات 16 الى 17]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) فيه خمس مسائل: الاولى- ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «1» [آل عمران: 102] منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد. ذكر الطبري: وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] قال: جاء أمر شديد، قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الأخرى فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. وقيل: هي محكمة لا نسخ فيها. وقال ابن عباس: قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] إنها لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقد تقدم «2». الثانية- فإن قيل: فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة التغابن: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وكيف يجوز اجتماع الامر باتقاء الله حق تقاته والامر باتقائه ما استطعنا. والامر باتقائه حق تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط، والامر باتقائه ما استطعنا أمر باتقائه موصولا بشرط. قيل له: قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ بمعزل مما دل عليه قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] وإنما عنى بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم
__________
(1). راجع ج 4 ص 157
(2). راجع ج 4 ص 157

وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم، وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، فتتركوا الهجرة ما استطعتم، بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إلى قوله فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ «1» [النساء: 99- 97]. فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك، فكذلك معنى قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. ومما يدل على صحة هذا أن قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ عقيب قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ. ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك، حسب ما تقدم. وهذا كله اختيار الطبري. وقيل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فيما تطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت الاولى، قاله ابن جبير. قال الماوردي: ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لأنه لا يستطيع اتقاءها. الثالثة- قوله تعالى: (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه. وقال مقاتل: اسْمَعُوا أي أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله، وهو الأصل في السماع. وَأَطِيعُوا لرسوله فيما أمركم أو نهاكم. وقال قتادة: عليهما بويع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة. وقيل: وَاسْمَعُوا أي اقبلوا ما تسمعون، وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته.
__________
(1). راجع ج 5 ص 354.

قلت: وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبد الملك بن مروان فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا هي لعبد الملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مثنوية، والله لو أمرت رجلا أن يخرج من باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه. وكذب في تأويلها بل هي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولا ثم لاولي الامر من بعده. دليله وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1» [النساء: 59]. الرابعة- قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا) قيل: هو الزكاة، قاله ابن عباس. وقيل: هو النفقة في النفل. وقال الضحاك: هو النفقة في الجهاد. وقال الحسن: هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي: وإنما أوقع قائل هذا قوله: لِأَنْفُسِكُمْ وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه، قال الله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «2» [الاسراء: 7]. وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه. والصحيح أنها عامة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال له رجل: عندي دينار؟ قال: (أنفقه على نفسك) قال: عندي آخر؟ قال: (أنفقه على عيالك) قال: عندي آخر؟ قال: (أنفقه على ولدك) قال: عندي آخر؟ قال: (تصدق به) فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك. وهو الأصل في الشرع. الخامسة- قوله تعالى: (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) خَيْراً نصب بفعل مضمر عند سيبويه، دل عليه وَأَنْفِقُوا كأنه قال: ايتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم، أو قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم. وهو عند الكسائي والفراء نعت لمصدر محذوف، أي أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم. وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة، أي يكن خيرا لكم. ومن جعل الخير المال فهو منصوب ب أَنْفِقُوا. قوله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تقدم الكلام فيه «3». وكذا (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) تقدم الكلام فيه أيضا في" البقرة" «4» وسورة
__________
(1). راجع ج 5 ص 258. [.....]
(2). راجع ج 10 ص 227.
(3). راجع ص 29 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 3 ص 237 وج 17 ص 242

" الحديد". (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) تقدم معنى الشكر في" البقرة" «1». والحليم: الذي لا يعجل.

[سورة التغابن (64): آية 18]
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قوله تعالى (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما غاب وحضر. وهو (الْعَزِيزُ) أي الغالب القاهر. فهو من صفات الافعال، ومنه قوله عز وجل: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «2» [الجاثية: 2]. أي من الله القاهر المحكم خالق الأشياء. وقال الخطابي: وقد يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: عز يعز (بكسر العين) فيتناول معنى العزيز على هذا أنه لا يعادله شي وأنه لا مثل له. والله اعلم. (الْحَكِيمُ) في تدبير خلقه. وقال ابن الأنباري: الْحَكِيمُ هو المحكم لخلق الأشياء، صرف عن مفعل إلى فعيل، ومنه قوله عز وجل: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ «3» [يونس: 1] معناه المحكم، فصرف عن مفعل إلى فعيل. والله اعلم.

[تفسير سورة الطلاق ]
سورة الطلاق مدنية في قول الجميع. وهى إحدى عشرة آية، أو اثنتا عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الطلاق (65): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
__________
(1). راجع ج 1 ص (397)
(2). راجع ج 15 ص (232)
(3). راجع ج 8 ص 305

فيه أربع عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)»
الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خوطب بلفظ الجماعة تعظيما وتفخيما. وفي سنن ابن ماجة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها. وروى قتادة عن أنس قال: طلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى عليه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. وقيل له: راجعها فإنها قوامة صوامه، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره الماوردي والقشيري والثعلبي. زاد القشيري: ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ، مِنْ بُيُوتِهِنَّ. وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حفصة، لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة، فنزلت الآية. وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر، طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. وقد قيل: إن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن سعيد بن العاص، وعتبة بن غزوان، فنزلت الآية فيهم. قال ابن العربي: وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الأول أمثل. والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ. وقد قيل: إنه خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته. وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب وذلك لغة فصيحة، كما قال: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «2» [يونس: 22]. تقديره: يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وهذا هو قولهم،: إن الخطاب له وحده والمعنى له وللمؤمنين. وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لا طفه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ. فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ.
__________
(1). لفظة:" النساء" ساقطة من ح، س.
(2). راجع ج 8 ص 324.

قلت: ويدل على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية. ففي كتاب أبي داود عنها أنها طلقت على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله تعالى حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقيل: المراد به نداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيما، ثم ابتدأ فقال: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ [المائدة: 90] الآية «1». فذكر المؤمنين على معنى تقديمهم وتكريمهم، ثم افتتح فقال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ الآية. الثانية- روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق). وعن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش). وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات). وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق). أسند جميعه الثعلبي رحمه الله في كتابه. وروى الدارقطني قال: حدثنا أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن ابن عرفة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله شيئا على وجه الأرض «2» أبغض من الطلاق. فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استثناء له. وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله «3» فله استثناؤه ولا طلاق عليه (. حدثنا محمد بن موسى بن علي قال: حدثنا حميد بن الربيع قال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد: قال لي يزيد بن هارون: وأى حديث لو كان حميد بن مالك معروفا؟ قلت:
__________
(1). راجع ج 6 ص 285.
(2). زيادة عن سنن الدارقطني.
(3). زيادة عن سنن الدارقطني.

هو جدي. قال يزيد: سررتني سررتني! الآن صار حديثا. حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سنين حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد حدثنا حميد بن مالك اللخمي حدثنا مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق فمن طلق واستثنى فله ثنياه). قال ابن المنذر: اختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق، فقالت طائفة: ذلك جائز. وروينا هذا القول عن طاوس. وبه قال حماد الكوفي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي. وهذا قول قتادة في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. الثالثة- روى الدارقطني من حديث عبد الرزاق أخبرني عمي وهب بن نافع قال سمعت عكرمة يحدث عن ابن عباس يقول: الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان ووجهان حرامان، فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا عن غير جماع وأن يطلقها حاملا مستبينا حملها. وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها، لا تدري اشتمل الرحم على ولد أم لا. الرابعة- قوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) في كتاب أبي داود عن أسماء بنت يزيد ابن السكن الأنصارية أنها طلقت على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله سبحانه حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقد تقدم. الخامسة: قوله تعالى: لِعِدَّتِهِنَّ يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن من الأزواج، لان غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «1» [الأحزاب: 49]. السادسة: من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة. وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة. وقال سعيد بن المسيب في آخري: «2» لا يقع الطلاق في الحيض
__________
(1). راجع ج 14 ص 202.
(2). في ط" في أخر" وكلنا هما غير واضحة.

لأنه خلاف السنة. وإليه ذهبت الشيعة. وفي الصحيحين- واللفظ للدار قطني- عن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتغيظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله (. وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. في رواية عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (هي واحدة). وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قولهم. السابعة: عن عبد الله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة، فإذا كان آخر ذلك فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها. رواه الدارقطني عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله. قال علماؤنا: طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا، لم يمسها في ذلك الطهر، ولا تقدمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة. وقال الشعبي: يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه. فعلماؤنا قالوا: يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه، ولا تبعه طلاق في عدة، ولا يكون الطهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء (. وتعلق الامام الشافعي بظاهر قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه الوقت لا العدد. قال ابن العربي:" وهذه غفلة عن الحديث

الصحيح، فإنه قال: (مره فليراجعها) وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال: أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال حرمت عليك وبانت منك بمعصية. وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو مذهب الشافعي لولا قوله بعد ذلك: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية. وكذلك قال أكثر العلماء، وهو بديع لهم. وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا، ولكن الحديث فسرها كما قلنا. وأما قول الشعبي: إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه. أما نصه فقد قدمناه، وأما معناه فلانه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به، فالطهر المجامع فيه أولى بالمنع، لأنه يسقط الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له. قلت: وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدارقطني عن سلمة ابن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب ذلك. قال: وحدثنا سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث تطليقات في كلمة، فأبانها منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يبلغنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاب ذلك عليه. واحتج أيضا بحديث عو يمر العجلاني لما لا عن قال: يا رسول الله، هي طالق ثلاث. فلم ينكر عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد انفصل علماؤنا عن هذا أحسن انفصال. بيانه في غير هذا الموضع. وقد ذكرناه في كتاب (المقتبس من شرح موطأ مالك بن أنس). وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع، وشبهوه بمن وكل بطلاق السنة «1» فخالف. الثامنة: قال الجرجاني: اللام في قوله تعالى: لِعِدَّتِهِنَّ بمعنى في، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ «2» [الحشر
: 2].
__________
(1). في ط:" فخالف السنة". [.....]
(2). راجع ص 1 من هذا الجزء.

أي في أول الحشر. فقوله: لِعِدَّتِهِنَّ أي في عدتهن، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن. وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع وفي الطهر مأذون فيه. ففيه دليل على أن القرء هو الطهر. وقد مضى القول فيه في" البقرة" «1» فإن قيل: معنى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي في قبل «2» عدتهن، أو لقبل عدتهن. وهي قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره. فقبل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحيض «3»، قيل له: هذا هو الدليل الواضح لمالك ومن قال بقوله، على أن الاقراء هي الاطهار. ولو كان كما قال الحنفي ومن تبعه لوجب أن يقال: إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقا لقبل الحيض، لان الحيض لم يقبل بعد. وأيضا إقبال الحيض يكون بدخول الحيض، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض. ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطرا قبل مغيب الشمس، إذ الليل يكون مقبلا في إدبار النهار قبل انقضاء النهار. ثم إذا طلق في آخر الطهر فبقية الطهر قرء، ولان بعض القرء يسمى قرءا لقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197] يعني شوالا وذا القعدة وبعض ذي الحجة، لقوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 203] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني. وقد مضى هذا كله في" البقرة" مستوفى «4». التاسعة- قوله تعالى: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) يعني في المدخول بها، لان غير المدخول بها لا عدة عليها، وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة، ويكون بعدها كأحد الخطاب. ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج. العاشرة- قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ معناه احفظوها، أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق، حتى إذا انفصل المشروط منه وهو الثلاثة قروء في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «5» [البقرة: 228] حلت للأزواج. وهذا يدل على أن العدة هي الاطهار وليست بالحيض. ويؤكده ويفسره قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لقبل عدتهن" وقبل الشيء بعضه لغة وحقيقة، بخلاف استقباله فإنه يكون غيره.
__________
(1). راجع ج 3 ص (113)
(2). أي في إقباله وأوله حين يمكنها الدخول في العدة والشروع فيها فتكون لها محسوبة، وذلك في حالة الطهر.
(3). في: ح، س" الطهر".
(4). راجع ج 3 ص 1 وص 112
(5). راجع ج 3 ص 1 وص 112

الحادية عشرة: من المخاطب بأمر الإحصاء؟ وفية ثلاث أقوال: أحدها- أنهم الأزواج. الثاني- أنهم الزوجات. الثالث- أنهم المسلمون. ابن العربي:" والصحيح أن المخاطب بهذا اللفظ الأزواج، لان الضمائر كلها من طَلَّقْتُمُ وأَحْصُوا ولا تُخْرِجُوهُنَّ على نظام واحد يرجع إلى الأزواج، ولكن الزوجات داخلة فيه بالالحاق بالزوج، لان الزوج يحصي ليراجع، وينفق أو يقطع، وليسكن أو يخرج وليلحق نسبه أو يقطع. وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك. وكذلك الحاكم يفتقر إلى الإحصاء للعدة للفتوى عليها، وفصل الخصومة عند المنازعة فيها. وهذه فوائد الإحصاء المأمور به". الثانية عشرة- قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) أي لا تعصوه. (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة. والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن، كقوله تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ «1» [الأحزاب: 34]، وقوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ «2» [الأحزاب: 33] فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك. وقوله: لا تُخْرِجُوهُنَّ يقتضي أن يكون حقا في الأزواج. ويقتضي قوله: وَلا يَخْرُجْنَ أنه حق على الزوجات. وفي صحيح الحديث عن جابر بن عبد الله قال: طلقت خالتي فأرادت أن تجد «3» نخلها فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا). خرجه مسلم. ففي هذا الحديث دليل لمالك والشافعي وابن حنبل والليث على قولهم: إن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل. وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة. وقال الشافعي في الرجعية: لا تخرج ليلا ولا نهارا، وإنما تخرج نهارا المبتوتة. وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفي عنها زوجها، وأما المطلقة
__________
(1). راجع ج 14 ص (182)
(2). راجع ج 14 ص (182)
(3). الجداد (بفتح الجيم وكسرها): صرام النخل، وهو قطع ثمرها.

فلا تخرج لا ليلا ولا نهارا. والحديث يرد عليه. وفي الصحيحين أن أبا حفص «1» بن عمرو خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطلقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها: والله ما لك من نفقة إلا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت له قولهما. فقال: (لا نفقة لك)، فاستأذنته في الانتقال فأذن لها، فقالت: أين يا رسول الله؟ فقال: (إلى ابن أم مكتوم)، وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها. فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلي الله عليه وسلم أسامة بن زيد. فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته. فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن، قال الله عز وجل: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ الآية، قالت: هذا لمن كانت له رجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا، فعلام تحبسونها؟ لفظ مسلم. فبين أن الآية في تحريم الإخراج والخروج إنما هو في الرجعية. وكذلك استدلت فاطمة بأن الآية التي تليها إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية، لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدتها، فكأنها تحت تصرف الزوج في كل وقت. وأما البائن فليس له شي من ذلك، فيجوز لها أن تخرج إذا دعتها إلى ذلك حاجة، أو خافت عورة منزلها، كما أباح لها النبي صلي الله عليه وسلم ذلك. وفي مسلم- قالت فاطمة يا رسول الله، زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت وفي البخاري عن عائشة أنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص النبي صلي الله عليه وسلم لها. وهذا كله يرد على الكوفي قوله. وفي حديث فاطمة: أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، فهو حجة لمالك وحجة على الشافعي. وهو أصح من حديث سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاث تطليقات في كلمة، على ما تقدم.
__________
(1). ويقال فيه:" أبو عمرو بن حفص". راجع كتاب الإصابة ج 7 ص 44، 136 (طبع الشرفية).

الثالثة عشرة- قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال ابن عباس وابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد: هو الزنى، فتخرج ويقام عليها الحد. وعن ابن عباس أيضا والشافعي: أنه البذاء على أحمائها، فيحل لهم إخراجها. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنتقل. وفي كتاب أبي داود قال سعيد: تلك امرأة فتنت «1» الناس، إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى. قال عكرمة: في مصحف أبي" إلا أن يفحشن عليكم". ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله فإنك تعلمين لم أخرجت؟ وعن ابن عباس أيضا: الفاحشة كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل. وهو اختيار الطبري. وعن ابن عمر أيضا والسدي: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة. وتقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق، أي لو خرجت كانت عاصية. وقال قتادة: الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز فتتحول عن بيته. قال ابن العربي: أما من قال إنه الخروج للزنى، فلا وجه له، لان ذلك الخروج هو خروج القتل والاعدام: وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام. وأما من قال: إنه البذاء، فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس. وأما من قال: إنه كل معصية، فوهم لان الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج. وأما من قال: إنه الخروج بغير حق، فهو صحيح. وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي هذه الأحكام التي بينها أحكام الله على العباد، وقد منع التجاوز عنها، فمن تجاوز فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك. (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) الامر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها. وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة. ومعنى القول: التحريض على
__________
(1). قوله" فتنت الناس" يريد أنها فتنت الناس بذكرها حديثها أن النبي عليه السلام أمرها أن تنتقل من بيت مطلقها على وجه يوقع الناس في الخطا. وقوله" لسنة" بكسر السين: أي كانت تأخذ الناس وتجرحهم بلسانها. وقوله" فوضعت" أي أخرجت من بيت زوجها وجعلت كالوديعة عند ابن أم مكتوم.

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)

طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، فإنه إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع، فلا يجد عند الرجعة سبيلا. وقال مقاتل: بَعْدَ ذلِكَ أي بعد طلقة أو طلقتين أَمْراً أي المراجعة من غير خلاف.

[سورة الطلاق (65): الآيات 2 الى 3]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
قوله تعالى: (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي قاربن انقضاء العدة، كقوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ «1» [البقرة: 231] أي قربن من انقضاء الأجل. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يعني المراجعة بالمعروف، أي بالرغبة من غير قصد المضارة في الرجعة تطويلا لعدتها. كما تقدم في" البقرة" «2». (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن. وفي قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا ادعت ذلك، على ما بيناه في سورة" البقرة" عند قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ [البقرة: 228] الآية «3». قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا أمر بالإشهاد «4» على الطلاق. وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء. وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا. وهذا الاشهاد مندوب إليه عند
__________
(1). راجع ج 3 ص 155 وص (118)
(2). راجع ج 3 ص 155 وص (118)
(3). راجع ج 3 ص 155 وص (118) [.....]
(4). في أ:" أمر بإملاء الاشهاد ...".

أبي حنيفة، كقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ «1» [البقرة: 282]. وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الاشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية «2» ليرث. الثانية- الاشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب. وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة، وتكلم بالرجعة يريد به الرجعة فهو مراجع عند مالك، وإن لم يرد بذلك الرجعة فليس بمراجع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لامس بشهوة فهو رجعة. وقالوا: والنظر إلى الفرج رجعة. وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة فهو رجعة. وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها. وروي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك. وإليه ذهب الليث. وكان ما لك يقول: إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطئ فاسد، ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الاولى، وليس له رجعة في هذا الاستبراء. الثالثة- أوجب الاشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه، والشافعي كذلك لظاهر الامر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر: إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول، فلم تفتقر إلى الاشهاد كسائر الحقوق، وخصوصا حل الظهار بالكفارة. قال ابن العربي: وركب أصحاب الشافعي على وجوب الاشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول: كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم على الإقرار بالرجعة، ومن شرط الرجعة الاشهاد فلا تصح دونه. وهذا فاسد مبني على أن الاشهاد في الرجعة تعبد. ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بأن نقول: إنه موضع للتوثق، وذلك موجود في الإقرار كما هو موجود في الإنشاء. الرابعة: من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته جاز وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بينة أنه ارتجعها في العدة ولم تعلم بذلك لم يضره جهلها بذلك،
__________ (1). راجع ج 3 ص 377.
(2). في ح، س" نبوت الرجعية".

وكانت زوجته، وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ثم أقام الأول البينة على رجعتها فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما- أن الأول أحق بها. والأخرى- أن الثاني أحق بها. فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها. الخامسة- قوله تعالى: ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قال الحسن: من المسلمين. وعن قتادة: من أحراركم. وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث، لان ذَوَيْ مذكر. ولذلك قال علماؤنا: لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال. وقد مضى ذلك في سورة" البقرة" «1». السادسة- قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها، إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير. وقد مضى في سورة" البقرة معناه عند قوله تعالى: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ «2» [البقرة: 282]. قوله تعالى: (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ) أي يرضى به. (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ. قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج؟ فتلاها. وقال ابن عباس والشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة، أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة وعن ابن عباس أيضا يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة. وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه، قاله علي بن صالح. وقال الكلبي: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بالصبر عند المصيبة. يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من النار إلى الجنة. وقال الحسن: مخرجا مما نهى الله عنه. وقال أبو العالية: مخرجا من كل شدة. الربيع ابن خيثم: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من كل شي ضاق على الناس. الحسين بن الفضل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أداء الفرائض، يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من العقوبة. (وَيَرْزُقْهُ) الثواب
__________
(1). راجع ج 3 ص (394)
(2). راجع ج 3 ص 401

(مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي يبارك له فيما آتاه. وقال سهل بن عبد الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أتباع السنة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب. وقيل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية. وقال عمر بن عثمان الصدفي: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ من حيث لا يرجو. وقال ابن عيينة: هو البركة في الرزق. وقال أبو سعيد الخدري: ومن يبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له. وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم. وقال أبو ذر: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (إنى لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم- ثم تلا- وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). فما زال يكررها ويعيدها. وقال ابن عباس: قرأ النبي صلي الله عليه وسلم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال: (مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة). وقال أكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي: إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. روي الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو وجزعت الام. وعن جابر بن عبد الله: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون أبنا له يسمى سالما، فأتى رسول الله صلي الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الام، فما تأمرني؟ فقال عليه السلام: (أتق الله وأصبر وآمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله). فعاد إلى بيته وقال لا مرأته: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا به. فجعلا يقولان، فغفل العدو عن أبنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة. فنزلت الآية، وجعل النبي صلي الله عليه وسلم تلك الأغنام له. في رواية: أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو وكان فقيرا. قال

الكلبي: أصاب خمسين بعيرا. وفي رواية: فأفلت أبنه من الأسر وركب ناقة للقوم، ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه وقال مقاتل: أصاب غنما ومتاعا فسأل النبي صلي الله عليه وسلم: أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني؟ قال: (نعم). ونزلت: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. فروي الحسن عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها (. وقال الزجاج: أي إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله، فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب). قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه. وقيل: أي من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه، فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية. ولم يرد الدنيا، لان المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل. (إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ) قال مسروق: «1» أي قاض «2» أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه فيكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وقراءة العامة" بالغ" منونا." أمره" نصبا. وقرا عاصم" بالغ أمره" بالإضافة وحذف التنوين استخفافا وقرا المفضل" بالغا أمره" على أن قوله: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ خبر إِنَّ و" بالغا" حال. وقرا داود بن أبي هند" بالغ أمره" بالتنوين ورفع الراء. قال الفراء: أي أمره بالغ. وقيل:" أمره" مرتفع" ب" بالغ" والمفعول محذوف، والتقدير: بالغ أمره ما أراد. (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي لكل شي من الشدة والرخاء
أجلا ينتهي إليه. وقيل تقديرا. وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة. وقال عبد الله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قال أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم: فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ح، س.
(2). في الأصول:" يعنى قاض"

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ «1» قَلْبَهُ [التغابن: 11]. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ «2» فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]. إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ «3» [التغابن: 17]. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»
[آل عمران: 101]. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «5» [البقرة: 186].

[سورة الطلاق (65): الآيات 4 الى 5]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)
قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) فيه سبع مسائل: الاولى: قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الاقراء، عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة" البقرة" في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شي: الصغار وذوات الحمل، فنزلت: وَاللَّائِي يَئِسْنَ الآية. وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ( [228) قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدة التي لم تحض، وعدة التي انقطع حيضها، وعدة
__________
(1). راجع ص 139 وص 161، 146 من هذا الجزء.
(2). راجع ص 139 وص 161، 146 من هذا الجزء.
(3). راجع ص 139 وص 161، 146 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 4 ص (156)
(5). راجع ج 2 ص 4 (308) ج 3 ص 112

الحبلى؟ فنزلت: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ يعنى قعدن عن المحيض. وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست، فنزلت الآية. والله أعلم. وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة. الثانية- قوله تعالى: إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم، وقيل تيقنتم. وهو من الأضداد، يكون شكا ويقينا كالظن. واختيار الطبري أن يكون المعنى: إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن. وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. القشيري: وفي هذا نظر، لأنا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر. والمعتبر في سن اليأس في قول، أقصى عادة امرأة في العالم، وفي قول: غالب نساء عشيرة المرأة. وقال مجاهد: قوله إِنِ ارْتَبْتُمْ للمخاطبين، يعني إن لم تعلموا كم عدة اليائسة والتي لم تحض فالعدة هذه. وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر. وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض، تحيض في أول الشهر مرارا وفي الأشهر مرة. وقيل: إنه متصل بأول السورة. والمعنى: لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة. وهو أصح ما قيل فيه. الثالثة- المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم أرتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. وهذا قاله الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشرا، والامة شهرين وخمس ليال بعد التسعة الأشهر. وروي عن الشافعي أيضا أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات. وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق. فإن كانت المرأة شابة وهي:

المسألة الرابعة- استؤني بها هل هي حامل أم لا، فإن استبان حملها فإن أجلها وضعه. وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي أرتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. واهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر. قال الثعلبي: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. قال الكيا. وهو الحق، لان الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، والمرتابة ليست آيسة. الخامسة- وأما من تأخر حيضها لمرض، فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة. وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة. وقد طلق حبان بن منقذ. امرأته وهي ترضع، فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد، فقالا: نرى أن ترثه، لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار، فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة. السادسة- ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة، على ما ذكرناه. فتحل ما لم ترتب بحمل، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، أو خمسة، أو سبعة، على اختلاف الروايات عن علمائنا. ومشهورها خمسة أعوام، فإن تجاوزتها حلت. وقال أشهب: لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة. قال ابن العربي: وهو الصحيح، لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك. وقد روي عن مالك مثله. السابعة- وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتد سنة. وهو قول الليث. قال الليث: عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنة. وهو مشهور قول علمائنا، سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها،

وميزت ذلك أو لم تميزه، عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة، منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة
عدة. وقال الشافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. ابن العربي: وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها أعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر، وأثبت في القياس والأثر. قوله تعالى: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)- يعني الصغيرة- فعدتهن ثلاثة أشهر، فأضمر الخبر. وإنما كانت عدتها بالأشهر لعدم الاقراء فيها عادة، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات، فهي تعتد بالأشهر. فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء انتقلت إلى الدم لوجود الأصل، وإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم، كما أن المسنة إذا اعتدت بالدم ثم أرتفع عادت إلى الأشهر. وهذا إجماع. قوله تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فيه مسألتان: الاولى: قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ وضع الحمل، وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عليها عطف واليها رجع عقب الكلام، فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك، لعموم الآية وحديث سبعة. وقد مضى في" البقرة" القول فيه مستوفى «1». الثانية- إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة أو مضغة حلت. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلا بما يكون ولدا. وقد مضى القول فيه في سورة" البقرة" «2» وسورة" الرعد" «3» والحمد لله. قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) قال الضحاك: أي من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. مقاتل: ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة. (ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ) أي الذي ذكر من الأحكام
__________
(1). راجع ج 3 ص (174)
(2). راجع ج 3 ص (174) [.....]
(3). راجع ج 9 ص 284

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)

أمر الله أنزله إليكم وبينه لكم. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) أي يعمل بطاعته. (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة. (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي في الآخرة.

[سورة الطلاق (65): آية 6]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل، لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ. فلو كان معها ما قال أسكنوهن. وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ يعني المطلقات اللاتي بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لان ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أو غير حوامل. وإنما أمر الله بالسكنى للائي بنَّ من أزواجهن مع نفقتهن، قال الله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بن من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة قد مهدنا سبلها قرآنا وسنة ومعنى في مسائل الخلاف. وهذا مأخذها من القرآن.

قلت: أختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال فمذهب مالك والشافعي: أن لها السكنى ولا نفقة لها. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أن لها السكنى والنفقة. ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: أن لا نفقة لها ولا سكنى، على حديث فاطمة بنت قيس، قالت: دخلت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة؟ قال: (بل لك السكنى ولك النفقة). قال: إن زوجها طلقها ثلاثا. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة). فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة. خرجه الدارقطني. ولفظ مسلم عنها: أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئا. قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: (لا نفقة لك ولا سكنى). وذكر الدارقطني عن الأسود قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد فقال. يا شعبي، أتق الله وأرجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة. قلت: لا أرجع عن شي حدثتني به «1» فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم. قلت: ما أحسن هذا. وقد قال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للرجعية، لقوله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطلاق: 1]، وقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية. والله أعلم. ولان السكنى تابعة للنفقة وجارية مجراها، فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى. وحجة أبي حنيفة أن للمبتوتة النفقة قوله تعالى: وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وترك النفقة من أكبر الإضرار. وفي إنكار عمر على فاطمة
__________
(1). زيادة عن سنن الدارقطني.

قولها ما يبين هذا، ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية، ولأنها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة. ودليل مالك قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ الآية. على ما تقدم بيانه. وقد قيل: إن الله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها أول الآية إلى قوله: ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] ثم ذكر بعد ذلك حكما يعم المطلقات كلهن من تعديد الأشهر وغير ذلك. وهو عام في كل مطلقة، فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة. الثانية- قوله تعالى: مِنْ وُجْدِكُمْ أي من سعتكم، يقال وجدت في المال أجد وجدا ووجدا ووجدا وجدة. والوجد «1»: الغنى والمقدرة. وقراءة العامة بضم الواو. وقرا الأعرج والزهري بفتحها، ويعقوب بكسرها. وكلها لغات فيها. الثالثة- قوله تعالى: (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) قال مجاهد: في المسكن. مقاتل: في النفقة، وهو قول أبي حنيفة. وعن أبي الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها. الرابعة- قوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا أو أقل منهن حتى تضع حملها. فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان والضحاك: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: «2» لا ينفق عليها إلا من نصيبها. وقد مضى في" البقرة" بيانه «3». قوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ)- يعني المطلقات- أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية
__________
(1). الواو مثلثة.
(2). في أ، وط:" وأصحابه.
(3). راجع ج 3 ص 185.

ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن. ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في" البقرة" و" النساء" مستوفى «1» ولله الحمد. الثانية- قوله تعالى: (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) هو خطاب للأزواج والزوجات، أي وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل. والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع. وقيل: ائتمروا في رضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار. وقيل: هو الكسوة والدثار. وقيل: معناه لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده. الثالثة- قوله تعالى: (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الام رضاعها وأبت الام أن ترضعه فليس له إكراهها، وليستأجر مرضعة غير أمه. وقيل: معناه وإن تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها، وهو خبر في معنى الامر. وقال الضحاك: إن أبت الام أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر. وقد اختلف العلماء فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال: قال علماؤنا: رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية، إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله. الثاني- قال أبو حنيفة: لا يجب على الام بحال. الثالث- يجب عليها في كل حال. الرابعة- فإن طلقها فلا يلزمها رضاعه إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع. فإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وأمتنع الأب إلا تبرعا فالام أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الام لتطلب شططا فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها أخذت جبرا برضاع ولدها.
__________
(1). راجع ج 3 ص 160 وج 5 ص 108

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

[سورة الطلاق (65): آية 7]
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
فيه أربع مسائل: الاولى: قوله تعالى: لِيُنْفِقْ أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق، عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله. وقال الامام الشافعي رضي الله عنه وأصحابه: النفقة مقدرة محددة، ولا اجتهاد لحاكم ولا لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يسره وعسره، ولا يعتبر بحالها وكفايتها. قالوا: فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس. فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان، وإن كان متوسطا فمد ونصف، وإن كان معسرا فمد. واستدلوا بقوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ الآية. فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها، ولان الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره، فيؤدي إلى الخصومة، لان الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها، وهي تزعم أن الذي تطلب تطلبه قدر كفايتها، فجعلناها مقدرة قطعا للخصومة. والأصل في هذا عندهم قوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ- كما ذكرنا- وقوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة: 236]. والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير، وإنها تختلف بعسر الزوج ويسره. وهذا مسلم. فأما إنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه، وقد قال الله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: «1» ( [233) وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقهما، لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما. وليس من
__________
(1). راجع ج 3 ص 160.

المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لهند: (خدي ما يكفيك وولدك بالمعروف). فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها، ولم يقل لها لا اعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شي مقدر، بل ردها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم. ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف، والآية لا تقتضيه. الثانية- روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم، وفرض له عثمان خمسين درهما. ابن العربي:" واحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب اختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس، وقد روي محمد بن هلال المزني قال: حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة، فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية «1». ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة. وقد أتي علي رضي الله عنه بمنبوذ «2» ففرض له مائة. قال ابن العربي: (هذا الفرض قبل الفطام مما أختلف فيه العلماء، فمنهم من رآه مستحبا لأنه داخل في حكم الآية، ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته، وبه أقول. ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام. وقد روي سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد فقال: إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدى حنطة وقسطي خل وقسطي زيت. زاد غيره: وقال إنا قد أجرينا «3» لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا، فدعا عليه. قال أبو الدرداء: كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلي الله عليه وسلم! والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام، وقد درسا بعرف أخر.
__________
(1). الشقيقة: تصغير شقة، وهى جنس من الثياب. وقيل هي نصف ثوب. والسنبلاني (من الثياب): السابغ الطويل الذي قد أسبل. وسنبل ثوبه: إذا أسبله وجرة من خلفه أو أمامه.
(2). المنبوذ: اللقيط، وسمي اللقيط منبوذا لان أمه رمته على الطريق.
(3). في ابن العربي:" أجزنا".

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)

فأما المد فدرس إلى الكيلجة. وأما القسط فدرس إلى الكيل، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الإدام. وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير. وهذا الأصل، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة". الثالثة- هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الام، خلافا لمحمد بن المواز يقول: إنها على الأبوين على قدر الميراث. ابن العربي: ولعل محمدا أراد أنها على الام عند عدم الأب. وفي البخاري عن النبي صلي الله عليه وسلم (تقول لك المرأة أنفق علي وإلا فطلقني ويقول لك العبد أنفق على واستعملني ويقول لك ولدك أنفق علي إلى من تكلني) فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في شرعة واحدة. الرابعة- قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني. سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي بعد الضيق غنى، وبعد الشدة سعة.

[سورة الطلاق (65): الآيات 8 الى 11]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)

قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) لما ذكر الأحكام ذكر وحذر مخالفة الامر، وذكر عتو قوم وحلول العذاب بهم. وقد مضى القول في كَأَيِّنْ في" آل عمران" «1» والحمد لله. (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) أي عصت، يعني القرية والمراد أهلها. (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) أي جازيناها بالعذاب في الدنيا (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) في الآخرة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. والنكر: المنكر. وقرى مخففا ومثقلا، وقد مضى في سور" الكهف" «2». (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) أي عاقبة كفرها (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي هلاكا في الدنيا بما ذكرنا، والآخرة بجهنم. وجئ بلفظ الماضي كقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «3» [الأعراف: 44] ونحو ذلك، لان المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة، وما هو كائن فكأن قد. (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) بين ذلك الخسر وأنه عذاب جهنم في الآخرة. (فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي العقول. (الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من أُولِي الْأَلْبابِ أو نعت لهم، أي يا أولي الألباب الذين آمنتم بالله اتقوا الله الذي أنزل عليكم القرآن، أي خافوه واعملوا بطاعته وانتهوا عن معاصيه. وقد تقدم. (رَسُولًا) قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل، أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا. وقيل: إن المعنى قد أنزل الله إليكم صاحب ذكر رسولا، رَسُولًا نعت للذكر على تقدير حذف المضاف. وقيل: إن رسولا معمول للذكر لأنه مصدر، والتقدير: قد أنزل الله إليكم أن ذكر رسولا. ويكون ذكره الرسول قوله:" محمد رسول الله" [الفتح: 29]. ويجوز أن يكون رَسُولًا بدل من ذكر، على أن يكون رَسُولًا بمعنى رسالة، أو على أن يكون على بابه ويكون محمولا على المعنى، كأنه قال: قد أظهر الله لكم ذكرا رسولا، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء وهو هو. ويجوز أن ينتصب رَسُولًا على الإغراء كأنه قال: اتبعوا رسولا. وقيل: الذكر هنا الشرف، نحو قوله تعالى:
__________
(1). راجع ج 4 ص (228)
(2). يلا حظ أن الذي مضى هو في سورة" القمر" لا في سورة الكهف. راجع ج 17 ص (129)
(3). را جع ج 7 ص 209

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ «1» [الأنبياء: 10]، وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: «2» [44)، ثم بين هذا الشرف، فقال: رَسُولًا. والأكثر على أن المراد بالرسول هنا محمد صلي الله عليه وسلم. وقال الكلبي: هو جبريل، فيكونان جميعا منزلين. (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ) نعت لرسول. وآياتِ اللَّهِ القرآن. (مُبَيِّناتٍ) قراءة العامة بفتح الياء، أي بينها الله. وقرا ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسرها، أي يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام. والاولى قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ [الحديد: 17]. (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي من سبق له ذلك في علم الله. (مِنَ الظُّلُماتِ) أي من الكفر. (إِلَى النُّورِ) الهدى والايمان. قال ابن عباس: نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وأضاف الإخراج إلى الرسول لان الايمان يحصل منه بطاعته. قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). قرأ نافع وابن عامر بالنون، والباقون بالياء. (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً) أي وسع الله له في الجنات.

[سورة الطلاق (65): آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) دل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة. ولا خلاف في السموات أنها سبع بعضها فوق بعض، دل على ذلك حديث الاسراء «3» وغيره. ثم قال: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يعنى سبعا. وأختلف فيهن على قولين: أحدهما- وهو قول الجمهور- أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض،
__________
(1). راجع ج 11 ص 273. [.....]
(2). راجع ج 16 ص 39.
(3). راجع ج 10 ص 205

بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي سبعا من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والأول أصح، لان الاخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما. وقد مضى ذلك مبينا في" البقرة" «1». وقد خرج أبو نعيم قال: حدثنا محمد ابن علي بن حبيش قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق السراج، (ح) «2» وحدثنا أبو محمد «3» بن حبان قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال: حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا حفص ابن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه أن كعبا حلف له بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن محمدا صلي الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: (اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها (. قال أبو نعيم: هذا حديث ثابت من حديث موسى ابن عقبة تفرد به عن عطاء. روي عنه ابن أبي الزناد وغيره. وفي صحيح مسلم عن سعيد ابن زيد قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبرا من الأرض ظلما فأنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين) ومثله حديث عائشة، وأبين منهما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة). قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في «4» غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز. وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان: أحدهما- أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها. وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والقول الثاني- أنهم لا يشاهدون السماء،
__________
(1). راجع ج 1 ص (258)
(2). جرت عادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد" ح" وهى حاء مهملة مفردة، (راجع مقدمة النووي على صحيح مسلم).
(3). في ح، س" وحدثنا محمد ...".
(4). في ا، ح، س، ط، هـ:" فيمن".

وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يستمدونه. وهذا قول من جعل الأرض كالكرة. وفي الآية قول ثالث حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة، ليس: بعضها فوق بعض، تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء. فعلى هذا إن لم يكن لاحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى أحتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم، لان فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها واردا، ولكان صلي الله عليه وسلم بها مأمورا. والله أعلم ما استأثر بعلمه، وصواب ما اشتبه على خلقه. ثم قال: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) قال مجاهد: يتنزل الامر من السموات السبع إلى الأرضين السبع. وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر. والامر هنا الوحي، في قول مقاتل وغيره. وعليه فيكون قوله: بَيْنَهُنَّ إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي، هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل: الأمر القضاء والقدر. وهو قول الأكثرين. فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: بَيْنَهُنَّ إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بحياة بعض وموت بعض وغنى قوم وفقر قوم. وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها، فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة واتساعها، كما يقال للموت: أمر الله، وللريح والسحاب ونحوها. (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يعني أن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكن، وإن استوى كل ذلك، في مقدوره ومكنته «1». (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) فلا يخرج شي عن علمه وقدرته. ونصب عِلْماً على المصدر المؤكد، لان أَحاطَ بمعنى علم. وقيل: بمعنى وأن الله أحاط إحاطة علما. (ختمت السورة بحمد الله وعونه «2».
__________
(1). قوله:" ومكنته" يريد" وإمكانه" ولم ترد في كتب اللغة.
(2). ما بين المربعين ساقط من ح، ط.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)

[تفسير سورة التحريم ]
سورة التحريم مدنية في قول الجميع، وهي اثنتا عشرة آية. وتسمى سورة" النبي".
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التحريم (66): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) فيه خمس مسائل: الاولى: قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، قالت فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلي الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير! «1» أكلت مغافيرا؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: (بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له). فنزل: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ- إلى قوله- إِنْ تَتُوبا (لعائشة وحفصة)، وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً [التحريم 3] لقوله: (بل شربت عسلا). وعنها أيضا قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلي العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله صلي الله عليه وسلم منه شربة. فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك لا. فقولي له: ما هذه الريح؟- وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح- فإنه
__________
(1). سيذكر المؤلف رحمه الله معنى هذه الكلمة والكلمات الآتية في هذا الحديث.

سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له: جرست نحله العرفط. وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة- قالت: تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب، فرقا «1» منك. فلما دنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: (لا) قالت: فما هذه الريح؟ قال: (سقتني حفصة شربة عسل) قالت: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله، ألا أسقيك منه. قال (لا حاجة لي به) قالت: تقول سودة سبحان الله! والله لقد حرمناه «2». قالت: قلت لها اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة. وفي الاولى زينب. وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وقد قيل: إنما هي أم سلمة، رواه أسباط عن السدي. وقاله عطاء بن أبي مسلم. ابن العربي: وهذا كله جهل أو تصور بغير علم. فقال باقي نسائه حسدا وغيره لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير. والمغافير: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة، فيها حلاوة. واحدها مغفور، وجرست: أكلت. والعرفط: نبت له ريح كريح الخمر. وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك. فهذا قول. وقول آخر- أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلي الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه، قاله ابن عباس وعكرمة. والمرأة أم شريك. وقول ثالث- إن التي حرم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية. قال ابن إسحاق: هي من كورة أنصنا «3» من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة. روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال دخل رسول الله صلي الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها- وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها- فقالت له: تدخلها بيتي!
__________
(1). قولها:" أن أبادئه"، أي أبدوه وأناديه وهو لدى الباب لم يدن منى بعد بالكلام الذي علمتنيه. و" فرقا" أي خوفا من لومك.
(2). أي منعناه شربة عسل.
(3). أنصنا (بالفتح ثم السكون وكسر الصاد المهملة والنون، مقصور): مدينة من نواحي الصعيد على شرقي النيل.

ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: (لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها) قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (لا تذكريه لاحد). فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عز وجل لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الآية. الثانية- أصح هذه الأقوال أولها. وأضعفها أوسطها. قال ابن العربي:" أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلان رد النبي صلي الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها، لان من رد ما وهب له لم يحرم عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل. وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح. وروي مرسلا. وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله صلي الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال: (أنت علي حرام والله لا آتينك). فأنزل الله عز وجل في ذلك: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ وروي مثله ابن القاسم عنه. وروي أشهب عن مالك قال: راجعت عمر امرأة من الأنصار في شي فاقشعر من ذلك وقال: ما كان النساء هكذا! قالت: بلى، وقد كان أزواج النبي صلي الله عليه وسلم يراجعنه. فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها: أتراجعين رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم هجر نساءه قال: رغم أنف حفصة. وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك. ونزلت الآية في الجميع. الثالثة- قوله تعالى: لِمَ تُحَرِّمُ إن كان النبي صلي الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرم قول الرجل:" هذا علي حرام" شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس، وكانت يمينا توجب

الكفارة. وقال زفر: هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعول المخالف على أن النبي صلي الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ
[التحريم: 2] فسماه يمينا. ودليلنا قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [المائدة: 87]، «1» وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ «2» [يونس: 59]. فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج: ليس لاحد أن يحرم ما أحل الله. ولم يجعل لنبيه صلي الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته: أنت علي حرام، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك. وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة. الرابعة- وأختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته:" أنت علي حرام" على ثمانية عشر قولا: أحدها- لا شي عليه. وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ. وهو عندهم كتحريم الماء والطعام، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 87] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله. وقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ»
[النحل: 116]. وما لم يحرمه الله فليس لاحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراما. ولم يثبت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام. وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله: (والله لا أقربها بعد اليوم) فقيل له: لم تحرم ما أحل الله لك، أي لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر.
__________
(1). راجع ج 6 ص (260)
(2). راجع ج 8 ص (354) [.....]
(3). راجع ج 10 ص 195

ثانيها- أنها يمين يكفرها، قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعائشة- رضي الله عنهم- والأوزاعي، وهو مقتضى الآية قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها. وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، يعني أن النبي صلي الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ- إلى قوله تعالى- قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا. خرجه الدارقطني. وثالثها- أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين، قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر. والآية ترده على ما يأتي. ورابعها- هي ظهار، ففيها كفارة الظهار، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق. وخامسها- أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا. وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين. وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي. وسادسها- أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون. وسابعها- أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت. ورواه ابن خويز منداد عن مالك. وثامنها- أنها ثلات تطليقات، قاله علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة. وتاسعها- هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها، قاله الحسن وعلي ابن زيد والحكم. وهو مشهور مذهب مالك. وعاشرها- هي ثلاث، ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل، «1» قاله عبد الملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى.
__________
(1). كلمة" وإن لم يدخل" ليست في ابن العربي. وعبارة البحر لابي حيان (ج 8 ص 289):" هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شي" ونسبه أيضا لعبد الملك بن الماجشون وابن أبى ليلى.

وحادي عشرها- هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم «1». وثاني عشرها- أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى. فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا. فإن نوى ثنتين فواحدة. فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وبمثله قال زفر، إلا أنه قال: إذا نوى اثنتين ألزمناه. وثالث عشرها- أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا، قاله ابن القاسم. ورابع عشرها- قال يحيى بن عمر: يكون طلاقا، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار. وخامس عشرها- إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده. وإن نوى واحدة فهي رجعية. وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين. وسادس عشرها- إن نوى ثلاثا فثلاثا، وإن واحدة فواحدة. وإن نوى يمينا فهي يمين. وإن لم ينو شيئا فلا شي عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور، إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئا فهي واحدة. وسابع عشرها- له نيته ولا يكون أقل من واحدة، قاله ابن شهاب. وإن لم ينو شيئا لم يكن شي، قاله ابن العربي. ورأيت لسعيد بن جبير وهو: الثامن عشر- أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا. ولست أعلم لها وجها ولا يبعد «2» في المقالات عندي. قلت: قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال: حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس
__________
(1). في ى:" محمد بن الحكم".
(2). في ابن العربي:" ولا يتعدد".

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما. فقال: كذبت! ليست عليك بحرام، ثم تلا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ عليك أغلظ الكفارات: عتق رقبة. وقد قال جماعة من أهل التفسير: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صلي الله عليه وسلم، قاله زيد بن أسلم وغيره. الخامسة- قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك. فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال: لا حكم، فلا يلزم بها شي. وأما من قال إنها يمين، فقال: سماها الله يمينا. وأما من قال: تجب فيها كفارة وليست بيمين، فبناه على أحد أمرين: أحدهما- أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن «1» لم تكن يمينا. والثاني- أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفارة على المعنى. وأما من قال: إنها طلقة رجعية، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرمة الوطي كذلك، فيحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكا، لقوله: إن الرجعية محرمة الوطي. وكذلك وجه من قال: إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال: إنه ظهار، فلانه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع النكاح. وأما من قال: إنه طلقة بائنة، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة، وأن الطلاق البائن يحرمها. وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة. ابن العربي:" وهذا لا يصح، لأنه جمع بين المتضادين، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل. وأما من قال: إنه ينوي في التي لم يدخل بها، فلان الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا. وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه. وأما من قال: إنه ثلاث فيهما، فلانه أخذ بالحكم الأعظم، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها
__________
(1). في ابن العربي:" ولم تكن".

نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم". والله أعلم. وهذا كله في الزوجة. وأما في الامة فلا يلزم فيها شي من ذلك، إلا أن ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين. ابن العربي. والصحيح أنها طلقة واحدة، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده. كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج، فهذا نص على المراد. قلت: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلي الله عليه وسلم في بيتها بجاريته، ذكره الثعلبي. وعلى هذا فكأنه قال: لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا. فكأنه قال: لم يحرم عليك ما حرمته، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين. وهذا صحيح، فإن النبي صلي الله عليه وسلم حرم ثم حلف، كما ذكره الدارقطني. وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد ابن عمير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل: أكلت مغافير؟ إني لأجد منك ريح مغافير! قال: (لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا). يبتغي مرضات أزواجه. فيعني بقوله: (ولن أعود له على جهة التحريم. وبقوله:) حلفت) أي بالله، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ يعني العسل المحرم بقوله: (لن أعود له). تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة. وقد قيل: إن ذلك كان ذنبا من الصغائر. والصحيح أنه معاتبة على ترك الاولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.

قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)

[سورة التحريم (66): آية 2]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة" المائدة": فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ «1» [المائدة: 89]. ويتحصل من هذا أن من حرم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا، لان الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شي، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه، فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن. وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثا. وإن قال: نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال: كل حلال عليه حرام، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء «2» وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، على ما تقدم بيانه. فإن حلف إلا يأكله حنث ويبر بالكفارة. الثانية- فإن حرم أمته أو زوجته فكفارة يمين، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: إذا حرم للرجل عليه امرأته، فهي يمين يكفرها. وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. الثالثة- قيل: إن النبي صلي الله عليه وسلم كفر عن يمينه. وعن الحسن: لم يكفر، لان النبي صلي الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الامة. والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلي الله عليه وسلم.
__________ (1). راجع ج 6 ص 264.
(2). زيادة عن الكشاف يقتضيها السياق.

وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)

ثم إن الامة تقتدي به في ذلك. وقد قدمنا عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كفر بعتق رقبة. وعن مقاتل أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية. والله أعلم. وقيل: أي قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين، فبين في قوله تعالى: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ «1» لَهُ [الأحزاب: 38] أي فيما شرعه له في النساء المحللات. أي حلل لكم ملك الايمان، فلم تحرم مارية على نفسك مع تحليل الله إياها لك. وقيل: تحلة اليمين الاستثناء، أي فرض الله لكم الاستثناء المخرج عن اليمين. ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الايمان متى شاء وإن تحلل مدة. وعند المعظم لا يجوز إلا متصلا، فكأنه قال: استثن بعد هذا فيما تحلف عليه. وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة، والأصل تحلله، فأدغمت. وتفعلة من مصادر فعل، كالتسمية والتوصية. فالتحلة تحليل اليمين. فكأن اليمين عقد والكفارة حل. وقيل: النحلة الكفارة، أي إنها تحل للحالف ما حرم على نفسه، أي إذا كفر صار كمن لم يحلف. (وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ) وليكم وناصركم بإزالة الحظر فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة.

[سورة التحريم (66): آية 3]
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
قوله تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) أي واذكر إذ أسر النبي إلى حفصة حديثا" يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك. وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي، وقاله ابن عباس. قال: أسر أمر الخلافة بعده إلى حفصة فذكرته حفصة. روي الدارقطني في سننه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً
__________
(1). راجع ج 14 ص 195

قال: اطلعت حفصة على النبي صلي الله عليه وسلم مع أم إبراهيم فقال: (لا تخبري عائشة) وقال لها (إن أباك وأباها سيملكان أو سيليان بعدي فلا تخبري عائشة) قال: فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره الله عليه، فعرف بعضه وأعرض عن بعض. قال أعرض عن قوله: (إن أباك وأباها يكونان بعدي). كره رسول الله صلي الله عليه وسلم أن ينشر ذلك في الناس. (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي أخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي صلي الله عليه وسلم. (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) أي أطلعه الله على أنها قد نبأت به. وقرا طلحة بن مصرف فلما أنبأت وهما لغتان: أنبأ ونبأ. ومعنى عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ عرف حفصة بعض ما أوحي إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها، وأعرض عن بعض تكرما، قاله السدي. وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ. وقال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة، وهو حديث أم ولده ولم يخبرها ببعض وهو قول حفصة لعائشة: إن أبا بكر وعمر سيملكان بعده. وقراءة العامة عَرَّفَ مشددا، ومعناه ما ذكرناه. وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، يدل عليه قوله تعالى: وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي لم يعرفها إياه. ولو كانت مخففة لقال في ضده وأنكر بعضا. وقرا علي وطلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة والكلبي والكسائي والأعمش عن أبي بكر (عرف) مخففة. قال عطاء: كان أبو عبد الرحمن السلمي إذا قرأ عليه الرجل عَرَّفَ مشددة حصبه بالحجارة. قال الفراء: وتأويل قوله عز وجل: (عرف بعضه) بالتخفيف، أي غضب فيه وجازى عليه، وهو كقولك لمن أساء إليك: لا عرفن لك ما فعلت، أي لاجازينك عليه. وجازاها النبي صلي الله عليه وسلم بأن طلقها طلقة واحدة. فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم طلقك. فأمره جبريل بمراجعتها وشفع فيها. وأعتزل النبي صلي الله عليه وسلم نساءه شهرا، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم حتى نزلت آية التحريم على ما تقدم. وقيل: هم بطلاقها حتى قال له جبريل: (لا تطلقها فإنها صوامه

إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)

قوامة وإنها من نسائك في الجنة) فلم يطلقها. (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه. (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) يا رسول الله عني. فظنت أن عائشة أخبرته، فقال عليه السلام: (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي الذي لا يخفى عليه شي. وهذا سد مسد مفعولي أنبأ. و(نبأ) الأول تعدى إلى مفعول، و(نبأ) الثاني تعدى إلى مفعول واحد، لان نبأ وأنبأ إذا لم يدخلا على المبتدأ والخبر جاز أن يكتفى فيهما بمفعول واحد وبمفعولين، فإذا دخلا على الابتداء والخبر تعدى كل واحد منهما إلى ثلاثة مفعولين. ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث، لان الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر.

[سورة التحريم (66): آية 4]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ) يعني حفصة وعائشة، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم. (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلي الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقيل: فقد مالت قلوبكما إلى التوبة. وقال: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما
ولم يقل: فقد صغى قلبا كما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين، من اثنين جمعوهما، لأنه لا يشكل. وقد مضى هذا المعنى في" المائدة" في قوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «1» [المائدة: 38]. وقيل: كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به، لأنه أمكن وأخف. وليس قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما
__________
(1). راجع ج 6 ص 173

جزاء للشرط، لان هذا الصغو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به. أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما. قوله تعالى: (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلي الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك «1» لحاجة له، فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلي الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: والله إن كنت لأريد أن سألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك ... وذكر الحديث. (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي وليه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منهما. (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال عكرمة وسعيد بن جبير: أبو بكر وعمر، لأنهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا له عليهما. وقيل: صالح المؤمنين علي رضي الله عنه. وقيل: خيار المؤمنين. وصالح: اسم جنس كقوله تعالى: وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2]، قاله الطبري. وقيل: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ هم الأنبياء، قاله العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان. وقال ابن زيد: هم الملائكة. السدي: هم أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم. وقيل: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين: فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وكتب بغير واو على اللفظ لان لفظ الواحد والجمع واحد فيه. كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما أعتزل نبي الله صلي الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون «2» بالحصى ويقولون: طلق رسول الله صلي الله عليه «3» وسلم نساءه- وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب- فقال عمر:
__________
(1). الأراك: الشجر، واحدته أراكة.
(2). أي يضربون به الأرض، كفعل المهموم المفكر.
(3). ما بين المربعين ساقط من أ، ح، س.

فقلت لا علمن ذلك اليوم، قال فدخلت على عائشة فقلت: يا بنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلي الله عليه وسلم! فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب! عليك بعيبتك! «1» قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلي الله عليه وسلم! والله لقد علمت أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلي الله عليه وسلم. فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلي الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة «2» المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم وينحدر. فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلي الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلي الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن أرقه، فدخلت على رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلي الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة، وإذا أفيق «3» معلق- قال- فابتدرت عيناي. قال: (ما يبكيك يا بن الخطاب)؟ قلت يا نبي الله، وما لي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلي الله عليه وسلم
__________
(1). أي عليك بوعظ بنتك حفصة. والعيبة: وعاه يجعل الإنسان فيه أفضل ثيابه ونفيس متاعه، فثبهت ابنته بها.
(2). الأسكفة: العتبة. [.....]
(3). الأفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه.

وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: (يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا) قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت- وأحمد الله- بكلام إلا رجوت أن يكون الله عز وجل يصدق قولي الذي أقول «1» ونزلت هذه الآية، آية التخيير: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التحريم: 5]. وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ. وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلي الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال: (لا). قلت: يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول الله صلي الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: (نعم إن شئت). فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر «2» فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله صلي الله عليه وسلم ونزلت، فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلي الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين) فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلي الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ «3» مِنْهُمْ [النساء: 83]. فكنت أنا استنبطت ذلك الامر، وأنزل الله آية التخيير. قوله تعالى: وَجِبْرِيلُ فيه لغات تقدمت في سورة" البقرة" «4». ويجوز أن يكون معطوفا على مَوْلاهُ والمعنى: الله وليه وجبريل وليه، فلا يوقف على مَوْلاهُ ويوقف على جِبْرِيلُ ويكون وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مبتدأ وَالْمَلائِكَةُ معطوفا عليه. وظَهِيرٌ خبرا،
__________
(1). زيادة من صحيح مسلم.
(2). أي أبدى أسنانه تبسما.
(3). راجع ج 5 ص (291)
(4). راجع ج 2 ص 37

وهو بمعنى الجمع. وصالح المؤمنين أبو بكر، قاله المسيب بن شريك. وقال سعيد بن جبير: عمر. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وروي شقيق عن عبد الله عن النبي صلي الله عليه وسلم في قول الله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال: إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وقيل: هو علي. عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب). وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه. ويجوز أن يكون وَجِبْرِيلُ مبتدأ وما بعده معطوفا عليه. والخبر ظَهِيرٌ وهو بمعنى الجمع أيضا. فيوقف على هذا على مَوْلاهُ. ويجوز أن يكون جِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ معطوفا على مَوْلاهُ فيوقف على الْمُؤْمِنِينَ ويكون وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ابتداء وخبرا. ومعنى ظَهِيرٌ أعوان. وهو بمعنى ظهراء، كقوله تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ، رَفِيقاً «1» [النساء: 69]. وقال أبو علي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ «2» [المعارج: 11- 10]. وقيل: كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلي الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لاحد منهم، قال: فأذن لابي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلي الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا- قال- فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلي الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة). فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلي الله عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ حتى بلغ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 29- 28] الحديث. وقد ذكراه في سورة «3»" الأحزاب".
__________
(1). راجع ج 5 ص (271)
(2). راجع ص 284 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 14 ص 163

عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

[سورة التحريم (66): آية 5]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
قوله تعالى: (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه «1». ثم قيل: كل عَسى في القرآن واجب إلا هذا. وقيل: هو واجب ولكن الله عز وجل علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن. (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ) لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال معناه السدي. وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن. وقرى" أن يبدله" بالتشديد والتخفيف. والتبديل والابدال بمعنى، كالتنزيل والانزال. والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته، على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن. وهو كقوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «2» [محمد: 38]. وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم. قوله تعالى: (مُسْلِماتٍ) يعني مخلصات، قاله سعيد بن جبير. وقيل: معناه مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله. (مُؤْمِناتٍ) مصدقات بما أمرن به ونهين عنه. (قانِتاتٍ) مطيعات. والقنوت: الطاعة. وقد تقدم «3». (تائِباتٍ) أي من ذنوبهن، قاله السدي. وقيل: راجعات إلى أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن. (عابِداتٍ) أي كثيرات العبادة لله تعالى. وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد. (سائِحاتٍ) صائبات، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير. وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان: مهاجرات. قال زيد: وليس في أمة محمد صلي الله عليه وسلم
__________
(1). راجع ص 191 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 16 ص (258)
(3). راجع ج 2 ص 86 وج 3 ص 213

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)

سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض. وقال الفراء والقتبي وغيرهما: سمي الصائم سائحا لان السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام. وقيل: ذاهبات في طاعة الله عز وجل، من ساح الماء إذا ذهب. وقد مضى في سورة" براءة" «1» والحمد لله. (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي منهن ثيب ومنهن بكر. وقيل: إنما سميت الثيب ثيبا لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، أو إلى غيره إن فارقها. وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها. وهذا أصح، لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء، سميت بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. وقال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنة عمران. قلت: وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن. والله أعلم.

[سورة التحريم (66): آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)
فيه مسألة واحدة- وهي الامر بوقاية الإنسان نفسه واهلة النار. قال الضحاك: معناه قوا أنفسكم، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا. وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم. وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد: قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم. ابن العربي: وهو الصحيح، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل، كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا «2»
__________
(1). راجع ج 8 ص 269.
(2). رجز مشهور لم يعرف قائله. وتمامه:
حتى شتت همالة عيناها

راجع كتاب الانصاف وشرح الشواهد. وج 6 ص 95.

وكقوله:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية. ففي صحيح الحديث أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم (. وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله: يأمرهم وينهاهم. وقال بعض العلماء لما قال: قُوا أَنْفُسَكُمْ دخل فيه الأولاد، لان الولد بعض منه. كما دخل في قوله تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ «1» [النور: 61] فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات. فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من الأحكام. وقال عليه السلام: (حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ). وقال عليه السلام: (ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن). وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلي الله عليه وسلم (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع). خرجه جماعة من أهل الحديث. وهذا لفظ أبي داود. وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها). وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب، مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال. وقد روى مسلم أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول: (قومي فأوتري يا عائشة). وروي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء. رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء (. ومنه قوله صلي الله عليه وسلم:) أيقظوا صواحب الحجر (. ويدخل هذا في عموم قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى «2» [المائدة: 2]. وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: يا رسول
__________ (1). راجع ج 12 ص (314) [.....]
(2). راجع ج 6 ص 46

الله، نقي أنفسنا، فكيف لنبإ علينا؟. فقال: (تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمر الله). وقال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه وولده واهلة وعبيده وإمائه. قال الكيا: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب. وهو قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ «1» عَلَيْها [طه: 132]. ونحو قوله تعالى للنبي صلي الله عليه وسلم: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ «2» الْأَقْرَبِينَ. [الشعراء: 214]. وفي الحديث:" مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع". (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) تقدم في سورة" البقرة" القول فيه «3». (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) يعني الملائكة الزبانية غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا، خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب. شِدادٌ أي شداد الأبدان. وقيل: غلاظ الأقوال شداد الافعال. وقيل غلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم. يقال: فلان شديد على فلان، أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب. وقيل: أراد بالغلاظ ضخامة أجسامهم، وبالشدة القوة. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوه الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. وذكر ابن وهب قال: وحدثنا عبد الرحمن بن زيد قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في خزنة جهنم: (ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب). قوله تعالى: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ) أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان. (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي في وقته، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه. وقيل أي لذتهم في امتثال أمر الله، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة، ذكره بعض المعتزلة. وعندهم أنه يستحيل التكليف غدا. ولا يخفى معتقد أهل الحق في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا، ولا ينكر التكليف في حق الملائكة. ولله أن يفعل ما يشاء.
__________
(1). راجع ج 11 ص (263)
(2). راجع ج 13 ص (143)
(3). راجع ج 1 ص 235

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)

[سورة التحريم (66): آية 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فإن عذركم لا ينفع. وهذا النهي لتحقيق اليأس. (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا. ونظيره: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم: 57]. وقد تقدم».

