كتاب صفة الجنة للحافظ ضياء المقدسي

كتاب صفة الجنة -الحافظ ضياء الدين-أأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي

Translate

الأحد، 15 يناير 2023

تفسير سورة المائدة{من اية3 الي5}

 

 

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

=============== 

المائدة - تفسير ابن كثير 

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }

يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي: ما مات من الحيوان حَتْف أنفه، من غير ذكاة ولا اصطياد، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة، لما فيها من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا حرمها الله، عز وجل، ويستثني من الميتة السمك، فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها، لما رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر، فقال: "هو الطَّهُور ماؤه الحِلُّ ميتته (1) ".

وهكذا الجراد، لما سيأتي من الحديث، وقوله: { وَالدَّمُ } يعني [به] (2) المسفوح؛ لقوله: { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } [ الأنعام : 145 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جُبَيْر.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب المذْحِجي، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا==


(1) الموطأ (1/22) ومسند الشافعي برقم (25) "بدائع المنن" ومسند أحمد ( 2/237، 361) وسنن أبي داود برقم (83) وسنن الترمذي برقم (69) وسنن النسائي (1/50) وسنن ابن ماجه برقم (386) وصحيح ابن خزيمة برقم (111) وصحيح ابن حبان برقم (119) "موارد" كلهم من طريق صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة -من آل بني الأزرق- أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة فذكره. وقد صحح هذا الحديث بن خزيمة والحاكم والبيهقي، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
(2) زيادة من د، أ.

 == عمرو-يعني ابن قيس-عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: أنه سئل عن الطحال فقال: كلوه فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حُرم عليكم الدم المسفوح.

وكذا رواه حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة، قالت: إنما نهى عن الدم السافح.

وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) "أحِلَّ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت (2) والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال".

وكذا رواه أحمد بن حنبل، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (3) وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس (4) عن أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعا.

قلت: وثلاثتهم ضعفاء، ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا بَشير بن سُرَيج، عن أبي غالب، عن أبي أمامة -وهو صُدَيّ بن عجلان-قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقَصْعَة من دم، فاجتمعوا (5) عليها يأكلونها، قالوا: هلم يا صُديّ، فكل. قال: قلت: ويحكم! إنما أتيتكم من عند مُحرِّم (6) هذا عليكم، وأنزل الله عليه، قالوا: وما ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [وَلَحْمُ الْخِنزيرِ] } (7) الآية.

ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد مثله، وزاد بعد هذا السياق: قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام، ويأبون علي، فقلت لهم: ويحكم، اسقوني شربة من ماء، فإني شديد العطش -قال: وعليّ عباءتي-فقالوا: لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال: فاغتممت وضربت (8) برأسي في العباء، ونمت على الرمضاء في حر شديد، قال: فأتاني آت في منامي بقَدَح من زجاج لم ير الناس أحسن منه، وفيه شراب لم ير الناس [شرابا] (9) ألذ منه، فأمكنني منها فشربتها، فحيث فرغت من شرابي استيقظت، فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة. (10)

__________

(1) في د: "عن ابن عمر مرفوعا".

(2) في د: "فالسمك".

(3) مسند الشافعي برقم (1734) "بدائع المنن" ومسند أحمد (2/97) وسنن ابن ماجة برقم (3314) وسنن الدارقطني (4/271) والسنن الكبرى للبيهقي (1/254).

(4) في د: "إسماعيل بن أبي أويس".

(5) في ر: "واجتمعوا"

(6) في د، ر، أ: "من يحرم".

(7) زيادة من أ.

(8) في د: "وجثوت".

(9) زيادة من ر، أ.

(10) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/335) من طريق محمد بن أبي الشوارب به. قال الهيثمي في المجمع (9/387): "فيه بشير بن سريج وهو ضعيف".

(3/15)

________________________________________

ورواه الحاكم في مستدركه، عن علي بن حُمْشاذ (1) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري، حدثنا صدقة بن هرمز، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قد ذكر نحوه (2) وزاد بعد قوله: "بعد تيك الشربة": فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم، فلم تَمْجعَوه بمذقة، فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها، إن الله (3) أطعمني وسقاني، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم.

وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق: (4)

وإياكَ والميتات لا تقربنَّها ... ولا تأخذن عظمًا حديدًا فتفصدا ...

