كتاب صفة الجنة للحافظ ضياء المقدسي

كتاب صفة الجنة -الحافظ ضياء الدين-أأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي

Translate

الأحد، 22 يناير 2023

تفسير سورة مريم من 12 الي25.

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

============= 

مريم - تفسير ابن كثير

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) } .

وهذا أيضا تضمن (1) محذوفًا، تقديره: أنه وجد هذا الغلام المبشر به، وهو يحيى، عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار. وقد كان سنه إذ ذاك صغيرًا، فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال: { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } أي: تعلم الكتاب { بِقُوَّةٍ } أي: بجد وحرص واجتهاد { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي : الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث [السن] (2) .

قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب. قال: ما للعب خلقت (3) ، قال: فلهذا أنزل الله: { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } .

وقوله: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } يقول: ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك وزاد: لا يقدر عليها غيرنا. وزاد قتادة: رُحِم بها زكريا.

وقال مجاهد: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } وتعطفًا من ربه عليه.

وقال عكرمة: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } [قال: محبة عليه. وقال ابن زيد: أما الحنان فالمحبة. وقال عطاء بن أبي رباح: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ] (4) ، قال: تعظيمًا من لدنا (5) .

__________

(1) في أ: "يضمن".

(2) زيادة من أ.

(3) في ف، أ: "خلقنا".

(4) زيادة من ف، أ.

(5) في أ: "الدنيا"./(5/216)

وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال: لا والله ما أدري (1) ما حنانًا.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور: سألت سعيد بن جبير عن قوله: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ، فقال: سألت عنها عباس، فلم يحر (2) فيها شيئًا.

والظاهر من هذا السياق أن: { وَحَنَانًا [مِنْ لَدُنَّا] } (3) معطوف على قوله: { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي: وآتيناه الحكم وحنانا، { وَزَكَاةً } أي: وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب: حنّت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها. ومنه سميت المرأة "حَنَّة" من الحَنَّة، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر (4)

تَحنَّنْ (5) عَلَي هَدَاكَ المليكُ ... فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا ...

وفي المسند للإمام أحمد، عن أنس، رضي الله عنه، أن (6) رسول الله صلى الله عليه قال: "يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان" (7)

وقد يُثنَّي (8) ومنهم من يجعل ما ورد من (9) ذلك لغة بذاتها، كما قال طرفة:

أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا ... حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض (10)

وقوله: { وَزَكَاةً } معطوف على { وَحَنَانًا } فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب.

وقال قتادة: الزكاة (11) العمل الصالح.

وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي.

وقال العوفي عن ابن عباس: { وَزَكَاةً } [قال: بركة] (12) { وَكَانَ تَقِيًّا } طهر، فلم يعمل بذنب.

وقوله: { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته (13) عقوقهما، قولا وفعلا [وأمرًا] (14) ونهيًا؛ ولهذا قال: { وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: { وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } أي: له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.

وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد، فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه، { وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا }

__________

(1) في ت، أ: "لا أدري".

(2) في ف، أ: "يخبر".

(3) زيادة من ف، أ.

(4) هو الحطيئة، والبيت في اللسان، مادة "حنن".

(5) في ف: "تعطف"

(6) في ت، ف، أ: "عن".

(7) المسند (3/230).

(8) في أ: "يعني".

(9) في أ: "في".

(10) البيت في ديوانه (ص208) أ. هـ مستفادا من حاشية ط - الشعب.

(11) في ت: "والزكاة".

(12) زيادة من ف، أ.

(13) في ف: ""ومجانبة".

(14) زيادة من أ.

(5/217)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)

رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: { جَبَّارًا عَصِيًّا } ، قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب، إلا يحيى بن زكريا". قال قتادة: ما أذنب ولا همّ بامرأة، مرسل (1)

وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (2) : "كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا" (3) ابن إسحاق هذا مدلس، وقد عنعن هذا الحديث، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ، أو همَّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" (4)

وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة، والله أعلم.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة: أن حسن قال: إن يحيى وعيسى، عليهما السلام، التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي فأنت (5) خير مني. فقال له عيسى: أنت خير مني، سَلَّمتُ على نفسي، وسلم الله عليك، فَعرُف والله فضلهما.

{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) } .

لما ذكر تعالى قصة زكريا، عليه السلام، وأنه أوجد منه، في حال كبره وعقم زوجته، ولدًا زكيًّا طاهرًا مباركًا -عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى، عليهما (6) السلام، منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة (7) ؛ ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا وفي سورة الأنبياء، يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء

__________

(1) تفسير عبد الرزاق (2/7).

(2) في ت: "أنه قال".

(3) رواه الطبري في تفسيره (16/44) والحاكم في المستدرك (2/373) من طريق محمد بن إسحاق به، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووفقه الذهبي، ورجح أبو حاتم وقفه، وقال لابنه: "لا يرفعون هذا الحديث".

(4) المسند (1/254).

(5) في أ: "أنت".

(6) في ف، أ: "عليه".

(7) في أ: "ومتشابهة".

(5/218)

قادر (1) ، فقال: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } وهي مريم بنت عمران، من سلالة داود، عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمّها لها في "آل عمران"، وأنها نذرتها محررة، أي: تخدم (2) مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك، { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [آل عمران: 37] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت (3) إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة (4) والتبتل والدءوب، وكانت في كفالة زوج أختها -وقيل: خالتها-زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم، الذي يرجعون إليه في دينهم. ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] فذكر أنه كان يجد عندها ثمر (5) الشتاء في الصيف وثمر (6) الصيف في الشتاء، كما تقدم بيانه في "آل عمران". فلما أراد الله تعالى -وله الحكمة والحجة البالغة-أن يُوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، { انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } أي: اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس.

قال السدي: لحيض أصابها. وقيل لغير ذلك. قال أبو كُدَيْنَة، عن قابوس بن أبي ظِبْيان، عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: { انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } قال: خرجت مريم مكانًا شرقيًّا، فصلوا قبل مطلع الشمس. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.

وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة؛ لقول الله تعالى (7) { انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } واتخذوا (8) ميلاد عيسى قبلة (9)

وقال قتادة: { مَكَانًا شَرْقِيًّا } شاسعًا متنحيًّا.

وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها تستقي [من] (10) الماء.

وقال نَوْف البِكَالي: اتخذت لها منزلا تتعبد فيه. فالله (11) أعلم.

وقوله: { فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا } أي: استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } أي: على صورة إنسان تام كامل.

قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن جُرَيْج (12) ووهب بن مُنَبِّه، والسُّدِّي، في قوله: { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } يعني: جبريل، عليه السلام.

__________

(1) في ت، أ: "قدير".

(2) في أ: "لخدمة".

(3) في ت: "وكانت".

(4) في ت: "والعظمة".

(5) في أ: "ثمرة".

(6) في أ: "ثمرة".

(7) في ت: "لقول الله عز وجل"، وفي ف: "لقوله".

(8) في أ: "فاتخذوا".

(9) تفسير الطبري (16/45).

(10) زيادة من ت، ف، أ.

(11) في ت: "والله".

(12) في ت: "وابن جرير".

(5/219)

وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى: { نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ].

وقال أبو جعفر الرازي (1) ، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى، عليه السلام، من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم، وهو الذي تمثل لها بشرا سويًّا، أي: روح عيسى، فحملت الذي خاطبها وحل في فيها.

وهذا في غاية الغرابة والنكارة، وكأنه إسرائيلي.

{ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي: لما تَبَدى لها الملك في صورة بشر، وهي (2) في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت: { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي: إن كنت تخاف الله. تذكير (3) له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولا بالله، عز وجل.

قال ابن جرير: حدثني أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر، عن عاصم قال: قال أبو وائل -وذكر قصة مريم-فقال: قد علمت أن التقي ذو نُهْيَة حين قالت: { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ } أي: فقال لها الملك مجيبًا لها ومزيلا ما (4) حصل عندها من الخوف على نفسها: لست مما تظنين، ولكني رسول ربك، أي: بعثني إليك، ويقال: إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا (5) وعاد إلى هيئته وقال: "إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلامًا زكيا".

[هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء. وقرأ الآخرون: { لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا } ] (6) وكلا القراءتين له وجه حسن، ومعنى صحيح، وكل تستلزم (7) الأخرى.

{ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا } أي: فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام؟ أي: على أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور؛ ولهذا قالت: { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } والبغي: هي الزانية؛ ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي.

{ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي: فقال لها الملك مجيبًا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلامًا، وإن لم يكن لك بعل ولا توجد (8) منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر (9) ؛ ولهذا قال: { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي: دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم، الذي نوع (10) في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.

وقوله: { وَرَحْمَةً مِنَّا } أي ونجعل (11) هذا الغلام رحمة من الله نبيًّا من الأنبياء يدعو إلى عبادة

__________

(1) في أ: "وقال أبو جعفر الرازي عن أبيه".

(2) في ت، ف، أ: "وهو".

(3) في أ: "تذكر".

(4) في أ: "لما".

(5) في ف، أ: "فزعا".

(6) زيادة من ف، أ.

(7) في أ: "يستلزم".

(8) في ت، ف، أ: "ولا يوجد".

(9) في أ: "قدير".

(10) في ت، ف، أ: "تنوع".

(11) في ت، ف، أ: "ويجعل".

(5/220)

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)

الله تعالى وتوحيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى: { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي: يدعو إلى عبادة الله ربه في مهده (1) وكهولته.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم -دُحَيْم-حدثنا مروان، حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي، عن مجاهد قال: قالت مريم، عليها السلام: كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.

وقوله: { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها، كما قال تعالى: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] وقال { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ]

قال محمد بن إسحاق: { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } أي: أن الله قد عزم على هذا، فليس منه بد، واختار هذا أيضًا ابن جرير في تفسيره، ولم يحك غيره، والله أعلم.

{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) }

يقول تعالى مخبرًا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال، أنها استسلمت لقضاء الله تعالى (2) فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك -وهو جبريل عليه السلام-عند ذلك نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى. فلما حملت به ضاقت ذرعًا به (3) ولم تدر ماذا تقول (4) للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا. وذلك أن زكريا عليه السلام، كان قد سأل الله الولد، فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته، فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها، وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضًا أني حبلى؟ وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت (5) مريم تجد الذي في جوفها (6) يسجد للذي في بطن مريم، أي: يعظمه ويخضع له، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعًا، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد (7) لآدم، عليه السلام، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين قال: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قال مالك رحمه الله: بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن

__________

(1) في ت، أ: "المهد".

(2) في ت: "الله عز وجل".

(3) في أ: "بهما".

(4) في ت: "يقول".

(5) في أ: "وجهت".

(6) في ف: "بطنها".

(7) في ف، أ: "يسجدوا".

(5/221)

زكريا ابنا خالة، وكان حملهما جميعا معا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام؛ لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص.

ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. وقال عكرمة: ثمانية أشهر -قال: ولهذا لا يعيش ولد لثمانية أشهر.

وقال ابن جُرَيْج: أخبرني المغيرة بن عثمان (1) بن عبد الله الثقفي، سمع ابن عباس وسئل عن حَبَل مريم، قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت (2) .

وهذا غريب، وكأنه أخذه من ظاهر قوله تعالى: { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } فالفاء وإن كانت للتعقيب، ولكن تعقيب (3) كل شيء بحسبه، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } [ المؤمنون : 12 -14 ] فهذه الفاء للتعقيب بحسبها. وقد ثبت في الصحيحين: أن بين كل صفتين أربعين يومًا (4) وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] فالمشهور الظاهر -والله على كل شيء قدير-أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن؛ ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس، يقال له: يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما (5) يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمّل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول، فقال: يا مريم، إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليّ. قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر (6) من غير حبّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم -فهمت (7) ما أشار إليه-أما قولك: "هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر؟" فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب، ولا بذر "وهل خلق يكون من غير أب؟" (8) فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها، وسلَّم لها حالها.

ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة، انتبذت منهم مكانًا قصيًّا، أي: قاصيًا منهم بعيدًا عنهم؛ لئلا تراهم ولا يروها.

قال محمد بن إسحاق: فلما حملت به وملأت قلتها (9) ورجعت، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والترحم وتغير اللون، حتى فَطَرَ لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا: "إنما صاحبها يوسف"، ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس، واتخذت من دونهم حجابًا، فلا (10) يراها أحد ولا

__________

(1) في أ: "بن عتبة".

(2) في ت، أ: "وضعت".

(3) في أ: "تعقب".

(4) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وسيأتي عند تفسير الآية: 5 من سورة الحج.

(5) في ف: "لما".

(6) في ف: "شجر قط".

(7) في أ: "وفهمت".

(8) في أ: "وهل يكون ولد من غير أب".

(9) في أ: "قلبها".

(10) في ف، أ: "فلم".

(5/222)

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

تراه.

وقوله: { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } [أي: فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة] (1) وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه.

وقد اختلفوا فيه، فقال السدي: كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس.

وقال وهب بن مُنَبِّه: ذهبت هاربة، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر، ضربها الطلق. وفي رواية عن وهب: كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس، في قرية هناك يقال لها: "بيت لحم".

قلت: وقد تقدم في حديث (2) الإسراء، من رواية النسائي عن أنس، رضي الله عنه، والبيهقي عن شدَّاد بن أوس، رضي الله عنه: أن ذلك ببيت لحم، فالله أعلم، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم، وقد تلقاه الناس. وقد ورد به الحديث إن صح.

وقوله تعالى إخبارًا عنها: { قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } أي قبل هذا الحال، { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي لم أخلق ولم أك شيئًا. قاله ابن عباس.

وقال السدي: قالت وهي تطلق من الحبل -استحياء من الناس: يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } نُسِيَ فتُرِك طلبه، كخِرَق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر. وكذلك كل شيء نُسِيَ وترك فهو نَسِيّ.

وقال قتادة: { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي: شيئًا لا يعرف، ولا يذكر، ولا يدرى من أنا.

وقال الربيع بن أنس: { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } وهو (3) السقط.

وقال ابن زيد: لم أكن شيئًا قط.

وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة، عند قوله: { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ]

{ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) }

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في ت، ف: "أحاديث"

(3) في ف، أ: "أي".

=============

 

مريم - تفسير القرطبي

[12] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}

[13] {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً}

[14] {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً}

[15] {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً}

قوله تعالى: {كهيعص} تقدم الكلام في أوائل السور. وقال ابن عباس في {كهيعص} : أن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، ذكره ابن عزيز القشيري عن ابن عباس؛ معناه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم بهم، صادق في وعده؛ ذكره الثعلبي عن الكلبي السدي ومجاهد والضحاك. وقال الكلبي أيضا: الكاف من كريم وكبير وكاف، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق؛ والمعنى واحد. وعن ابن عباس أيضا: هو اسم من أسماء الله تعالى؛ وعن علي رضي الله عنه هو اسم الله عز وجل وكان يقول: يا كهيعص اغفر لي؛ ذكره الغزنوي. السدي: هو اسم الله الأعظم الذي سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. وقتادة: هو اسم من أسماء القرآن؛ ذكره عبد الرزاق. عن معمر عنه. وقيل: هو اسم للسورة؛ وهو اختيار القشيري في أوائل الحروف؛ وعلى هذا قيل: تمام الكلام عند قوله: {كهيعص} كأنه إعلام باسم السورة، كما تقول: كتاب كذا أو باب كذا ثم تشرع في المقصود. وقرأ ابن جعفر هذه الحروف متقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وابن عامر وحمزة بالعكس، وأمالهما جميعا الكسائي وأبو بكر وخلف. وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة نافع وغيره. وفتحهما الباقون. وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكى غيره أنه كان يضم ها، وحكى إسماعيل بن إسحاق أنه كان يضم يا. قال أبو حاتم: ولا يجوز ضم الكاف والهاء والياء؛ قال النحاس: قراءة أهل المدينة

(11/74)

من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في هاويا. وأما قراءة الحسن فأشكلت على جماعة حتى قالوا: لا تجوز؛ منهم أبو حاتم. والقول فيها ما بينه هارون القارئ؛ قال: كان الحسن يشم الرفع؛ فمعنى هذا أنه كان يومئ؛ كما سيبويه أن من العرب من يقول: الصلاة والزكاة يومئ إلى الواو، ولهذا كتبها في المصحف بالواو. وأظهر الدال من هجاء "ص" نافع وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد؛ وأدغمها الباقون.

قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عبد هُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً}

قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} في رفع "ذكر" ثلاثة أقوال؛ قال الفراء: هو مرفوع بـ "كهيعص"؛ قال الزجاج: هذا محال؛ لأن "كهيعص" ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا، وقد خبر الله تعالى عنه وعن ما بشر به، وليس "كهيعص" من قصته. وقال الأخفش: التقدير؛ فيما يقص عليكم ذكر رحمة ربك. والقول الثالث: أن المعنى هذا الذي يتلوه عليكم ذكر رحمة ربك. وقيل: "ذكر رحمة ربك" رفع بإضمار مبتدأ؛ أي هذا ذكر رحمة ربك؛ وقرأ الحسن {ذكر رحمة ربك} أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرئ {ذكر} على الأمر. "ورحمة" تكتب ويوقف عليها بالهاء، وكذلك كل ما كان مثلها، لا اختلاف فيها بين النحويين واعتلوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء فرقا بينها وبين الأفعال.

الثانية ـ {عبده} قال الأخفش: هو منصوب بـ "رحمة". "زكريا" بدل منه، كما تقول: هذا ذكر ضرب زيد عمرا؛ فعمرا منصوب بالضرب، كما أن "عبد ه" منصوب بالرحمة. وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ معناه: ذكر ربك عبد ه زكريا برحمة؛ فـ "عبد ه" منصوب بالذكر؛ ذكره الزجاج والفراء. وقرأ بعضهم {عبد ه زكريا} بالرفع؛ وهي قراءة أبي العالية. وقرأ يحيى بن يعمر "ذكر" بالنصب على معنى هذا القرآن ذكر رحمة عبد ه زكريا. وتقدمت اللغات والقراءة في {زكريا} في "آل عمران".