[سورة التحريم (66): آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ أمر بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان. وقد تقدم بيانها والقول فيها في" النساء" وغيرها «2». تَوْبَةً نَصُوحاً اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا، فقيل: هي التي لا عودة بعدها كمالا يعود اللبن إلى الضرع، وروي عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضى الله عنهم. ورفعه معاذ إلى النبي صلي الله عليه وسلم. وقال قتادة: النصوح الصادقة الناصحة. وقيل الخالصة، يقال: نصح أي أخلص له القول. وقال الحسن: النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره. وقيل: هي التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها. وقيل: هي التي لا يحتاج
__________
(1). راجع ج 14 ص (49)
(2). راجع ج 5 ص 90

معها إلى توبة. وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود .. وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة، ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوف ألا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات. وقال سعيد بن المسيب: توبة تنصحون بها أنفسكم. وقال القرظي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، وإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الخلان. وقال سفيان الثوري: علامة التوبة النصوح أربعة: القلة والعلة والذلة والغربة. وقال الفضيل بن عياض: هو أن يكون الذنب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه. ونحوه عن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك. وقال أبو بكر الوراق: هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك، كالثلاثة الذين خلفوا «1». وقال أبو بكر الواسطي: هي توبة لا لفقد عوض، لان من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة، فتوبته على حفظ نفسه لا لله. وقال أبو بكر الدقاق المصري: التوبة النصوح هي رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. وقال رويم: هو أن تكون لله وجها بلا قفا، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه. وقال ذو النون: علامة التوبة النصوح ثلاث: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام. وقال شقيق: هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة، لينجو من آفاتها بالسلامة. وقال سري السقطي: لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين، لان من صحب توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقال الجنيد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدا، لان من صحت توبته صار محبا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله. وقال ذو الأذنين: «2» هو أن يكون
__________
(1). الثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك، مرارة بن ربيعة العامري، هلال بن أمية الواقفي. راجع ج 8 ص 282 وج 2 ص 907 من سيرة ابن هشام طبع أو ربا.
(2). ذو الأذنين: لقب أنس بن مالك رضى الله عنه، قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك قيل: معناه الحض على حسن الاستماع والوعى. وقيل: إن هذا القول من جملة مزحه صلوات الله وسلامه عليه.

لصاحبها دمع مسفوح، وقلب عن المعاصي جموح. وقال فتح الموصلي: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ. وقال سهل بن عبد الله التستري: هي التوبة لأهل السنة والجماعة، لان المبتدع لا توبة له، بدليل قوله صلي الله عليه وسلم: (حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب). وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه. واصل التوبة النصوح من الخلوص، يقال: هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع. وقيل: هي مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة. وفي أخذها منها وجهان: أحدهما- لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته ويوثقه. والثاني- لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم، كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض. وقراءة العامة نَصُوحاً بفتح النون، على نعت التوبة، مثل امرأة صبور، أي توبة بالغة في النصح. وقرا الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بالضم، وتأويله على هذه القراءة: توبة نصح لأنفسكم. وقيل: يجوز أن يكون نَصُوحاً، جمع نصح، وإن يكون مصدرا، يقال: نصح نصاحة ونصوحا. وقد يتفق فعالة وفعول في المصادر، نحو الذهاب والذهوب. وقال المبرد: أراد توبة ذات نصح، يقال: نصحت نصحا ونصاحة ونصوحا. الثانية- في الأشياء التي يتاب منها وكيف التوبة منها. قال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين. فإن كان حقا لله كترك صلاة فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها. وهكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزكاة. وإن كان ذلك قتل نفس بغير حق فأن يمكن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبا به. وإن كان قذفا يوجب الحد فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به. فإن عفي عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. وكذلك إن عفي عنه في القتل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجدا له، قال الله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ «1» [البقرة: 178]. وإن كان ذلك حدا من حدود الله كائنا ما كان فإنه
__________
(1). راجع ج 2 ص 253

إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه. وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم. وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم، حسب ما تقدم بيانه «1». وكذلك الشراب والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الامام فلا ينبغي له أن يحدهم. وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا، لم يتركوا، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غلبوا. هذا مذهب الشافعي. فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه- عينا كان أو غيره- إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه. وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه- عرفه بعينه أو لم يعرفه- فذلك صحيح. وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزعه بغير حق، أو غمه أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط فألمه، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه، عازما على ألا يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط عنه ذلك الذنب. وهكذا إن كان شانه بشتم لا حد فيه. قوله تعالى: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) عَسى من الله واجبة. وهو معنى قوله عليه السلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). وأَنْ في موضع رفع اسم عسى «2». قوله تعالى: (وَيُدْخِلَكُمْ) معطوف على يُكَفِّرَ. وقرا أبن أبي عبلة (ويدخلكم) مجزوما عطفا على محل عسى أن يكفر. كأنه قيل: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار. (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) العامل في يَوْمَ: يُدْخِلَكُمْ أو فعل مضمر. ومعنى يُخْزِي هنا يعذب، أي لا يعذبه ولا يعذب الذين آمنوا معه.
__________
(1). راجع ج 6 ص (174)
(2). ما بين المربعين من ط. وبياض فيما هداها

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) تقدم في سورة" الحديد" «1». (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين، حسب ما تقدم بيانه في سورة" الحديد" «2».

[سورة التحريم (66): آية 9]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فيه مسألة واحدة- وهو التشديد في دين الله. فأمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله. والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة، وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة، وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين. وقال الحسن: أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود. وكانت الحدود تقام عليهم. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) يرجع إلى الصنفين. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع.

[سورة التحريم (66): آية 10]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
ضرب الله تعالى هذا المثل تنبيها على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرق بينهما الدين. وكان اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة، قاله مقاتل. وقال الضحاك عن عائشة رضي الله عنها: إن جبريل نزل على النبي صلي الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط والهة. (فَخانَتاهُما) قال عكرمة
__________
(1). راجع ج 17 ص (243)
(2). راجع ج 17 ص 245

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)

والضحاك. بالكفر. وقال سليمان بن رقية «1» عن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه. وعنه: ما بغت امرأة نبي قط. وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القشيري. إنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين. وقيل: كانتا منافقتين. وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين، قاله الضحاك. وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف، لما كانوا عليه من إتيان الرجال. (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما- لما عصتا- شيئا من عذاب الله، تنبيها بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة. ويقال: إن كفار مكة استهزءوا وقالوا: إن محمدا صلي الله عليه وسلم يشفع لنا، فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته وشفاعة لوط لامرأته، مع قربهما لهما لكفرهما. وقيل لهما: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ في الآخرة، كما يقال لكفار مكة وغيرهم. ثم قيل: يجوز أن تكون امْرَأَتَ نُوحٍ بدلا من قوله: مَثَلًا على تقدير حذف المضاف، أي ضرب الله مثلا مثل امرأة نوح. ويجوز أن يكونا مفعولين.

[سورة التحريم (66): آية 11]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) واسمها آسية بنت مزاحم. قال يحيى بن سلام: قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلي الله عليه وسلم، ثم ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم بنة عمران، ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدين.
__________
(1). في ل:" قتة". وفى تفسير الطبري:" قيس". [.....]

وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

وقيل: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة، أي لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون. وكانت آسية آمنت بموسى. وقيل: هي عمة موسى آمنت به. قال أبو العالية: اطلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملا فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها. فقال لهم: إنها تعبد ربا غيري. فقالوا له: أقتلها. فأوتد لها أوتادا وشديديها ورجليها فقالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) ووافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة. فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها! إنا نعذبها وهي تضحك، فقبض روحها. وقال سلمان الفارسي فيما روى عنه عثمان النهدي: كانت تعذب بالشمس، فإذا أذاها حر الشمس أظلتها الملائكة بأجنحتها. وقيل: سمر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى، فأطلعها الله. حتى رأت مكانها في الجنة. وقيل: لما قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أريت بيتها في الجنة يبنى. وقيل: إنه من درة، عن الحسن. ولما قالت: (وَنَجِّنِي) نجاها الله أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة، فهي تأكل وتشرب وتتنعم. ومعنى (من فرعون وعمله تعني بالعمل الكفر. وقيل: من عمله من عذابه وظلمه وشماتته. وقال ابن عباس: الجماع. (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
قال الكلبي: أهل مصر. مقاتل: القبط. قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة، ورفعها إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب.

[سورة التحريم (66): آية 12]
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
قوله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) أي واذكر مريم. وقيل: هو معطوف على امرأة فرعون. والمعنى: وضرب الله مثلا لمريم بنة عمران وصبرها على أذى اليهود. (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي عن الفواحش. وقال المفسرون: إنه أراد بالفرج هنا الجيب لأنه قال: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وجبريل عليه السلام إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها. وهي

في قراءة أبي فنفخنا في جيبها من روحنا. وكل خرق في الثوب يسمى جيبا، ومنه قوله تعالى: وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ «1» [ق: 6]. ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها. ومعنى فَنَفَخْنا أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها مِنْ رُوحِنا أي روحا من أرواحنا وهي روح عيسى. وقد مضى في آخر سورة" النساء" بيانه مستوفى «2» والحمد لله. (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) قراءة العامة" وصدقت" بالتشديد. وقرا حميد والأموي" وصدقت" بالتخفيف. بِكَلِماتِ رَبِّها قول جبريل لها: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
[مريم: 19] الآية «3». وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى وأنه نبي وعيسى كلمة الله. وقد تقدم «4». وقرا الحسن وأبو العالية بكلمة ربها وكتابه وقرا أبو عمرو وحفص عن عاصم" وكتبه" جمعا. وعن أبي رجاء" وكتبه" مخفف التاء. والباقون" بكتابه" على التوحيد. والكتاب يراد به الجنس، فيكون في معنى كل كتاب أنزل الله تعالى. (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي من المطيعين. وقيل: من المصلين بين المغرب والعشاء. وإنما لم يقل من القانتات، لأنه أراد وكانت من القوم القانتين. ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها، فإنهم كانوا مطيعين لله. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها:" أتكرهين ما قد نزل بك ولقد جعل الله في الكره خيرا فإذا قدمت على ضراتك «5» فأقرئيهن مني السلام مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة «6»- أو قال حكيمة «7»- بنت عمران أخت موسى بن عمران (. فقالت: بالرفاء والبنين يا رسول الله. وروى قتادة عن أنس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:) حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم (. وقد مضى في (عمران) الكلام في هذا مستوفى والحمد لله.
__________
(1). راجع ج 17 ص 6.
(2). راجع ج 6 ص (22)
(3). راجع ج 11 ص (91)
(4). راجع ج 4 ص (83)
(5). أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى".
(6). في ب، ح، ز، س، ط، ل، هـ:" كلمة"
(7). في ب، ح، ز، س، ط، ل، هـ:" حليمة".

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

[تفسير سورة الملك ]
سورة الملك مكية في قول الجميع. وتسمى الواقية والمنجية. وهي ثلاثون آية روى الترمذي عن ابن عباس قال: ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة" الملك" حتى ختمها، فأتى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة" الملك" حتى ختمها؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر). قال: حديث حسن غريب. وعنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (وددت أن" تبارك الذي بيده الملك" في قلب كل مؤمن) ذكره الثعلبي. وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة وهي سورة" تبارك"). خرجه الترمذي بمعناه، وقال فيه: حديث حسن. وقال ابن مسعود: إذا وضع الميت في قبره فيؤتى من قبل رجليه، فيقال: ليس لكم عليه سبيل، فإنه كان يقوم بسورة" الملك" على قدميه. ثم يؤتى من قبل رأسه، فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل، إنه كان يقرأ بي سورة" الملك" ثم قال: هي المانعة من عذاب الله، وهي في التوراة سورة" الملك" من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب. وروي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الملك (67): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تَبارَكَ تفاعل من البركة وقد تقدم «1». وقال الحسن: تقدس. وقيل دام. فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه. (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) أي ملك السموات
__________
(1). راجع ج 7 ص 223

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)

والأرض في الدنيا والآخرة. وقال ابن عباس: بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع. وقال محمد بن إسحاق: له ملك النبوة التي أعز بها من اتبعه وذل بها من خالفه. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من إنعام وانتقام.

[سورة الملك (67): آية 2]
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قيل: المعنى خلقكم للموت والحياة، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدم الموت على الحياة، لان الموت إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ «1» إِناثاً [الشورى: 49]. وقيل: قدمه لأنه أقدم، لان الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوه. وقال قتادة: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء (. وعن أبي الدرداء أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:) لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت وإنه مع ذلك لو ثاب (. المسألة الثانية: الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قدم الموت على الحياة، لان أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم «2» قال العلماء: الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. والحياة عكس ذلك. وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل: أن الموت والحياة جسمان، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء- وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها- خطوتها مد البصر، فوق الحمار ودون البغل،
__________
(1). راجع ج 16 ص (48)
(2). هذه عبارة الكشاف أيضا. وعبارة الخطيب الشربينى في تفسيره:" وقيل إنما قدم الموت على الحياة لان من نصب الموت بين عينيه كان أقوى الدواعي إلى العمل.

لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي، ولا تطأ على شي إلا حيي. وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي «1». حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس. والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي. قلت: وفي التنزيل قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ «2» بِكُمْ، [السجدة: 11]، وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ «3» [الأنفال: 50] ثم تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «4» [الانعام: 61]، ثم قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «5» [الزمر: 42]. فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم. وهو سبحانه المميت على الحقيقة، وإنما يمثل الموت بالكبش في الآخرة ويذبح على الصراط، حسب ما ورد به الخبر الصحيح. وما ذكر عن ابن عباس يحتاج إلى خبر صحيح يقطع العذر. والله أعلم. وعن مقاتل أيضا: خلق الموت، يعني النطفة والعلقة والمضغة، وخلق الحياة، يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار إنسانا. قلت: وهذا قول حسن، يدل عليه قوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وتقدم الكلام فيه في سورة" الكهف" «6». وقال السدي في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أكثر كم للموت ذكرا وأحسن استعدادا، ومنه أشد خوفا وحذرا. وقال ابن عمر: تلا النبي صلي الله عليه وسلم تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ- حتى بلغ- أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فقال: (أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله). وقيل: معنى لِيَبْلُوَكُمْ ليعاملكم معا ملة المختبر، أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره. وقيل: خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء. فاللام في لِيَبْلُوَكُمْ تتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت، ذكره الزجاج. وقال الفراء والزجاج أيضا: لم تقع البلوى على" أي" لان فيما بين البلوى و" أي" إضمار فعل، كما تقول: بلوتكم لأنظر أيكم أطوع. ومثله قوله تعالى: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ «7» [القلم: 40] أي سلهم ثم انظر أيهم. ف أَيُّكُمْ رفع بالابتداء وأَحْسَنُ خبره. والمعنى: ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه ممن عصاه. (الْغَفُورُ) لمن تاب.
__________
(1). راجع ج 11 ص (239)
(2). راجع ج 14 ص (93)
(3). راجع ج 8 ص (28)
(4). راجع ج 7 ص 7 [.....]
(5). راجع ج 15 ص (260)
(6). راجع ج 10 ص (395)
(7). راجع ص 247 من هذا الجزء.

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)

[سورة الملك (67): آية 3]
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3)
قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي بعضها فوق بعض. والملتزق منها أطرافها، كذا روي عن ابن عباس. وطِباقاً نعت ل سَبْعَ فهو وصف بالمصدر. وقيل: مصدر بمعنى المطابقة، أي خلق سبع سموات وطبقها تطبيقا أو مطابقة. أو على طوبقت طباقا. وقال سيبويه: نصب طِباقاً لأنه مفعول ثان. قلت: فيكون خَلَقَ بمعنى جعل وصير. وطباق جمع طبق، مثل جمل وجمال. وقيل: جمع طبقة. وقال أبان بن تغلب: سمعت بعض الاعراب يذم رجلا فقال: شره طباق، وخيره غير باق. ويجوز في غير القرآن سبع سموات طباق، بالخفض على النعت لسماوات. ونظيره وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ «1» [يوسف: 46]. (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) قراءة حمزة والكسائي" من تفوت" بغير ألف مشددة. وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه. الباقون مِنْ تَفاوُتٍ بألف. وهما لغتان مثل التعاهد والتعهد، والتحمل والتحامل، والتظهر والتظاهر، وتصاغر وتصغر، وتضاعف وتضعف، وتباعد وتبعد، كله بمعنى. وأختار أبو عبيد" من تفوت" واحتج بحديث عبد الرحمن بن أبي بكر:" أمثلي يتفوت عليه في بناته"! «2» النحاس: وهذا أمر مردود على أبي عبيد، لان يتفوت يفتات: بهم وتفاوت في الآية أشبه. كما يقال تباين يقال: تفاوت الامر إذا تباين وتباعد أي فات بعضها بعضا. ألا ترى أن قبله قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. والمعنى: ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين- بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها- وإن اختلفت صوره وصفاته. وقيل: المراد بذلك السموات خاصة، أي ما ترى في خلق السموات من عيب. وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شي شيئا فيقع الخلل لقلة استوائها،
__________
(1). راجع ج 9 ص (201)
(2). أي يفعل في شأنين شي بغير أمره. قال هذا عند ما علم أن أخته السيدة عائشة زوجت ابنه وهو غائب من المنذر بن الزبير. والرواية في الحديث:" أمثل بفتات" بدل" يتفوت".

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)

يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنه: من تفرق. وقال أبو عبيدة: يقال: تفوت الشيء أي فات. ثم أمر بأن ينظروا في خلقه ليعتبروا به فيتفكروا في قدرته: فقال: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي أردد طرفك إلى السماء. ويقال: قلب البصر في السماء. ويقال: اجهد بالنظر إلى السماء. والمعنى متقارب. وإنما قال: فَارْجِعِ بالفاء وليس قبله فعل مذكور، لأنه قال:" ما ترى". والمعنى أنظر ثم أرجع البصر هل ترى من فطور، قاله قتادة. والفطور: الشقوق، عن مجاهد والضحاك. وقال قتادة: من خلل. السدي: من خروق. ابن عباس: من وهن. وأصله من التفطر والانفطار وهو الانشقاق. قال الشاعر:
بنى لكم بلا عمد سماء ... وزينها فما فيها فطور
وقال آخر:
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا سكر ولم يبلغ سرور

[سورة الملك (67): آية 4]
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
قوله تعالى: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) كَرَّتَيْنِ في موضع المصدر، لان معناه رجعتين، أي مرة بعد أخرى. وإنما أمر بالنظر مرتين لان الإنسان إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى. فأخبر تعالى أنه وإن نظر في السماء مرتين لا يرى فيها عيبا بل يتحير بالنظر إليها، فذلك قوله تعالى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً أي خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك. يقال: خسأت الكلب أي أبعدته وطردته. وخسأ الكلب بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وخسأ بصره خسأ وخسوءا أي سدر، «1» ومنه قوله تعالى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً. وقال ابن عباس:
__________
(1). لم يكد يبصر.

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)

الخاسئ الذي لم ير ما يهوى. (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي قد بلغ الغاية في الإعياء. فهو بمعنى فاعل، من الحسور الذي هو الإعياء. ويجوز أن يكون مفعولا من حسره بعد الشيء، وهو معنى قول ابن عباس. ومنه قول الشاعر:
من مد طرفا إلى ما فوق غايته ... ارتد خسان منه الطرف قد حسرا
يقال: قد حسر بصره يحسر حسورا، أي كل وانقطع نظره من طول مدى وما أشبه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضا. قال:
نظرت إليها بالمحصب من منى ... فعاد إلي الطرف وهو حسير
وقال آخر يصف ناقة:
فشطرها نظر العينين محسور «1»

نصب" شطرها" على الظرف، أي نحوها. وقال آخر:
والخيل شعث ما تزال جيادها ... حسرى تغادر بالطريق سخالها
وقيل: إنه النادم. ومنه قول الشاعر:
ما أنا اليوم على شي خلا ... يا بنة القين تولى بحسر
المراد ب كَرَّتَيْنِ ها هنا التكثير. والدليل على ذلك: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ وذلك دليل على كثرة النظر.

[سورة الملك (67): الآيات 5 الى 6]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) جمع مصباح وهو السراج. وتسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها. (وَجَعَلْناها رُجُوماً) أي جعلنا شهبها، فحذف المضاف.
__________
(1). هذا عجز بيت لقيس بن خويلد الهذلي. وصدره:
إن العسير بها داه مخامرها

والعسير: الناقة التي لم ترض (لم تذلل).

إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)

دليله إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ «1» [الصافات: 10]. وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها. وقيل: إن الضمير راجع إلى المصابيح على أن الرجم من أنفس الكواكب، ولا يسقط الكوكب نفسه إنما ينفصل منه شي يرجم به من غير أن ينقص ضوءه ولا صورته. قاله أبو علي جوابا لمن قال: كيف تكون زينة وهي رجوم لا تبقى. قال المهدوي: وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكواكب. والتقدير الأول على أن يكون الاستراق من الهوى الذي هو دون موضع الكواكب. القشيري: وأمثل من قول أبي علي أن نقول: هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين. والرجوم جمع رجم، وهو مصدر سمي به ما يرجم به. قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر والأوقات. فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى وظلم. وقال محمد بن كعب: والله ما لاحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يتخذون الكهانة سبيلا»
ويتخذون النجوم علة. (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي أعتدنا للشياطين أشد الحريق، يقال: سعرت النار فهي مسعورة وسعير، مثل مقتولة وقتيل. (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

[سورة الملك (67): آية 7]
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7)
قوله تعالى: (إِذا أُلْقُوا فِيها) يعني الكفار. (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أي صوتا. قال ابن عباس: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها، تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وقيل: الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار قاله عطاء. والشهيق في الصدر، والزفير في الحلق. وقد مضى في سورة" هود" «3». (وَهِيَ تَفُورُ) أي تغلي، ومنه قول حسان:
تركتم قدركم لا شي فيها ... وقدر القوم حامية تفور
__________
(1). راجع ج 15 ص (66)
(2). كلمة" سبيلا" ساقطة من ح، ز، س، ل، هـ.
(3). راجع ج 9 ص 98

تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير. وقال ابن عباس: تغلي بهم على المرجل، وهذا من شدة لهب النار من شدة الغضب، كما تقول فلان يفور غيظا.

[سورة الملك (67): الآيات 8 الى 11]
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
قوله تعالى: (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يعني تتقطع وينفصل بعضها من بعض، قاله سعيد ابن جبير. وقال ابن عباس والضحاك وابن زيد: تتفرق. مِنَ الْغَيْظِ من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى. وقيل: مِنَ الْغَيْظِ من الغليان. واصل تَمَيَّزُ تتميز. (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي جماعة من الكفار. (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) على جهة التوبيخ والتقريع (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم حتى تحذروا. (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) أنذرنا وخوفنا. (فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) أي على ألسنتكم. (إِنْ أَنْتُمْ) يا معشر الرسل. (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) اعترفوا بتكذيب الرسل، ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا وهم في النار: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) من النذر- يعنى الرسل- ما جاءوا به (أَوْ نَعْقِلُ) عنهم. قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكر، أو نعقل عقل من يميز وينظر. ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا. وقد مضى في" الطور" «1» بيانه والحمد لله. (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) يعني ما كنا من أهل النار. وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال:" لقد ندم الفاجر يوم القيامة قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا
__________
(1). راجع ج 17 ص 73

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

في أصحاب السعير فقال الله تعالى فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ أي بتكذيبهم الرسل. والذنب ها هنا بمعنى الجمع، لان فيه معنى الفعل. يقال: خرج عطاء الناس أي أعطيتهم. (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي فبعدا لهم من رحمة الله. وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو واد في جهنم يقال له السحق. وقرا الكسائي وأبو جعفر فَسُحْقاً بضم الحاء، ورويت عن علي. الباقون بإسكانها، وهما لغتان مثل السحت والرعب. الزجاج: وهو منصوب على المصدر، أي أسحقهم الله سحقا، أي باعدهم بعدا. قال امرؤ القيس:
يحول بأطراف البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
وقال أبو علي: القياس إسحاقا، فجاء المصدر على الحذف، كما قيل:
وإن أهلك فذلك كان قدري

أي تقديري. وقيل: إن قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ من قول خزنة جهنم لأهلها.

[سورة الملك (67): آية 12]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) نظيره: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [ق: 33] وقد مضى الكلام «1» فيه. أي يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو بالغيب، وهو عذاب يوم القيامة. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو الجنة.

[سورة الملك (67): الآيات 13 الى 14]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
قوله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) اللفظ لفظ الامر والمراد به الخبر، يعني إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلي الله عليه وسلم أو جهرتم به ف إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
__________
(1). راجع ج 17 ص 20

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

يعني بما في القلوب من الخير والشر. ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلي الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد، فنزلت: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ. يعني: أسروا قولكم في أمر محمد صلي الله عليه وسلم. وقيل في سائر الأقوال. أو أجهروا به، أعلنوه. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ذات الصدور ما فيها، كما يسمى ولد المرأة وهو جنين" ذا بطنها". ثم قال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) يعني ألا يعلم السر من خلق السر. يقول أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد. وقال أهل المعاني: إن شئت جعلت مَنْ اسما للخالق جل وعز، ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه. وإن شئت جعلته اسما للمخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق. ولا بد أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه. قال ابن المسيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل: أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة «1» بصوت عظيم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم، منها (العليم) ومعناه تعميم جميع المعلومات. ومنها الْخَبِيرُ ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون. ومنها" الحكيم" ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف. ومنها" الشهيد" ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ومعناه ألا يغيب عنه شي. ومنها" الحافظ" ويختص بأنه لا ينسى. ومنها" المحصي" ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم، مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة. وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق! وقد قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.

[سورة الملك (67): آية 15]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) أي سهلة تستقرون عليها. والذلول المنقاد الذي يذل لك والمصدر الذل وهو اللين والانقياد. أي لم يجعل الأرض بحيث يمتنع
__________
(1). الغيضة: الشجر الكثير الملتف.

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)

المشي فيها بالحزونة والغلظة. وقيل: أي ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها، ولو كانت تتكفأ متمائلة لما كانت منقادة لنا. وقيل: أشار إلى التمكن من الزرع والغرس وشق العيون والأنهار وحفر الآبار. (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) هو أمر إباحة، وفية إظهار الامتنان. وقيل: هو خبر بلفظ الامر، أي لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها. وقال ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب: فِي مَناكِبِها في جبالها. وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة؟ فقالت: مناكبها جبالها. فصارت حرة، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. مجاهد: في أطرافها. وعنه أيضا: في طرقها وفجاجها. وقاله السدي والحسن. وقال الكلبي: في جوانبها. ومنكبا الرجل: جانباه. واصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل. والريح النكباء. وتنكب فلان عن فلان. يقول: امشوا حيث أردتم فقد جعلتها لكم ذلولا لا تمتنع. وحكى قتادة عن أبي الجلد: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، فللسودان اثنا عشر ألفا، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي مما أحله لكم، قاله الحسن. وقيل: مما أتيته لكم. (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) المرجع. وقيل: معناه أن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها، والأرض ذلولا قادر على أن ينشركم.

[سورة الملك (67): آية 16]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
قال ابن عباس: أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه. وقيل: تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته. وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أن الاله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الأرض. وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب «1».
__________
(1). كلمة" العذاب" ساقطة من ح، س، هـ. [.....]

أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)

قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون. (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي تذهب وتجيء. والمور: الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر:
رمين فأقصدن القلوب ولن ترى ... دما مائرا إلا جرى في الحيازم
جمع حيزوم وهو وسط الصدر. وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض فهو المور. وقال المحققون: أمنتم من فوق السماء، كقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ «1» [التوبة: 2] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير. وقيل: معناه أمنتم من على السماء، كقوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «2» [طه: 71] أي عليها. ومعناه أنه مديرها ومالكها، كما يقال: فلان على العراق والحجاز، أي واليها وأميرها. والاخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند. والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لان السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، واليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان. وقرا قنبل عن ابن كثير النُّشُورُ وأَمِنْتُمْ بقلب الهمزة الاولى واوا وتخفيف الثانية. وقرا الكوفيون والبصريون واهل الشام سوى أبي عمرو وهشام بالتخفيف في الهمزتين، وخفف الباقون. وقد تقدم جميعه.

[سورة الملك (67): آية 17]
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
__________
(1). راجع ج 8 ص (64)
(2). راجع ج 11 ص 224 .==

ج26. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي-أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)

قوله تعالى: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل. وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء. وقيل: سحاب فيه حجارة. (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي إنذاري. وقيل: النذير بمعنى المنذر. يعني محمدا صلي الله عليه وسلم فستعلمون صدقه وعاقبة تكذيبكم.

[سورة الملك (67): آية 18]
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني كفار الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرس وقوم فرعون. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري وقد تقدم «1». وأثبت ورش الياء في" نذيري، ونكيري" في الوصل. وأثبتها يعقوب في الحالين. وحذف الباقون اتباعا للمصحف.

[سورة الملك (67): آية 19]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور. وصافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، لأنهن إذا بسطنها صففن قوائمها صفا. وَيَقْبِضْنَ أي يضربن بها جنوبهن. قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبه: قابض، لأنه يقبضهما. قال أبو خراش:
يبادر جنح الليل فهو موائل «2» ... يحث الجناح بالتبسط والقبض
__________
(1). راجع ج 12 ص (73)
(2). كذا في نسخ الأصل. وواءل الطائر: لجأ وخلص. والى المكان: بادر. والذي في ديوان أشعار الهذليين وكتب اللغة:" فهو مهابذ" والمهابذة: الإسراع.

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)

وقيل: ويقبض أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران. وهو معطوف على صافَّاتٍ عطف المضارع على أسم الفاعل، كما عطف أسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر:
بات يعشيها بعضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر «1»
ما يُمْسِكُهُنَّ أي ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ.

[سورة الملك (67): آية 20]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
قوله تعالى: (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) قال ابن عباس: حزب ومنعة لكم. (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد، ولهذا قال: هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ وهو استفهام إنكار، أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي من سوى الرحمن. (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) من الشياطين، تغرهم بأن لا عذاب ولا حساب.

[سورة الملك (67): آية 21]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
قوله تعالى: (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) أي يعطيكم منافع الدنيا. وقيل المطر من آلهتكم. (إِنْ أَمْسَكَ) يعني الله تعالى رزقه. (بَلْ لَجُّوا) أي تمادوا وأصروا. (فِي عُتُوٍّ) طغيان (وَنُفُورٍ) عن الحق.
__________
(1). لم يعلم قائله، وهو من الرجز المسدس. و" يعشيها" أي يطعمها العشاء. ويروى:" يغشيها" بالغين المعجمة من الغشاء كالغطاء، أي يشملها ويعمها. وضمير المؤنث للإبل، وهو في وصف كريم بادر بعقر إبله لضيوفه. والعضب: السيف. و" يقصد": من القصد وهو ضد الجور. و" أسوقها": جمع ساق، وهو ما بين الركبة إلى القدم. و" جائر" من جار إذا ظلم. أي يجور. (راجع خزانة الأدب في الشاهد السادس والخمسين بعد الثلاثمائة).

أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)

[سورة الملك (67): آية 22]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر «1» مُكِبًّا أي منكسا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه. كمن يمشي سويا معتدلا ناظرا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. قال ابن عباس: هذا في الدنيا، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف، «2» فلا يزال ينكب على وجهه. وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدى له. وقال قتادة: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه. وقال ابن عباس والكلبي: عنى بالذي يمشى مكبا على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سويا رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقيل أبو بكر. وقيل حمزة. وقيل عمار بن ياسر، قاله عكرمة. وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن، أي أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل. أي أهذا الكافر أهدى أو المسلم الذي يمشي سويا معتدلا يبصر للطريق وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام. ويقال: أكب الرجل على وجهه، فيما لا يتعدى بالألف. فإذا تعدى قيل: كبه الله لوجهه، بغير ألف.

[سورة الملك (67): آية 23]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23)
قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم بأن الله خلقهم. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) يعني القلوب (قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي لا تشكرون هذه النعم، ولا توحدون الله تعالى. تقول: قلما أفعل كذا، أي لا أفعله.

[سورة الملك (67): الآيات 24 الى 25]
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من س، هـ.
(2). الاعتساف: ركوب المفازة وقطعها بغير قصد ولا هداية، ولا توخى قصد ولا طريق مسلوك.

قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي خلقكم في الأرض، قاله ابن عباس. وقيل: نشركم فيها وفرقكم على ظهرها، قاله ابن شجرة. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) حتى يجازي كلا بعمله. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي متى يوم القيامة! ومتى هذا العذاب الذي تعدوننا به وهذا استهزاء منهم. وقد تقدم «1».

[سورة الملك (67): آية 26]
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قل لهم يا محمد علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره. نظيره: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: 187] الآية «2». (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوف ومعلم لكم.

[سورة الملك (67): آية 27]
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) مصدر بمعنى مزدلفا أي قريبا، قاله مجاهد. الحسن عيانا. وأكثر المفسرين على أن المعنى: فلما رأوه يعني العذاب، وهو عذاب الآخرة. وقال مجاهد: يعني عذاب بدر. وقيل: أي رأوا ما وعدوا من الحشر قريبا منهم. ودل عليه تُحْشَرُونَ. وقال ابن عباس: لما رأوا عملهم السيئ قريبا. (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فعل بها السوء. وقال الزجاج: تبين فيها السوء أي ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة تدل على كفرهم، كقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «3» [آل عمران: 106]. وقرا نافع وابن محيصن وابن عامر والكسائي" سئت" بإشمام الضم. وكسر الباقون بغير إشمام طلبا للخفة. ومن ضم لاحظ الأصل. (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) قال الفراء: تَدَّعُونَ تفتعلون من الدعاء وهو قول أكثر العلماء أي تتمنون وتسألون.
__________
(1). راجع ج 8 ص (349)
(2). راجع ج 7 ص (335)
(3). راجع ج 4 ص 166

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)

وقال ابن عباس: تكذبون، وتأويله: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأحاديث، قاله الزجاج. وقراءة العامة تَدَّعُونَ بالتشديد، وتأويله ما ذكرناه. وقرا قتادة وابن أبي إسحاق والضحاك ويعقوب" تدعون" مخففة. قال قتادة: هو قولهم رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا «1» [ص: 16]. وقال الضحاك: هو قولهم اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «2» [الأنفال: 32] الآية. وقال أبو العباس: تَدَّعُونَ تستعجلون، يقال: دعوت بكذا إذا طلبته، وادعيت افتعلت منه. النحاس: تَدَّعُونَ وتدعون" بمعنى واحد، كما يقال: قدر واقتدر، وعدي واعتدى، إلا أن في" أفتعل" معنى شي بعد شي، و" فعل" يقع على القليل والكثير.

[سورة الملك (67): آية 28]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ أي «3» قل لهم يا محمد- يريد مشركي مكة، وكانوا يتمنون موت محمد صلي الله عليه وسلم، كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ
«4» [الطور: 30]- أرأيتم إن متنا أو رحمنا فأخرت آجالنا فمن يجيركم من عذاب الله، فلا حاجة بكم إلى التربص بنا ولا إلى استعجال قيام الساعة. وأسكن الياء في (أهلكني) ابن محيصن والمسيبي وشيبة والأعمش وحمزة. وفتحها الباقون. وكلهم فتح الياء في وَمَنْ مَعِيَ إلا أهل الكوفة فإنهم سكنوها. وفتحها حفص كالجماعة.

[سورة الملك (67): آية 29]
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قوله تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ قرأ الكسائي بالياء على الخبر، ورواه عن علي. الباقون بالتاء على الخطاب. وهو تهديد لهم. ويقال: لم أخر مفعول
__________
(1). راجع ج 15 ص (157)
(2). راجع ج 7 ص (398)
(3). كلمة" أي" ساقطة من ح، س.
(4). راجع ج 17 ص 71 [.....]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

آمَنَّا وقدم مفعول تَوَكَّلْنا فيقال: لوقوع آمَنَّا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم. كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم. ثم قال وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم، قاله الزمخشري.

[سورة الملك (67): آية 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) يا معشر قريش (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء. وكان ماؤهم من بئرين: بئر زمزم وبئر ميمون. (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي جار، قاله قتادة والضحاك. فلا بد لهم من أن يقولوا لا يأتينا به إلا الله، فقل لهم لم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم. يقال: غار الماء يغور غورا، أي نضب. والغور: الغائر، وصف بالمصدر للمبالغة، كما تقول: رجل عدل ورضا. وقد مضى في سورة" الكهف" «1» ومضى القول في المعنى في سورة" المؤمنون" «2» والحمد لله. وعن ابن عباس: بِماءٍ مَعِينٍ أي ظاهر تراه العيون، فهو مفعول. وقيل: هو من معن الماء أي كثر، فهو على هذا فعيل. وعن ابن عباس أيضا: أن المعنى فمن يأتيكم بماء عذب. والله أعلم «3».

[تفسير سورة ن والقلم ]
تفسير سورة" ن والقلم" مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: من أولها إلى قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: «4» [16) مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «5» [القلم: 33] مدني. ومن بعد ذلك إلى قوله: يَكْتُبُونَ «6» [القلم: 47] مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: مِنَ الصَّالِحِينَ «7» [القلم: 50] مدني، وما بقي مكي. قاله الماوردي
__________
(1). راجع ج 10 ص (409)
(2). راجع ج 2 ص (112)
(3). في هـ: ختمت السورة والحمد الله رب العالمين.
(4). آية (16)
(5). آية (33)
(6). آية (47)
(7). آية 50

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب. والباقون بالإظهار. وقرا عيسى ابن عمر بفتحها، كأنه أضمر فعلا. وقرا ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف، القسم. وقرا هارون ومحمد بن السميقع بضمها على البناء. واختلف في تأويله، فروى معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه إلى النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: ن (لوح من نور). وروى ثابت البناني أن ن الدواة. وقاله الحسن وقتادة. وروى الوليد بن مسلم قال: حدثنا مالك بن أنس عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قول تعالى: ن وَالْقَلَمِ ثم قال له اكتب قال: وما أكتب قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة- قال- ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت) قال: ثم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته). وعن مجاهد قال: ن الحوت الذي تحت الأرض السابعة. قال: وَالْقَلَمِ الذي كتب به الذكر. وكذا قال مقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي: إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء، ثم خلق النون فبسط الأرض

على ظهره، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض. ثم قرأ ابن عباس ن وَالْقَلَمِ الآية. وقال الكلبي ومقاتل: اسمه البهموت «1». قال الراجز:
مالي أراكم كلكم سكوتا ... والله ربي خلق البهموتا
وقال أبو اليقظان والواقدي: ليوثا. وقال كعب: لوثوثا. وقال: بلهموثا «2». وقال كعب: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع، فهم ليوثا أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه، فضج الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت. قال كعب: فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت. وقال الضحاك عن ابن عباس: إن ن آخر حروف من حروف الرَّحْمنِ. قال: الر، ولَحْمَ، ون، الرَّحْمنِ تعالى متقطعة. وقال ابن زيد هو قسم أقسم تعالى به. وقال ابن كيسان: هو فاتحة السورة. وقيل: أسم السورة. وقال عطاء وأبو العالية: هو افتتاح أسمه نصير ونور وناصر. وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين، وهو حق. بيانه قوله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
«3» [الروم: 47] وقال جعفر الصادق: هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون. وقيل: هو المعروف من حروف المعجم، لأنه لو كان غير ذلك لكان معربا، وهو اختيار القشيري أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره. قال: لان ن حرف لم يعرب، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. وعلى هذا قيل: هو أسم السورة، أي هذه السورة ن. ثم قال: وَالْقَلَمِ أقسم بالقلم لما فيه من البيان
__________
(1). ضبطه الألوسي في تفسيره فقال:" اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء".
(2). اضطربت الأصول والمراجع التي بين أيدينا في هذه الأسماء. وقد خرج المؤلف رحمه الله عما اشترطه في مقدما كتابه ص (3) حيث قال:" ... وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين ..." إلخ.
(3). راجع ج 14 ص 43

كاللسان، وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض، ومنه قول أبي الفتح البستي:
إذا أقسم الابطال يوما بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب عزا ورفعة ... مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة، ما ذكرناه أعلاها. وقال ابن عباس: هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض. ويقال. خلق الله القلم ثم نظر إليه فانشق نصفين، فقال: أجر، فقال: يا رب بم أجري؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى على اللوح المحفوظ. وقال الوليد بن عبادة بن الصامت: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بني، اتق الله، وأعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خيره وشره، سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب فقال يا رب وما أكتب فقال أكتب القدر فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد) وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن، فكتب فيما كتب تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1]. وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى على عباده. قال غيره: فخلق الله القلم الأول فكتب ما يكون في الذكر ووضعه عنده فوق عرشه، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض، على ما يأتي بيانه في سورة (اقرأ باسم ربك) «1» [العلق: 1]. قوله تعالى: (وَما يَسْطُرُونَ) أي وما يكتبون. يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم، قاله ابن عباس: وقيل: وما يكتبون أي الناس ويتفاهمون به. وقال ابن عباس: ومعنى وَما يَسْطُرُونَ وما يعلمون. وما موصولة أو مصدرية، أي ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة، على الخلاف. (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) هذا جواب القسم وهو نفي، وكان المشركون يقولون للنبي صلي الله عليه وسلم إنه مجنون، به شيطان.
__________
(1). راجع ج 20 ص 117.

وهو قولهم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «1» [الحجر: 6] فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي برحمة ربك. والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانيا- أن النعمة ها هنا قسم، وتقديره: ما أنت ونعمة ربك بمجنون، لان الواو والباء من حروف القسم. وقيل هو كما تقول: ما أنت بمجنون، والحمد لله. وقيل: معناه ما أنت بمجنون، والنعمة لربك، كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي والحمد لله. ومنه قول لبيد:
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي ... وفارقني جار بأربد نافع
أي وهو أربد»
. وقال النابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتق مذكار
أي هو ناتق. والباء في بِنِعْمَةِ رَبِّكَ متعلقة بِمَجْنُونٍ منفيا، كما يتعلق بغافل مثبتا. كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل. ومحله النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوة. (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع ولا منقوص، يقال: مننت الحبل إذا قطعته. وحبل منين إذا كان غير متين. قال الشاعر:
غبسا كواسب لا يمن طعامها «3»

أي لا يقطع. وقال مجاهد: غَيْرَ مَمْنُونٍ محسوب. الحسن: غَيْرَ مَمْنُونٍ غير مكدر بالمن. الضحاك: أجرا بغير عمل. وقيل: غير مقدر وهو التفضل، لان الجزاء مقدر والتفضل غير مقدر، ذكره الماوردي، وهو معنى قول مجاهد.
__________
(1). راجع ج 10 ص 4
(2). الربدة (بضم فسكون): الغيرة. ورواية الديوان في هذا البيت:
وقد كنت في أكناف جار مضنة ... ففارقني .....
إلخ. و" جار مضنة": جار يضن به.
(3). هذا عجز للبيد. واختلف في صدره. راجع مادة (متن) في اللسان. والغبسة: لون الرماد. [.....]

وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

[سورة القلم (68): آية 4]
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فيه مسألتان: الاولى: قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال ابن عباس ومجاهد على خلق، على دين عظيم من الأديان، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه. وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن خلقه كان القرآن. وقال علي رضي الله عنه وعطية: هو أدب القرآن. وقيل: هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم. وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه. وقيل: أي إنك على طبع كريم. الماوردي: وهو الظاهر. وحقيقة الخلق في اللغة: هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خلقا، لأنه يصير كالخلقة فيه. وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم (بالكسر): السجية والطبيعة، لا واحد له من لفظه. وخيم: اسم جبل. فيكون الخلق الطبع المتكلف. والخيم الطبع الغريزي. وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال:
وإذا ذو الفضول ضن على المو ... لي وعادت لخيمها الأخلاق
أي رجعت الأخلاق إلى طبائعها. قلت: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال. وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام، فقرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» [المؤمنون: 1] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلي الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، ولذلك قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلي الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر. وقال الجنيد: سمي خلقه عظيما لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، يدل عليه قوله عليه السلام: (إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق). وقيل: لأنه أمتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» [الأعراف: 199]. وقد روي عنه عليه السلام
__________
(1). راجع ج 12 ص 103.
(2). راجع ج 7 ص 433.

فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

أنه قال: (أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] فلما قبلت ذلك منه قال: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. الثانية- روى الترمذي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (أتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). قال حديث حسن صحيح. وعن أبي الدرداء أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ما شي أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذي). قال: حديث حسن صحيح. وعنه قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: (ما من شي يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم). قال: حديث غريب من هذا الوجه. وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: (تقوى الله وحسن الخلق). وسيل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: (الفم والفرج) قال: هذا حديث صحيح غريب. وعن عبد الله ابن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى. وعن جابر: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا- قال- وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون (. قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون «1» والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال:) المتكبرون (. قال: وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه «2».

[سورة القلم (68): الآيات 5 الى 7]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
__________
(1). المتشدق: الذي يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم.
(2). زيادة عن صحيح الترمذي.

قوله تعالى: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) قال ابن عباس: معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة. وقيل: فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) الباء زائدة، أي فستبصر ويبصرون أيكم المفتون. أي الذي فتن بالجنون، كقوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» [المؤمنون: 20] ويَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «2» [الإنسان: 6]. وهذا قول قتادة وأبي عبيد والأخفش. وقال الراجز:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج «3»
وقيل: الباء ليست بزائدة، والمعنى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي الفتنة. وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون معناه الفتون، كما قالوا: ما لفلان مجلود ولا معقول، أي عقل ولا جلادة. وقاله الحسن والضحاك وابن عباس. وقال الراعي:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحما ولا لفؤاده معقولا
أي عقلا. وقيل في الكلام تقدير حذف مضاف، والمعنى: بأيكم فتنة المفتون. وقال الفراء: الباء بمعنى في، أي فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون، أبا لفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى. والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل: المفتون المعذب. من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا حميته. ومنه قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «4» [الذاريات: 13] أي يعذبون. ومعظم السورة نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي جهل. وقيل: المفتون هو الشيطان، لأنه مفتون في دينه. وكانوا يقولون: إن به شيطانا، وعنوا بالمجنون هذا، فقال الله تعالى: فسيعلمون غدا بأيهم المجنون، أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.
__________
(1). راجع ج 12 ص (114)
(2). راجع ج 19 ص (124)
(3). الفلج (بفتح الفاء واللام): مدينة بأرض اليمامة لبنى جعدة. ويجوز فيه: نحن بنى ... بالنصب على الاختصاص. (راجع الشاهد التاسع والثمانين بعد السبعمائة في خزانة الأدب).
(4). راجع ج 17 ص 31

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي الذين هم على الهدى فيجازي كلا غدا بعمله.

[سورة القلم (68): آية 8]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)
نهاه عن «1» ممايلة المشركين، وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن مما يلتهم كفر. وقال تعالى: وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا «2» [الاسراء: 74]. وقيل: أي فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث. نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.

[سورة القلم (68): آية 9]
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس أيضا: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. وقال الفراء والكلبي: لو تلين فيلينون لك. والادهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين، قاله الفراء. وقال مجاهد: المعنى ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك. وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الامر فيذهبون معك. الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وعنه أيضا: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم. زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون. وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون، قاله أبو جعفر. وقيل: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم، قاله القتبي. وعنه: طلبوا منه أن يعبد ألهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة. فهذه اثنا عشر قولا. ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال كلها دعاوي على اللغة والمعنى. أمثلها قولهم: ودوا لو تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون.
__________
(1). مايله ممايلة: مالاه.
(2). راجع ج 10 ص 300

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)

قلت: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الادهان: اللين والمصانعة. وقيل: مجاملة العدو ممايلته. وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول. قال الشاعر:
لبعض الغشم أحزم في أمور ... تنوبك من مداهنة العدة
وقال المفضل: النفاق وترك المناصحة. فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأول غير مذمومة، وكل شي منها لم يكن. قال المبرد: يقال أدهن في دينه وداهن في أمره، أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر. وقال قوم: داهنت بمعنى وأريت، وأدهنت بمعنى غششت، قاله الجوهري. وقال: فَيُدْهِنُونَ فساقه على العطف، ولو جاء به جواب النهي لقال فيدهنوا. وإنما أراد: إن تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك، عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير.

[سورة القلم (68): الآيات 10 الى 13]
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13)
يعني الأخنس بن شريق، في قول الشعبي والسدي وابن إسحاق. وقيل: الأسود ابن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود، قاله مجاهد. وقيل: الوليد بن المغيرة، عرض على النبي صلي الله عليه وسلم مالا وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه، قاله مقاتل. وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام. والحلاف: الكثير الحلف. والمهين: الضعيف القلب، عن مجاهد. ابن عباس: الكذاب. والكذاب مهين. وقيل: المكثار في الشر، قاله الحسن وقتادة. وقال الكلبي: المهين الفاجر العاجز. وقيل: معناه الحقير عند الله. وقال ابن شجرة: إنه الذليل. الرماني: المهين الوضيع لاكثاره من القبيح. وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة. وهي هنا القلة في الرأي والتمييز. أو هو فعيل بمعنى مفعل، والمعنى مهان. (هَمَّازٍ) قال ابن زيد: الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم. واللماز باللسان. وقال

الحسن: هو الذي يهمز ناحية في المجلس، كقول تعالى: هُمَزَةٍ. [الهمزة: 1]. وقيل: الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم. واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم، قاله أبو العالية وعطاء ابن أبي رباح والحسن أيضا. وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة الذي يغتاب بالغيبة. واللمزة الذي يغتاب في الوجه. وقال مرة: هما سواء. وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. ونحوه عن ابن عباس وقتادة. قال الشاعر:
تدلي بود إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغب فأنت الهامز اللمزة
(مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. يقال: نم ينم نما ونميما ونميمة، أي يمشي ويسعى بالفساد. وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا يدخل الجنة نمام). وقال الشاعر:
ومولى كبيت النمل لا خير عنده ... لمولاه إلا سعيه بنميم
قال الفراء: هما لغتان. وقيل: النميم جمع نميمة. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي للمال أن ينفق في وجوهه. وقال ابن عباس: يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته. وقال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا. (مُعْتَدٍ) أي على الناس في الظلم، متجاوز للحد، صاحب باطل. (أَثِيمٍ) أي ذي إثم، ومعناه أثوم، «1» فهو فعيل بمعنى فعول. (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) العتل الجافي الشديد في كفره. وقال الكلبي والفراء: هو الشديد الخصومة بالباطل. وقيل: إنه الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب. مأخوذ من العتل وهو الجر، ومنه قوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ «2» [الدخان: 47]. وفي الصحاح: وعتلت الرجل أعتله وأعتله إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل معتل (بالكسر). وقال يصف «3» فرسا:
نفرعه فرعا ولسنا نعتله

قال ابن السكيت: عتله وعتنه، باللام والنون جميعا. والعتل الغليظ الجافي. والعتل أيضا:
__________
(1). في الأصول:" مأثوم".
(2). راجع ج 16 ص (15)
(3). هو أبو النجم الراجز. وفرع فرسه فرعا: كبحه وكفه.

الرمح الغليظ. ورجل عتل (بالكسر) بين العتل، أي سريع إلى الشر. ويقال: لا أنعتل معك، أي لا أبرح مكاني. وقال عبيد بن عمير: العتل الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا. وقال علي بن أبي طالب والحسن: العتل الفاحش السيئ الخلق. وقال معمر: هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر:
بعتل من الرجال زنيم ... غير ذي نجدة وغير كريم
وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب سمع النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأهل الجنة- قالوا بلى قال- كل ضعيف متضعف «1» لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار- قالوا بلى قال- كل عتل جواظ مستكبر (. في رواية عنه (كل جواظ زنيم متكبر). الجواظ: قيل هو الجموع المنوع. وقيل الكثير اللحم المختال في مشيته. وذكر الماوردي عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، ورواه ابن مسعود أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم). فقال رجل: ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (الجواظ الذي جمع ومنع. والجعظري الغليظ. والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام الظلوم للناس (. وذكره الثعلبي عن شداد بن أوس:) لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم) سمعتهن من النبي صلي الله عليه وسلم قلت: وما الجواظ؟ قال: الجماع المناع. قلت: وما الجعظري؟ قال: الفظ الغليظ. قلت: وما العتل الزنيم؟ قال: الرحيب الجوف الوثير الخلق الأكول الشروب الغشوم الظلوم. قلت: فهذا التفسير من النبي صلي الله عليه وسلم في العتل قد أربى على أقوال المفسرين. ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجواظ أنه الفظ الغليظ. ذكره من حديث حارثة بن وهب
__________
(1). روى بكسر العين وفتحها. والمشهور الفتح. ومعناه: يستضعفه الناس ويحقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا. ورواية الكسر معناها: متواضع متذلل خامل واضع من نفسه. قال القاضي: وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للايمان. [.....]

الخزاعي قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري) قال: والجواظ الفظ الغليظ. ففيه تفسيران مرفوعان حسب ما ذكرناه أولا. وقد قيل: إنه ألجأ في القب وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (تبكي السماء من رجل أصح الله جسمه ورحب جوفه وأعطاه من الدنيا بعضا فكان للناس ظلوما فذلك العتل الزنيم. وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقله (. والزنيم الملصق بالقوم الدعي، عن ابن عباس وغيره. قال الشاعر:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وعن ابن عباس أيضا: أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة. وروى عنه ابن جبير. أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال عكرمة: هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها. وقيل: إنه الذي يعرف بالابنة. وهو مروي عن ابن عباس أيضا. وعنه أنه الظلوم. فهذه ستة أقوال. وقال مجاهد: زنيم كانت له ستة أصابع في يده، في كل إبهام له إصبع زائدة. وعنه أيضا وسعيد بن المسيب وعكرمة: هو ولد الزنى الملحق في النسب بالقوم. وكان الوليد «1» دعيا في قريش ليس من سنخهم، «2» ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده. قال الشاعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغي الام ذو حسب لئيم
وقال حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
قلت: وهذا هو القول الأول بعينه. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه الذي لا أصل له، والمعنى واحد. وروي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده). وقال عبد الله بن عمر: إن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (إن أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير). وقالت ميمونة: سمعت النبي
__________
(1). هو الوليد بن المغيرة المخزومي.
(2). السنخ (بالكسر والخاء المعجمة): الأصل.

أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)

صلي الله عليه وسلم يقول: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أو شك أن يعمهم الله بعقاب). وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنى قحط المطر. قلت: أما الحديث الأول والثاني فما أظن لهما سندا يصح، وأما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلي الله عليه وسلم قالت: خرج النبي صلي الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: (لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت فقلت: يا رسول الله، انهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث) خرجه البخاري. وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى، كذا فسره العلماء. وقول عكرمة" قحط المطر" تبيين لما يكون به الهلاك. وهذا يحتاج إلى توقيف، وهو أعلم من أين قاله. ومعظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة، وكان يطعم أهل منى حيسا «1» ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدن أحد تحت برمة، ألا لا يدخنن أحد بكراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة. وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر. ولا يعطي المسكين درهما واحدا فقيل: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ. وفية نزل: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «2» [فصلت: 7- 6]. وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق، لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي زنيما. وقال ابن عباس: في هذه الآية نعت، فلم يعرف حتى قتل فعرف، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها. وقال مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.

[سورة القلم (68): الآيات 14 الى 15]
أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
__________
(1). الحيس: الطعام المتخذ من التمر والأقط (الجبن المتخذ من اللين الحامض) والسمن.
(2). راجع ج 15 ص 340

سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

قوله تعالى: (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو حيوة والمغيرة والأعرج" آن كان" بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرا المفضل وأبو بكر وحمزة" أأن كان" بهمزتين محققتين. وقرا الباقون بهمزة واحدة على الخبر، فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على زَنِيمٍ، ويبتدئ أَنْ كانَ على معنى ألان كان ذا مال وبنين تطيعه. ويجوز أن يكون التقدير: ألان كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا: أساطير الأولين!! ويجوز أن يكون التقدير: ألان كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر. ودل عليه ما تقدم من الكلام فصار كالمذكور بعد الاستفهام. ومن قرأ أَنْ كانَ بغير استفهام فهو مفعول من أجله والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لان كان ذا مال وبنين. ودل على هذا الفعل: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ولا يعمل في أَنْ: تُتْلى ولا قالَ لان ما بعد إِذا لا يعمل فيما قبلها، لان إِذا تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. وقالَ جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء، إذا حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط فيصير مقدما مؤخرا في حال. ويجوز أن يكون المعنى لا تطعه لان كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على زَنِيمٍ لان المعنى لان كان وبأن كان، ف أَنْ متعلقة بما قبلها. قال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ والتقدير يمشي بنميم لان كان ذا مال وبنين. وأجاز أبو علي أن يتعلق ب عُتُلٍّ. وأساطير الأولين: أباطيلهم وترهاتهم وخرافاتهم «1». وقد تقدم «2».

[سورة القلم (68): آية 16]
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: سَنَسِمُهُ قال ابن عباس: معنى سَنَسِمُهُ سنخطمه بالسيف. قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوما إلى أن مات.
__________
(1). في الأصول:" وخراريقهم" بالقاف.
(2). راجع ج 6 ص 05 4

وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها، يقال: وسمته وسما وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكي. وقد قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» [آل عمران: 106] فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ «2» زُرْقاً [طه: 102] وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ «3» [الرحمن: 41] قاله الكلبي وغيره. وقال أبو العالية ومجاهد: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه. والخرطوم: الأنف من الإنسان. ومن السباع: موضع الشفة. وخراطيم القوم: ساداتهم. قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه، لان بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال الطبري: نبين أمره تبيانا واضحا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. وقيل: المعنى سنلحق به عارا وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتبي: تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسم سوء، أي الصق به عار لا يفارقه، كما أن السمة لا يمحى أثرها. قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث «4» جدعت أنف الأخطل
أراد به الهجاء. قال: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه، فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة، كالوسم على الخرطوم. وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله واهلة من سوء وذل وصغار، قاله ابن بحر. واستشهد بقول الأعشى:
فدعها وما يغنيك وأعمد لغيرها ... بشعرك وأعلب «5» أنف من أنت واسم
__________
(1). راجع ج 4 ص (166)
(2). راجع ج 11 ص (244)
(3). راجع ج 17 ص (175)
(4). البعيث: هو خداش بن بشر (ويقال بشير) من بنى مجاشع، كان يهاجى جريرا.
(5). علبه يعلبه علبا وعلوبا: أثر فيه ووسمه أو خدشه.

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)

وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه خراطيم، قال الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب ... وأنت بالليل شراب الخراطيم
قال الراجز: «1»
صهباء خرطوما عقارا قرقفا «2»

وقال آخر:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
الثانية- قال ابن العربي:" كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس، حتى أنه روي- كما تقدم- أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا منه بالضرب وتحميم «3» الوجه، وهذا وضع باطل. ومن الوسم الصحيح في الوجه: ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور، علامة على قبح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته «4»، فقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية. وأعظم الإهانة إهانة الوجه. وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا «5» لخيرة الأبد والتحريم له على النار، فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، حسب ما ثبت في الصحيح.

[سورة القلم (68): الآيات 17 الى 19]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19)
__________
(1). هو العجاج.
(2). كل هذا من أسماه الخمر. وقبله:
فغمها حولين ثم استودفا

وغممت الشيء: غطيته. واستودف اللين: صبه في الافاء.
(3). تحميم الوجه: تسخيمه بالفحم. [.....]
(4). عبارة ابن العربي في أحكامه:" ... لغيره لمن يرجى تجنبه يمن يرى من عقوبة ...".
(5). في ابن العربي:" سببا لحياة الأبد"

فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يريد أهل مكة. والابتلاء الاختبار. والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا محمدا صلي الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء- ويقال بفرسخين- وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها، فلما مات صارت إلى ولده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها، فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها. قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان، ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم. وقيل: هي جنة بضوران، وضوران على فرسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير- وكانوا بخلاء- فكانوا يجدون التمر ليلا من أجل المساكين، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا: لا يدخلها اليوم عليكم مسكين، فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم، أي كالليل. ويقال أيضا للنهار صريم. فإن كان أراد الليل فلاسوداد موضعها. وكأنهم وجدوا موضعها حمأة. وإن كان أراد بالصريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الأرض منه. وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتعلها. فيقال: إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم، ولذلك سميت الطائف. وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها. وقال البكري في المعجم: سميت الطائف لان رجلا من الصدف»
يقال له الدمون، بنى حائطا وقال: قد بنيت لكم طائفا حول بلدكم، فسميت الطائف. والله أعلم. الثانية- قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسى منها من حضره، وذلك معنى قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الانعام: 141] وأنه «2» غير الزكاة على ما تقدم في" الانعام" بيانه «3». وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم
__________ (1). الصدف (بالفتح ثم الكسر): مخلاف من اليمن منسوب إلى القبيلة.
(2). في ط:" عين".
(3). راجع ج 7 ص 99.

من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. فقيل: إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. وتأول من قال هذا الآية التي في سورة" ن والقلم". وقيل: إنما نهي عن ذلك خشية الحيات وهو ام الأرض. قلت: الأول أصح، والثاني حسن. وإنما قلنا الأول أصح لان العقوبة كانت بسبب، ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. روى أسباط عن السدي قال: كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا، وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فلم يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا، فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين! تعالوا فلندلج فنصر منها قبل أن يعلم المساكين، ولم يستثنوا، فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفتا: «1» لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، فذلك قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا يعني حلفوا فيما بينهم لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ يعني لنجذنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين، ولا يستثنون، يعني لم يقولوا إن شاء الله. وقال ابن عباس: كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شي سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا حصدوا زرعهم فكل شي تعداه المنجل فهو للمساكين، فإذا درسوا كان لهم كل شي انتثر، فكان أبوهم يتصدق منها على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم. فقالوا: قل المال وكثر العيال، فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصر منها ولا تعرف المساكين. وهو قوله: إِذْ أَقْسَمُوا أي حلفوا لَيَصْرِمُنَّها ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة «2» من الليل لئلا ينتبه المساكين لهم. والصرم القطع. يقال: صرم العذق عن النخلة. وأصرم النخل أي حان وقت صرامة. مثل أركب المهر وأحصد الزرع، أي حان ركوبه وحصاده. (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي ولم يقولوا إن شاء الله. فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ ينادى بعضهم بعضا.
__________
(1). الخفت (بوزن السبت): إسرار المنطق.
(2). السدقة: الظلمة، والضوء. وطائفة من الليل. وقيل: اختلاط الضوء والظلمة جميعا.

فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)

أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ عازمين على الصرام والجداد. قال قتادة: حاصدين زرعكم. وقال الكلبي: ما كان في جنتهم من زرع ولا نخيل. وقال مجاهد: كان حرثهم عنبا ولم يقولوا إن شاء الله. وقال أبو صالح: كان استثناؤهم قولهم سبحان الله ربنا وقيل: معنى وَلا يَسْتَثْنُونَ أي لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة. فجاءوها ليلا فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. قيل: الطائف جبريل عليه السلام، على ما تقدم ذكره. وقال ابن عباس: أمر من ربك. وقال قتادة: عذاب من ربك. ابن جريج: عنق من نار خرج من وادي جهنم. والطائف لا يكون إلا بالليل، قاله الفراء. الثالثة- قلت: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «1» [الحج: 25]. وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه). وقد مضى مبينا في سورة" آل عمران" عند قوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا «2» [آل عمران: 135].