أي: لا تفعل كما يفعل (5) الجاهلية، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئًا محددًا من عظم ونحوه، فَيفْصِد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه؛ ولهذا حرَّم الله الدم على هذه الأمة، ثم قال الأعشى:

وذا النّصُب المنصوبَ لا تَأتينّه ... ولا تعبد الأصنام والله فاعبدا ...

وقوله: { وَلَحْمُ الْخِنزيرِ } يعني: إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله: { فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا } يعنون قوله تعالى: { إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير، حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطرد، وفي صحيح مسلم، عن بُرَيدة بن الخصيب الأسلمي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنردَشير فكأنما صَبَغَ يده في لحم الخنزير ودمه" (6) فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس (7) فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به، وفيه دلالة على شُمُول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.

وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويَسْتَصبِحُ بها الناس؟ فقال: "لا هو حرام". (8)

وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان: أنه قال لهرقل ملك الروم: "نهانا عن الميتة والدم". (9)

__________

(1) في ر، أ: "علي بن حماد".

(2) في ر: "فذكر نحوه"، وهو في المستدرك (3/642) وفيه صدقة بن هرمز ضعفه ابن معين وغيره.

(3) في ر: "إن ربي".

(4) أنظر القصيدة في: السيرة النبوية لابن هشام (1/386).

(5) في د: "كما فعل".

(6) صحيح مسلم برقم (2260).

(7) في ر: "تنفيرا بمجرد ملابسته باللمس".

(8) صحيح البخاري برقم (2236) وصحيح مسلم برقم (1581) من حديث جابر، رضي الله عنه.

(9) لم أجد هذا اللفظ في صحيح البخاري في مواضع روايته لحديث هرقل.

(3/16)

________________________________________

وقوله: { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي: ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام؛ لأن الله أوجب أن تذبح (1) مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عُدِل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك، من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في المتروك التسمية عليه، إما عمدًا أو نسيانا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام.

وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجَاني، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جُمَيْع، عن أبي الطُّفَيْل قال: نزل آدم بتحريم أربع: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وإن هذه الأربعة الأشياء (2) لم تحل قط، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن مريم، عليه السلام، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم [عليه السلام] (3) وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه. وهذا أثر غريب.

وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا ربعي بن عبد الله قال: سمعت الجارود بن أبي سَبْرَة -قال: هو جدي-قال: كان رجل من بني رَيَاح (4) يقال له: ابن وَثَيِل، وكان شاعرا، نافر-غالبا-أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة، على أن يعقر هذا مائة من إبله، وهذا مائة من إبله، إذا وردت الماء، فلما وردت الماء قاما إليها بالسيوف، فجعلا يَكْسفان عَرَاقيبها. قال: فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم -قال: وعَليٌّ بالكوفة-قال: فخرج عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي: يا أيها الناس، لا تأكلوا من لحومها فإنما (5) أهل بها لغير الله.

هذا أثر غريب، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا (6) حماد بن مَسْعَدة، عن عوف، عن أبي رَيْحانة، عن ابن عباس قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مُعاقرة الأعراب.

ثم قال أبو داود: محمد بن جعفر -هو غُنْدَر-أوقفه على ابن عباس. تفرد به أبو داود (7)

وقال أبو داود أيضا: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، حدثنا أبي، حدثنا جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت قال: سمعت عِكْرِمة يقول: (8) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين (9) أن يؤكل.

ثم قال أبو داود: أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس. تفرد به أيضا. (10)

وقوله: { وَالْمُنْخَنِقَةُ } وهي التي تموت بالخنق إما قصدًا أو اتفاقا، بأن تَتَخبل في وثاقتها (11) فتموت به، فهي حرام.

__________

(1) في ر: "يذبح".

(2) في ر: "أشياء".

(3) زيادة من أ.

(4) في ر: "رياح".

(5) في د، ر: "فإنها".

(6) في ر: "بن".

(7) سنن أبي داود برقم (2820).

(8) في أ: "يقول: كان ابن عباس يقول".

(9) في د: "المتبارزين".

(10) سنن أبي داود برقم (3754)

(11) في ر: "وثاقها".