(11/75)

الثالثة ـ قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} مثل قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقد تقدم. والنداء الدعاء والرغبة؛ أي ناجى ربه بذلك في محرابه. دليله قوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} فبين أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة. واختلف في إخفائه هذا النداء؛ فقيل: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن؛ ولأنه أمر دنيوي، فإن أجيب فيه نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد. وقيل: مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى. وقيل: لما كانت الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه. وقيل: "خفيا" سرا من قومه في جوف الليل؛ والكل محتمل والأول أظهر؛ والله أعلم. وقد تقدم أن المستحب من الدعاء الإخفاء في سورة "الأعراف" وهذه الآية نص في ذلك؛ لأنه سبحانه أثنى بذلك على زكريا. وروى إسماعيل قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي" وهذا عام. قال يونس بن عبيد: كان الحسن يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت، وتلا يونس {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} . قال ابن العربي: وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي، والجهر به أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرا.

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} فيه مسألتان:

الأولى ـ قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ} قرئ "وهن" بالحركات الثلاث أي ضعف. يقال: وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن. وقال أبو زيد يقال: وهن يهن ووهن يوهن. وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته؛ ولأنه أشد ما فيه وأصلبه؛ فإذا وهن كان ما وراءه أوهن

(11/76)

منه. ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها.

الثانية ـ قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أدغم السين في الشين أبو عمرو. وهذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب. والاشتعال انتشار شعاع النار؛ شبه به انتشار الشيب في الرأس؛ يقول: شخت وضعفت؛ وأضاف الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا عليه السلام. "وشيبا" في نصبه وجهان: أحدهما: أنه مصدر لأن معنى اشتعل شاب؛ وهذا قول الأخفش. وقال الزجاج: وهو منصوب على التمييز. النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل فالمصدر أولى به. والشيب مخالطة الشعر الأبيض الأسود.

الثالثة ـ قال العلماء: يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع؛ لأن قوله تعالى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} إظهار للخضوع. وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته؛ أي لم أكن بدعائي إياك شقيا؛ أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك؛ أي إنك عودتني الإجابة فيما مضى. يقال: شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إليه في وقت كذا؛ فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا؛ وقضى حاجته.

قوله تعالى: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} فيه سبع مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ويحيى بن يعمر {خفت} بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من "الموالي" لأنه في رفع "بخفت" ومعناه انقطعت بالموت. وقرأ الباقون "خفت" بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من "الموالي" لأنه

(11/77)

في موضع نصب بـ "خفت" و"الموالي" هنا الأقارب بنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب. والعرب تسمي بني العم الموالي. قال الشاعر:

مهلا بني عمنا مهلا موالينا

...

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد. وقالت طائفة: إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده؛ حكى هذا القول الزجاج، وعليه فلم يسل من يرث ماله؛ لأن الأنبياء لا تورث. وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" وفي كتاب أبي داود: "إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم". وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله: {يَرِثُنِي} .

الثانية ـ هذا الحديث يدخل في التفسير المسند؛ لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} وعبارة عن قول زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده؛ وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب؛ هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض، وإلا ما روي عن الحسن أنه قال: {يَرِثُنِي} مالا {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} النبوة والحكمة؛ وكل قول يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدفوع مهجور؛ قال أبو عمر. قال ابن عطية: والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال؛ ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنا معشر الأنبياء لا نورث" ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم؛ فتأمله. والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة. ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بلغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره: قوله {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يريد العلم والنبوة.

(11/78)

الثالثة ـ قوله تعالى: {مِنْ وَرَائي} قرأ ابن كثير بالمد والهمز وفتح الياء. وعنه أنه قرأ أيضا مقصورا مفتوح الياء مثل عصاي. الباقون بالهمز والمد وسكون الياء. والقراء على قراءة {خفت} مثل نمت إلا ما ذكرنا عن عثمان. وهي قراءة شاذة بعيدة جدا؛ حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز. قال كيف يقول: خفت الموالي من بعدي أي من بعد موتي وهو حي؟ !. النحاس: والتأويل لها ألا يعني بقوله: {مِنْ وَرَائي} أي من بعد موتى، ولكن من ورائي في ذلك الوقت؛ وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفوا في ذلك الوقت وقلوا، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}. ابن عطية: {مِنْ وَرَائي} من بعدي في الزمن، فهو الوراء على ما تقدم في "الكهف".

الرابعة ـ قوله تعالى: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا؛ قاله الطبري. وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في "آل عمران" بيانه. وقال القتبي: امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام: "فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى" شاهدا للقول الأول. والله أعلم. والعاقر التي لا تلد لكبر سنها؛ وقد مضى بيانه في "آل عمران". والعاقر من النساء أيضا التي لا تلد من غير كبر. ومنه قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} وكذلك العاقر من الرجال؛ ومنه قول عامر بن الطفيل:

لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا

...

جبانا فما عذري لدى كل محضر

الخامس ـ قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} سؤال ودعاء. ولم يصرح بولد لما علم من حال وبعده عنه بسبب المرأة. قال قتادة: جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة. مقاتل: خمس وتسعين سنة؛ وهو أشبه؛ فقد كان غلب على ظنه انه لا يولد له لكبره؛ ولذلك قال: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً}. وقالت طائفة: بل طلب الولد،

(11/79)

ثم طلب أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد ولكن يحترم، ولا يتحصل منه الغرض.

قال العلماء: دعاء زكريا عليه السلام في الولد إنما كان لإظهار دينه، وإحياء نبوته، ومضاعفة لأجره لا للدنيا، وكان ربه قد عوده الإجابة، ولذلك قال: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} ، أي بدعائي إياك. وهذه وسيلة حسنة؛ أن يتشفع إليه بنعمه، يستدر فضله بفضله؛ يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله؛ فقال له حاتم: من أنت؟ قال: أنا الذي أحسنت إليه عام أول؛ فقال: مرحبا بمن تشفع إلينا بنا. فإن قيل كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن؟ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الأنبياء وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى؛ فإنه تعالى قال: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته؛ فقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}

إن قال قائل: هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك؛ فقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } . قال: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدم في "آل عمران" بيانه. ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وقال: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } . والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس خادمه فقال: "اللهم أكثر مال وولده وبارك له فيما أعطيته" فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة. وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده، ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء؛ وقد تقدم في "آل عمران" بيانه.

(11/80)

قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} فيه أربع مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: {يَرِثُنِي} قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة {يرثني ويرث} بالرفع فيهما. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحي بن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما، وليس هما جواب "هب" على مذهب سيبويه، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث؛ والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا؛ أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حال وصفته؛ لأن الأولياء منهم من لا يرث؛ فقال: هب لي الذي يكون وارثي؛ قاله أبو عبيد؛ ورد قراءة الجزم؛ قال: لأن معناه إن وهبت ورث، وكيف يخبرا الله عز وجل بهذا وهو أعلم به منه؟ ! النحاس: وهذه حجة متقصاة؛ لأن جواب الأم عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة؛ تقول: أطع الله يدخلك الجنة؛ أي إن تطعه يدخلك الجنة.

الثانية ـ قال النحاس: فأما معنى {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة؛ قيل: هي وراثة نبوة. وقيل: وراثه حكمة. وقيل: هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة فمحال؛ لأن النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبي مرسل. ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن؛ وفي الحديث "العلماء ورثة الأنبياء". وأما وراثة المال فلا يمتنع، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" فهذا لا حجة فيه؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع. وقد يؤول هذا بمعنى: لا نورث الذي تركناه صدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف شيئا يورث عنه؛ وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} لأن معنى "لله" ومن سبيل الله، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صلى الله عليه وسلم ما دام حيا؛ فإن قيل: ففي بعض الروايات "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" ففيه التأويلان جميعا؛ أن يكون "ما" بمعنى الذي. والآخر لا يورث من كانت هذه حاله. وقال أبو عمر: واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: "لا نورث ما تركنا صدقة" على قولين: أحدهما: وهو

(11/81)

الأكثر وعليه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما ترك صدقة. والآخر: أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يورث؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره؛ وهذا القول قال بعض أهل البصرة منهم ابن علية، وسائر علماء المسلمين على القول الأول.

الثالثة ـ قوله تعالى: {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قيل: هو يعقوب بن إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب؛ لأنها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق. وقيل: المعني بيعقوب ها هنا بن يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام؛ لأن يعقوب وعمران ابنا ماثان، وبنو ماثان رؤساء بني إسرائيل؛ قاله مقاتل وغيره. وقال الكلبي: وكان آل يعقوب أخواله، وهو يعقوب بن ماثان، وكان فيهم الملك، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى. وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله - تعالى - زكريا ما كان عليه من ورثته" . ولم ينصرف يعقوب لأنه أعجمي.

الرابعة ـ قوله تعالى: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله. وقيل: راضيا بقضائك وقدرك. وقيل: رجلا صالحا ترضى عنه. وقال أبو صالح: نبيا كما جعلت أباه نبيا.

قوله تعالى: {يَا زَكَرِيَّا} في الكلام حذف؛ أي فاستجاب الله دعاءه فقال: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث: أن يفرد بتسميته؛ وقد تقدم معنى تسميته في "آل عمران". وقال مقاتل: سماه يحي لأنه حيي بين أب شيخ وأم عجوز؛ وهذا فيه نظر؛ لما تقدم من أن امرأته كانت عقيما لا تلد. والله أعلم.

(11/82)

قوله تعالى : { لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً } أي لم نسم أحدا قبل يحي بهذا الاسم ، قاله ابن عباس وقتادة وابن أسلم والسدي . ومن عليه تعالى بأن لم يكل تسميته إلى الأبوين . وقال مجاهد وغيره : { سَمِيّاً } معناه مثلا ونظيرا ، وهو مثل قوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } معناه مثلا ونظيرا ]وهذا[ كأنه من المساماة والسمو ، وهذا فيه بعد ، لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى ، اللهم إلا أن يفضل في خاص كالسؤدد والحصر مثله ولدا . وقيل : إن الله تعالى اشترط القبل ، لأنه أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الآية دليل وشاهد على أن الأسامي السنع جديرة بالأثرة ، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنزه عن النبز حتى قال قائل :

سنع الأسامي مسبلي أزر

...

حمر تمس الأرض بالهدب

وقال رؤية للنسابة البكري وقد سأله عن نسبه : أنا ابن العجاج ، فقال قصرت وعرفت.

قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ } ليس على معنى الإنكار لما أخبر الله تعالى به ، بل على سبيل التعجب من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير. وقيل غير هذا مما تقدم في "آل عمران" بيانه . { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً } يعني النهاية في الكبر واليبس والجفاف ، ومثله العسي . قال الأصمعي : عَسَا الشيءُ يَعْسُوعُسُوّا وعَسَاء ممدود أي َيبِس وصَلُبَ ، وقد عسا الشيخُ يَعْسُو وَلَّى وكَبِر مثل عَتَا ، يقال : عَتَا الشيخ يَعتو عُتيا وعِتيّاّ كبر وولّى. وعتوت يافلان تعتو عُتواً وعِتيا. والأصل عتو لأنه من ذوات الواو ، فأبدلوا من الواو ياء ، لأنها أختها وهي أخف منها ، والآيات على الياءات ، ومن قال "عِتِيّاً" كره الضمة مع الكسرة والياء ، وقال الشاعر :

إنما يعذر الوليد ولا يعـ

...

ــذر من كان في الزمان عتيا

(11/83)

وقرأ ابن عباس {عسيا} وهو كذلك مصحف أبي. وقرأ يحيي بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص {عتيا} بكسر العين وكذلك {جثيا} و {صليا} حيث كن. وضم حفص {بكيا} خاصة، وكذلك الباقون في الجميع، وهما لغتان. وقيل: {عتيا} قسيا؛ يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب.

قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي قال له الملك {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} والكاف في موضع رفع؛ أي الأمر كذلك؛ أي كما قيل لك: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}. قال الفراء: خلقه علي هين. {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل يحيى. وهذه قراءة أهل المدينة والبصرة وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين {وقد خلقناك} بنون وألف بالجمع على التعظيم. والقراءة الأولى أشبه بالسواد. {لَمْ تَكُ شَيْئاً} أي كما خلقك الله تعالى بعد العدم ولم تك شيئا موجودا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده.

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} طلب آية على حملها بعد بشارة الملائكة إياه، وبعد {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} زيادة طمأنينة؛ أي تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة. وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى منه بيحيى لا من الشيطان؛ لأن إبليس أوهمه ذلك. قاله الضحاك وهو معنى قول السدي؛ وهذا فيه نظر لإخبار الله تعالى بأن الملائكة نادته حسب ما تقدم في "آل عمران". {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} تقدم في "آل عمران".بيانه فلا معنى للإعادة.

قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} فيه خمس مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} أي أشرف عليهم من المصلى. والمحراب أرفع المواضع، أشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض؛ دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي. واختلف الناس في اشتقاقه؛ فقالت فرقة:

(11/84)

هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات. وقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب "بفتح الراء" كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا.

الثانية ـ هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم في صلاتهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.

قلت: وهذا فيه نظر؛ وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا - أو ينهى عن ذلك! قال: بلى قد ذكرت حين مددتني وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقميت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزل حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم" أو نحو ذلك؛ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.

قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائدا في الصلاة، وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر؛ لأن كثيرا من الأئمة يوجد لا كبر عندهم، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا؛ والله أعلم.

الثالثة ـ قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قال الكلبي وقتادة وابن منبه: أوحى إليهم أشار. القتبي: أومأ. مجاهد: كتب على الأرض. عكرمة: كتب في كتاب. والوحي في كلام العرب الكتابة؛ ومنه قول ذي الرمة:

(11/85)

سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها

...

بقية وحي في بطون الصحائف

وقال عنترة:

كوحي صحائف من عهد كسرى

...

فأهداها لأعجم طمطمي

و {بكرة وعشيا} ظرفان. وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمت؛ قال: وقد يكون العشي جمع عشية.

الرابعة ـ قد تقدم الحكم في الإشارة في “آل عمران” واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا، أو أرسل إليه رسولا؛ فقال مالك: إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته، ثم رجع فقال: لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله. قال ابن القاسم: إذا قرأ كتابه حنث، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه. وقال أشهب: لا يحنث إذا قرأه الحالف؛ وهذا بين؛ لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم. فإن حلف ليكلمنه لم يبر إلا بمشافهته؛ وقال ابن الماجشون: وإن حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه إليه أو أرسل إليه رسولا بر، ولو علماه جميعا لم يبر، حتى يعلمه لأن علمهما مختلف.

الخامسة ـ واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه؛ قال الكوفيون: إلا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شيء. قال الطحاوي: الخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز الميؤوس منه الجماع، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة.

قوله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} في الكلام حذف؛ المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} وهذا اختصار يدل الكلام عليه و”الكتاب” التوراة بلا خلاف. “بقوة” أي بجد واجتهاد؛ قاله مجاهد. وقيل العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لأوامره، والكف عن نواهيه؛ قاله زيد بن أسلم؛ وقد تقدم

(11/86)

في "البقرة". {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} قيل: الأحكام والمعرفة بها. وروى معمر أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب؛ فقال: ما للعب خلقت. فأنزل الله تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} وقال قتادة: كان ابن سنتين أو ثلاث سنين. وقال مقاتل: كان ابن ثلاث سنين. و"صبيا" نصب على الحال. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا. وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا". وقال قتادة: إن يحيى عليه السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا كبيرة ولاهم بامرأة. وقال مجاهد: وكان طعام يحيى عليه السلام العشب، كان للدمع في خديه مجار ثابتة. وقد مضى الكلام في معنى قوله: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} في "آل عمران"

قوله تعالى: {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} "حنانا" عطف على "الحكم". وروي عن ابن عباس أنه قال: والله ما أدري ما "الحنان". وقال جمهور المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة؛ وهو فعل من أفعال النفس. النحاس: وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان: أحدهما: قال: تعطف الله عز وجل عليه بالرحمة والقول الآخر ما أعطيه من رحمة الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك. وأصله من حنين الناقة على ولدها. ويقال: حنانك وحنانيك؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: حنانيك تثنية الحنان. وقال أبو عبيدة: والعرب تقول: حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد؛ تريد رحمتك. وقال امرؤ القيس:

ويمنحها بنو شمجى بن جرم

...

معيزهم حنانك ذا الحنان

وقال طرفة:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

...

حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وقال الزمخشري: "حنانا" رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة؛ وأنشد سيبويه:

فقالت حنان ما أتى بك ههنا

...

أذو نسب أم أنت بالحي عارف

(11/87)

قال بن الأعرابي: الحنان من صفة الله تعالى مشددا الرحيم والحنان مخفف: العطف والرحمة. والحنان: الرزق والبكرة. ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى؛ ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في حديث بلال: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا؛ وذكر هذا الخبر الهروي؛ فقال: وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذب فقال الله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا؛ أي لأتمسحن به. وقال الأزهري: معناه لأتعطفن عليه ولأترحمن عليه لأنه من أهل الجنة.

قلت: فالحنان العطف، وكذا قال مجاهد. و"حنانا" أي تعطفا منا عليه أو منه على الخلق؛ قال الحطيئة:

تحنن علي هداك المليك

...

فإن لكل مقام مقالا

عكرمة: محبة. وحنة الرجل امرأته لتوادهما؛ قال الشاعر:

فقالت حنان ما أتى بك ههنا

...