[سورة القلم (68): الآيات 20 الى 22]
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22)
قوله تعالى فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أي كالليل المظلم عن ابن عباس والفراء وغيرهما. قال الشاعر:
تطاول ليلك الجون البهيم ... فما ينجاب عن صبح بهيم «3»
__________
(1). راجع ج 12 ص (34)
(2). راجع ج 4 ص (215)
(3). في اللسان مادة صرم:
فما ينجاب عن ليل صريم

فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)

أي احترقت فصارت كالليل الأسود. وعن ابن عباس أيضا: كالرماد الأسود. قال: الصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. الثوري: كالزرع المحصود فالصريم بمعنى المصروم أي المقطوع ما فيه. وقال الحسن: صرم عنها الخير أي قطع، فالصريم مفعول أيضا. وقال المؤرج: أي كالرملة انصرمت من معظم الرمل. يقال: صريمة وصرائم، فالرملة لا تنبت شيئا ينتفع به. وقال الأخفش: أي كالصبح انصرم من الليل. وقال المبرد: أي كالنهار، فلا شي فيها. قال شمر: الصريم الليل والصريم النهار، أي ينصرم هذا عن ذاك وذاك عن هذا. وقيل: سمي الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، ولهذا يكون فعيل بمعنى فاعل. قال القشيري: وفي هذا نظر، لان النهار يسمى صريما ولا يقطع عن تصرف.

[سورة القلم (68): الآيات 23 الى 25]
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25)
قوله تعالى: (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي يتسارون، أي يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد، قاله عطاء وقتادة. وهو من خفت يخفت إذا سكن ولم يبين. كما قال دريد بن الصمة:
وإني لم أهلك سلالا ولم أمت ... خفاتا وكلا ظنه بي عودي
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام. (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي على قصد وقدرة في أنفسهم ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قال معناه ابن عباس وغيره. والحرد القصد. حرد يحرد (بالكسر) حردا قصد. تقول: حردت حردك، أي قصدت قصدك. ومنه قول الراجز:
أقبل سيل جاء من عند الله ... يحرد حرد الجنة المغلة
أنشده النحاس:
قد جاء سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة

قال المبرد: المغلة ذات الغلة. وقال غيره: المغلة التي يجري الماء في غللها «1» أي في أصولها. ومنه تغللت بالغالية. ومنه تغليت، أبدل من اللام ياء. ومن قال تغلفت فمعناه عنده جعلتها غلافا. وقال قتادة ومجاهد: عَلى حَرْدٍ أي على جد. الحسن: على حاجة وفاقه. وقال أبو عبيدة والقتيبي: على حرد على منع، من قولهم حاردت الإبل حرادا أي قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر. وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال السدي وسفيان: عَلى حَرْدٍ على غضب. والحرد الغضب. قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي: وهو مخفف، وأنشد شعرا:
إذا جياد الخيل جاءت تردي ... مملوءة من غضب وحرد
وقال ابن السكيت: وقد يحرك تقول منه: حرد (بالكسر) حردا، فهو حارد وحردان. ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد. وقيل: عَلى حَرْدٍ على انفراد. يقال: حرد يحرد حرودا، أي تنحى عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم. وقال أبو زيد: رجل حريد من قوم حرداء. وقد حرد يحرد حرودا، إذا ترك قومه وتحول عنهم. وكوكب حريد، أي معتزل عن الكواكب. قال الأصمعي: رجل حريد، أي فريد وحيد. قال والمنحرد المنفرد في لغة هذيل. وأنشد لابي ذؤيب:
كأنه كوكب في الجو منحرد

ورواه أبو عمرو بالجيم، وفسره: منفرد. قال: وهو سهيل. وقال الأزهري: حرد اسم قريتهم. السدي: اسم جنتهم، وفية لغتان: حرد وحرد. وقرا العامة بالإسكان. وقرا أبو العالية وابن السميقع بالفتح، وهما لغتان. ومعنى قادِرِينَ قد قدروا أمرهم وبنوا عليه، قاله الفراء. وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم وقال الشعبي: قادِرِينَ يعني على المساكين. وقيل: معناه من الوجود، أي منعوا وهم واجدون.
__________
(1). الذي في كتب اللغة: الغلل: الماء الذي يجرى في أصول الشجر، أو الماء الظاهر الجاري.

فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)

[سورة القلم (68): الآيات 26 الى 27]
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي لما رأوها محترقة لا شي فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد، أنكروها وشكوا فيها. وقال بعضهم لبعض: إِنَّا لَضَالُّونَ أي ضللنا الطريق إلى جنتنا، قاله قتادة. وقيل: أي إنا لضالون عن الصواب في غدونا وعلى نية منع المساكين، فلذلك عوقبنا. (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. روى أسباط عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هي له- ثم تلا- فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ [القلم: 19]) الآيتين.

[سورة القلم (68): الآيات 28 الى 32]
قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32)
قوله تعالى: (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم. (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي هلا تستثنون. وكان استثناؤهم تسبيحا، قال مجاهد وغيره. وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله. فقال لهم: هلا تسبحون الله، أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله، لان المعنى تنزيه الله عز وجل أن يكون شي إلا بمشيئته. وقيل: هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم، فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكرهم انتقامه من المجرمين (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) اعترفوا بالمعصية ونزهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل. قال ابن عباس في قولهم: سُبْحانَ رَبِّنا أي نستغفر الله من ذنبنا. (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا

كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

في منعنا المساكين. (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول: بل أنت أشرت علينا بهذا. (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل. (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا، فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر «1» من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وقال ابن مسعود: إن القوم أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا. وقال اليماني أبو خالد: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. وقال الحسن: قول أهل الجنة (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) لا أدري إيمانا كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة، فيوقف في كونهم مؤمنين. وسيل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا. والمعظم يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا، حكاه القشيري. وقراءة العامة يُبْدِلَنا بالتخفيف. وقرا أهل المدينة وأبو عمرو بالتشديد، وهما لغتان. وقيل: التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم. والابدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه. وقد مضى في سورة" النساء" القول في هذا «2».

[سورة القلم (68): آية 33]
كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
قوله تعالى: (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال، عن ابن زيد. وقيل: إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلي الله عليه وسلم، أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)
__________
(1). زغر: بضم الزاي وفتح الغين المعجمة وآخرها راء.
(2). راجع ج 5 ص 245)
(

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)

وقال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدا صلي الله عليه وسلم وأصحابه، وليرجعن «1» إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الحنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا. ثم قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبا عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعا، والأول أظهر، والله أعلم. وقيل: السورة مكية، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط، وعلى قتال بدر.

[سورة القلم (68): الآيات 34 الى 39]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39)
قوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) تقدم القول فيه، أي إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. وكان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا. فقال: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أي كالكفار. وقال ابن عباس وغيره: قالت كفار مكة: إنا نعطى في الآخرة خيرا مما تعطون، فنزلت أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. ثم ونجهم فقال: (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الأعوج، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين. (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) أي لكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصي. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) تختارون وتشتهون. والمعنى: أن لكم (بالفتح) ولكنه كسر لدخول اللام، تقول علمت أنك عاقل (بالفتح)، وعلمت
__________
(1). في ح. ز، ط، ل، هـ" وليرجعوا". [.....]

سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)

إنك لعاقل (بالكسر). فالعامل في إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ تَدْرُسُونَ في المعنى. ومنعت اللام من فتح إِنَّ. وقيل: تم الكلام عند قوله: تَدْرُسُونَ ثم ابتدأ فقال: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي إن لكم في هذا الكتاب إذا ما تخيرون، أي ليس لكم ذلك. والكناية في فِيهِ الاولى والثانية راجعة إلى الكتاب. ثم زاد في التوبيخ فقال: (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ) أي عهود ومواثيق. (عَلَيْنا بالِغَةٌ) مؤكدة. والبالغة المؤكدة بالله تعالى. أي أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة. (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) كسرت أَيْمانٌ لدخول اللام في الخبر. وهي من صلة أَيْمانٌ، والموضع النصب ولكن كسرت لأجل اللام، تقول: حلفت إن لك لكذا. وقيل: تم الكلام عند قوله: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثم قال: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ إذا، أي ليس الامر كذلك. وقرا ابن هرمز" أين لكم فيه لما تخيرون" أين لكم لما تحكمون"، بالاستفهام فيهما جميعا. وقرا الحسن البصري (بالغة) بالنصب على الحال، إما من الضمير في لَكُمْ لأنه خبر عن أَيْمانٌ ففيه ضمير منه. وإما من الضمير في عَلَيْنا إن قدرت عَلَيْنا وصفا للايمان لا متعلقا بنفس الايمان، لان فيه ضميرا منه، كما يكون إذا كان خبرا عنه. ويجوز أن يكون حالا من أَيْمانٌ وإن كانت نكرة، كما أجازوا نصب حَقًّا على الحال من مَتاعٌ في قوله تعالى: مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ «1» [البقرة: 241]. وقرا العامة بالِغَةٌ بالرفع نعت ل أَيْمانٌ.

[سورة القلم (68): الآيات 40 الى 41]
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41)
قوله تعالى: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي سل يا محمد هؤلاء المتقولين علي: أيهم كفيل بما تقدم ذكره. وهو أن لهم من الخير «2» ما للمسلمين. والزعيم: الكفيل والضمين، قاله ابن عباس وقتادة. وقال ابن كيسان: الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى. وقال الحسن:
__________
(1). راجع ج 3 ص 228.
(2). زيادة يقتضيها السياق.

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)

الزعيم الرسول. (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي ألهم والميم صلة. شُرَكاءُ أي شهداء. (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) يشهدون على ما زعموا. (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) دعواهم. وقيل: أي فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم، فهو أمر معناه التعجيز.

[سورة القلم (68): الآيات 42 الى 43]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) يجوز أن يكون العامل في يَوْمَ فَلْيَأْتُوا أي فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق ليشفع الشركاء لهم. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل، أي اذكر يوم يكشف عن ساق، فيوقف على صادِقِينَ ولا يوقف عليه على التقدير الأول. وقرى" يوم نكشف" بالنون." وقرا" ابن عباس" يوم تكشف عن ساق" بتاء مسمى الفاعل، أي تكشف الشدة أو القيامة. عن ساقها، كقولهم: شمرت الحرب عن ساقها. قال الشاعر:
فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا «1»
وقال الراجز:
قد كشفت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا
وقال آخر:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طراد الطير عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها «2»
وقال آخر:
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح
__________
(1). البيت لحاتم الطائي. ويروى: أخو الحرب. وأخا الحرب.
(2). العراق بضم العين: العظم بغير لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق بفتحها.

وعن ابن عباس أيضا والحسن وأبي العالية" تكشف" بتاء غير مسمى الفاعل. وهذه القراءة راجعة إلى معنى يُكْشَفُ وكأنه قال: يوم تكشف القيامة عن شدة. وقرى" يوم تكشف" بالتاء المضمومة وكسر الشين، من أكشف إذا دخل في الكشف. ومنه: أكشف الرجل فهو مكشف، إذا انقلبت شفته العليا. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: عن كرب وشدة. أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال: شدة الامر وجده. وقال مجاهد: قال ابن عباس هي أشد ساعة في يوم القيامة. وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الحرب والامر قيل: كشف الامر عن ساقه. والأصل فيه أن من وقع في شي يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة. وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه، كساق الشجرة وساق الإنسان. أي يوم يكشف عن أصل الامر فتظهر حقائق الأمور واصلها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم. وقيل: عن ساق العرش. وقيل: يريد وقت اقتراب الأجل وضعف البدن، أي يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه، ويدعوه المؤذن إلى الصلاة فلا يمكنه أن يقوم ويخرج. فأما ما روي أن الله يكشف عن ساقه فإنه عز وجل يتعالى عن الأعضاء والتبعيض وأن يكشف ويتغطى. ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل: يكشف عن نوره عز وجل. وروى أبو موسى عن النبي صلي الله عليه وسلم في قوله تعالى: عَنْ ساقٍ قال: (يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا). وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن منيع قال حدثنا هدبة قال حدثنا حماد بن سلمة عن عدي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحد فيقال لهم ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره- قال- وتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقال فكيف تعرفونه ولم تروه قالوا إنه لا شبيه له

فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي «1» البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ فيقول الله تعالى عباد ي ارفعوا رءوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار (. قال أبو بردة: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال: الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمان، فقال عمر: ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا. وقال قيس بن السكن: حدث عبد الله بن مسعود عند عمر بن الخطاب فقال: إذا كان يوم القيامة قام الناس لرب العالمين أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء، حفاة عراة يلجمهم العرق، فلا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم أربعين عاما، ثم ينادي مناد: أيها الناس، أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوركم وأماتكم وأحياكم ثم عبد تم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم. قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال لهم: ألا تذهبون قد ذهب الناس؟ فيقولون حتى يأتينا ربنا، فيقال لهم: أو تعرفونه؟ فيقولون: إن اعترف «2» لنا عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم فيخر من كان يعبده مخلصا ساجدا، ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد «3»، فيذهب بهم إلى النار، ويدخل هؤلاء الجنة، فذلك قوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة متواضعة، ونصبها على الحال. (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج. وتسود وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار. قلت: معنى حديث أبي موسى وابن مسعود ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وغيره.
__________
(1). صياصي البقر: قرونها.
(2). أي إذا وصف نفسه بصفة تحققه بها.
(3). السفافيد: جمع السفود (وزن التنور): الحديدة التي يشوى بها اللحم.

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)

قوله تعالى: (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي في الدنيا. (وَهُمْ سالِمُونَ) معافون أصحاء. قال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبونه. وقال سعيد ابن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقيل: أي بالتكليف الموجه عليهم في الشرع، والمعنى متقارب. وقد مضى في سورة" البقرة" الكلام في وجوب صلاة الجماعة «1». وكان الربيع بن خيثم قد فلج وكان يهادي «2» بين الرجلين إلى المسجد، فقيل: يا أبا يزيد، لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة. فقال: من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا. وقيل لسعيد بن المسيب: إن طارقا يريد قتلك فتغيب. فقال: أبحيث لا يقدر الله علي؟ فقيل له: اجلس في بيتك. فقال: أسمع حي على الفلاح، فلا أجيب!

[سورة القلم (68): الآيات 44 الى 45]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
قوله تعالى: (فَذَرْنِي) أي دعني. (وَمَنْ يُكَذِّبُ) مَنْ مفعول معه أو معطوف على ضمير المتكلم. (بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن، قاله السدي. وقيل: يوم القيامة. وهذا تسلية للنبي صلي الله عليه وسلم، أي فأنا أجازيهم وأنتقم منهم. ثم قال (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) معناه سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون، فعذبوا يوم بدر. وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر. وقال الحسن: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه. وقال أبو روق: أي كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال ابن عباس: سنمكر بهم. وقيل: هو أن نأخذهم قليلا ولا نباغتهم. وفي حديث (أن رجلا من بني إسرائيل قال يا رب كم أعصيك
__________
(1). راجع ج 1 ص 348.
(2). أي يمشى بينهما معتمدا عليهما لضعفه وتمايله، من" تهادت المرأة في مشيتها": إذا تمايلت.

أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)

وأنت لا تعاقبني- قال- فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر. إن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت (. والاستدراج: ترك المعاجلة. وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرج. ومنه قيل درجة، وهي منزلة بعد منزلة. واستدرج فلان فلانا، أي استخرج ما عنده قليلا. ويقال: درجه إلى كذا واستدرجه بمعنى، أي أدناه منه على التدريج فتدرج هو. (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم وأطيل لهم المدة. والملاوة: «1» المدة من الدهر. وأملى الله له أي أطال له. والملوان: الليل والنهار. وقيل: وَأُمْلِي لَهُمْ أي لا أعاجلهم بالموت، والمعنى واحد. وقد مضى في" الأعراف" بيان هذا «2». (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي إن عذابي لقوي شديد فلا يفوتني أحد.

[سورة القلم (68): آية 46]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [القلم: 41]. أي أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الايمان بالله؟ فهم من غرامة ذلك مثقلون لما يشق عليهم من بذل المال، أي ليس عليهم كلفة، بل يستولون بمتابعتك على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.

[سورة القلم (68): آية 47]
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
قوله تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي علم ما غاب عنهم. (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) وقيل: أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون. وعن ابن عباس: الغيب هنا اللوح المحفوظ فهم يكتبون مما فيه يخاصمونك به، ويكتبون أنهم أفضل منكم، وأنهم لا يعاقبون. وقيل: يَكْتُبُونَ يحكمون لأنفسهم بما يريدون.

[سورة القلم (68): آية 48]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
__________
(1). مثلث الميم.
(2). راجع 7 ص 329

لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

قوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي لقضاء ربك. والحكم هنا القضاء. وقيل: فأصبر على ما حكم به عليك ربك من تبليغ الرسالة. وقال ابن بحر: فأصبر لنصر ربك. قال قتادة: أي لا تعجل ولا تغاضب فلا بد من نصرك. وقيل: إنه منسوخ بآية السيف. (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعني يونس عليه السلام. أي لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة. وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه صلي الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت، وقد مضى خبره في سورة" يونس، «1» والأنبياء، «2» والصافات" «3» والفرق بين إضافة ذي وصاحب في سورة" يونس" فلا معنى للإعادة. (إِذْ نادى ) أي حين دعا في بطن الحوت فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87]. (وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي مملوء غما. وقيل: كربا. الأول قول ابن عباس ومجاهد. والثاني قول عطاء وأبي مالك. قال الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب، والكرب في الأنفاس. وقيل: مكظوم محبوس. والكظم الحبس، ومنه قولهم: فلان كظم غيظه، أي حبس غضبه، قاله ابن بحر. وقيل: إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس، قاله المبرد. وقد مضى هذا وغيره في" يوسف" «4».

[سورة القلم (68): الآيات 49 الى 50]
لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
قوله تعالى: (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قراءة العامة تَدارَكَهُ. وقرا ابن هرمز والحسن (تداركه) بتشديد الدال، وهو مضارع أدغمت التاء منه في الدال وهو على تقدير حكاية الحال، كأنه قال: لولا أن كان يقال فيه تتداركه نعمة. ابن عباس وابن مسعود:" تداركته" وهو خلاف المرسوم. وتَدارَكَهُ فعل ماض مذكر حمل على معنى
__________
(1). راجع ج 8 ص (383)
(2). راجع ج 11 ص (239)
(3). راجع ج 15 ص (121) [.....]
(4). راجع ج 9 ص 259

وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)

النعمة، لان تأنيث النعمة غير حقيقي. و" تداركته" على لفظها. واختلف في معنى النعمة هنا، فقيل النبوة، قاله الضحاك. وقيل عبادته التي سلفت، قاله ابن جبير. وقيل: نداؤه لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87]، قاله ابن زيد. وقيل: نعمة الله عليه إخراجه من بطن الحوت، قاله ابن بحر. وقيل: أي رحمة من ربه، فرحمه وتاب عليه. (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لنبذ مذموما ولكنه نبذ سقيما غير مذموم. ومعنى مَذْمُومٌ في قول ابن عباس: مليم. قال بكر بن عبد الله: مذنب. وقيل: مَذْمُومٌ مبعد من كل، خير. والعراء: الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل ولا شجر يستر. وقيل: ولولا فضل الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموما. يدل عليه قوله تعالى: فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «1» [الصافات: 144- 143]. (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أي اصطفاه وأختاره. فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي، وشفعه في نفسه وفي قومه، وقبل توبته، وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون.

[سورة القلم (68): آية 51]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
قوله تعالى: (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إِنْ هي المخففة من الثقيلة. لَيُزْلِقُونَكَ أي يعتانونك. (بِأَبْصارِهِمْ) أخبر بشدة عداوتهم النبي صلي الله عليه وسلم، وأرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه. وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية، خذي المكتل «2» والدرهم فأتينا بلحم هذه الناقة، فما تبرح حتى تقع للموت
__________
(1). راجع ج 15 ص (123)
(2). المكتل: زبيل يعمل من الخوص يحمل فيه التمر وغيره.

فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئا يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه! فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة هالكة. فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلي الله عليه وسلم بالعين فأجابهم، فلما مر النبي صلي الله عليه وسلم أنشد:
قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وإخال أنك سيد معيون
فعصم الله نبيه صلي الله عليه وسلم ونزلت: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ. وذكر نحوه الماوردي. وأن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحدا- يعني في نفسه وماله- تجوع ثلاثة أيام، ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول: تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر منه ولا أحسن، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال القشيري: وفي هذا نظر، لان الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض، ولهذا قال: (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن. قلت: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله. ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك. وقرا ابن عباس وابن مسعود والأعمش وأبو وائل ومجاهد لَيُزْلِقُونَكَ أي ليهلكونك. وهذه قراءة على التفسير، من زهقت نفسه وأزهقها. وقرا أهل المدينة (ليزلقونك) بفتح الياء. وضمها الباقون، وهما لغتان بمعنى، يقال: زلقة يزلقه وأزلقه يزلقه إزلاقا إذا نحاه وأبعده. وزلق رأسه يزلقه زلقا إذا حلقه. وكذلك أزلقه وزلقة تزليقا. ورجل زلق وزملق- مثال هدبد- وزمالق وزملق- بتشديد الميم- وهو الذي ينزل قبل أن يجامع، حكاه الجوهري وغيره. فمعنى الكلمة إذا التنحية والإزالة، وذلك لا يكون في حق النبي صلي الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته. قال الهروي: أراد ليعتانونك بعيونهم فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك. وقال ابن عباس: ينفذونك بأبصارهم، يقال: زلق السهم وزهق إذا نفذ،

وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

وهو قول مجاهد. أي ينفذونك من شدة نظرهم. وقال الكلبي: يصرعونك. وعنه أيضا والسدي وسعيد بن جبير: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة. وقال العوفي يرمونك. وقال المؤرج: يزيلونك. وقال النضر بن شميل والأخفش: يفتنونك. وقال عبد العزيز ابن يحيى: ينظرون إليك نظرا شزرا بتحديق شديد. وقال ابن زيد: ليمسونك. وقال جعفر الصادق: ليأكلونك. وقال الحسن وابن كيسان: ليقتلونك. وهذا كما يقال: صرعني بطرفه، وقتلني بعينه. قال الشاعر:
ترميك مزلقة العيون بطرفها ... وتكل عنك نصال نبل الرامي
وقال آخر:
يتقارضون إذا التقوا في مجلس ... نظرا يزل «1» مواطئ الاقدام
وقيل: المعنى أنهم ينظرون إليك بالعداوة حتى كادوا يسقطونك. وهذا كله راجع إلى ما ذكرنا، وأن المعنى الجامع: يصيبونك بالعين. والله أعلم.

[سورة القلم (68): آية 52]
وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
قوله تعالى: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي وما القرآن إلا ذكر للعالمين. وقيل: أي وما محمد إلا ذكر للعالمين يتذكرون به. وقيل: معناه شرف، أي القرآن. كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «2» [الزخرف: 44] والنبي صلي الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضا. شرفوا باتباعه والايمان به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[تفسير سورة الحاقة]
سورة الحاقة مكية في قول الجميع. وهى إحدى وخمسون آية روى أبو الزاهرية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقة أجير من فتنة الدجال. ومن قرأها كانت له نورا يوم القيامة من فوق رأسه إلى قدمه (.
__________
(1). في اللسان" يزيل" وكلاهما صحيح.
(2). راجع 16 ج ص 99

الْحَاقَّةُ (1)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ) يريد القيامة، سميت بذلك لان الأمور تحق فيها قاله الطبري. كأنه جعلها من باب" ليل نائم". وقيل: سميت حاقة لأنها تكون من غير شك. وقيل: سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة، وأحقت لأقوام النار. وقيل: سميت بذلك لان فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله. وقال الأزهري: يقال حاققته فحققته أحقه، أي غالبته فغلبته. فالقيامة حاقة لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل، أي كل مخاصم. وفي الصحاح: وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق، فإذا غلبه قيل حقه. ويقال للرجل إذا خاصم في صغار الأشياء: إنه لنزق الحقاق. ويقال: ماله فيه حق ولا حقاق، أي خصومة. والتحاق التخاصم. والاحتقاق: الاختصام. والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى. وقال الكسائي والمورج: الحاقة يوم الحق. وتقول العرب: لما عرف الحقة مني هرب. والحاقة الاولى رفع بالابتداء، والخبر المبتدأ الثاني وخبره وهو مَا الْحَاقَّةُ لان معناها ما هي. واللفظ استفهام، معناه التعظيم والتفخيم لشأنها، كما تقول: زيد ما زيد! على التعظيم لشأنه. (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) استفهام أيضا، أي أي شي أعلمك ما ذلك اليوم. والنبي صلي الله عليه وسلم كان عالما بالقيامة ولكن بالصفة فقيل تفخيما لشأنها: وما أدراك ما هي، كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شي في القرآن وَما أَدْراكَ فقد أدراه إياه وعلمه. وكل شي قال:" وما يدريك" فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شي قال فيه: وَما أَدْراكَ فإنه أخبر به، وكل شي قال فيه:" وما يدريك" فإنه لم يخبر به.

[سورة الحاقة (69): آية 4]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
ذكر من كذب بالقيامة. والقارعة القيامة، سميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها. يقال: أصابتهم قوارع الدهر، أي أهواله وشدائده. ونعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)

وقوارص لسانه، جمع قارصة وهي الكلمة المؤذية. وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الجن أو الانس، نحو آية الكرسي، كأنها تقرع الشيطان. وقيل: القارعة مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين، قاله المبرد. وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه. وثمود قوم صالح، وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز. قال محمد بن إسحاق: وهو وادي القرى، وكانوا عربا. وأما عاد فقوم هود، وكانت منازلهم بالأحقاف. والأحقاف: الرمل بين عمان إلى حضرموت واليمن كله، وكانوا عربا ذوي خلق وبسطة، ذكره محمد بن إسحاق. وقد تقدم «1».

[سورة الحاقة (69): آية 5]
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
فيه إضمار، أي بالفعلة الطاغية. وقال قتادة: أي بالصيحة الطاغية، أي المجاوزة للحد، أي لحد الصيحات من الهول. كما قال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ»
[القمر: 31]. والطغيان: مجاوزة الحد، ومنه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] أي جاوز الحد. وقال الكلبي: بالطاغية بالصاعقة. وقال مجاهد: بالذنوب. وقال الحسن: بالطغيان، فهي مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية. أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم. وقيل: إن الطاغية عاقر الناقة، قاله ابن زيد. أي أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقر الناقة، وكان واحدا، وإنما هلك الجميع لأنهم رضوا بفعله ومالئوه. وقيل له طاغية كما يقال: فلان راوية الشعر، وداهية وعلامة ونسابة.

[سورة الحاقة (69): الآيات 6 الى 7]
وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7)
__________
(1). راجع ج 7 ص (236)
(2). راجع ج 17 ص 142

قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي باردة تحرق ببردها كإحراق النار، مأخوذ من الصر وهو البرد، قاله الضحاك. وقيل: إنها الشديدة الصوت. وقال مجاهد: الشديدة السموم. عاتِيَةٍ أي عتت على خزانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبها، غضبت لغضب الله. وقيل: عتت على عاد فقهرتهم. روى سفيان الثوري عن موسى ابن المسيب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (ما أرسل الله من نسمة «1» من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل- ثم قرأ- إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ والريح لما كان يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل- ثم قرأ- بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) أي أرسلها وسلطها عليهم. والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار. (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) أي متتابعة لا تفتر ولا تنقطع، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. قال الفراء: الحسوم التباع، من حسم الداء إذا كوي صاحبه، لأنه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه. قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:
ففرق بين بينهم «2» زمان ... تتابع فيه أعوام حسوم
وقال المبرد: هو من قولك حسمت الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره. وقيل: الحسم الاستئصال. ويقال للسيف حسام، لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته. وقال الشاعر:
حسام إذا قمت معتضدا به ... كفى العود منه البدء ليس بمعضد «3»
والمعنى أنها حسمتهم، أي قطعتهم وأذهبتهم. فهي القاطعة بعذاب الاستئصال. قال ابن زيد: حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وعنه أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوعبتها.
__________
(1). وردت هذه الكلمة في نسخ الأصل:" نسفه" بالفاء. والذي في الزمخشري:" سفيه".
(2). البين: من الأضداد، يطلق على الوصل وعلى الفرقة.
(3). المعضد والمعضاد (بكسر الميم): من السيوف الممتهن في قطع الشجر.

لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم. وقال الليث: الحسوم الشؤم. ويقال: هذه ليالي الحسوم، أي تحسم الخير عن أهلها، وقاله في الصحاح. وقال عكرمة والربيع بن أنس: مشائيم، دليله قوله تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «1» [فصلت: 16]. عطية العوفي: حُسُوماً أي حسمت الخير عن أهلها. وأختلف في أولها، فقيل: غداة يوم الأحد، قاله السدي. وقيل: غداة يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس. وقيل: غداة يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام ووهب بن منبه. قال وهب: وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد وريح شديدة، وكان أولها يوم الأربعاء وآخرها يوم الأربعاء، ونسبت إلى العجوز لان عجوزا من عاد دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن. وقيل: سميت أيام العجوز لأنها وقعت في عجز الشتاء. وهي في آذار من أشهر السريانيين. ولها أسام مشهورة، وفيها يقول الشاعر وهو ابن أحمر: «2»
كسع «3» الشتاء بسبعة غبر ... أيام شهلتنا «4» من الشهر
فإذا انقضت أيامها ومضت «5» ... صن وصنبر مع الوبر
وبآمر وأخيه مؤتمر ... ومعلل وبمطفئ الجمر
ذهب الشتاء موليا عجلا «6» ... وأتتك وأقده من النجر «7»
وحُسُوماً نصب على الحال. وقيل على المصدر. قال الزجاج: أي تحسمهم حسوما أي تفنيهم، وهو مصدر مؤكد. ويجوز أن يكون مفعولا له، أي سخرها عليهم هذه المدة للاستئصال، أي لقطعهم واستئصالهم. ويجوز أن يكون جمع حاسم. وقرا السدي حُسُوماً بالفتح، حالا من الريح، أي سخرها عليهم مستأصلة.
__________
(1). راجع ج 15 ص (346)
(2). في اللسان مادة كسع أنه أبو شبل الاعرابي.
(3). الكسع: شدة المر. وكسعه بكذا وكذا إذا جعله تابعا له ومذهبا به.
(4). الشهلة: العجوز. [.....]
(5). في اللسان: فإذا انقضت أيام شهلتنا.
(6). في اللسان:" هربا".
(7). النجر: الحر.

فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)

قوله تعالى: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها) أي في تلك الليالي والأيام. (صَرْعى ) جمع صريع، يعني موتى. وقيل: فِيها أي في الريح. (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) أي أصول. (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي بالية، قاله أبو الطفيل. وقيل: خالية الأجواف لا شي فيها. والنخل يذكر ويؤنث. وقد قال تعالى في موضع آخر: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «1» [القمر: 20] فيحتمل أنهم شبهوا بالنخل التي صرعت من أصلها، وهو إخبار عن عظم أجسامهم. ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع، أي إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف. وقال ابن شجرة: كانت الريح تدخل في أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام، إنما قال خاوِيَةٍ لان أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية. ويحتمل أن يكون المعنى كأنهم أعجاز نخل خاوية عن أصولها من البقاع، كما قال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «2» [النمل: 52] أي خربة لا سكان فيها. ويحتمل الخاوية بمعنى البالية كما ذكرنا، لأنها إذا بليت خلت أجوافها. فشبهوا بعد أن هلكوا بالنخل الخاوية.

[سورة الحاقة (69): آية 8]
فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)
أي من فرقة باقية أو نفس باقية. وقيل: من بقية. وقيل: من بقاء. فاعلة بمعنى المصدر، نحو العاقبة والعافية. ويجوز أن يكون اسما، أي هل تجد لهم أحدا باقيا. وقال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذلك قوله عز وجل: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ، وقوله عز وجل: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ «3» [الأحقاف: 25].

[سورة الحاقة (69): آية 9]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
قوله تعالى: (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) قرأ أبو عمرو والكسائي (ومن قبله) بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن معه وتبعه من جنوده. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا
__________
(1). راجع ج 17 ص (137)
(2). راجع ج 13 ص (218)
(3). راجع ج 16 ص 207

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)

بقراءة عبد الله وأبي" ومن معه". وقرا أبو موسى الأشعري" ومن تلقاءه". الباقون قَبْلَهُ بفتح القاف وسكون الباء، أي ومن تقدمه من القرون الخالية والأمم الماضية. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) أي أهل قرى لوط. وقراءة العامة بالألف. وقرا الحسن والجحدري" والمؤتفكة" على التوحيد. قال قتادة: إنما سميت قرى قوم لوط" مؤتفكات" لأنها ائتفكت بهم، أي انقلبت. وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: خمس قريات: صبعة وصعره وعمرة ودوما وسدوم، وهي القرية «1» العظمى. (بِالْخاطِئَةِ) أي بالفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر. وقال مجاهد: بالخطايا التي كانوا يفعلونها. وقال الجرجاني: أي بالخطإ العظيم، فالخاطئة مصدر.

[سورة الحاقة (69): آية 10]
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)
قوله تعالى: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) قال الكلبي: هو موسى. وقيل: هو لوط لأنه أقرب وقيل: عنى موسى ولوطا عليهما السلام، كما قال تعالى قُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
«2» [الشعراء: 16]. وقيل: رَسُولَ بمعنى رسالة. وقد يعبر عن الرسالة بالرسول، قال الشاعر: «3»
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول
(فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي عالية زائدة على الآخذات وعلى عذاب الأمم. ومنه الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى. يقال: ربا الشيء يربو أي زاد وتضاعف. وقال مجاهد: شديدة. كأنه أراد زائدة في الشدة.

[سورة الحاقة (69): الآيات 11 الى 12]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
__________
(1). راجع تاريخ الطبري ص 343 من القسم الأول طبع أوربا.
(2). راجع ج 13 ص 93.
(3). هو كثير عزة.

قوله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي أرتفع وعلا. وقال علي رضي الله عنه: طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه. قال قتادة: زاد على كل شي خمسة عشر ذراعا. وقال ابن عباس: طغى الماء زمن نوح على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج. وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم. وقد مضى هذا مرفوعا أول السورة. والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب: زجر هذه الامة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم من عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله: حَمَلْناكُمْ أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. (فِي الْجارِيَةِ) أي في السفن الجارية. والمحمول في الجارية نوح وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك. (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً)
يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. جعلها الله تذكرة وعظه لهذه الامة حتى أدركها أوائلهم، في قول قتادة. قال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. والمعنى: أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حل بقوم نوح، وإنجاء الله آباءكم، وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شي. وقيل: لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم، ولهذا قال الله تعالى: (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. والسفينة لا توصف بهذا. قال الزجاج: ويقال وعيت كذا أي حفظته في نفسي، أعيه وعيا. ووعيت العلم، ووعيت ما قلت، كله بمعنى. وأوعيت المتاع في الوعاء. قال الزجاج: يقال لكل ما حفظته في غير نفسك:" أوعيته" بالألف، ولما حفظته في نفسك" وعيته" بغير ألف. وقرا طلحة وحميد والأعرج وَتَعِيَها
بإسكان العين، تشبيها بقوله: أَرِنا «1» [البقرة: 128]. وأختلف فيها عن عاصم وابن كثير. الباقون بكسر العين، ونظير قوله تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «2» [ق: 37]. وقال قتادة: الاذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من
__________
(1). في قوله تعالى: وَأَرِنا مَناسِكَنا راجع ج 2 ص (127)
(2). راجع ج 17 ص 23

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)

كتاب الله عز وجل. وروى مكحول أن النبي صلي الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: (سألت ربي أن يجعلها أذن علي). قال مكحول: فكان علي رضي الله عنه يقول ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته إلا وحفظته. ذكره الماوردي. وعن الحسن نحوه ذكره الثعلبي قال: لما نزلت وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
قال النبي صلي الله عليه وسلم: (سألت ربي أن يجعلها أذنك يا علي) قال علي: فوالله ما نسيت شيئا بعد، وما كان لي أن أنسى. وقال أبو برزة الأسلمي قال النبي صلي الله عليه وسلم لعلي: (يا علي إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحق على الله أن تعي).

[سورة الحاقة (69): آية 13]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13)
قال ابن عباس: هي النفخة الاولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات. وجاز تذكير نُفِخَ لان تأنيث النفخة غير حقيقي. وقيل: إن هذه النفخة هي الأخيرة. وقال: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ أي لا تثنى. قال الأخفش: ووقع الفعل على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع فقيل: نفخة. ويجوز (نفخة) نصبا على المصدر. وبها قرأ أبو السمال. أو يقال: أقتصر على الاخبار عن الفعل كما تقول: ضرب ضربا. وقال الزجاج: فِي الصُّورِ يقوم مقام ما لم يسم فاعله.

[سورة الحاقة (69): آية 14]
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)
قوله تعالى: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) قراءة العامة بتخفيف الميم، أي رفعت من أماكنها. (فَدُكَّتا) أي فتتا وكسرتا. (دَكَّةً واحِدَةً) لا يجوز في دَكَّةً إلا النصب لارتفاع الضمير في فَدُكَّتا. وقال الفراء: لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة، والأرض كالجملة الواحدة. ومثله: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً «1» [الأنبياء: 30] ولم يقل كن. وهذا الدك كالزلزلة، كما قال تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1]. وقيل: فَدُكَّتا
__________
(1). راجع ج 11 ص 282

فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)

أي بسطتا بسطة واحدة، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وقد مضى في سورة" الأعراف" «1» القول فيه. وقرا عبد الحميد عن ابن عامر (وحملت الأرض والجبال) بالتشديد على إسناد الفعل إلى المفعول الثاني. كأنه في الأصل وحملت قدرتنا أو ملكا من ملائكتنا الأرض والجبال، ثم أسند الفعل إلى المفعول الثاني فبني له. ولو جئ بالمفعول الأول لأسند الفعل إليه، فكأنه قال: وحملت قدرتنا الأرض. وقد يجوز بناؤه للثاني على وجه القلب فيقال: حملت الأرض الملك، كقولك: ألبس زيد الجبة، وألبست الجبة زيدا.

[سورة الحاقة (69): الآيات 15 الى 17]
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي قامت القيامة. (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) أي انصدعت وتفطرت. وقيل: تنشق لنزول ما فيها من الملائكة، دليله قوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] وقد تقدم «2». (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي ضعيفة. يقال: وهي البناء يهي وهيا فهو واه إذا ضعف جدا. ويقال: كلام واه، أي ضعيف. فقيل: إنها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهي ويكون ذلك لنزول الملائكة كما ذكرنا. وقيل: لهول يوم القيامة. وقيل: واهِيَةٌ أي متخرقة، قاله ابن شجرة. مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرق. ومن أمثالهم:
خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه
أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. (وَالْمَلَكُ) يعني الملائكة، اسم للجنس. (عَلى أَرْجائِها) أي على أطرافها حين تنشق، لان السماء مكانهم، عن ابن عباس. الماوردي: ولعله قول مجاهد وقتادة. وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم ينشق منها.
__________
(1). راجع ج 7 ص (278)
(2). راجع ج 13 ص 23 [.....]

يريد أن السماء مكان الملائكة فإذا انشقت صاروا في أطرافها. وقال سعيد بن جبير: المعنى والملك على حافات الدنيا، أي ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها. وقيل: إذا صارت السماء قطعا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها. وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالتهم، فيندوا كما تند الإبل، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاءوا. وقيل: عَلى أَرْجائِها ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. وهذا كله راجع إلى معنى قول ابن جبير. ويدل عليه: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] وقوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» [الرحمن: 33] على ما بيناه هناك. والارجاء النواحي والأقطار بلغة هذيل، واحدها رجا مقصور، وتثنيته رجوان، مثل عصا وعصوان. قال الشاعر:
فلا يرمى بي الرجوان أني ... أقل القوم من يغني مكاني
ويقال ذلك لحرف البئر والقبر. قوله تعالى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) قال ابن عباس: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله. وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك. وعن الحسن: الله أعلم كم هم، ثمانية أم ثمانية آلاف. وعن النبي صلي الله عليه وسلم (أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فكانوا ثمانية (. ذكره الثعلبي. وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:) يحمله اليوم أربعة وهم يوم القيامة ثمانية (. وقال العباس بن عبد الملك: هم ثمانية أملاك على صورة الأوعال «2». ورواه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي الحديث (إن لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس (. ولما أنشد بين يدي النبي صلي الله عليه وسلم قول أمية بن أبي الصلت:
__________
(1). راجع ج 17 ص (169)
(2). الوعل- بكسر العين- التيس الجبلي.

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)

رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع «1» كل آخر ليلة ... حمراء يصبح «2» لونها يتورد
ليست «3» بطالعه لهم في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد
قال النبي صلي الله عليه وسلم: (صدق). وفي الخبر (أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش (. ذكره القشيري وخرجه الترمذي من حديث العباس بن عبد المطلب. وقد مضى في سورة" البقرة" بكماله «4». وذكر نحوه الثعلبي ولفظه. وفي حديث مرفوع (أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما للطائر المسرع (. وفي تفسير الكلبي: ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة. وعنه: ثمانية أجزاء من عشرة أجزاء من الملائكة. ثم ذكر عدة الملائكة بما يطول ذكره. حكى الأول عنه الثعلبي والثاني القشيري. وقال الماوردي عن ابن عباس: ثمانية أجزاء من تسعة وهم الكروبيون «5». والمعنى ينزل بالعرش. ثم إضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت، وليس البيت للسكنى، فكذلك العرش. ومعنى: فَوْقَهُمْ أي فوق رؤوسهم. قال السدي: العرش تحمله الملائكة الحملة فوقهم ولا يحمل حملة العرش إلا الله. وقيل: فَوْقَهُمْ أي إن حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها. وقيل: فَوْقَهُمْ أي فوق أهل القيامة.

[سورة الحاقة (69): آية 18]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) أي، على الله، دليله:- عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة. وروى الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (يعرض
__________
(1). في الأصول هنا:" تصبح".
(2). في الأغاني ج 4 ص 130 طبعه دار الكتب المصرية:
حمراء مطلع لونها متورد

(3). في الأغاني:
تأبى فلا تبدو لنا في رسلها

(4). راجع ج 1 ص 259
(5). الكروبيون: سادة الملائكة، وهم المقربون، مأخوذ من الكرب وهو القرب.

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)

الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله (. خرجه الترمذي قال: ولا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.) لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي هو عالم بكل شي من أعمالكم. ف خافِيَةٌ على هذا بمعنى خفية، كانوا يخفونها من أعمالهم، قاله ابن شجرة. وقيل: لا يخفى عليه إنسان، أي لا يبقى إنسان لا يحاسب. وقال عبد الله بن عمرو ابن العاص: لا يخفى المؤمن من الكافر ولا البر من الفاجر. وقيل: لا تستتر منكم عورة، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة). وقرا الكوفيون إلا عاصما (لا يخفى) بالياء، لان تأنيث الخافية غير حقيقي، نحو قوله تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «1» [هود: 67] واختاره أبو عبيد، لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم المؤنث الجار والمجرور. الباقون بالتاء. واختاره أبو حاتم لتأنيث الخافية.

[سورة الحاقة (69): الآيات 19 الى 34]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
__________
(1). راجع ج 9 ص 61

قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. وقال ابن عباس: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الامة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس. قيل له: فأين أبو بكر؟ فقال هيهات هيهات! زفته الملائكة إلى الجنة. ذكره الثعلبي. وقد ذكرناه مرفوعا من حديث زيد بن ثابت بلفظه ومعناه في كتاب" التذكرة". والحمد لله. فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ أي يقول ذلك ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته، لان اليمين عند العرب من دلائل الفرح، والشمال من دلائل الغم. قال الشاعر: «1»
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح أم صيرتني في شمالك
ومعنى: هاؤُمُ تعالوا، قاله ابن زيد. وقال مقاتل: هلم. وقيل: أي خذوا، ومنه الخبر في الربا (إلا هاء وهاء) أي يقول كل واحد لصاحبه: خذ. قال ابن السكيت والكسائي: العرب تقول هاء يا رجل اقرأ، وللاثنين هاؤما يا رجلان، وهاؤم يا رجال، وللمرأة هاء (بكسر الهمزة) وهاؤما وهاؤمن. والأصل ها كم فأبدلت الهمزة من الكاف، قاله القتيبي «2». وقيل: إن هاؤُمُ كلمة وضعت لاجابة الداعي عند النشاط والفرح. روي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلي الله عليه وسلم هاؤُمُ يطول صوته. وكِتابِيَهْ منصوب ب هاؤُمُ عند الكوفيين. وعند البصريين ب اقْرَؤُا لأنه أقرب العاملين. والأصل" كتابي" فأدخلت الهاء لتبين فتحة الياء، وكان الهاء للوقف، وكذلك في أخواته: حِسابِيَهْ، ومالِيَهْ، وسُلْطانِيَهْ وفي القارعة ما هِيَهْ. وقراءة العامة بالهاء فيهن في الوقف والوصل معا، لأنهن وقعن في المصحف بالهاء فلا تترك. وأختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط. وقرا ابن محيصن ومجاهد وحميد ويعقوب بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف فيهن جمع. ووافقهم حمزة في مالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ، وما هِيَهْ في القارعة. وجملة هذه الحروف سبعة. وأختار أبو حاتم قراءة يعقوب ومن معه اتباعا للغة. ومن قرأهن في الوصل بالهاء
__________ (1). هو ابن الدمينة.
(2). وفيها لغات أخرى فارجع إليها في كتب اللغة.

فهو على نية الوقف. (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي أيقنت وعلمت، عن ابن عباس وغيره. وقيل: أي إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي عذبني»
فقد تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني بها. قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين. ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك. وقال الحسن في هذه الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل. (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي في الآخرة ولم أنكر البعث، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب، لأنه تيقن أن الله يحاسبه فعمل للآخرة. (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي في عيش يرضاه لا مكروه فيه. وقال أبو عبيدة والفراء: راضِيَةٍ أي مرضية، كقولك: ماء دافق، أي مدفوق. وقيل: ذات رضا، أي يرضى بها صاحبها. مثل لابن وتامر، أي صاحب اللبن والتمر. وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم (أنهم يعيشون فلا يموتون أبدا ويصحون فلا يمرضون أبدا وينعمون فلا يرون بؤسا أبدا ويشبون فلا يهرمون أبدا (.) (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي عظيمة في النفوس. (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي قريبة التناول، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع على ما يأتي بيانه في سورة" الإنسان" «2». والقطوف جمع قطف (بكسر القاف) وهو ما يقطف من الثمار. والقطف (بالفتح المصدر. والقطاف (بالفتح والكسر) وقت القطف. (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي يقال لهم ذلك. (هَنِيئاً) لا تكدير فيه ولا تنغيص. (بِما أَسْلَفْتُمْ) قدمتم من الأعمال الصالحة. (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي في الدنيا. وقال: كُلُوا بعد قوله: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ لقوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ ومَنْ يتضمن معنى الجمع. وذكر الضحاك أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وقاله مقاتل. والآية التي تليها في أخيه الأسود بن عبد الأسد، في قول ابن عباس والضحاك أيضا، قاله الثعلبي. ويكون هذا الرجل وأخوه سبب نزول هذه الآيات. ويعم المعنى جميع أهل الشقاوة واهل السعادة، يدل عليه قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا. وقد قيل:
__________
(1). كذا في نسخ الأصل. ولعلها" فيعذبني" وقد أورد الخطيب في تفسيره هذا القول ولم يذكر فيه هذه الكلمة.
(2). راجع ج 19 ص 134.

إن المراد بذلك كل من كان متبوعا في الخير والشر. فإذا كان الرجل رأسا في الخير، يدعو إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه، دعي باسمه واسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرأها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه" هذه سيئاتك وقد غفرت لك" فيفرح عند ذلك فرحا شديدا، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا، حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه" هذه حسناتك قد ضوعفت لك" فيبيض وجهه ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه، ويكسى حلتين، ويحلى كل مفصل منه ويطول ستين ذراعا وهي قامة آدم عليه السلام، ويقال له: انطلق إلى أصحابك فأخبرهم وبشرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا. فإذا أدبر قال: هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه. قال الله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي مرضية قد رضيها فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ في السماء قُطُوفُها ثمارها وعناقيدها. دانِيَةٌ أدنيت منهم. فيقول لأصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون: قد غمرتك كرامة، من أنت؟ فيقول: أنا فلان بن فلان أبشر كل رجل منكم بمثل هذا. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي قدمتم في أيام الدنيا. وإذا كان الرجل رأسا في الشر، يدعو إليه ويأمر به فيكثر تبعه عليه، نودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرأها ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه" هذه حسناتك وقد ردت عليك" فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير، ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا، ولا يزداد وجهه إلا سوادا، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه" هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك" أي يضاعف عليه العذاب. ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل- قال- فيعظم للنار وتزرق عيناه ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران ويقال له: انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فينطلق وهو يقول: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ يتمنى الموت.

هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ تفسير ابن عباس: هلكت عنى حجتي. وهو قول مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك. وقال ابن زيد: يعني سلطانيه في الدنيا الذي هو الملك. وكان هذا الرجل مطاعا في أصحابه، قال الله تعالى (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) قيل: يبتدره مائة ألف ملك ثم تجمع يده إلى عنقه وهو قوله عز وجل: فَغُلُّوهُ أي شدوه بالأغلال (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي اجعلوه يصلى الجحيم (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) الله أعلم بأي ذراع، قاله الحسن. وقال ابن عباس: سبعون ذراعا بذراع الملك. وقال نوف: كل ذراع سبعون باعا، وكل باع أبعد ما بينك وبين مكة. وكان في رحبة الكوفة. وقال مقاتل: لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص. وقال كعب: إن حلقة من السلسلة التي قال الله تعالى ذرعها سبعون ذراعا- أن حلقة منها- مثل جميع حديد الدنيا. (فَاسْلُكُوهُ) قال سفيان: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. وقاله مقاتل. والمعنى ثم اسلكوا فيه سلسلة. وقيل: تدخل عنقه فيها ثم يجربها. وجاء في الخبر: أنها تدخل من دبره وتخرج من منخريه. وفي خبر آخر: تدخل من فيه وتخرج من دبره، فينادي أصحابه هل تعرفوني؟ فيقولون لا، ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت؟ فينادي أصحابه أنا فلان بن فلان، لكل إنسان منكم مثل هذا. قلت: وهذا التفسير أصح ما قيل في هذه الآية، يدل عليه قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «1» [الاسراء: 71]. وفي الباب حديث أبي هريرة بمعناه خرجه الترمذي. وقد ذكرناه في سورة" سبحان" «2» فتأمله هناك. (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي على الإطعام، كما يوضع العطاء موضع الإعطاء. قال الشاعر:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا «3»
__________
(1). راجع ج 10 ص (396)
(2). راجع ج 10 ص (396) [.....]
(3). البيت من قصيدة للقطامى مدح بها زفر بن الحارث الكلابي. قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء:" كان القطامي أسره زفر في الحرب التي كانت بين قيس وتغلب فأرادت قيس قتله فحال زفر بينهم ومن عليه وأعطاه مائة من الإبل وأطلقه، فقال: أكفرا إلخ". والرتاع (بكسر الراء): التي ترتع. (راجع خزانة الأدب في الشاهد التاسع والتسعين بعد الخمسمائة).

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)

أراد بعد إعطائك. فبين أنه عذب على ترك الإطعام وعلى الامر بالبخل، كما عذب بسبب الكفر. والحض: التحريض والحث. واصل طَعامِ أن يكون منصوبا بالمصدر المقدر. والطعام عبارة عن العين، وأضيف للمسكين للملابسة التي بينهما. ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام فموضع المسكين نصب. والتقدير على إطعام المطعم المسكين، فحذف الفاعل وأضيف المصدر إلى المفعول.

[سورة الحاقة (69): الآيات 35 الى 37]
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
قوله تعالى: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) خبر فَلَيْسَ قوله: لَهُ ولا يكون الخبر قوله: هاهُنا لان المعنى يصير: ليس ها هنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك، لان ثم طعاما غيره. وهاهُنا متعلق بما في لَهُ من معنى الفعل. والحميم ها هنا القريب. أي ليس له قريب يرق له ويدفع عنه. وهو مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار، كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. والغسلين فعلين من الغسل، فكأنه ينغسل من أبدانهم، وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم، عن ابن عباس. وقال الضحاك والربيع بن أنس: هو شجر يأكله أهل النار. والغسل (بالكسر): ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره. الأخفش: ومنه الغسلين، وهو ما انغسل من لحوم أهل النار ودمائهم. وزيد فيه الياء والنون كما زيد في عفرين. وقال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه. ابن زيد: لا يعلم ما هو ولا الزقوم. وقال في موضع آخر: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ «1» [الغاشية: 6] يجوز أن يكون الضريع من الغسلين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين، ويكون الماء الحار. وَلا طَعامٌ أي وليس لهم طعام ينتفعون به. (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي المذنبون. وقال ابن عباس: يعني المشركين. وقرى
__________
(1). راجع ج 20 ص 29

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)

الْخاطِؤُنَ بإبدال الهمزة ياء، و" الخاطؤن" بطرحها. وعن ابن عباس: ما الخاطؤن! كلنا نخطو. وروى أبو الأسود الدؤلي: ما الخاطؤن؟ إنما هو الخاطئون. ما الصابون! إنما هو الصابئون. ويجوز أن يراد الذي يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عز وجل.

[سورة الحاقة (69): الآيات 38 الى 40]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ) المعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون. و(لا) صلة. وقيل: هو رد لكلام سبق، أي ليس الامر كما يقوله المشركون. وقال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر. وقال أبو جهل: شاعر. وقال عقبة: كاهن، فقال الله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ أي أقسم. وقيل: فَلا ها هنا نفي للقسم، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك، وعلى هذا فجوابه كجواب القسم. (إِنَّهُ) يعني القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يريد جبريل، قاله الحسن والكلبي ومقاتل. دليله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ «1» [التكوير: 20- 19]. وقال الكلبي أيضا والقتبي: الرسول ها هنا محمد صلي الله عليه وسلم، لقوله: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ وليس القرآن قول الرسول صلي الله عليه وسلم، إنما هو من قول الله عز وجل ونسب القول إلى الرسول لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك.

[سورة الحاقة (69): الآيات 41 الى 42]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
__________
(1). راجع ج 19 ص 238

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)

قوله تعالى: (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) لأنه مباين لصنوف الشعر كلها. (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئا على من يسبهم. وما زائدة في قوله: قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ، والمعنى: قليلا تؤمنون وقليلا تذكرون. وذلك القليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله. ولا يجوز أن تكون ما مع الفعل مصدرا وتنصب قَلِيلًا بما بعد ما، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول، لان ما عمل فيه المصدر من صلة المصدر. وقرا ابن محيصن وابن كثير وابن عامر ويعقوب (ما يؤمنون)، و(يذكرون) بالياء. الباقون بالتاء لان الخطاب قبله وبعده. أما قبله فقوله: تُبْصِرُونَ وأما بعده: فَما مِنْكُمْ الآية.

[سورة الحاقة (69): آية 43]
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
قوله تعالى: (تَنْزِيلٌ) أي هو تنزيل. (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهو عطف على قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40]، أي إنه لقوله رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.

[سورة الحاقة (69): الآيات 44 الى 46]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) تَقَوَّلَ أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه. وقرى (ولو تقول) على البناء للمفعول. (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي بالقوة والقدرة، أي لاخذناه بالقوة. ومِنْ صلة زائدة. وعبر عن القوة والقدرة باليمين لان قوة كل شي في ميامنه، قاله القتبي. وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشماخ:
إذ ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة. عرابة أسم رجل «1» من الأنصار من الأوس. وقال آخر:
__________
(1). هو عرابة بن أوس بن قيظى الأوسي الحارثي الأنصاري. من سادات المدينة الأجواد المشهورين. أدرك حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم صغيرا وتوفى بالمدينة نحو سنة ستين.

فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)

ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيميني
وقال السدي والحكم: بِالْيَمِينِ بالحق. قال:
تلقاها عرابة باليمين

أي بالاستحقاق. وقال الحسن: لقطعنا يده اليمين. وقيل: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف، قاله نفطويه. وقال أبو جعفر الطبري: إن هذا الكلام خرج مخرج الاذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. كما يقول السلطان لمن يريد هوانه: خذوا يديه. أي لأمرنا بالأخذ بيده وبالغنا في عقابه. (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) يعني نياط القلب، أي لاهلكناه. وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه، قاله ابن عباس وأكثر الناس. قال:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي «1» بدم الوتين
وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه. والمؤتون الذي قطع وتينه. وقال محمد بن كعب: إنه القلب ومراقه وما يليه. قال الكلبي: إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء: عصب العنق. وهما علباوان بينهما ينبت العرق. وقال عكرمة: إن الوتين إذا قطع لا إن جاع عرف، ولا إن شبع عرف.

[سورة الحاقة (69): الآيات 47 الى 48]
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
قوله تعالى: (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) فَما نفي وأَحَدٍ في معنى الجمع، فلذلك نعته بالجمع، أي فما منكم قوم يحجزون عنه كقوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «2» [البقرة: 285] هذا جمع، لان بَيْنَ لا تقع إلا على اثنين فما زاد. قال النبي صلي الله عليه وسلم: (لم تحل الغنائم لاحد سود الرؤوس قبلكم). لفظه واحد ومعناه الجمع. ومِنْ زائدة.
__________
(1). شرق (من باب طرب): غص.
(2). راجع ج 3 ص 424

وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

والحجز: المنع. وحاجِزِينَ يجوز أن يكون صفة لاحد على المعنى كما ذكرنا، فيكون في موضع جر. والخبر مِنْكُمْ. ويجوز أن يكون منصوبا على أنه خبر ومِنْكُمْ ملغى، ويكون متعلقا ب حاجِزِينَ. ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا، كما لم يمتنع الفصل به في" إن فيك زيدا راغب". قوله تعالى: (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي للخائفين الذين يخشون الله. ونظيره: فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] على ما بيناه أول سورة «1» البقرة. وقيل: المراد محمد صلي الله عليه وسلم، أي هو تذكرة ورحمة ونجاة.

[سورة الحاقة (69): الآيات 49 الى 52]
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
قوله تعالى: (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) قال الربيع: بالقرآن. (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ) يعني التكذيب. والحسرة: الندامة. وقيل: أي وإن القرآن لحسرة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب من آمن به. وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم أن يأتوا بسورة مثله. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) يعني أن القرآن العظيم تنزيل من الله عز وجل، فهو لحق اليقين. وقيل: أي حقا يقينا ليكونن ذلك حسرة عليهم يوم القيامة. فعلى هذا وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ أي لتحسر، فهو مصدر بمعنى التحسر، فيجوز تذكيره. وقال ابن عباس: إنما هو كقولك: لعين اليقين ومحض اليقين. ولو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه، كما لا تقول: هذا رجل الظريف. وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فصل لربك، قاله ابن عباس. وقيل: أي نزه الله عن السوء والنقائص.
__________
(1). راجع ج 1 ص 161

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

[تفسير سورة المعارج ]
سورة المعارج وهي مكية باتفاق. وهي أربع وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
قوله تعالى: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) قرأ نافع وابن عامر سَأَلَ سائِلٌ بغير همزة. الباقون بالهمز. فمن همز فهو من السؤال. والباء يجوز أن تكون زائدة، ويجوز أن تكون بمعنى عن. والسؤال بمعنى الدعاء، أي دعا داع بعذاب، عن ابن عباس وغيره. يقال: دعا على فلان بالويل، ودعا عليه بالعذاب. ويقال: دعوت زيدا، أي التمست إحضاره. أي التمس ملتمس عذابا للكافرين، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة. وعلى هذا فالباء زائدة، كقوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» [المؤمنون: 20]، وقوله. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «2» [مريم: 25] فهي تأكيد. أي سأل سائل عذابا واقعا. (لِلْكافِرينَ) أي على الكافرين. وهو النضر ابن الحارث حيث قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «3» [الأنفال: 32] فنزل سؤاله، وقتل يوم بدر صبرا «4» هو وعقبة بن أبي معيط، لم يقتل صبرا غيرهما، قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري. وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلي الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: (من كنت مولاه فعلي مولاه) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله
__________
(1). راجع ج 12 ص (114)
(2). راجع ج 11 ص (94)
(3). راجع ج 81 ص (398)
(4). الصبر: نصب الإنسان للقتل.

إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك، ونزكي أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك، وأن نحج فقبلناه منك، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا! أفهذا شي منك أم من الله؟! فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله) فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله، فنزلت: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ الآية. وقيل: إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك، قاله الربيع. وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش. وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين. وقيل: هو رسول الله صلي الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة. وأمتد الكلام إلى قوله تعالى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا [المعارج: 5] أي لا تستعجل فإنه قريب. وإذا كانت الباء بمعنى عن- وهو قول قتادة- فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع. قال الله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «1» [الفرقان: 59] أي سل عنه. وقال علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النسا طبيب
أي عن النساء. ويقال: خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون فقال الله: لِلْكافِرينَ. قال أبو علي وغيره: وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما. وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر، فيكون التقدير سأل سائل النبي صلي الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب. ومن قرأ بغير همز فله وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش، تقول العرب: سال يسال، مثل نال ينال وخاف يخاف. والثاني أن يكون من السيلان، ويؤيده قراءة ابن عباس" سال سيل". قال عبد الرحمن بن زيد: سال واد من أودية جهنم يقال له:
__________
(1). راجع ج 13 ص 63.

سائل، وهو قول زيد بن ثابت. قال الثعلبي: والأول أحسن، كقول الأعشى «1» في تخفيف الهمزة:
سالتاني الطلاق إذ رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر
وفي الصحاح: قال الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وقد تخفف همزته فيقال: سال يسال. وقال:
ومرهق سال إمتاعا بأصدته ... لم يستعن وحوامي الموت تغشاه «2»
المرهق: الذي أدرك ليقتل. والأصدة بالضم: قميص صغير يلبس تحت الثوب. المهدوي: من قرأ" سال" جاز أن يكون خفف الهمزة بإبدالها ألفا، وهو البدل على غير قياس. وجاز أن تكون الالف منقلبة عن واو على لغة من قال: سلت أسال، كخفت أخاف. النحاس: حكى سيبويه سلت أسال، مثل خفت أخاف، بمعنى سألت. وأنشد:
سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما سالت ولم تصب «3»
ويقال: هما يتساولان. المهدوي: وجاز أن تكون مبدلة من ياء، من سال يسيل. ويكون سائل واديا في جهنم، فهمزه سائل على القول الأول أصلية، وعلى الثاني بدل من واو، وعلى الثالث بدل من ياء. القشيري: وسائل مهموز، لأنه إن كان من سأل بالهمز فهو مهموز، وإن كان من غير الهمز كان مهموزا أيضا، نحو قائل وخائف، لان العين اعتل في الفعل واعتل في اسم الفاعل أيضا. ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف الالتباس، فكان بالقلب إلى الهمزة، ولك تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين. واقِعٍ أي يقع بالكفار بين
__________
(1). لم تجد البيت في شعر الاعشين. وفى كتاب سيبويه (ج 1 ص 291، ج 2 ص 170) أنه لزيد بن عمرو ابن نفيل القرشي. وعلق عليه الأعلم الشنتمرى أنه يروى لنبيه بن الحجاج.
(2). لم يستعن، أي لم يحلق عانته. وحوامى الموت وحوائمه: أسبابه. قال ابن برى: أنشده أبو على الباهلي غيث بن عبد الكريم لبعض العرب يصف رجلا شريفا، ارتث في بعض المعارك فسألهم أن يمتعوه بقميصه، أي لا يسلب. [.....]
(3). البيت لحسان بن ثابت.