(3/17)

________________________________________

وأما { الْمَوْقُوذَةُ } فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، كما قال ابن عباس وغير واحد: هي التي تضرب بالخَشَب حتى تُوقَذَ بها (1) فتموت.

وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها.

وفي الصحيح: أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمِعراض الصيد فأصيب. قال: "إذا رميت بالمعراض فخَزَق فَكُلْه، وإن أصابه بعَرْضِه فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله". (2)

ففرق بين ما أصابه بالسهم، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحةُ الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه، على قولين، هما قولان للشافعي، رحمه الله:

أحدهما: [ أنه] (3) لا يحل، كما في السهم، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ.

والثاني: أنه يحل؛ لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب، ولم يستفصل، فدل على إباحة ما ذكرناه؛ لأنه قد دخل في العموم. وقد قررت لهذه المسألة فصلا فليكتب هاهنا. .

فصل :

اختلف العلماء رحمهم الله تعالى، فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه، أو صدمه، هل يحل أم لا ؟ على قولين:

أحدهما: أن ذلك حلال؛ لعموم قوله تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] وكذا عمومات حديث عَدي (4) بن حاتم. وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي، رحمه الله، وصححه بعض المتأخرين [منهم] (5) كالنووي والرافعي.

قلت: وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر، فإنه قال في كلا الموضعين: "يحتمل معنيين". ثم وجه كلا منهما، فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه، اللهم إلا أنه في بحثه حكايته للقول بالحل رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به. والقول بذلك، أعني الحل، نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة، من رواية الحسن بن زياد، عنه، ولم يذكر غير ذلك وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر. وهذا غريب جدًا، وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم، إلا أنه من تصرفه، رحمه الله ورضي عنه.

والقول الثاني: أن ذلك لا يحل، وهو أحد القولين عن الشافعي، رحمه الله، واختاره المُزَني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا، والله أعلم. ورواه أبو يوسف ومحمد عن (6) أبي حنيفة،

__________

(1) في ر: "توقذها".

(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5475) ومسلم في صحيحه برقم (1929).

(3) زيادة من أ.

(4) سيأتى حديث عدي بن حاتم بتمامه.

(5) زيادة من أ.

(6) في ر: "بن".

(3/18)

________________________________________

وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه (1) وهذا القول أشبه بالصواب، والله أعلم، لأنه أجرى عن (2) القواعد الأصولية، وأمس بالأصول (3) الشرعية. واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خَدِيج، قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مُدًى، أفنذبح بالقَصَب؟ قال: (4) "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". الحديث بتمامه وهو في الصحيحين.

وهذا وإن كان واردًا على سبب خاص، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع، كما سئل عليه السلام (5) عن البتع -وهو نبيذ العسل-فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام" (6) أفيقول فقيه: إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيء من الذكاة فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسئول عنه وغيره؛ لأنه عليه السلام (7) قد أوتي جوامع الكلم.

إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غَمَّه بثقله، ليس مما أنهر دمه، فلا يحل لمفهوم هذا الحديث. فإن قيل: هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء؛ لأنهم إنما سألوا عن الآلة التي يُذكّى بها، ولم يسألوا عن الشيء الذي يذَكَّى؛ ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر، حيث قال: "ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فَمُدي الحبشة". والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه، وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسئول عنه هو الآلة، فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم.

فالجواب عن هذا: بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا، حيث يقول: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". ولم يقل: "فاذبحوا به" فهذا يؤخذ منه الحكمان معا، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها، وحكم المذكى، وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرًا. هذا مسلك.

والمسلك الثاني: طريقة المُزَني، وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعَرْضِه فلا تأكل، وإن خَزَق فَكُل. والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما قيد هناك من الخَزْق؛ لأنهما اشتركا في الموجب، وهو الصيد، فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل، بل هذا أولى. وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة، فلا بد لهم من جواب عن هذا. وله أن يقول: هذا قتله الكلب بثقله، فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعَرْضه (8) والجامع أن كلا منهما آلة للصيد، وقد مات بثقله فيهما. ولا يعارض ذلك بعموم الآية؛ لأن القياس مقدم على العموم، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور، وهذا مسلك حسن أيضا.

مسلك آخر، وهو : أن قوله تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] عام فيما قتلن بجرح أو

__________

(1) في أ: "رحمه الله".