أذو نسب أم أنت بالحي عارف

قوله تعالى: {وَزَكَاةً} "الزكاة" التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر؛ أي جعلناه مباركا للناس يهديهم. وقيل: المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا. وقيل: "زكاة" صدقة به على أبويه؛ قاله ابن قتيبة. {وَكَانَ تَقِيّاً} أي مطيعا لله تعالى، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلم بها.

قوله تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ} البر بمعنى البار وهو الكثير البر. و {جَبَّاراً} متكبرا. وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.

قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} قال الطبري وغيره: معناه أمان. ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.

(11/88)

قلت: وهذا قول حسن، وقد ذكرناه معناه عن سفيان بن عيينة في سورة "سبحان" عند قتل يحي. وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيي التقيا - وهما ابنا الخالة - فقال يحيى لعيسى: ادع الله لي فأنت خير مني؛ فقال له عيسى: بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني؛ سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي؛ فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى؛ بأن قال: إدلاله التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه. قال ابن عطية: ولكل وجه.

[16] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}

[17] {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}

[18] {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً}

[19] {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}

[20] {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}

[21] {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}

[22] {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}

[23] {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً}

[24] {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}

[25] {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}

===============

 

مريم - تفسير الطبري

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) }

يقول تعالى ذكره: فولد لزكريا يحيى، فلما ولد، قال الله له: يا يحيى، خذ هذا الكتاب بقوة، يعني كتاب الله الذي أنزله على موسى، وهو التوراة بقوّة، يقول: بجدّ.

كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) قال : بجدّ.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) قال: بجدّ.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) قال: القوّة: أن يعمل ما أمره الله به، ويجانب فيه ما نهاه الله عنه .

قال أبو جعفر: وقد بيَّنت معنى ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا، في سورة آل عمران، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال.

وقد حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرني معمر، ولم يذكره عن أحد في هذه الآية( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) قال: بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلقتُ، فأنزل الله( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ).

وقوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول تعالى ذكره: ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيا.

(18/155)

وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان، فقال بعضهم: معناه: الرحمة، ووَجهوا الكلام إلى نحو المعنى الذي وجهناه إليه.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول: ورحمة من عندنا.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر ، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة، في هذه الآية( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: رحمة.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: رحمة من عندنا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: رحمة من عندنا لا يملك عطاءها غيرنا.

حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول: رحمة من عندنا، لا يقدر على أن يعطيها أحد غيرنا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ورحمة من عندنا لزكريا ، آتيناه الحكم صبيا، وفعلنا به الذي فعلنا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول: رحمة من عندنا.

وقال آخرون: معنى ذلك: وتعطفا من عندنا عليه، فعلنا ذلك.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: تعطفا من ربه عليه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ، مثله.

(18/156)

وقال آخرون: بل معنى الحنان: المحبة. ووجهوا معنى الكلام إلى: ومحبة من عندنا فعلنا ذلك.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: محبة عليه.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله(وَحَنانا) قال: أما الحنان فالمحبة.

وقال آخرون معناه تعظيما منا له.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عطاء بن أبي رباح( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: تعظيما من لدنا. وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا أدري ما الحنان.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله ما أدري ما حنانا.

وللعرب في حَنَانَك لغتان: حَنَانَك يا ربنا، وحَنانَيك; كما قال طَرَفة بن العبد في حنانيك:

أبا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا... حَنانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بعضِ (1)

وقال امرؤ القيس في اللغة الأخرى:

__________

(1) البيت لطرفة بن العبد البكري ( اللسان : حنن ) . والشاهد في قوله حنانيك ، أي تحننا على تحنن . وحكى الأزهري عن الليث : حنانيك يا فلان افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، يذكره الرحمة والبر ، وأنشد بيت طرفة . قال ابن سيده : وقد قالوا حنانا ، فصلوه من الإضافة في الإفراد ، وكل ذلك بدل من اللفظ بالفعل .

(18/157)

ويَمْنَحُها بَنُو شَمَجَى بن جَرْمٍ... مَعِيزَهُمُ حَنانَكَ ذَا الحَنانِ (1)

وقد اختلف أهل العربية في "حنانيك" فقال بعضهم: هو تثنية "حنان". وقال آخرون: بل هي لغة ليست بتثنية; قالوا: وذلك كقولهم: حَوَاليك; وكما قال الشاعر:

ضَرْبا هَذَا ذَيْكَ وطَعْنا وَخْضًا (2)

وقد سوّى بين جميع ذلك الذين قالوا حنانيك تثنية، في أن كل ذلك تثنية. وأصل ذلك أعني الحنان، من قول القائل: حنّ فلان إلى كذا وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق، ثم يقال: تحنَّنَ فلان على فلان، إذا وصف بالتعطُّف عليه والرقة به، والرحمة له، كما قال الشاعر:

تَحَنّنْ عَليَّ هَدَاكَ المَلِيكُ... فإنَّ لِكُلّ مَقامٍ مَقالا (3)

بمعنى: تعطَّف عليّ. فالحنان: مصدر من قول القائل: حنّ فلان على فلان، يقال منه: حننت عليه، فأنا أحنّ عليه حنينا وحنانا، ومن ذلك قيل لزوجة الرجل: حَنَّته، لتحنته عليها وتعطفه، كما قال الراجز:

__________

(1) البيت لامرئ القيس بن حجر ( اللسان : حنن ) و ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 110 ) قال شارحه ويمنحها : هذه رواية الأصمعي أي يعطيها ويروى : ويمنعها ، وهي أشبه بمعنى البيت . وقوله : حنانك ذا الحنان ، فسره ابن الأعرابي : رحمتك يا رحمن ، فأغنى عنهم . وعلى أية حال . فالشاعر برم بمجاورة بني شمجي بن جرم ، متسخط فعلهم ، زار عليهم ، إذا منعوه المعزى . فأما إذا منحوه إياها ( على رواية الأصمعي ) فإنه يكون ساخطا ، لاضطراره إلى أن يقبل منح أمثالهم مع ما له من الشرف والعراقة في الملك ؛ كأنه يقول في نفسه : أبعد ما كان لنا من العز الشامخ تذل نفسي وتضطر إلى قبول المنح والصلات من الناس . وفي اللسان : فرواية الأعرابي تسخط وذم ، وذلك تفسيره ؛ ورواية الأصمعي : تشكر وحمد ودعاء لهم ، وكذلك تفسيره .

(2) البيت في ( اللسان : هذذ ) غير منسوب . قال : الهذ و الهذذ : سرعة القطع وسرعة القراءة . قال : ضربا هذا ذيك : أي هذا بعد هذ ، يعني قطعا بعد قطع . وعلى هذا استشهد به المؤلف . . والوخض : قال الأصمعي : إذا خالطت الطعنة الجوف ولم تنفذ ، فذلك الوخض والوخط أه . يقال : وخضه بالرمح وخضا .

(3) البيت للحطيئة ( لسان العرب : حنن ) . قال : وتحنن عليه : ترحم ، وأنشد ابن بر الحطيئة : تحنن علي . . . البيت .

(18/158)

وَلَيْلَةٍ ذَاتِ دُجًى سَرَيْتُ... ولَمْ تَضِرْنِي حَنَّةٌ وَبيْتُ (1)

وقوله:(وَزَكاةً) يقول تعالى ذكره: وآتينا يحيى الحكم صبيا، وزكاة: وهو الطهارة من الذنوب، واستعمال بدنه في طاعة ربه، فالزكاة عطف على الحكم من قوله( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ).

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:(وَزَكاةً) قال: الزكاة: العمل الصالح.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله(وَزَكاةً) قال: الزكاة: العمل الصالح الزكيّ.

حُدثت عن الحسين ، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله(وَزَكاةً) يعني العمل الصالح الزاكي.

وقوله(وكانَ تَقِيًّا) يقول تعالى ذكره: وكان لله خائفا مؤدّيا فرائضه، مجتنبا محارمه مسارعا في طاعته.

كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس( وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ) قال: طهر فلم يعمل بذنب.

حدثني يونس، قال: خبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ) قال: أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس.

__________

(1) هذان بيتان من مشطور الرجز ، لأبي محمد الفقعسي ، وبينهما بيت ثالث ، وهو قوله * ولم يلتني عن سراها ليت *

( اللسان : حنن ) . وقد استشهد بالبيتين الأولين منهما صاحب اللسان في ( ليت ) . واستشهد بهما المؤلف في الجزء الخامس عشر عند تفسير قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ) وموضع الشاهد هنا في البيت الثالث وهو قوله : " حنة " . قال : وحنة الرجل : امرأته ، قال أبو محمد الفقعسي : " وليلة " . . . . إلخ . الأبيات الثلاثة . قال : وهي طلته وكنيته ونهضته وحاصنته وحاضنته .

(18/159)

وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) }

يقول تعالى ذكره: وكان برّا بوالديه، مسارعا في طاعتهما ومحبتهما ، غير عاقّ بهما( وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ) يقول جلّ ثناؤه: ولم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان لله ولوالديه متواضعا متذللا يأتمر لما أمر به، وينتهي عما نُهِي عنه، لا يَعْصِي ربه، ولا والديه.

وقوله(عَصِيًّا) فعيل بمعنى أنه ذو عصيان، من قول القائل: عَصَى فلان ربه، فهو يعصيه عصيا.

وقوله( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) يقول: وأمان من الله يوم ولد، من أن يناله الشيطان من السوء، بما ينال به بني آدم، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إلا ما كانَ مِنْ يَحْيَى بنِ زَكَريَّا".

حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: ثني ابن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( جَبَّارًا عَصِيًّا ) قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أحَدٍ يَلْقَى اللهَ يَوْمَ القِيامَةِ، إلا ذَا ذَنْبٍ، إلا يَحْيَى بنَ زَكَريَّا".

قال: وقال قتادة: ما أذنب، ولا هم بامرأة.

وقوله( وَيَوْمَ يَمُوتُ ) يقول: وأمان من الله تعالى ذكره له من فَتَّاني القبر، ومن هول المطلع( وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) يقول: وأمان له من عذاب الله يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر، من أن يروعه شيء، أو أن يفزعه ما يفزع الخلق.

وقد ذكر ابن عيينة في ذلك ما حدثني أحمد بن منصور الفَيروزِيّ،

(18/160)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

قال: أخبرني صدقة بن الفضل قال: سمعت ابن عطية يقول: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر عظيم، قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا، فخصه بالسلام عليه، فقال( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ).

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أن الحسن قال: إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني ، سَلَّمت على نفسي، وسلَّم الله عليك، فعرف والله فضلها.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد في كتاب الله الذي أنزله عليك بالحقّ مريم ابنة عمران ، حين اعتزلت من أهلها، وانفردت عنهم، وهو افتعل من النَّبذ، والنَّبذ: الطَّرْح، وقد بيَّنا ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ ) أي انفردت من أهلها.

حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصَّلْت، قال: ثنا أبو كُدَينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس( إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) قال: خرجت مكانا شرقيا.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال:

(18/161)

خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها، وهو قوله: (1) فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا: في شرقيّ المحراب.

وقوله( مَكَانًا شَرْقِيًّا ) يقول: فتنحت واعتزلت من أهلها في موضع قِبَلَ مَشرق الشمس دون مَغربها.

كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( مَكَانًا شَرْقِيًّا ) قال: من قِبَل المشرق.

حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس، قال: إني لأعلم خلق الله لأيّ شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله: فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس، مثله.

حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن الصَّلْت، قال: ثنا أبو كُدَينة، عن قابوس، عن أبيه ، عن ابن عباس، قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت، والحج لله، وما صرفهم عنهما إلا تأويل ربك( إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) فصلوا قبل مطلع الشمس.

حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) قال: شاسعا متنحيا.

وقيل: إنها إنما صارت بمكان يلي مشرق الشمس، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيرا مما يلي المغرب ، وكذلك ذلك فيما ذُكر عند العرب.

وقوله:( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ) يقول: فاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس ، وذُكر عن ابن عباس، أنها صارت بمكان يلي المشرق، لأن الله أظلها بالشمس، وجعل لها منها حجابا.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) قال: مكانا

__________

(1) كذا هنا ، وفي موضوعين بعد : فانتبذت ، والقراءة : إذ انتبذت .

(18/162)

قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)

أظلتها الشمس أن يراها أحد منهم.

وقال غيره في ذلك ما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ) من الجدران.

وقوله( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) يقول تعالى ذكره: فأرسلنا إليها حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، واتخذت من دونهم حجابا: جبريل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) قال: أرسل إليها فيما ذُكر لنا جبريل.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: وجدتْ عندها جبريل قد مثله الله بشرا سويا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) قال: جبريل .

حدثني محمد بن سهل، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل بن أخي وهب، قال: سمعت وهب بن منبه ، قال: أرسل الله جبريل إلى مريم، فَمَثَل لها بشرا سويا.

حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال : فلما طهرت، يعني مريم من حيضها، إذا هي برجل معها، وهو قوله( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) يقول تعالى ذكره: فتشبه لها في صورة آدميّ سويّ الخلق منهم، يعني في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) }

يقول تعالى ذكره: فخافت مريم رسولنا، إذ تمثل لها بشرًا سويا، وظنته رجلا يريدها على نفسها.

(18/163)

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) قال: خشيت أن يكون إنما يريدها على نفسها.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) فلما رأته فزعت منه وقالت:( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) فقالت: إني أعوذ أيها الرجل بالرحمن منك، تقول: أستجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرّمه عليك إن كنت ذا تقوى له تتقي محارمه، وتجتنب معاصيه; لأن من كان لله تقيا، فإنه يجتنب ذلك. ولو وجه ذلك إلى أنها عَنَت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تتقي الله في استجارتي واستعاذتي به منك كان وجها.

كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) ولا ترى إلا أنه رجل من بني آدم.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، عن عاصم، قال: قال ابن زيد: وذكر قَصَص مريم فقال: قد علمت أن التقيّ ذو نُهية حين قالت( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ). يقول تعالى ذكره: فقال لها روحنا: إنما أنا رسول ربك يا مريم أرسلني إليك( لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا )

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق غير أبي عمرو( لأهَبَ لَكِ ) بمعنى: إنما أنا رسول ربك: يقول: أرسلني إليك لأهب لك( غُلامًا زَكِيًّا ) على الحكاية ، وقرأ ذلك أبو عمرو بن العلاء( ليهب لك غلامًا زكيا ) بمعنى: إنما أنا رسول ربك أرسلني إليك ليهب الله لك غلاما زكيا.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك، ما عليه قرّاء الأمصار، وهو( لأهَبَ لَكِ ) بالألف دون الياء، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين، وعليه قراءة قديمهم وحديثهم، غير أبي عمرو، وغير جائز خلافهم فيما أجمعوا عليه، ولا سائغ لأحد خلاف مصاحفهم، والغلام الزكيّ: هو الطاهر من الذنوب وكذلك تقول العرب: غلام زاكٍ وزكيّ، وعال وعليّ.

(18/164)

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) }

يقول تعالى ذكره: قالت مريم لجبريل( أنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ ) من أيّ وجه يكون لي غلام؟ أمن قِبَل زوج أتزوّج ، فأرزقه منه، أم يبتدئ الله فيّ خلقه ابتداء( وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) من ولد آدم بنكاح حلال(ولَمْ أَكُ) إذ لم يمسسني منهم أحد على وجه الحلال(بَغِيًّا) بغيت ففعلت ذلك من الوجه الحرام، فحملته من زنا.

كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) يقول: زانية( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) يقول تعالى ذكره: قال لها جبريل: هكذا الأمر كما تصفين ، من أنك لم يمسسك بشر ولم تكوني بغيا، ولكن ربك قال: هو عليّ هين : أي خلق الغلام الذي قلت أن أهبه لك عليّ هين لا يتعذّر عليّ خلقه وهبته لك من غير فحل يفتحلك.

( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ) يقول: وكي نجعل الغلام الذي نهبه لك علامة وحجة على خلقي أهبه لك.( وَرَحْمَةً مِنَّا ) يقول: ورحمة منا لك، ولمن آمن به وصدقه أخلقه منك( وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) يقول: وكان خلقه منك أمرا قد قضاه الله، ومضى في حكمه وسابق علمه أنه كائن منك. كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني من لا أتهم، عن وهب بن منبه( وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) أي أن الله قد عزم على ذلك، فليس منه بدّ.

القول في تأويل قوله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) }

(18/165)

وفي هذا الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا بغلام فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) وبذلك جاء تأويل أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سهل، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقِل ابن أخي وهب بن منبه، قال: سمعت وهبا قال: لما أرسل الله جبريل إلى مريم تمثَّل لها بشرا سويا فقالت له:( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت.

حدثنا ابن حميد، قال : ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني ، قال: لما قال ذلك، يعني لما قال جبريل( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ).... الآية استسلمت لأمر الله، فنفخ في جيبها ثم انصرف عنها.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط ، عن السديّ، قال: طرحَتْ عليها جلبابها لما قال جبريل ذلك لها، فأخذ جبريل بكميها، فنفخ في جيب درعها، وكان مشقوقا من قُدامها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت، فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة تزورها; فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريم أشعرت أني حبلى، قالت مريم: أشعرت أيضا أني حُبلى، قالت امرأة زكريا: إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك قوله( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ).

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: يقولون: إنه إنما نفخ في جيب درعها وكمها.

وقوله( فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) يقول: فاعتزلت بالذي حملته، وهو عيسى، وتنحَّت به عن الناس مكانا قصيا يقول: مكانا نائيا قاصيا عن الناس، يقال: هو بمكان قاص، وقصيّ بمعنى واحد، كما قال الراجز:

(18/166)

لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ القَصِيِّ... مِنِّي ذي القاذُوَرةِ المَقْلِيّ (1)

يقال منه: قصا المكان يقصو قصوا : إذا تباعد، وأقصيت الشيء: إذا أبعدته وأخَّرته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) قال: مكانا نائيا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم ، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( مَكَانًا قَصِيًّا ) قال: قاصيا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدّي، قال: لما بلغ أن تضع مريم، خرجت إلى جانب المحراب الشرقي منه فأتت أقصاه.