أنه من الله ذي المعارج. وقال الحسن أنزل الله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ فقال لمن هو؟ فقال للكافرين، فاللام في الكافرين متعلقة ب واقِعٍ. وقال الفراء: التقدير بعذاب للكافرين واقع، فالواقع من نعت العذاب واللام دخلت للعذاب لا للواقع، أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد. وقيل إن اللام بمعنى على، والمعنى: واقع على الكافرين. وروي أنها في قراءة أبي كذلك. وقيل: بمعنى عن، أي ليس له دافع عن الكافرين من الله. أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم، قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد: هي معارج السماء. وقيل: هي معارج الملائكة، لان الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك. وقيل: المعارج الغرف، أي إنه ذو الغرف، أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا. وقرا عبد الله" ذي المعاريج" بالياء. يقال: معرج ومعراج ومعارج ومعاريج، مثل مفتاح ومفاتيح. والمعارج الدرجات، ومنه: وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ «1» [الزخرف: 33]. (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. وقرا ابن مسعود وأصحابه والسلمى والكسائي" يعرج" بالياء على إرادة الجمع، ولقوله: ذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم. وقرا الباقون بالتاء على إرادة الجماعة. وَالرُّوحُ جبريل عليه السلام، قاله ابن عباس. دليله قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «2» [الشعراء: 193]. وقيل: هو ملك آخر عظيم الخلقة. وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. قال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض. إِلَيْهِ أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء، لأنها محل بره وكرامته. وقيل: هو كقول إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي «3» [الصافات: 99]. أي إلى الموضع الذي أمرني به. وقيل: إِلَيْهِ أي إلى عرشه. (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال وهب والكلبي ومحمد ابن إسحاق: أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم
__________
(1). راجع ج 16 ص (85)
(2). راجع ج 13 ص (138)
(3). راجع ج 15 ص 97

لو صعد خمسين ألف سنة. وقال وهب أيضا: ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة. وهو قول مجاهد. وجمع بين هذه الآية وبين قوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ
في سورة السجدة، «1» فقال: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة. وقوله تعالى في (الم تَنْزِيلُ): فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة: 5] يعني بذلك نزول الامر من سماء الدنيا إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لان ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة: هو مدة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة. لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل. وقيل: المراد يوم القيامة، أي مقدار الحكم فيه لو تولاه مخلوق خمسون ألف سنة، قاله عكرمة أيضا والكلبي ومحمد بن كعب. يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة. وقال الحسن: هو يوم القيامة، ولكن يوم القيامة لا نفاد له فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا، ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين. وقال يمان: هو يوم القيامة، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة. وقال ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، ثم يدخلون النار للاستقرار. قلت: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله، بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فقلت: ما أطول هذا! فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا (. واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:) ما من رجل لم يؤد زكاة ماله إلا جعل شجاعا «2» من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس (.
__________
(1). راجع ج 14 ص 86.
(2). الشجاع (بالضم والكسر): الحية الذكر.

فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)

قال: فهذا يدل على أنه يوم القيامة. وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين). ذكره الماوردي. وقيل: بل يكون الفراغ لنصف يوم، كقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا «1» [الفرقان: 24]. وهذا على قدر فهم الخلائق، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن. وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة، قال الله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «2» [لقمان: 28]. وعن ابن عباس أيضا أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة: 5] فقال: أيام سماها الله عز وجل هو أعلم بها كيف تكون، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم. وقيل: معنى ذكر خمسين ألف سنة تمثيل، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف، وما يلقى الناس فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر، قال الشاعر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر «3»
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وهذا القول هو معنى ما اخترناه، والموفق الإله.

[سورة المعارج (70): الآيات 5 الى 7]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7)
__________
(1). راجع ج 13 ص 22.
(2). راجع ج 14 ص 78.
(3). قال ابن برى: نسب الجوهري هذا البيت ليزيد بن الطثرية، وصوابه لشبرمة بن الطفيل. (انظر لسان العرب مادة صفق). والزق: وعاء من جلد. ويريد بدم الزق الخمر. والمزاهر: العيدان. واصطفقت المزاهر: جاوب بعضها بعضا.

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)

قوله تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا) أي على أذى قومك. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله. وقيل: هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو. والمعنى متقارب. وقال ابن زيد: هي منسوخة بآية السيف. (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) يريد أهل مكة يرون العذاب بالنار بعيدا، أي غير كائن. (وَنَراهُ قَرِيباً) لان ما هو آت فهو قريب. وقال الأعمش: يرون البعث بعيدا لأنهم لا يؤمنون كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة. كما تقول لمن تناظره: هذا بعيد لا يكون! وقيل: أي يرون هذا اليوم بعيدا وَنَراهُ أي نعلمه، لان الرؤية إنما تتعلق بالموجود. وهو كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألة كذا وكذا.

[سورة المعارج (70): الآيات 8 الى 10]
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)
قوله تعالى: (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) العامل في يَوْمٍ واقِعٍ، تقديره يقع بهم العذاب يوم. وقيل: نَراهُ أو يُبَصَّرُونَهُمْ أو يكون بدلا من قريب. والمهل: دردي الزيت وعكره، في قول ابن عباس وغيره. وقال ابن مسعود: ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة. وقال مجاهد: كَالْمُهْلِ كقيح من دم وصديد. وقد مضى في سورة" الدخان"، و" الكهف" القول «1» فيه. (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي كالصوف المصبوغ. ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا. وقال الحسن: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وهو الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف. ومنه قول زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم «2»
__________
(1). راجع ج 10 ص 394 وج 16 ص (149)
(2). الفنا (مقصور والواحدة فناة): عنب الثعلب. وقيل: هو شجر دو حب أحمر ما لم يكسر يتخذ منه قرار يط يوزن بها، كل حبة قيراط. وقيل: يتخذ منه القلائد. وقوله:" لم يحطم" أراد أن حب الفنا صحيح، لأنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة.

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)

الفتات القطع. والعهن الصوف الأحمر، واحده عهنة. وقيل: العهن الصوف ذو الألوان، فشبه الجبال به في تلونها ألوانا. والمعنى: أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع. وقيل: أول ما تتغير الجبال تصير رملا «1» مهيلا، ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا. (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه، قاله قتادة. كما قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ «2» [عبس: 37]. وقيل: لا يسأل حميم عن حميم، فحذف الجار ووصل الفعل. وقراءة العامة يَسْئَلُ بفتح الياء. وقرا شيبة والبزي عن عاصم" ولا يسأل بالضم على ما لم يسم فاعله، أي لا يسأل حميم عن حميمه ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يسأل عن عمله. نظيره: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» رَهِينَةٌ [المدثر: 38].

[سورة المعارج (70): الآيات 11 الى 14]
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
قوله تعالى: (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يرونهم. وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والانس. فيبصر الرجل أباه واخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال ابن عباس: يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة. وفي بعض الاخبار: أن أهل القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم. وقال ابن عباس أيضا: يُبَصَّرُونَهُمْ يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض. فالضمير في يُبَصَّرُونَهُمْ على هذا للكفار، والميم للأقرباء. وقال مجاهد: المعنى يبصر الله المؤمنين الكفار في يوم القيامة، فالضمير في يبصرونهم للمؤمنين، والهاء والميم للكفار. ابن زيد: المعنى يبصر الله
__________
(1). المهيل: الذي يحرك أسفله فينهال عليه من أعلاه.
(2). راجع ج 19 ص 222 وص 84
(3). راجع ج 19 ص 222 وص 84 [.....]

كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)

الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا، فالضمير في يُبَصَّرُونَهُمْ للتابعين، والهاء والميم للمتبوعين. وقيل: إنه يبصر المظلوم ظالمه والمقتول قاتله. وقيل: يُبَصَّرُونَهُمْ يرجع إلى الملائكة، أي يعرفون أحوال الناس فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم. وتم الكلام عند قوله: يُبَصَّرُونَهُمْ. ثم قال: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) أي يتمنى الكافر. (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) يعني من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر. ثم ذكرهم فقال: (بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ) زوجته. (وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ) أي عشيرته. (الَّتِي تُؤْوِيهِ) تنصره، قاله مجاهد وابن زيد. وقال مالك: أمه التي تربيه. حكاه الماوردي ورواه عنه أشهب. وقال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب: هم آباؤه الأدنون. وقال المبرد: الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد، وهي دون القبيلة. وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه. وقد مضى في سورة" الحجرات" القول في القبيلة وغيرها»
. وهنا مسألة، وهي: إذا حبس على فصيلته أو أوصى لها فمن أدعى العموم حمله على العشيرة، ومن أدعى الخصوص حمله على الآباء، الأدنى فالأدنى. والأول أكثر في النطق. والله أعلم. ومعنى: تُؤْوِيهِ تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به. (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي ويود لو فدي بهم لافتدى (ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يخلصه ذلك الفداء. فلا بد من هذا الإضمار، كقوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ «2» أي وإن أكله لفسق. وقيل: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يقتضي جوابا بالفاء، كقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «3» [القلم: 9]. والجواب في هذه الآية ثُمَّ يُنْجِيهِ لأنها من حروف العطف، أي يود المجرم لو يفتدى فينجيه الافتداء.

[سورة المعارج (70): الآيات 15 الى 18]
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى 15 نَزَّاعَةً لِلشَّوى 16 تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى 17 وَجَمَعَ فَأَوْعى 18
__________ (1). راجع ج 16 ص (345)
(2). راجع ج 7 ص (74)
(3). راجع ص 230 من هذا الجزء.

قوله تعالى: (كَلَّا) تقدم القول في كَلَّا وأنها تكون بمعنى حقا، وبمعنى «1» لا. وهي هنا تحتمل الأمرين، فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام يُنْجِيهِ. وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها، أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ثم قال: (إِنَّها لَظى ) أي هي جهنم، أي تتلظى نيرانها، كقوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً «2» تَلَظَّى [الليل: 14] واشتقاق لظى من التلظي. والتظاء النار التهابها، وتلظيها تلهبها. وقيل: كان أصلها" لظظ" أي ما دامت لدوام عذابها، فقلبت إحدى الظاءين ألفا فبقيت لظى. وقيل: هي الدركة الثانية من طبقات جهنم. وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف. (نَزَّاعَةً لِلشَّوى ) قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي (نزاعة) بالرفع. وروى أبو عمرو عن عاصم نَزَّاعَةً بالنصب. فمن رفع فله خمسة أوجه: أحدها أن تجعل لَظى خبر (إن) وترفع (نزاعة) بإضمار هي، فمن هذا الوجه يحسن الوقف على لَظى . والوجه الثاني أن تكون لَظى ونَزَّاعَةً خبران لان. كما تقول إنه خلق مخاصم. والوجه الثالث أن تكون نَزَّاعَةً بدلا من لَظى ولَظى خبر (إن). والوجه الرابع أن تكون لَظى بدلا من أسم (إن) ونَزَّاعَةً خبر (إن). والوجه الخامس أن يكون الضمير في إنها للقصة ولَظى مبتدأ ونَزَّاعَةً خبر الابتداء والجملة خبر (إن) والمعنى: أن القصة والخبر لظى نزاعة للشوى ومن نصب نَزَّاعَةً حسن له أن يقف على لَظى وينصب نَزَّاعَةً على القطع من لَظى إذ كانت نكرة متصلة بمعرفة. ويجوز نصبها على الحال المؤكدة، كما قال: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «3» [البقرة: 91]. ويجوز أن تنصب على معنى أنها تتلظى نزاعة، أي في حال نزعها للشوى. والعامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي. ويجوز أن يكون حالا، على أنه حال للمكذبين بخبرها. ويجوز نصبها
__________
(1). راجع ج 11 ص 147.
(2). راجع ج 20 ص 86.
(3). راجع ج 2 ص 29.

على القطع، كما تقول: مررت بزيد العاقل الفاضل. فهذه خمسة أوجه للنصب أيضا. والشوى. جمع شواة وهي جلدة الرأس. قال الأعشى:
قالت قتيلة ماله ... قد جللت شيبا شواته
وقال آخر:
لأصبحت هدتك الحوادث هدة ... لها فشواه الرأس باد قتيرها
القتير: الشيب. وفي الصحاح:" والشوى": جمع شواة وهي جلدة الرأس". والشوى: اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وكل ما ليس مقتلا. يقال: رماه فأشواه إذا لم يصب المقتل. قال الهذلي:
فإن من القول التي لا شوى لها ... إذا زل عن ظهر اللسان انفلاتها
يقول: إن من القول كلمة لا تشوي ولكن تقتل. قال الأعشى:
قالت قتيلة ماله ... قد جللت شيبا شواته
قال أبو عبيد: أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له:" صحفت! إنما هو سراته، أي نواحيه «1» فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا: بل هو صحف، إنما هو شواته". وشوى الفرس: قوائمه، لأنه يقال: عبل «2» الشوى، ولا يكون هذا للرأس، لأنهم وصفوا الخيل بإسالة الخدين وعتق الوجه وهو رقته. والشوى: رذال المال. والشوى: هو الشيء الهين اليسير. وقال ثابت البناني والحسن: نَزَّاعَةً لِلشَّوى أي لمكارم وجهه. أبو العالية: لمحاسن وجهه. قتادة: لمكارم خلقته وأطرافه. وقال الضحاك: تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. وقال الكسائي: هي المفاصل. وقال بعض الأئمة: هي القوائم والجلود. قال امرؤ القيس:
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ... له حجبات مشرفات على الفال «3»
__________
(1). الزيادة من لسان العرب.
(2). أي غليظ القوائم.
(3). الشظى: عظم لازق بالذراع. وقيل: انشقاق العصب. و" عبل الشوى" غليظ اليدين والرجلين. و" الشنج" محركة: تقبض الجلد والأصابع. و" النسا" مقصور: عرق في الفخذ، وفرس شنج النسا: منقبضة، وهو مدح له. و" الحجبات": رءوس عظام الوركين. و" الفال": لغة في الفائل وهو اللحم الذي على الورك.

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)

وقال أبو صالح: أطراف اليدين والرجلين. قال الشاعر:
إذا نظرت عرفت الفخر منها ... وعينيها ولم تعرف شواها
يعني أطرافها. وقال الحسن أيضا: الشوى الهام. (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الايمان. ودعاؤها أن تقول: إلي يا مشرك، إلي يا كافر. وقال ابن عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إلي يا كافر، إلي يا منافق، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقال ثعلب: تَدْعُوا أي تهلك. تقول العرب: دعاك الله، أي أهلكك الله. وقال الخليل: إنه ليس كالدعاء" تعالوا" ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم. وقيل: الداعي خزنة جهنم، أضيف دعاؤهم إليها. وقيل هو ضرب مثل، أي إن مصير من أدبر وتولى إليها، فكأنها الداعية لهم. ومثله قول الشاعر:
ولقد هبطنا الواديين فؤاديا ... يدعو الأنيس به العضيض «1» الأبكم
العضيض الأبكم: الذباب. وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا إليه. قلت: القول الأول هو الحقيقة، حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والاخبار الصحيحة. القشيري: ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو، وخوارق العادة غدا كثيرة. (وَجَمَعَ فَأَوْعى ) أي جمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى، فكان جموعا منوعا. قال الحكم: كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول: وَجَمَعَ فَأَوْعى .

[سورة المعارج (70): الآيات 19 الى 21]
قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)
قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) يعني الكافر، عن الضحاك. والهلع في اللغة: أشد الحرص واسوا الجزع وأفحشه. وكذلك قال قتادة ومجاهد وغيرهما. وقد هلع (بالكسر) يهلع فهو هلع وهلوع، على التكثير. والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما
__________
(1). وردت هذه الكلمة في نسخ الأصل مضطربة، ففي ح، ط:" العضيض" بالعين المهملة والضاد المعجمة. وفى ل:" الفصيص" بالفاء والصاد المهملة وفى ز:" الفضيض" بالفاء والضاد،. وفى هـ:" العصيص" بالعين والصاد المهملتين. ولم نهتد إلى المعنى الذي ذكره لواحد من هذه الكلمات في كتب اللغة.

إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

ما لا ينبغي. عكرمة: هو الضجور. الضحاك: هو الذي لا يشبع. والمنوع: هو الذي إذا أصاب المال منع منه حق الله تعالى. وقال ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه، ويهرب مما يكرهه ويسخط، ثم تعبده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. وقال أبو عبيدة: الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضر لم يصبر، قاله ثعلب. وقال ثعلب أيضا: قد فسر الله الهلوع، وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: (شر ما أعطي العبد شح هالع وجبن خالع). والعرب تقول: ناقة هلواعة وهلواع، إذا كانت سريعة السير خفيفة. قال: «1»
صكاء ذعلبة إذا استدبرتها ... حرج إذا استقبلتها هلواع
الذعلب والذعلبة الناقة السريعة. وجَزُوعاً ومَنُوعاً نعتان لهلوع. على أن ينوي بهما التقديم قبل (إذا). وقيل: هو خبر كان مضمرة.

[سورة المعارج (70): الآيات 22 الى 35]
قوله تعالى: إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
__________
(1). في اللسان مادة هلع:" وأنشد الباهلي للمسيب بن علس يصف ناقة شبهها بالنعامة" وذكر البيت. قال الباهلي: قوله" صكاء" شبهها بالنعامة،" ثم وصف النعامة بالصكك وليس الصكاء من وصف الناقة".

قوله تعالى: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) دل على أن ما قبله في الكفار، فالإنسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 3- 2]. قال النخعي: المراد بالمصلين الذين يؤدون الصلاة المكتوبة. ابن مسعود: الذين يصلونها لوقتها، فأما تركها فكفر. وقيل: هم الصحابة. وقيل: هم المؤمنون عامة، فإنهم يغلبون فرط الجزع بثقتهم بربهم ويقينهم (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي على مواقيتها. وقال عقبة ابن عامر: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا. والدائم الساكن، ومنه: نهي عن البول في الماء الدائم، أي الساكن. وقال ابن جريج والحسن: هم الذين يكثرون فعل التطوع منها. (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) يريد الزكاة المفروضة، قاله قتادة وابن سيرين. وقال مجاهد: سوى الزكاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: صلة رحم وحمل كل «1». والأول أصح، لأنه وصف الحق بأنه معلوم، وسوى الزكاة ليس بمعلوم، إنما هو على قدر الحاجة، وذلك يقل ويكثر. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ تقدم في" الذاريات" «2». (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة. وقد مضى في سورة" الفاتحة" القول فيه. (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي خائفون. (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) قال ابن عباس: لمن أشرك أو كذب أنبياءه. وقيل: لا يأمنه أحد، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ «3» أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) تقدم القول فيه في سورة (قد أفلح المؤمنون). «4» (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) تقدم أيضا. (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) على من كانت عليه «5» من قريب أو بعيد، يقومون بها عند
__________
(1). الكل- بالفتح-: الثقل من كل ما يتكلف. والكل: العيال. والكل: اليتيم.
(2). راجع ج 17 ص (38)
(3). راجع ج 1 ص (141) [.....]
(4). راجع ج 12 ص (102)
(5). زيادة عن الخطيب الشربينى.

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)

الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها. وقد مضى القول في الشهادة وأحكامها في سورة" البقرة" «1». وقال ابن عباس: بِشَهاداتِهِمْ أن الله واحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وقرى" لامانتهم على التوحيد. وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن. فالأمانة اسم جنس، فيدخل فيها أمانات الدين، فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده. ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع، وقد مضى هذا كله مستوفى في سورة" النساء" «2». وقرا عباس الدوري عن أبي عمرو ويعقوب بِشَهاداتِهِمْ جمعا. الباقون" بشهادتهم" على التوحيد، لأنها تؤدي عن الجمع. والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع، كقوله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «3». [لقمان: 19] وقال الفراء: ويدل على أنها" بشهادتهم" توحيدا قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2]. (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج: التطوع. وقد مضى في سورة" المؤمنون" «4». فالدوام خلاف المحافظة. فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفظوها من الإحباط باقتراب المأثم. فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات.

[سورة المعارج (70): الآيات 36 الى 39]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
قوله تعالى: (فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) قال الأخفش: مسرعين. قال:
بمكة أهلها ولقد أراهم ... إليه مهطعين إلى السماع
__________
(1). راجع ج 3 ص (415)
(2). راجع ج 5 ص (255)
(3). راجع ج 14 ص (71)
(4). راجع ج 12 ص 107

والمعنى: ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم. وقيل: أي ما بالهم مسرعين في التكذيب لك. وقيل: أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك ويستهزءوا بك. وقال عطية: مهطعين: معرضين. الكلبي: ناظرين إليك تعجبا. وقال قتادة: عامدين. والمعنى متقارب، أي ما بالهم مسرعين عليك، ما دين أعناقهم، مدمني النظر إليك. وذلك من نظر العدو. وهو منصوب على الحال. نزلت في جمع من المنافقين المستهزئين، كانوا يحضرونه- عليه السلام- ولا يؤمنون به. وقِبَلَكَ أي نحوك. (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي عن يمين النبي صلي الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات. والعزين: جماعات في تفرقة، قاله أبو عبيدة. ومنه حديث النبي صلي الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه فرآهم حلقا فقال: (مالي أراكم عزين ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها- قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال-: يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف) خرجه مسلم وغيره. وقال الشاعر:
ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حلقا عزينا

أي متفرقين. وقال الراعي:
أخليفة الرحمن إن عشيرتي ... أمسى سراتهم إليك عزينا
أي متفرقين. وقال آخر:
كأن الجماجم من وقعها ... خناطيل «1» يهوين شتى عزينا
أي متفرقين. وقال آخر:
فلما أن أتين على أضاخ ... ضرحن حصاه أشتاتا عزينا «2»
وقال الكميت:
ونحن وجندل باغ تركنا ... كتائب جندل شتى عزينا
__________
(1). الخناطيل: لا واحد لها من جنسها، وهى جماعات من الوحش والطير في تفرقة.
(2). أضاخ (بالضم): جبل يذكر ويؤنث. وقيل: هو موضع بالبادية يصرف ولا يصرف. ومعنى" ضرحن" نحين ودفعن.

وقال عنترة:
وقرن قد تركت لذي ولي ... عليه الطير كالعصب العزين
وواحد عزين عزة، جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها. واصلها عزهة، فاعتلت كما اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة. وقيل: أصلها عزوه، من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره. فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى، والمحذوف منها الواو. وفي الصحاح:" والعزة الفرقة من الناس، والهاء عوض من الياء، والجمع عزى- على فعل- وعزون وعزون أيضا بالضم، ولم يقولوا عزات كما قالوا ثبات". قال الأصمعي: يقال في الدار عزون، أي أصناف من الناس. وعَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ متعلق ب مُهْطِعِينَ ويجوز أن يتعلق ب عِزِينَ على حد قولك: أخذته عن زيد. (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلي الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فيكذبونه ويكذبون عليه، ويستهزئون بأصحابه ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم، ولين أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه، فنزلت: أَيَطْمَعُ الآية. وقيل: كان المستهزءون خمسة أرهط. وقرا الحسن طلحة بن مصرف والأعرج أَنْ يُدْخَلَ بفتح الياء وضم الخاء مسمى الفاعل. ورواه المفضل عن عاصم. الباقون أَنْ يُدْخَلَ على الفعل المجهول. (كَلَّا) لا يدخلونها. ثم ابتدأ فقال: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، كما خلق سائر جنسهم. فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالايمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل: كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم. فقال: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ من القذر، فلا يليق بهم هذا التكبر. وقال قتادة في هذه الآية: إنما خلقت يا بن آدم من قذر فاتق الله. وروي أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب ابن أبي صفرة يتبختر في مطرف «1» خز وجبة خز فقال له: يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها
__________
(1). المطرف (بكسر الميم وضمها): واحد المطارف، وهى أردية من خز مربعة لها أعلام.

فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)

الله؟! فقال له: أتعرفني؟ قال نعم، أو لك نطفة مذرة، «1» وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك «2» تحمل العذرة. فمضى المهلب وترك مشيته. نظم الكلام محمود الوراق فقال:
عجبت من معجب بصورته ... وكان في الأصل نطفة مذرة
وهو غدا بعد حسن صورته ... يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته ... ما بين ثوبيه يحمل العذرة
وقال آخر:
هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة ... وهو بخمس من الأوساخ مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك «3» ... - والعين مرمصة والثغر ملهوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدا ... قصر فإنك مأكول ومشروب
وقيل: معناه من أجل ما يعلمون، وهو الامر والنهي والثواب والعقاب. كقول الشاعر وهو الأعشى:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن تزارا
أي من أجل ليلى.

[سورة المعارج (70): الآيات 40 الى 41]
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ) أي أقسم. وفَلا صلة. (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) هي مشارق الشمس ومغاربها. وقد مضى الكلام فيها. وقرا أبو حيوة وابن محيصن وحميد بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ على التوحيد. (إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) يقول: نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي لا يفوتنا شي ولا يعجزنا أمر نريده.
__________
(1). المذر: الفساد.
(2). زيادة عن الخطيب الشربينى.
(3). السهك- محركة- ريح كريهة تجدها من الإنسان إذا عرق.

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)

[سورة المعارج (70): آية 42]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم، على جهة الوعيد. واشتغل أنت بما أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم، فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا. وقرا ابن محيصن ومجاهد وحميد حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. وهذه الآية منسوخة بآية السيف.

[سورة المعارج (70): آية 43]
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
يَوْمَ بدل من يَوْمَهُمُ الذي قبله، وقراءة العامة يَخْرُجُونَ بفتح الياء وضم الراء على أنه مسمى الفاعل. وقرا السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم (يخرجون) بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. والأجداث: القبور، واحدها جدث. وقد مضى في سورة" يس" «1». سِراعاً حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي، وهو نصب على الحال كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد. وقرا ابن عامر وحفص بضم النون والصاد. وقرا عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد. والنصب والنصب لغتان مثل الضعف، والضعف. الجوهري: والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذلك النصب بالضم، وقد يحرك. قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعافية والله ربك فاعبدا
أراد" فأعبدن" فوقف بالألف، كما تقول: رأيت زيدا. والجمع الأنصاب. وقوله:" وذا النصب" بمعنى إياك وذا النصب. والنصب الشر والبلاء، ومنه قوله تعالى: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ «2» [ص: 41]. وقال الأخفش والفراء: النصب جمع النصب مثل رهن ورهن، والأنصاب جمع نصب، فهو جمع الجمع. وقيل: النصب والأنصاب واحد. وقيل:
__________
(1). راجع ج 15 ص 40 وص 207.
(2). راجع ج 15 ص 40 وص 207. [.....]

خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

النصب جمع نصاب، هو حجر أو صنم يذبح عليه، ومنه قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ «1» [المائدة: 3 [. وقد قيل: نصب ونصب ونصب بمعنى واحد، كما قيل عمر وعمر وعمر. ذكره النحاس. قال ابن عباس: إِلى نُصُبٍ إلى غاية، وهي التي تنصب إليها بصرك. وقال الكلبي: إلى شي منصوب، علم أو راية. وقال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم. (يُوفِضُونَ) يسرعون والايفاض الإسراع. قال الشاعر:
فوارس ذبيان تحت الحدي ... د كالجن يوفضن من عبقر
عبقر: موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد:
كهول وشبان كجنة عبقر «2»

وقال الليث: وفضت الإبل تفض وفضا، وأوفضها صاحبها. فالايفاض متعد، والذي في الآية لازم. يقال: وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع.

[سورة المعارج (70): آية 44]
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
قوله تعالى: (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة خاضعة، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله. (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يغشاهم الهوان. قال قتادة: هو سواد الوجوه. والرهق: الغشيان، ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام. رهقه (بالكسر) يرهقه رهقا أي غشيه، ومنه قوله تعالى: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ «3» [يونس: 26]. (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب. وأخرج الخبر بلفظ الماضي لان ما وعد الله به يكون ولا محالة.
__________
(1). راجع ج 6 ص 57.
(2). هذا عجز بيت، وصدره:
ومن فاد من إخوانهم وبنيهم

(3). راجع ج 8 ص 330

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)

[تفسير سورة نوح ]
سورة نوح مكية، وهى ثمان وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة نوح (71): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1)
قد مضى القول في" الأعراف" «1» أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل. ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض). فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا. وهو نوح بن لامك ابن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: كلهم مؤمنون. أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقال عبد الله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد مضى في سورة" العنكبوت"»
القول فيه. والحمد لله. (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أي بأن أنذر قومك، فموضع أَنْ نصب بإسقاط الخافض. وقيل: موضعها جر لقوة خدمتها مع أَنْ. ويجوز أَنْ بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الاعراب، لان في الإرسال معنى الامر، فلا حاجة إلى إضمار الباء. وقراءة عبد الله أَنْذِرْ قَوْمَكَ بغير أَنْ بمعنى قلنا له أنذر قومك. وقد تقدم معنى الإنذار في أول" البقرة" «3». (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال ابن عباس: يعنى عذاب النار في الآخرة. وقال الكلبي: هو ما نزل عليهم من الطوفان. وقيل: أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا. فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى
__________
(1). راجع ج 7 ص (232)
(2). راجع ج 13 ص (332)
(3). راجع ج 1 ص 184

قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

منهم مجيبا، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وقد مضى هذا مستوفى في سورة" العنكبوت" «1» والحمد لله.

[سورة نوح (71): الآيات 2 الى 4]
قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قوله تعالى: (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) أي مخوف. (مُبِينٌ) أي مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ) وأَنِ المفسرة على ما تقدم في أَنْ أَنْذِرْ. اعْبُدُوا أي وحدوا. واتقوا: خافوا. (وَأَطِيعُونِ) أي فيما آمركم به، فإني رسول الله إليكم. (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) جزم يَغْفِرْ بجواب الامر. ومِنْ صلة زائدة. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم، قاله السدي. وقيل: لا يصح كونها زائدة، لان مِنْ لا تزاد في الواجب، وإنما هي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. وقيل: هي لبيان الجنس. وفية بعد، إذ لم يتقدم جنس يليق به. وقال زيد ابن أسلم: المعنى يخرجكم من ذنوبكم. ابن شجرة: المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال ابن عباس: أي ينسئ في أعماركم. ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب. وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية، فلا يعاقبكم بالقحط وغيره. فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم. وقال: الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب. وعلى هذا قيل: أَجَلٍ مُسَمًّى عندكم تعرفونه، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا، ذكره الفراء. وعلى القول الأول أَجَلٍ مُسَمًّى عند الله. (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب. وأضاف الأجل
__________
(1). راجع ج 13 ص 332

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)

إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم، كقوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ [النحل: 61] لأنه مضروب لهم. ولَوْ بمعنى (إن) أي إن كنتم تعلمون. وقال الحسن: معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر.

[سورة نوح (71): الآيات 5 الى 6]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6)
قوله تعالى: (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً) أي سرا وجهرا. وقيل: أي واصلت الدعاء. (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي تباعدا من الايمان. وقراءة العامة بفتح الياء من (دعائي) وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.

[سورة نوح (71): آية 7]
وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7)
قوله تعالى: (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) أي إلى سبب المغفرة، وهي الايمان بك والطاعة لك. (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلا يسمعوا دعائي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه. وقال ابن عباس: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه. فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت، أو ليعرفوه إعراضهم عنه. وقيل: هو كناية عن العداوة. يقال: لبس لي فلان ثياب العداوة. (وَأَصَرُّوا) أي على الكفر فلم يتوبوا. (وَاسْتَكْبَرُوا) عن قبول الحق، لأنهم قالوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «1» [الشعراء: 111]. (اسْتِكْباراً) تفخيم.

[سورة نوح (71): الآيات 8 الى 9]
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
__________
(1). راجع ج 13 ص 119.

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)

قوله تعالى: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي مظهرا لهم الدعوة. وهو منصوب ب دَعَوْتُهُمْ نصب المصدر، لان الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد، لكونها أحد أنواع القعود، أو لأنه أراد ب دَعَوْتُهُمْ جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا، أي دعاء جهارا، أي مجاهرا به. ويكون مصدرا في موضع الحال، أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة. (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي لم أبق مجهودا. وقال مجاهد: معنى أعلنت: صحت، وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً. بالدعاء عن بعضهم من بعض. وقيل: أَسْرَرْتُ لَهُمْ أتيتهم في منازلهم. وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون.

[سورة نوح (71): الآيات 10 الى 12]
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12)
فيه ثلاث مسائل الاولى- قوله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الايمان. (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) وهذا منه ترغيب في التوبة. وقد روى حذيفة ابن اليمان عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (الاستغفار ممحاة للذنوب). وقال الفضيل: يقول العبد أستغفر الله، وتفسيرها أقلني. الثانية- قوله تعالى: (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يرسل ماء السماء، ففيه إضمار. وقيل: السماء المطر، أي يرسل المطر. قال الشاعر: «1»
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
__________
(1). هو معود الحكماء، معاوية بن مالك.

ومِدْراراً ذا غيث كثير. وجزم يُرْسِلِ جوابا للأمر. وقال مقاتل: لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت مواشيهم وزروعهم، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به. فقال اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه. ثم قال ترغيبا في الايمان: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً. قال قتادة: علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال: (هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة). الثالثة- في هذه الآية والتي في" هود" «1» دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح «2» السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «3» [التوبة: 91] وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله. وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا، فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئا، إن الله تعالى يقول في سورة" نوح": اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.
__________
(1). راجع ج 9 ص (51)
(2). قال ابن الأثير:" المجاديح" واحدها مجدح والياء زائدة للإشباع. والقياس أن يكون واحدها مجداح. والمجدح: نجم من النجوم، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر. فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه، لا قولا بالأنواء. وجاء بلفظ الجمع لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر.
(3). راجع ج 8 ص 227.

مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)

وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً وقد مضى في سورة" آل عمران" «1» كيفية الاستغفار، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الأصل في الإجابة.

[سورة نوح (71): الآيات 13 الى 14]
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف، أي مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة. أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله. وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء ابن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: مالكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا. وقال الوالبي والعوفي عنه: ما لكم لا تعلمون لله عظمة. وقال ابن عباس أيضا ومجاهد: مالكم لا ترون لله عظمة. وعن مجاهد والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية. وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرج: لم أبال. والوقار: العظمة. والتوقير: التعظيم. وقال قتادة: ما لكم لا ترجون لله عاقبة، كأن المعنى ما لكم لا ترجون لله عاقبة الايمان. وقال ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا. وقال ابن زيد: مالكم لا تؤدون لله طاعة. وقال الحسن: مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. وقيل: مالكم لا توحدون الله، لان من عظمه فقد وحده. وقيل: إن الوقار الثبات لله عز وجل، ومنه قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ «2» [الأحزاب: 33] أي أثبتن. ومعناه ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه، قاله ابن بحر. ثم دلهم على ذلك فقال: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس: أَطْواراً يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة، أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق، كما ذكر في سورة" المؤمنون" «3». والطور في اللغة: المرة، أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه. وقيل: أَطْواراً صبيانا، ثم شبابا، ثم شيوخا وضعفاء، ثم أقوياء.
__________
(1). راجع ج 4 ص 39.
(2). راجع ج 14 ص 178. [.....]
(3). راجع ج 12 ص 108.

أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)

وقيل: أطوارا أي أنواعا: صحيحا وسقيما، وبصيرا وضريرا، وغنيا وفقيرا. وقيل: إن أَطْواراً اختلافهم في الأخلاق والافعال.

[سورة نوح (71): الآيات 15 الى 16]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ذكر لهم دليلا آخر، أي ألم تعلموا أن الذي قدر على هذا، فهو الذي يجب أن يعبد! ومعنى طِباقاً بعضها فوق بعض، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب، قاله ابن عباس والسدي. وقال الحسن: خلق الله سبع سموات طباقا على سبع أرضين، بين كل أرض وأرض، وسماء وسماء خلق وأمر. وقوله: أَلَمْ تَرَوْا على جهة الاخبار لا المعاينة، كما تقول: ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا. وطِباقاً نصب على أنه مصدر، أي مطابقة طباقا. أو حال بمعنى ذات طباق، فحذف ذات وأقام طباقا مقامه. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي في سماء الدنيا، كما يقال: أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم، قاله الأخفش. قال ابن كيسان: إذا كان في إحداهن فهو فيهن. وقال قطرب: فِيهِنَّ بمعنى معهن، وقاله الكلبي. أي خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والأرض. وقال جلة أهل اللغة في قول امرئ القيس:
وهل ينعمن من كان آخر «1» عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال

في بمعنى مع. النحاس: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال: جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن، كما تقول: أعطني الثياب المعلمة وإن كنت إنما أعلمت أحدها. وجواب آخر: أنه يروى أن وجه القمر إلى السماء، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسماوات، ومعنى نُوراً أي لأهل الأرض، قاله السدي. (هامش)
__________
(1). الذي في ديوان امرى القيس ص 50 ط هندية" أحدث".

وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)

وقال عطاء: نورا لأهل السماء والأرض. وقال ابن عباس وابن عمر: وجهه يضئ لأهل الأرض وظهره يضئ لأهل السماء. (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) يعني مصباحا لأهل الأرض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم. وفي إضاءتها لأهل السماء القولان الأولان، حكاه الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أن الشمس وجهها في السموات وقفاها في الأرض. وقيل: على العكس. وقيل لعبد الله بن عمر: ما بال الشمس تقلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا؟ فقال: إنها في الصيف في السماء الرابعة، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن، ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شي.

[سورة نوح (71): الآيات 17 الى 18]
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18)
يعني آدم عليه السلام خلقه من أديم الأرض كلها، قاله ابن جريج. وقد مضى في سورة" الانعام «1» والبقرة" بيان ذلك. وقال خالد بن معدان: خلق الإنسان من طين، فإنما تلين القلوب في الشتاء. ونَباتاً مصدر على غير المصدر، لان مصدره أنبت إنباتا، فجعل الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر. وقد مضى بيانه في سورة" آل عمران" «2» وغيرها. وقيل: هو مصدر محمول على المعنى، لان معنى: أَنْبَتَكُمْ جعلكم تنبتون نباتا، قاله الخليل والزجاج. وقيل: أي أنبت لكم من الأرض النبات. ف نَباتاً على هذا نصب على المصدر الصريح. والأول أظهر. وقال ابن جريج: «3» أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر. (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) أي عند موتكم بالدفن. (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) بالنشور للبعث يوم القيامة.

[سورة نوح (71): الآيات 19 الى 20]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)
__________
(1). راجع ج 6 ص (279)
(2). راجع ج 4 ص (69)
(3). في ح، ز، ل:" وقال ابن بحر".

قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)

قوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي مبسوطة. (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) السبل: الطرق. والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسعة، قاله الفراء. وقيل: الفج المسلك بين الجبلين. وقد مضى في سورة" الأنبياء «1» والحج".

[سورة نوح (71): آية 21]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21)
شكاهم إلى الله تعالى، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الايمان. وقال أهل التفسير: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس: رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء، فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبع قرون، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا. قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين، حكاه الماوردي. وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً يعني كبراءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة. وقرا أهل المدنية والشام وعاصم وَوَلَدُهُ بفتح الواو واللام. الباقون (ولده) بضم الواو وسكون اللام وهي لغة في الولد. ويجوز أن يكون جمعا للولد، كالفلك فإنه واحد وجمع. وقد تقدم «2».

[سورة نوح (71): آية 22]
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)
أي كبيرا عظيما. يقال: كبير وكبار وكبار، مثل عجيب وعجاب وعجاب بمعنى، ومثله طويل وطوال وطوال. يقال: رجل حسن وحسان، وجميل وجمال، وقراء للقارئ، ووضاء للوضيء. وأنشد ابن السكيت:
بيضاء تصطاد القلوب «3» وتستبي ... وبالسحن قلب المسلم القراء
__________
(1). راجع ج 11 ص 285 وج 12 ص (40)
(2). راجع ج 2 ص (194)
(3). في اللسان (مادة قرأ):" الغوى" بالغين المعجمة.

وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)

وقال آخر:
والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء
وقال المبرد: كُبَّاراً (بالتشديد) للمبالغة. وقرا ابن محيصن وحميد ومجاهد (كبارا) بالتخفيف. وأختلف في مكرهم ما هو؟ فقيل: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح. وقيل: هو تعزيرهم الناس بما أوتوا من الدنيا والولد، حتى قالت الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم. وقال الكلبي: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد. وقيل: مكرهم كفرهم. وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لاتباعهم: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً.

[سورة نوح (71): الآيات 23 الى 24]
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
قال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور، كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب. وهذا قول الجمهور. وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم. وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فلذلك خصوها بالذكر بعد قوله تعالى: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ. ويكون معنى الكلام كما قال قوم نوح لاتباعهم: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ قالت العرب لأولادهم وقومهم: لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا، ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح عليه السلام. وعلى القول الأول، الكلام كله منسوق في قوم نوح. وقال عروة بن الزبير وغيره: اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وكان ود أكبرهم وأبرهم به. قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا عليه، فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه. قالوا: أفعل. فصوره في المسجد من صفر ورصاص. ثم مات آخر،

فصوره حتى ماتوا كلهم فصورهم. وتنقصت الأشياء كما تتنقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين. فقال لهم الشيطان: مالكم لا تعبدون شيئا؟ قالوا: وما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون في مصلاكم. فعبدوها من دون الله، حتى بعث الله نوحا فقالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً الآية. وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس: بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم تبع يقتدون بهم، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم، وليتسلوا بالنظر إليها، فصورهم. فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا: ليت شعرنا! هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر. فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت. قلت: وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة: أن أم حبيبة وام سلمة ذكرتا كنيسة رأينها «1» بالحبشة تسمى مارية، فيها تصاوير لرسول «2» الله صلي الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة (. وذكر الثعلبي عن ابن عباس قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم تذكروهم بها، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت من دون الله. وذكر أيضا عن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام، كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل بالهند، فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد، وأنا أصور لكم مثله تطوفون به، فصور لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها. فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. قال الماوردي: فأما ود
__________
(1). قوله:" رأيتها" بنون الجمع على أن أقل الجمع اثنان. أو على أنه كان معهما غيرهما من النسوة. (القسطلاني).
(2). قوله" لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" متعلق ب" ذكرتا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهو أول صنم معبود، سمي ودا لودهم له، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل، في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل. وفية يقول شاعرهم:
حياك ود فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر، في قولهم. وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ، في قول قتادة. وقال المهدوي. لمراد ثم لغطفان. الثعلبي: وأخذت أعلى وأنعم- وهما من طئ- واهل جرش من مذحج يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثم إن بني ناجية أرادوا نزعه من أعلى «1» وأنعم، ففروا به إلى الحصين أخي ببني الحارث بن كعب من خزاعة. وقال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أحرد «2»، ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل، فيضربون عليه بناء ينزلون حوله. وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع، «3» في قول عكرمة وقتادة وعطاء. ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: وأما يعوق فكان لكهلان من سبأ، ثم توارثه بنوه، الأكبر فالأكبر «4» حتى صار إلى همدان. وفية يقول مالك بن نمط الهمداني:
يريش الله في الدنيا ويبري ... ولا يبري يعوق ولا يريش
وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير، في قول قتادة، ونحوه عن مقاتل. وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير، فالله أعلم. وقرا نافع وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا بضم الواو. وفتحها الباقون. قال الليث: ود (بفتح الواو) صنم كان لقوم نوح.
__________
(1). زيادة عن تفسير الثعلبي.
(2). الحرد (بالتحريك): داء في القوائم إذا مشى البعير نفض قوائمه فضرب بهن الأرض كثيرا.
(3). موضع باليمن.
(4). زيادة عن تفسير الثعلبي. [.....]

مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)

وود (بالضم) صنم لقريش، وبه سمي عمرو بن ود. وفي الصحاح: والود (بالفتح) الوتد في لغة أهل نجد، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول امرئ القيس:
تظهر الود إذا ما أشجذت ... وتواريه إذا ما تعتكر «1»
قال ابن دريد: هو اسم جبل: وود صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار لكلب وكان بدومة الجندل، ومنه سموه عبد ود وقال: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ثم قال: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً الآية. خصها بالذكر، لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ «2» نُوحٍ [الأحزاب: 7]. (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) هذا من قول نوح، أي أضل كبراؤهم كثيرا من أتباعهم، فهو عطف على قوله: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً. وقيل: إن الأصنام أَضَلُّوا كَثِيراً أي ضل بسببها كثير، نظيره قول إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ «3» النَّاسِ [إبراهيم: 36] فأجرى عليهم وصف ما يعقل، لاعتقاد الكفار فيهم ذلك. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا) أي عذابا، قاله ابن بحر. وأستشهد بقوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ «4» وَسُعُرٍ [القمر: 47]. وقيل إلا خسرانا. وقيل إلا فتنة بالمال والولد. وهو محتمل.

[سورة نوح (71): آية 25]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
قوله تعالى: (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ «5» أُغْرِقُوا) (ما) صلة مؤكدة، والمعنى من خطاياهم وقال الفراء: المعنى من أجل خطاياهم، فأدت ما هذا المعنى. قال: وما تدل على المجازاة. وقراءة أبي عمرو خطاياهم على جمع التكسير، الواحدة خطية. وكان
__________
(1). الضمير في" تظهر" للديمة (المطر) في البيت قبل هذا. والود (بالفتح) الوتد. و" أشجذت" أقلعت وسكنت. و" تعتكر" تشتد، يقال: اعتكر المطر إذا اشتد. ويروى:" تشتكر" أي تحتفل. يريد: أن هذه السحابة توارى أوتاد البيوت إذا اشتدت وتبديها إذا كفت وأقلعت.
(2). راجع ج 14 ص 127.
(3). راجع ج 9 ص 368.
(4). راجع ج 17 ص 147.
(5). هكذا في نسخ الأصل، وهى قراءة.

الأصل في الجمع خطائي على فعائل، فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء، لان قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل، وهو معتل مع ذلك، فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الاولى ياء لخفائها بين الألفين. الباقون خَطِيئاتِهِمْ على جمع السلامة. قال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات، يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات. وقال قوم: خطايا وخطيات واحد، جمعان مستعملان في الكثرة والقلة، واستدلوا بقوله تعالى: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ «1» اللَّهِ [لقمان: 27] وقال الشاعر: «2»
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وقرى خَطِيئاتِهِمْ «3» وخطياتهم بقلب الهمزة ياء وإدغامها. وعن الجحدري وعمرو ابن عبيد والأعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي" خطيئتهم" على التوحيد، والمراد الشرك. (فَأُدْخِلُوا ناراً) أي بعد إغراقهم. قال القشيري: وهذا يدل على عذاب القبر. ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار، كما قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا»
[غافر: 46]. وقيل: أشاروا إلى ما في الخبر من قوله: (البحر نار في نار). وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي قال: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال أنشدني أبو بكر بن الأنباري:
الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثات فنون ذات أطوار

لا تعجبن لأضداد إن اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار
(فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً) أي من يدفع عنهم العذاب.
__________
(1). راجع ج 14 ص (77).
(2). هو حسان بن ثابت.
(3). في ا، ح:" خطاياهم".
(4). راجع ج 15 ص 319.

وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)

[سورة نوح (71): الآيات 26 الى 27]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27)
فيه أربع مسائل: الاولى: دعا عليهم حين يئس من أتباعهم إياه. وقال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1» [هود: 36] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته، وهذا كقول النبي صلي الله عليه وسلم: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب «2» وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم). وقيل: سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر بنوح فقال: (احذر هذا فإنه يضلك). فقال: يا أبت أنزلني، فأنزله فرماه فشجه، فحينئذ غضب ودعا عليهم. وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم. وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة. وقيل: بأربعين. قال قتادة: ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب. وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم، ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب، بدليل قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ «3» [الفرقان: 37]. الثانية- قال ابن العربي:" دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي صلي الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه، لان مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلي الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما، لعلمه بمالهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم". قلت: قد مضت هذه المسألة مجودة في سورة" البقرة" «4» والحمد لله.
__________
(1). راجع ج 9 ص (29).
(2). الزيادة عن ابن العربي.
(3). راجع ج 13 ص (31).
(4). راجع ج 2 ص 188.

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

الثالثة: قال ابن العربي:" إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة؟ قلنا قال الناس في ذلك وجهان: أحدهما- أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة، والشفاعة تكون عن رضا ورقة، فخاف أن يعاتب ويقال: دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم. الثاني- أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك، فخاف الدرك «1» فيه يوم القيامة، كما قال موسى عليه السلام: (إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها). قال: وبهذا أقول". قلت: وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36]. فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك، كما دعا نبينا صلي الله عليه وسلم على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال: (اللهم عليك بهم) لما أعلم عواقبهم، وعلى هذا يكون فيه معنى الامر بالدعاء. والله أعلم. الرابعة- قوله تعالى: (دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) أي من يسكن الديار، قاله السدي. وأصله ديوار على فيعال من دار يدور، فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى. مثل القيام، أصله قيوام. ولو كان فعالا لكان دوارا. وقال القتبي: أصله من الدار، أي نازل بالدار. يقال: ما بالدار ديار، أي أحد. وقيل: الديار صاحب الدار.

[سورة نوح (71): آية 28]
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
قوله تعالى: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وهما: لمك «2» بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش، ذكره القشيري والثعلبي. وحكى الماوردي في أسم أمه منجل.
__________
(1). الدرك (يسكن ويحرك): التبعة. [.....]
(2). في حاشية الجمل" لمك" بفتحتين أو بفتح فسكون. و" متوشلخ" بضم الميم وفتح التاء والواو وسكون الشين وكسر اللام. و" شمخى" بوزن سكرى.

وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجده. وقرا سعيد بن جبير" لوالدي" بكسر الدال على الواحد. قال الكلبي: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون. وقال ابن عباس: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) «1» أي مسجدي ومصلاي مصليا مصدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالمغفرة. وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم أغفر له اللهم أرحمه) الحديث. وقد تقدم. وهذا قول ابن عباس: بَيْتِيَ مسجدي، حكاه الثعلبي وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أي ولمن دخل ديني، فالبيت بمعنى الدين، حكاه القشيري وقاله جويبر. وعن ابن عباس أيضا: يعني صديقي الداخل إلى منزلي، حكاه الماوردي. وقيل: أراد داري. وقيل سفينتي. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) عامة إلى يوم القيامة، قاله الضحاك. وقال الكلبي: من أمة محمد صلي الله عليه وسلم. وقيل: من قومه، والأول أظهر. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي الكافرين. (إِلَّا تَباراً) إلا هلاكا، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. والتبار: الهلاك. وقيل: الخسران، حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ «2» [الأعراف: 139]. وقيل: التبار الدمار، والمعنى واحد. والله أعلم بذلك. وهو الموفق للصواب.

تم بعون الله الجزء الثامن عشر من تفسير القرطبي، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع عشر، وأوله:" سورة (الجن). بعون الله وجميل توفيقه، قد تم طبع الجزء الثامن عشر من" تفسير القرطبي" بمطبعة دار الكتب والوثائق القومية في شهر صفر سنة 1386 هـ (مايو سنة 1966) محمد حمدي جنيدي رئيس المطبعة
__________
(1). راجع ج 1 ص (351)
(2). راجع ج 7 ص 273.

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)

[الجزء التاسع عشر]

[تفسير سورة الجن ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة الجن مكية في قول الجميع. وهي ثمان وعشرون آية

[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أي قل يا محمد لأمتك: أوحى الله إلي على لسان جبريل أَنَّهُ اسْتَمَعَ إلي نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه. هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي. وقرا ابن أبي عبلة" أحى" «1» على الأصل، يقال: أوحى إليه ووحى، فقلبت الواو همزة، ومنه قوله تعالى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح «2» وإسادة و" إعاء أخيه" ونحوه. الثانية- واختلف هل رآهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لا؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم، لقوله تعالى: اسْتَمَعَ، وقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29]. وفي صحيح مسلم والترمذي «3» عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). في الأصول (وحى)، والصواب ما أثبتناه وهو موافق لما جاء في (تاج العروس: وحى) قال: وقرا جوية الأسدي: (قل أحى إلي) ولم ينسب القراءة لابن أبي عبلة.
(2). لفظ (أشاح) ساقط من الأصل المطبوع.
(3). اللفظ لمسلم وأما الترمذي ففي لفظه زيادة.

على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب! قالوا: ما ذاك إلا من شي حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة «1» عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «2». يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ. رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قول الجن لقومهم لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قال: لما رأوه يصلى وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال «3»: تعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم: لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن: 19]. قال: هذا حديث حسن صحيح، ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفية دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب. وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا. وقيل لهم شياطين كما قال: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الانعام: 112] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله. وفي الترمذي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيها «4»، فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا الامر «5» إلا من «6» أمر قد حدث في الأرض!
__________
(1). كذا في ا، ح، ط وهو الصواب.
(2). في ح: (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى قرآنا عجبا) .. إلخ.
(3). في ح: (ويسجدون معه ..).
(4). كلمة (فيها) ساقطة من الأصل المطبوع.
(5). كلمة (الامر) ساقطة من الأصل المطبوع.
(6). في ط (عن) في موضع (من).

فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما يصلي بين جبلين- أراه قال بمكة- فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحدث «1» الذي حدث في الأرض. قال: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين. وفي رواية السدي: أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال: ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال: صاحبكم بمكة. فبعث نفرا من الجن، قيل: كانوا سبعة. وقيل: تسعة منهم زوبعة. وروى عاصم عن زر قال: قدم رهط زوبعة وأصحابه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الثمالي: أنهم من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وأقواهم شوكة وهم عامة جنود إبليس. وروى أيضا عاصم عن زر: أنهم كانوا سبعة نفر، ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين. وحكى جويبر عن الضحاك: أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين (قرية باليمن غير التي بالعراق) «2». وقيل: إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى. وقد مضى بيان هذا في سورة (الأحقاف) «3». قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] وقد مضى في سورة" الأحقاف" التعريف باسم النفر من الجن، فلا معنى لاعادة ذلك. وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت، روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير «4» أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجئ من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: [أتاني داعي الجن فذهبت معه
__________
(1). كلمة (الحدث) ساقطة من الأصل المطبوع.
(2). لم نجد نصيبين التي ذكرها المؤلف في معجم ما استعجم للبكري ولا في معجم البلدان لياقوت ولا فيما نقله صاحب تاج العروس عن ياقوت. [.....]
(3). راجع ج 16 ص (211)
(4). في التاج: استطير فلان: ذعر.

فقرأت عليهم القرآن [فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، فقال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم- فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم الجن) قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس، لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقد قيل: إن الجن أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفعتين: إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. قال البيهقي: الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرا عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود قال البيهقي: والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم. قال: وقد روى من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ، وقد مضى هذا المعنى في سورة" الأحقاف" والحمد لله. روي عن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟" فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب «1» فخط علي خطا فقال: (لا تجاوزه) ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون «2» الحجارة بأقدامهم، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إلي قال:" أردت أن تأتيني"؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال:" ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر".
__________
(1). شعب أبي دب يقال فيه مدفن آمنة بنت وهب أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2). يحدرون الحجارة بضم الدال وكسرها: يحطونها من علو إلى سفل.

قال عكرمة: وكانوا اثنى عشر ألفا من جزيرة الموصل. وفي رواية: انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط «1» وكان وجوههم المكاكي «2»، فقالوا: ما أنت؟ قال:" أنا نبي الله" قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال:" هذه الشجرة" فقال:" يا شجرة" فجاءت تجر عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: [على ماذا تشهدين [قالت: أشهد أنك رسول الله. فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة، لها قعاقع حتى عادت كما كانت. ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال: [هل من وضوء [قال: لا، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ. فقال: [هل هو إلا تمر وماء [فتوضأ منه. قد الثالثة- قد مضى الكلام في الماء في سورة" الحجر" «3» وما يستنجى به في سورة" براءة" «4» فلا معنى للإعادة. الرابعة- واختلف أهل العلم، في أصل الجن، فروى إسماعيل عن الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والانس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين، وهم يؤمنون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة، على حسب الاختلاف في أصلهم. فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم. ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان: أحدهما- وهو قول الحسن يدخلونها. الثاني- وهو رواية مجاهد
__________
(1). الزط: جنس من الهنود لونهم ضارب إلى السواد.
(2). المكاكي: جمع مكوك وهو طاس يشرب فيه أعلاه ضيق ووسطه واسع ومكيال معروف لأهل العراق بهذه الصفة أيضا. ولعله من باب قول العرب: ضرب مكوك رأسه على التشبيه.
(3). راجع ج 10 ص 15 فما.
(4). راجع ج 8 ص 259 فما.

لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. حكاه الماوردي. وقد مضى في سورة" الرحمن" «1» عند قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 56] بيان أنهم يدخلونها. الخامسة- قال البيهقي في روايته: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال: [لكم كل عظم ] دليل على أنهم يأكلون ويطعمون. وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد «2» سبحانه، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله. وليس يمتنع أن يراهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورهم كما يرى الملائكة. وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات، ففي الموطأ: أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنصاف النهار أن يرجع إلى أهله ... الحديث، وفية: فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها. وذكر الحديث. وفي الصحيح أنه عليه السلام قال:" إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر". وقال:" اذهبوا فادفنوا صاحبكم" «3» وقد مضى هذا المعنى في سورة" البقرة" «4» وبيان التحريج عليهن. وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة، لقوله في الصحيح:" إن بالمدينة جنا قد أسلموا". وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها. قلنا: هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها، لأنه»
لم يعلل بحرمة المدينة، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها، وإنما علل بالإسلام، وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقى: [وكانوا من جن الجزيرة [، وهذا بين يعضده قوله: [ونهى عن عوامر البيوت [وهذا عام. وقد مضى في سورة (البقرة) القول في هذا فلا معنى للإعادة.
__________
(1). راجع ج 17 ص 181.
(2). الواحد الواحد: كذا في بعض الأصول وفي بعضها بلا تكرار. وفي الشوكاني:- إنما الواحد الله سبحانه.
(3). هذا ينبغي أن يكون قبل الحديث السابق له كما في ابن العربي.
(4). راجع ج 1 ص 315
(5). في هامش ح: لا لأنه

قوله تعالى: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أي في فصاحة كلامه. وقيل: عجبا في بلاغة مواعظه. وقيل: عجبا في عظم بركته. وقيل: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله. وقيل: يعنون عظيما. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي إلى مراشد الأمور. وقيل: إلى معرفة الله تعالى، ويَهْدِي في موضع الصفة أي هاديا. فَآمَنَّا بِهِ أي فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً
أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه، لأنه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر، ثم رمى الجن بالشهب. وقيل لا نتخذ مع الله إلها آخر، لأنه المتفرد بالربوبية. وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن. وقوله تعالى: اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ أي استمعوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلموا أن ما يقرؤه كلام الله. ولم يذكر المستمع إليه لدلالة الحال عليه. والنفر الرهط، قال الخليل: ما بين ثلاثة إلى عشرة. وقرا عيسى الثقفي يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ بفتح الراء والشين. قوله تعالى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمى ينصبون (أن) في جميع السورة في اثنى عشر موضعا، وهو «1»: أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ، وَأَنَّا ظَنَنَّا، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ، وَأَنَّا لا نَدْرِي، وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى ، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ عطفا على قوله: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ، وأَنَّهُ اسْتَمَعَ لا يجوز فيه إلا الفتح، لأنها في موضع اسم فاعل أُوحِيَ فما بعده معطوف عليه. وقيل: هو محمول على الهاء في فَآمَنَّا بِهِ، أي وب- أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع (أن). وقيل: المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا. وقرا الباقون كلها بالكسر وهو الصواب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا لأنه كله «2» من كلام الجن. وأما أبو جعفر
__________
(1). كلمة (وهو) موجود في الأصول ح، و، ط، ص وليست موجودة في الأصل ا. والضمير راجع إلى النصب. [.....]
(2). كلمة (كله) ساقطة من ح.

وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع، وهي قوله تعالى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ، قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي، لأنه من كلام الجن. وأما قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: 19]. فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم، فإنهم كسروا لا غير. ولا خلاف في فتح همزة أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ، وأَنْ قَدْ أَبْلَغُوا. وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول، نحو قوله تعالى: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا وقال «1» إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي [الجن: 20] وقُلْ إِنْ أَدْرِي [الجن: 25]. وقُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ [الجن: 21]. وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء، نحو قوله تعالى: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: 23] وفَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [الجن: 27]. لأنه موضع ابتداء. قوله تعالى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا «2» الجد في اللغة: العظمة والجلال، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا، أي عظم وجل. فمعنى: جَدُّ رَبِّنا أي عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة. وعن مجاهد أيضا: ذكره. وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا: غناه. ومنه قيل للحظ جد، ورجل مجدود أي محظوظ، وفي الحديث: [ولا ينفع ذا الجد منك الجد [قال أبو عبيدة والخليل: أي ذا الغنى، منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرته. الضحاك: فعله. وقال القرظي والضحاك أيضا: آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة والأخفش: ملكه وسلطانه. وقال السدي: أمره. وقال سعيد بن جبير: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي تعالى ربنا. وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب، ويكون هذا من قول الجن. وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد، وإنما قالته الجن للجهالة، فلم يؤاخذوا به. وقال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى، إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنبه أولى. وقراءة عكرمة (جد) بكسر الجيم: على ضد الهزل. وكذلك
__________
(1). كذا في الأصل على قراءة نافع. وقراءة حفص (قل).
(2). كذا في ا، ح، ط. وفي الطبعة الاولى: (جَدُّ رَبِّنا).

وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)

قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع. ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الأشهب جدا ربنا، وهو الجدوى والمنفعة. وقرا عكرمة أيضا (جد) بالتنوين (ربنا) بالرفع على أنه مرفوع، ب- تَعالى ، و" جدا" منصوب على التمييز. وعن عكرمة أيضا (جد) بالتنوين والرفع (ربنا) بالرفع على تقدير: تعالى جد جد ربنا، فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومعنى الآية: وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستيناس بهما والحاجة إليهما، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء.

[سورة الجن (72): الآيات 4 الى 7]
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)
قوله تعالى: (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً) الهاء في أَنَّهُ للأمر أو الحديث، وفي كانَ اسمها، وما بعدها الخبر. ويجوز أن تكون كانَ زائدة. والسفيه هنا إبليس في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة بن «1» أبي موسى عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: المشركون من الجن: قال قتادة: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الانس. والشطط والاشتطاط: الغلو في الكفر. وقال أبو مالك: هو الجور. الكلبي: هو الكذب. وأصله البعد فيعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق، قال الشاعر:
بأية حال حكموا فيك فاشتطوا ... وما ذاك إلا حيث يممك «2» الوخط
قوله تعالى: (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي حسبنا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق. وقرا يعقوب
__________
(1). في ا، ح: (أبي بردة عن أبي موسى). تحريف.
(2). يممك: قصدك. والوخط: الطعن بالرمح ومن معانيه أيضا: الشيب.

والجحدري وابن أبي إسحاق أَنْ لَنْ تَقُولَ «1». وقيل: انقطع الاخبار عن الجن ها هنا فقال الله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله: أَنَّهُ اسْتَمَعَ [الجن: 1]، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى. والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، قاله الحسن وابن زيد وغيرهما. قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم. وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي، [أنا «2»] جارك. فنادى مناد يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد «3». وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي زاد الجن الانس رَهَقاً أي خطيئة وإثما، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرهق: الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم، ورجل رهق إذا كان كذلك، ومنه قوله تعالى: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يونس: 27] وقال الأعشى:
لا شي ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفى وامق «4» ما لم يصب رهقا
يعني إثما. وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها. وقال مجاهد أيضا: فَزادُوهُمْ أي إن الانس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الانس والجن. وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الانس بهذا فرقا وخوفا من الجن. وقال سعيد ابن جبير: كفرا. ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك. وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجن، فالمعنى: وأنه كان رجال من الانس يعوذون من شر الجن
__________
(1). قال الآلوسي: (تقول): أصله تتقول بتاءين فحذفت إحداهما فكذبا مصدر مؤكد لان الكذب هو التقول
(2). الزيادة من الدر المنثور للسيوطي.
(3). يشتد: يعدو.
(4). في ا، ح وفتح القدير للشوكاني: (عاشق).

وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)

برجال من الانس، وكان الرجل من الانس يقول مثلا: أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن. قوله تعالى: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً) هذا من قول الله تعالى للانس أي وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم. الكلبي: المعنى: ظنت الجن كما ظنت الانس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه «1» يقيم به الحجة عليهم. وكل هذا توكيد للحجة على قريش، أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد، فأنتم أحق بذلك.

[سورة الجن (72): الآيات 8 الى 10]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)
قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ هذا من قول الجن، أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا فَوَجَدْناها قد مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً أي حفظة، يعني الملائكة. والحرس: جمع حارس وَشُهُباً جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع. وقد مضى القول فيه في سورة" الحجر" «2»" والصافات" «3». و" وجد" يجوز أن يقدر متعديا إلى مفعولين، فالأول الهاء والألف، ومُلِئَتْ في موضع المفعول الثاني. ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون مُلِئَتْ في موضع الحال على إضمار قد. وحَرَساً نصب على المفعول الثاني ب- مُلِئَتْ. وشَدِيداً من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا.
__________
(1). جملة: (إلى خلقه) ساقطة من ح، و.
(2). راجع ج 10 ص 10
(3). راجع ج 15 ص 66.

ووحد الشديد على لفظ الحرس، وهو كما يقال: السلف الصالح بمعنى الصالحين، وجمع السلف أسلاف «1» وجمع الحرس أحراس، قال: «2»
(تجاوزت أحراسا وأهوال معشر)

ويجوز أن يكون حَرَساً مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة. قوله تعالى: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) مِنْها أي من السماء، ومَقاعِدَ: مواضع يقعد في مثلها لاستماع الاخبار من السماء، يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً يعني بالشهاب: الكوكب المحرق، وقد تقدم بيان ذلك. ويقال: لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو آية من آياته. واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال الكلبي وقال «3» قوم: لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه: خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا من السموات كلها، وحرست بالملائكة والشهب. قلت: ورواه عطية العوفي عن ابن عباس، ذكره البيهقي. وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعت الشياطين، ورموا بالشهب. وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرست السماء، ورميت الشياطين بالشهب،
__________
(1). كذا في ا، ط، و، ح: في موضع أو.
(2). هو امرؤ القيس. ويروى:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا

وتمام البيت وهو من معلقته:
على حراصا لو يشرون مقتلي

[.....]
(3). الفعل (قال) زائد في ط. والصواب إسقاطه كما في ا، ح، و.

ومنعت عن الدنو من السماء. وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رميت بالشهب. ونحوه عن أبي بن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرمى بها. وقيل: كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنذارا بحاله، وهو معنى قوله تعالى: مُلِئَتْ أي زيد في حرسها، وقال أوس بن حجر وهو جاهلي:
فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
وهذا قول الأكثرين. وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال: كل شعر روي فيه فهو مصنوع، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث. والقول بالرمي أصح، لقوله تعالى: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وهذا إخبار عن الجن، أنه «1» زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم، ولما روى عن ابن عباس قال: بينما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم، فقال: [ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية [؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه، فتتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه [. وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث. وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس. وفي آخره قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله سبحانه: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونحوه قال القتبي. قال ابن قتيبة: كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث، وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأحوال، فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعت من ذلك أصلا. وقد تقدم بيان هذا في سورة" الصافات" «2»
__________
(1). في ط: (وقد زيد). وفي ا، ح: (لقد زيد).
(2). راجع ج 15 ص 65.

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)

عند قوله: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ [الصافات: 9- 8] قال الحافظ: فلو قال قائل: كيف تتعرض الجن لإحراق نفسها بسبب استماع خبر، بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ فالجواب: أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة، كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله تعالى قال له: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ [الحجر: 35] ولولا هذا لما تحقق التكليف. والرصد: قيل من الملائكة، أي ورصدا من الملائكة. والرصد: الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس، والواحد: راصد. وقيل: الرصد هو الشهاب، أي شهابا قد أرصد له، ليرجم به، فهو فعل بمعنى مفعول كالخبط والنفض. قوله تعالى: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي خيرا. قال ابن زيد. قال إبليس لا ندري: هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا أو يرسل إليهم رسولا. وقيل: هو من قول الجن فيما بينهم قبل أن يسمعوا قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا، فالشر والرشد على هذا الكفر والايمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل: لا، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين، أي لما آمنوا أشفقوا ألا يؤمن كثير من أهل الأرض فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم «1» يؤمنون؟

[سورة الجن (72): الآيات 11 الى 12]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)
__________
(1). كذا في ط، وهو الصواب. وفي سائر الأصول: أو.

قوله تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ هذا من قول الجن، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون. وقيل: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي ومن دون الصالحين في الصلاح، وهو أشبه من حمله على الايمان والشرك. (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي فرقا شتى، قاله السدي. الضحاك: أديانا مختلفة. قتادة: أهواء متباينة، ومنه قول الشاعر:
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى: أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين: منهم كفار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. وقال المسيب: كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس. وقال السدي في قوله تعالى: طَرائِقَ قِدَداً قال: في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة، وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية. وقال قوم: أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون: منا المؤمنون ومنا الكافرون. أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح. والأول أحسن، لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [الأحقاف: 30] وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الايمان. وأيضا لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر. والطرائق: جمع الطريقة وهي مذهب الرجل، أي كنا فرقا مختلفة. ويقال: القوم طرائق أي على مذاهب شتى. والقدد: نحو من الطرائق وهو توكيد لها، واحدها: قدة. يقال: لكل طريق قدة، واصلها من قد السيور، وهو قطعها، قال لبيد يرثى أخاه أربد «1»:
لم تبلغ العين كل نهمتها ... ليلة تمسى الجياد كالقدد «2»
__________
(1). في ز: (مربد). وفي سائر الأصول: (زيدا) وهو تحريف. والتصويب عن شرح القاموس.
(2). يقول لبيد: لم تبلغ العين من البكاء على أربد كل ما تريد في هذه الليلة التي فيها الخيل كالقدد من شدة السير والاتعاب.

وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)

وقال آخر «1»:
ولقد قلت وزيد حاسر ... يوم ولت خيل عمرو قددا
والقد بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ، ويقال: ماله قد ولا قحف، فالقد: إناء من جلد، والقحف: من خشب. قوله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ الظن هنا بمعنى العلم واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ [الجن: 5]، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا [الجن: 7] أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله، أنا في قبضته وسلطانه، لن نفوته بهرب ولا غيره. وهَرَباً مصدر في موضع الحال أي هاربين.

[سورة الجن (72): الآيات 13 الى 15]
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى يعني القرآن آمَنَّا بِهِ وبالله، وصدقنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رسالته. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوثا إلى الانس والجن. قال الحسن: بعث الله محمدا صلى عليه وسلم إلى الانس والجن، ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن، ولا من أهل البادية، ولا من النساء، وذلك قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف: 109] وقد تقدم هذا المعنى «2». وفي الصحيح:" وبعثت إلى الأحمر والأسود" أي الانس والجن. (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) قال ابن عباس: لا يخاف
__________ (1). هو لبيد صاحب البيت الذي قبله كما في فتح القدير للشوكاني.
(2). راجع ج 9 ص 274

وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته، لان البخس النقصان، والرهق: العدوان وغشيان المحارم، قال الأعشى:
لا شي ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفى وامق ما لم يصب رهقا
الوامق: المحب، وقد ومقه يمقه بالكسر أي أحبه، فهو وامق. وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجن، لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم. وقراءة العامة فَلا يَخافُ رفعا على تقدير فإنه لا يخاف. وقرا الأعمش ويحيى «1» وإبراهيم" فلا يخف" جزما على جواب الشرط وإلغاء الفاء. قوله تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر. والقاسط: الجائر، لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل، لأنه عادل إلى الحق، [يقال: [قسط: أي جار، وأقسط: إذا عدل، قال الشاعر:
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان
(فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ومنه تحرى القبلةَ- أَمَّا الْقاسِطُونَ)
أي الجائرون عن طريق الحق والايمانَ كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)
أي وقودا. وقوله:كانُوا
أي في علم الله تعالى.

[سورة الجن (72): الآيات 16 الى 17]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
قوله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ هذا من قول الله تعالى. أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وهذا محمول على الوحي، أي أوحى إلي أن لو استقاموا. ذكر ابن بحر: كل ما في هذه السورة من (إن) المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من
__________
(1). في ا، ح: (ويحبى عن إبراهيم).

أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن الأنباري: ومن كسر الحروف وفتح وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أضمر يمينا تاما، تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة، كما يقال في الكلام: والله أن قمت لقمت، ووالله لو قمت قمت، قال الشاعر:
أما والله أن لو كنت حرا ... وما بالحر أنت ولا العتيق
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها- أعني الخفيفة- على أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أو على آمَنَّا بِهِ وبأن لو استقاموا «1». ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى (أن) المخففة، أن يعطف المخففة على أُوحِيَ إِلَيَّ أو على آمَنَّا بِهِ، ويستغنى عن إضمار اليمين. وقراءة العامة بكسر الواو من لَوِ لالتقاء الساكنين، وقرا ابن وثاب والأعمش بضم الواو. وماءً غَدَقاً أي واسعا كثيرا، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين، يقال: غدقت العين تغدق، فهي غدقة، إذا كثر ماؤها. وقيل: المراد الخلق كلهم أي لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ طريقة الحق والايمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي كثيرا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم. وقال عمر في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. فمعنى لَأَسْقَيْناهُمْ لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا، لان الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه، كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] أي بالمطر. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن: كان والله أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي، ففتنوا بها، فوثبوا على إمامهم فقتلوه. يعني عثمان بن عفان. وقال الكلبي وغيره: وَأَنْ
__________
(1). وفي حاشية الجمل نقلا عن القرطبي (قال ابن الأنباري: ومن قرأ بالكسر فيما تقدم وفتح (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا): أضمر قسما تقديره: والله (أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، أو عطفه على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) أو على (آمَنَّا بِهِ). وعلى هذا يكون جميع ما تقدم معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه.)

لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم حتى يفتتنوا بها، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة. وهذا قول قاله الربيع ابن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز، واستدلوا بقوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الانعام: 44] الآية. وقوله تعالى: وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: 33] الآية، والأول أشبه، لان الطريقة معرفة بالألف واللام، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى، ولان الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا) قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: (بركات الأرض ..) وذكر الحديث. وقال عليه السلام: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا [كما بسطت على من «1» قبلكم ] فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم (. قوله تعالى:) وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) يعني القرآن، قاله ابن زيد. وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما عن القبول، إن قيل إنها في أهل الكفر. الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين. وقيل: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أي لم يشكر نعمه (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو يَسْلُكْهُ بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لذكر اسم الله أولا فقال: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ. الباقون" نسلكه" بالنون. وروى عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام. وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان، سلكه وأسلكه بمعنى، أي ندخله. عَذاباً صَعَداً أي شاقا شديدا. قال ابن عباس: هو جبل، في جهنم. [الخدري: «2» [كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أن المعنى مشقة من العذاب. وذلك معلوم في اللغة أن الصعد: المشقة، تقول: تصعدني الامر: إذا شق عليك، ومنه قول عمر: ما تصعدني شي ما تصعدتني خطبة النكاح، أي ما شق علي.
__________
(1). الزيادة من صحيح الترمذي.
(2). زيادة من ا، ح، ل.

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)

وعذاب صعد أي شديد. والصعد: مصدر صعد، يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب، لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقال أبو عبيدة: الصعد مصدر، أي عذابا ذا صعد، والمشي في الصعود يشق. والصعود: العقبة الكئود. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء، يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها، ولا يبلغ في أربعين سنة. فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضا صعودها، فذلك دأبه أبدا، وهو قوله تعالى: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر: 17].

[سورة الجن (72): آية 18]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أَنَّ بالفتح، قيل: هو مردود إلى قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: 1] أي قل أوحى إلي أن المساجد لله. وقال الخليل: أي ولان المساجد لله. والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة. وقال سعيد بن جبير: قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك؟ فنزلت: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أي بنيت لذكر الله وطاعته. وقال الحسن: أراد بها كل البقاع، لان الأرض كلها مسجد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: [أينما كنتم فصلوا [] فأينما صليتم فهو مسجد [وفي الصحيح: [وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا [. وقال سعيد بن المسيب وطلق ابن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه، يقول: هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد لغيره بها، فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك: أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها. وفي الصحيح عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة- وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين (. وقال العباس قال النبي

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب «1»]. وقيل: المساجد هي الصلوات، أي لان السجود لله. قاله الحسن أيضا. فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم، ويقال بالفتح، حكاه الفراء. وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم. وقيل: هو جمع مسجد وهو السجود، يقال: سجدت سجودا ومسجدا، كما تقول: ضربت في الأرض ضربا ومضربا بالفتح: إذا سرت في ابتغاء الرزق. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة المساجد، لان كل أحد يسجد إليها. والقول الأول أظهر هذه الأقوال إن شاء الله، وهو مروي عن ابن عباس رحمه الله. الثانية- قوله تعالى: لِلَّهِ إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذكر منها البيت العتيق فقال: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج: 26]. وقال عليه السلام: [لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد [الحديث خرجه الأئمة. وقد مضى الكلام «2» فيه. وقال عليه السلام: [صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام [. قال ابن العربي: وقد روى من طريق لا بأس بها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا «3»] ولو صح هذا لكان نصا. قلت: هو صحيح بنقل العدل عن العدل حسب ما بيناه في سورة" إبراهيم" «4». الثالثة- المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفا، فيقال: مسجد فلان. وفي صحيح الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء»
وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد
__________
(1). آراب: أعضاء واحدها (إرب) بالكسر ثم السكون.
(2). راجع ج 10 ص 211 والرواية المشهورة في الصحاح (لا تشد الرجال) كما مر للقرطبي. [.....]
(3). كلمة هذا ساقطة من الأصل المطبوع.
(4). راجع ج 9 ص (371)
(5). في معجم البلدان لياقوت: الحفياء: بالفتح ثم السكون وياء وألف ممدودة: موضع قرب المدينة أجرى منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخيل في السباق. وقال سفيان بين الحفياء إلى الثنية خمسة أميال.

بني زريق. وتكون هذه الإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم، وقد تكون بتحبيسهم، ولا خلاف بين الامة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك. الرابعة- مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال. ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل. ويجوز حبس الغريم فيها، وربط الأسير والنوم فيها، وسكنى المريض فيها، وفتح الباب للجار «1» إليها، وإنشاد الشعر فيها إذا عرى عن الباطل. وقد مضى هذا كله مبينا في سورة" براءة" «2». و" النور" «3» وغيرهما. الخامسة- قوله تعالى: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام. وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها. يقول: فلا تشركوا فيها صنما وغيره «4» مما يعبد. وقيل: المعنى أفردوا المساجد لذكر الله، ولا تتخذوها هزوا ومتجرا ومجلسا، ولا طرقا، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا. وفى الصحيح: [من نشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا [وقد مضى في سورة" النور" ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله. السادسة- روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان إذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى. وقال: [وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار [فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى، وقال: [اللهم صب علي الخير صبا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدا، واجعل لي في الأرض جدا «5»] أي غنى.
__________
(1). كذا في ابن العربي. وفي ط: للمار إليها.
(2). راجع ج 8 ص (104)
(3). راجع 12 ص (265)
(4). كذا في الأصول كلها يريد: ولا غيره.
(5). الجد بالفتح: الحظ والغنى كما في اللسان.

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)

[سورة الجن (72): الآيات 19 الى 21]
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21)
قوله تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) يجوز الفتح، أي أوحى الله إليه أنه. ويجوز الكسر على الاستئناف. وعَبْدُ اللَّهِ هنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين كان يصلي ببطن «1» نخلة ويقرأ القرآن، حسب ما تقدم أول السورة. يَدْعُوهُ أي يعبده. وقال ابن جريج: يَدْعُوهُ أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى. (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) قال الزبير بن العوام: هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون، حرصا على سماع القرآن. وقيل: كادوا يركبونه حرصا، قاله الضحاك. ابن عباس: رغبة في سماع الذكر. وروى برد عن مكحول: أن الجن بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر. وعن ابن عباس أيضا: إن هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وايتمامهم به في الركوع والسجود. وقيل: المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا، حردا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ محمد بالدعوة تلبدت الانس والجن على هذا الامر ليطفئوه، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره. واختار الطبري أن يكون المعنى: كادت العرب يجتمعون على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به. وقال مجاهد: قوله لِبَداً جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع، ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه «2»، وكل شي ألصقته إلصاقا شديدا
__________
(1). في تاج العروس: (نخلة): موضع بين مكة والطائف ويقال له (بطن نخلة).
(2). في ا، ح: (صفوفه). وفي ط (صفه).

فقد لبدته، وجمع اللبدة لبد مثل قربة وقرب. ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد، قال زهير:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم
ويقال للجراد الكثير: لبد. وفية أربع لغات وقراءات، فتح الباء وكسر اللام، وهي قراءة العامة. وضم اللام وفتح الباء، وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام عن أهل الشام، واحدتها لبدة. وبضم اللام والباء، وهي قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع وأبي الأشهب العقيلي والجحدري واحدها لبد مثل سقف وسقف ورهن ورهن. وبضم اللام وشد الباء وفتحها، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والأعرج والجحدري أيضا «1» واحدها لا بد، مثل راكع وركع، وساجد وسجد. وقيل: اللبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم، ومنه قيل لنسر لقمان لبد لدوامه وبقائه، قال النابغة:
أخنى عليها الذي أخنى على لبد «2»

القشيري: وقرى (لبدا) بضم اللام والباء، وهو جمع لبيد، وهو الجولق «3» الصغير. وفي الصحاح: [وقوله تعالى ] أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي جما «4». ويقال أيضا: الناس لبد أي مجتمعون، واللبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح [منزله «5»]. قال الشاعر «6»:
من امرئ ذي سماح لا تزال له ... بزلاء يعيا بها الجثامة اللبد
ويروى: اللبد. قال أبو عبيد: وهو أشبه. [والبزلاء: الرأي الجيد. وفلان نهاض ببزلاء: إذا كان ممن يقوم بالأمور العظام، قال الشاعر:
إني إذا شغلت قوما فروجهم ... رحب المسالك نهاض ببزلاء
«7»]
__________
(1). كلمة (أيضا) ساقطة من ا، ز، ح: ط.
(2). هذا عجز البيت وسيأتي بتمامه.
(3). في الأصول: (الجولق) تحريف.
(4). في ا، ح، ل: (جمعا). [.....]
(5). الزيادة من اللسان مادة (لبد).
(6). هو الراعي: والبزلاء أيضا الحاجة التي أحكم أمرها والجثامة الذي لا يبرح من محله وبلدته. وصدره كما في اللسان والتاج:
من أمر ذي بدوات لا تزال له

(7). ما بين المربعين ساقط من ا، ح، و، ط.

قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)

ولبد: آخر نسور لقمان، وهو ينصرف، لأنه ليس بمعدول. وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات «1» سمر، من أظب عفر، في جبل وعر، لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور، وكان آخر نسوره يسمى لبدا، وقد ذكرته الشعراء، قال النابغة:
أضحت خلاء وأمسى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
واللبيد: الجوالق الصغير، يقال: ألبدت القربة جعلتها في لبيد. ولبيد: اسم شاعر من بني عامر. قوله تعالى: (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) أي قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً وكذا قرأ أكثر القراء (قال) على الخبر. وقرا حمزة وعاصم قُلْ على الامر. وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك، فنزلت قوله تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا. وقيل: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أي كفرا وَلا رَشَداً أي هدى، أي إنما علي التبليغ. وقيل: الضر: العذاب، والرشد النعيم. وهو الأول بعينه. وقيل: الضر الموت، والرشد الحياة.

[سورة الجن (72): الآيات 22 الى 25]
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)
__________
(1). قال شارح القاموس: هو بالعين المهملة، ويوجد في بعض نسخ الصحاح (بقرات) بالقاف. والذي في نسخ القاموس هو الأشبه إذ لا تتولد البقر من الظباء.

قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) أي لا يدفع عذابه عني أحد إن استحفظته، وهذا لأنهم قالوا أترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك. وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط علي خطا، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أزجلهم «1» عنك، فقال: (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) ذكره الماوردي. قال: ويحتمل معنيين أحدهما لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد. الثاني لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحد. (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي ملتجأ ألجأ إليه، قال قتادة. وعنه: نصيرا ومولى. السدي: حرزا. الكلبي: مدخلا في الأرض مثل السرب. وقيل: وليا ولا مولى. وقيل: مذهبا ولا مسلكا. حكاه ابن شجرة، والمعنى واحد، ومنه قول الشاعر:
يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحد
(إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ) فإن فيه الأمان والنجاة، قال الحسن. وقال قتادة: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ فذلك الذي أملكه بتوفيق الله، فأما الكفر والايمان فلا أملكهما. فعلى هذا يكون مردودا إلى قوله تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي لا أملك لكم إلا أن أبلغكم. وقيل: هو استثناء ومنقطع من قوله: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي إلا أن أبلغكم أي لكن أبلغكم ما أرسلت به، قاله الفراء. وقال الزجاج: هو منصوب على البدل من قوله: مُلْتَحَداً أي وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إلا أن أبلغ ما يأتيني من الله ورسالاته، أي ومن رسالاته التي أمرني بتبليغها. أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالته، فآخذ نفسي بما أمر به غيري. وقيل هو مصدر، ولا بمعنى لم، و(إن) للشرط. والمعنى لن أجد من دونه ملتحدا: أي إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا. قوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في التوحيد والعبادة. فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ كسرت إن، لان ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء وقد تقدم. خالِدِينَ فِيها نصب على
__________
(1). أزجلهم: أي أدفعهم. وفي ز، ط، ل: أزحلهم بالحاء أي أنحيهم.

عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)

الحال، وجمع خالِدِينَ لان المعنى لكل من فعل ذلك، فوحد أولا للفظ مِنَ ثم جمع للمعنى. وقوله أَبَداً دليل على أن العصيان هنا هو الشرك. وقيل: هو المعاصي غير الشرك، ويكون معنى خالِدِينَ فِيها أَبَداً إلا أن أعفو أو تلحقهم شفاعة، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الايمان يلحقهم العفو. وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة" النساء" «1» وغيرها. قوله تعالى: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ حَتَّى هنا مبتدأ، أي حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من عذاب الآخرة، أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل ببدر فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً أهم أم المؤمنون. وَأَقَلُّ عَدَداً معطوف. قوله تعالى: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) يعني قيام الساعة. وقيل: عذاب الدنيا، أي لا أدري ف- إِنْ بمعنى (ما) أو (لا)، أي لا يعرف وقت نزول العذاب ووقت قيام الساعة إلا الله، فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله. وما في قوله: ما تُوعَدُونَ: يجوز [أن يكون مع الفعل مصدرا، ويجوز «2»] أن تكون بمعنى الذي ويقدر حرف العائد. (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) أي غاية وأجلا. وقرا العامة بإسكان الياء من ربي. وقرا الحرميان وأبو عمرو بالفتح.

[سورة الجن (72): الآيات 26 الى 27]
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ عالِمُ رفعا نعتا لقوله: رَبِّي. وقيل: أي هو عالِمُ الْغَيْبِ والغيب ما غاب عن العباد. وقد تقدم بيانه في أول سورة (البقرة) «3» (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه،
__________
(1). راجع ج 5 ص 333.
(2). ما بين المربعين ساقط من الأصل المطبوع، ط.
(3). راجع ج 1 ص 163.

لان الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الاخبار عن بعض الغائبات، وفي التنزيل «1»: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: 49]. وقال ابن جبير: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ هو جبريل عليه السلام. وفية بعد، والاولى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه «2»: ليكون ذلك دالا على نبوته. الثانية- قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب وأستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسوقة، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجم قبحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم. وفية استحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
حكم المنجم أن طالع مولدي ... يقضي علي بميتة الغرق
قل للمنجم صبحة الطوفان هل ... ولد الجميع بكوكب الغرق

وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر في العقرب؟ فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه
__________
(1). راجع ج 4 ص 95.
(2). في ح: (من غيبه بطريق الوحى إليهم ليكون ..).

الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والافحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولم؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رضي الله عنه: ما كان لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منجم، ولا لنا من بعده «1»- من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل- فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا أو ضدا، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقى القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منجم ولا لنا من بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان- ثم قال: يا أيها الناس! توكلوا على الله وثقوا به، فإنه يكفى ممن سواه. (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة. قال الضحاك: ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربك. وقال ابن عباس وابن زيد: رَصَداً أي حفظة يحفظون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمامه وورائه من الجن والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيب: هم أربعة من الملائكة حفظة. وقال الفراء: المراد جبريل، كان
__________
(1). جملة: (من بعده) ساقطة من ا، ح.

لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجن الوحي، فيلقوه إلى كهنتهم، فيسبقوا الرسول. وقال السدي: رَصَداً أي حفظة يحفظون الوحي، فما جاء من عند الله قالوا: إنه من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان «1». ورَصَداً نصب على المفعول. وفي الصحاح: والرصد القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا إرصادا. والراصد للشيء الراقب له، يقال: رصده يرصده رصدا ورصدا. والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد «2».

[سورة الجن (72): آية 28]
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
قوله تعالى: لِيَعْلَمَ قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة. وفية حذف يتعلق به اللام، أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق. وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه، قاله ابن جبير. قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام. وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل: ليعلم الرسول أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل: أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه. وقال ابن قتيبة: أي ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين قد بلغوا رسالات ربهم. وقراءة الجماعة لِيَعْلَمَ بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه. وقرا ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب بضم الياء أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج: أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء، كقوله تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142]
__________
(1). هذا الكلام ينافي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله قد عصمني من الانس والجن) (الحديث ج 6 ص 244) وأن الشياطين لا يمكن أن ينالوا منه عليه السلام فكيف يلقون إليه حتى لا يفرق بين ما يلقونه وبين الوحى إلى أن تبينه الملائكة.
(2). في، ح: (موضع الرقب).

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)

المعنى: ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا. (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أي أحاط علمه بما عندهم، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة. وقال ابن جبير: المعنى: ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم، فيبلغوا رسالاته. (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي أحاط بعدد كل شي وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شي. وعَدَداً نصب على الحال، أي أحصى كل شي في حال العدد، وإن شئت على المصدر، أي أحصى وعد كل شي عددا، فيكون مصدر الفعل المحذوف. فهو سبحانه المحصى المحيط العالم الحافظ لكل شي وقد بينا جميعه في الكتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى. والحمد «1» لله وحده.

[تفسير سورة المزمل ]
سورة المزمل وهي سبع وعشرون آية مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [المزمل: 10] والتي تليها، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى [المزمل: 20] إلى آخر السورة، فإنه نزل بالمدينة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
فيه ثمان مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قال الأخفش سعيد:" المزمل" أصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي وكذلك الْمُدَّثِّرُ. وقرا أبي بن كعب على الأصل" المتزمل"
__________
(1). في ط: (تمت السورة بحمد الله وعونه.) [.....]

و" المتدثر". وسعيد: الْمُزَّمِّلُ «1». وفي أصل الْمُزَّمِّلُ قولان: أحدهما أنه المحتمل، يقال: زمل الشيء إذا حمله، ومنه الزاملة، لأنها تحمل القماش «2». الثاني أن المزمل هو المتلفف، يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى. وزمل غيره إذا غطاه، وكل شي لفف فقد زمل ودثر، قال امرؤ القيس:
كبير أناس في بجاد مزمل «3»

الثانية- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ هذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفية ثلاثة أقوال: الأول قول عكرمة: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بالنبوة والملتزم للرسالة. وعنه أيضا: يا أيها الذي زمل هذا الامر أي حمله ثم فتر، وكان يقرأ: (يا أيها المزمل) بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول، وكذلك (المدثر) والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه، أو الذي زمله غيره. الثاني: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بالقرآن، قاله ابن عباس. الثالث المزمل بثيابه، قاله قتادة وغيره. قال النخعي: كان متزملا بقطيفة. عائشة: بمرط طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة، ونصفه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء «4» ولا إبريسما ولا صوفا، كان سداه شعرا، ولحمته وبرا، ذكره الثعلبي. قلت: وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبن بها إلا في المدينة. وما ذكر من أنها مكية لا يصح. والله أعلم. وقال الضحاك: تزمل بثيابه لمنامه. وقيل: بلغه من المشركين سوء قول فيه، فاشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1]. وقيل: كان هذا في ابتداء ما أوحى إليه، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال: (زملوني دثروني) روي معناه عن ابن عباس. وقالت الحكماء: إنما خاطبه بالمزمل والمدثر في أول الامر، لأنه لم يكن بعد ادثر شيئا من تبليغ الرسالة. قال ابن العربي: واختلف في تأويل: يا أَيُّهَا
__________
(1). لعل هذا ما أراده بعض المفسرين بقولهم: قرأ بعض السلف (المزمل) بفتح الزاي وتخفيفها وفتح الميم وشدها.
(2). القماش: أرد أمتاع البيت ويقال له: سقط المتاع.
(3). صدر البيت:
كأن أبانا في أفانين ودقه

(4). المرعزاء (بكسر الميم والعين): الزغب الذي تحت شعر العنز.

الْمُزَّمِّلُ فمنهم من حمله على حقيقته، قيل له: يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم، قاله إبراهيم وقتادة. ومنهم من حمله على المجاز، كأنه قيل له: يا من تزمل بالنبوة، قاله عكرمة. وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل. قلت: وقد بينا أنها على حذف المفعول: وقد قرئ بها، فهي صحيحة المعنى. قال: وأما من قال إنه زمل القرآن فهو صحيح في المجاز، لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه. الثالثة- قال السهيلي: ليس المزمل باسم من أسماء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدثر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: (قم يا أبا تراب) إشعارا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له. وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة: (قم يا نومان) وكان نائما ملاطفة له، وإشعارا لترك العتب والتأنيب «1». فقول الله تعالى لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ فيه تأنيس وملاطفة، ليستشعر أنه غير عاتب عليه. والفائدة الثانية- التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه، لان الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة. الرابعة- قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ) قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرا أبو السمال بضم الميم اتباعا لضمة القاف. وحكى الفتح لخفته. قال عثمان بن جني: الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض. وهو من الافعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ
__________
(1). في ا، ح، ل: (والتأنيس).

فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة، لا تقول: قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار. وقد قيل: إن قُمِ هنا معناه صل، عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال. الخامسة- اللَّيْلَ حد الليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقد تقدم بيانه في سورة" البقرة" «1» واختلف: هل كان قيامه فرضا وحتما، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا، وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض، لان قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي. واختلف أيضا: هل كان فرضا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال: الأول قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة. الثاني قول ابن عباس، قال: كان قيام الليل فريضة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى الأنبياء قبله. الثالث قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح، كما في صحيح مسلم عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله ... الحديث، وفية: فقلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالت: الست تقرأ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قلت: بلى! قالت فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حولا، وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثنى عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وذكر الحديث. وذكر وكيع ويعلى قالا: حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة. وقال سعيد بن جبير: مكث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزل بعد عشر سنين: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] فخفف الله عنهم.
__________
(1). راجع ج 2 ص 192

السادسة- قوله تعالى: (إِلَّا قَلِيلًا) استثناء من الليل، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه، لان قيام جميعه على الدوام غير ممكن، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد. والقليل من الشيء ما دون النصف، فحكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: الثلث. ثم قال تعالى: (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل: 20]. وقال الأخفش: نِصْفَهُ أي أو نصفه، يقال: أعطه درهما درهمين ثلاثة: يريد: أو درهمين أو ثلاثة. وقال الزجاج: نِصْفَهُ بدل من الليل وإِلَّا قَلِيلًا استثناء من النصف. والضمير في مِنْهُ وعَلَيْهِ للنصف. المعنى: قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين، فكأنه قال: قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وقيل: إن نِصْفَهُ بدل من قوله: قَلِيلًا وكان مخيرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه، كأن تقدير الكلام: قم الليل إلا نصفه، أو أقل من نصفه، أو أكثر من نصفه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضئ الفجر (. ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا مضى شطر الليل- أو ثلثاه- ينزل الله ...) الحديث. رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك. وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟ (صححه أبو محمد عبد الحق، فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول، وأن ذلك يكون عند نصف الليل. وخرج ابن ماجة من حديث ابن شهاب، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة:

أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر (. فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله. قال علماؤنا: وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة. وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا. وذكر الحديث. السابعة- اختلف العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل، فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام الليل قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] إلى آخر السورة. وقيل قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل: 20]. وعن ابن عباس أيضا: هو منسوخ بقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى [المزمل: 20]. وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان: هو منسوخ بالصلوات الخمس. وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20]. قال أبو عبد الرحمن السلمي: لما نزلت: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، ثم نزل قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20]. قال بعض العلماء: وهو فرض نسخ به فرض، كان على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة لفضله، كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الاسراء: 79]. قلت: القول الأول يعم جميع هذه الأقوال، وقد قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [المزمل: 20] فدخل فيها قول من قال إن الناسخ الصلوات الخمس. وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة. وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية: الحمد لله تطوع بعد الفريضة. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أجعل
للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به، فلما رأى جماعتهم كره ذلك، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا

يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال: (أيها الناس أكلفوا»
من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وإن خير العمل أدومه وإن قل (. فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ فكتب عليهم، فأنزل بمنزلة الفريضة، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهر، فرحمهم الله وأنزل: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] فردهم الله إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به. قلت: حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله: (وإن قل) وباقيه يدل على أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون. وقد تقدم عنها في صحيح مسلم: حولا. وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا، لم يذكر غيره عنها. وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة، قال: فأما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كان فرضا عليه. وفي نسخة عنه قولان: أحدهما: أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى. الثاني: أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته. وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان: أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين، يريد قول ابن عباس حولا، وقول عائشة ستة عشر شهرا. الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف، ليميزه بفعل الرسالة، قاله ابن جبير. قلت: هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى. الثامنة- قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) أي لا تعجل «2» بقراءة القرآن بل أقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني. وقال الضحاك: اقرأه حرفا حرفا. وقال مجاهد: أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه. والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام، ومنه ثغر رتل ورتل، بكسر العين وفتحها: إذا كان حسن التنضيد. وتقدم بيانه في مقدمة الكتاب «3». وروى الحسن أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر برجل يقرأ آية ويبكي، فقال: (ألم تسمعوا
__________
(1). أكلفوا: تحملوا: النهاية لابن الأثير.
(2). جملة:) لا تعجل) ساقطة من ح.
(3). راجع ج 1 ص 17.

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)

إلى قول الله عز وجل: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا هذا الترتيل (. وسمع علقمة رجلا يقرأ قراءة حسنة فقال: لقد رتل القرآن، فداه أبي وأمي، وقال أبو بكر بن طاهر: تدبر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه. وروى عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أول درج الجنة ويقال له أقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها) خرجه أبو داود وقد تقدم في أول الكتاب «1». وروى أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمد صوته بالقراءة مدا.

[سورة المزمل (73): آية 5]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)
قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) هو متصل بما فرض من قيام الليل، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله، لان الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ومجاهدة للشيطان، فهو أمر يثقل على العبد. وقيل: إنا سنوحي إليك القرآن، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. مجاهد: حلاله وحرامه. الحسن: العمل به. أبو العالية: ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام. محمد بن كعب: ثقيلا على المنافقين. وقيل: على الكفار، لما فيه من الاحتجاج عليهم، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم، والكشف عما حرفه أهل الكتاب. السدي: ثقيل بمعنى كريم، مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل علي، أي يكرم علي. الفراء: ثَقِيلًا رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل: ثَقِيلًا أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله، ويكون معناه أنه ثابت الاعجاز، لا يزول إعجازه أبدا. وقيل: هو القرآن نفسه، كما جاء في الخبر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها
__________
(1). راجع ج 1 ص 8.

إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)

- يعني صدرها- على الأرض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى «1» عنه. وفي الموطأ وغيره أنه عليه السلام سئل: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول (. قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. قال ابن العربي: وهذا أولى، لأنه الحقيقة، وقد جاء وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]. وقال عليه السلام:" بعثت بالحنيفية السمحة". وقيل: القول في هذه السورة: هو قول لا إله إلا الله، إذ في الخبر: خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان، ذكره القشيري.

[سورة المزمل (73): الآيات 6 الى 7]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) قال العلماء: ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته، لان أوقاته تنشأ أولا فأولا، يقال: نشأ الشيء ينشأ: إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شي، فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله، فناشئة: فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة، ومنه قوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف: 18] والمراد إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم، فالتأنيث للفظ ساعة، لان كل ساعة تحدث. وقيل: الناشئة مصدر بمعنى [قيام الليل «2»] كالخاطئة والكاذبة، أي إن نشأة الليل هي أشد وطئا. وقيل: إن ناشئة الليل قيام الليل. قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي قام، فلعله أراد أن الكلمة عربية «3»، ولكنها شائعة في كلام الحبشة، غالبة عليهم، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب. وقد تقدم بيان هذا في مقدمة الكتاب مستوفى.
__________
(1). أي الوحى.
(2). زيادة تقتضيها العبارة، وهي كذلك في كتب التفسير.
(3). في ا، ح، ل: (غريبة) راجع ج 1 ص 68 فما بعدها.

الثانية- بين تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن، أعظم للأجر، وأجلب للثواب. واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل، فقال ابن عمر وأنس بن مالك: هو ما بين المغرب والعشاء، تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء، فكان بالأولية أحق، ومنه قول الشاعر:
ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشأ الصغار
وكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هذا ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة: إنه بدء الليل. وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله، لأنه ينشأ بعد النهار، وهو الذي اختاره مالك بن أنس. قال ابن العربي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وابن عباس أيضا ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة. فقال يمان وابن كيسان: هو القيام من آخر الليل. وقال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل. وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وفي الصحاح: وناشئة الليل أول ساعاته. وقال القتبي: إنه ساعات الليل، لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة. وعن الحسن ومجاهد: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن الحسن أيضا: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال: ما ينشأ في الليل من الطاعات، حكاه الجوهري. الثانية- قوله تعالى: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) قرأ أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة" وطاء" بكسر الواو وفتح الطاء والمد، واختاره أبو عبيد. الباقون وَطْئاً بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، واختاره أبو حاتم، من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم. أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم اشدد وطأتك على مضر) فالمعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار. وذلك أن الليل وقت منام وتودع وإجمام، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة. ومن مد فهو مصدر واطأت وطاء ومواطأة أي وافقته. ابن زيد واطأته على الامر مواطأة: إذا وافقته من الوفاق، وفلان يواطئ اسمه اسمي، وتواطئوا عليه أي توافقوا، فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان، لانقطاع الأصوات

والحركات، قاله مجاهد وابن أبي مليكة وغيرهما. وقال ابن عباس بمعناه، أي يواطئ السمع القلب، قال الله تعالى: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة: 37] أي ليوافقوا. وقيل: المعنى أشد مهادا للتصرف في التفكر والتدبر. والوطاء خلاف الغطاء. وقيل: أَشَدُّ وَطْئاً بسكون الطاء وفتح الواو أي أشد ثباتا من النهار، فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل وأتقى «1» لما يلهى ويشغل القلب. والوطي الثبات، تقول: وطئت الأرض بقدمي. وقال الأخفش: أشد قياما. الفراء: أثبت قراءة وقياما. وعنه: أَشَدُّ وَطْئاً أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت فراغ عن اشتغال المعاش فعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال الكلبي: أَشَدُّ وَطْئاً أي أشد نشاطا للمصلي، لأنه في زمان راحته. وقال عبادة: أَشَدُّ وَطْئاً أي نشاطا للمصلي وأخف، وأثبت للقراءة. الرابعة- قوله تعالى: (وَأَقْوَمُ قِيلًا) أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار، أي أشد استقامة واستمرارا على الصواب، لان الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه. قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول، لأنه زمان التفهم. وقال أبو علي: أَقْوَمُ قِيلًا أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل. وقيل: أي أعجل إجابة للدعاء. حكاه ابن شجرة. وقال عكرمة: عبادة الليل أتم نشاطا، وأتم إخلاصا، وأكثر بركة. وعن زيد ابن أسلم: أجدر أن يتفقه في القرآن. وعن الأعمش قال: قرأ أنس بن مالك إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا فقيل له: وَأَقْوَمُ قِيلًا فقال: أقوم وأصوب واهيا: سواء. قال أبو بكر الأنباري: وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال: من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو مصيب، إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له، واحتجوا بقول أنس هذا. وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله، لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا
قاربت معانيها واشتملت على عامتها، لجاز أن يقرأ في موضع الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2]: الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الامر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفتريا على الله عز وجل، كاذبا على رسوله صلى
__________
(1). في ل: (وأنقي). [.....]

الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود: نزل القرآن على سبعة أحرف، إنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال وأقبل، لان هذا الحديث يوجب أن القراءات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اختلفت ألفاظها، واتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلم، وتعال، وأقبل، فأما ما لم يقرأ به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وتابعوهم رضي الله عنهم، فإنه من أورد حرفا منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب الصواب. قال أبو بكر: والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم، لأنه مبني على رواية الأعمش عن أنس، فهو مقطوع ليس بمتصل فيؤخذ به، من قبل أن الأعمش رأى أنسا ولم يسمع منه. الخامسة- قوله تعالى «1»: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا) قراءة العامة بالحاء غير معجمة، أي تصرفا في حوائجك، وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا. والسبح: الجري والدوران، ومنه السابح في الماء، لتقلبه بيديه ورجليه. وفرس سابح: شديد الجري، قال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن الغبار بالكديد المركل «2»
وقيل: السبح الفراغ، أي إن لك فراغا للحاجات بالنهار. وقيل: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً أي نوما، والتسبح التمدد، ذكره الخليل. وعن ابن عباس وعطاء: (سَبْحاً طَوِيلًا) يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، وقال الزجاج: إن فاتك في الليل شي فلك في النهار فراغ الاستدراك. وقرا يحيى بن يعمر وأبو وائل" سبخا" بالخاء المعجمة. قال المهدوي: ومعناه النوم روى ذلك عن القارئين بهذه القراءة. وقيل: معناه الخفة والسعة والاستراحة، ومنه قول
__________
(1). جملة: (قوله تعالى) ساقطة من ح.
(2). مسح: معناه يصب الجري صبا. وهذه الكلمة وردت محرفة في ط وهي ساقطة من سائر الأصول. والتصويب من الديوان واللسان. والونى: الفتور والكلال. والكديد: الموضع الغليظ. والمركل: الذي يركل بالأرجل. ومعنى البيت: إن الخيل السريعة إذا فترت فأثارت الغبار بأرجلها من التعب جرى هذا الفرس جريا سهلا كما يسح السحاب المطر.

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)

النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة وقد دعت على سارق ردائها: (لا تسبخي [عنه «1»] بدعائك عليه). أي لا تخففي عنه إثمه، قال الشاعر:
فسخ عليك الهم واعلم بأنه ... إذا قدر الرحمن شيئا فكائن
الأصمعي: يقال سبخ الله عنك الحمى أي خففها. وسبخ الحر «2»: فتر وخف. والتسبيخ النوم الشديد. والتسبيخ أيضا توسيع القطن والكتان والصوف وتنفيشها، يقال للمرأة: سبخي قطنك. والسبيخ من القطن ما يسبخ بعد الندف، أي يلف لتغزله المرأة، والقطعة منه سبيخة، وكذلك من الصوف والوبر. ويقال لقطع القطن سبائخ، قال الأخطل يصف القناص والكلاب:
فأرسلوهن يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار
وقال ثعلب: السبخ بالخاء التردد والاضطراب، والسبخ أيضا السكون، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الحمى من فيح جهنم، فسبخوها بالماء) أي سكنوها. وقال أبو عمرو: السبخ: النوم والفراغ. قلت: فعلى هذا يكون من الأضداد وتكون بمعنى السبح، بالحاء غير المعجمة.

[سورة المزمل (73): آية 8]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي ادعه بأسمائه الحسنى، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة. وقيل: أي اقصد بعملك وجه ربك، وقال سهل: اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك عما سواه «3». وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته. وقال الكلبي: صل لربك أي بالنهار.
__________
(1). زيادة من نهاية ابن الأثير.
(2). في ا، ح، ل، و: (الجن) بالجيم والنون وهو تحريف.
(3). في ا، ح، ز، ط، (تهواه).

قلت: وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار، إذ هو قسيمه، وقد قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الفرقان: 62] على ما تقدم «1». الثانية- قوله تعالى: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل، أي انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره. يقال: بتلت الشيء أي قطعته، ومنه قولهم. طلقها بتة بتلة، وهذه صدقة بتة بتلة، أي بائنة منقطعة عن صاحبها،، أي قطع ملكه عنها بالكلية، ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب متبتل، لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها ... منارة ممسى راهب متبتل «2»
وفي الحديث النهي عن التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات. وقيل: إن أصله عند العرب التفرد، قاله ابن عرفة. والأول أقوى لما ذكرنا. ويقال: كيف قال: تبتيلا، ولم يقل تبتلا؟ قيل له: لان معنى تبتل بتل نفسه، فجئ به على معناه مراعاة لحق الفواصل. الثالثة- قد مضى في (المائدة) «3» في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 87] كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية. قال ابن العربي: وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام «4»، فالعزلة خير من الخلطة، والعز به أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله، وكذلك قال مجاهد: معناه: أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الامر غير متعلق النهي، فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم، فالتبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة، كما قال تعالى:
__________
(1). راجع ج 13 ص 65.
(2). البيت من معلقة امرى القيس ومعناه: إذا ابتسمت بالليل رأيت لثناياها بريقا وضوءا وإذا برزت في الظلام استنار وجهها حتى يغلب ظلمة الليل. وممسى راهب: أي إمساؤه.
(3). راجع ج 6 ص 261.
(4). حطام الدنيا: كل ما فيها من مال يفنى ولا يبقى.

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)

وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1» [البينة: 5] والتبتل المنهي عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.

[سورة المزمل (73): الآيات 9 الى 11]
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11)
قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص رَبُّ بالرفع على الابتداء والخبر لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وقيل: على إضمار هُوَ. الباقون (رب) بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ (رب المشرق) ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه. (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) أي قائما بأمورك. وقيل: كفيلا بما وعدك. قوله تعالى: (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) أي لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله. وكان هذا قبل الامر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك، قاله قتادة وغيره. وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه [أقوام «2»] ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم. قوله تعالى: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) أي أرض بي لعقابهم. نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين. وقال مقاتل: نزلت في المطعمين «3» يوم بدر وهم عشرة. وقد تقدم ذكرهم في" الأنفال" «4». وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا. (أُولِي النَّعْمَةِ) أي أولى الغنى والترفه واللذة في الدنيا
__________
(1). راجع ج 20 ص 144.
(2). الزيادة من نهاية ابن الأثير.
(3). في ا، ح، ل: (المهطعين).
(4). راجع ج 8 ص 53.

إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)

(وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) يعني إلى مدة آجالهم. قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر. وقيل: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا يعني إلى مدة الدنيا.

[سورة المزمل (73): الآيات 12 الى 14]
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
قوله تعالى: (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً) الأنكال: القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نكل، وهو ما منع «1» الإنسان من الحركة. وقيل: سمى نكلا، لأنه ينكل به. قال الشعبي: أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم. وقال الكلبي: الأنكال: الاغلال، والأول أعرف في اللغة، ومنه قول الخنساء:
دعاك فقطعت إنكاله ... وقد كن «2» قبلك لا تقطع
وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد، قاله مقاتل. وقد جاء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله يحب النكل على النكل) بالتحريك، قاله الجوهري. قيل: وما النكل؟ قال: (الرجل القوي المجرب، على الفرس القوي المجرب) ذكره الماوردي. قال: ومن ذلك سمى القيد نكلا لقوته، وكذلك الغل، وكل عذاب قوي فاشتد، والجحيم النار المؤججة. (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي غير سائغ، يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغسلين والزقوم والضريع، قاله ابن عباس. وعنه أيضا: انه شوك يدخل الحلق، فلا ينزل ولا يخرج. وقال الزجاج: أي طعامهم الضريع، كما قال: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية: 6] وهو شوك كالعوسج. وقال مجاهد: هو الزقوم، كما قال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 44- 43]. والمعنى واحد. وقال حمران بن أعين: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ)
__________
(1). في ا، ح، و: (وهو منع). [.....]
(2). في ديوان الخنساء: ظن.

فصعق. وقال خليد بن حسان: أمسى الحسن عندنا صائما، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً فقال: أرفع طعامك. فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوه. ومثله في الثالثة، فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم، فجاءوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. والغصة: الشجا، وهو ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعها غصص. والغصص بالفتح مصدر قولك: غصصت يا رجل تغص، فأنت غاص بالطعام وغصان، وأغصصته أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم. قوله تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي تتحرك وتضطرب بمن عليها. وانتصب يَوْمَ على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ. وقيل: بنزع الخافض، يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال. وقيل: العامل ذَرْنِي أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الأرض والجبال. (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا) أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع- قال حسان:
عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحي في الورق «1» القشيب
والمهيل: الذي يمر تحت الأرجل. قال الضحاك والكلبي: المهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال. وقال ابن عباس: مَهِيلًا أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك: هلت عليه التراب أهيله هيلا: إذا صببته. يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول، ومدين ومديون، ومعين ومعيون، قال الشاعر: «2»
قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وإدخال أنك سيد معيون
وفي حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم شكوا إليه الجدوبة، فقال: (أتكيلون أم تهيلون) قالوا: نهيل. قال: (كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه). وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو
__________
(1). ويروى (في الرق) والوحى هنا: الكتابة. والقشيب: الجديد. شبه حسان رضى الله عنه آثار الديار بالسطور.
(2). هو عباس بن مرداس. وقد ورد في ا، هـ، و: (والحال أنك) إلخ.

إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)

مهال ومهيل. وإنما حذفت الواو، لان الياء تثقل فيها الضمة، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين

[سورة المزمل (73): الآيات 15 الى 19]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا) يريد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسله إلى قريش (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا) وهو موسى (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل: ذكر موسى وفرعون، لان أهل مكة ازدروا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستخفوا به، لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ازدرى موسى، لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: 18]. قال المهدوي: ودخلت الالف واللام في الرسول لتقدم ذكره، ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم. (وَبِيلًا) أي ثقيلا شديدا. وضرب وبيل وعذاب وبيل: أي شديد، قاله ابن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد، قاله الأخفش. وقال الزجاج: أي ثقيلا غليظا. ومنه قيل للمطر وابل. وقيل: مهلكا [والمعنى عاقبناه عقوبة «1» غليظة] قال:
أكلت بنيك أكل الضب حتى ... وجدت مرارة الكلا الوبيل
واستوبل فلان كذا: أي لم يحمد عاقبته. وماء وبيل: أي وخيم غير مرئ، وكلا مستوبل وطعام وبيل ومستوبل: إذا لم يمرئ ولم يستمرا، قال زهير:
__________
(1). الزيادة من حاشية الجمل نقلا عن القرطبي ونص بأنها عبارته.

فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كلا مستوبل متوخم
وقالت الخنساء:
لقد أكلت بجيلة يوم لاقت ... فوارس مالك أكلا وبيلا
والوبيل أيضا: العصا الضخمة، قال:
لو أصبح في يمنى يدي زمامها «1» ... وفي كفي الأخرى وبيل تحاذره
وكذلك الموبل بكسر الباء، والمؤبلة أيضا: الحزمة من الحطب، وكذلك الوبيل، قال طرفة:
عقيلة شيخ كالوبيل يلندد «2»

قوله تعالى: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم. وفية تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم. وكذا قراءة عبد الله وعطية. قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفية إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم. وقال قتادة: والله ما يتقى من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. ويَوْماً مفعول ب- تَتَّقُونَ على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول (كَفَرْتُمْ). وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: (كَفَرْتُمْ) والابتداء (يَوْماً) يذهب إلى أن اليوم مفعول يَجْعَلُ والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيبا في يوم. قال ابن الأنباري، وهذا لا يصلح، لان اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله. المهدوي: والضمير في يَجْعَلُ يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف، كأنه قال: يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا. ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم
__________
(1). في ا، ح، و: (رقامها).
(2). يلندد: شديد الخصومة. وصدر البيت:
فمرت كهاة ذات خيف جلالة

ب- كَفَرْتُمْ وهذا قبيح، لان اليوم إذا علق ب- كَفَرْتُمْ أحتاج إلى صفة، أي كفرتم بيوم. فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبد الله فكيف تتقون يوما. قلت: هذه القراءة ليست متواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير. وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف- يوما مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء. وقرا أبو السمال قعنب فَكَيْفَ تَتَّقُونَ بكسر النون على الإضافة. والْوِلْدانَ الصبيان. وقال السدي: هم أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين. والعموم أصح، أي يشيب فيه الصغير من غير كبر. وذلك حين يقال: (يا آدم قم فابعث بعث النار). على ما تقدم في أول سورة" الحج" «1». قال القشيري: ثم إن أهل الجنة يغير الله أحوالهم وأوصافهم على ما يريد. وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز، لان يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة. ويقال: هذا وقت الفزع، وقيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق، فالله أعلم. الزمخشري: وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة «2»، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب. قوله تعالى: (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي متشققة لشدته. ومعنى بِهِ أي فيه، أي في ذلك اليوم لهوله. هذا أحسن ما قيل فيه. ويقال: مثقلة به أثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 187]. وقيل: بِهِ أي له، أي لذلك اليوم، يقال: فعلت كذا بحرمتك ولحرمتك، والباء واللام
__________
(1). راجع ج 11 ص 3
(2). في نسخ الأصل: (كالنعامة) بالنون والعين. والثغامة (بالثاء المفتوحة والعين): شجرة تبيض كأنها الثلج.

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

وفي: متقاربة في مثل هذا الموضع، قال الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: 47] أي في يوم القيامة. وقيل: بِهِ أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا. وقيل: منفطر بالله، أي بأمره، وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة، لان مجازها «1» السقف، تقول: هذا سماء البيت، قال الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء وبالسحاب
وفي التنزيل: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء: 32]. وقال الفراء: السماء يذكر ويؤنث. وقال أبو علي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، وأَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20]. وقال أبو علي أيضا: أي السماء ذات انفطار، كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات إرضاع، فجرى على طريق النسب. كانَ وَعْدُهُ أي بالقيامة والحساب والجزاء مَفْعُولًا كائنا لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله. قوله تعالى: (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) يريد هذه السورة أو الآيات عظة. وقيل: آيات القرآن، إذ هو كالسورة الواحدة. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ) أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه (سَبِيلًا) أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب، فقد أمكن له، لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: 55] قال الثعلبي: والأشبه أنه غير منسوخ.

[سورة المزمل (73): آية 20]
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ
__________
(1). مجازها: معناها.

مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
فيه ثلاث عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ هذه الآية تفسير لقوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 4- 2] كما تقدم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. تَقُومُ معناه تصلي وأَدْنى أي أقل. وقرا ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام ثُلُثَيِ بإسكان اللام. وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالخفض قراءة العامة عطفا على ثُلُثَيِ، المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، كقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرا ابن كثير والكوفيون" ونصفه وثلثه" بالنصب عطفا على أَدْنى التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء: وهو أشبه بالصواب، لأنه قال أقل من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف، لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم. وقال قوم: إنما أفترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم.

الثانية- قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به. وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل. والأول أصح، فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل «1» وغيره: لما نزلت: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 4- 2] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم، فقال تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ وإِنَّ مخففة من الثقيلة، أي علم أنكم لن تحصوه، لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم. الثالثة- قوله تعالى: (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. واصل التوبة الرجوع كما تقدم، فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري، فخفف عنهم ذلك التحري. وقيل: معنى (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يخلقهما مقدرين كقوله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). ابن العربي: تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف. الرابعة- قوله تعالى: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فيه قولان: أحدهما أن المراد نفس القراءة، أي فاقرءوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي: مائة آية. الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية. قلت: قول كعب أصح، لقوله عليه السلام: (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين (»
خرجه أبو داود
__________
(1). في ز:) قال النقاش.
(2). أي أعطى من أجر قنطارا.

الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو. وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب «1» والحمد لله. القول الثاني: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا، كقوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أي صلاة الفجر. ابن العربي: وهو الأصح، لأنه عن الصلاة أخبر، واليها يرجع القول. قلت: الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز، فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله. الخامسة- قال بعض العلماء: قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا، لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره، وذلك لقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الاسراء: 79] فاحتمل قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الاسراء: 79] أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه. قال الشافعي: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس. السادسة- قال القشيري أبو نصر: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الامة، وبقيت الفريضة في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب، كقوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196] فالهدي لا بد منه، كذلك لم يكن بد من صلاة الليل، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي، وعلى هذا فقد قال قوم: فرض قيام الليل بالقليل باق، وهو مذهب الحسن. وقال قوم: نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا، وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي هذا، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا
__________
(1). راجع ج 1 ص 9

فقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ معناه أقرءوا إن تيسر عليكم ذلك، وصلوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله: نافِلَةً لَكَ [الاسراء: 79] محمول على حقيقة النفل. ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة، كقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الاسراء: 78]، وقوله: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم: 17]، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع. وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الاسراء: 79] والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللأمة، كما أن فرضيه الصلاة وإن خوطب بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2- 1] كانت عامة له ولغيره. وقد قيل: إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة، ونسخت بالمدينة، لقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وإنما فرض القتال بالمدينة، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الاسراء: 79]. وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسخ قول الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ وجوب صلاة الليل. السابعة- قوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ) الآية، بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. وإِنَّ في أَنْ سَيَكُونُ مخففة من الثقيلة، أي علم أنه سيكون. الثامنة- سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد، لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروى إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت

منزلته عند الله منزلة الشهداء) ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرا وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ الآية. وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأرض. وقال طاوس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر، فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي. ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه، فلقيه فقال له: يا بني! ما لك وللطعام؟ فهلا إبلا، فهلا بقرا، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث. التاسعة- قوله تعالى: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي صلوا ما أمكن، فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم: إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية، قاله البخاري وغيره، وعقد بابا ذكر فيه حديث (يعقد الشيطان على قافية «1» رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى أنحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث
__________
(1). قافية الرأس مؤخره وقيل: وسطه أراد تثقيله في النوم وإطالته.

النفس كسلان) وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرؤيا قال: (أما الذي يثلغ «1» رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه «2»، وينام عن الصلاة المكتوبة). وحديث عبد الله بن مسعود قال: ذكر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل ينام الليل كله فقال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه) فقال ابن العربي: فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة، فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل. وفي الصحيح واللفظ للبخاري: قال عبد الله بن عمرو: وقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل) ولو كان فرضا ما أقره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: كان الرجل في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى رؤيا قصها على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار. قال: ولقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع «3». فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا، فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك: لم ترع. والله أعلم. العاشرة- إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة، فقال مالك والشافعي: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث
__________
(1). الثلغ: وهو ضربك لشيء الرطب بالشيء اليابس حتى ينشدخ. [.....]
(2). يرفضه: يتركه.
(3). لم ترع: لا روع ولا خوف عليك بعد ذلك.

آيات، لأنها أقل سورة. ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي. والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي، على ما بيناه في سورة" الفاتحة" «1» أول الكتاب والحمد لله. وقيل: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة، قال الماوردي: فعلى هذا يكون مطلق هذا الامر محمولا على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين، لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب، ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه، لان حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الامر من القراءة خمسة أقوال: أحدها جميع القرآن، لان الله تعالى يسره على عباده، قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن، حكاه جويبر. الثالث مائتا آية، قاله السدي. الرابع مائة آية، قاله ابن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة، قاله أبو خالد الكناني. الحادية عشرة- قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة في أموالكم، قاله عكرمة وقتادة. وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر لان زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: كل أفعال الخير. وقال ابن عباس: طاعة الله والإخلاص له. الثانية عشرة- قوله تعالى: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة" الحديد" «2» بيانه. وقال زيد ابن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله. الثالثة عشرة- قوله «3» تعالى: (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) «4». وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا- يعني تمرا بلبن- فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري
__________
(1). راجع ج 1 ص 123.
(2). راجع ج 17 ص (252)
(3). جملة: (قوله تعالى) ساقطة من ا، ح، ط.
(4). راجع 2 ص 73.

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)

ما هو. وكأنه تأول: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشح والتقصير. (وَأَعْظَمَ أَجْراً) قال أبو هريرة: الجنة، ويحتمل أن يكون أعظم أجرا، لإعطائه بالحسنة عشرا. ونصب خَيْراً وَأَعْظَمَ على المفعول الثاني ل- تَجِدُوهُ وهُوَ: فصل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الاعراب. وأَجْراً تمييز. (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أي سلوه المغفرة لذنوبكم (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لما كان قبل التوبة (رَحِيمٌ) لكم بعدها، قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة «1».

[تفسير سورة المدثر]
سورة المدثر مكية في قول الجميع. وهي ست وخمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها ونام، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرا أبي" المتدثر" على الأصل. وقال مقاتل: معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله وكان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحدث- قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يحدث عن فترة الوحي- قال في حديثه: (فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض).
__________
(1). في ل: (ختمت السورة والحمد لله).

قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فجئثت «1» منه فرقا، فرجعت فقلت زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (في رواية- قبل أن تفرض الصلاة- وهي الأوثان قال:) ثم تتابع الوحي (. خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. قال مسلم: وحدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: أو" أقرأ". فقال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: أو" أقرأ" فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: (جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء- يعني جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني فصبوا علي ماء، فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (خرجه البخاري وقال فيه:) فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (. ابن العربي: وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عقبة [بن ربيعة «2»] أمر، فرجع إلى منزله مغموما، فقلق واضطجع، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وهذا باطل. وقال القشيري أبو نصر: وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر، فوجد من ذلك غما وحم، فتدثر بثيابه، فقال الله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ أي لا تفكر في قولهم، وبلغهم الرسالة. وقيل: اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج، وهم يتساءلون عن أمر محمد، وقد اختلفتم في الاخبار عنه، فمن قائل يقول مجنون،
__________
(1). جئثت أي ذعرت وخفت.
(2). الزيادة من ابن العربي.

وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام ابن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما، فقالوا: كاهن. فقال: الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال: مجنون، فقال الوليد: المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت. فقال الوليد: ما لي إلى ذلك حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: ما يكون من الساحر؟ فقيل: يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنه ساحر. شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون: إن محمدا ساحر. ورجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة، ونزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. وقال عكرمة: معنى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أي المدثر بالنبوة وأثقالها. ابن العربي: وهذا مجاز بعيد، لأنه لم يكن تنبأ بعد. وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل. الثانية- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ
: ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة" المزمل". ومثله قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي إذ نام في المسجد: (قم أبا تراب) وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه، خرجه مسلم. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق: (قم يا نومان) وقد تقدم. الثالثة- قوله تعالى: (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا. وقيل: الإنذار هنا إعلامهم بنبوته، لأنه مقدمة الرسالة. وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد، لأنه المقصود بها. وقال الفراء: قم فصل وأمر بالصلاة. الرابعة- قوله تعالى: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. وفي حديث أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة؟

فنزلت: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي وصفه بأنه أكبر. قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه مراد به التكبير «1» والتقديس والتنزيه، لخلع الأنداد والأصنام دونه، ولا تتخذ وليا غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه. وقد روى أن أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قولوا الله أعلى وأجل [وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله:" الله أكبر" وحمل عليه لفظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوارد على الإطلاق في موارد، منها قوله: [تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم [والشرع يقتضي بعرفة ما يقتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك، وإعلانا «2» باسمه في النسك، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسفك. قلت: قد تقدم في أول سورة" البقرة" «3» أن هذا اللفظ" الله أكبر" هو المتعبد به في الصلاة، المنقول عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي التفسير: أنه لما نزل قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: [الله أكبر [فكبرت خديجة، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى، ذكره القشيري. الخامسة- الفاء في قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في (فَأَنْذِرْ) أي قم فأنذر وقم فكبر ربك، قاله الزجاج. وقال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب، أي زيدا اضرب، فالفاء زائدة. السادسة- قوله تعالى: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فيه ثمانية أقوال: أحدهما أن المراد بالثياب العمل. الثاني القلب. الثالث النفس. الرابع الجسم. الخامس الأهل. السادس الخلق. السابع الدين. الثامن الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب إلى القول الأول
__________
(1). كذا في أحكام القرآن تفسير ابن العربي المطبوع بالقاهرة سنة 1331 هـ. وفيما نقله المؤلف عن ابن العربي هنا تصرف في اللفظ بزيادة ونقص فليراجع ج (287/ 2)
(2). كذا في أحكام القرآن وفي ح، ز، و: (إعلاما) بالميم.
(3). راجع ج 1 ص 175.

قال: تأويل الآية وعملك فأصلح، قال مجاهد وابن زيد. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول وعملك فأصلح، قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب، ونحوه عن السدي. ومنه قول الشاعر:
لا هم إن عامر بن جهم ... أو ذم حجا في ثياب دسم «1»
ومنه ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [يحشر المرء «2» في ثوبيه اللذين مات عليهما [يعني عمله الصالح والطالح، ذكره الماوردي. ومن ذهب إلى القول الثاني قال: إن تأويل الآية وقلبك فطهر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، دليله قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل «3»

أي قلبي من قلبك. قال الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما- معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي، قاله ابن عباس وقتادة. الثاني- وقلبك فطهر من الغدر، أي لا تغدر فتكون دنس الثياب. وهذا مروي عن ابن عباس، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفي:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
ومن ذهب إلى القول الثالث قال: تأويل الآية ونفسك فطهر، أي من الذنوب. والعرب تكني عن النفس بالثياب، قاله ابن عباس. ومنه قول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
وقال امرؤ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
__________
(1). ثياب دسم: متلطخة بالذنوب. وفي، ح، ز: (أو دم) بالدال المهملة وهو تحريف. ومعنى البيت: أنه حج وهو متدنس بالذنوب. وأوذم الحج: أوجبه.
(2). في ا، ح: (المؤمن). [.....]
(3). صدر البيت:
وإن كنت قد ساءتك منى خليقة

وقال «1»:
ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران
أي أنفس بني عوف. ومن ذهب إلى القول الرابع قال: تأويل الآية وجسمك فطهر، أي عن المعاصي الظاهرة. ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى، وذكرت إبلا:
رموها بأثياب خفاف فلا ترى ... لها شبها إلا النعام المنفرا
أي ركبوها فرموها بأنفسهم. ومن ذهب إلى القول الخامس قال: تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب، والعرب تسمى الأهل ثوبا ولباسا وإزارا، قال الله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187]. الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما- معناه ونساءك فطهر، باختيار المؤمنات العفائف. الثاني- الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر، في الطهر لا في الحيض. حكاه ابن بحر. ومن ذهب إلى القول السادس قال: تأويل الآية وخلقك فحسن. قاله الحسن والقرظي، لان خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه. وقال الشاعر:
ويحيى لا يلام بسوء خلق ... ويحيى طاهر الأثواب حر
أي حسن الأخلاق. ومن ذهب إلى القول السابع قال: تأويل الآية ودينك فطهر. وفي الصحيحين عنه عليه السلام قال: (ورأيت الناس وعليهم ثياب، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجره (. قالوا: يا رسول الله فما أولت ذلك؟ قال: الدين. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق، قال الله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ يريد مالك أنه كنى عن الثياب بالدين. وقد روى عبد الله بن نافع عن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الله
__________
(1). نسب المؤلف هذا البيت فيما سيأتي لابن أبي كبشة مرة ولامرئ القيس مرة أخرى وفي (اللسان) و(شرح القاموس) أنه لامرئ القيس ولم نعثر عليه في ديوانه وقد نسبه ابن العربي لابن أبي كبشة. والشطر الأخير في ا، ز، ح، ط:
وأوجههم عند المشاهد غران

ابن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي لا تلبسها على غدرة، ومنه قول أبي كبشة «1»:
ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران
يعني بطهارة ثيابهم: سلامتهم من الدناءات، ويعني بغرة وجوههم تنزيهم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة أو كليهما، قاله ابن العربي. وقال سفيان بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم، قاله عكرمة. ومنه قول الشاعر:
أو ذم حجا في ثياب دسم

أي قد دنسها بالمعاصي. وقال النابغة:
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب «2»
ومن ذهب إلى القول الثامن قال: إن المراد بها الثياب الملبوسات، فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدهما- معناه وثيابك فأنق، ومنه قول امرئ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقية

الثاني- وثيابك فشمر وقصر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة، فإذا انجرت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها، قاله الزجاج وطاوس. الثالث- وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ من النجاسة بالماء، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع- لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من الحرام. وعن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر. ابن العربي وذكر بعض ما ذكرناه: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتناول معنيين: أحدهما- تقصير الأذيال، لأنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى.
__________
(1). انظر الحاشية رقم 3 ص 62 من هذا الجزء.
(2). البيت من قصيدة مدح بها عمرو بن الحارث الغساني. وأراد برقاق النعال أنهم ملوك لا يخصفون نعالهم وبطيب حجزاتهم عفتهم. والسباسب يوم (الشعانين) وهو يوم عيد عند النصارى وكان الممدوح نصرانيا.

وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)

وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إزرة المؤمن «1» إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك ففي النار" فقد جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد ما تحته بالنار، فما بال رجال يرسلون أذيالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم، وهذه حالة الكبر، وقائدة العجب، [وأشد ما في الامر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم «2»] بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء [ولفظ الصحيح:" من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة". قال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لست ممن يصنعه خيلاء) فعم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنهي، واستثنى الصديق، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء «3»، وليس ذلك لهم. والمعنى الثاني- غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها، صحيح فيها. المهدوي: وبه استدل بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب، قال ابن سيرين وابن زيد: لا تصل إلا في ثوب طاهر. واحتج بها الشافعي على وجوب طهارة الثوب. وليست عند مالك واهل المدينة بفرض، وكذلك طهارة البدن، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل. وقد مضى هذا القول في سورة" براءة" «4» مستوفى.

[سورة المدثر (74): آية 5]
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
قوله تعالى: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال مجاهد وعكرمة: يعني الأوثان، دليله قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30]. قال ابن عباس وابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: والمأثم فاهجر، أي فاترك. وكذا روى مغيرة عن إبراهيم النخعي قال: الرجز الإثم. وقال قتادة: الرجز: إساف ونائلة، صنمان كانا عند البيت. وقيل: الرجز العذاب، على تقدير حذف
__________
(1). الإزرة بالكسر: الحالة وهيئة الائتزار.
(2). الزيادة من ابن العربي (ج 288/ 2) طبع السعادة بالقاهرة.
(3). في ابن العربي: بالاقصياء.
(4). راجع ج 8 ص 63.

وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)

المضاف، المعنى: وعمل الرجز فاهجر، أو العمل المؤدي إلى العذاب. واصل الرجز العذاب، قال الله تعالى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ [الأعراف: 134]. وقال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [الأعراف: 162]. فسميت الأوثان رجزا، لأنها تؤدي إلى العذاب. وقراءة العامة (الرجز) بكسر الراء. وقرا الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم وَالرُّجْزَ بضم الراء وهما لغتان مثل الذكر والذكر. وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرجز بالضم: الصنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية. وقال الكسائي أيضا: بالضم: الوثن، وبالكسر: العذاب. وقال السدي: الرجز ينصب الراء: الوعيد «1».

[سورة المدثر (74): آية 6]
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ فيه أحد عشر «2» تأويلا، الأول- لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. الثاني- لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لامته، وقاله مجاهد. الثالث- عن مجاهد أيضا: لا تضعف «3» أن تستكثر من الخير، من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا، ودليله قراءة ابن مسعود ولا تمنن تستكثر من الخير. الرابع- عن مجاهد أيضا والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك. قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك، إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. الخامس- قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره. السادس- لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به. السابع- قال القرظي: لا تعط مالك مصانعة. الثامن- قال زيد بن أسلم: إذا
__________
(1). قوله (بنصب الراء ...) كذا في نسخ الأصل ولم نظفر به في المراجع التي بأيدينا.
(2). ا، ح: (فيه عشر تأويلات).
(3). عبارة ابن العربي في أحكام القرآن (288/ 2): ولا تضعف عن الخير أن تستكثر منه.

أعطيت عطية فأعطها لربك. التاسع- لا تقل دعوت فلم يستجب لي. العاشر- لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها. الحادي عشر- لا تفعل الخير لترائي به الناس. الثانية- هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال، يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها، لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: [ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم [. وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين، ولهذا لم يورث، لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شي من الدنيا، ولذلك «1» حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال: [لو دعيت إلى كراع «2» لأجبت ولو أهدي إلى ذراع لقبلت [ابن العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالاغنياء أولى بالاجتناب، لأنها باب من أبواب المذلة، وكذلك قول من قال: إن معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالاطماع، وذلك في حيزه بحكم الامتناع، وقد قال الله تعالى له: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: 131]. وذلك جائز لسائر الخلق، لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها. وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح، فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر. الثالثة- قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ قراءة العامة بإظهار التضعيف. وقرا أبو السمال العدوي وأشهب العقيلي والحسن" ولا تمن" مدغمة مفتوحة. تَسْتَكْثِرُ: قراءة العامة
__________
(1). في، اح، ز، ط: (ولهذا).
(2). الكراع بوزن غراب: وهو مستدق الساق من الرجل. وهو من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس والبعير.

وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

بالرفع وهو في معنى الحال، تقول: جاء زيد يركض أي راكضا، أي لا تعط شيئا مقدرا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه. وقرا الحسن بالجزم على جواب النهي وهو ردئ، لأنه ليس بجواب. ويجوز أن يكون بدلا من تَمْنُنْ كأنه قال: لا تستكثر. وأنكره أبو حاتم وقال: لان المن ليس بالاستكثار فيبدل منه. ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضد. أو أن يعتبر حال الوقف. وقرا الأعمش ويحيى (تستكثر) بالنصب، توهم لام كي، كأنه قال: ولا تمنن لتستكثر. وقيل: هو بإضمار" أن" كقوله: «1»
(ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى)

ويؤيده قراءة ابن مسعود" ولا تمنن أن تستكثر". قال الكسائي: فإذا حذف" أن" رفع وكان المعنى واحدا. وقد يكون المن بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم، فيرجع إلى القول [الثاني»
]، ويعضده قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [البقرة: 2 264] وقد يكون مرادا في هذه الآية. والله أعلم.

[سورة المدثر (74): آية 7]
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
قوله تعالى: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. وقال مجاهد: على ما أوذيت «3». وقال ابن زيد: حملت أمرا عظيما، محاربة العرب والعجم، فاصبر عليه لله. وقيل: فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله تعالى. وقيل: فاصبر على البلوى، لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه. وقيل: على أوامره ونواهيه. وقيل: على فراق الأهل والأوطان.

[سورة المدثر (74): الآيات 8 الى 10]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
__________
(1). البيت لطرفة بن العبد من معلقته وتمامه:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

[.....]
(2). زيادة يقتضيها المعنى.
(3). في ا، ح، ل: (ما أديت).

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

قوله تعالى: (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) إذا نفخ في الصور. والناقور: فاعول من النقر، كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب: الصوت، ومنه قول امرئ القيس.
أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفا غير خاف غضيض
وهم يقولون: نقر باسم الرجل إذ دعاه مختصا له بدعائه. وقال مجاهد وغيره: هو كهيئة البوق، ويعني به النفخة الثانية. وقيل: الاولى، لأنها أول الشدة الهائلة العامة. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في" النمل" «1» و" الانعام" «2» وفي كتاب" التذكرة"، والحمد لله. وعن أبي حبان قال: أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ خر ميتا. (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي فذلك اليوم يوم شديد (عَلَى الْكافِرِينَ) أي على من كفر بالله وبأنبيائه صلى الله عليهم (غَيْرُ يَسِيرٍ) أي غير سهل ولا هين، وذلك أن عقدهم لا تنحل إلا إلى عقدة أشد منها، بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف منها حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى. و(يَوْمَئِذٍ) نصب على تقدير فذلك يوم عسير يومئذ. وقيل: جر بتقدير حرف جر مجازه: فذلك في يومئذ. وقيل: يجوز أن يكون رفعا إلا أنه بنى على الفتح لاضافته إلى غير متمكن.

[سورة المدثر (74): الآيات 11 الى 17]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)
قوله تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (ذَرْنِي) أي دعني، وهي كلمة وعيد وتهديد. وَمَنْ خَلَقْتُ أي دعني والذي خلقته وحيدا، ف- وَحِيداً على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي خلقته وحده، لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته.
__________
(1). راجع ج 13 ص 339.
(2). راجع ج 7 ص 30.

والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه. وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام، وكان يسمى الوحيد في قومه. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لابي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد، فقال الله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ بزعمه وَحِيداً لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد. وقال قوم: إن قوله تعالى: وَحِيداً يرجع إلى الرب تعالى على معنين: أحدهما: ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: أني انفردت «1» بخلقه ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه، ف- وَحِيداً على هذا حال من ضمير الفاعل، وهو التاء في خَلَقْتُ والأول قول مجاهد، أي خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعمت عليه فكفر، فقوله: وَحِيداً على هذا يرجع إلى الوليد، أي لم يكن له «2» شي فملكته. وقيل: أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيدا كما خلق وحيدا. وقيل: الوحيد الذي لا يعرف «3» أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعي، كما ذكرنا في قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] وهو في صفة الوليد أيضا. قوله تعالى: (وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً) أي خولته وأعطيته مالا ممدودا، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والحجور «4» والنعم والجنان والعبيد والجواري، كذا كان ابن عباس يقول: وقال مجاهد: غلة ألف دينار، قاله سعيد بن جبير وابن عباس أيضا. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري وقتادة: أربعة آلاف دينار. الثوري أيضا: ألف ألف دينار. مقاتل: كان له بستان لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا. وقال عمر رضى الله عنه: وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً غلة شهر بشهر. النعمان بن سالم: أرضا يزرع فيها. القشيري: والأظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة.
__________
(1). في ا، ح، و: (أفردت).
(2). كلمة (له) ساقطة من ا، ح، ل.
(3). في ز، ط، ل: (لا يتبين).
(4). جمع حجرة وهي الأنثى من الخيل.

قوله تعالى: (وَبَنِينَ شُهُوداً) أي حضورا لا يغيبون عنه في تصرف. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقيل: اثنا عشر، قاله السدي والضحاك. قال الضحاك: سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا. مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل: شهودا، أي إذا ذكر ذكروا معه، قاله ابن عباس. وقيل: شهودا، أي قد صاروا مثله في شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره. والأول قول السدي، أي حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون. قوله تعالى: (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي بسطت له في العيش بسطا، حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب: التوطئة والتهيئة، ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي وسعت له ما بين اليمن والشام وقاله مجاهد. وعن مجاهد أيضا في وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش. قوله تعالى: (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي ثم إن الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. (كَلَّا) أي ليس يكون ذلك مع كفره بالنعم. وقال الحسن وغيره: أي ثم يطمع أن أدخله الجنة، وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي، فقال الله تعالى ردا عليه وتكذيبا له: كَلَّا أي لست أزيده، فلم يزل يرى النقصان في ماله وولده حتى هلك. وثُمَّ في قوله تعالى: ثُمَّ يَطْمَعُ ليست بثم التي للنسق ولكنها تعجيب، وهي كقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الانعام: 1] وذلك كما تقول: أعطيتك ثم أنت تجفوني، كالمتعجب من ذلك. وقيل يطمع أن أترك ذلك في عقبه، وذلك أنه كان يقول: إن محمدا مبتور، أي أبتر وينقطع ذكره بموته. وكان يظن أن ما رزق لا ينقطع بموته. وقيل: أي ثم يطمع أن أنصره على كفره. وكَلَّا قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة، فيكون متصلا بالكلام الأول. وقيل: كَلَّا بمعنى حقا ويكون ابتداء إِنَّهُ يعني الوليد كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي معاندا للنبي صلى الله

عليه وسلم وما جاء به، يقال: عاند فهو عنيد مثل جالس فهو جليس، قاله مجاهد. وعند يعند بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند. والعاند: البعير الذي يحور عن الطريق ويعدل عن القصد والجمع عند مثل راكع وركع، وأنشد أبو عبيدة قول الحارثي:
إذا ركبت فاجعلاني وسطا «1» ... إني كبير لا أطيق العندا
وقال أبو صالح: عَنِيداً معناه مباعدا، قال الشاعر:
أرانا على حال تفرق بيننا ... نوى غربة «2» إن الفراق عنود
قتادة: جاحدا. مقاتل: معرضا. ابن عباس: جحودا. وقيل: إنه المجاهر بعدوانه. وعن مجاهد أيضا قال: مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعنى كله متقارب. والعرب تقول: عند الرجل إذا عتا وجاوز قدره. والعنود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل، إنما هو في ناحية. ورجل عنود إذا كان يحل وحده لا يخالط الناس. والعنيد من التجبر. وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه، كل هذا قياس واحد وقد مضى في سورة" إبراهيم" «3». وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف. قوله تعالى: سَأُرْهِقُهُ أي سأكلفه. وكان ابن عباس يقول: سألجئه، والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان على الشيء. صَعُوداً (الصعود: جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا) رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجه الترمذي وقال فيه حديث غريب. وروى عطية عن أبي سعيد قال: صخرة في جهنم إذا وضعوا عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت، قال: فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع، حتى إذا بلغ أعلاها رمى به إلى أسفلها، فذلك دأبه أبدا. وقد مضى هذا المعنى في سورة قُلْ أُوحِيَ «4» [الجن: 1] وفي التفسير: أنه صخرة ملساء
__________
(1). رواية لسان العرب:
إذا رحلت فاجعلوني وسطا

(2). نوى غربة: بعيدة.
(3). راجع ج 9 ص 349.
(4). راجع ص 28 من هذا الجزء.

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)

يكلف صعودها فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيقوم يهوي ألف عام من قبل أن يبلغ قرار جهنم، يحترق في كل يوم سبعين مرة ثم يعاد خلقا جديدا. وقال ابن عباس: المعنى سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه. ونحوه عن الحسن وقتادة. وقيل: إنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت، ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه.

[سورة المدثر (74): الآيات 18 الى 25]
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
قوله تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) يعني الوليد فكر في شأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن وقَدَّرَ أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: قدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما نزل: حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر: 2- 1] إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ سمعه الوليد يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صبا الوليد لتصبون قريش كلها. وكان يقال للوليد ريحانة قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فمضى إليه حزينا؟ فقال له: مالي أراك حزينا. فقال له: وما لي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليد وتكبر، وقال: أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه، فأنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق؟ قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط؟ قالوا: لا والله.

قال: فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل «1» رأيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمى الصادق الأمين من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه، ثم نظر، ثم عبس، فقال: ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل واهلة وولده ومواليه؟! فذلك قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ أي في أمر محمد والقرآن وَقَدَّرَ في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. فَقُتِلَ أي لعن. وكان بعض أهل التأويل يقول: معناها فقهر وغلب، وكل مذلل مقتل، قال الشاعر «2»
وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء. كَيْفَ قَدَّرَ قال ناس: كَيْفَ تعجيب، كما يقال للرجل تتعجب من صنيعه: كيف فعلت هذا؟ وذلك كقوله: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ
[الاسراء: 48]. ثُمَّ قُتِلَ أي لعن لعنا بعد لعن. وقيل: فقتل بضرب من العقوبة، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة كَيْفَ قَدَّرَ أي على أي حال قدر. (ثُمَّ نَظَرَ) بأي شي يرد الحق ويدفعه. (ثُمَّ عَبَسَ) أي قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما حمل قريشا على ما حملهم عليه من القول في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه ساحر، مر على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم .. قيل: عبس وبسر على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دعاه. والعبس مخففا «3» مصدر عبس يعبس عبسا وعبوسا: إذا قطب. والعبس ما يتعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها قال أبو النجم:
كأن في أذنابهن الشول ... من عبس الصيف قرون الأيل
(وَبَسَرَ) أي كلح وجهه وتغير لونه، قاله قتادة والسدي، ومنه قول بشر بن أبي خازم:
صبحنا تميما غداة الجفار «4» ... بشهباء ملمومة باسره
__________
(1). تخلج المجنون في مشيته: تجاذب يمينا وشمالا.
(2). هو امرؤ القيس. [.....]
(3). كلمة: (مخففا) ساقطة من الأصل المطبوع.
(4). الجفار: موضع. وقيل هو ماء لبني تميم.

وقال آخر «1»:
وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسؤرها
وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. وقال قوم: بَسَرَ وقف لا يتقدم ولا يتأخر. قالوا: وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب، فلم يجئ ولم يذهب: قد بسر المركب، وأبسر أي وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول: وجه باسر بين البسور: إذا تغير واسود. ثُمَّ أَدْبَرَ أي ولى وأعرض ذاهبا إلى أهله. وَاسْتَكْبَرَ أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل: أدبر عن الايمان واستكبر حين دعي إليه. فَقالَ إِنْ هذا أي ما هذا الذي أتى به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي يأثره عن غيره. والسحر: الخديعة. وقد تقدم بيانه في سورة (البقرة) «2». وقال قوم: السحر: إظهار الباطل في صورة الحق. والأثرة: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره إذا ذكرته عن غيرك، ومنه قيل: حديث مأثور: أي ينقله خلف عن سلف، قال امرؤ القيس «3»:
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من القول ما لا يزا ... ل يؤثر عني يد المسند
يريد: آخر الدهر، وقال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما «4» ... بين للسامع والآثر
ويروى: بين. (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي ما هذا إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر، قال السدي: يعنون أنه من قول سيار «5» عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي
__________
(1). هو توبة بن الحمير. وزاد بعض النسخ بعد هذا البيت ما يأتي كحاشية: قوله (بشهباء): أراد بكتيبة شهباء ومنه قول عنترة:
وكتيبة لبستها بكتيبة ... شهباء باسلة يخاف رداها
ويقال: كتيبة ململمة وملمومة أيضا أي مجتمعة مضموم بعضها إلى بعض. وصخرة ملمومة وململمة أي مستديرة صلبة قاله الجوهري.
(2). راجع 2 ص (43)
(3). يقول: لو أتاني هذا النبأ عن حديث غيره لقلت قولا يشيع في الناس ويؤثر عنى آخر الدهر. والنثا: ما يحدث به من خير وشر. والمسند: الدهر.
(4). الذي في ديوان الأعشى طبع أوربا: (تداريتما).
(5). في ز: (من قول أبي اليسر سيار).

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك. وقيل: أراد أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل: عن مسيلمة. وقيل: عن عدي الحضرمي الكاهن. وقيل: إنما تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم. قال أبو سعيد الضرير: إن هذا إلا أمر «1» سحر يؤثر، أي يورث.

[سورة المدثر (74): الآيات 26 الى 29]
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
قوله تعالى: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله سقر كي يصلى حرها. وإنما سميت سقر من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه. ولا ينصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: هي الطبق السادس من جهنم. وروى أبو هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [سأل موسى ربه فقال: أي رب، أي عبادك أفقر؟ قال صاحب سقر [ذكره الثعلبي: (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) هذه مبالغة في وصفها، أي وما أعلمك أي شي هي؟ وهي كلمة تعظيم ثم فسر حالها فقال: لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ أي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته. وكرر اللفظ تأكيدا. وقيل: لا تبقى منهم شيئا ثم يعادون خلقا جديدا، فلا تذر أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا. وقال مجاهد: لا تبقى من فيها حيا ولا تذره ميتا، تحرقهم كلما جددوا. وقال السدي: لا تبقى لهم لحما ولا تذر لهم عظما (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي مغيرة من لاحه إذا غيره. وقراءة العامة لَوَّاحَةٌ بالرفع نعت ل- سَقَرُ. في قوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. وقرا عطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر (لواحة) بالنصب على الاختصاص، للتهويل. وقال أبو رزين: تلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل، وقاله مجاهد. والعرب تقول: لاحه البرد والحر والسقم والحزن: إذا غيره، ومنه قول الشاعر:
تقول ما لاحك يا مسافر ... يا بنة عمي لاحني الهواجر «2»
__________
(1). كلمة: (أمر) ساقطة من الأصل المطبوع.
(2). الهواجر: جمع هاجرة وهي شدة الحر عند منتصف النهار.

عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)

وقال آخر:
وتعجب هند أن رأتني شاحبا ... تقول لشيء لوحته السمائم «1»
وقال رؤبة بن العجاج:
لوح منه بعد بدن وسنق ... تلويحك الضامر يطوى للسبق «2»
وقيل: إن اللوح شدة العطش، يقال: لاحه العطش ولوحه أي غيره. والمعنى أنها معطشة للبشر أي لأهلها، قاله الأخفش، وأنشد:
سقتني على لوح من الماء شربة ... سقاها بها الله الرهام الغواديا
يعني باللوح شدة العطش، والتاح أي عطش، والرهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة أتت بالرهام. وقال ابن عباس: لَوَّاحَةٌ أي تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام. الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا. نظيره: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء: 91] وفي البشر وجهان: أحدهما- أنه الانس من أهل النار، قاله الأخفش والأكثرون. الثاني- أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة، قاله مجاهد وقتادة، وجمع البشر أبشار، وهذا على التفسير الأول، وأما على تفسير ابن عباس فلا يستقيم فيه إلا الناس لا الجلود، لأنه من لاح الشيء يلوح، إذا لمع.

[سورة المدثر (74): الآيات 30 الى 31]
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)
__________
(1). السمائم: جمع سموم وهي الريح الحارة.
(2). لوحه السفر غيره وأضمره. والبدن: السمن واكتناز اللحم. والسنق: الشبع حتى يكون كالتخمة. الضامر: الفرس. يطوى: يجوع لأجل السباق.

قوله تعالى: (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على سقر تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها. ثم قيل: على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها، مالك وثمانية عشر ملكا. ويحتمل أن تكون التسعة عشر نقيبا، ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم. وعلى هذا أكثر المفسرين. الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. وقال ابن جريج: نعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خزنة جهنم فقال: [فكأن أعينهم البرق، وكان أفواههم الصياصي، يجرون أشعارهم، لأحدهم من القوة مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الامة وعلى رقبته جبل، فيرميهم في النار، ويرمى فوقهم الجبل ]. قلت: وذكر ابن المبارك قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن رجل من بني تميم قال: كنا عند أبي العوام، فقرأ هذه الآية: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ فقال ما تسعة عشر؟ تسعة عشر ألف ملك، أو تسعة عشر ملكا؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكا. فقال: وأنى تعلم ذلك؟ فقلت: لقول الله عز وجل: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا قال: صدقت هم تسعة عشر ملكا، بيد كل ملك منهم مرزبة «1» لها شعبتان، فيضرب الضربة فيهوى بها في النار سبعين ألفا. وعن عمرو بن دينار: كل واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. خرج الترمذي عن جابر بن عبد الله. قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا. فجاء رجل
__________ (1). المرزبة: عصية من حديد والمطرقة الكبيرة التي للحداد.

إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم، فقال: (وماذا «1» غلبوا)؟ قال: سألهم يهود: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قال: (فماذا قالوا) قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا. قال: (أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا؟ لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا أرنا الله جهرة، علي بأعداء الله! إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك (. فلما جاءوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال: (هكذا وهكذا) في مرة عشرة وفي مرة تسعة. قالوا: نعم. قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما تربة الجنة) قال: فسكتوا هنيهة ثم قالوا: أخبزة يا أبا القاسم؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الخبز من الدرمك). قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر. وذكر ابن وهب قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خزنة جهنم: [ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب ]. وقال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوه الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. قلت: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها، كما قال الله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم- أي العدد- والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم! قال السدي: فقال أبو الأسود «2» بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون
__________
(1). كذا في ا، ح، ط، و. وفي نسخة: وبم؟
(2). كذا في نسخ الأصل: (الأسود). والذي في حاشية الجمل ص 457 ج 4: (أبو الأشد). [.....]

إلى الجنة، يقولها مستهزئا. في رواية: أن الحرث بن كلدة قال أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين. وقيل: إن أبا جهل قال أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فنزل قوله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم. وقيل: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والانس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم، ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم، ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا. (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً) أي بلية. وروي عن ابن عباس من غير وجه قال: ضلالة للذين كفروا، يريد أبا جهل وذويه. وقيل: إلا عذابا، كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات: 14]. أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب. وفي تِسْعَةَ عَشَرَ سبع قراءات «1»: قراءة العامة تِسْعَةَ عَشَرَ. وقرا أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان" تسعة عشر" بإسكان العين. وعن ابن عباس" تسعة عشر" بضم الهاء. وعن أنس بن مالك" تسعة وعشر" وعنه أيضا" تسعة وعشر". وعنه أيضا" تسعة أعشر" ذكرها المهدوي وقال: من قرأ" تسعة عشر" أسكن العين لتوالي الحركات. ومن قرأ" تسعة وعشر" جاء به على الأصل قبل التركيب، وعطف عشرا على تسعة، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها. ومن قرأ" تسعة عشر" فكأنه من التداخل، كأنه أراد العطف وترك التركيب، فرفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء وأسكن. وأما" تسعة أعشر": فغير معروف، وقد أنكرها أبو حاتم. وكذلك" تسعة وعشر" لأنها محمولة على" تسعة أعشر" والواو بدل من الهمزة، وليس لذلك وجه عند النحويين. الزمخشري: وقرى:" تسعة أعشر" جمع عشير، مثل يمين وأيمن.
__________
(1). ورد في الأصول ست قراءات فقط ولعل السابعة قراءة سليمان بن قتة (تسعة أعشر) بضم التاء وهمزه مفتوحة وسكون العين وضم الشين وجر الراء. وتعقب السمين هذه القراءات فقال: (في هذه الكلمة قراءات شاذة وتوجيهات تشاكلها).

قوله تعالى: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي ليوفن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) بذلك، لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. وَلا يَرْتابَ أي ولا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوا الكتاب وَالْمُؤْمِنُونَ أي المصدقون من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. وقيل: المعنى، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة. وَالْكافِرُونَ أي اليهود والنصارى (ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) يعني بعدد خزنة جهنم. وقال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق، فالمرض في هذه الآية الخلاف والْكافِرُونَ أي مشركو العرب. وعلى القول الأول أكثر المفسرين. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب، لان أهل مكة كان أكثرهم شاكين، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم: ماذا أَرادَ اللَّهُ أي ما أراد بِهذا العدد الذي ذكره حديثا، أي ما هذا من الحديث. قال الليث: المثل الحديث، ومنه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي حديثها والخبر عنها كَذلِكَ أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم يُضِلُّ اللَّهُ أي يخزي ويعمي مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي أي ويرشد مَنْ يَشاءُ كإرشاد أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ عن الجنة مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إليها مَنْ يَشاءُ. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار إِلَّا هُوَ أي إلا الله جل ثناؤه. وهذا جواب لابي جهل حين قال: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر! وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقسم غنائم حنين، فأتاه جبريل فجلس عنده، فأتى ملك فقال: إن ربك يأمرك

كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)

بكذا وكذا، فخشي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون شيطانا، فقال: (يا جبريل أتعرفه)؟ فقال: هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف. وقال الأوزاعي: قال موسى:" يا رب من في السماء؟ قال ملائكتي. قال كم عدتهم يا رب؟ قال: اثنى «1» عشر سبطا. قال: كم عدة كل سبط؟ قال: عدد التراب" ذكرهما الثعلبي. وفي الترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أطت «2» السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا). قوله تعالى: (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) يعني الدلائل والحجج والقرآن. وقيل: وَما هِيَ أي وما هذه النار التي هي سقر إِلَّا ذِكْرى أي عظة لِلْبَشَرِ أي للخلق. وقيل: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة. قاله الزجاج. وقيل: أي ما هذه العدة إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، فالكناية على هذا في قوله تعالى: وَما هِيَ ترجع إلى الجنود، لأنه أقرب مذكور.

[سورة المدثر (74): الآيات 32 الى 48]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
__________
(1). كذا في الأصول. والصواب: اثنا عشر.
(2). الأطيط: صوت الاقتاپ (إكاف البعير). وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها. أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد ثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط. (النهاية).

قوله تعالى: (كَلَّا وَالْقَمَرِ) قال الفراء: كَلَّا صلة للقسم، التقدير أي والقمر. وقيل: المعنى حقا والقمر، فلا يوقف على هذين التقديرين على كَلَّا وأجاز الطبري الوقف عليها، وجعلها ردا للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم، أي ليس الامر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك عز وجل بالقمر وبما بعده، فقال: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي ولى وكذلك" دبر". وقرا نافع وحمزة وحفص إِذْ أَدْبَرَ الباقون (إذا) بألف و" دبر" بغير ألف وهما لغتان بمعنى، يقال: دبر وأدبر، وكذلك قبل الليل وأقبل. وقد قالوا: أمس الدابر والمدبر، قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي:
ولقد قتلناكم ثناء وموحدا ... وتركت مرة مثل أمس الدابر
ويروي المدبر. وهذا قول الفراء والأخفش. وقال بعض أهل اللغة: دبر الليل: إذا مضى، وأدبر: أخذ في الأدبار. وقال مجاهد: سألت ابن عباس عن قوله تعالى:" والليل إذا دبر" فسكت حتى إذا دبر قال: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل. وقرا محمد بن السميقع وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ بألفين، وكذلك في مصحف عبد الله وأبي بألفين. وقال قطرب من قرأ" دبر" فيعني أقبل، من قول العرب دبر فلان: إذا جاء من خلفي. قال أبو عمرو: وهي لغة قريش. وقال ابن عباس في رواية عنه: الصواب: أَدْبَرَ، إنما يدبر ظهر البعير. واختار أبو عبيد: إذا أدبر قال: لأنها أكثر موافقة للحروف التي تليه، ألا تراه يقول: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، فكيف يكون أحدهما" إذ" والآخر إذا وليس في القرآن قسم تعقبه" إذ" وإنما يتعقبه إِذا. ومعنى أَسْفَرَ: ضاء. وقراءة العامة أَسْفَرَ بالألف. وقرا ابن السميقع:" سفر". وهما لغتان. يقال: سفر وجه فلان وأسفر: إذا أضاء. وفي الحديث: (أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر) أي صلوا صلاة الصبح مسفرين، ويقال: طولوها إلى الاسفار، والاسفار: الإنارة. وأسفر وجهه حسنا أي أشرق، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها فهي سافر. ويجوز أن يكون [من ] سفر الظلام أي كنسه، كما يسفر البيت، أي يكنس، ومنه السفير: لما سقط من ورق الشجر وتحات، يقال: إنما سمي سفيرا لان الريح تسفره أي تكنسه. والمسفرة: المكنسة.

قوله تعالى: (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) جواب القسم، أي إن هذه النار لَإِحْدَى الْكُبَرِ أي لإحدى الدواهي. وفي تفسير مقاتل الْكُبَرِ: اسم من أسماء النار. وروي عن ابن عباس إِنَّها أي إن تكذيبهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَإِحْدَى الْكُبَرِ أي لكبيرة من الكبائر. وقيل: أي إن قيام الساعة لإحدى الكبر. والكبر: هي العظائم من العقوبات، قال الراجز:
يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر ... داهية الدهر وصماء الغير
وواحدة (الْكُبَرِ)، كبرى مثل الصغرى والصغر، والعظمى والعظم. وقرا العامة (لَإِحْدَى) وهو اسم بني ابتداء للتأنيث، وليس مبنيا على المذكر، نحو عقبى وأخرى، والفة ألف قطع، لا تذهب في الوصل. وروى جرير بن حازم عن ابن كثير" إنها لحدي الكبر" بحذف الهمزة. (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) يريد النار، أي أن هذه النار الموصوفة نَذِيراً لِلْبَشَرِ فهو نصب على الحال من المضمر في إِنَّها قاله الزجاج. وذكر، لان معناه معنى العذاب، أو أراد ذات إنذار على معنى النسب، كقولهم: امرأة طالق وطاهر. وقال الخليل: النذير: مصدر كالنكير، ولذلك يوصف به المؤنث. وقال الحسن: والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها. وقيل: المراد بالنذير محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي قم نذيرا للبشر، أي مخوفا لهم ف- نَذِيراً حال من قُمْ في أول السورة حين قال: قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 2] قال أبو علي الفارسي وابن زيد، وروي عن ابن عباس وأنكره الفراء. ابن الأنباري: وقال بعض المفسرين معناه يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر. وهذا قبيح، لان الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل: هو من صفة الله تعالى. روى أبو معاوية الضرير: حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين نَذِيراً لِلْبَشَرِ قال: يقول الله عز وجل: أنا لكم منها نذير فاتقوها. و(نَذِيراً) على هذا نصب على الحال، أي وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً منذرا بذلك البشر. وقيل: هو حال من هُوَ في قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. وقيل: هو في موضع المصدر، كأنه قال: إنذار للبشر. قال الفراء: يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار، أي أنذر إنذارا فهو كقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ نذير أي إنذاري
، فعلى هذا يكون راجعا إلى

أول السورة، أي (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي إنذارا. وقيل: هو منصوب بإضمار فعل. وقرا ابن أبي عبلة" نذير" بالرفع على إضمار هو. وقيل: أي إن القرآن نذير للبشر، لما تضمنه من الوعد والوعيد. قوله تعالى: (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) اللام متعلقة ب- نَذِيراً، أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية، نظيره: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ [الحجر: 24] أي في الخير وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر: 24] عنه. قال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29]. وقال بعض أهل التأويل: معناه لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله جل ثناؤه، والتقديم الايمان، والتأخير الكفر. وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عوقب عقابا لا ينقطع. وقال السدي: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلى النار المتقدم ذكرها، أَوْ يَتَأَخَّرَ عنها إلى الجنة. قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها. وليست رَهِينَةٌ تأنيث رهين في قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21] لتأنيث النفس، لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين، لان فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وإنما هو اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهين، ومنه بيت الحماسة:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل «1»
كأنه قال رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. واختلف في تعيينهم، فقال ابن عباس: الملائكة.
__________
(1). النعف من الأرض: المكان المرتفع في اعتراض. والبيت من قول عبد الرحمن بن زيد العذري وقد قتل أخوه وعرضت عليه الدية فأبى أن يأخذها واخذ بثأره.

علي بن أبي طالب: أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ونحوه عن ابن جريج، قال: كل نفس بعملها محاسبة إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم أهل الجنة، فإنهم لا يحاسبون. وكذا قال مقاتل أيضا: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين، لأنهم أدوا ما كان عليهم. وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون. وقيل: إلا أصحاب الحق واهل الايمان. وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقال أبو جعفر الباقر: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون. وقال الحكم: هم الذين اختارهم الله لخدمته، فلم يدخلوا في الرهن، لأنهم خدام الله وصفوته وكسبهم لم يضرهم. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر، إلا من اعتمد على الفضل والرحمة، دون الكسب والخدمة، فكل من اعتمد على الكسب فهو مرهون، وكل من اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به. فِي جَنَّاتٍ أي في بساتين يَتَساءَلُونَ أي يسألون (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين ما سَلَكَكُمْ أي أدخلكم فِي سَقَرَ كما تقول: سلكت الخيط في كذا أي أدخلته فيه. قال الكلبي: فيسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان. وفي قراءة عبد الله بن الزبير" يا فلان ما سلكك في سقر"؟ وعنه قال: قرأ عمر بن الخطاب" يا فلان ما سلككم في سقر" وهي قراءة على التفسير، لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن، قاله أبو بكر بن الأنباري. وقيل: إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين فيقولون لهم: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين الولدان، لأنهم لا يعرفون الذنوب. قالُوا يعني أهل النار لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ أي المؤمنين الذين يصلون. (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي لم نك نتصدق. (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي كنا نخالط أهل الباطل في باطلهم. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قولهم- لعنهم الله- كاهن، مجنون، شاعر، ساحر.

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)

وقال السدي: أي وكنا نكذب مع المكذبين. وقال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه. وقيل معناه: وكنا أتباعا ولم نكن متبوعين. (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي لم نك نصدق بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم. قوله تعالى: (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي جاءنا ونزل بنا الموت، ومنه قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»
[الحجر: 99]. قوله تعالى: (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) هذا دليل على صحة الشفاعة للمذنبين، وذلك أن قوما من أهل التوحيد عذبوا بذنوبهم، ثم شفع فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة، فأخرجوا من النار، وليس للكفار شفيع يشفع فيهم. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى أو عيسى «2»، ثم نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ إلى قوله: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ قال عبد الله بن مسعود: فهؤلاء هم الذين يبقون في جهنم، وقد ذكرنا إسناده في كتاب (التذكرة).

[سورة المدثر (74): الآيات 49 الى 53]
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53)
قوله تعالى: (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي فما لأهل مكة أعرضوا وولوا عما جئتم به. وفي تفسير مقاتل: الاعراض عن القرآن من وجهين: أحدهما الجحود والإنكار، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. ومُعْرِضِينَ نصب على الحال من الهاء والميم في لَهُمْ وفي اللام معنى الفعل، فانتصاب الحال على معنى الفعل. كَأَنَّهُمْ أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية.
__________
(1). راجع ج 10 ص 64.
(2). في ح، ل: (وعيسى).

وقرا نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي منفرة مذعورة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر، أي نافرة. يقال. نفرت واستنفرت بمعنى، مثل عجبت واستعجبت، وسخرت واستسخرت، وأنشد الفراء:
أمسك حمارك إنه مستنفر ... في إثر أحمرة عمدن لغرب «1»
قوله تعالى «2»: فَرَّتْ أي نفرت وهربت مِنْ قَسْوَرَةٍ أي من رماة يرمونها. وقال بعض أهل اللغة: إن القسورة الرامي، وجمعه القسورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: القسورة: هم الرماة والصيادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو [ظبيان «3»] عن أبي موسى الأشعري. وقيل: إنه الأسد، قاله أبو هريرة وابن عباس أيضا. ابن عرفة: من القسر بمعنى القهر أي، إنه يقهر السباع، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة عن ابن عباس قال: ما أعلم القسورة الأسد في لغة أحد من العرب، ولكنها عصب الرجال، قال: فالقسورة جمع الرجال، وأنشد:
يا بنت كوني خيرة لخيره ... أخوالها الجن واهل القسورة
وعنه: ركز الناس أي حسهم وأصواتهم. وعنه أيضا: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي من حبال الصيادين. وعنه أيضا: القسورة بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: الرماة، وبلسان فارس: شير، وبلسان النبط: أريا. وقال ابن الاعرابي: القسورة: أول الليل، أي فرت من ظلمة الليل. وقاله عكرمة أيضا. وقيل: هو أول سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل قسورة. وقال زيد بن أسلم: من رجال أقوياء، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقسور. وقال لبيد بن ربيعة:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ... أتانا الرجال العائدون القساور
__________
(1). غرب (كسكر): اسم موضع وجبل دون الشام في بلاد بني كلاب.
(2). جملة (قوله تعالى) وكلمة (هربت) ساقطتان من ا، ح.
(3). في الأصول: (أبو حيان) وهو تحريف. والتصحيح من تفسير الثعلبي (والتهذيب).

كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

قوله تعالى: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي يعطى كتبا مفتوحة، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد! ايتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نظيره: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الاسراء: 93]. وقال ابن عباس: كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل. وقال الكلبي: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك. وقال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل: إلى فلان بن فلان. وقيل: المعنى أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف موضع الذكر مجازا. وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟ كَلَّا أي ليس يكون ذلك. وقيل: حقا. والأول أجود، لأنه رد لقولهم. بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي لا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة، اغترارا بالدنيا. وقرا سعيد بن جبير (صحفا منشرة) بسكون الحاء والنون، فأما تسكين الحاء فتخفيف، وأما النون فشاذ. إنما يقال: نشرت الثوب وشبهه ولا يقال أنشرت. ويجوز أن يكون شبه الصحيفة بالميت كأنها ميتة بطيها، فإذا نشرت حييت، فجاء على أنشر الله الميت، كما شبه إحياء الميت بنشر الثوب، فقيل فيه نشر الله الميت، فهي لغة فيه.

[سورة المدثر (74): الآيات 54 الى 56]
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي حقا إن القرآن عظة. (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي أتعظ به. وَما يَذْكُرُونَ أي وما يتعظون إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة يَذْكُرُونَ بالياء واختاره أبو عبيد، لقوله تعالى: كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ. وقرا نافع ويعقوب بالتاء، واختاره أبو حاتم، لأنه أعم واتفقوا على تخفيفها. (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) في الترمذي وسنن ابن ماجة عن

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)

أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في هذه الآية: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال: [قال الله تبارك وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له [لفظ الترمذي، وقال فيه: حديث حسن غريب. وفي بعض التفسير: هو أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبار، واهل المغفرة أيضا للذنوب الصغار، باجتناب الذنوب الكبار. وقال محمد بن نصر: أنا أهل أن يتقيني عبدي، فإن لم يفعل كنت أهلا أن أغفر له [وأرحمه، وأنا الغفور الرحيم «1»].

[تفسير سورة القيامة]
سورة القيامة مكية، وهي تسع وثلاثون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6)
قوله تعالى: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قيل: إن لا صلة، وجاز وقوعها في أول السورة، لان القرآن متصل بعضه ببعض، فهو في حكم كلام واحد، ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى، كقوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «2» [الحجر: 6]. وجوابه في سورة أخرى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «3» [القلم: 2]. ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة، ومثله قول الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... فكاد صميم القلب لا يتقطع
__________
(1). ما بين المربعين زيادة من ط.
(2). سورة الحجر ج 10 ص 4.
(3). سورة القلم ج 18 ص 253.

وحكى أبو الليث السمرقندي: أجمع المفسرون أن معنى لا أُقْسِمُ: أقسم. واختلفوا في تفسير: لا قال بعضهم: لا زيادة في الكلام للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة (لا) كما قال في آية أخرى: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص: 75]. يعني أن تسجد، وقال بعضهم: لا: رد لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الامر كما زعمتم. قلت: وهذا قول الفراء، قال الفراء: وكثير من النحويين يقولون لا صلة، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة، لان هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الأقسام بالرد عليهم [في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدإ «1»] وذلك كقولهم لا والله لا أفعل ف- لا رد لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحق، كأنك أكذبت قوما أنكروه. وأنشد غير الفراء لامرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
وقال غوية بن سلمى:
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي
وفائدتها توكيد القسم في الرد. قال الفراء: وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ" لأقسم" بغير ألف، كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم، وهو صواب، لان العرب تقول: لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز بِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء. (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) لا خلاف في هذا بين القراء، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه [ولم يقسم بالنفس «2»]. وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية. وقيل: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ رد آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعا. ومعنى: بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكذا؟ فلا تراه
__________
(1). الزيادة من تفسير الفراء.
(2). الزيادة من تفسير ابن عطية وغيره. [.....]

إلا وهو يعاتب نفسه، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه. وقيل: إنها ذات اللوم. وقيل: إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها، فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة، وهو صفة مدح، وعلى هذا يجئ القسم بها سائغا حسنا. وفي بعض التفسير: إنه آدم عليه السلام لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: اللوامة بمعنى الملومة المذمومة- عن ابن عباس أيضا- فهي صفة ذم وهو قول من نفى أن يكون قسما، إذ ليس للعاصي خطر يقسم به، فهي كثيرة اللوم. وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله. وقال الفراء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها، فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته. قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رفاتا. قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: ليجمعن العظام للبعث، فهذا جواب القسم. وقال النحاس: جواب القسم محذوف أي لتبعثن، ودل عليه قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ للاحياء والبعث. والإنسان هنا الكافر المكذب للبعث. الآية نزلت في عدي بن ربيعة قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حدثني عن يوم القيامة متى تكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن به، أو يجمع الله العظام؟! ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (اللهم اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة، والأخنس بن شريق). وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت. وذكر العظام والمراد نفسه كلها، لان العظام قالب الخلق. بَلى وقف حسن ثم تبتدئ قادِرِينَ. قال سيبويه: على معنى نجمعها قادرين، ف- قادِرِينَ حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه

من التقدير. وقيل: المعنى بل نقدر قادرين. قال الفراء: قادِرِينَ نصب على الخروج من نَجْمَعَ أي نقدر ونقوي قادِرِينَ على أكثر من ذلك. وقال أيضا: يصلح نصبه على التكرير أي بَلى فليحسبنا قادرين. وقيل: المضمر (كنا) أي كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون. وقرا ابن أبي عبلة وابن السميقع بلى قادرون بتأويل نحن قادرون. (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) البنان عند العرب: الأصابع، واحدها بنانة، قال النابغة:
بمخضب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد «1»
وقال عنترة:
وأن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندواني
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء. وأيضا فإنها أصغر العظام، فخصها بالذكر لذلك. قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام، فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر. وقال ابن عباس وعامة المفسرين: المعنى عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلف الخنزير، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء. وكان الحسن يقول: جعل لك أصابع فأنت تبسطهن، وتقبضهن بهن، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك. وقيل: أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، وهو كقوله تعالى: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ [الواقعة: 61- 60]. قلت: والتأويل الأول أشبه بمساق الآية. والله أعلم. قوله تعالى: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) قال ابن عباس: يعني الكافر يكذب بما أمامه من البعث والحساب. وقاله عبد الرحمن بن زيد، ودليله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ
__________
(1). رواية الشطر الأخير كما في اللسان:
عنم على أغصانه لم يعقد

والعنم: شجر لين الأغصان لطيفها يشبه به البنان.

فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)

أي يسأل متى يكون! على وجه الإنكار والتكذيب. فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب، ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل على أن الفجور التكذيب ما ذكره القتبي وغيره: أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشكا إليه نقب إبله «1» ودبرها، وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله، فقال الاعرابي:
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر

فاغفر له اللهم إن كان فجر

يعني إن كان كذبني فيما ذكرت. وعن ابن عباس أيضا: يعجل المعصية ويسوف التوبة. وفي بعض الحديث قال: يقول سوف أتوب ولا يتوب، فهو قد أخلف فكذب. وهذا قول مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على أشر أحواله. وقال الضحاك: هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت. وقيل: أي يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة. فالهاء على هذه الأقوال للإنسان. وقيل: الهاء ليوم القيامة. والمعنى بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة. والفجور أصله الميل عن الحق. (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي متى يوم القيامة.

[سورة القيامة (75): الآيات 7 الى 13]
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11)
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
قوله تعالى: (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) قرأ نافع وأبان عن عاصم (برق) بفتح الراء، معناه: لمع بصره من شدة شخوصه، فتراه لا يطرف. قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت. وقال الحسن:
__________
(1). النقب: قرحة تخرج في الجنب. والجرب والدبر: قرحة الدابة والبعير.

هذا يوم القيامة. وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ والباقون بالكسر بَرِقَ ومعناه: تحير فلم يطرف، قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما. قال ذو الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه مي سافرا كاد يبرق
الفراء والخليل: بَرِقَ بالكسر: فزع وبهت وتحير «1». والعرب تقول للإنسان المتحير المبهوت: قد برق فهو برق، وأنشد الفراء:
فنفسك قانع ولا تنعني ... وداو الكلوم ولا تبرق «2»
أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك. وقيل: برق يبرق بالفتح: شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة، وأنشد قول الكلابي:
لما أتاني ابن عمير راغبا ... أعطيته عيسا صهابا فبرق «3»
أي فتح عينيه. وقيل: إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنى. قوله تعالى: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب ضوءه. والخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة، فإنه لا يعود ضوءه. ويحتمل أن يكون بمعنى غاب، ومنه قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص: 81]. وقرا ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج: (وخسف القمر) بضم الخاء وكسر السين يدل عليه وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. وقال أبو حاتم محمد بن إدريس: إذا ذهب بعضه فهو الكسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه، قاله الفراء والزجاج. قال الفراء: ولم يقل جمعت، لان المعنى جمع بينهما. وقال أبو عبيدة: هو على تغليب المذكر. وقال الكسائي: هو محمول على المعنى، كأنه قال الضوءان. المبرد: التأنيث
__________
(1). كلمة (تحير) ساقطة من الأصل المطبوع.
(2). قائله: طرفة.
(3). في غير القرطبي: لما أتاني ابن صبيح. والعيس الصباب هي الإبل التي خالط بياضها حمرة وهي تعد عند العرب من أشرفها.

غير حقيقي. وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران. وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة" الانعام" «1». وفي قراءة عبد الله وجمع بين الشمس والقمر وقال عطاء ابن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى. وقال علي وابن عباس: يجعلان في [نور «2»] الحجب. وقد يجمعان في نار جهنم، لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم. وفي مسند أبي داود الطيالسي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار) وقيل: هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان، ويقربان من الناس، فيلحقهم العرق لشدة الحر، فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم. وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار. قوله تعالى: (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)؟ أي يقول ابن آدم، ويقال: أبو جهل، أي أين المهرب؟ قال الشاعر:
أين المف والكباش تنتطح ... وأى كبش حاد عنها يفتضح
الماوردي: ويحتمل وجهين: أحدهما أَيْنَ الْمَفَرُّ من الله استحياء منه. الثاني أَيْنَ الْمَفَرُّ من جهنم حذرا منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما- أن يكون من الكافر خاصة في عرضة القيامة دون المؤمن، لثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني- أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقراءة العامة الْمَفَرُّ بفتح الفاء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم، لأنه مصدر. وقرا ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم، قال الكسائي: هما لغتان مثل مدب ومدب، ومصح ومصح. وعن الزهري بكسر الميم وفتح الفاء. المهدوي: من فتح الميم والفاء من الْمَفَرُّ فهو مصدر
__________
(1). راجع ج 7 ص 146.
(2). الزيادة من كتب التفسير.

بمعنى الفرار، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفر إليه. ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الإنسان الجيد الفرار، فالمعنى أين الإنسان الجيد الفرار ولن ينجو مع ذلك. قلت: ومنه قول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا «1»

يريد أنه حسن الكر والفرجيده. (كَلَّا) أي لا مفر ف- كَلَّا رد وهو من قول الله تعالى، ثم فسر هذا الرد فقال: لا وَزَرَ أي لا ملجأ من النار. وكان ابن مسعود يقول: لا حصن. وكان الحسن يقول: لا جبل. وابن عباس يقول: لا ملجأ. وابن جبير: لا محيص ولا منعة. المعنى في ذلك كله واحد. والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما، قال الشاعر:
لعمري ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر
قال السدي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذ مني، قال طرفة:
ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروع وزر
أي ملجأ للخائف. ويروى: وقر. (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)
أي المنتهى قاله قتادة. نظيره: (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ). وقال ابن مسعود إلى ربك المصير والمرجع. قيل: أي المستقر في الآخرة حيث يقره الله تعالى، إذ هو الحاكم بينهم. وقيل: إن كَلَّا من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه: كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ. قوله تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
أي يخبر ابن آدم برا كان أو فاجرا بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
: أي بما أسلف من عمل سيئ أو صالح، أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده، قاله ابن عباس وابن مسعود. وروى منصور عن مجاهد قال: ينبأ بأول عمله وآخره. وقاله النخعي. وقال ابن عباس أيضا: أي بما قدم من المعصية، وأخر من الطاعة. وهو قول قتادة.
__________
(1). تمام البيت:
كجلمود صخر حطه السيل من عل

بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)

وقال ابن زيد: بِما قَدَّمَ
من أمواله لنفسه وَأَخَّرَ
: خلف للورثة. وقال الضحاك: ينبأ بما قدم من فرض، وأخر من فرض. قال القشيري: وهذا الانباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال. ويجوز أن يكون عند الموت. قلت: والأول أظهر، لما خرجه ابن ماجة في سننه من حديث الزهري، حدثني أبو عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته) فقوله: (بعد موته وهو في قبره) نص على أن ذلك لا يكون عند الموت، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله، وإن كان يبشر بذلك في قبره. ودل على هذا أيضا قوله الحق: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ «1» أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] وقوله تعالى: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ «2» عِلْمٍ [النحل: 25] وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال. والله أعلم. وفي الصحيح: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها واجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شي، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شي (.

[سورة القيامة (75): الآيات 14 الى 15]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)
قال الأخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك. وقال ابن عباس: بَصِيرَةٌ
أي شاهد، وهو شهود جوارحه
__________
(1). راجع ج 13 ص 330.
(2). راجع ج 10 ص 96.

عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ... من الخوف لا تخفى عليهم سرائره
ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1» [النور: 24]. وجاء تأنيث البصيرة لان المراد بالإنسان ها هنا الجوارح، لأنها شاهدة على نفس الإنسان، فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة، قال معناه القتبي وغيره. وناس يقولون: هذه الهاء في قوله: بَصِيرَةٌ
هي التي يسميها أهل الاعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهية وعلامة وراوية. وهو قول أبي عبيد. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر، يدل عليه قوله تعالى: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
فيمن جعل المعاذير الستور. وهو قول السدي والضحاك. وقال بعض أهل التفسير: المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي شاهد فحذف حرف الجر. ويجوز أن يكون بَصِيرَةٍ نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة، وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة

وقال الحسن في قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
يعني بصير بعيوب غيره، جاهل بعيوب نفسه. (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)
أي ولو أرخى ستوره. والستر بلغة أهل اليمن: معذار، قاله الضحاك وقال الشاعر:
ولكنها ضنت بمنزل ساعة ... علينا وأطت فوقها بالمعاذر
قال الزجاج: المعاذر: الستور، والواحد معذار، أي وإن أرخى ستره، يريد أن يخفى عمله، فنفسه شاهدة عليه. وقيل: أي ولو أعتذر فقال لم أفعل شيئا، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذب
__________
(1). راجع ج 12 ص 210.

عذره، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل. قال مقاتل: أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر: 52] وقوله: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر، قال الشاعر:
وإياك والامر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب. وقال ابن عباس: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي. قلت: والأظهر أنه الأدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب، ومنه قول النابغة:
ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها مشارك النكد
والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا «1» مُشْرِكِينَ [الانعام: 23] وقوله تعالى في المنافقين: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ «2» [المجادلة: 18]. وفي الصحيح أنه يقول: (يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع) الحديث. وقد تقدم في" حم السجدة" «3» وغيرها. والمعاذير والمعاذر: جمع معذرة، ويقال: عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا، والاسم المعذرة والعذري، قال الشاعر: «4»
إني حددت ولا عذري لمحدود
__________
(1). راجع ج 6 ص (401)
(2). راجع ج 17 ص 982.
(3). راجع ج: 15 ص 35 ففيه معنى ما أشار إليه القرطبي وأما الحديث فقد أورده في سورة الانعام ج 6 ص (402) [.....]
(4). قائله الجموح الظفري. وقيل: هو راشد بن عبد ربه. وعذري مقصور. وفي اللسان: صواب إنشاده لولا حددت. على إرادة أن تقديره: لولا أن حددت لان لولا التي معناها امتناع الشيء لوجود غيره هي مخصوصة بالأسماء وقد تقع بعدها الافعال على تقدير أن.

وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة، قال النابغة:
ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد «1»
وتضمنت هذه الآية خمس مسائل: الاولى- قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
: فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه، لأنها بشهادة منه عليها، قال الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] ولا خلاف فيه، لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه، لان العاقل لا يكذب على نفسه، وهي المسألة: وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «2» [آل عمران: 81] ثم قال تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ «3» سَيِّئاً [التوبة: 102] وهو في الآثار كثير، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها). فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك: الامر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول أحدهم: إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه، يعطى الذي شهد له قدر الدين «4» الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك: وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها
__________
(1). تقدم البيت برواية: ها إن ذى- مشارك الكمد. وهما روايتان.
(2). راجع ج 4 ص 124.
(3). راجع ج 8 ص 240.
(4). كلمة (الدين) ساقطة من ز، ط، ل، المتطوع.

وينكر ذلك الورثة، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء. الثالثة- لا يصح الإقرار إلا من مكلف، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه، لان الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الإقرار: إحداهما في ابتدائه، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية في انتهائه، وذلك مثل إبهام الإقرار، وله صور كثيرة وأمهاتها ست: الصورة الاولى- أن يقول له عندي شي، قال الشافعي: لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه. والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية- أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة: لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة- أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب، [فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء «1»] فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء، لان الحكم قد نفذ بإبطاله، وقال بعض أصحاب الشافعي: يلزم الخمر والخنزير، وهو قول باطل. وقال أبو حنيفة: إذا قال له علي شي لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما. وهذا ضعيف، فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا. الصورة الرابعة- إذا قال له: عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين، ما لم يجئ من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه. الصورة الخامسة- أن يقول له: عندي مال كثير أو عظيم، فقال الشافعي: يقبل في الحبة. وقال أبو حنيفة: لا يقبل إلا في نصاب الزكاة. وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة، منها نصاب السرقة والزكاة والديه وأقله عندي نصاب السرقة،
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من الأصل المطبوع.

لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم. وبه قال أكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد: إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما. فقيل له: ومن أين تقول ذلك؟ قال: لان الله تعالى قال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ «1» [التوبة: 25] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح، لأنه أخرج حنينا منها، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين، وقد قال الله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: 41]، وقال: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ [النساء: 114]، وقال: وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب: 68]. الصورة السادسة- إذا قال له: عندي عشرة أو مائة أو ألف، فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه. وبه قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا، كقوله: مائة وخمسون درهما، لان الدرهم تفسير للخمسين، والخمسين تفسير للمائة. وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي: الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء. المسألة الرابعة- قوله تعالى: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه. وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله، فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة: يقبل رجوعه بعد الإقرار. وقال به مالك في أحد قوليه، وقال في القول الآخر: لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا. والصحيح جواز الرجوع مطلقا، لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد المقر بالزنى مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: (أبك جنون) قال: لا. قال: (أحصنت) قال: نعم. وفي حديث البخاري: (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت). وفي النسائي وأبي داود: حتى قال له في الخامسة (أجامعتها) «2» قال: نعم. قال: (حتى غاب ذلك منك في ذلك منها) قال: نعم. قال: (كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر). قال: نعم. ثم قال: (هل تدري ما الزنى) قال: نعم، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا. قال: (فما تريد مني)؟
__________
(1). جملة (ويوم حنين) ساقطة من ز، ط والمطبوع.
(2). اللفظ في رواية لابي داود.