(2) في ر، أ: "على".

(3) في ر، أ: " وأمشي عن الأصول".

(4) في ر: "فقال".

(5) في أ: "صلى الله عليه وسلم"

(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (242) ومسلم في صحيحه برقم (2001) من حديث عائشة، رضي الله عنها.

(7) في أ: "صلى الله عليه وسلم"

(8) في ر، أ: "بثقله".

(3/19)

________________________________________

غيره، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو: (1) إما أن يكون نطيحا أو في حكمه، أو منخنقا أو في حكمه، وأيا ما كان فيجب تقديم [حكم] (2) هذه الآية على تلك لوجوه:

أحدها: أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد، حيث يقول لعديّ بن حاتم: "وإن أصابه بعرضه (3) فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله". ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية، فقال: إن الوقيذ معتبر حالة الصيد، والنطيح ليس معتبرا، فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به، وهو محظور عند كثير من العلماء.

الثاني: أن تلك الآية: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] ليست على عمومها بالإجماع، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق، والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ. .

المسلك الآخر: أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء؛ لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات، فلا تحل قياسا على الميتة.

المسلك الآخر: أن آية التحريم، أعني قوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } إلى آخرها، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص، وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة، أعني قوله: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ[وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] } [ المائدة : 4 ] (4) فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك، وشاهد ذلك قصة السهم، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية، وهو ما إذا خَزَفه المِعْرَاض فيكون حلالا؛ لأنه من الطيبات، وما دخل في حكم تلك الآية، آية التحريم، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل؛ لأنه وقيذ، فيكون أحد أفراد آية التحريم، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل. وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا.

فإن قيل: فلم لا فَصَّل في حكم الكلب، فقال ما ذكرتم: إن جرحه فهو حلال، وإن لم يجرحه فهو حرام؟

فالجواب: أن ذلك نادر؛ لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر، وكذا قتله إياه بثقله، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته؛ فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلا والله أعلم؛ ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال: "إن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين (5) فقالوا: لا يحل ما أكل منه الكلب، حكي ذلك عن أبي هريرة، وابن عباس. وبه قال الحسن، والشعبي، والنخَعي. وإليه ذهب

__________

(1) في ر: "لا تخلو"

(2) زيادة من ر، أ.

(3) في ر، أ: "بعرض".

(4) زيادة من أ.

(5) في ر: "عند كثير من العلماء".

(3/20)

________________________________________

أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبل، والشافعي في المشهور عنه. وروى ابن جرير في تفسيره عن علي، وسعد، وسلمان، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس: أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتى قال سعد، وسلمان، وأبو هريرة وابن عمر، وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة. وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه.

وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي، عن أبي ثعلبة الخُشَنِي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك". (1)

ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن أعرابيا يقال له: أبو ثعلبة قال: يا رسول الله، فذكر نحوه.

وقال محمد بن جرير في تفسيره: حدثنا عمران بن بَكَّار الكَلاعِيّ، حدثنا عبد العزيز بن موسى-هو اللاحوني-حدثنا محمد بن دينار -هو الطاحي-عن أبي إياس -وهو معاوية بن قرة-عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي.

ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب، عن سلمان موقوفا (2) وأما الجمهور فقدموا حديث "عَديّ" على ذلك، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره. وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه الفصل ولم يجئ، فأكل منه لجوعه ونحوه، فإنه لا بأس بذلك؛ لأنه -والحالة هذه؛ لا يخشى أنه أمسك على نفسه، بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه، والله أعلم.

فأما الجوارح من الطير (3) فنص الشافعي على أنها كالكلاب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم عند الآخرين. واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا: لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه، وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد، فيعفى عن ذلك، وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير. وقال الشيخ أبو علي في "الإفصاح": إذا قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب، ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب، لنص الشافعي، رحمه الله على التسوية بينهما، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما { الْمُتَرَدِّيَةُ } فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك، فلا تحل.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { الْمُتَرَدِّيَةُ } التي تسقط من جبل. وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر.

__________

(1) سنن أبي داود برقم (2852).

(2) تفسير الطبري (9/565) وفي إسناده مرفوعا محمد بن دينار الأزدي ضعيف

(3) في ر، أ: "من الطيور".