وقوله( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) يقول تعالى ذكره: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة، ثم قيل: لما أسقطت الباء منه أجاءها، كما يقال: أتيتك بزيد، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا ، كما قال جل ثناؤه( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) والمعنى: بزُبَر الحديد، ولكن الألف مدت لما حذفت الباء، وكما قالوا: خرجت به وأخرجته، وذهبت به وأذهبته، وإنما هو أفعل من المجيء،

__________

(1) البيتان لرؤبة ابن العجاج الراجز ( انظر فوائد القلائد في مختصر الشواهد للعيني ص 115 - 116 ) وبعدهما بيتان آخران وهما : أو تحلفي بربك العلي ... أنى أبو ذيا لك الصبي

ومقعد القصي : إما مفعول مطلق . على أن يكون المقعد بمعنى القعود أو على أنه مفعول فيه ، أي في مقعد القصي ، أي البعيد ، من قصا المكان يقصو : إذا بعد . ويقال رجل قاذورة : أي لا يخالط الناس ، لسوء خلقه . والمقلي المبغض من قلاه يقليه قلى بالكسر . وهما صفتان للقصي . وفي ( لسان العرب : قصا ) قصا عنه قصوا ، وقصوا وقصا وقصاء ، وقصي ( بكسر الصاد ) : بعد وقصا المكان يقصو قصوا ( على فعول ) : بعد . والقصي والقاصي : البعيد ، والجمع : أقصاء فيهما ، كشاهد وأشهاد ، ونصير وأنصار .

(18/167)

كما يقال : جاء هو، وأجأته أنا: أي جئت به، ومثل من أمثال العرب" : شرّ ما أجاءني إلى مُخَّة عرقوب"، وأشاء ويقال: شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلى ذلك ; ومنه قول زهير:

وَجارٍ سارَ مُعْتَمِدًا إلَيْكُمْ... أجاءَتْهُ المَخافَةُ والرَّجاءُ (1)

يعنى: جاء به، وأجاءه إلينا وأشاءك: من لغة تميم، وأجاءك من لغة أهل العالية، وإنما تأوّل من تأوّل ذلك بمعنى: ألجأها، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة، كان قد ألجأها إليه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ) قال : المخاض ألجأها.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: ألجأها المخاض. قال ابن جريج: وقال ابن عباس: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) يقول: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد ، عن قتادة، قوله( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال: اضطرّها إلى جذع النخلة.

واختلفوا في أيّ المكان الذي انتبذت مريم بعيسى لوضعه، وأجاءَها إليه المخاض، فقال بعضهم: كان ذلك في أدنى أرض مصر، وآخر أرض الشأم، وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم.

__________

(1) البيت لزهير بن أبي سلمى ( اللسان : جيأ ) . قال : وأجاءه إلى شيء : جاء به ، وألجأه ، واضطره إليه . قال زهير بن أبي سلمى : " وجار . . . " البيت . قال الفراء : أصله من جئت ، وقد وقد جعلته العرب إلجاء . وفي المثل : " شر ما أجاءك إلى مخة العرقوب ، وشر ما يجيئك إلى مخة عرقوب " قال الأصمعي : وذلك أن العرقوب لا مخ فيه ، وإنما يحوج إليه من لا يقدر على شيء . ومنهم من يقول : شر ما ألجأك : والمعنى واحد . وتميم تقول : شر ما أشاءك .

(18/168)

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سهل، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما اشتملت مريم على الحمل، كان معها قَرابة لها، يقال له يوسف النَّجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم، فكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد، في ذلك الزمان ، وكان لخدمته فضل عظيم، فرغبا في ذلك، فكانا يليان معالجته بأنفسهما، تحبيره وكناسته وطهوره، وكل عمل يعمل فيه، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادًا وعبادة منهما، فكان أوّل من أنكر حمل مريم صاحِبُها يوسف; فلما رأى الذي بها استفظعه، وعظم عليه، وفظع به، فلم يدر على ماذا يضع أمرها، فإذا أراد يوسف أن يتهمها، ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قطّ; وإذا أراد أن يبرئها، رأى الذي ظهر عليها; فلما اشتدّ عليه ذلك كلمها، فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر قد خشيته، وقد حَرَصت على أن أميته وأكتمه في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيت الكلام فيه أشفى لصدري، قالت: فقل قولا جميلا قال: ما كنت لأقول لك إلا ذلك، فحدثيني، هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم ، قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر يومئذ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر; أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كلّ واحد منهما وحده، أم تقول: لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟ قال يوسف لها: لا أقول هذا، ولكني أعلم أن الله تبارك وتعالى بقدرته على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون، قالت مريم: أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر؟ قال: بلى، فلما قالت له ذلك، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك ، ثم تولى يوسف خدمة المسجد، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه، وذلك لما رأى من رقة جسمها، واصفرار لونها، وكلف

(18/169)

وجهها، ونتوّ بطنها، وضعف قوّتها، ودأب نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك; فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك ، فإنهم إن ظفروا بك عيروك، وقتلوا ولدك، فأفضت ذلك إلى أختها، وأختها حينئذ حُبلى، وقد بشرت بيحيى، فلما التقيا وجدت أمّ يحيى ما في بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفا لعيسى، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ليس بينها حين ركبت وبين الإكاف شيء، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها، أدرك مريم النفاس، ألجأها إلى آريّ حمار، يعنى مذود الحمار، وأصل نخلة، وذلك في زمان أحسبه بردا أو حرّا "الشكّ من أبي جعفر"، فاشتدّ على مريم المخاض; فلما وجدت منه شدّة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة، قاموا صفوفًا محدقين بها.

وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا، وذلك ما حدثنا به ابن حميد ، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لما حضر ولادُها، يعني مريم، ووجدت ما تجد المرأة من الطلق ، خرجت من المدينة مغربة من إيلياء، حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة تحتها ربيع من الماء، فوضعته عندها.

وقال آخرون: بل خرجت لما حضر وضعها ما في بطنها إلى جانب المحراب الشرقي منه، فأتت أقصاه فألجأها المخاض إلى جِذْعِ النخلة، وذلك قول السدي، وقد ذكرت الرواية به قبل.

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان، قال: سمعت ابن عباس يقول: ما هي إلا أن حملت فوضعت.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: وأخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول: ليس إلا أن حملتْ فولدتْ.

وقوله:( يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا ) ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس.

(18/170)

كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) تقول: يا ليتني مِتُّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل، وكنت نِسيا منسيًّا: شيئا نُسي فتُرك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر، وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسي. ونسي بفتح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد، مثل الوَتر والوِتر، والجَسر والجِسر، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا; وبالكسر قرأت عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة; وبالفتح قرأه أهل الكوفة; ومنه قول الشاعر:

كأنَّ لَهَا فِي الأرْضِ نِسْيا تَقُصُّهُ... إذَا ما غَدَتْ وإنْ تُحَدّثْكَ تَبْلَتِ (1)

ويعني بقوله: تقصه: تطلبه، لأنها كانت نسيته حتى ضاع، ثم ذكرته فطلبته، ويعني بقوله: تبلت: تحسن وتصدّق، ولو وجه النسي إلى المصدر من النسيان كان صوابا، وذلك أن العرب فيما ذكر عنها تقول: نسيته نسيانا ونسيا، كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان، يعني وعصيان، وكما تقول أتيته إتيانا وأتيا، كما قال الشاعر:

أتيُ الفَوَاحِشِ فِيهِمُ مَعْرَوفَةٌ... وَيَروْنَ فِعْلَ المَكْرُماتِ حَرَامَا (2)

وقوله(مَنْسيًّا) مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت: ليتني كنت الشيء الذي ألقي، فترك ونسي.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

__________

(1) البيت للشنفرى " اللسان : نسي " قال : والنسي : الشيء المنسي الذي لا يذكر . وقال الأخفش : النسي : ما أغفل من شيء حقير ونسي. وقال الزجاج : النسي في كلام العرب الشيء المطروح ، لا يؤبه له . وقال الشنفرى : " وكأن لها . . . البيت " قال ابن بري : بلت ، فالفتح : إذا قطع ، وبلت بالكسر : إذا سكن . وقال الفراء : النسي والنسي ( بكسر النون المشددة وفتحها ) لغتان فيه تلقيه المرأة من خرق اعتلاها ( حيضها ) مثل وتر ووتر . قال ولو أراد بالنسي ( بالفتح ) مصدر النسيان ، كان صوابا .

(2) في ( اللسان : أتى ) : الإتيان : المجيء . أتيته أتيا وإتيانا وإتيانه ومأتاه : جئته . واستشهد المؤلف بالبيت على أن العرب تقول نسيته نسيانا ونسيا ، كما تقول أتيته إتيانا وأتيا . وقوله معروفة : أنث الخبر بالتاء مع أن المبتدأ وهو الأتي مذكر ، لكنه لما أضيف إلى الفواحش ، وهي جمع فاحشة . اكتسب منها التأنيث فلذلك أنث الخبر بالتاء .

(18/171)

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس، قوله:( يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) لم أخلق، ولم أك شيئا.

حدثنا موسى ، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) يقول: نِسيا: نُسي ذكري، ومنسيا: تقول: نسي أثري، فلا يرى لي أثر ولا عين.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) : أي شيئا لا يعرف ولا يذكر.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر ، عن قتادة، قوله( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) قال: لا أعرف ولا يدرى من أنا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس( نَسْيًا مَنْسِيًّا ) قال: هو السقط.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد، في قوله( يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) لم أكن في الأرض شيئًا قط.

القول في تأويل قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) }

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) بمعنى: فناداها جبرائيل من بين يديها على اختلاف منهم في تأويله; فمن متأوّل منهم إذا قرأه( مِنْ تَحْتِهَا ) كذلك; ومن متأوّل منهم أنه عيسى ، وأنه ناداها من تحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة( فَنَادَاها مَنْ تَحْتَها ) وبفتح التاءين من تحت، بمعنى: فناداها الذي تحتها، على أن الذي تحتها عيسى، وأنه الذي نادى أمه.

* ذكر من قال: الذي ناداها من تحتها المَلَك ، حدثنا ابن حميد، قال:

(18/172)

ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت ابن عباس قرأ:( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) يعني: جبرائيل.

حدثني أحمد بن عبد الله أحمد بن يونس، قال: أخبرنا عَبثر ، قال: ثنا حصين، عن عمرو بن ميمون الأوْديّ، قال: الذي ناداها الملك.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، أنه قرأ: فخاطبها من تحتها.

حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأ: فخاطبها من تحتها.

حدثنا الرفاعي، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأها كذلك.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال: جبرائيل.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) : أي من تحت النخلة.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ(فَنَادَاهَا) جبرائيل( مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي ).

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال: المَلَك.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) يعني: جبرائيل كان أسفل منها.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي ، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال: ناداها جبرائيل ولم يتكلم عيسى حتى أتت قومها.

(18/173)

* ذكر من قال: ناداها عيسى صلى الله عليه وسلم: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال: عيسى ابن مريم.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) ابنها.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال الحسن: هو ابنها.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه(فَنَادَاهَا) عيسى( مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي ) .

حدثني أبو حميد أحمد بن المغيرة الحمصي، قال: ثنا عثمان بن سعيد ، قال: ثنا محمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان، عن سعيد بن جبير، قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال عيسى: أما تسمع الله يقول( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ).

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال: عيسى; ناداها( مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ).

حُدثت عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحيّ، عن أبيّ بن كعب قال: الذي خاطبها هو الذي حملته في جوفها ودخل من فيها.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا قول من قال: الذي ناداها ابنها عيسى، وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيل، فردّه على الذي هو أقرب إليه أولى من ردّه على الذي هو أبعد منه. ألا ترى في سياق

(18/174)

قوله( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) يعني به: فحملت عيسى فانتبذت به، ثم قيل: فناداها نسقا على ذلك من ذكر عيسى والخبر عنه. ولعلة أخرى، وهي قوله( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ) ولم تشر إليه إن شاء الله ألا وقد علمت أنه ناطق في حاله تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بمخاطبته إياها بقوله لها( أَنْ لا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) وما أخبر الله عنه أنه قال لها أشيري للقوم إليه، ولو كان ذلك قولا من جبرائيل، لكان خليقا أن يكون في ظاهر الخبر، مبينا أن عيسى سينطق، ويحتجّ عنها للقوم، وأمر منه لها بأن تشير إليه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.

فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويل الذي بينا، فبين أن كلتا القراءتين، أعني( مِنْ تَحْتِهَا ) بالكسر،( وَمَنْ تَحْتَها ) بالفتح صواب. وذلك أنه إذا قرئ بالكسر كان في قوله(فَنَادَاهَا) ذكر من عيسى: وإذا قرئ( مَنْ تَحْتَها) بالفتح كان الفعل لمن وهو عيسى. فتأويل الكلام إذن: فناداها المولود من تحتها أن لا تحزني يا أمه( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ).

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي ) قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي، لا ذات زوج فأقول من زوج، ولا مملوكة فأقول من سيدي، أي شيء عذري عند الناس( يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام.

واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالسريّ في هذا الموضع، فقال بعضهم: عني به: النهر الصغير.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال: الجدول.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول في هذه الآية( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال: الجدول.

(18/175)

حدثني عليّ، قال : ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) وهو نهر عيسى.

حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال: السريّ: النهر الذي كان تحت مريم حين ولدته كان يجري يسمى سَرِيا.

حدثني أبو حصين، قال: ثنا عَبثر، قال: ثنا حصين، عن عمرو بن ميمون الأوْدِيّ، قال في هذه الآية( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال: السريّ: نهر يُشرب منه.

حدثنا يعقوب وأبو كريب، قالا ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عمرو بن ميمون، في قوله:( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال: هو الجدول.

حدثنا محمد بن عمرو ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( سَرِيًّا) قال: نهر بالسريانية.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، قال ابن جريج: نهر إلى جنبها.

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، في قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال: كان سريا فقال حميد بن عبد الرحمن: إن السريّ: الجدول، فقال: غلبتنا عليك الأمراء.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال: هو الجدول، النهر الصغير، وهو بالنبطية: السريّ.

حدثني أبو حميد الحمصي، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا محمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان قال: سألت سعيد بن جبير، عن السريّ، قال: نهر.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: النهر الصغير.

(18/176)

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، أنه قال: هو النهر الصغير: يعني الجدول، يعني قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ).

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك، قال: جدول صغير بالسريانية.

حدثنا عن الحسين ، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( تَحْتَكِ سَرِيًّا ) الجدول الصغير من الأنهار.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) والسريّ: هو الجدول، تسميه أهل الحجاز.

حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر ، في قوله(سَرِيًّا) قال: هو جدول.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم وعن وهب بن منبه( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) يعني ربيع الماء.

- حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) والسريّ: هو النهر.

وقال آخرون: عنى به عيسى.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) والسريّ: عيسى نفسه.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) يعني نفسه، قال: وأيّ شيء أسرى منه، قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر ليس كذلك النهر، لو كان النهر لكان إنما يكون إلى جنبها، ولا يكون النهر تحتها.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قيل من قال: عنى به الجدول، وذلك أنه أعلمها ما قد أتاها الله من الماء الذي جعله عندها، وقال لها( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي ) من هذا الرطب(وَاشْرَبي) من هذا الماء( وَقَرِّي عَيْنًا ) بولدك، والسريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير; ومنه قول لبيد:

(18/177)

فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّريّ وَصَدَّعا... مَسْجُورَةٌ مُتَجاوِرًا قُلامُها (1)

ويُروى فينا (2) مسجورة، ويُروى أيضًا: فغادرا.

قوله( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) ذكر أن الجذع كان جذعًا يابسًا، وأمرها أن تهزّه، وذلك في أيام الشتاء، وهزّها إياه كان تحريكه.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال: حركيها.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال: كان جذعًا يابسًا، فقال لها: هزّيه( تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ).

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت أبا نهيك يقول: كانت نخلة يابسة.

حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول في قوله:( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) فكان الرطب يتساقط عليها وذلك في الشتاء.

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) وكان جذعا منها مقطوعا فهزّته، فإذا هو نخلة، وأجري لها في المحراب نهر، فتساقطت النخلة رطبًا جنيا فقال لها( فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ).

__________

(1) البيت للبيد بن ربيعة العامري ، من معلقته المشهورة ( انظره في شرح الزوزني على المعلقات السبع ، وفي شرح التبريزي على القصائد العشر ، وفي جمهرة أشعار العرب ص 63 - 74 ) . قال صاحب الجمهرة : توسطا ؛ : أي دخلا وسطه . وعرض السري : أي ناحية النهر ، وأهل الحجاز . يسمون النهر سريا . وصدعا : أي فرقا . ومسجورة : أي عينا مملوءة ؛ قال الله تعالى : ( والبحر المسجور ) وأقلامها ، ويروى قلامها ، وهو ضرب من الشجر الحمض ، والأقلام : قصب اليراع . وقال الزوزني يقول : فتو سط العير والأتان جانب النهر الصغير ، وشقا عينا مملوءة ماء ، قد تجاوز قلامها ، أي قد كثر هذا الضرب من النبت عليها . وتحرير المعنى : أنهما قد ورد عينا ممتلئة ماء ، فدخلا فيها من عرض نهرها ، وقد تجاور نبتها . والشاهد في قوله " السري " وهو اسم للنهر الصغير .

(2) كذا في المخطوطة بغير نقط ، ولم نقف على هذه الرواية .

(18/178)

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهزّي إليك بالنخلة.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: قال مجاهد( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال: النخلة.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن مجاهد، في قوله( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال: العجوة.

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عمرو بن ميمون، أنه تلا هذه الآية:( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) قال: فقال عمرو: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ، وأدخلت الباء في قوله:( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) كما يقال: زوجتك فلانة، وزوّجتك بفلانة; وكما قال( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) بمعنى: تنبت الدهن.