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)

قال: أريد أن تطهرني. قال: فأمر به فرجم. قال الترمذي وأبو داود: فلما وجد مس الحجارة فر يشتد»
، فضربه رجل بلحي جمل، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هلا تركتموه) وقال أبو داود والنسائي: ليتثبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأما لترك حد فلا. وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله. وفي قوله عليه السلام: (لعلك قبلت أو غمزت) إشارة إلى قول مالك: إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها. الخامسة- وهذا في الحر المالك لأمر نفسه، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين: إما أن يقر على بدنه، أو على ما في يده وذمته، فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه. وقال محمد بن الحسن: لا يقبل ذلك منه، لان بدنه مستغرق لحق السيد، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه، ودليلنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإن من يبدلنا صفحته نقم عليه الحد (. المعنى: أن محل العقوبة أصل الخلقة، وهي [الدمية «2»] في الآدمية، ولا حق للسيد فيها، وإنما حقه في الوصف والتبع، وهي المالية الطارئة عليه، ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل، حتى قال أبو حنيفة: إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له. وقال علماؤنا: السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق، لان مال العبد للسيد إجماعا، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه، لا سيما وأبو حنيفة يقول: إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه. ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين. والله أعلم.

[سورة القيامة (75): الآيات 16 الى 21]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
__________
(1). يشتد: يعدو.
(2). التصحيح من ابن العربي. وفي الأصول (الذمة).

قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)
في الترمذي: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
قال: فكان يحرك به شفتيه. وحرك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحركهما، فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
قال فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه، قال: فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أقرأه، خرجه البخاري أيضا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: ( [114) وقد تقدم «1». وقال عامر الشعبي: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له، وحلاوته في لسانه، فنهى عن ذلك حتى يجتمع، لان بعضه مرتبط ببعض، وقيل: كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه، فنزلت وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] ونزل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] ونزل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
قاله ابن عباس: وقُرْآنَهُ
أي وقراءته عليك. والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران. وقال قتادة: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي فاتبع شرائعه وأحكامه. وقوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام، قاله قتادة. وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما. وقيل: أي إن علينا أن نبينه بلسانك. قوله تعالى: كَلَّا قال ابن عباس: أي إن
__________
(1). راجع ج 11 ص 250.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)

أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه. وقيل: أي (كَلَّا) لا يصلون ولا يزكون يريد كفار مكة. بَلْ تُحِبُّونَ أي بل تحبون يا كفار أهل مكة الْعاجِلَةَ أي الدار الدنيا والحياة فيها وَتَذَرُونَ أي تدعون الْآخِرَةَ والعمل لها. وفي بعض التفسير قال: الآخرة الجنة. وقرا أهل المدينة والكوفيون بَلْ تُحِبُّونَ وَتَذَرُونَ بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد، قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء، لذكر الإنسان قبل ذلك. الباقون بالياء على الخبر، وهو اختيار أبي حاتم، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
[القيامة: 13] وهو بمعنى الناس. ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع، لان ذلك أبلغ في المقصود، نظيره: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا
«1» [الإنسان: 27].

[سورة القيامة (75): الآيات 22 الى 25]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الأول من النضرة التي هي الحسن والنعمة. والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة، يقال: نضرهم الله ينضرهم نضرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى، ومنه الحديث (نضر «2» الله امرأ سمع مقالتي فوعاها). إِلى رَبِّها إلى خالقها ومالكها (ناظِرَةٌ) أي تنظر إلى ربها على هذا جمهور العلماء. وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في (يونس) عند قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) «3». وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم تلا هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال: تنظر إلى ربها نظرا. وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم.
__________
(1). راجع ص 148 من هذا الجزء.
(2). يروى الحديث بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق.
(3). راجع ج 8 ص 330 [.....]

وقيل: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. وروي عن ابن عمر ومجاهد. وقال عكرمة: تنتظر أمر ربها. حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا. وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده. واحتجوا بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الانعام: 103] وهذا القول ضعيف جدا، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والاخبار. وفي الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية) ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال هذا حديث غريب. وقد روى عن ابن عمرو ولم يرفعه. وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن (. وروى جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا (. ثم قرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ متفق عليه. وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه؟ قال ابن معاذ: مخليا به يوم القيامة؟ قال: (نعم يا أبا رزين) قال: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: (يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر) قال ابن معاذ: ليلة البدر مخليا به. قلنا: بلى. قال: (فالله أعظم) [قال ابن معاذ قال «1»]: (فإنما هو خلق من خلق الله- يعني القمر- فالله أجل وأعظم). وفي كتاب النسائي عن صهيب قال: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر، ولا أقر لأعينهم) وفي التفسير لابي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال:
__________
(1). الزيادة من مسند أبي داود.

قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه، فيخرون له سجدا، فيقول ارفعوا رءوسكم فليس هذا بيوم عبادة [قال الثعلبي: وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شي من خلقه، فتأويل مدخول، لان العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته، كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: 66]، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف: 53]، وما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 49] وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان. وقال الأزهري: إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ، لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذلك تقوله العرب، لأنهم يقولون نظرت إليه: إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، قال:
فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لما أراد الانتظار قال تنظراني، ولم يقل تنظران إلي، وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه، قال:
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال «1»
وقال آخر:
نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظر «2» لولا التحرج عارم
وقال آخر:
إني إليك لما وعدت لناظر ... نظر الفقير إلى الغني الموسر
أي إني أنظر إليك بذل، لان نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسئول، فأما ما استدلوا به من قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الانعام: 103] فإنما ذلك
__________
(1). تشب: توقد. والقفال جمع قافل وهو الراجع من السفر. البيت من قصيدة لامرئ القيس.
(2). في نسخ الأصل نظرة والصواب ما ذكرنا كما في ديوان قائله وهو عمر بن ربيعة.

في الدنيا. وقد مضى القول فيه «1» في موضعه مستوفى. وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ونظره يحيط بها، يدل عليه: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الانعام: 103] قال القشيري أبو نصر: وقيل: إِلى واحد الآلاء: أي نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل، لان واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء، ثم الآلاء: نعمه الدفع «2»، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم، والمنتظر للشيء متنغص العيش، فلا يوصف أهل الجنة بذلك. وقيل: أضاف النظر إلى الوجه، وهو كقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [المائدة: 119] والماء يجري في النهر لا النهر. ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين، قال الله تعالى: فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً [يوسف: 93] أي على عينيه. ثم لا يبعد قلب العادة غدا، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه، وهو كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ [الملك: 22]، فقيل: يا رسول الله! كيف يمشون في النار على وجوههم؟ قال: [الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم [. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة. وفي الصحاح: وبسر الفحل الناقة وابتسرها: إذا ضربها من غير ضبعة «3». وبسر الرجل وجهه بسورا أي كلح، يقال: عبس وبسر. وقال السدي: باسِرَةٌ أي متغيرة والمعنى واحد. (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي توقن وتعلم، والفاقرة: الداهية والامر العظيم، يقال: فقرته الفاقرة: أي كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره. وقال قتادة: الفاقرة الشر. السدي: الهلاك. ابن عباس وابن زيد: دخول النار. والمعنى متقارب واصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم، قاله الأصمعي. يقال: فقرت أنف البعير: إذا حززته بحديدة ثم جعلت على موضع الحز الجرير «4» وعليه وتر ملوي، لتذلله بذلك وتروضه، ومنه قولهم: قد عمل به الفاقرة. وقال النابغة:
أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقرة
أي كاسرة.
__________
(1). راجع ج 7 ص (54)
(2). هكذا في كل الأصول.
(3). ضبعت الناقة: اشتهت الفحل.
(4). الجرير: حبل من أدم يخطم به البعير.

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)

[سورة القيامة (75): الآيات 26 الى 30]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
قوله تعالى: (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) كَلَّا ردع وزجر، أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة، ثم استأنف فقال: إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ أي بلغت النفس أو الروح التراقي، فأخبر عما لم يجر له ذكر، لعلم المخاطب به، كقوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] وقوله تعالى: فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: 83] وقد تقدم «1». وقيل: كَلَّا معناه حقا، أي حقا أن المساق إلى الله إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي. وكان ابن عباس يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي. والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحشرجة، قال دريد بن الصمة «2».
ورب عظيمة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت. قوله تعالى: (وَقِيلَ مَنْ راقٍ)
اختلف فيه، فقيل: هو من الرقية، عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما. روي سماك عن عكرمة قال: من راق يرقي: أي يشفي. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس: أي هل من طبيب يشفيه، وقاله أبو قلابة وقتادة، وقال الشاعر:
هل للفتى من بنات الدهر من واق ... أم هل له من حمام الموت من راق
__________
(1). راجع ج 15 ص 195 وج 17 ص 230.
(2). كذا في الأصل. والبيت لابنته عمرة من قصيدة لها ترثى بها أباها كما في شعراء النصرانية.

وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس، أي من يقدر أن يرقي من الموت. وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقي يرقى: إذا صعد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: إن ملك الموت يقول من راق؟ أي من يرقى بهذه النفس، وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، فيقول ملك الموت: يا فلان اصعد بها. وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى: مَنْ راقٍ)
واللام في قوله: (بَلْ رانَ) لئلا يشبه مراق وهو بائع المرقة، وبران في تثنية البر. والصحيح ترك الإظهار، وكسرة القاف في (مَنْ راقٍ)
، وفتحة النون في (بَلْ رانَ) تكفى في زوال اللبس. وأمثل مما ذكر: قصد الوقف على (مَنْ)
و(بَلْ)، فأظهرهما، قاله القشيري. قوله تعالى: وَظَنَّ أي أيقن الإنسان (أَنَّهُ الْفِراقُ) أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة. قال الشاعر:
فراق ليس يشبهه فراق ... قد انقطع الرجاء عن التلاق
(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي فاتصلت الشدة بالشدة، شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. وقال الشعبي وغيره: المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكرب. وقال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى. وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد ابن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الحسن أيضا: ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه، ولقد كان عليهما جوالا. قال النحاس: القول الأول أحسنها. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله، أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع، والدليل على هذا قوله تعالى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ وقال. مجاهد: بلاء ببلاء. يقول: تتابعت عليه الشدائد. وقال الضحاك وابن زيد: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن

فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)

والشدائد العظام، ومنه قولهم: قامت الدنيا على ساق، وقامت الحرب على ساق. قال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق «1»

وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة" ن «2» والقلم". وقال قوم: الكافر تعذب روحه عند خروج نفسه، فهذه الساق الاولى، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده (إِلى رَبِّكَ) أي إلى خالقك (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (الْمَساقُ) أي المرجع. وفي بعض التفاسير قال: يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات. والمساق: المصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.

[سورة القيامة (75): الآيات 31 الى 35]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
قوله تعالى: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل. وقيل: يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة، وهو اسم جنس. والأول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة (وَلا صَلَّى) ودعا لربه، وصلي على رسوله. وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله، ولا صلى لله. وقيل: ولا صدق بمال له، ذخرا له عند الله، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي: (فَلا) بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره، تقول العرب: لا عبد الله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 11] ليس من هذا القبيل، لان معناه أفلا أقتحم، أي فهلا اقتحم، فحذف ألف الاستفهام. وقال الأخفش: (فَلا صَدَّقَ) أي لم يصدق، كقوله: (فَلَا اقْتَحَمَ) أي لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه
__________
(1). صدر البيت:
صبرا أمام إنه شر باق

(2). راجع ج 18 ص 248.

بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب، فحرف النفي ينفى الماضي كما ينفي المستقبل، ومنه قول زهير:
فلا هو أبداها ولم يتقدم «1»

قوله تعالى: (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي كذب بالقرآن وتولى عن الايمان (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي يتبختر، افتخارا بذلك، قاله مجاهد وغيره. مجاهد: المراد به أبو جهل. وقيل: (يَتَمَطَّى) من المطا وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه. وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدد من التكسل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق، فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف، والتمطي يدل على قلة الاكتراث، وهو التمدد، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض، لأنه يتمطى أي يتمدد، وفي الخبر: (إذا مشت أمتي المطيطاء «2» وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم". والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي. قوله تعالى: (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى . ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ): تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لأربعة، كما روى أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي لا صدق رسول الله، ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن كذب رسولي، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة، والتكذيب خصلة، وترك الصلاة خصلة، والتولي عن الله تعالى خصلة، فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الاربعة. والله أعلم. لا يقال: فإن قوله: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) خصلة خامسة، فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره. وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من المسجد ذات يوم، «3» فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، مما يلي باب بني مخزوم، فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). صدر البيت:
وكان طوى كشحا على مستكنة

(2). المطيطاء يمد ويقصر قال ابن الأثير: وهي من المصغرات التي لم يستعمل لها مكبر.
(3). في ز، ط، ل: (ذات ليلة). [.....]

بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال: (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) فقال له أبو جهل: أتهددني؟ فو الله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال لابي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر:
فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل للدر يحلب من مرد
قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده فقال: [أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى [. فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا، إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه، وقتله شر قتلة. وقيل: معناه: الويل لك، ومنه قول الخنساء:
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة «1» ... فإما عليها وإما لها
الآلة: الحالة، والآلة: السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت، وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب، كأنه قيل: أويل، ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك حيا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار، وهذا التكرير كما قال «2»:
لك الويلات إنك مرجلي

أي لك الويل، ثم الويل، ثم الويل، وضعف هذا القول. وقيل: معناه الذم لك، أولى من تركه، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي (أَوْلى ) في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، كأنه يقول: قد وليت الهلاك، قد دانيت الهلاك، وأصله من الولي، وهو القرب،
__________
(1). في ا (على ألة) بفتح فشد وهي الحربة. وصوابه آلة أي حالة.
(2). هو امرؤ القيس والبيت بتمامه:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلى

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: 123] أي يقربون منكم، وأنشد الأصمعي:
وأولى أن يكون له الولاء

أي قارب أن يكون له، وأنشد أيضا:
أولى لمن هاجت له أن يكمدا

أي قد دنا صاحبها [من «1»] الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول: ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. النحاس: العرب تقول أولى لك: كدت تهلك ثم أفلت، وكان تقديره: أولى لك وأولى بك الهلكة. المهدوي قال: ولا تكون أولى (أفعل منك)، وتكون خبر مبتدإ محذوف، كأنه قال: الوعيد أولى له من غيره، لان أبا زيد «2» قد حكى: أولاة الآن: إذا أو عدوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و(لَكَ) خبر عن (أَوْلى ). ولم ينصرف (أَوْلى ) لأنه صار علما للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد. وقيل: التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيئ الأول، ثم على الثاني، والثالث، والرابع، كما تقدم.

[سورة القيامة (75): الآيات 36 الى 40]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) أي يظن ابن آدم (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي أن يخلى مهملا، فلا يؤمر ولا ينهى، قاله ابن زيد ومجاهد، ومنه إبل سدى: ترعى بلا راع. وقيل: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. وقال الشاعر:
فأقسم بالله جهد اليم ... - بين ما ترك الله شيئا سدى
__________
(1). من: ساقطة من الأصول.
(2). في (اللسان: ولى) وأسند الحكاية إلى ابن جنى. قال: وحكى ابن جنى: أولاة الآن فأنت أولى. قال: وهذا يدل على أنه اسم لا فعل.

قوله تعالى: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ) أي من قطرة ماء تمنى في الرحم، أي تراق فيه، ولذلك سميت (مَنِيٍّ) لإراقة الدماء. وقد تقدم «1». والنطفة: الماء القليل، يقال: نطف الماء: إذا قطر. أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة. وقرا حفص (مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ) بالياء، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو، واختاره أبو عبيد لأجل المني. الباقون بالتاء لأجل النطفة، واختاره أبو حاتم. (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) أي دما بعد النطفة، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره. ثم قال: (فَخَلَقَ) أي فقدر (فَسَوَّى) أي فسواه تسوية، وعدله تعديلا، بجعل الروح فيه (فَجَعَلَ مِنْهُ) أي من الإنسان. وقيل: من المني. (الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) أي الرجل والمرأة. وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى. وقد مضى في سورة" الشورى" «2» أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب. وقد مضى في أول سورة" النساء" «3» أيضا القول فيه، وذكرنا في آية المواريث حكمه، فلا معنى لإعادته (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ) أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة «4» من قطرة من ماء (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ) أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى. وروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا قرأها قال: [سبحانك اللهم، بلى [وقال ابن عباس. من قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى: 1] إماما كان أو غيره فليقل: (سبحان ربي الأعلى) ومن قرأ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة: 1] إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل:" (سبحانك اللهم بلى" «5» ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس. ختمت السورة والحمد «6» لله.
__________
(1). راجع ج 17 ص 118 وص (216)
(2). راجع ج 16 ص (48)
(3). راجع ج 5 ص 3
(4). في ح: (المضفة).
(5). في ا، ح: (سبحانك اللهم وبحمدك).
(6). في ح: (والحمد لله على كل حال).

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)

[تفسير سورة الإنسان ]
سورة الإنسان وهي إحدى وثلاثون آية مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور: مدنية. وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا «1» [الإنسان: 23] إلى آخر السورة، وما تقدمه مدني. وذكر ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيد قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقرأ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له عمر بن الخطاب: لا تثقل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: (دعه يا ابن الخطاب) قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أخرج نفس صاحبكم- أو أخيكم- الشوق إلى الجنة) وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ، وسيأتي. وقال القشيري: إن هذه السورة نزلت في علي بن طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
قوله تعالى: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) هَلْ: بمعنى «2» قد، قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكى عن سيبويه هَلْ بمعنى قد.
__________
(1). الآية 23.
(2). في ح: (تقديره).

قال الفراء: هل تكون جحدا، وتكون خبرا، فهذا من الخبر، لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى: أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام، قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي. وروى عن ابن عباس. حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح. وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يعرف مقداره، عن ابن عباس أيضا، حكاه الماوردي. لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً قال الضحاك عن ابن عباس: لا في السماء ولا في الأرض. وقيل: أي كان جسدا مصورا ترابا وطئنا، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح، فصار مذكورا، قال الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا. وقيل: ليس هذا الذكر بمعنى الاخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر، تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44]. أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكورا. قال القشيري: وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق، وإن كان مذكورا لله. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً قال: كان شيئا ولم يكن مذكورا. وقال قوم: النفي يرجع إلى الشيء، أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة، لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لاحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة

كانت بعد الإنسان. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوانا. وقد قيل: الْإِنْسانِ في قوله تعالى هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ عني به الجنس من ذرية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدة حمل الإنسان في بطن أمه لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً: إذ كان علقة ومضغة، لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك، فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فقال ليتها تمت. قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي ابن آدم من غير خلاف مِنْ نُطْفَةٍ أي من ماء يقطر وهو المني، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه:
مالي أراك تكرهين الجنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه»
وجمعها: نطف ونطاف. (أَمْشاجٍ): أخلاط. واحدها: مشج ومشيج، مثل خدن وخدين، قال: رؤبة:
يطرحن كل معجل نشاج ... لم يكس جلدا في دم أمشاج
ويقال: مشجت هذا بهذا أي خلطته، فهو ممشوج ومشيج، مثل مخلوط وخليط. وقال المبرد: واحد الأمشاج: مشيج، يقال: مشج يمشج: إذا خلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين
وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وروى عن ابن عباس رضي الله عنه
__________
(1). الشنة: القربة.

قال: الأمشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة، قال الهذلي «1»:
كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سيط به مشيج
وعن «2» ابن عباس أيضا قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوه فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روى هذا مرفوعا، ذكره البزار. وروى عن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة. وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ابن عباس: خلق من ألوان، خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما، كما قال في سورة" المؤمنون" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] الآية. وقال ابن السكيت: الأمشاج الأخلاط، لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال أهل المعاني: الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد، لأنه نعت للنطفة، كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الأنصاري: قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة؟ فقال: [ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة أنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت [فقال الحبر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة" البقرة". (نَبْتَلِيهِ) أي نختبره. وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما-
__________
(1). هو عمرو بن الداخل الهذلي. وفي (اللسان: مشج) زهير بن حرام الهذلي. سيط به: أي خرج قذذ من الريش مختلط من الدم والماء. [.....]
(2). وفي حاشية الجمل نقلا عن القرطبي ما يأتي: والمعنى: (من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الاجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام، والخواص تجتمع من الأخلاط وهي العناصر الاربعة ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الشبه له (.)

نختبره بالخير والشر، قال الكلبي. الثاني- نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء، قاله الحسن. وقيل: نَبْتَلِيهِ نكلفه. وفية أيضا وجهان: أحدهما- بالعمل بعد الخلق، قاله مقاتل. الثاني- بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي. وروى عن ابن عباس: نَبْتَلِيهِ: نصرفه خلقا بعد خلق، لنبتليه بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) لنبتليه، وهي مقدمة معناها التأخير. قلت: لان الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقيل: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً: يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى، وبصرا يبصر به الهدى. قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر، كقوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10]. وقال مجاهد: أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون: (إن) ها هنا تكون جزاء و(ما) زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون، إذ لا تدخل (إن) للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل: أي هديناه الرشد، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الادلة عليه، ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك، أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا إِمَّا شاكِراً والله أعلم. ويقال: هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في" الفاتحة" «1» وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة، نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر، لان شكر الله تعالى لا يؤدى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره، لكثرة النعم عليه «2» وكثرة كفره وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي.
__________
(1). راجع ج 1 ص 147 وص (160)
(2). في ا، ح، و: (وكثرة كفره).

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)

[سورة الإنسان (76): آية 4]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
قوله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً) بين حال الفريقين، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما أمرهم، فمن كفر فله العقاب، ومن وحد وشكر فله الثواب. والسلاسل: القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في" الحاقة" «1». وقرا نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر" سلاسلا" منونا. الباقون بغير تنوين. ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالألف. فأما (قوارير) الأول فنونه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم، ولم ينون الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف. والباقون بالألف. وأما (قوارير) الثانية فنونه أيضا نافع والكسائي وأبو بكر، ولم ينون الباقون. فمن نون قرأها بالألف، ومن لم ينون أسقط منها الالف، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة، والوقف بالألف اتباعا لخط المصحف، قال: رأيت في مصحف عثمان" سلاسلا" بالألف وقَوارِيرَا الأول بالألف، وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. فمن صرف فله أربع حجج: أحدها- أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية- أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك، وكذا قال الكسائي والفراء: هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا
وقال لبيد:
وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أجسامها
وقال لبيد أيضا:
فضلا وذو كرم يعين على الندى ... سمح كسوب رغائب غنامها
__________
(1). راجع ج 18 ص 272.

إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)

فصرف مخاريق ومغالق ورغائب، وسبيلها ألا تصرف. والحجة الثالثة- أن يقول نونت قوارير الأول لأنه رأس آية، ورءوس الآي جاءت بالنون، كقوله عز وجل: مَذْكُوراً. سَمِيعاً بَصِيراً فنونا الأول ليوقف بين رءوس الآي، ونونا الثاني على الجوار للأول. والحجة الرابعة- اتباع المصاحف، وذلك أنهما جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال: إن كل جمع بعد الالف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة، فالذي بعد الالف منه ثلاثة أحرف قولك: قناديل ودنانير ومناديل، والذي بعد الالف منه حرفان قول الله عز وجل: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ [الحج: 40] لان بعد الالف منه حرفين، وكذلك قوله: وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً [الحج: 40]. والذي بعد الالف منه حرف مشدد شواب ودواب. وقال خلف: سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال: في المصاحف الأول الحرف الأول بالألف والثاني بغير ألف، فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف: رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف. وأما أفعل منك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا، لان من تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف، لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين، قاله الفراء وغيره. قوله تعالى: وَأَغْلالًا جمع غل تغل بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول: ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالأغلال. قال الحسن: إن الاغلال لم تجعل في أعناق أهل النار، لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا. وَسَعِيراً تقدم القول فيه.

[سورة الإنسان (76): الآيات 5 الى 6]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)

قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) الأبرار: أهل الصدق واحدهم بر، وهو من امتثل أمر الله تعالى. وقيل: البر الموحد والأبرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بر مثل نهر وأنهار، وفي الصحاح: وجمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه، والام برة بولدها. وروى ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إنما سماهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا [. وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر. وفي الحديث: [الأبرار الذين لا يؤذون أحدا [. يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي من إناء فيه الشراب. قال ابن عباس: يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا. قال عمرو بن كلثوم:
صبنت «1» الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وقال الأصمعي: يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا: بمعنى كففت، قاله الجوهري. كانَ مِزاجُها أي شوبها «2» وخلطها، قال حسان:
كأن «3» سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. كافُوراً قال ابن عباس: هو اسم عين ماء في الجنة، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا. وقال سعيد عن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك. وقاله مجاهد. وقال عكرمة: مزاجها طعمها. وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لان الكافور لا يشرب، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً [الكهف: 96 [أي كنار. وقال ابن كيسان: طيب بالمسك والكافور والزنجبيل. وقال
__________
(1). الرواية المشهورة في المعلقات: صددت الكأس.
(2). في ا، ح: (شرابها).
(3). السبئية: الخمر. وسميت بذلك لأنها تسبأ أي تشترى لتشرب وفي: (كأن خبيئة) وهي المصونة المضنون بها لنفاستها. وبئت رأس: موضع بالأردن مشهور بالخمر.

مقاتل: ليس بكافور الدنيا. ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله: كانَ مِزاجُها كانَ زائدة أي من كأس مزاجها كافور. (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ) قال الفراء: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة، ف- عَيْناً بدل من كافور على هذا. وقيل: بدل من كأس على الموضع. وقيل: هي حال من المضمر في مِزاجُها. وقيل: (نصب على المدح، كما يذكر الرجل فتقول: العاقل اللبيب، أي ذكرتم العاقل اللبيب فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عينا. وقال الزجاج المعنى من عين. ويقال: كافور وقافور. والكافور أيضا: وعاء طلع النخل وكذلك الكفرى، قاله الأصمعي. وأما قول الراعي:
تكسو المفارق واللبات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور دراج
فإن الظبي الذي يكون منه المسك إنما يرعى سنبل الطيب فجعله كافورا. يَشْرَبُ بِها قال الفراء: يشرب بها ويشربها سواء في المعنى، وكان يشرب بها يروى بها وينقع، وأنشد:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج «1»

قال: ومثله فلان يتكلم بكلام حسن، ويتكلم كلاما حسنا. وقيل: المعنى يشربها والباء زائدة. وقيل: الباء بدل مِنْ تقديره يشرب منها، قاله القتبي. (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) فيقال: إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره، وذلك قوله تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يشققونها شقا كما يفجر الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يقودونها حيث شاءوا وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم. وروى
__________
(1). قائله أبو ذؤيب يصف السحابات والباء في (بماء) بمعنى (من) و(متى) معناها (في) في لغة هذيل ونئيج: أي مر سريع مع صوت.

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)

أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل «1» عن الحسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً [والأخرى الزنجبيل «2»] والأخريان نضاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله [عَيْناً فِيها تُسَمَّى «3»] سَلْسَبِيلًا والأخرى التسنيم ذكره الترمذي الحكيم في" نوادر الأصول". وقال: فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، والكافور للأبرار شربا لهم، يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللأبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب، فما كان للأبرار مزاج فهو للمقربين صرف، وما كان للأبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج. والأبرار هم الصادقون، والمقربون: هم الصديقون.

[سورة الإنسان (76): الآيات 7 الى 9]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
قوله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات. وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه. وقال الفراء والجرجاني: وفي الكلام إضمار، أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة كانَ وتحذف أخرى. والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شي يفعله. وإن شئت قلت في حده: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقال الكلبي: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي يتممون العهود والمعنى واحد، وقد قال الله تعالى:
__________
(1). هذا السند في الأصول: أبو مقاتل عن صالح بن سعيد عن أبي سهل إلخ وصوبناه من التذكرة للقرطبي.
(2). الزيادة من الدر المنثور.
(3). الزيادة من التذكرة والدر المنثور.

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج: 29] أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة. وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله، قاله القشيري. وروى أشهب عن مالك أنه قال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ هو نذر العتق والصيام والصلاة. وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال مالك. يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قال: النذر: هو اليمين. قوله تعالى: وَيَخافُونَ أي يحذرون يَوْماً أي يوم القيامة. كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي عاليا داهيا فاشيا «1» وهو في اللغة ممتدا، والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال: إذا امتد، قال الأعشى:
وبانت وقد أسأرت «2» في ألفوا ... د صدعا على نأيها مستطيرا
ويقال: استطار الحريق: إذا انتشر. واستطار الفجر إذا انتشر الضوء. وقال حسان:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير «3»
وكان قتادة يقول: استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملا السموات والأرض. وقال مقاتل: كان شره فاشيا في السموات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه. قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) قال ابن عباس ومجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. وقال الداراني: على حب الله. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال: أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. مِسْكِيناً أي ذا مسكنة. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو الطواف يسألك مالك وَيَتِيماً أي من يتامى المسلمين. وروى منصور عن الحسن: أن
__________
(1). في ا، ح، ل، و: (قاسيا) وهو تحريف.
(2). ويروى: أورثت.
(3). سراة بني لؤي أي خيارهم. والبؤيرة: موضع ببني قريظة يشير إلى ما فعله المسلمون ببني قريظة. [.....]

يتيما كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام، فدعا له بسويق وعسل، فقال: دونك هذا، فوالله ما غبنت، قال الحسن وابن عمر: والله ما غبن. وَأَسِيراً أي الذي يؤسر فيحبس. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقاله قتادة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الأسير هو المحبوس. وكذا قال سعيد ابن جبير وعطاء: هو المسلم يحبس بحق. وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس. قال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وأن أسراهم يومئذ لأهل الشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وقال عكرمة: الأسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، يدل عليه قوله عليه السلام: [استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم [أي أسيرات. وقال أبو سعيد الخدري: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً فقال: (المسكين الفقير، واليتيم الذي لا أب له، والأسير المملوك والمسجون) ذكره الثعلبي. وقيل: نسخ إطعام المسكين آية الصدقات، وإطعام الأسير [آية] السيف، قاله سعيد بن جبير. وقال غيره: بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلا أن يتخير فيه الامام. الماوردي: ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل، لأنه في أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الامام، وهذا بر وإحسان. وعن عطاء قال: الأسير من أهل القبلة وغيرهم. قلت: وكان هذا القول عام يجمع جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا. والله أعلم. ومضى القول في المسكين واليتيم والأسير واشتقاق ذلك من اللغة في" البقرة" «1» مستوفى والحمد لله.
__________
(1). راجع ج 2 ص 14 فما بعدها وص 21.

قوله تعالى: (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير إِنَّما نُطْعِمُكُمْ في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه. لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي مكافأة. وَلا شُكُوراً أي ولا أن تثنوا علينا بذلك، قال ابن عباس: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا. وعن سالم عن مجاهد قال: أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم، ليرغب في ذلك راغب. وقاله سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري. وقيل: إن هذه الآية نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به. وقيل: نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم، ذكره الماوردي. وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أبو حمزة الثمالي: بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود، فقال: [والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ] فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله، وأخبره بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيم فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: [ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ] فاستطعم ذلك الأنصاري فقالت المرأة: أطعمه واسقه، فأطعمه. ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسير فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: [والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب ] فجاء الأنصاري فطلب، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. فنزلت: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ذكره الثعلبي. وقال أهل التفسير: نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة. قلت: والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا، فهي عامة. وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً قال:

مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعادهما عامة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن- ورواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبا الحسن- رجع الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم- لو نذرت عن ولديك شيئا، وكل نذر ليس له وفاء فليس بشيء. فقال رضي الله عنه: إن برأ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت جارية لهم نوبية: إن برأ سيداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت فاطمة مثل ذلك. وفي حديث الجعفي فقال الحسن والحسين: علينا مثل ذلك فألبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون بن حاريا الخيبري، وكان يهوديا، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، فجاء به، فوضعه ناحية البيت، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلي علي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه. وفي حديث الجعفي: فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص، فلما مضى صيامهم الأول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش، إذ أتاهم مسكين، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد- في حديث الجعفي- أنا مسكين من مساكين أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا والله جائع، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي رضي الله عنه، فأنشأ «1» يقول:
فاطم ذات الفضل اليقين ... يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين ... قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى الله ويستكين ... يشكو إلينا جائع حزين
كل امرئ بكسبه رهين ... وفاعل الخيرات يستبين
__________ (1). هذه الأبيات والتي بعدها كل النسخ مجمعة على تحريفها ولقد أحسن أبو حيان إذ يقول فيها: وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جدا ظاهرة الاختلاق وفيها أشعار للمسكين واليتيم والأسير يخاطبون بها بيت النبوة وأشعار لفاطمة رضى الله عنها تخاطب كل واحد منهم ظاهرها الاختلاق لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسخافة معانيها. وسيأتي للمؤلف رحمه الله ما يضعف هذا لحديث ويزيفه.

موعدنا جنة عليين ... حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين ... تهوى به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين ... من يفعل الخير يقم سمين

ويدخل الجنة أي حين

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:
أمرك عندي يا ابن عم طاعة ... ما بي من لؤم ولا وضاعة
غديت في الخبز له صناعة ... أطعمه ولا أبالي الساعة
أرجو إذا أشبعت ذا المجاعة ... أن ألحق الأخيار والجماعه

وأدخل الجنة لي شفاعة

فأطعموه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلي علي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم، فوقف بالباب يتيم فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين أستشهد والدي يوم العقبة «1». أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم بنت السيد الكريم ... بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى الله بذي اليتيم ... من يرحم اليوم يكن رحيم
ويدخل الجنة أي سليم ... قد حرم الخلد على اللئيم
ألا يجوز الصراط المستقيم ... يزل في النار إلى الجحيم

شرابه الصديد والحميم

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:
أطعمه اليوم ولا أبالي ... وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعا وهم أشبالي ... أصغرهم يقتل في القتال
__________
(1). كذا في الأصل.

بكر بلا يقتل باغتيال ... يا ويل للقاتل مع وبال
تهوي به النار إلى سفال ... وفي يديه الغل والاغلال

كبوله زادت على الأكبال

فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلي علي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين أيديهم، إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعموني فإني أسير محمد. فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم يا بنت النبي أحمد ... بنت نبي سيد مسود
وسماه الله فهو محمد ... قد زانه الله بحسن أغيد
هذا أسير للنبي المهتد ... مثقل في غله مقيد
يشكو إلينا الجوع قد تمدد ... من يطعم اليوم يجده في غد
عند العلي الواحد الموحد ... ما يزرع الزارع سوف يحصد

أعطيه لا لا تجعليه أقعد

فأنشأت فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول:
لم يبق مما جاء غير صاع ... قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي والله هما جياع ... يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع ... يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين شديد الباع ... وما على رأسي من قناع

إلا قناعا نسجه أنساع «1»

فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الرابع، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن، وبيده اليسرى الحسين، وأقبل نحو
__________
(1). النسع- بالكسر-: سير يضفر على هيئة أعنة النعال تشد به الرحال.

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، فلما أبصرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة [فانطلقوا إليها وهي في محرابها، وقد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدة الجوع، فلما رآها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال: [وا غوثاه يا الله، أهل بيت محمد يموتون جوعا [فهبط جبريل عليه السلام وقال: السلام عليك، ربك يقرئك السلام يا محمد، خذه هنيئا في أهل بيتك. قال: (وما آخذ يا جبريل) فأقرأه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول: فهذا حديث مزوق مزيف، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم، وقد قال الله تعالى في تنزيله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك، وجرت الاخبار عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متواترة بأن [خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ]. [وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ] أفيحسب عاقل أن عليا جهل هذا الامر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ست على جوع ثلاثة أيام ولياليهن؟ حتى تضوروا من الجوع، وغارت العيون منهم، لخلاء أجوافهم، حتى أبكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما بهم من الجهد. هب أنه آثر على نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك؟! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟! ما يروج مثل هذا إلا على حمقى جهال، أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعلي مثل هذا. وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة؟ فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى. بلغني أن قوما

إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)

يخلدون في السجون فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة رموا بها وزيفوها، وما من شي إلا له آفة ومكيدة، وآفة الدين وكيدة أكثر.

[سورة الإنسان (76): الآيات 10 الى 11]
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11)
قوله تعالى: (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) عَبُوساً من صفة اليوم، أي يوما تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى نخاف يوما ذا عبوس. وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل، قال الشاعر:
شديدا عبوسا قمطريرا

وقيل: القمطرير الشديد، تقول العرب: يوم قمطرير وقماطر وعصيب بمعنى، وأنشد الفراء:
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر
بضم القاف. واقمطر إذا اشتد. وقال الأخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، قال الشاعر:
ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ... ولج بها اليوم العبوس القماطر
وقال الكسائي: يقال اقمطر اليوم وازمهر اقمطرارا وازمهرارا، وهو القمطرير والزمهرير، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا، قال الهذلي «1»:
بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ... ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب
__________
(1). البيت لحذيفة بن أنس الهذلي والذي في ديوان الهذليين:
بنو الحرب أرضعنا بها مقمطرة ... ومن يلق منا يلق سيد مدرب

أرضعنا مبنى للمجهول. مقمطرة: من أقمطرت الناقة إذا لقحت. ويلق بني للمجهول في اللفظين. والسيد عند هذيل: الأسد. والمدرب: الضاري.

وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)

وقال مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين، فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم، وأنشد ابن الاعرابي:
يغدو على الصيد يعود منكسر ... ويقمطر ساعة ويكفهر
وقال أبو عبيدة: يقال رجل قمطرير أي متقبض ما بين العينين. وقال الزجاج: يقال أقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها، وزمت بأنفها، فاشتقه من القطر، وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة:
واصطليت الحروب في كل يوم ... باسل الشر قمطرير الصباح
قوله تعالى: فَوَقاهُمُ اللَّهُ أي دفع عنهم شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي بأسه وشدته وعذابه وَلَقَّاهُمْ أي أتاهم وأعطاهم حين لقوه أي رأوه نَضْرَةً أي حسنا وَسُرُوراً أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: نَضْرَةً في وجوههم وَسُرُوراً في قلوبهم. وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها أنها البياض والنقاء، قاله الضحاك. الثاني الحسن والبهاء، قاله ابن جبير. الثالث أنها أثر النعمة، قاله ابن زيد.

[سورة الإنسان (76): الآيات 12 الى 14]
وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)
قوله تعالى: (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) على الفقر. وقال القرظي: على الصوم. وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر. وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. وبِما: مصدرية، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا. وروى «1» ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الصبر فقال: (الصبر أربعة: أولها الصبر عند الصدمة الاولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب (. (جَنَّةً وَحَرِيراً) أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. أي يسمى
__________
(1). في ا، ح: (وروى).

بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [وفية] ما شاء الله عز وجل من الفضل. وقد تقدم «1»: أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها. قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي في الجنة، ونصب مُتَّكِئِينَ على الحال من الهاء والميم في جَزاهُمْ والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها صَبَرُوا، لان الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. وقال الفراء. وإن شئت جعلت مُتَّكِئِينَ تابعا، كأنه قال جزاهم جنة مُتَّكِئِينَ فِيها. (عَلَى الْأَرائِكِ) السرر في الحجال وقد تقدم «2». وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير، ومنها السجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلا، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملا، والكأس لا تسمى كأسا حتى تترع من الخمر. وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان، قال ذو الرمة:
خدود جفت في السير حتى كأنما ... يباشرن بالمعزاء مس الأرائك «3»
أي الفرش على السرر. (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً) أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس وَلا زَمْهَرِيراً أي ولا بردا مفرطا، قال الأعشى:
منعمة طفلة كالمها ... ة لم تر شمسا ولا زمهريرا «4»
وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشتكت النار إلى ربها عز وجل قالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف
__________
(1). راجع ج 12 ص 19.
(2). راجع ج 10 ص 398.
(3). المعزاء: الأرض الصلبة. يقول: من شدة الحاجة إلى النوم يرون الأرض الصلبة ذات الحجارة مثل الفرش على الأرائك وهي السرر. يروى: (خدودا) على أنه مفعول لفعل في البيت قبله.
(4). الذي في ديوان الأعشى طبع أوربا. مبتلة الخلق مثل المهاة ... إلخ.

من سمومها (. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:) إن هواء الجنة سجسج: لا حر ولا برد) والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان: هو شي مثل رءوس الابر ينزل من السماء في غاية البرد. وقال ابن مسعود: هو لون من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم:
أو كنت ريحا كنت زمهريرا

وقال ثعلب: الزمهرير: القمر بلغة طيئ، قال شاعرهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
ويروى: ما ظهر، أي لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا، أي إنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار، لان ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر. وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة" مريم" «1» عند قوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62]. وقال ابن عباس: بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة، فيقولون: قال ربنا: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً فما هذا النور؟ فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس ولا قمر، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ وأنشد:
أنا مولى لفتى ... أنزل فيه هل أتى
ذاك علي المرتضى ... وابن عم المصطفى
قوله تعالى: (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم، كما أن أمشاطهم الذهب والفضة،
__________
(1). راجع ج 11 ص 127

وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم. ويقال: إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها. وانتصبت دانِيَةً على الحال عطفا على مُتَّكِئِينَ كما تقول: في الدار عبد الله متكئا ومرسلة عليه الحجال. وقيل: انتصبت نعتا للجنة، أي وجزاهم جنة دانية، فهي صفة لموصوف محذوف. وقيل: على موضع لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ويرون دانية، وقيل: على المدح أي دنت دانية. قاله الفراء. ظِلالُها الظلال مرفوعة بدانية، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في وَجَزاهُمْ وقد قرئ بذلك. وفي قراءة عبد الله" ودانيا عليهم" لتقدم الفعل. وفي حرف أبي" ودان" رفع على الاستئناف وَذُلِّلَتْ أي سخرت لهم قُطُوفُها أي ثمارها تَذْلِيلًا أي تسخيرا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، قاله قتادة. وقال مجاهد: إن قام أحدا ارتفعت له، وإن جلس تدلت عليه، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وعنه أيضا: أرض الجنة من ورق، وترابها الزعفران، وطيبها مسك أذفر، وأصول شجرها ذهب وورق، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، والثمر تحت ذلك كله، فمن أكل منها قائما لم تؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه. وقال ابن عباس: إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد، وتذليل القطوف تسهيل التناول. والقطوف: الثمار، الواحد قطف بكسر القاف، سمي به لأنه يقطف، كما سمي الجنى لأنه يجنى. تَذْلِيلًا تأكيد لما وصف به من الذل، كقوله: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الاسراء: 106] وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164]. الماوردي: ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها. قلت: وفي هذا بعد، فقد روى ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة: جذوعها زمرد أخضر، وكربها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد

وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)

بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، والين من الزبد ليس فيه عجم. قال أبو جعفر النحاس: ويقال المذلل الذي قد ذلله الماء أي أرواه. ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته، ويقال المذلل المسوي، لان أهل الحجاز يقولون: ذلل نخلك أي سوه، ويقال المذلل القريب المتناول، من قولهم: حائط ذليل أي قصير. قال أبو جعفر «1»: وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس:
وساق كأنبوب السقي المذلل «2»

[سورة الإنسان (76): الآيات 15 الى 18]
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)
قوله تعالى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ أي يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ قال ابن عباس: ليس في الدنيا شي مما في الجنة إلا الأسماء، أي ما في الجنة أشرف وأعلى وأنقى. ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى يسقون في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب. وقد قال تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ [الزخرف: 71]. وقيل: نبه بذكر الفضة على الذهب، كقوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] أي والبرد، فنبه بذكر أحدهما على الثاني. والأكواب: الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى، الواحد منها كوب، وقال عدي:
متكئا تقرع «3» أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب
وقد مضى في" الزخرف" «4». (كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي في صفاء القوارير وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة. وقيل: أرض الجنة
__________
(1). كذا في نسخ الأصل. والذي في المطبوع: (أبو حنيفة).
(2). الأنبوب: البردي. والسقي: النخل المسقي. شبه ساق المرأة ببردى قد نبت تحت نخل فالنخل يظله من الشمس وذلك أحسن ما يكون منه. وصدر البيت: وكشح لطيف كالجديل مخصر.
(3). يروى: تخفق. بدل تقرع. [.....]
(4). راجع ج 16 ص 111

من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي هي منها. ذكره ابن عباس وقال: ليس في الجنة شي إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه، إلا القوارير من فضة. وقال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة «1» في صفاء القوارير. (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قراءة العامة بفتح القاف والدال، أي قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أتوا بها على قدر ريهم، بغير زيادة ولا نقصان. الكلبي: وذلك ألذ وأشهى، والمعنى: قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم. وعن ابن عباس أيضا: قدروها على ملء الكف لا تزيد ولا تنقص، حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر. وقيل: إن الشاربين قدروا لها مقادير في أنفسهم على ما اشتهوا وقدروا. وقرا عبيد بن عمير والشعبي وابن سيرين (قدروها) بضم القاف وكسر الدال، أي جعلت لهم على قدر إرادتهم. وذكر هذه القراءة المهدوي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما، وقال: ومن قرأ قَدَّرُوها فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى، وكان الأصل قدروا عليها فحذف الجر، والمعنى قدرت عليهم، وأنشد سيبويه:»
آليت حب العراق الدهر آكله ... والحب يأكله في القرية السوس
وذهب إلى أن المعنى على حب العراق. وقيل: هذا التقدير هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشارب، وذلك قوله تعالى: قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي لا يفضل عن الري لا ينقص منه، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهى حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر هذا القول الترمذي الحكيم في" نوادر الأصول". قوله تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً) وهي الخمر في الإناء. كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا كانَ صلة، أي مزاجها زنجبيل، أو كان في حكم الله زنجبيلا. وكانت العرب تستلذ من
__________
(1). أي في بياضها.
(2). قائله المتلمس. ويروى: أطعمه. والرواية الصحيحة في (آليت) بالفتح لأنه يخاطب عمرو بن هند الملك وكان قد أقسم ألا يطعم المتلمس حب العراق. فقال له المتلمس مستهزئا آليت على حب العراق لا أطعمه وقد وجدت منه بالشام ما يغنى عما عندك فمنه هناك كثير بحيث يأكله السوس. وأراد بالقرية الشام.

الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته، لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب. وقال المسيب بن علس يصف ثغر المرأة:
وكان طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر
ويروى. الكرم. وقال آخر «1»:
كأن جنيا من الزنجبي ... - ل بات بفيها وأريا مشورا
ونحوه قول الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبي ... - ل باتا بفيها وأريا مشورا
وقال مجاهد: الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار. وكذا قال قتادة: والزنجبيل اسم العين التي يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة. وقيل: هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل. وقيل: إن فيه معنى الشراب الممزوج بالزنجبيل. والمعنى كأن فيها زنجبيلا. عَيْناً بدل من كأس. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل أي يسقون عينا. ويجوز نصبه بإسقاط الخافض أي من عين على ما تقدم في قوله تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: 6]. فِيها أي في الجنة تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا السلسبيل الشراب اللذيذ، وهو فعلليل من السلالة، تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل بمعنى، أي طيب الطعم لذيذة. وفي الصحاح: وتسلسل الماء في الحلق جرى، وسلسلته أنا صببته فيه، وماء سلسل وسلسال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، والسلاسل بالضم مثله. وقال الزجاج: السلسبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السلاسة، فكأن العين سميت بصفتها. وعن مجاهد قال: سلسبيلا: حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا. ونحوه عن ابن عباس: إنها الحديدة الجري. ذكره الماوردي، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
__________
(1). الذي في ديوان الأعشى هذا البيت لا الذي بعده وفية: خالط فاها ... إلخ والظاهر أن البيتين واحد واختلفت الرواية. والأري: العسل.

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)

يسقون من ورد البريص عليهم ... بردي يصفق بالرحيق السلسل «1»
وقال أبو العالية ومقاتل: إنما سميت سلسبيلا، لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة. وقال قتادة: سلسة منقاد ماؤها حيث شاءوا. ونحوه عن عكرمة. وقال القفال: أي تلك عين شريفة فسل سبيلا إليها. وروى هذا عن علي رضي الله عنه. وقوله: تُسَمَّى أي إنها مذكورة عند الملائكة وعند الأبرار واهل الجنة بهذا الاسم. وصرف سلسبيل، لأنه رأس آية، كقوله تعالى: الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] والسَّبِيلَا [الأحزاب: 67].

[سورة الإنسان (76): الآيات 19 الى 22]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
قوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) بين من الذي يطوف عليهم بالآنية، أي ويخدمهم ولدان مخلدون، فإنهم أخف في الخدمة. ثم قال: مُخَلَّدُونَ أي باقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مر الأزمنة. وقيل: مخلدون لا يموتون. وقيل: مسورون مقرطون، أي محلون والتخليد التحلية. وقد تقدم «2» هذا. (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم: لؤلؤا مفرقا في عرصة المجلس، واللؤلؤ إذا نثر على بساط «3» كان أحسن منه منظوما. وعن المأمون أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو
__________
(1). البريص: نهر بدمشق. وبردي نهر آخر بدمشق أيضا أي ماء بردي. ويصفق: يمزج. والرحيق: الخمر البيضاء.
(2). راجع ج 17 ص (202)
(3). في ل، و: (واللؤلؤ إذ نثر كان أحسن ...).

على بساط منسوج من ذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخليفة اللؤلؤ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول:
كأن صغري وكبرى من فقاقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
وقيل: إنما شبههم بالمنثور، لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون، لأنهن لا يمتهن بالخدمة. قوله تعالى: (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) ثَمَّ: ظرف مكان أي هناك في الجنة، والعامل في ثَمَّ معنى رَأَيْتَ أي وإذا رأيت ببصرك ثَمَّ. وقال الفراء: في الكلام" ما" مضمرة، أي وإذا رأيت ما ثم، كقوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الانعام: 94] أي ما بينكم. وقال الزجاج:" ما" موصولة ب- ثَمَّ على ما ذكره الفراء، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن رَأَيْتَ يتعدى في المعنى إلى ثَمَّ والمعنى: إذا رأيت ببصرك ثَمَّ ويعني ب- ثَمَّ الجنة، وقد ذكر الفراء هذا أيضا. والنعيم: سائر ما يتنعم به. والملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم، قاله السدي وغيره. قال الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله، فيستأذن عليه، فذلك الملك العظيم. وقاله مقاتل بن سليمان. وقيل: الملك الكبير: هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجبا، حاجبا دون حاجب، فبينما ولي الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه ملك من عند الله، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفة من رب العالمين لم يرها ذلك الولي في الجنة قط، فيقول للحاجب الخارج: استأذن على ولي الله فإن معي كتابا وهدية من رب العالمين. فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه: هذا رسول من رب العالمين، معه كتاب وهدية يستأذن على ولي الله، فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي ولي الله فيقول له: يا ولي الله! هذا رسول من رب العالمين يستأذن عليك، معه كتاب وتحفة من رب العالمين أفيؤذن له؟ فيقول: نعم! فأذنوا له. فيقول ذلك الحاجب الذي يليه: نعم فأذنوا له «1». فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ
__________
(1). في ا، ح، ل: (فقاربوا له).

الحاجب الآخر. فيقول له: نعم أيها الملك، قد أذن لك، فيدخل فيسلم عليه ويقول: السلام يقرئك السلام، وهذه تحفة، وهذا كتاب من رب العالمين إليك. فإذا هو مكتوب عليه: من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي يموت. فيفتحه فإذا فيه: سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي، يا وليي أما آن لك أن تشتاق إلى رؤية ربك؟ فيستخفه الشوق فيركب البراق فيطير به البراق شوقا إلى زيادة علام الغيوب، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال سفيان الثوري: بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم، دليله قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 24- 23]. وقيل: الملك الكبير كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك. وقال الترمذي الحكيم: يعني ملك التكوين، فإذا أرادوا شيئا قالوا له كن. وقال أبو بكر الوراق: ملك لا يتعقبه هلك. وفي الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الملك الكبير هو [أن «1»] أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه) قال: [وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربه تعالى كل يوم مرتين ] سبحان المنعم «2». قوله تعالى: (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) قرأ نافع وحمزة وابن محيصن عالِيَهُمْ ساكنة الياء، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما" عاليتهم" وبتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها. الفراء: وهو مرفوع بالابتداء وخبره ثِيابُ سُندُسٍ واسم الفاعل يراد به الجمع. ويجوز في قول الأخفش أن يكون «3» إفراده على أنه اسم فاعل متقدم وثِيابُ مرتفعة به وسدت مسد الخبر، والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يخص، وابتدئ به لأنه أختص بالإضافة. وقرا الباقون (عاليهم) بالنصب. وقال الفراء: هو كقولك فوقهم، والعرب تقول: قومك داخل الدار فينصبون داخل على الظرف، لأنه محل. وأنكر الزجاج هذا وقال: هو مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء. ولكنه بالنصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله:
__________
(1). زيادة يقتضيها المعنى.
(2). جملة: (سبحان المنعم): في الأصل المطبوع.
(3). جملة:: (أن يكون) ساقطة من الأصل.

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي على الأبرار وِلْدانٌ عاليا الأبرار ثياب سندس، أي يطوف عليهم في هذه الحال، والثاني: أن يكون حالا من الولدان، أي إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي: العامل في الحال إما لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وإما جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا قال: ويجوز أن يكون ظرفا فصرف. المهدوي: ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفا، كقولك هو ناحية من الدار، وعلى أن عاليا لما كان بمعنى فوق أجرى مجراه فجعل ظرفا. وقرا ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن عاصم خُضْرٌ بالجر على نعت السندس وَإِسْتَبْرَقٌ بالرفع نسقا على الثياب، ومعناه عاليهم [ثياب «1»] سندس وإستبرق. وقرا ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب خُضْرٌ رفعا نعتا للثياب وَإِسْتَبْرَقٌ بالخفض نعتا للسندس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لجودة معناه، لان الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة، وأحسن ما عطف الإستبرق على السندس عطف جنس على جنس، والمعنى: عاليهم ثياب خضر من سندس وإستبرق، أي من هذين النوعين. وقرا نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون خُضْرٌ نعتا للثياب، لأنهما جميعا بلفظ الجمع وَإِسْتَبْرَقٌ عطفا على الثياب. وقرا الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي كلاهما بالخفض ويكون قوله: خُضْرٌ نعتا للسندس، والسندس اسم جنس، وأجاز الأخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له، وتقول: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، ولكنه مستبعد في الكلام. والمعنى على هذه القراءة: عاليهم ثياب سندس خضر وثياب إستبرق. وكلهم صرف الإستبرق إلا ابن محيصن، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ (وإستبرق) نصبا في موضع الجر، على منع الصرف، لأنه أعجمي، وهو غلط، لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول الإستبرق إلا أن يزعم [ابن محيصن «2»] أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرى (وإستبرق) بوصل الهمزة والفتح على أنه سمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا، لأنه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبرك «3» والسندس: ما رق من الديباج. والإستبرق: ما غلظ منه. وقد تقدم «4».
__________
(1). زيادة تقتضيها العبارة.
(2). زيادة من ا، ح.
(3). في الأصل إستبرق وهو تحريف والتصويب من القاموس الفارسي. وفي الألفاظ الفارسية وشرح القاموس أصله: (استبره). [.....]
(4). راجع ج 10 ص 397 وج 17 ص 179

قوله تعالى: وَحُلُّوا عطف على وَيَطُوفُ. أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وفي سورة فاطر يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وفي سورة الحج يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً [الحج: 23]، فقيل: حلي الرجل الفضة وحلي المرأة الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة وسواران من لؤلؤ، ليجتمع لهم محاسن الجنة، قاله سعيد بن المسيب. وقيل: أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم. (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبدا، ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73]. وقال النخعي وأبو قلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك، وضمرت بطونهم. وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة، تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من أذى وقذر. وهذا معنى ما روى عن علي، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعولا للمبالغة، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. وقد مضى بيانه في سورة" الفرقان" «1» والحمد لله. وقال طيب الجمال: صليت خلف سهل بن عبد الله العتمة فقرأ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً وجعل يحرك شفتيه وفمه، كأنه يمص شيئا، فلما فرغ قيل له: أتشرب أم تقرأ؟ فقال: والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته. قوله تعالى: (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي يقال لهم: إنما هذا جزاء لكم أي ثواب. وَكانَ سَعْيُكُمْ أي عملكم مَشْكُوراً أي من قبل الله، وشكره للعبد قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه. وروى سعيد عن قتادة قال: غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى. وقال
__________
(1). راجع ج 13 ص 39

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)

مجاهد: مَشْكُوراً أي مقبولا والمعنى متقارب، فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل، إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم. روي عن ابن عمر: أن رجلا حبشيا قال: يا رسول الله! فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به، وعملت بما عملت، أكائن أنا معك في الجنة؟ قال: [نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام ] ثم قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [من قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عهد، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة]، فقال الرجل: كيف نهلك بعدها «1» يا رسول الله؟ فقال: [إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لاثقله. فتجيء النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يلطف «2» الله برحمته ]. قال: ثم نزلت هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله: وَمُلْكاً كَبِيراً قال الحبشي: يا رسول الله! وإن عيني لترى ما ترى، عيناك في الجنة؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نعم) فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه. وقال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدليه في حفرته ويقول: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً قلنا: يا رسول الله وما هو؟ قال: [والذي نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لابيضن وجهك ولابوئنك من الجنة حيث شئت، فنعم أجر العاملين ].

[سورة الإنسان (76): الآيات 23 الى 26]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) ما افتريته ولا جئت به من عندك، ولا من تلقاء نفسك، كما يدعيه المشركون. ووجه اتصال هذه الآية بنا قبل أنه سبحانه لما ذكر أصناف الوعد والوعيد، بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجة إليه، فليس بسحر
__________
(1). في ا، ح، و: (بعد هذا).
(2). في ز، ط، ل: يتعطف.

ولا كهانة، ولا شعر، وأنه حق. وقال ابن عباس: أنزل القرآن متفرقا: آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة، فلذلك قال نَزَّلْنا وقد مضى القول في هذا مبينا «1» والحمد لله. قوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي لقضاء ربك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: اصبر على أذى المشركين، هكذا قضيت. ثم نسخ بآية القتال. وقيل: أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة. وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أي ذا إثم أَوْ كَفُوراً أي لا تطع الكفار. فروى معمر عن قتادة قال: قال أبو جهل: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فأنزل الله عز وجل: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. ويقال: نزلت في عتبة بن ربيعة والوليد ابن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرضان عليه الأموال والتزويج، على أن يترك ذكر النبوة، ففيهما نزلت: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. قال مقاتل: الذي عرض التزويج عتبة بن ربيعة، قال: إن بناتي من أجمل نساء قريش، فأنا أزوجك ابنتي من غير مهر وأرجع عن هذا الامر. وقال الوليد: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل المال، فأنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الامر، فنزلت. ثم قيل: أَوْ في قوله تعالى: آثِماً أَوْ كَفُوراً أوكد من الواو، لان الواو إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص، لأنه أمره ألا يطيع الاثنين، فإذا قال: لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ف- أَوْ قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو اتبع الحسن أو ابن سيرين فقد قلت: هذان أهل أن يتبعا وكل واحد منهما أهل لان يتبع، قاله الزجاج. وقال الفراء: أَوْ هنا بمنزلة لا كأنه قال: ولا كفورا، قال الشاعر:
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ... وجد عجول أضلها ربع «2»
أو وجد شيخ أضل ناقته ... يوم توافي الحجيج فاندفعوا
__________
(1). راجع ج 13 ص (29)
(2). العجول من النساء والإبل: الواله التي فقدت ولدها سميت بذلك لعجلتها في جيئتها وذهابها جزعا وهي هنا الناقة. والربع: كمضر: الفصيل ينتج في الربيع.

إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)

أراد ولا وجد شيخ. وقيل: الآثم المنافق، والكفور الكافر الذي يظهر الكفر، أي لا تطع منهم آثما ولا كفورا. وهو قريب من قول الفراء. قوله تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي صل لربك أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح وفي آخره صلاة الظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) يعني صلاة المغرب والعشاة الآخرة (وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) يعني التطوع في الليل، قاله ابن حبيب. وقال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها. وقال ابن زيد وغيره: إن قوله: وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا منسوخ بالصلوات الخمس وقيل: هو ندب. وقيل: هو مخصوص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد تقدم القول في مثله في سورة" المزمل" «1» وقول ابن حبيب حسن. وجمع الأصيل: الأصائل والأصل كقولك سفائن وسفن قال:
ولا بأحسن منها إذا دنا الأصل

وقال «2» في الأصائل وهو جمع الجمع:
لعمري لانت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالاصائل
وقد مضى هذا في آخر (الأعراف) «3» مستوفى. ودخلت (مِنَ) على الظرف للتبعيض كما دخلت على المفعول في قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ).

[سورة الإنسان (76): الآيات 27 الى 28]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
قوله تعالى: (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ): توبيخ وتقريع، والمراد أهل مكة. والعجلة الدنيا وَيَذَرُونَ أي ويدعون وَراءَهُمْ أي بين أيديهم يَوْماً ثَقِيلًا
__________
(1). راجع ص 38 من هذا الجزء.
(2). قاله أبو ذؤيب الهذلي.
(3). راجع ج 7 ص 355.

أي عسيرا شديدا كما قال: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 187]. أي يتركون الايمان بيوم القيامة. وقيل: وَراءَهُمْ أي خلفهم، أي ويذرون الآخرة خلف ظهورهم، فلا يعملون لها. وقيل:" نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة نبوته. وحبهم العاجلة: أخذهم الرشا على ما كتموه. وقيل: أراد المنافقين، لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا. والآية تعم. واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمي ثقيلا لشدائده وأهواله. وقيل: للقضاء فيه بين عباده. قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ أي من طين. وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي خلقهم، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم. والأسر الخلق، قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الأسر أي الخلق. ويقال أسره الله جل ثناؤه إذا شدد خلقه، قال لبيد:
ساهم الوجه شديد أسره ... مشرف الحارك محبوك الكتد «1»
وقال الأخطل:
من كل مجتنب شديد أسره ... سلس القياد تخاله مختالا «2»
وقال أبو هريرة والحسن والربيع: شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقال مجاهد في تفسير الأسر: هو الشرج، أي إذا خرج الغائط والبول تقبض الموضع. وقال ابن زيد القوة. وقال ابن أحمر يصف فرسا:
يمشي بأوظفة شداد أسرها ... صم السنابك لا تقي بالجدجد «3»
واشتقاقه من الإسار وهو القد الذي يشد به الأقتاب، يقال: أسرت القتب أسرا أي شددته وربطته، ويقال: ما أحسن أسر قتبه أي شده وربطه، ومنه قولهم: خذه
__________
(1). ورد في اللسان مادة (حبك) أنشد بيت لبيد على هذه الصورة: مشرف الحارك محبوك الكفل (وكذلك هو في ديوانه) ومحبوك الكفل: مدمجة. وفي مادة حرك أنشد الشطر:
مغبط الحارك محبوك الكفل

أما الشطر الذي في التفسير هنا فهو لابي دواد وقد مر في ج 17 ص 32.
(2). مجتنب: مفتعل من الجنيبة وهي الفرس تقاد ولا تركب وكانوا يركبون الإبل ويجنبون الخيل فإذا صاروا إلى الحرب ركبوا الخيل.
(3). الجدجد: الأرض الصلبة. ولا تقي: لا تتوقى ولا تتهيب.

إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

بأسره إذا أرادوا أن يقولوا هو لك كله، كأنهم أرادوا تعكيمه «1» وشده لم يفتح ولم ينقص منه شي. ومنه الأسير، لأنه كان يكتف بالاسار. والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي. (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا) قال ابن عباس: يقول لو نشاء لاهلكناهم وجينا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا: لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها. كذلك روى الضحاك عنه. والأول رواه عنه أبو صالح.

[سورة الإنسان (76): الآيات 29 الى 31]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أي السورة تَذْكِرَةٌ أي موعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب مرضاته. وقيل: سَبِيلًا أي وسيلة. وقيل وجهة وطريقا إلى الجنة «2». والمعنى واحد. وَما تَشاؤُنَ أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فأخبر أن الامر إليه سبحانه ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرا ابن كثير وأبو عمرو" وما يشاءون" بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه. وقيل: إن الآية الاولى منسوخة بالثانية. والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته. قال الفراء: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ جواب لقوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ثم أخبرهم أن الامر ليس إليهم فقال: وَما تَشاؤُنَ ذلك السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لكم. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بأعمالكم حَكِيماً في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في غير موضع.
__________
(1). عكمت المتاع شددته والعكام الخيط الذي يعكم به وعكمت البعير شددت عليه العكم.
(2). في ب، ز، ط: إلى الخير. [.....]

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي يدخله الجنة راحما له وَالظَّالِمِينَ أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج: نصب الظالمين لان قبله منصوب، أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون أَعَدَّ لَهُمْ تفسيرا لهذا المضمر، كما قال الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج: والاختيار النصب وإن جاز الرفع، تقول: أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا، فيختار النصب، أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في" حم عسق": يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ [الشورى: 8] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى، فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها هنا قوله: أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً يدل على ويعذب، فجاز النصب. وقرا أبان بن عثمان (والظالمون) رفعا بالابتداء والخبر أَعَدَّ لَهُمْ. عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما موجعا. وقد تقدم هذا في سورة" البقرة" «1» وغيرها والحمد لله. ختمت السورة.

[تفسير سورة المرسلات ]
سورة المرسلات مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] مدنية. وقال ابن مسعود: نزلت وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن ونحن معه نسير، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت، فبينا نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وقيتم شرها كما وقيت شركم). وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها في صلاة المغرب. والله أعلم. وهي خمسون آية.
__________
(1). راجع ج 1 ص 198

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعالى ونهيه والخبر والوحي. وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي. وقيل: هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله، قاله ابن عباس. وقال أبو صالح: إنهم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وعن ابن عباس وابن مسعود: إنها الرياح، كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ [الحجر: 22]. وقال: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ [الأعراف: 57]. ومعنى عُرْفاً يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس، تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد: إذا توجهوا إليه فأكثروا. وهو نصب على الحال من وَالْمُرْسَلاتِ أي والرياح التي أرسلت متتابعة. ويجوز أن تكون مصدرا أي تباعا. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر، كأنه قال: والمرسلات بالعرف، والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب، لما فيها من نعمة ونقمة، عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه. وقيل: إنها الزواجر والمواعظ. وعُرْفاً على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس، قاله ابن مسعود. وقيل: جاريات، قاله الحسن، يعني في القلوب. وقيل: معروفات في العقول.

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) الرياح بغير اختلاف، قاله المهدوي. وعن ابن مسعود: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه، كما قال تعالى: فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ «1» قاصِفاً [الاسراء: 69]. وقيل: العاصفات الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها. وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر، يقال: عصف بالشيء أي أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي تعصف براكبها، فتمضى كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها. وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته، أي تنشر السحاب للغيث. وروى ذلك عن أبي صالح. وعنه أيضا: الأمطار، لأنها تنشر النبات، فالنشر بمعنى الأحياء، يقال: نشر الله الميت وأنشره أي أحياه. وروى عنه السدي: أنها الملائكة تنشر كتب الله عز وجل. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. الضحاك: إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد. وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح. قال: وَالنَّاشِراتِ بالواو، لأنه استئناف قسم آخر. (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدده. وعن سعيد عن قتادة قال: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال. وقاله الحسن وابن كيسان. وقيل: يعني الرسل فرقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بينوا ذلك. وقيل: السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتند في الأرض حين تضع، ونوق
__________
(1). كذا في الأصول ولعل المناسب الاستشهاد بقوله تعالى: (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) كما أشار إليه أبو حيان بقوله: وأن العصف من صفات الريح ... إلخ.

فوارق وفرق. [وربما «1»] شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة، قال ذو الرمة:
أو مزنة فارق يجلو غواربها ... تبوج البرق والظلماء علجوم «2»
(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) الملائكة بإجماع، أي تلقي كتب الله عز وجل إلى الأنبياء عليهم السلام، قاله المهدوي. وقيل: هو جبريل وسمي باسم الجمع، لأنه كان ينزل بها. وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم، قاله قطرب. وقرا ابن عباس (فالملقيات) بالتشديد مع فتح القاف، وهو كقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النمل: 6] (عُذْراً أَوْ نُذْراً): أي تلقى الوحي إعذارا من الله أو إنذارا إلى خلقه من عذابه، قاله الفراء. وروى عن أبي صالح قال: يعني الرسل يعذرون وينذرون. وروى سعيد عن قتادة عُذْراً قال: عذرا لله جل ثناؤه إلى خلقه، ونذرا للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به. وروى الضحاك عن ابن عباس. عُذْراً أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة أَوْ نُذْراً ينذر أعداءه. وقرا أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص أَوْ نُذْراً بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال عُذْراً سوى ما رواه الجعفي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروى ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما. وقرا إبراهيم التيمي وقتادة" عذرا ونذرا" بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفا. وهما منصوبان على الفاعل له أي للاعذار أو للانذار. وقيل: على المفعول به، قيل: على البدل من ذِكْراً أي فالملقيات عذرا أو نذرا. وقال أبو علي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالتثقيل على جمع عاذر وناذر، كقوله تعالى: هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى [النجم: 56] فيكون نصبا على الحال من الإلقاء، أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. أو يكون مفعولا ل- ذِكْراً أي فَالْمُلْقِياتِ أي تذكر عُذْراً أَوْ نُذْراً. وقال المبرد: هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير. (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) هذا جواب ما تقدم من القسم، أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم.
__________
(1). الزيادة من اللسان عن الجوهري مادة (فرق).
(2). تبوج البرق: تفتحه وتكشفه. علجوم: شديد السواد.

ثم بين وقت وقوعه فقال: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي ذهب ضوءها ومحي نورها كطمس الكتاب، يقال: طمس الشيء إذا درس وطمس فهو مطموس، والريح تطمس الآثار فتكون الريح طامسة والأثر طامسا بمعنى مطموس. (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي فتحت وشقت، ومنه قوله تعالى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19]. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فرجت للطي. (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي ذهب بها كلها بسرعة، يقال: نسفت الشيء وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة. وكان ابن عباس والكلبي يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه، قال بشر:
نسوف للحزام بمرفقيها

ونسفت الناقة الكلا: إذا رعته. وقال المبرد: نسفت قلعت من موضعها، يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض: أنسفت رجلاه. وقيل: النسف تفريق الاجزاء حتى تذروها للرياح. ومنه نسف الطعام، لأنه يحرك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التبن. (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، كما قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: 109]. وقيل: هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفار ممهلون. وإنما تزول الشكوك يوم القيامة. والأول أحسن، لان التوقيت معناه شي يقع يوم القيامة، كالطمس ونسف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به التأقيت قبل يوم القيامة. قال أبو علي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا. وقيل: أقتت وعدت وأجلت. وقيل: أُقِّتَتْ أي أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة «1» في أُقِّتَتْ بدل من الواو، قاله الفراء والزجاج. قال الفراء: وكل واو ضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة، تقول: صلى القوم إحدانا تريد وحدانا، ويقولون هذه وجوه حسان و[أجوه «2»]. وهذا
__________
(1). وضح المؤلف هذا البدل عند قوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ) في أول هذا الجزء.
(2). زيادة يقتضيها المقام.

لان ضمة الواو ثقيلة. ولم يجز البدل في قوله: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237] لان الضمة غير لازمة. وقرا أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد" وقتت" بالواو وتشديد القاف على الأصل. وقال أبو عمرو: وإنما يقرأ أُقِّتَتْ من قال في وجوه أجوه. وقرا أبو جعفر وشيبة والأعرج" وقتت" بالواو وتخفيف القاف. وهو فعلت من الوقت ومنه كِتاباً مَوْقُوتاً. وعن الحسن أيضا:" ووقتت" بواوين، وهو فوعلت من الوقت أيضا مثل عوهدت. ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفا لجاز. وقرا يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام أُقِّتَتْ بالهمزة والتخفيف، لأنها مكتوبة في المصحف بالألف. (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ)؟ أي أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو استفهام على التعظيم. أي لِيَوْمِ الْفَصْلِ أجلت. وروى سعيد عن قتادة قال: يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. وفي الحديث: [إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاما على رؤوسهم الشمس شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل [. (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أتبع التعظيم تعظيما، أي وما أعلمك ما يوم الفصل؟ (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب وخزي لمن كذب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب، لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شي كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه بغيره، لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وعلى قدر وفاقه وهو قوله: جَزاءً وِفاقاً. [النبأ: 26]. وروى عن النعمان بن بشير قال: ويل: واد في جهنم فيه ألوان العذاب. وقاله ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: إذا خبت جهنم أخذ من جمره فألقى عليها فيأكل بعضها بعضا. وروي أيضا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [عرضت علي جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل [وروى أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض وانفطر، وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات من الجيف وماء الحمامات، فذكر أن ذلك

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)

الوادي. مستنقع صديد أهل الكفر والشرك، ليعلم ذوو العقول أنه لا شي أقذر منه قذارة، ولا أنتن منه نتنا، ولا أشد منه مرارة، ولا أشد سوادا منه، ثم وصفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما تضمن من العذاب، وأنه أعظم واد في جهنم، فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة.

[سورة المرسلات (77): الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
قوله تعالى: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدن آدم إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي نلحق الآخرين بالأولين. (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي مثل ما فعلناه بمن تقدم نفعل بمشركي قريش إما بالسيف، وإما بالهلاك. وقرا العامة ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ بالرفع على الاستئناف، وقرا الأعرج (نتبعهم) بالجزم عطفا على نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كما تقول: ألم تزرني ثم أكرمك. والمراد أنه أهلك قوما بعد قوم على اختلاف أوقات المرسلين. ثم استأنف بقوله: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يريد من يهلك فيما بعد. ويجوز أن يكون الإسكان تخفيفا من نُتْبِعُهُمُ لتوالي الحركات. وروى عنه الإسكان للتخفيف. وفي قراءة ابن مسعود" ثم سنتبعهم" والكاف من كَذلِكَ في موضع نصب، أي مثل ذلك الهلاك نفعله بكل مشرك. ثم قيل: معناه التهويل لهلاكهم في الدنيا اعتبارا. وقيل: هو إخبار بعذابهم في الآخرة.

[سورة المرسلات (77): الآيات 20 الى 24]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
قوله تعالى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ضعيف حقير وهو النطفة وقد تقدم. وهذه الآية أصل لمن قال: إن خلق الجنين إنما هو من ماء الرجل وحده. وقد مضى القول»
فيه.
__________
(1). راجع ج 12 ص.

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)

(فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي في مكان حريز وهو الرحم. (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) قال مجاهد: إلى أن نصوره. وقيل: إلى وقت الولادة. فَقَدَرْنا وقرا نافع والكسائي (فقدرنا) بالتشديد. وخفف الباقون، وهما لغتان بمعنى. قاله الكسائي والفراء والقتبي. قال القتبي: قدرنا بمعنى قدرنا مشددة: كما تقول: قدرت كذا وقدرته، ومنه قول النبي صلى الله عليه سلم في الهلال: [إذا غم عليكم فاقدروا له [أي قدروا له المسير والمنازل. وقال محمد بن الجهم عن الفراء: فَقَدَرْنا قال: وذكر تشديدها عن علي رضي الله عنه، تخفيفها: قال: ولا يبعد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحدا، لان العرب تقول: قدر عليه الموت وقدر: قال الله تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الواقعة: 60] قرئ بالتخفيف، والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر. قال: واحتج الذين خففوا فقالوا، لو كانت كذلك لكانت فنعم المقدرون. قال الفراء: وتجمع العرب بين اللغتين، قال الله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: 17] قال الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وروي عن عكرمة فَقَدَرْنا مخففة من القدرة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والكسائي لقوله: فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ومن شدد فهو من التقدير، أي فقدرنا الشقي والسعيد فنعم المقدرون. رواه ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: المعنى قدرنا قصيرا أو طويلا. ونحوه عن ابن عباس: قدرنا ملكنا. المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف. قلت: هو صحيح فإن عكرمة هو الذي قرأ فَقَدَرْنا مخففا قال: معناه فملكنا فنعم المالكون، فأفادت الكلمتان معنيين متغايرين، أي قدرنا وقت الولادة وأحوال النطفة في التنقيل من حالة إلى حالة حتى صارت بشرا سويا، أو الشقي والسعيد، أو الطويل والقصير، كله على قراءة التشديد. وقيل: هما بمعنى كما ذكرنا.

[سورة المرسلات (77): الآيات 25 الى 28]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)

فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) أي ضامه تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وقوله عليه السلام: [قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم [وقد مضى في (البقرة) «1» بيانه. يقال: كفت الشيء أكفته: إذا جمعته وضممته، والكفت: الضم والجمع، وأنشد سيبويه:
كرام حين تنكفت الأفاعي ... إلى أحجارهن من الصقيع
وقال أبو عبيد: كِفاتاً أوعية. ويقال للنحي: كفت وكفيت، لأنه يحوي اللبن ويضمه قال:
فأنت اليوم فوق الأرض حيا ... وأنت غدا تضمك في كفات
وخرج الشعبي في جنازة فنظر إلى الجبان فقال: هذه كفات الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء. و[الثانية «2»]- روى عن ربيعة في النباش قال تقطع يده فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً فالأرض حرز. وقد مضى هذا في سورة" المائدة" «3». وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفته، لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها. وقيل: هي كفات للاحياء يعني دفن ما يخرج من الإنسان من الفضلات في الأرض، إذ لا ضم في كون الناس عليها، والضم يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه. وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض، أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت
__________
(1). راجع ج 2 ص 102.
(2). لم يذكر في الأصول لفظ المسألة الثانية والمتبادر أن هنا موضعها كما يستفاد من أحكام القرآن لابن العربي.
(3). راجع ج 6 ص 168

انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)

وهو الذي لا ينبت. وقال الفراء: انتصب، أَحْياءً وَأَمْواتاً بوقوع الكفات عليه، أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات. فإذا نونت نصبت، كقوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً [البلد: 15- 14]. وقيل: نصب على الحال من الأرض، أي منها كذا ومنها كذا. وقال الأخفش: كِفاتاً جمع كافتة والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل: التكفيت: تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر. ويقال: انكفت القوم إلى منازلهم أي انقلبوا. فمعنى الكفات أنهم يتصرفون على ظهرها وينقلبون إليها ويدفنون فيها. وَجَعَلْنا فِيها أي في الأرض رَواسِيَ شامِخاتٍ يعني الجبال، والرواسي الثوابت، والشامخات الطوال، ومنه يقال: شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا. قال: (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي وجعلنا لكم سقيا. والفرات: الماء العذب يشرب ويسقى منه الزرع. أي خلقنا الجبال وأنزلنا الماء الفرات. وهذه الأمور أعجب من البعث. وفي بعض الحديث قال أبو هريرة: في الأرض من الجنة الفرات والدجلة ونهر الأردن. وفي صحيح مسلم: سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.

[سورة المرسلات (77): الآيات 29 الى 34]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
قوله تعالى: (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقال للكفار سيروا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من العذاب يعني النار، فقد شاهدتموها عيانا. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ أي دخان ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ
يعني الدخان الذي يرتفع ثم يتشعب إلى ثلاث شعب. وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب. ثم وصف الظل فقال: (لا ظَلِيلٍ) أي ليس كالظل الذي يقي حر الشمس (وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) أي لا يدفع من لهب جهنم شيئا. واللهب

ما يعلو على النار إذ اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر. وقيل: إن الشعب الثلاث هي الضريع والزقوم والغسلين، قاله الضحاك. وقيل: اللهب ثم الشرر ثم الدخان، لأنها ثلاثة أحوال، هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدت. وقيل: عنق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب. فأما النور فيقف على رءوس المؤمنين، وأما الدخان فيقف على رءوس المنافقين، وأما اللهب الصافي فيقف على رءوس الكافرين. وقيل: هو السرادق، وهو لسان من نار يحيط بهم، ثم يتشعب منه ثلاث شعب، فتظللهم حتى يفرغ من حسابهم إلى النار. وقيل: هو الظل من يحموم، كما قال تعالى: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة: 44- 42] على ما تقدم «1». وفي الحديث: (إن الشمس تدنو من رءوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ولا لهم أكفان فتلحقهم «2» الشمس وتأخذ بأنفاسهم ومد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهنالك يقولون: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطور: 27] ويقال للمكذبين: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من عذاب الله وعقابه انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. فيكون أولياء الله جل ثناؤه في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل، إلى أن يفرغ من الحساب ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار. ثم وصف النار فقال: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ الشرر: واحدته شررة. والشرار: واحدته شرارة، وهو ما تطاير من النار في كل جهة، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجف. والقصر البناء العالي. وقراءة العامة كَالْقَصْرِ بإسكان الصاد: أي الحصون والمدائن في العظم وهو واحد القصور. قاله ابن عباس وابن مسعود. وهو في معنى الجمع على طريق الجنس. وقيل: القصر جمع قصرة ساكنة الصاد، مثل جمرة، وجمر وتمرة وتمر. والقصرة: الواحدة من جزل الحطب الغليظ. وفي البخاري عن ابن عباس أيضا: تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قال كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع «3» أو أقل، فترفعه للشتاء، فنسميه القصر، وقال سعيد بن جبير والضحاك: هي
__________
(1). راجع ج 17 ص (213)
(2). كذا في الأصول ولعل اللفظ تلفحهم.
(3). بنصب ثلاثة ويجوز إضافة بقصر إليها أي بقدر ثلاثة أذرع. ولفظ الحديث في (النهاية قصر): (كنا نرفع الخشب للشتاء ثلاث أذرع أو أقل وتسميه القصر).

أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع. وقيل: أعناقه. وقرا ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمى (كالقصر) بفتح الصاد، أراد أعناق النخل. والقصرة العنق، جمعها قصر وقصرات. وقال قتادة: أعناق الإبل. قرأ سعيد بن جبير بكسر القاف وفتح الصاد، وهي أيضا جمع قصرة مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع وحلقة وحلق، لحلق الحديد. وقال أبو حاتم: ولعله لغة، كما قالوا حاجة وحوج. وقيل: القصر: الجبل، فشبه الشرر بالقصر في مقاديره، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر، وهي الإبل السود، والعرب تسمى السود من الإبل صفرا، قال «1» الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب
أي هن سود. وإنما سميت السود من الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شي من صفرة، كما قيل لبيض الظباء: الأدم، لان بياضها تعلوه كدرة: والشرر إذا تطاير وسقط وفية بقية من لون النار أشبه شي بالإبل السود، لما يشوبها من صفرة. وفي شعر عمران ابن حطان الخارجي:
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
وضعف الترمذي «2» هذا القول فقال: وهذا القول محال في اللغة، أن يكون شي يشوبه شي قليل، فنسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب لمن قد قال هذا، وقد قال الله تعالى: جِمالَتٌ صُفْرٌ فلا نعلم شيئا من هذا في اللغة. ووجهه عندنا أن النار خلقت من النور فهي نار مضيئة، فلما خلق الله جهنم وهي موضع النار، حشا ذلك الموضع بتلك النار، وبعث إليها سلطانه وغضبه، فاسودت من سلطانه وازدادت حدة، وصارت أشد سوادا من النار ومن كل شي سوادا، فإذا كان يوم القيامة وجئ بجهنم في الموقف رمت بشررها على أهل الموقف، غضبا لغضب الله، والشرر هو أسود، لأنه من نار سوداء، فإذا رمت النار بشررها فإنها ترمي الاعداء به، فهن سود من سواد النار، لا يصل ذلك إلى الموحدين، لأنهم
__________
(1). هو الأعشى. [.....]
(2). في نسخة: اليزيدي. وهو تصحيف.

في سرادق الرحمة قد أحاط بهم في الموقف، وهو الغمام الذي يأتي فيه الرب تبارك وتعالى، ولكن يعاينون ذلك الرمي، فإذا عاينوه نزع الله ذلك السلطان والغضب عنه في رأي العين منهم حتى يروها صفراء، ليعلم الموحدون أنهم في رحمة الله لا في سلطانه وغضبه. وكان ابن عباس يقول: الجمالات الصفر: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال. ذكره البخاري. وكان يقرؤها" جمالات" بضم الجيم، وكذلك قرأ مجاهد وحميد" جمالات" بضم الجيم، وهي الحبال الغلاظ، وهي قلوس السفينة أي حبالها. وواحد القلوس: قلس. وعن ابن عباس أيضا على أنها قطع النحاس. والمعروف في الحبل الغليظ جمل بتشديد الميم كما تقدم في" الأعراف" «1»" وجمالات" بضم الجيم: جمع جمالة بكسر الجيم موحدا، كأنه جمع جمل، نحو حجر وحجارة، وذكر وذكارة. وقرا يعقوب وابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري جِمالَتٌ بضم الجيم موحدا وهي الشيء العظيم المجموع بعضه إلى بعض. وقرا حفص وحمزة والكسائي جِمالَتٌ وبقية السبعة" جمالات" قال الفراء: يجوز أن تكون الجمالات جمع جمال كما يقال: رجل ورجال ورجالات. وقيل: شبهها بالجمالات لسرعة سيرها. وقيل: لمتابعة بعضها بعضا. والقصر: واحد القصور. وقصر الظلام: اختلاطه ويقال: أتيته قصرا أي عشيا، فهو مشترك، قال: «2»
كأنهم قصرا مصابيح راهب ... بموزن روى بالسليط ذبالها
مسألة: في هذه الآية دليل على جواز ادخار الحطب والفحم وإن لم يكن من القوت، فإنه من مصالح المرء ومغاني مفاقره. وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته، ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن، كما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله، وكل شي محمول عليه. وقد بين ابن عباس هذا بقوله: كنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه وندخره للشتاء وكنا نسميه القصر. وهذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 7 ص (207)
(2). قائله كثير عزة. وموزن كمقعد: بلد بالجزيرة.

هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)

[سورة المرسلات (77): الآيات 35 الى 37]
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
قوله تعالى: (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) أي لا يتكلمون (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وفَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: 108] وقد قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] فقال له: إن الله عز وجل يقول: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان. وقيل: لا ينطقون بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. قال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. وقيل: إن هذا وقت جوابهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] وقد تقدم «1». وقال أبو عثمان: أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب. وقال الجنيد: أي عذر لمن أعر ض عن منعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه؟ ويَوْمُ بالرفع قراءة العامة على الابتداء والخبر، أي تقول الملائكة: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ويجوز أن يكون قوله: انْطَلِقُوا من قول الملائكة، ثم يقول الله لأوليائه: هذا يوم لا ينطق الكفار. ومعنى اليوم الساعة والوقت. وروى يحيى بن سلطان. عن أبي بكر عن عاصم هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ بالنصب، ورويت عن ابن هرمز وغيره، فجاز أن يكون مبنيا لاضافته إلى الفعل وموضعه رفع. وهذا مذهب الكوفيين. وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تكون الإشارة إلى غير اليوم. وهذا مذهب البصريين، لأنه إنما بني عندهم إذا أضيف إلى مبني، والفعل ها هنا معرب. وقال الفراء في قوله تعالى: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ الفاء نسق أي عطف على يُؤْذَنُ وأجيز ذلك، لان أواخر الكلام بالنون. ولو قال: فيعتذروا لم يوافق الآيات. وقد قال:
__________
(1). راجع ج 12 ص 153

هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)

لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر: 36] بالنصب وكله صواب، ومثله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ [البقرة: 245] بالنصب والرفع.

[سورة المرسلات (77): الآيات 38 الى 40]
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
قوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي ويقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، فيتبين المحق من المبطل. جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ قال ابن عباس: جمع الذين كذبوا محمدا والذين كذبوا النبيين من قبله. رواه عنه الضحاك. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) أي حيلة في الخلاص من الهلاك فَكِيدُونِ أي فاحتالوا لأنفسكم وقاووني ولن تجدوا ذلك. وقيل: أي فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ أي قدرتم على حرب فَكِيدُونِ أي حاربوني. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال: يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحاربونني فاليوم حاربوني. وقيل: أي إنكم كنتم في الدنيا تعملون بالمعاصي وقد عجزتم الآن عنها وعن الدفع عن أنفسكم. وقيل: إنه من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون كقول هود: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود: 55].

[سورة المرسلات (77): الآيات 41 الى 45]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) أخبر بما يصير إليه المتقون غدا، والمراد بالظلال ظلال الأشجار وظلال القصور مكان الظل في الشعب الثلاث. وفي سورة يس هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ «1» [يس: 56]. (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي يتمنون. وقراءة العامة ظِلالٍ. وقرا الأعرج والزهري وطلحة" ظلل" جمع ظلة يعني
__________
(1). راجع ج 15 ص 44.

كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

في الجنة. كُلُوا وَاشْرَبُوا أي يقال لهم غدا هذا بدل ما يقال للمشركين فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ. ف كُلُوا وَاشْرَبُوا في موضع الحال من ضمير الْمُتَّقِينَ في الظرف الذي هو فِي ظِلالٍ أي هم مستقرون فِي ظِلالٍ مقولا لهم ذلك. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعمالهم في الدنيا.

[سورة المرسلات (77): الآيات 46 الى 47]
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)
قوله تعالى: (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا) هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين، وهو وعيد وتهديد وهو حال من لِلْمُكَذِّبِينَ أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا. (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي كافرون. وقيل: مكتسبون فعلا يضركم في الآخرة، من الشرك والمعاصي.

[سورة المرسلات (77): الآيات 48 الى 50]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي إذا قيل لهؤلاء المشركين: ارْكَعُوا أي صلوا لا يَرْكَعُونَ أي لا يصلون، قاله مجاهد. وقال مقاتل: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل: قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أسلموا) وأمرهم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود]. يذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. قتادة: هذا في الدنيا. ابن العربي: هذه الآية

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)

حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركنا في الصلاة وقد انعقد الإجماع عليه، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا، فمن كان لله يسجد يمكن «1» من السجود، ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا. وقيل: أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون، فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد. وقيل: الامر بالايمان لأنها لا تصح من غير إيمان. قوله تعالى: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام، فبأي شي يصدقون! وكرر: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل: ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر، كأنه ذكر شيئا فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا «2»، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا. ثم كذلك إلى آخرها. ختمت السورة ولله الحمد.

[تفسير سورة عم وتسمى سورة النبأ]
سورة (عم) مكية وتسمى سورة (النبأ) وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5)
قوله تعالى: (عَمَّ يَتَساءَلُونَ)؟ عَمَّ لفظ استفهام، ولذلك سقطت منها ألف (ما)، ليتميز الخبر عن الاستفهام. وكذلك (فيم، ومم) إذا استفهمت. والمعنى عن أي شي
__________
(1). في نسخة: تمكن من السجود.
(2). كذا في أحكام القرآن لابن العربي طبعه السعادة.

يسأل بعضهم بعضا. وقال الزجاج: أصل عَمَّ عن ما فأدغمت النون في الميم، لأنها تشاركها في الغنة. والضمير في يَتَساءَلُونَ لقريش. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت عَمَّ يَتَساءَلُونَ؟ وقيل: عَمَّ بمعنى: فيم يتشدد المشركون ويختصمون. قوله تعالى: (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) أي يتساءلون عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ فعن ليس تتعلق ب- يَتَساءَلُونَ الذي في التلاوة، لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ كقولك: كم مالك أثلاثون أم أربعون؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه ب- يَتَساءَلُونَ الذي في التلاوة، وإنما يتعلق بيتساءلون آخر مضمر. وحسن ذلك لتقدم يتساءلون، قاله المهدوي. وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله: عَنِ مكرر إلا أنه مضمر، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبإ العظيم؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الاولى. والنَّبَإِ الْعَظِيمِ أي الخبر الكبير. (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) أي يخالف فيه بعضهم بعضا، فيصدق واحد ويكذب آخر، فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو القرآن، دليله قوله: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ فالقرآن نبأ وخبر وقصص، وهو نبأ عظيم الشأن. وروى سعيد عن قتادة قال: هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين: مصدق ومكذب. وقيل: أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي الضحاك عن ابن عباس قال: وذلك أن اليهود سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشياء كثيرة، فأخبره الله جل ثناؤه باختلافهم، ثم هددهم فقال: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أي سيعلمون عاقبة القرآن، أو سيعلمون البعث: أحق هو أم باطل. وكَلَّا رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن، فيوقف عليها. ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو (ألا) فيبدأ بها. والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث، قال بعض علمائنا: والذي يدل عليه قوله عز وجل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث. (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) أي حقا ليعلمن «1» صدق ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت. وقال الضحاك: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ
__________
(1). في الأصول: ليعلمون. والفعل مؤكد بالنون الثقيلة بعد القسم.

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)

يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم. وقيل: بالعكس أيضا. وقال الحسن: هو وعيد بعد وعيد. وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر، لقوله تعالى: يَتَساءَلُونَ وقوله: هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. وقرا الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما.

[سورة النبإ (78): الآيات 6 الى 16]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10)
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15)
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً): دلهم على قدرته على البعث، أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة. والمهاد: الوطاء والفراش. وقد قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] وقرى" مهدا". ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها. (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا: ذكرا وأنثى. وقيل: ألوانا. وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير، لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ) جَعَلْنا معناه صيرنا، ولذلك تعدت إلى مفعولين. سُباتاً المفعول الثاني، أي راحة لأبدانكم، ومنه يوم السبت أي يوم الراحة، أي قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا فيه شيئا. وأنكر ابن الأنباري هذا وقال: لا يقال للراحة سبات. وقيل: أصله التمدد، يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، فالسبات كالمد، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتا.

وقيل: أصله القطع، يقال: سبت شعره سبتا: حلقه وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال، فالسبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال: سير سبت: أي سهل لين، قال الشاعر: «1»
ومطوية الاقراب أما نهارها ... فسبت وأما ليلها فذميل
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم، قاله الطبري. وقال ابن جبير والسدي: أي سكنا لكم. (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) فيه إضمار، أي وقت معاش، أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما يعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك ف- مَعاشاً على هذا اسم زمان، ليكون الثاني هو الأول. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) أي سبع سموات محكمات، أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) أي وقادا وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق، لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج، يقال: وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا. ويقال للجوهر إذا تلالا توهج. وقال ابن عباس: وهاجا منيرا متلألئا. (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) قال مجاهد وقتادة: والمعصرات الرياح. وقاله ابن عباس: كأنها تعصر السحاب. وعن ابن عباس أيضا: أنها السحاب. وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك: أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد، كالمرأة المعصر التي قد دنا حيضها ولم تحض، قال أبو النجم: [
تمشي الهوينى مائلا خمارها ... قد أعصرت أوقد دنا أعصارها

«2»] [وقال آخر]:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر «3»
__________
(1). هو حميد بن ثور والسبت: السير السريع. والذميل: السير اللبن.
(2). هذه الزيادة عن أبي حيان دل عليها إجماع نسخ الأصل على ذكر أبي النجم.
(3). البيت لعمر بن أبي ربيعة.

وقال «1» آخر:
وذي أشر كالأقحوان يزينه ... ذهاب الصبا والمعصرات الروائح
فالرياح تسمى معصرات، يقال: أعصرت الريح تعصر إعصارا: إذا أثارت العجاج، وهي الاعصار، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر. وقال قتادة أيضا: المعصرات السماء، النحاس: هذه الأقوال صحاح، يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب، فيكون المطر، والمطر ينزل من الريح على هذا. ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات ماءً ثَجَّاجاً وأصح الأقوال أن المعصرات، السحاب. كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان (بالمعصرات) لكان الريح أولى. وفي الصحاح: والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر. وأعصر القوم أي أمطروا، ومنه قرأ بعضهم" وفية يعصرون" والمعصر: الجارية أول ما أدركت وحاضت، يقال: قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته، قال الراجز «2»:
جارية بسفوان دارها ... تمشي الهوينى ساقطا خمارها

قد أعصرت أو قد دنا أعصارها

والجمع: معاصر، ويقال: هي التي قاربت الحيض، لان الاعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. سمعته من أبي الغوث الاعرابي. قال غيره: والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر، يقال أجن الزرع فهو مجن: أي صار إلى أن يجن، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر. وقال المبرد: يقال سحاب معصر أي ممسك للماء، ويعتصر منه شي بعد شي، ومنه العصر بالتحريك للملجإ الذي يلجأ إليه، والعصرة بالضم أيضا الملجأ. وقد مضى هذا المعنى في سورة" يوسف" «3» والحمد لله. وقال أبو زبيد «4»:
__________
(1). هو البعيث كما في اللسان وروايته للبيت:
وذي أشر كالأقحوان تشوفه ... ذهاب الصبا والمقصرات الدوالح
والدوالح السحائب التي أثقلها الماء: والذهاب بكسر الذال: الأمطار الضعيفة.
(2). هو منصور بن مرثد الأسدي
(3). راجع ج 9 ص 205. [.....]
(4). قاله في رثاء ابن أخته وكان مات عطشا في طريق مكد.

صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر، لأنها تحبس في البيت، فيكون البيت لها عصرا. وفي قراءة ابن عباس وعكرمة" وأنزلنا بالمعصرات". والذي في المصاحف مِنَ الْمُعْصِراتِ قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: مِنَ الْمُعْصِراتِ أي من السموات. ماءً ثَجَّاجاً صبابا متتابعا، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: ثججت دمه فأنا أثجه ثجا، وقد ثج الدم يثج ثجوجا، وكذلك الماء، فهو لازم ومتعد. والثجاج في الآية المنصب. وقال الزجاج: أي الصباب، وهو متعد كأنه يثج: نفسه أي يصب. وقال عبيد بن الأبرص «1»:
فثج أعلاه ثم ارتج أسفله ... وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح
وفي حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن الحج المبرور فقال: [العج والثج ] فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء وذبح الهدايا. وقال ابن زيد: ثجاجا كثيرا. والمعنى واحد. قوله تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء حَبًّا كالحنطة والشعير وغير ذلك وَنَباتاً من الأب، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش. وَجَنَّاتٍ أي بساتين أَلْفافاً أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها، ولا واحد له كالاوزاع والاخياف. وقيل: واحد الالفاف لف بالكسر ولف بالضم. ذكره الكسائي، قال:
جنة لف وعيش مغدق ... وندامى كلهم بيض زهر
وعنه أيضا وأبي عبيدة: لفيف كشريف وأشراف. وقيل: هو جمع الجمع. حكاه الكسائي. يقال: جنة لفاء ونبت لف والجمع «2» لف بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع اللف ألفافا. الزمخشري: ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها. ويقال: شجرة لفاء وشجر لف وامرأة
__________
(1). البيت في وصف المطر ومنصاح: منشق بالماء. وفي الديوان: فالتج أعلاه.
(2). قوله: والجمع لف بضم اللام راجع إلى جنة لفاء بدليل قوله: مثل حمر لأنه جمع الحمراء وأما لف بالكسر والفتح فجمعه ألفاف.

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)

لفاء: أي غليظة الساق مجتمعة اللحم. وقيل: التقدير: ونخرج به جنات ألفافا، فحذف لدلالة الكلام عليه. ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة «1»، فالاغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها.

[سورة النبإ (78): الآيات 17 الى 20]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)
قوله تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) أي وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين، لما وعد الله من الجزاء والثواب. وسمي يوم الفصل لان الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي للبعث فَتَأْتُونَ أي إلى موضع العرض. أَفْواجاً أي أمما، كل أمة مع إمامهم. وقيل: زمرا وجماعات. الواحد: فوج. ونصب يوما بدلا من اليوم الأول. وروي من حديث معاذ بن جبل قلت: يا رسول الله! أرأيت قول الله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا معاذ [بن جبل «2»] لقد سألت عن أمر عظيم) ثم أرسل عينيه باكيا، ثم قال: (يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين، وبدل صورهم، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون: أرجلهم أعلاهم، ووجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صم بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعابا، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس- يعني النمام- وأما الذين على صورة الخنازير، فأهل
__________
(1). في ا، ح: متقاربة الأغصان من كل .. إلخ.
(2). [بن جبل ]: ساقطة من الأصل المطبوع.

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)

السحت والحرام والمكس. وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم، فأكلة الربا، والعمي: من يجور في الحكم، والصم البكم: الذين يعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون ألسنتهم: فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم: فالذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع النار: فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات، ويمنعون حق الله من «1» أموالهم. والذين يلبسون الجلابيب: فأهل الكبر والفخر والخيلاء (. قوله تعالى: (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) أي لنزول الملائكة، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25]. وقيل: تقطعت، فكانت قطعا كالأبواب فانتصاب الأبواب على هذا التأويل بحذف الكاف. وقيل: التقدير فكانت ذات أبواب، لأنها تصير كلها أبوابا. وقيل: أبوابها طرقها. وقيل: تنحل وتتناثر، حتى تصير فيها أبواب. وقيل: إن لكل عبد بابين في السماء: بابا لعمله، وبابا لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب. وفي حديث الاسراء: (ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا (.) (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي لا شي كما أن السراب كذلك: يظنه الرائي ماء وليس بماء. وقيل: سُيِّرَتِ نسفت من أصولها. وقيل: أزيلت عن مواضعها.

[سورة النبإ (78): الآيات 21 الى 30]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25)
جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
__________
(1). وفي الدر المنثور: حق الله والفقراء ... إلخ.

قوله تعالى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً): مفعال من الرصد والرصد: كل شي كان أمامك. قال الحسن: إن على النار رصدا، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجئ بجواز حبس. وعن سفيان رضي الله عنه قال: عليها ثلاث قناطر. وقيل مِرْصاداً ذات أرصاد على النسب، أي ترصد من يمر بها. وقال مقاتل: محبسا. وقيل: طريقا وممرا، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم. وفي الصحاح: والمرصاد: الطريق. وذكر القشيري: أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو، نحو المضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل. أي هي معدة لهم، فالمرصاد بمعنى المحل، فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماوردي عن أبي سنان «1» أنها بمعنى راصدة، تجازيهم بأفعالهم. وفي الصحاح: الراصد الشيء: الراقب له، تقول: رصده يرصده رصدا ورصدا، والترصد: الترقب. والمرصد: موضع الرصد. الأصمعي: رصدته أرصده: ترقبته، وأرصدته: أعددت له. والكسائي: مثله. قلت: فجهنم معدة مترصدة، متفعل من الرصد وهو الترقب، أي هي متطلعة لمن يأتي. والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار. (لِلطَّاغِينَ مَآباً) بدل من قوله: مِرْصاداً والمآب: المرجع، أي مرجعا يرجعون إليها، يقال: آب يئوب أوبة: إذا رجع. وقال قتادة: مأوى ومنزلا. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم. قوله تعالى: (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب. والحقب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور. والحقبة بالكسر: السنة، والجمع حقب، قال متمم بن نويرة التميمي:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
__________
(1). ا، ح، ل، و: (أبى سفيان).

والحقب بالضم والسكون: ثمانون سنة. وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية، [لابثين «1»] فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه، إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة، أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لان الحقب كان أبعد شي عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبدا. وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام، لان الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب، وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب، ولهذا قال: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً. لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً. ولابِثِينَ اسم فاعل من لبث، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان، كالشرب. وقرا حمزة والكسائي لابِثِينَ بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان، يقال: رجل لابث ولبث، مثل طمع وطامع، وفره وفارة. ويقال: هو لبث بمكان كذا: أي قد صار اللبث شأنه، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو حذر وفرق، لان باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب، وليس كذلك أسم الفاعل من لابث. والحقب: ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة، والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوما، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، قاله ابن عباس. وروي ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال أبو هريرة: والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضا: الحقب: أربعون سنة. السدي: سبعون سنة. وقيل: إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعا. بشير بن كعب: ثلاثمائة سنة. الحسن: الأحقاب لا يدري أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وعن أبي أمامة أيضا،
__________
(1). [لابثين [: ساقط من ا، ز، ل، ط.

عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إن الحقب الواحد ثلاثون ألف سنة [ذكره المهدوي. والأول الماوردي. وقال قطرب: هو الدهر الطويل غير المحدود. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا، الحقب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحدكم على أنه يخرج من النار [. ذكره الثعلبي. القرظي: الأحقاب: ثلاثة وأربعون، حقبا كل حقب سبعون خريفا، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة. قلت: هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإنما المعنى- والله أعلم- ما ذكرناه أولا، أي لابثين فيها أزمانا ودهورا، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع. وقال ابن كيسان: معنى لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً لا غاية لها انتهاء، فكأنه قال أبدا. وقال ابن زيد ومقاتل: إنها منسوخة بقوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً يعني أن العدد قد انقطع، والخلود قد حصل. قلت: وهذا بعيد، لأنه خبر، وقد قال تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] على ما تقدم «1». هذا في حق الكفار، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص. والله أعلم. وقيل: المعنى لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أي في الأرض، إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً لجهنم. وقيل: واحد الأحقاب حقب وحقبة، قال:
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها ... فأنت بما أحدثته بالمجرب
وقال الكميت: «2»
مر لها بعد حقبة حقب
__________
(1). راجع ج 7 ص (206)
(2). صدر البيت:
ولا حمول غدت ولا دمن

قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها أي في الأحقاب بَرْداً وَلا شَراباً البرد: النوم في قول أبي عبيدة وغيره، قال الشاعر»
:
ولو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي، وأنشدوا قول الكندي:
بردت مراشفها علي فصدني ... عنها وعن تقبيلها البرد
يعني النوم. والعرب تقول: منع البرد البرد، يعني: أذهب البرد النوم. قلت: وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم. فقال: [لا، النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها [فكذلك النار، وقد قال تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر: 36] وقال ابن عباس: البرد: برد الشراب. وعنه أيضا: البرد النوم: والشراب الماء. وقال الزجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل، ولا نوم. فجعل البرد برد كل شي له راحة، وهذا برد ينفعهم، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به، فلا ينفعهم، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به. وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بردا: أي روحا وراحة، قال الشاعر: «2»
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء أوقات «3» العشي تذوق
لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً جملة في موضع الحال من الطاغين، أو نعت للأحقاب، فالاحقاب ظرف زمان، والعامل فيه لابِثِينَ أو لابِثِينَ على تعدية فعل. (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه. والحميم: الماء الحار، قاله أبو عبيدة. وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، تجمع في حياض ثم يسقونه. قال النحاس: أصل الحميم: الماء الحار، ومنه اشتق الحمام، ومنه الحمى، ومنه وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ
__________
(1). هو العرجي: عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان. ونسب إلى العرج وهو موضع قبل الطائف كان ينزل به. والنقاخ كغراب: الماء الطيب.
(2). قائله حميد بن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة.
(3). كذا في الأصل. وفي كتب اللغة مادة (فيا) ولا الفيء من برد العشى ... إلخ.

: إنما يراد به النهاية في الحر. والغساق: صديد أهل النار وقيحهم. وقيل الزمهرير. وقرا حمزة والكسائي بتشديد السين، وقد مضى في" ص" «1» القول فيه. (جَزاءً وِفاقاً) أي موافقا لأعمالهم. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة. وجَزاءً نصب على المصدر، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، قاله الفراء والأخفش. وقال الفراء أيضا: هو جمع الوفق، والوفق واللفق واحد. وقال مقاتل. وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوءهم. إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ أي لا يخافون حِساباً أي محاسبة على أعمالهم. وقيل: معناه لا يرجون ثواب حساب. الزجاج: أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي بما جاءت به الأنبياء. وقيل: بما أنزلنا من الكتب. وقراءة العامة كِذَّاباً بتشديد الذال، وكسر الكاف، على كذب، أي كذبوا تكذيبا كبيرا. قال الفراء: هي لغة يمانية فسيحة، يقولون: كذبت [به «2»] كذابا، وخرقت القميص خراقا، وكل فعل في وزن (فعل) فمصدره فعال مشدد في لغتهم، وأنشد بعض الكلابيين:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ... وعن حوج قضاؤها من شفائتا
وقرا علي رضي الله عنه (كذابا) بالتخفيف وهو مصدر أيضا. وقال أبو علي: التخفيف والتشديد جميعا: مصدر المكاذبة، كقول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها «3» ... والمرء ينفعه كذابة
أبو الفتح: جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا. الزمخشري: (كذابا) بالتخفيف مصدر كذب، بدليل قوله:
فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابة
__________
(1). راجع ج 15 ص 221 فما بعدها. [.....]
(2). الزيادة من معاني القرآن للفراء.
(3). قال الشهاب: وضمير صدقتها وكذبتها للنفس. والمراد: أنه يصدق نفسه: تارة بأن يقول إن أمانيها محققة وتكذيبها بخلافه أو على العكس.

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)

وهو مثل قوله: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا. أو تنصبه ب- كَذَّبُوا لأنه بتضمن معنى كذبوا، لان كل مكذب بالحق كاذب، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مكاذبة. وقرا ابن عمر (كذابا) بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب، قاله أبو حاتم. ونصبه على الحال الزمخشري. وقد يكون الكذاب: بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك حسان وبخال، فيجعله صفة لمصدر كَذَّبُوا أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه. وفي الصحاح: وقوله تعالى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً وهو أحد مصادر المشدد، لان مصدره قد يجئ على (تفعيل) مثل التكليم وعلى (فعال) كذاب وعلى (تفعلة) مثل توصية، وعلى (مفعل)، وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) كُلَّ نصب بإضمار فعل يدل عليه أَحْصَيْناهُ أي وأحصينا كل شي أحصيناه. وقرا أبو السمال (وكل شيء) بالرفع على الابتداء. كِتاباً نصب على المصدر، لان معنى أحصينا: كتبنا، أي كتبناه كتابا. ثم قيل: أراد به العلم، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان. وقيل: أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة. وقيل: أراد ما كتب على العباد من أعمالهم. فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة، دليله قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: 11- 10]. (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قال أبو برزة: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشد آية في القرآن؟ فقال: قوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أي كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56] وكُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الاسراء: 97].

[سورة النبإ (78): الآيات 31 الى 36]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)

قوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله مَفازاً موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار. ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلا بالخلاص منها. (حَدائِقَ وَأَعْناباً) هذا تفسير الفوز. وقيل: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً إن للمتقين حدائق، جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه، يقال أحدق به: أي أحاط. والأعناب: جمع عنب، أي كروم أعناب، فحذف. (وَكَواعِبَ أَتْراباً) كواعب: جمع كاعب وهي الناهد، يقال: كعبت الجارية تكعب كعوبا، وكعبت تكعب تكعيبا، ونهدت تنهد نهودا. وقال الضحاك: ككواعب العذارى، ومنه قول قيس بن عاصم:
وكم من حصان قد حوينا كريمة ... ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر
والأتراب: الاقران في السن. وقد مضى في سورة" الواقعة" «1» الواحد: ترب. (وَكَأْساً دِهاقاً) قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس: مترعة مملوءة، يقال: أدهقت الكأس: أي ملأتها، وكأس دهاق أي ممتلئة، قال:
ألا فاسقني صرفا سقاني الساقي ... من مائها بكأسك الدهاق
وقال خداش بن زهير:
أتانا عامر يبغي قرانا ... فأترعنا له كأسا دهاقا
وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا: متتابعة، يتبع بعضها بعضا، ومنه ادهقت الحجارة ادهاقا، وهو شدة تلازبها ودخول بعضها في بعض، فالمتتابع كالمتداخل. وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم: صافية، قال الشاعر:
لانت إلى الفؤاد أحب قربا ... من الصادي إلى كأس دهاق
وهو جمع دهق «2»، وهو خشبتان [يغمز «3»] بهما [الساق ]. والمراد بالكأس الخمر، فالتقدير: خمرا ذات دهاق، أي عصرت وصفيت، قاله القشيري. وفي الصحاح: وأدهقت الماء: أي أفرغته
__________
(1). راجع ج 17 ص (211)
(2). في (اللسان: دهق): والدهق (بالتحريك): ضرب من العذاب. وهو بالفارسية: (إشكنجه). ودهقت الشيء: كسرته وقطعته. اه.
(3). التصحيح من كتب اللغة وفي الأصول: خشبتان يعصر بهما.

إفراغا شديدا: قال أبو عمرو: والدهق- بالتحريك: ضرب من العذاب. وهو بالفارسية إشكنجه. المبرد: والمدهوق: المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه. ابن الاعرابي: دهقت الشيء كسرته وقطعته، وكذلك دهدقته: وأنشد لحجر بن خالد:
ندهدق بضع اللحم للباع والندى ... وبعضهم تغلي بذم مناقعه «1»
ودهمقته بزيادة الميم: مثله. وقال الأصمعي: الدهمقة: لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شي لين، ومنه حديث عمر: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها [الأحقاف: 20]. لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة لَغْواً وَلا كِذَّاباً اللغو: الباطل، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح، ومنه الحديث: [إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والامام يخطب فقد لغوت [وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو، بخلاف أهل الدنيا. وَلا كِذَّاباً: تقدم، أي لا يكذب بعضهم بعضا، ولا يسمعون كذبا. وقرا الكسائي (كذابا) بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة. وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنما خففها ها هنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له، وشدد قوله: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً لان كذبوا يقيد المصدر بالكذاب. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ نصب على المصدر. لان المعنى جزاهم بما تقدم ذكره، جزاءه وكذلك عَطاءً لان معنى أعطاهم وجزاهم واحد. أي أعطاهم عطاء. حِساباً أي كثيرا، قاله قتادة، يقال: أحسبت فلانا: أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي. قال «2»:
ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع
__________
(1). يروى هكذا في اللسان مادة (دهق). وفي الأصول (مراجله). والمناقع: القدور الصغار واحدها: متقع ومنقعة.
(2). قائلته امرأة من بني قشير. ونقفيه: أي نؤثره بالقفية وهي ما يؤثر به الضيف والصبي.

رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

وقال القتبي: ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي. وقال الزجاج: حِساباً أي ما يكفيهم. وقاله الأخفش. يقال: أحسبني كذا: أي كفاني. وقال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا. مجاهد: حسابا لما عملوا، فالحساب بمعنى العد. أي بقدر ما وجب له في وعد الرب، فإنه وعد للحسنة عشرا، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار، كما قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10]. وقرا أبو هاشم (عطاء حسابا) بفتح الحاء، وتشديد السين، على وزن فعال أي كفافا، قال الأصمعي: تقول العرب: حسبت الرجل بالتشديد: إذا أكرمته، وأنشد قول الشاعر:
إذا أتاه ضيفه يحسبه

وقرا ابن عباس." حسانا" «1» بالنون.

[سورة النبإ (78): الآيات 37 الى 40]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
قوله تعالى: (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب، والمفضل عن عاصم: (رب) بالرفع على الاستئناف، (الرحمن) خبره. أو بمعنى: هو رب السموات، ويكون (الرحمن) مبتدأ ثانيا. وقرا ابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض، نعتا لقوله: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ أي جزاء من ربك رب السموات الرحمن. وقرا ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي: رَبِّ السَّماواتِ
__________
(1). هكذا رسم الشوكاني الكلمة في تفسيره فتح القدير (258/ 5) ولم يضبطها.

خفضا على النعت، (الرحمن) «1» رفعا على الابتداء، أي هو الرحمن. واختاره أبو عبيد وقال: هذا أعدلها، خفض رَبِّ لقربه من قوله: مِنْ رَبِّكَ فيكون نعتا له، ورفع (الرحمن) لبعده منه، على الاستئناف، وخبره لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه. وقال الكسائي: لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً بالشفاعة إلا بإذنه. وقيل: الخطاب: الكلام، أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه، دليله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: 105]. وقيل: أراد الكفار لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً، فأما المؤمنون فيشفعون. قلت: بعد أن يؤذن لهم، لقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109]. قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) يَوْمَ نصب على الظرف، أي يوم لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح. واختلف في الروح على أقوال ثمانية: الأول- أنه ملك من الملائكة. قال ابن عباس: ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم. ونحو منه عن ابن مسعود، قال: الروح ملك أعظم من السموات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال. وهو حيال السماء الرابعة «2»، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا، فيجيء يوم القيامة وحده صفا، وسائر الملائكة صفا. الثاني- أنه جبريل عليه السلام. قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس: إن عن يمين العرش نهرا من نور، مثل السموات السبع، والأرضين السبع، والبحار السبع، يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل، فيزداد نورا على نوره، وجمالا على جماله، وعظما على عظمه، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة
__________
(1). هذه القراءة ذكرها القرطبي وابن عطية ولم يذكرا قراءة عاصم بالجر فيهما وهي رواية حفص وقد ذكرها أبو حيان والآلوسي فتكون القراءات عن عاصم على هذا ثلاثا رفع فيهما وجر فيهما وجر (رَبِّ) ورفع (الرحمن).
(2). في نسخة: السماء السابعة.

تقع من ريشه سبعين ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور، والكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة. وقال وهب: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تعالى ترعد فرائصه، يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا أنت، وهو قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الكلام وَقالَ صَواباً يعني قول: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ. والثالث- روى ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [الروح في هذه الآية جند من جنود الله تعالى، ليسوا ملائكة، لهم رءوس وأيد وأرجل، يأكلون الطعام [. ثم قرأ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا فإن هؤلاء جند، وهؤلاء جند. وهذا قول أبي صالح ومجاهد. وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم، كالناس وليسوا بناس. الرابع- أنهم أشراف الملائكة، قاله مقاتل بن حيان. الخامس- أنهم حفظة على الملائكة، قاله ابن أبي نجيح. السادس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة. فالمعنى ذوو الروح. وقال العوفي والقرظي: هذا مما كان يكتمه ابن عباس، قال: الروح: خلق من خلق الله على صور بني آدم، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح. السابع: أرواح بني آدم تقوم صفا، فتقوم الملائكة صفا، وذلك بين النفختين، قبل أن ترد إلى الأجساد، قاله عطية. الثامن- أنه القرآن، قاله زيد ابن أسلم، وقرا وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. وصَفًّا: مصدر أي يقومون صفوفا. والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع، كالعدل والصوم. ويقال ليوم العيد: يوم الصف. وقال في موضع آخر: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] هذا يدل على الصفوف، وهذا حين العرض والحساب. قال معناه القتبي وغيره. وقيل: يقوم الروح صفا، والملائكة صفا، فهم صفان. وقيل: يقوم الكل صفا واحدا. لا يَتَكَلَّمُونَ أي لا يشفعون إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الشفاعة وَقالَ صَواباً يعني حقا، قاله الضحاك ومجاهد. وقال أبو صالح: لا إله إلا الله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يشفعون لمن قال لا إله إلا الله.

واصل الصواب. السداد من القول والفعل، وهو من أصاب يصيب إصابة، كالجواب من أجاب يجيب إجابة. وقيل: لا يَتَكَلَّمُونَ يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا، لا يتكلمون هيبة وإجلالا إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه. وقال الحسن: إن الروح يقول يوم القيامة: لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة، ولا النار إلا بالعمل. وهو معنى قوله تعالى: وَقالَ صَواباً. قوله تعالى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الكائن الواقع فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي مرجعا بالعمل الصالح، كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله عز وجل، وإذا عمل شرا عده منه. وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: [والخير كله بيديك، والشر ليس إليك [. وقال قتادة: مَآباً: سبيلا. قوله تعالى:ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً)
: يخاطب كفار قريش ومشركي العرب، لأنهم قالوا: لا نبعث. والعذاب عذاب الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، وقد قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات: 46] قال معناه الكلبي وغيره. وقال قتادة: عقوبة الدنيا، لأنها أقرب العذابين. قال مقاتل: هي قتل قريش ببدر. والأظهر أنه عذاب الآخرة، وهو الموت والقيامة، لان من مات فقد قامت قيامته، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان، ولهذا قال تعالى:وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
[بين وقت ذلك العذاب، أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، أي يراه «1»] وقيل: ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى. والمرء ها هنا المؤمن في قول الحسن، أي يجد لنفسه عملا، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا، فيتمنى أن يكون ترابا. ولما قال:- يَقُولُ الْكافِرُ
علم أنه أراد بالمرء المؤمن. وقيل: المرء ها هنا: أبي خلف وعقبة بن أبي معيط.َ- يَقُولُ الْكافِرُ)
أبو جهل. وقيل: هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب. وقال مقاتل: نزلت قوله
:وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي:- يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
__________
(1). ما بين القوسين: ساقط من ز، ط، ل.

: في أخيه الأسود بن عبد الأسد. وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر: ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب، وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة، والرحمة، وراي ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه يكون بمكان آدم، فقُولُ:
الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
قال: ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر. وقيل: أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم. وعن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحوش، ثم يوضع القصاص بين البهائم، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها: كوني ترابا، فعند ذلك قُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
. ونحوه عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. وقد ذكرناه في كتاب" التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة"، مجودا والحمد لله. ذكر أبو جعفر النحاس: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال حدثنا سلمة بن شبيب، قال حدثنا عبد الرازق، قال حدثنا معمر، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا، فعند ذلك قُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
. وقال قوم:الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
: أي لم أبعث، كما قال: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وقال أبو الزناد: إذا قضي بين الناس، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، واهل النار إلى النار، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن: عودوا ترابا، فيعودون ترابا، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
. وقال ليث بن أبي سليم: مؤمنو الجن يعودون ترابا. وقال عمر بن عبد العزيز والزهري والكلبي ومجاهد: مؤمنو الجنة حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها. وهذا أصح، وقد مضى في سورة" الرحمن" «1» بيان هذا، وأنهم مكلفون: يثابون ويعاقبون، فهم كبني آدم، والله أعلم بالصواب.
__________
(1). راجع ج 17 ص 169

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

[تفسير سورة النازعات ]
سورة النازعات مكية بإجماع. وهي خمس أو ست وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النازعات (79): الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قوله تعالى (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً): أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها، على أن القيامة حق. والنَّازِعاتِ: الملائكة التي تنزع أرواح الكفار، قاله علي رضي الله عنه، وكذا قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد: هي الملائكة تنزع نفوس بين آدم. قال ابن مسعود: يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعا كالسفود ينزع من الصوف الرطب، يغرقها، أي يرجعها في أجسادهم، ثم ينزعها فهذا عمله بالكفار. وقاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم، ثم غرقت، ثم حرقت، ثم قذف بها في النار. وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرق. وقال السدي: والنَّازِعاتِ هي النفوس حين تغرق في الصدور. مجاهد: هي الموت ينزع النفوس. الحسن وقتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، أي تذهب، من قولهم: نزع إليه أي ذهب، أو من قولهم: نزعت الخيل أي جرت. غَرْقاً

أي إنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر. وقاله أبو عبيدة وابن كيسان والأخفش. وقيل: النازعات القسي تنزع بالسهام، قاله عطاء وعكرمة. وغَرْقاً بمعنى إغراقا، وإغراق النازع في القوس أن يبلغ غاية المد، حتى ينتهي إلى النصل. يقال: أغرق في القوس أي استوفى مدها، وذلك بأن تنتهي إلى العقب الذي عند النصل الملفوف عليه. والاستغراق الاستيعاب. ويقال لقشرة البيضة الداخلة:" غرقئ". وقيل: هم الغزاة الرماة. قلت: هو والذي قبله سواء، لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد النازعون بها تعظيما لها، وهو مثل قوله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً [العاديات: 1] والله أعلم. وأراد بالاغراق: المبالغة في النزع وهو سائر في جميع وجوه تأويلها. وقيل: هي الوحش تنزع «1» من الكلا وتنفر. حكاه يحيى ابن سلام. ومعنى غَرْقاً أي إبعادا في النزع. قوله تعالى: (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) قال ابن عباس: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير: إذا حل عنه. وحكى هذا القول الفراء ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا أنشطت وكأنما أنشط من عقال. وربطها نشطها والرابط الناشط، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته، فأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط. وعن ابن عباس أيضا: هي أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج، وذلك أنه ما من مؤمن [يحضره الموت «2»] إلا وتعرض عليه الجنة قبل أن يموت، فيرى فيها ما أعد الله له من أزواجه واهلة من الحور العين، فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نشطه أن تخرج فتأتيهم. وعنه أيضا قال: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب، الذي يعقب به السهم. والعقب بالتحريك: العصب الذي تعمل منه الأوتار، الواحدة عقبة، تقول منه: عقب السهم والقدح والقوس عقبا: إذا لوى شيئا منه عليه. والنشط: الجذب بسرعة، ومنه الأنشوطة: عقدة يسهل انحلالها إذا جذبت مثل عقدة التكة. وقال أبو زيد: نشطت
__________
(1). في نسخ الأصل: تنزع من الكلا. وفي البحر: تنزع إلى ... إلخ.
(2). الزيادة من تفسير الثعلبي. [.....]

الحبل أنشطه نشطا: عقدته بأنشوطة، وأنشطته أي حللته، وأنشطت الحبل أي مددته حتى ينحل. وقال الفراء: أنشط العقال أي حل، ونشط: أي ربط الحبل في يديه. وقال الليث: أنشطته بأنشوطة وأنشوطتين أي أوثقته، وأنشطت العقال: أي مددت أنشوطته فانحلت. قال: ويقال نشط بمعنى أنشط، لغتان بمعنى، وعليه يصح قول ابن عباس المذكور أولا. وعنه أيضا: الناشطات الملائكة لنشاطها، تذهب وتجيء بأمر الله حيثما كان. وعنه أيضا وعن علي رضي الله عنهما: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار، ما بين الجلد والاظفار، حتى تخرجها من أجوافهم نشطا بالكرب والغم، كما تنشط الصوف من سفود الحديد، وهي من النشط بمعنى الجذب، يقال: نشطت الدلو أنشطها بالكسر، وأنشطها بالضم: أي نزعتها. قال الأصمعي: بئر أنشاط: أي قريبة القعر، تخرج الدلو منها بجذبة واحدة. وبئر نشوط، قال: وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى تنشط كثيرا. وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان. السدي: هي النفوس حين تنشط من القدمين. وقيل: النازعات: أيدي الغزاة أو أنفسهم، تنزع القسي بإغراق السهام، وهي التي تنشط الأوهاق «1». عكرمة وعطاء: هي الأوهاق تنشط السهام. وعن عطاء أيضا وقتادة والحسن والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق: أي تذهب. وكذا في الصحاح. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً يمني النجوم من برج إلى برج، كالثور الناشط من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها، قال هميان بن قحافة:
أمست همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا
أبو عبيدة وعطاء أيضا: الناشطات: هي الوحش حين تنشط من بلد إلى بلد، كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد، وأنشد قول هميان:
أمست همومي ...

البيت وقيل: وَالنَّازِعاتِ للكافرين وَالنَّاشِطاتِ للمؤمنين، فالملائكة يجذبون روح المؤمن برفق، والنزع جذب بشدة، والنشط جذب برفق. وقيل: هما جميعا للكفار والآيتان بعدهما للمؤمنين عند فراق الدنيا.
__________
(1). جمع وهق بحركتين وقد يسكن: الحبل تشد به الإبل والخيل لئلا تند ويقال في طرفه أنشوطة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام لمحمد رشيد رضا

  حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح  المحمدي العام لمحمد رشيد رضا تعليق: محمد ناصر الدين الألباني  ( صحيح ) عن عائشة رضي الله ...