(3/21)

________________________________________

وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر.

وأما { النَّطِيحَةُ } فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها.

والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي: منطوحة. وأكثر ما ترد هذه البِنْيَة في كلام العرب بدون تاء التأنيث، فيقولون: كَفٌّ خضيب، وعينٌ كحيل، ولا يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة: وأما هذه فقال بعض النحاة: إنما استعمل فيها تاء التأنيث؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء، كما في قولهم: طريقة طويلة. وقال بعضهم: إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة، بخلاف: عين كحيل، وكف خضيب؛ لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام.

وقوله: { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } أي: ما عدا عليها أسد، أو فهد، أو نمر، أو ذئب، أو كلب، فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدماء ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين.

وقوله: { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } عائد على ما يمكن عوده عليه، مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله: { وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ }

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه، فهو ذكي. وكذا رُوي عن سعيد بن جبير، والحسن البصري، والسدي.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا حَفْص بن غياث (1) حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } قال: إن مَصَعَتْ بذنبها أو رَكَضَتْ برجلها، أو طَرَفَتْ بعينها فكُلْ.

وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا هشيم وعباد قالا حدثنا حجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها.

وهكذا رُوي عن طاوس، والحسن، وقتادة وعُبَيد بن عُمير، والضحاك وغير واحد: أن المذكاة متي تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال (2) أبو حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل. وقال ابن وهب: سُئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفَها السَّبُعُ حتى تخرج أمعاؤها؟ فقال مالك: لا أرى أن تذكى أيّ شيء يُذَكَّى منها.

وقال أشهب: سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش، فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن

__________

(1) في د: "حفص بن عياش".

(2) في أ: "يقول".

(3/22)

________________________________________

يموت، فيؤكل؟ قال (1) إن كان قد بلغ السُّحْرة، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدق ظهره؟ فقال: (2) لا يعجبني، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ فقال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل.

هذا مذهب مالك، رحمه الله، وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك، رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها، فيحتاج إلى دليل مخصص (3) للآية، والله أعلم.

وفي الصحيحين: عن رافع بن خَدِيج أنه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدًا، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقَصَب؟ فقال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السنُّ والظَّفُر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة". (4)

وفي الحديث الذي رواه الدارقطني [عن أبي هريرة] (5) مرفوعا، وفيه نظر، وروي عن عمر موقوفا، وهو أصح (6) "ألا إن الذكاة في الحلق واللبّة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق". (7)

وفي (8) الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من رواية حماد بن سلمة، عن أبي العشراء الدارمي، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق؟ فقال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك.

وهو حديث صحيح (9) ولكنه محمول على ما [لم] (10) يقدر على ذبحه في الحلق واللبة.

وقوله: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال مجاهد وابن جُرَيْج (11) كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال (12) ابن جريج: وهي ثلاثمائة وستون نصبا، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.

وكذا ذكره غير واحد، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر (13) عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك (14) الذي حرمه الله ورسوله. وينبغي أن يحمل هذا على هذا؛ لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله.

__________

(1) في ر: "فقال".

(2) في ر: "قال".

(3) في أ: "مخصوص".

(4) صحيح البخاري برقم (2507) وصحيح مسلم برقم (1968).

(5) زيادة من د، ر.

(6) في ر، أ: "وقال".

(7) سنن الدارقطني (4/283) من طريق سعيد بن سلام، عن عبدالله بن بديل، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء على أورق يصيح في فجاج منى: "ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق". وسعيد بن سلام ضعيف قال البخاري: يذكر بوضع الحديث، وروي موقوفا على عمر بن الخطاب. رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/278) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن فرافصة الحنفي، عن عمر به.

(8) في ر: "فأما"، وفي أ: "وأما"

(9) المسند (4/334) وسنن أبي داود برقم (2825) وسنن الترمذي برقم (1481) وسنن النسائي (7/228) وسنن ابن ماجة برقم (3184).

(10) زيادة من ر.

(11) في أ: "وابن جرير".

(12) في ر: "وقال".

(13) في أ: "ولو كان قد ذكر".

(14) في أ: "من التبرك".