وإنما تفعل العرب ذلك، لأن الأفعال تكنى عنها بالباء، فيقال إذا كنيت عن ضربت عمرا: فعلت به، وكذلك كلّ فعل، فلذلك تدخل الباء في الأفعال وتخرج، فيكون دخولها وخروجها بمعنى، فمعنى الكلام: وهزِّي إليك جذع النخلة ، وقد كان لو أن المفسرين كانوا فسروه وكذلك: وهزِّي إليك رطبًا بجذع النخلة، بمعنى: على جذع النخلة، وجها صحيحا، ولكن لست أحفظ عن أحد أنه فسره كذلك. ومن الشاهد على دخول الباء في موضع دخولها وخروجها منه سواء قول الشاعر:

بِوَادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرُهُ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهانِ (1)

__________

(1) في ( اللسان : سدر ) السدر : شجر النبق ، واحدتها سدرة . . . والمرخ : شجر كثير الورى سريعه . . وفي ( اللسان : شبه ) الشبهان : نبت يشبه الثمام ، ويقال له الشبهان . قال ابن سيده : والشبهان ( بالتحريك ) والشبهان ( بضمتين ) : ضرب من العضاه ؛ وقيل : هو الثمام ، يمانية ، حكاها ابن دريد. قال رجل من عبد القيس * بواد يمان ينبت الشث صدره *

. . . البيت . قال ابن بري قال أبو عبيدة : البيت للأحول اليشكري . واسمه يعلى . قال : وتقديره : وينبت أسفله المرخ . على أن تكون الباء زائدة .

وإن شئت قدرته : وينبت أسفله بالمرخ ، فتكون الباء للتعدية . لما قدرت الفعل ثلاثيا . وفي الصحاح : الشبهان : هو الثمام من الرياحين . و ( في اللسان : شث ) الشث : ضرب من الشجر عن ابن دريد ، وأنشد البيت : * بواد يمان ينبت الشث فرعه *

إلخ . وقيل : الشث : شجر طيب الريح ، مر الطعم ، يدبغ به . قال أبو الدقيش : وينبت في جبال الغور وتهامة ونجد . والبيت شاهد على أن الباء في قوله " بالمرخ " زائدة ، دخولها كخروجها وهي مثل الباء في قوله تعالى : ( وهزي إليك بجذع النخلة ) . قال في ( اللسان : هز ) الهز : تحريك الشيء ، كما تهز القناة ، فتضطرب وتهز . وهزه يهزه هزا وهز به ، وفي التنزيل العزيز : ( وهزي إليك بجذع النخلة ) أي حركي . والعرب تقول : هزه وهز به إذا حركه . ومثله : خذ الخطام ، وخذ بالخطام ، وتعلق زيدا وتعلق بزيد . قال ابن سيده : وإنما عداه بالباء ، لأن في هزي معنى جري ، ( أمر من الجر ) .

(18/179)

واختلف القراء في قراءة قوله( تَسَّاقَطُ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة( تَسَّاقَطُ) بالتاء من تساقط وتشديد السين، بمعنى: تتساقط عليك النخلة رطبًا جنيا، ثم تُدغم إحدى التاءين في الأخرى فتشدّد (1) وكأن الذين قرءوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلى: وهزِّي إليك بجذع النخلة تساقط النخلة عليك رطبًا : وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة( تَساقَطُ ) بالتاء وتخفيف السين، ووجه معنى الكلام، إلى مثل ما وجه إليه مشدّدوها، غير أنهم خالفوهم في القراءة. ورُوي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك( يُساقِط) بالياء.

حدثني بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقرؤه كذلك، وكأنه وجه معنى الكلام إلى: وهزِّي إليك بجذع النخلة يتساقط الجذع عليك رطبًا جنيا.

ورُوي عن أبي نهيك أنه كان يقرؤه( تُسْقِطُ ) بضمّ التاء وإسقاط الألف.

حدثنا بذلك ابن حميد ، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت أبا نَهِيك يقرؤه كذلك ، وكأنه وجه معنى الكلام إلى: تسقط النخلة عليك رطبًا جنيا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن هذه القراءات الثلاث، أعني(تَسَّاقَطُ) بالتاء وتشديد السين، وبالتاء وتخفيف السين، وبالياء وتشديد السين، قراءات متقاربات المعاني، قد قرأ بكل واحدة منهن قرّاء أهل معرفة بالقرآن ، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب الصواب فيه، وذلك أن الجذع إذا تساقط رطبًا، وهو ثابت غير مقطوع، فقد تساقطت النخلة رطبًا، وإذا تساقطت النخلة رطبًا، فقد تساقطت النخلة بأجمعها، جذعها وغير جذعها، وذلك أن النخلة ما دامت قائمة على أصلها، فإنما هي جذع وجريد

__________

(1) عبارة الجلالين ، بتاءين قبلت الثانية سينا وأدغمت في السين .

(18/180)

وسعف ، فإذا قطعت صارت جذعا، فالجذع الذي أمرت مريم بهزّه لم يذكر أحد نعلمه أنه كان جذعًا مقطوعًا غير السديّ، وقد زعم أنه عاد بهزِّها إياه نخلة، فقد صار معناه ومعنى من قال: كان المتساقط. عليها رطبا نخلة واحدا، فتبين بذلك صحة ما قلنا.

وقوله:(جَنِيًّا) يعني مجنيا; وإنما كان أصله مفعولا فصرف إلى فعيل; والمجني: المأخوذ طريا، وكل ما أخذ من ثمرة، أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتني، ولذلك قيل: فلان يجتني الكمأة; ومنه قول ابن أخت جذيمة:

هَذَا جَنَايَ وخِيارُهُ فِيهِ... إذْ كُلُّ جانٍ يَدُهُ إلى فِيهْ (1)

__________

(1) البيت في ( اللسان : جنى ) قال : قال أبو عبيد : يضرب هذا مثلا للرجل يؤثر صاحبه بخيار ما عنده . قال أبو عبيد : وذكر ابن الكلبي أن المثل لعمرو بن عدي اللخي بن أخت جذيمة ، وهو أول من قاله ، وإن خذيمة نزل منزلا ، وأمر الناس أن يجتنوا له الكمأة، فكان بعضهم يستأثر بخير ما يجد ، ويأكل طيبها ، وعمرو يأتيه بخير ما يجد ، ولا يأكل منها شيئا ، فلما أتى خاله جذيمة قال : هذا . . . البيت والجنى : ما يجنى من الشجر . ويروى * هذا جناي وهجانه فيه *

أي خياره . أه . وقال : وجنيت الثمر أجنيتها واجتنيتها : بمعنى . ابن سيده : جني الثمرة ونحوها وتجناها ، كل ذلك : تناولها من شجرتها وعلى هذا استشهد المؤلف بالبيت .

=============

 

مريم - تفسير الدر المنثور

الْآيَة 12 - 15

(5/484)

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

أخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {يَا يحيى خُذ الْكتاب بِقُوَّة} قَالَ: بجد {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} قَالَ: الْفَهم

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله: {خُذ الْكتاب بِقُوَّة} يَقُول: اعْمَلْ بِمَا فِيهِ من فَرَائِضه

وَأخرج ابْن الْمُنْذر عَن مَالك بن دِينَار قَالَ: سَأَلنَا عِكْرِمَة عَن قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} قَالَ: اللب

وَأخرج أَبُو نعيم وَابْن مرْدَوَيْه والديلمي عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} قَالَ: أعطي الْفَهم وَالْعِبَادَة وَهُوَ ابْن سبع سِنِين

وَأخرج عبد الله بن أَحْمد فِي زَوَائِد الزّهْد وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} قَالَ: وَهُوَ ابْن ثَلَاث سِنِين

وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم والخرائطي وَابْن عَسَاكِر عَن معمر بن رَاشد فِي قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} قَالَ: بَلغنِي أَن الصّبيان قَالُوا

(5/484)

ليحيى بن زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نلعب قَالَ: مَا للعب خلقت

فَهُوَ قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا}

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد من طَرِيق معمر عَن قَتَادَة قَالَ: جَاءَ الغلمان إِلَى يحيى بن زَكَرِيَّا فَقَالَ: مَا للعب خلقت

قَالَ: فَأنْزل الله {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا}

وَأخرجه ابْن عَسَاكِر عَن معَاذ بن جبل مَرْفُوعا

وَأخرج الْحَاكِم فِي تَارِيخه من طَرِيق سهل بن سعيد عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - قَالَ الغلمان ليحيى بن زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نلعب فَقَالَ يحيى: مَا للعب خلقنَا اذْهَبُوا نصلي

فَهُوَ قَول الله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا}

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قَرَأَ الْقُرْآن قبل أَن يَحْتَلِم فقد أُوتِيَ الحكم صَبيا

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَالْفِرْيَابِي وَابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم والزجاجي فِي أَمَالِيهِ وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات من طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَحَنَانًا} قَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ إِلَّا أَنِّي أَظُنهُ تعطف الله على خلقه بِالرَّحْمَةِ

وَأخرج ابْن جرير عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: سَأَلت ابْن عَبَّاس عَن قَوْله: {وَحَنَانًا} فَلم يجر فِيهَا شَيْئا

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَحَنَانًا من لدنا} قَالَ: رَحْمَة من عندنَا

وَأخرج الطستي عَن ابْن عَبَّاس أَن نَافِع بن الْأَزْرَق قَالَ لَهُ أَخْبرنِي عَن قَوْله: {وَحَنَانًا من لدنا} قَالَ: رَحْمَة من عندنَا

قَالَ: وَهل تعرف الْعَرَب ذَلِك قَالَ: نعم

أما سَمِعت طرفَة بن العَبْد الْبكْرِيّ وَهُوَ يَقُول: أَبَا مُنْذر أفنيت فَاسْتَبق بَعْضنَا حنانيك بعض لشر أَهْون من بعض وَأخرج عبد بن حميد عَن مُجَاهِد {وَحَنَانًا من لدنا} قَالَ: تعطفاً من ربه عَلَيْهِ

(5/485)

وَأخرج عبد بن حميد عَن الْحسن {وَحَنَانًا من لدنا} قَالَ: الرَّحْمَة

وَأخرج عبد بن حميد عَن الرّبيع {وَحَنَانًا من لدنا} قَالَ: {رَحْمَة من عندنَا} لَا يملك عطاءها أحد غَيرنَا

وَأخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ عَن سعيد الْجُهَنِيّ فِي قَوْله: {وَحَنَانًا من لدنا} قَالَ: الحنان المحبب

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد عَن قَتَادَة {وَحَنَانًا من لدنا} قَالَ: رَحْمَة من عندنَا {وَزَكَاة} قَالَ صَدَقَة

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَزَكَاة} قَالَ: بركَة

وَفِي قَوْله: {وَكَانَ تقياً} قَالَ: طهر فَلم يعْمل بذنب

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه سُئِلَ عَن قَوْله: {وَكَانَ تقياً} قَالَ: لم يَعْصِهِ وَلم يهم بهَا

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَأحمد فِي الزّهْد وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله: {وَلم يكن جباراً عصياً} قَالَ: كَانَ سعيد بن الْمسيب يَقُول: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من أحد يلقى الله يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا ذَا ذَنْب إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا قَالَ قَتَادَة: وَقَالَ الْحسن: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أذْنب يحيى بن زَكَرِيَّا قطّ وَلَا هم بِامْرَأَة

وَأخرج اسحق بن بشر وَابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {ذكر رَحْمَة رَبك عَبده زَكَرِيَّا} قَالَ: ذكره الله برحمته مِنْهُ حَيْثُ دَعَاهُ {إِذْ نَادَى ربه نِدَاء خفِيا} يَعْنِي دَعَا ربه دُعَاء خفِيا فِي اللَّيْل لَا يسمع أحدا أَو يسمع أُذُنَيْهِ

فَقَالَ: {رب إِنِّي وَهن الْعظم مني} يَعْنِي ضعف الْعظم مني {واشتعل الرَّأْس شيباً} يَعْنِي غلب الْبيَاض السوَاد {وَلم أكن بدعائك رب شقياً} أَي لم أدعك قطّ فخيبتني فِيمَا مضى فتخيبني فِيمَا بَقِي فَكَمَا لم أشق بدعائي فِيمَا مضى فَكَذَلِك لَا أَشْقَى فِيمَا بَقِي عوّدتني الْإِجَابَة من نَفسك

{وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي} فَلم يبْق لي وَارِث وَخفت الْعصبَة أَن ترثني {فَهَب لي من لَدُنْك وليا} يَعْنِي من عنْدك وليا {يَرِثنِي} يَعْنِي يَرث محرابي وعصاي وبرنس العربان وقلمي الَّذِي أكتب بِهِ الْوَحْي {وَيَرِث من آل يَعْقُوب} النبوّة {واجعله رب رَضِيا} يَعْنِي مرضياً عنْدك زاكياً بِالْعَمَلِ فَاسْتَجَاب الله لَهُ فَكَانَ قد دخل فِي

(5/486)

السن هُوَ وَامْرَأَته

فَبينا هُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب حَيْثُ يذبح القربان إِذا هُوَ بِرَجُل عَلَيْهِ الْبيَاض حياله وَهُوَ جِبْرِيل فَقَالَ: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى} هُوَ اسْم من أَسمَاء الله اشتق من حَيّ سَمَّاهُ الله فَوق عَرْشه {لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} لم يَجْعَل لزكريا من قبل يحيى ولد لَهُ {هَل تعلم لَهُ سميا} يَعْنِي هَل تعلم لَهُ ولدا وَلم يكن لزكريا قبله ولد وَلم يكن قبل يحيى أحد يُسمى يحيى قَالَ: وَكَانَ اسْمه حَيا فَلَمَّا وهب الله لسارة إِسْحَق فَكَانَ اسْمهَا يسارة ويسارة من النِّسَاء الَّتِي لَا تَلد وَسَارة من النِّسَاء: الطالقة الرَّحِم الَّتِي تَلد فسماها الله سارة وحول الْيَاء من سارة إِلَى حَيّ فَسَماهُ يحيى فَقَالَ: {رب أَنى يكون لي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتي عاقراً} خَافَ أَنَّهَا لَا تَلد

قَالَ: {كَذَلِك قَالَ رَبك} يَا زَكَرِيَّا {هُوَ عليّ هَين وَقد خلقتك من قبل} أَن أهب لَك يحيى {وَلم تَكُ شَيْئا} وَكَذَلِكَ أقدر على أَن أخلق من الْكَبِير والعاقر

وَذَلِكَ أَن إِبْلِيس أَتَاهُ فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا دعاؤك كَانَ خفِيا فأجبت بِصَوْت رفيع وبشرت بِصَوْت عَال ذَلِك صَوت من الشَّيْطَان لَيْسَ من جِبْرِيل وَلَا من رَبك

{قَالَ رب اجْعَل لي آيَة} حَتَّى أعرف أَن هَذِه الْبُشْرَى مِنْك

{قَالَ آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال} يَعْنِي صَحِيحا من غير خرس

فَحَاضَت زَوجته فَلَمَّا طهرت طَاف عَلَيْهَا فاستحملت فَأصْبح لَا يتَكَلَّم وَكَانَ إِذا أَرَادَ التَّسْبِيح وَالصَّلَاة أطلق الله لِسَانه فَإِذا أَرَادَ أَن يكلم النَّاس اعتقل لِسَانه فَلَا يَسْتَطِيع أَن يتَكَلَّم وَكَانَت عُقُوبَة لَهُ لِأَنَّهُ بشر بِالْوَلَدِ فَقَالَ: {أَنى يكون لي غُلَام} فخاف أَن يكون الصَّوْت من غير الله {فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب} يَعْنِي من مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ

فَأوحى إِلَيْهِم بِكِتَاب كتبه بِيَدِهِ {أَن سبحوا بكرَة وعشياً} يَعْنِي صلوا صَلَاة الْغَدَاة وَالْعصر فولد لَهُ يحيى على مَا بشره الله نَبيا تقياً صَالحا {يَا يحيى خُذ الْكتاب بِقُوَّة} يَعْنِي بجد وَطَاعَة واجتهاد وشكر وبالعمل بِمَا فِيهِ {وَآتَيْنَاهُ الحكم} يَعْنِي الْفَهم {صَبيا} صَغِيرا وَذَلِكَ أَنه مر على صبية أتراب لَهُ يَلْعَبُونَ على شاطئ نهر بطين وبماء فَقَالُوا: يَا يحيى تعالَ حَتَّى نلعب فَقَالَ: سُبْحَانَ الله أَو للعب خلقنَا {وَحَنَانًا} يَعْنِي وَرَحْمَة {منا} وعطفاً {وَزَكَاة} يَعْنِي وَصدقَة على زَكَرِيَّا {وَكَانَ تقياً} يَعْنِي مطهراً مُطيعًا لله {وَبرا بِوَالِديهِ} كَانَ لَا يَعْصِيهمَا {وَلم يكن جباراً} يَعْنِي قتال النَّفس الَّتِي حرم الله قَتلهَا {عصياً} يَعْنِي عَاصِيا لرَبه

{وَسَلام عَلَيْهِ} يَعْنِي حِين سلم الله عَلَيْهِ {يَوْم ولد وَيَوْم يَمُوت وَيَوْم يبْعَث حَيا}

(5/487)

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم قَالَ: قَالَ مَالك: بَلغنِي أَن عِيسَى ابْن مَرْيَم وَيحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام ابْنا خَالَة وَكَانَ حملهما جَمِيعًا مَعًا فبلغني أَن أم يحيى قَالَت لِمَرْيَم: إِنِّي أرى مَا فِي بَطْني يسْجد لما فِي بَطْنك

قَالَ مَالك: أرى ذَلِك لتفضيل الله عِيسَى لِأَن الله جعله يحيي الْمَوْتَى وَيُبرئ الأكمه والأبرص وَلم يكن ليحيى إِلَّا عشب الأَرْض وَإِن كَانَ ليبكي من خشيَة الله حَتَّى لَو كَانَ على خُذْهُ القار لأذابه وَلَقَد كَانَ الدمع اتخذ فِي وَجهه مجْرى