(3/23)

________________________________________

وقوله تعالى: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } أي: حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام: واحدها: زُلَم، وقد تفتح الزاي، فيقال: زَلم، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك، وهي عبارة عن قداح ثلاثة، على أحدها مكتوب: "افعل" وعلى الآخر: "لا تفعل" والثالث "غُفْل ليس عليه شيء. ومن الناس من قال: مكتوب على الواحد: "أمرني ربي" وعلى الآخر: "نهاني ربي". والثالث غفل (1) ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع السهم الآمر فعله، أو الناهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد [الاستقسام.] (2)

والاستقسام: مأخوذ من طلب القَسم من هذه الأزلام. هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا الحجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } قال: والأزلام: قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور.

وكذا روي عن مجاهد، وإبراهيم النَّخَعِي، والحسن البصري، ومُقَاتِل بن حَيَّان.

وقال ابن عباس: هي القداح، كانوا يستقسمون بها الأمور. وذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له: هُبَل، وكان داخل الكعبة، منصوب على بئر فيها، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، كان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه، مما أشكل عليهم، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه.

وثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا." (3)

وفي الصحيح: أن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره: لا تضرهم (4) قال: فعصيت الأزلام وأتبعتهم، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم (5) وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك، ثم أسلم بعد ذلك. (6)

وروى ابن مَرْدُويه من طريق إبراهيم بن يزيد، عن رَقَبةَ، عن عبد الملك بن عُمَيْر، عن رَجاء بن حَيْوَة، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يَلِج الدرجات من تَكَهَّن أو استقسم أو رجع من سفر طائرًا". (7)

وقال مجاهد في قوله: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } قال: هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها.

__________

(1) في د، ر: "عطل".

(2) زيادة من ر، أ.

(3) صحيح البخاري برقم (4288).

(4) في أ: "لا يضرهم".

(5) في أ: "لا تكبر".

(6) صحيح البخاري برقم (3906).

(7) ورواه الطبراني في مسند الشاميين برقم (2104) وتمام الرازي في الفوائد برقم (1444) من طريق يحيى بن داود، عن إبراهيم بن يزيد به. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/213): "رجاله ثقات إلا أنني أظن أن فيه انقطاعًا".

(3/24)

________________________________________

وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار، فيه نظر، اللهم إلا أن يقال: إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة، وفي القمار أخرى، والله أعلم. فإن الله سبحانه [وتعالى] (1) قد فرَّق بين هذه وبين القمار وهو الميسر، فقال في آخر السورة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ] منتهون } (2) [ الآيتان :90، 91 ] وهكذا قال هاهنا: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } أي: تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك، وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه، ثم يسألوه الخيَرَة في الأمر الذي يريدونه، كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن، من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا (3) الاستخارة (4) كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: "إذا هَمَّ أحدُكُم بالأمْرِ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أسْتَخِيركَ بعلمكَ، وأسْتَقْدِرُك بقدرتكَ، وأسألُكَ من فَضْلك العظيم؛ فإنك تَقْدِر ولا أقْدِر، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَم، وأنت عَلام الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم (5) هذا الأمر -ويسميه باسمه-خيرًا لي في دِينِي ومَعاشي وعاقِبة أمري، فاقدُرْهُ لي ويَسِّره لي (6) وبارك لي فيه، اللهم إن كنتَ تَعْلَمْهُ شرا لي (7) في ديني ومَعاشي وعاقبة أمري، فاصْرِفْنِي عنه، واصرفه عنِّي، واقْدُرْ لي الخير حيث كان، ثم رَضِّني به". لفظ أحمد. (8)

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي.

قوله: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم..

وكذا رُوي عن عطاء بن أبي رباح، والسّدِّي ومُقاتِل بن حَيَّان. وعلى هذا المعنى يرد (9) الحديث الثابت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المُصَلُّون في جزيرة العرب، ولكن بالتَّحْرِيش (10) بينهم".

ويحتمل أن يكون المراد: أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين، بما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله؛ ولهذا قال تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار، ولا يخافوا أحدا إلا الله، فقال: { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } أي: لا تخافوا منهم في مخالفتكم إياهم واخشوني، أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.

__________

(1) زيادة من أ.

(2) زيادة من ر، وفي هـ: "إلى قوله".

(3) في د: "يعلمنا دعاء".

(4) في د: "الاستخارة في الأمور".