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَابْن خُزَيْمَة وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَاد وَأَبُو نصر السجْزِي فِي الإِبانة وَالطَّبَرَانِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كُنَّا فِي حَلقَة فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نتذاكر فَضَائِل الْأَنْبِيَاء فَذَكرنَا نوحًا وَطول عِبَادَته وَذكرنَا إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى فَخرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا تذاكرون بَيْنكُم فَذَكرنَا لَهُ فَقَالَ: أما إِنَّه لَا يَنْبَغِي أَن يكون أحد خيرا من يحيى بن زَكَرِيَّا أما سَمِعْتُمْ الله كَيفَ وَصفه فِي الْقُرْآن {يَا يحيى خُذ الْكتاب بِقُوَّة} إِلَى قَوْله: {وَكَانَ تقياً} لم يعْمل سَيِّئَة قطّ وَلم يهم بهَا

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن ابْن شهَاب: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج على أَصْحَابه يَوْمًا وهم يتذاكرون فضل الْأَنْبِيَاء فَقَالَ قَائِل: مُوسَى كَلمه الله تكليماً وَقَالَ قَائِل: عِيسَى روح الله وكلمته وَقَالَ قَائِل: إِبْرَاهِيم خَلِيل الله فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَأَيْنَ الشَّهِيد ابْن الشَّهِيد يلبس الْوَبر وَيَأْكُل الشّجر مَخَافَة الذَّنب يحيى بن زَكَرِيَّا

وَأخرج أَحْمد والحكيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول وَالْحَاكِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: مَا من أحد من ولد آدم إِلَّا وَقد أَخطَأ أَو هم بخطيئة إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا لم يهم بخطيئة وَلم يعملها

وَأخرج ابْن إِسْحَق وَابْن أبي حَاتِم وَالْحَاكِم عَن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل بني آدم يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة وَله ذَنْب إِلَّا مَا كَانَ من يحيى بن زَكَرِيَّا

وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد وَابْن عَسَاكِر عَن يحيى بن جعدة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَقُول: أَنا خير من يحيى بن زَكَرِيَّا مَا هم بخطيئة وَلَا حاكت فِي صَدره امْرَأَة

(5/488)

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن ضَمرَة بن حبيب قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا بعلت النِّسَاء عَن ولد يَنْبَغِي لَهُ أَن يَقُول: أَنا أفضل من يحيى بن زَكَرِيَّا لم يحك فِي صَدره خَطِيئَة وَلم يهم بهَا

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة رَفعه قَالَ: مَا ارتكض فِي النِّسَاء من جَنِين يَنْبَغِي لَهُ أَن يَقُول: أَنا أفضل من يحيى بن زَكَرِيَّا لِأَنَّهُ لم يحك فِي صَدره خَطِيئَة وَلم يهم بهَا

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَأحمد فِي الزّهْد وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن قَالَ: إِن عِيسَى وَيحيى التقيا فَقَالَ يحيى لعيسى: اسْتغْفر لي أَنْت خير مني فَقَالَ لَهُ عِيسَى: بل أَنْت خير مني سلم الله عَلَيْك وسلمت أَنا على نَفسِي فَعرف وَالله فَضلهَا

وَأخرج أَحْمد وَأَبُو يعلى وَابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم والضياء عَن أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْحسن وَالْحُسَيْن سيداً شباب أهل الْجنَّة - إِلَّا ابْني الْخَالَة - عِيسَى ابْن مَرْيَم وَيحيى بن زَكَرِيَّا

وَأخرج الْحَاكِم من طَرِيق سَمُرَة عَن كَعْب قَالَ: كَانَ يحيى لَا يقرب النِّسَاء وَلَا يشتهين وَكَانَ شَابًّا حسن الْوَجْه لين الْجنَاح قَلِيل الشّعْر قصير الْأَصَابِع طَوِيل الْأنف أقرن الحاجبين رَقِيق الصَّوْت كثير الْعِبَادَة قَوِيا فِي الطَّاعَة

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب وَضَعفه وَابْن عَسَاكِر عَن أبي بن كَعْب: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن من هوان الدُّنْيَا على الله أَن يحيى بن زَكَرِيَّا قتلته امْرَأَة

وَأخرج الْحَاكِم عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: من أنكر الْبلَاء فَإِنِّي لَا أنكرهُ لقد ذكر لي أَنما قتل يحيى بن زَكَرِيَّا فِي زَانِيَة

وَأخرج إِسْحَق بن بشر وَابْن عَسَاكِر من طَرِيقه: أَنا يَعْقُوب الْكُوفِي عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ رأى زَكَرِيَّا فِي السَّمَاء فَسلم عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا يحيى خبرني عَن قَتلك كَيفَ كَانَ وَلم قَتلك بَنو إِسْرَائِيل قَالَ: يَا مُحَمَّد إِن يحيى كَانَ خير أهل زَمَانه وأجملهم وأصبحهم وَجها وَكَانَ كَمَا قَالَ الله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} وَكَانَ لَا يحْتَاج إِلَى النِّسَاء فهويته امْرَأَة ملك بني إِسْرَائِيل وَكَانَت بغية فَأرْسلت إِلَيْهِ وَعَصَمَهُ الله وَامْتنع يحيى وأبى عَلَيْهَا وأجمعت على قتل يحيى وَلَهُم عيد يَجْتَمعُونَ فِي كل عَام وَكَانَت

(5/489)

سنة الْملك أَن يوعد وَلَا يخلف وَلَا يكذب فَخرج الْملك للعيد فَقَامَتْ امْرَأَته فشيعته وَكَانَ بهَا معجباً وَلم تكن تسأله فِيمَا مضى فَلَمَّا أَن شيعته قَالَ الْملك: سليني فَمَا تسأليني شَيْئا إِلَّا أَعطيتك قَالَت: أُرِيد دم يحيى بن زَكَرِيَّا

قَالَ لَهَا: سليني غَيره

قَالَت: هُوَ ذَاك

قَالَ: هُوَ لَك فَبعث جلاوزتها إِلَى يحيى وَهُوَ فِي محرابه يُصَلِّي وَأَنا إِلَى جَانِبه أُصَلِّي فذبح فِي طست وَحمل رَأسه وَدَمه إِلَيْهَا

فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَمَا بلغ من صبرك قَالَ: مَا انفتلت من صَلَاتي فَلَمَّا حمل رَأسه إِلَيْهَا وَوضع بَين يَديهَا - فَلَمَّا أَمْسوا - خسف الله بِالْملكِ وَأهل بَيته وحشمه فَلَمَّا أَصْبحُوا قَالَت بَنو إِسْرَائِيل: لقد غضب إِلَه زَكَرِيَّا لزكريا فتعالوا حَتَّى نغضب لملكنا فنقتل زَكَرِيَّا فَخَرجُوا فِي طلبي ليقتلوني فَجَاءَنِي النذير فهربت مِنْهُم وإبليس أمامهم يدلهم عَليّ: فَلَمَّا أَن تخوفت أَن لَا أعجزهم عرضت لي شَجَرَة فنادتني فَقَالَت: إِلَيّ إِلَيّ وانصدعت لي فَدخلت فِيهَا وَجَاء إِبْلِيس حَتَّى أَخذ بِطرف رِدَائي والتأمت الشَّجَرَة وَبَقِي طرف رِدَائي خَارِجا من الشَّجَرَة وَجَاء بَنو إِسْرَائِيل فَقَالَ إِبْلِيس: أما رَأَيْتُمُوهُ دخل هَذِه الشَّجَرَة هَذَا طرف رِدَائه دخل بِهِ الشَّجَرَة فَقَالُوا: نحرق هَذِه الشَّجَرَة فَقَالَ إِبْلِيس: شقوه بِالْمِنْشَارِ شقاً

قَالَ: فشققت مَعَ الشَّجَرَة بِالْمِنْشَارِ

فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا زَكَرِيَّا هَل وجدت لَهُ مساً أَو وَجعاً قَالَ: لَا إِنَّمَا وجدت تِلْكَ الشَّجَرَة جعل الله روحي فِيهَا

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن وهب بن مُنَبّه أَن زَكَرِيَّا هرب وَدخل جَوف شَجَرَة فَوضع على الشَّجَرَة الْمِنْشَار وَقطع بنصفين فَلَمَّا وَقع الْمِنْشَار على ظَهره أنَّ فَأوحى الله يَا زَكَرِيَّا إِمَّا أَن تكف عَن أنينك أَو أقلب الأَرْض وَمن عَلَيْهَا فَسكت حَتَّى قطع نِصْفَيْنِ

وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد وَابْن عَسَاكِر عَن يزِيد بن ميسرَة قَالَ: كَانَ طَعَام يحيى بن زَكَرِيَّا الْجَرَاد وَقُلُوب الشّجر وَكَانَ يَقُول: من أنعم مِنْك يَا يحيى طَعَامك الْجَرَاد وَقُلُوب الشّجر

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَأحمد فِي الزّهْد وَابْن عَسَاكِر عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد فِي الزّهْد وَأَبُو نعيم عَن مُجَاهِد قَالَ: كَانَ طعم يحيى بن زَكَرِيَّا العشب وَإِن كَانَ ليبكي من خشيَة الله حَتَّى لَو كَانَ القار على عينه لأحرقه وَلَقَد كَانَت الدُّمُوع اتَّخذت مجْرى فِي وَجهه

(5/490)

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن يُونُس بن ميسرَة قَالَ: مر يحيى بن زَكَرِيَّا على دِينَار فَقَالَ: قبح هَذَا الْوَجْه يَا دِينَار يَا عبد العبيد ومعبد الْأَحْرَار

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن مُجَاهِد قَالَ: سَأَلَ يحيى بن زَكَرِيَّا ربه قَالَ: رب اجْعَلنِي أسلم على أَلْسِنَة النَّاس وَلَا يَقُولُونَ فيّ إِلَّا خيرا

فَأوحى الله إِلَيْهِ: يَا يحيى لم أجعَل هَذَا لي فَكيف أجعله لَك

وَأخرج أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب وَابْن عَسَاكِر عَن ثَابت الْبنانِيّ قَالَ: بلغنَا أَن إِبْلِيس ظهر ليحيى بن زَكَرِيَّا فَرَأى عَلَيْهِ معاليق من كل شَيْء فَقَالَ لَهُ يحيى: مَا هَذِه قَالَ: هَذِه الشَّهَوَات الَّتِي أُصِيب بهَا بَنو آدم

قَالَ لَهُ يحيى: هَل لي فِيهَا شَيْء قَالَ: لَا

قَالَ: فَهَل تصيب مني شَيْئا قَالَ: رُبمَا شبعت فثقلناك عَن الصَّلَاة وَالذكر

قَالَ: هَل غَيره قَالَ: لَا

قَالَ: لَا جرم لَا أشْبع أبدا

وَأخرج ابْن عَسَاكِر من طَرِيق عَليّ بن زيد بن جدعَان عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن الْحُسَيْن بن عَليّ قَالَ: كَانَ ملك مَاتَ وَترك امْرَأَته وَابْنَته فورث ملكه أَخُوهُ فَأَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة أَخِيه فَاسْتَشَارَ يحيى بن زَكَرِيَّا فِي ذَلِك وَكَانَت الْمُلُوك فِي ذَلِك الزَّمَان يعلمُونَ بِأَمْر الْأَنْبِيَاء فَقَالَ لَهُ: لَا تتزوّجها فَإِنَّهَا بغي فَبلغ الْمَرْأَة ذَلِك فَقَالَت: ليقْتلن يحيى أَو ليخرجن من ملكه

فعمدت إِلَى ابْنَتهَا فصيغتها ثمَّ قَالَت اذهبي إِلَى عمك عِنْد الْمَلأ فَإِنَّهُ إِذا رآك سيدعوك ويجلسك فِي حجره وَيَقُول: سليني مَا شِئْت فَإنَّك لن تسأليني شَيْئا إِلَّا أَعطيتك فَإِذا قَالَ لَك قولي: فَقولِي لَا أَسأَلك شَيْئا إِلَّا رَأس يحيى وَكَانَت الْمُلُوك إِذا تكلم أحدهم بِشَيْء على رُؤُوس الْمَلأ ثمَّ لم يمض لَهُ نزع من ملكه

فَفعلت ذَلِك فَجعل يَأْتِيهِ الْمَوْت من قَتله يحيى وَجعل يَأْتِيهِ الْمَوْت من خُرُوجه من ملكه فَاخْتَارَ ملكه فَقتله فساخت بأمها الأَرْض

قَالَ ابْن جدعَان: فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث ابْن الْمسيب فَقَالَ: أما أخْبرك كَيفَ كَانَ قتل زَكَرِيَّا قلت: لَا

قَالَ: إِن زَكَرِيَّا حَيْثُ قتل ابْنه انْطلق هَارِبا مِنْهُم واتبعوه حَتَّى أَتَى على شَجَرَة ذَات سَاق فدعته إِلَيْهَا فانطوت عَلَيْهِ وَبقيت من ثَوْبه هدبة تلعبها الرّيح فَانْطَلقُوا إِلَى الشَّجَرَة فَلم يَجدوا أَثَره عِنْدهَا فنظروا تِلْكَ الهدبة فدعوا الْمِنْشَار فَقطعُوا الشَّجَرَة فقطعوه فِيهَا

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَمْرو قَالَ: الَّتِي قتلت يحيى بن زَكَرِيَّا امْرَأَة

(5/491)

ورثت الْملك عَن آبائها فَأتيت بِرَأْس يحيى وَهِي على سريرها فَقَالَ للْأَرْض خذيها فأخذتها وسريرها فَذهب بهَا

وَأخرج إِسْحَق بن بشر وَابْن عَسَاكِر عَن عبد الله بن الزبير: أَن ملكا أَرَادَ أَن يتَزَوَّج ابْنة أَخِيه فاستفتى يحيى بن زَكَرِيَّا قَالَ: لَا تحل لَك

فَسَأَلت قَتله فَبعث إِلَيْهِ - وَهُوَ فِي محرابه يُصَلِّي - فذبحوه ثمَّ حزوا رَأسه وَأتوا بِهِ الْملك فَجعل الرَّأْس يَقُول: لَا يحل لَك مَا تُرِيدُ

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن ابْن شَوْذَب قَالَ: قَالَ يحيى بن زَكَرِيَّا للَّذي جَاءَ يحز رَأسه: أما تعلم أَنِّي نَبِي قَالَ: بلَى وَلَكِنِّي مَأْمُور

وَأخرج الْحَاكِم وَابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: أوحى الله إِلَى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي قتلت بِيَحْيَى بن زَكَرِيَّا سبعين ألفا وَإِنِّي قَاتل بِابْن ابْنَتك سبيعن ألفا وَسبعين ألفا

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن شمر بن عَطِيَّة قَالَ: قتل على الصَّخْرَة الَّتِي فِي بَيت الْمُقَدّس سَبْعُونَ نَبيا مِنْهُم يحيى بن زَكَرِيَّا

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن قُرَّة قَالَ: مَا بَكت السَّمَاء على أحد إِلَّا على يحيى بن زَكَرِيَّا وَالْحُسَيْن بن عَليّ وحمرتها بكاؤها

وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد عَن خَالِد بن ثَابت الربعِي قَالَ: لما قتل فجرة بني إِسْرَائِيل - يحيى بن زَكَرِيَّا أوحى الله إِلَى نَبِي من أَنْبِيَائهمْ: أَن قل لبني إِسْرَائِيل إِلَى مَتى تجترئون على أَن تعصوا أَمْرِي وتقتلوا رُسُلِي وَحَتَّى مَتى أضمكم فِي كنفي كَمَا تضم الدَّجَاجَة أَوْلَادهَا فِي كنفها فتجترئون عَليّ اتَّقوا لَا أؤخذاكم بِكُل دم كَانَ بَين ابْني آدم وَيحيى بن زَكَرِيَّا وَاتَّقوا أَن أصرف عَنْكُم وَجْهي فَإِنِّي إِن صرفت عَنْكُم وَجْهي لَا أقبل عَلَيْكُم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

وَأخرج أَحْمد عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: لما قتل يحيى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: بعض أَصْحَابه لصَاحب لَهُ: ابْعَثْ إِلَيّ بقميص نَبِي الله يحيى أشمه فَبعث بِهِ إِلَيْهِ فَإِذا سداه وَلحمَته لِيف

وَأخرج الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول عَن يُونُس بن عبيد قَالَ: بلغنَا أَنه كَانَ رجل يجور على مَمْلَكَته ويعدي عَلَيْهِم فائتمروا بقتْله فَقَالُوا: نَبِي الله زَكَرِيَّا بَين أظهرنَا فَلَو أتيناه فَأتوا منزله فَإِذا فتاة جميلَة رائعة قد أشرق لَهَا الْبَيْت حسنا

(5/492)

فَقَالُوا: من أنتِ قَالَت: امْرَأَة زَكَرِيَّا

فَقَالُوا فِيمَا بَينهم: كُنَّا نرى نَبِي الله لَا يُرِيد الدُّنْيَا فَإِذا هُوَ عِنْده امْرَأَة من أجمل النِّسَاء ثمَّ إِنَّهُم رَأَوْهُ فِي عمل عِنْد قوم وَيعْمل لَهُم حَتَّى إِذا حضر غداؤه قرب رغيفين فَأكل وَلم يدعهم ثمَّ قَامَ فَعمل بَقِيَّة عمله ثمَّ علق خفيه على عُنُقه والمسحاة والكساء قَالَ: مَا حَاجَتكُمْ قَالُوا: قد جِئْنَا لأمر وَلَقَد كَاد يغلبنا مَا رَأينَا على مَا جِئْنَا لَهُ

قَالَ: فهاتوا قَالُوا: أَتَيْنَا مَنْزِلك فَإِذا امْرَأَة جميلَة رائعة وَكُنَّا نرى نَبِي الله لَا يُرِيد الدُّنْيَا فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا تزوجت امْرَأَة جميلَة رائعة لأكف بهَا بَصرِي وأحفظ بهَا فَرجي فَخرج نَبِي الله مِمَّا قَالُوا

قَالُوا: ورأيناك قدمت رغيفين فَأكلت وَلم تدعنا قَالَ: إِن الْقَوْم استأجروني على عمل فَخَشِيت أَن أَضْعَف عَن عَمَلهم وَلَو أكلْتُم معي لم يكفني وَلم يكفكم فَخرج نَبِي الله مِمَّا قَالُوا

قَالُوا: ورأيناك وضعت خفيك على عُنُقك والمسحاة والكساء

فَقَالَ: إِن هَذِه الأَرْض جَدِيدَة وكرهت أَن أنقل تُرَاب هَذِه فِي هَذِه فَخرج نَبِي الله مِمَّا قَالُوا

قَالُوا: إِن هَذَا الْملك يجور علينا ويظلمنا وَقد ائتمرنا لقتاله

قَالَ: أَي قوم لَا تَفعلُوا فَإِن إِزَالَة جبل من أَصله أَهْون من إِزَالَة ملك مُؤَجل

وَالله أعلم

الْآيَة 16 - 24

(5/493)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)

أخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله: {إِذْ انتبذت} أَي انْفَرَدت {من أَهلهَا مَكَانا شرقياً} قَالَ: قبل الْمشرق شاسعاً متنحياً

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {انتبذت من أَهلهَا مَكَانا شرقياً} قَالَ: مَكَانا أظلتها الشَّمْس أَن يَرَاهَا أحد مِنْهُم

وَأخرج الْفرْيَابِيّ وَابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِنَّمَا اتَّخذت النَّصَارَى الْمشرق قبْلَة لِأَن مَرْيَم اتَّخذت من أَهلهَا مَكَانا شرقيا فاتخذا ميلاده قبْلَة وَإِنَّمَا سجدت الْيَهُود على حرف حِين نتق فَوْقهم الْجَبَل فَجعلُوا يتخوفون وهم ينظرُونَ إِلَيْهِ يتخوفون أَن يَقع عَلَيْهِم فسجدوا سَجْدَة رضيها الله فاتخذوها سنة

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِن أهل الْكتاب كتب عَلَيْهِم الصَّلَاة إِلَى الْبَيْت وَالْحج إِلَيْهِ وَمَا صرفهم عَنهُ إِلَّا قَول رَبك: {إِذْ انتبذت من أَهلهَا مَكَانا شرقياً} قَالَ: خرجت مِنْهُم مَكَانا شرقياً فصلوا قبل مطلع الشَّمْس

وَأخرج ابْن عَسَاكِر من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لما بلغت مَرْيَم فَإِذا هِيَ فِي بَيتهَا مُنْفَصِلَة إِذْ دخل عَلَيْهَا رجل بِغَيْر إِذن فَخَشِيت أَن يكون دخل عَلَيْهَا ليغتالها فَقَالَت: {إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقياً} قَالَ: {إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكياً} قَالَت: {أَنى يكون لي غُلَام وَلم يمسسني بشر وَلم أك بغياً} قَالَ: {كَذَلِك قَالَ رَبك} فَجعل جِبْرِيل يردد ذَلِك عَلَيْهَا وَتقول: {أَنى يكون لي غُلَام} وتغفلها جِبْرِيل فَنفخ فِي جيب درعها ونهض عَنْهَا وَاسْتمرّ بهَا حملهَا فَقَالَت: إِن خرجت نَحْو الْمغرب فالقوم يصلونَ نَحْو الْمغرب وَلَكِن أخرج نَحْو الْمشرق حَيْثُ لَا يراني أحد فَخرجت نَحْو الْمشرق فَبَيْنَمَا هِيَ تمشي إِذْ جاءها الْمَخَاض فَنَظَرت هَل تَجِد شَيْئا تستر بِهِ فَلم تَرَ إِلَّا جذع النَّخْلَة فَقَالَ: أستتر بِهَذَا الْجذع من النَّاس

وَكَانَ تَحت الْجذع نهر يجْرِي فانضمت إِلَى النَّخْلَة فَلَمَّا وَضعته خر كل شَيْء يعبد من دون الله فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا سَاجِدا لوجهه

وفزع إِبْلِيس فَخرج فَصَعدَ فَلم ير شَيْئا يُنكره وأتى الْمشرق فَلم ير شَيْئا يُنكره وَجعل لَا يصبر فَأتى الْمغرب لينْظر فَلم ير شَيْئا يُنكره

فَبينا هُوَ يطوف إِذْ مر بالنخلة فَإِذا هُوَ بِامْرَأَة مَعهَا

(5/494)

غُلَام قد وَلدته وَإِذا بِالْمَلَائِكَةِ قد أَحدقُوا بهَا وبابنها وبالنخلة فَقَالَ: هَهُنَا حدث الْأَمر فَمَال إِلَيْهِم فَقَالَ: أَي شَيْء هَذَا الَّذِي حدث فكلمته الْمَلَائِكَة فَقَالُوا: نَبِي ولد بِغَيْر ذكر

قَالَ: أما وَالله لأضِلَّنَ بِهِ أَكثر الْعَالمين

أضلّ الْيَهُود فَكَفرُوا بِهِ وأضل النَّصَارَى فَقَالُوا: هُوَ ابْن الله

قَالَ: وناداها ملك من تحتهَا {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} قَالَ إِبْلِيس: مَا حملت أُنْثَى إِلَّا بعلمي وَلَا وَضعته إِلَّا على كفي لَيْسَ هَذَا الْغُلَام لم أعلم بِهِ حِين حَملته أمه وَلم أعلم بِهِ حِين وَضعته

وَأخرج الْحَاكِم وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وَابْن عَسَاكِر من طَرِيق السّديّ عَن أبي مَالك عَن ابْن عَبَّاس وَعَن مرّة بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَا: خرجت مَرْيَم إِلَى جَانب الْمِحْرَاب لحيض أَصَابَهَا فَلَمَّا طهرت إِذْ هِيَ بِرَجُل مَعهَا {فتمثل لَهَا بشرا} فَفَزِعت وَقَالَ: {إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقياً} فَخرجت وَعَلَيْهَا جلبابها فَأخذ بكمها فَنفخ فِي جيب درعها - وَكَانَ مشقوقاً من قدامها - فَدخلت النفخة صدرها فَحملت فأتتها أُخْتهَا امْرَأَة لَيْلَة تزورها فَلَمَّا فتحت لَهَا الْبَاب التزمتها فَقَالَت امْرَأَة زَكَرِيَّا: يَا مَرْيَم أشعرت أَنِّي حُبْلَى

قَالَت مَرْيَم: أشعرت أَيْضا أَنِّي حُبْلَى فَقَالَت امْرَأَة زَكَرِيَّا: فَإِنِّي وجدت مَا فِي بَطْني يسْجد للَّذي فِي بَطْنك

فَذَاك قَوْله: {مُصدقا بِكَلِمَة من الله} فَولدت امْرَأَة زَكَرِيَّا يحيى

وَلما بلغ أَن تضع مَرْيَم خرجت إِلَى جَانب الْمِحْرَاب {فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا} الْآيَة {فناداها} جِبْرِيل {من تحتهَا ألاَّ تحزني} فَلَمَّا وَلدته ذهب الشَّيْطَان فَأخْبر بني إِسْرَائِيل: إِن مَرْيَم ولدت فَلَمَّا أرادوها على الْكَلَام أشارت إِلَى عِيسَى فَتكلم فَقَالَ: {إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب} الْآيَات

فَلَمَّا ولد لم يبْق فِي الأَرْض صنم إِلَّا خرَّ لوجهه

وَأخرج اسحق بن بشر وَابْن عَسَاكِر من طَرِيق جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك رَضِي الله عَنهُ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم} يَقُول: قصّ ذكرهَا على الْيَهُود وَالنَّصَارَى ومشركي الْعَرَب {إِذْ انتبذت} يَعْنِي خرجت {من أَهلهَا مَكَانا شرقياً} قَالَ: كَانَت خرجت من بَيت الْمُقَدّس مِمَّا يَلِي الْمشرق {فاتخذت من دونهم حِجَابا} وَذَلِكَ أَن الله لما أَرَادَ أَن يبتدئها بالكرامة

(5/495)

ويبشرها بِعِيسَى وَكَانَت قد اغْتَسَلت من الْمَحِيض فتشرفت وَجعلت بَينهَا وَبَين قَومهَا {حِجَابا} يَعْنِي جبلا فَكَانَ الْجَبَل بَين مجلسها وَبَين بَيت الْمُقَدّس {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا} يَعْنِي جِبْرِيل {فتمثل لَهَا بشرا} فِي صُورَة الْآدَمِيّين {سوياً} يَعْنِي معتدلاً شَابًّا أَبيض الْوَجْه جَعدًا قططاً حِين اخضر شَاربه فَلَمَّا نظرت إِلَيْهِ قَائِما بَين يَديهَا

{قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقياً} وَذَلِكَ أَنَّهَا شبهته بشاب كَانَ يَرَاهَا وَيَمْشي مَعهَا يُقَال لَهُ يُوسُف من بني إِسْرَائِيل وَكَانَ من خدم بَيت الْمُقَدّس فخافت أَن يكون الشَّيْطَان قد استزه فَمن ثمَّ قَالَت: {إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقياً} يَعْنِي إِن كنت تخَاف الله

قَالَ جِبْرِيل: وَتَبَسم {إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكياً} يَعْنِي لله مُطيعًا من غير بشر

{قَالَت أَنى يكون لي غُلَام وَلم يمسسني بشر} يَعْنِي زوجا {وَلم أك بغياً} أَي مومسة

قَالَ جِبْرِيل: {كَذَلِك} يَعْنِي هَكَذَا {قَالَ رَبك هُوَ على هَين} يَعْنِي خلقه من غير بشر

{ولنجعله آيَة للنَّاس} يَعْنِي عِبْرَة وَالنَّاس هُنَا للْمُؤْمِنين خَاصَّة وَرَحْمَة لكمن صدق بِأَنَّهُ رَسُول الله

{وَكَانَ أمرا مقضياً} يَعْنِي كَائِنا أَن يكون من غير بشر

فَدَنَا جِبْرِيل فَنفخ فِي جيبها فَدخلت النفخة جوفها فاحتملت كَمَا تحمل النِّسَاء فِي الرَّحِم والمشيمة وَوَضَعته كَمَا تضع النِّسَاء فأصابها الْعَطش فَأجرى الله لَهَا جدولاً من الْأُرْدُن فَذَلِك قَوْله: {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} وَالسري الْجَدْوَل

وَحمل الْجذع من سَاعَته {رطبا جنياً} فناداها من تحتهَا جِبْرِيل {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة} لم يكن على رَأسهَا سقف وَكَانَت قد يَبِسَتْ مُنْذُ دهر طَوِيل فأحياها الله لَهَا وحملت فَذَلِك قَوْله: {تساقط عَلَيْك رطبا جنياً} يَعْنِي طرياً بغباره {فكلي} من الرطب {واشربي} من الْجَدْوَل {وقري عينا} بولدك

فَقَالَ: فَكيف بِي إِذا سَأَلُونِي من أَيْن هَذَا

قَالَ لَهَا جِبْرِيل: {فإمَّا تَرين} يَعْنِي فَإِذا رَأَيْت {من الْبشر أحدا} فأعنتك فِي أَمرك {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما} يَعْنِي صمتا فِي أَمر عِيسَى {فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسياً} فِي أمره

حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يعبر عني وَعَن نَفسه

قَالَ: ففقدوا مَرْيَم من مِحْرَابهَا فسألوا يُوسُف فَقَالَ: لَا علم لي بهَا وَأَن مِفْتَاح مِحْرَابهَا مَعَ زَكَرِيَّا

فطلبوا زَكَرِيَّا وفتحوا الْبَاب وَلَيْسَت فِيهِ فاتهموه فَأَخَذُوهُ ووبخوه فَقَالَ رجل: إِنِّي رَأَيْتهَا فِي مَوضِع كَذَا فَخَرجُوا فِي طلبَهَا فَسَمِعُوا صَوت عقيق فِي رَأس الْجذع الَّذِي مَرْيَم من تَحْتَهُ فَانْطَلقُوا إِلَيْهِ فَذَلِك قَول

(5/496)

الله: {فَأَتَت بِهِ قَومهَا تحمله} قَالَ ابْن عَبَّاس: لما رَأَتْ بِأَن قَومهَا قد أَقبلُوا إِلَيْهَا احتملت الْوَلَد إِلَيْهِم حَتَّى تلقتهم بِهِ فَذَلِك قَوْله: {فَأَتَت بِهِ قَومهَا تحمله} أَي لَا تخَاف رِيبَة وَلَا تُهْمَة فَلَمَّا نظرُوا إِلَيْهَا شقّ أَبوهَا مدرعته وَجعل التُّرَاب على رَأسه وإخوتها وَآل زَكَرِيَّا {قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فرياً} يَعْنِي عَظِيما {يَا أُخْت هَارُون مَا كَانَ أَبوك امْرأ سوء وَمَا كَانَت أمك بغياً} يَعْنِي زَانِيَة

فأنَّى أتيت هَذَا الْأَمر مَعَ هَذَا الْأَخ الصَّالح وَالْأَب الصَّالح وَالأُم الصَّالح {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} تَقول لَهُم: أَن كَلمُوهُ فَإِنَّهُ سيخبركم {إِنِّي نذرت للرحمن صوما} أَن لَا أكلمكم فِي أمره فَإِنَّهُ سيعبر عني فَيكون لكم آيَة وعبرة {قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} يَعْنِي من هُوَ فِي الْخرق طفْلا لَا ينْطق فأنطقه الله فَعبر عَن أمه وَكَانَ عِبْرَة لَهُم فَقَالَ: {إِنِّي عبد الله} فَلَمَّا أَن قَالَهَا ابْتَدَأَ يحيى وَهُوَ ابْن ثَلَاث سِنِين فَكَانَ أول من صدق بِهِ فَقَالَ: إِنِّي أشهد أَنَّك عبد الله وَرَسُوله

لتصديق قَول الله: {مُصدقا بِكَلِمَة من الله} فَقَالَ عِيسَى: {آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا} إِلَيْكُم {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْن مَا كنت} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْبركَة الَّتِي جعلهَا الله لعيسى أَنه كَانَ معلما مؤدباً حَيْثُمَا توجه {وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة} يَعْنِي وَأَمرَنِي {وَبرا بوالدتي} فَلَا أعقها

قَالَ ابْن عَبَّاس حِين قَالَ: {وَبرا بوالدتي} قَالَ: زَكَرِيَّا: الله أكبر فَأَخذه فضمه إِلَى صَدره فَعَلمُوا أَنه خلق من غير بشر {وَلم يَجْعَلنِي جباراً شقياً} يَعْنِي متعظماً سفاكاً للدم

{وَالسَّلَام عليّ يَوْم ولدت وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أبْعث حَيا} يَقُول الله: {ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَم قَول الْحق الَّذِي فِيهِ يمترون} يَعْنِي يَشكونَ بقوله للْيَهُود ثمَّ أمسك عِيسَى عَن الْكَلَام حَتَّى بلغ مبلغ النَّاس

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن أبي حَاتِم وَأَبُو نعيم عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَت مَرْيَم: كنت إِذا خلوت حَدثنِي عِيسَى وكلمني وَهُوَ فِي بَطْني وَإِذا كنت مَعَ النَّاس سبح فِي بَطْني وَكبر وَأَنا أسمع

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَالْفِرْيَابِي وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: حِين حملت وضعت

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ: بَلغنِي أَن مَرْيَم حملت لسبع أَو تسع سَاعَات وَوَضَعته من يَوْمهَا

(5/497)

وَأخرج ابْن عَسَاكِر من طَرِيق عِكْرِمَة رَضِي الله عَنهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: وضعت مَرْيَم لثمانية أشهر وَلذَلِك لَا يُولد مَوْلُود لثمانية أشهر إِلَّا مَاتَ لِئَلَّا تسب مَرْيَم بِعِيسَى

وَأخرج الْحَاكِم عَن زيد الْعَمى قَالَ: ولد عِيسَى يَوْمًا عَاشُورَاء

وَأخرج عبد الله بن أَحْمد فِي زَوَائِد الزّهْد عَن نوف قَالَ: كَانَت مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام فتاة بتولاً وَكَانَ زَكَرِيَّا زوج أُخْتهَا كفلها فَكَانَت مَعَه فَكَانَ يدْخل عَلَيْهِ يسلم عَلَيْهَا فتقرب إِلَيْهِ فَاكِهَة الشتَاء فِي الصَّيف وَفَاكِهَة الصَّيف فِي الشتَاء فَدخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا مرّة فقربت إِلَيْهِ بعض مَا كَانَت تقرب (قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا قَالَت هُوَ من عِنْد الله إِن الله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب هُنَالك دَعَا زَكَرِيَّا ربه) (آل عمرَان آيَة 38 - 39) إِلَى قَوْله: (آيتك أَن لَا تكلم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا زمرا) (آل عمرَان آيَة 42) {سوياً} صَحِيحا

{فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى إِلَيْهِم} كتب لَهُم {أَن سبحوا بكرَة وعشياً} قَالَ: فَبَيْنَمَا هِيَ جالسة فِي منزلهَا إِذا رجل قَائِم بَين يَديهَا قد هتك الْحجب فَلَمَّا أَن رَأَتْهُ قَالَت: {إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقياً} قَالَ فَلَمَّا ذكرت الرَّحْمَن فزع جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: {إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكياً} إِلَى قَوْله: {وَكَانَ أمرا مقضياً} فَنفخ فِي جيبها جِبْرِيل فَحملت حَتَّى إِذا أثقلت وجعت مَا يجع النِّسَاء وَكَانَت فِي بَيت النُّبُوَّة فاستحيت وهربت حَيَاء من قَومهَا فَأخذت نَحْو الْمشرق وَأخذ قَومهَا فِي طلبَهَا فَجعلُوا يسْأَلُون رَأَيْتُمْ فتاة كَذَا وَكَذَا فَلَا يُخْبِرهُمْ أحد

وَأَخذهَا {الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة} فتساندت إِلَى النَّخْلَة قَالَت: {يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت نسياً منسياً} قَالَ: حَيْضَة من حَيْضَة {فناداها من تحتهَا} قَالَ: جِبْرِيل من أقْصَى الْوَادي {أَلا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} قَالَ: جدولاً {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنياً} فَلَمَّا قَالَ لَهَا جِبْرِيل: اشْتَدَّ ظهرهَا وَطَابَتْ نَفسهَا فَقطعت سرته ولفته فِي خرقَة وَحَمَلته فلقي قَومهَا راعي بقر وهم فِي طلبَهَا

قَالُوا: يَا راعي هَل رَأَيْت فتاة كَذَا وَكَذَا قَالَ: لَا وَكن رَأَيْت اللَّيْلَة من بقري شَيْئا لم أره مِنْهَا قطّ فِيمَا خلا قَالَ: رَأَيْتهَا باتت سجدا نَحْو هَذَا الْوَادي فَانْطَلقُوا حَيْثُ

(5/498)

وصف لَهُم فَلَمَّا رأتهم مَرْيَم جَلَست وَجعلت ترْضع عِيسَى فجاؤوا حَتَّى وقفُوا عَلَيْهَا {قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فرياً} قَالَ: أمرا عَظِيما: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أَن كَلمُوهُ فعجبوا مِنْهَا: قَالُوا: {كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} {قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب} والمهد حجرها فَلَمَّا قَالُوا ذَلِك: ترك عِيسَى ثديها واتكأ على يسَاره ثمَّ تكلم {قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا} {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْن مَا كنت وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة مَا دمت حَيا وَبرا بوالدتي وَلم يَجْعَلنِي جباراً شقياً وَالسَّلَام عليّ يَوْم ولدت وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أبْعث حَيا} قَالَ: وَاخْتلف النَّاس فِيهِ

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ لعمر بن الْخطاب لم أستحب النَّصَارَى الْحجب على مذابحهم قَالَ: إِنَّمَا يسْتَحبّ النَّصَارَى الْحجب على مذابحهم ومناسكهم لقَوْل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فاتخذت من دونهم حِجَابا}

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن أبي صَالح رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا} قَالَ: بعث الله إِلَيْهَا ملكا فَنفخ فِي جيبها فَدخل فِي الْفرج

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا} قَالَ: جِبْرِيل

وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَابْن الْمُنْذر عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله: {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا} الْآيَة قَالَ: نفخ جِبْرِيل فِي درعها فبلغت حَيْثُ شَاءَ الله

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عَطاء بن يسَار: أَن جِبْرِيل أَتَاهَا فِي صُورَة رجل فكشف الْحجاب فَلَمَّا رَأَتْهُ تعوذت مِنْهُ فَنفخ فِي جيب درعها فبلغت فَذكر ذَلِك فِي الْمَدِينَة فَهجر زَكَرِيَّا وَترك وَكَانَ قبل ذَلِك يستفتى ويأتيه النَّاس حَتَّى إِن كَانَ ليسلم على الرجل فَمَا يكلمهُ

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَن أبيّ بن كَعْب فِي قَوْله: {فتمثل لَهَا بشرا سوياً} قَالَ: تمثل لَهَا روح عِيسَى فِي صُورَة بشر فَحَملته

قَالَ: حملت الَّذِي خاطبها دخل فِي فِيهَا

(5/499)

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن أبي وَائِل فِي قَوْله: {قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقياً} قَالَ: لقد علمت مَرْيَم أَن التقي ذُو نهية

وَأخرج ابْن الْمُنْذر عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقياً} قَالَ: إِنَّمَا خشيت أَن يكون إِنَّمَا يريدها عَن نَفسه

{قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكياً} زَعَمُوا أَنه نفخ فِي جيب درعها وكمها

وَأخرج عبد بن حميد عَن عَاصِم أَنه قَرَأَ {لأهب لَك} مَهْمُوزَة بِالْألف وَفِي قِرَاءَة عبد الله ليهب لَك بِالْيَاءِ

وَأخرج عبد الله بن أَحْمد فِي زَوَائِد الزّهْد وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله: {غُلَاما زكياً} قَالَ: صَالحا

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله: {وَلم أك بغياً} قَالَ زَانِيَة

وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {مَكَانا قصياً} قَالَ نَائِيا

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {مَكَانا قصياً} قَالَ: قاصياً وَفِي قَوْله: {فأجاءها الْمَخَاض} قَالَ: ألجأها

وَأخرج الطستي عَن ابْن عَبَّاس: أَن نَافِع بن الْأَزْرَق قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَن قَوْله عزَّ وجلَّ: {فأجاءها الْمَخَاض} قَالَ: ألجأها قَالَ: وَهل تعرف الْعَرَب ذَلِك قَالَ: نعم

أما سَمِعت حسان بن ثَابت وَهُوَ يَقُول: إِذا شددنا شدَّة صَادِقَة فأجأناكم إِلَى سفح الْجَبَل وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله: {فأجاءها الْمَخَاض} قَالَ: اضطرها

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن الضَّحَّاك فِي قَوْله: {فأجاءها الْمَخَاض} قَالَ فأداها

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة} قَالَ: كَانَ جذعاً يَابسا

وَأخرج عبد بن حميد من طَرِيق هِلَال بن خباب عَن أبي عبيد الله

(5/500)

{فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع} نَخْلَة يابسة قد جِيءَ بِهِ ليبنى بِهِ بَيت يُقَال لَهُ بَيت لحم فحركته فَإِذا هُوَ نَخْلَة

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن أبي قدامَة قَالَ: أنبت لِمَرْيَم نَخْلَة تعلق بهَا كَمَا تعلق الْمَرْأَة بِالْمَرْأَةِ عِنْد الْولادَة

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَكنت نسياً منسياً} قَالَ: لم أخلق وَلم أك شَيْئا

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن عِكْرِمَة فِي قَوْله: {وَكنت نسياً منسياً} قَالَ: حَيْضَة ملقاة

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {وَكنت نسياً منسياً} قَالَ: حَيْضَة

وَأخرج عبد بن حميد عَن نوف الْبكالِي عَن الضَّحَّاك فِي قَوْله: {وَكنت نسياً منسياً} قَالَ حَيْضَة ملقاة

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة فِي قَوْله: {وَكنت نسياً منسياً} قَالَ: تَقول لَا أعرف وَلَا أَدْرِي من أَنا

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَن الرّبيع بن أنس رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {وَكنت نسياً منسياً} قَالَ: هُوَ السقط وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ

وَأخرج أَبُو عبيد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن عَلْقَمَة أَنه قَرَأَ فخاطبها من تحتهَا

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {فناداها من تحتهَا} قَالَ: جِبْرِيل وَلم يتَكَلَّم عِيسَى حَتَّى أَتَت بِهِ قَومهَا

وَأخرج عبد بن حميد عَن عِكْرِمَة قَالَ الَّذِي ناداها هُوَ جِبْرِيل

وَأخرج عبد بن حميد عَن الضَّحَّاك وَعَمْرو بن مَيْمُون مثله

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الْبَراء {فناداها من تحتهَا} قَالَ: ملك

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله: {فناداها من تحتهَا} قَالَ: جِبْرِيل من أَسْفَل الْوَادي

(5/501)

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {فناداها من تحتهَا} قَالَ: عِيسَى

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن {فناداها من تحتهَا} قَالَ: هُوَ عِيسَى

وَأخرج ابْن الْمُنْذر عَن أبي بن كَعْب قَالَ الَّذِي خاطبها: هُوَ الَّذِي حَملته فِي جوفها دخل من فِيهَا

وَأخرج أَبُو عبيد وَابْن الْمُنْذر عَن زر بن حُبَيْش أَنه قَرَأَ {فناداها من تحتهَا}

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَعبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة {فناداها من تحتهَا} أَي الْملك من تَحت النَّخْلَة

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن قَالَ: من قَرَأَ من تحتهَا فَهُوَ جِبْرِيل وَمن قَرَأَ من تحتهَا فَهُوَ عِيسَى

وَأخرج عبد بن حميد عَن أبي بكر بن عَيَّاش قَالَ: قَرَأَ عَاصِم بن أبي النجُود {فناداها من تحتهَا} بِالنّصب قَالَ: وَقَالَ عَاصِم: من قَرَأَ بِالنّصب فَهُوَ عِيسَى وَمن قَرَأَهَا بالخفض فَهُوَ جِبْرِيل

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن فِي قَوْله: {جعل رَبك تَحْتك سرياً} قَالَ: نَبيا وَهُوَ عِيسَى

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن جرير بن حَازِم قَالَ: سَأَلَني مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر مَا يَقُول أصحابكم فِي قَوْله {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} قَالَ: فَقلت لَهُ: سَمِعت قَتَادَة يَقُول: الْجَدْوَل

قَالَ: فَأخْبر قَتَادَة عني فَإِنَّمَا نزل الْقُرْآن بلغتنا إِنَّه الرجل السّري

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد فِي قَوْله: {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} يُرِيد نَفسه أَي سرى أسرى مِنْهُ قيل فَالَّذِينَ يَقُولُونَ السّري الْبَحْر قَالَ: لَيْسَ كَذَلِك لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ يكون إِلَى جنبها وَلَا يكون النَّهر تحتهَا

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَابْن النجار عَن ابْن عمر: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن السّري الَّذِي قَالَ الله لِمَرْيَم: {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} نهر أخرجه الله لَهَا لتشرب مِنْهُ

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الصَّغِير وَابْن مرْدَوَيْه عَن الْبَراء بن عَازِب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(5/502)

فِي قَوْله: {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} قَالَ: النَّهر

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَالْفِرْيَابِي وَسَعِيد بن مَنْصُور وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن مرْدَوَيْه عَن الْبَراء فِي قَوْله: {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} قَالَ: هُوَ الْجَدْوَل وَهُوَ النَّهر الصَّغِير

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} قَالَ: نهر عِيسَى

وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر عَن عُثْمَان بن مُحصن قَالَ: سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن قَوْله: {سرياً} قَالَ: الْجَدْوَل

أما سَمِعت قَول الشَّاعِر وَهُوَ يَقُول: سلم تَرَ الدالي مِنْهُ أزورا إِذا يعج فِي السّري هرهرا وَأخرج ابْن الْأَنْبَارِي فِي الْوَقْف والطستي عَن ابْن عَبَّاس: إِن نَافِع بن الْأَزْرَق قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَن قَوْله عزَّ وجلَّ: {تَحْتك سرياً} قَالَ: السّري النَّهر الصَّغِير وَهُوَ الْجَدْوَل

قَالَ: وَهل تعرف الْعَرَب ذَلِك قَالَ: نعم أما سَمِعت قَول الشَّاعِر: سهل الخليقة ماجد ذُو نائل مثل السريّ تمده الْأَنْهَار وَأخرج عبد بن حميد عَن الضَّحَّاك فِي قَوْله: {سريا} قَالَ: الْجَدْوَل

وَأخرج عبد بن حميد عَن عَمْرو بن مَيْمُون وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ مثله

وَأخرج عبد بن حميد عَن قَتَادَة أَن الْحسن تَلا هَذِه الْآيَة وَإِلَى جنبه حميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} قَالَ: إِن كَانَ لسريا وَإِن كَانَ لكريماً فَقَالَ حميد: يَا أَبَا سعيد إِنَّه الْجَدْوَل فَقَالَ لَهُ: لم تزل تعجبنا مجالستك وَلَكِن غلبتنا عَلَيْك الْأُمَرَاء

وَأخرج عبد بن حميد عَن عِكْرِمَة قَالَ: السّري المَاء

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {سرياً} قَالَ: نَهرا بالسُّرْيَانيَّة

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله: {سرياً} قَالَ نَهرا بالقبطية

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن سُفْيَان بن حُسَيْن فِي قَوْله: {قد جعل رَبك تَحْتك سَرياًّ} قَالَ: تَلَاهَا الْحسن فَقَالَ: كَانَ وَالله {سرياً} يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ

(5/503)

السَّلَام فَقَالَ لَهُ خَالِد بن صَفْوَان: يَا أَبَا سعيد إِن الْعَرَب تسمي الْجَدْوَل السّري فَقَالَ: صدقت

الْآيَة 25

(5/504)

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

أخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد فِي قَوْله: {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة} قَالَ: حركيها

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن الْأَنْبَارِي فِي الْمَصَاحِف عَن مُجَاهِد {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة} قَالَ: كَانَت عَجْوَة

وَأخرج عبد بن حميد وَابْن جرير عَن الْبَراء أَنه قَرَأَ يساقط عَلَيْك بِالْيَاءِ

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن أَنه قَرَأَ يساقط عَلَيْك بِالْيَاءِ يَعْنِي الْجذع

وَأخرج عبد بن حميد عَن مَسْرُوق أَنه قَرَأَ {تساقط عَلَيْك رطبا جنياً} بِالتَّاءِ

وَأخرج عبد بن حميد عَن عَاصِم أَنه قَرَأَ {تساقط} مثقلة بِالتَّاءِ

وَأخرج عبد الله بن أَحْمد فِي زَوَائِد الزّهْد عَن طَلْحَة الإيابي أَنه قَرَأَ {تساقط عَلَيْك رطبا} مثقلة

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن أبي نهيك أَنه قَرَأَ تسْقط عَلَيْك رطبا

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {رطبا جنياً} قَالَ: طرياً

وَأخرج الْخَطِيب فِي تالي التَّلْخِيص عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {تساقط عَلَيْك رطبا جنياً} قَالَ: بغباره

وَأخرج ابْن الْأَنْبَارِي والخطيب عَن أبي حباب مثله

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن أبي روق قَالَ: انْتَهَت مَرْيَم إِلَى جذع لَيْسَ لَهُ رَأس فأنبت الله لَهُ رَأْسا وَأنْبت فِيهِ رطبا وبسراً ومدبباً وموزاً فَلَمَّا هزت النَّخْلَة سقط عَلَيْهَا من جَمِيع مَا فِيهَا

وَأخرج عبد الله بن أَحْمد فِي زَوَائِد الزّهْد عَن أبي قُدَّام قَالَ: أنبتت لِمَرْيَم نَخْلَة تعلق بهَا كَمَا تعلق الْمَرْأَة عِنْد الْولادَة

وَأخرج أَبُو يعلى وَابْن أبي حَاتِم وَابْن السّني وَأَبُو نعيم مَعًا فِي الطِّبّ النَّبَوِيّ والعقيلي وَابْن عديّ وَابْن مرْدَوَيْه وَابْن عَسَاكِر عَن عَليّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أكْرمُوا

(5/504)

عمتكم النَّخْلَة فَإِنَّهَا خلقت من الطين الَّذِي خلق مِنْهُ آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَلَيْسَ من الشّجر شَجَرَة تلقح غَيرهَا

وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أطعموا نساءكم الولَّد الرطب فَإِن لم يكن رطب فتمر فَلَيْسَ من الشّجر شَجَرَة أكْرم من شَجَرَة نزلت تحتهَا مَرْيَم بنت عمرَان

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: سَأَلنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مماذا خلقت النَّخْلَة قَالَ: خلقت النَّخْلَة وَالرُّمَّان وَالْعِنَب من فضل طِينَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن سَلمَة بن قيس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أطعموا نساءكم فِي نفاسهن التَّمْر فَإِنَّهُ من كَانَ طعامها فِي نفَاسهَا التَّمْر: خرج وَلَدهَا ولدا حَلِيمًا فَإِنَّهُ كَانَ طَعَام مَرْيَم حَيْثُ ولدت عِيسَى وَلَو علم الله طَعَاما هُوَ خير لَهَا من التَّمْر لأطعمها إِيَّاه

وَأخرج عبد بن حميد عَن شَقِيق قَالَ: لَو علم الله أَن شَيْئا للنفساء خير من الرطب لأمر مَرْيَم بِهِ

وَأخرج عبد بن حميد عَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ لَيْسَ للنفساء خير من الرطب أَو التَّمْر وَقَالَ: إِن الله قَالَ: {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنياً}

وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر عَن الرّبيع بن خَيْثَم قَالَ: لَيْسَ للنفساء عِنْدِي دَوَاء مثل الرطب وَلَا للْمَرِيض مثل الْعَسَل

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن الشّعبِيّ قَالَ: كتب قَيْصر إِلَى عمر بن الْخطاب أَن رسلًا أَتَتْنِي من قبلك فَزَعَمت أَن قبلكُمْ شَجَرَة لَيست بخليقة لشَيْء من الْخَيْر تخرج مثل أَذَان الْحمير ثمَّ تشقق عَن مثل اللُّؤْلُؤ الْأَبْيَض ثمَّ تصير مثل الزمرد الْأَخْضَر ثمَّ تصير مثل الْيَاقُوت الْأَحْمَر ثمَّ تينع وتنضج فَتكون كأطيب فالوذج أكل ثمَّ تيبس فَتكون عصمَة للمقيم وَزَادا للْمُسَافِر فَإِن لم تكن رُسُلِي صدقتني فَلَا أرى هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا من شجر الْجنَّة فَكتب إِلَيْهِ عمر أَن رسلك قد صدقتك هَذِه الشَّجَرَة عندنَا: وَهِي الَّتِي أنبتها الله على مَرْيَم حِين نفست بِعِيسَى

الْآيَة 26 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام لمحمد رشيد رضا

  حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح  المحمدي العام لمحمد رشيد رضا تعليق: محمد ناصر الدين الألباني  ( صحيح ) عن عائشة رضي الله ...