(5) في د: "تعلم أن".

(6) في أ: "ثم".

(7) في د: "تعلم أنه شر".

(8) المسند (3/344) وصحيح البخاري برقم (1162) وسنن أبي داود برقم (1538) وسنن الترمذي برقم (480) وسنن النسائي (6/80) وسنن ابن ماجة برقم (1383).

(9) في ر: "يورد"

(10) في د: "التحريش".

(3/25)

________________________________________

وقوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } هذه أكبر نعم الله ، عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ (1) رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل (2) الدين لهم تمت النعمة عليهم (3) ؛ ولهذا قال [تعالى] (4) { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه (5) وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطُه أبدا.

وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عَرَفَة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. قالت أسماء بنت عُمَيس: حَجَجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فبينما نحن نسير إذ تَجلَّى له جبريل، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت فأتيته فَسَجَّيْتُ عليه بُرْدا (6) كان علي.

قال ابن جُرَيْج (7) وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.

رواهما (8) ابن جرير، ثم قال: حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن فُضَيْل، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: لما نزلت { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ما يبكيك؟" قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذْ أكمل (9) فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال: "صدقت". (10)

ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غَرِيبًا، وسيعود غريبا، فَطُوبَى للغُرَبَاء". (11)

وقال الإمام أحمد: حدثنا جعفر بن عَوْن، حدثنا أبو العُمَيْس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (12) فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فقال (13) عمر: والله إني

__________

(1) في د: "كلمة" وهي قراءة.

(2) في د: "فلما كمل".

(3) في د: "تمت عليهم النعمة"

(4) زيادة من د.

(5) في د: "الذي أحبه الله ورضيه".

(6) في أ: "برداء"

(7) في ر: "ابن جرير".

(8) في د: "رواه".

(9) في ر: "إذ كمل".

(10) تفسير الطبري (9/519).

(11) رواه مسلم في صحيحه برقم (145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وبرقم (146) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(12) زيادة من أ.

(13) في أ: "قال".

(3/26)

________________________________________

لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة.

ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون، به. ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي، من طرق عن قيس بن مسلم، به (1) ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري، عن قيس، عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها (2) عيدا. فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت (3) وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة، وأنا والله بعرفة -قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية. (4)

وشك سفيان، رحمه الله، إن كان في الرواية فهو تَوَرُّعٌ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا؟ وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري، رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر.

وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، أخبرنا رَجاء بن أبي سلمة، أخبرنا عبادة بن نُسَيّ، أخبرنا أميرنا إسحاق -قال أبو جعفر بن جرير: هو إسحاق بن خَرَشة-عن قَبِيصة -يعني ابن ذُؤيب-قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت (5) فيه، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا قَبيصة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار-هو مولى بني هاشم-أن ابن عباس قرأ: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا. فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد ويوم جمعة. (6)

وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا يحيى بن الحُمَّاني، حدثنا قيس بن الربيع، عن إسماعيل بن سَلْمان، عن أبي عمر البَزّار، عن ابن الحنفية ، عن علي [رضي الله عنه] (7) قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم عَشِيَّةَ عرفة: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }

__________

(1) المسند (1/28) وصحيح البخاري برقم (45) وصحيح مسلم برقم (3017) وسنن الترمذي برقم (3043) وسنن النسائي (5/251).

(2) في أ: "لاتخذنا بها"

(3) في ر: "نزلت".

(4) صحيح البخاري برقم (4606).

(5) في ر: "نزلت".

(6) تفسير الطبري (9/525).

(7) زيادة من أ.

(3/27)

________________________________________

وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكُوني، حدثنا هشام (1) بن عمار، حدثنا بن عياش، حدثنا عمرو بن قيس السكوني: أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة.

وروى ابن مَرْدُويه، من طريق محمد بن إسحاق، عن عمر بن موسى بن وجيه، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة قال: نزلت هذه الآية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف. (2)

فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه، والطبراني من طريق ابن لَهيعَة، عن خالد بن أبي عمران، عن حَنَش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، [ونبئ يوم الاثنين] (3) وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ورفع الذكر يوم الاثنين، فإنه أثر غريب (4) وإسناده ضعيف.

وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حَنَش الصنعاني، عن ابن عباس قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ووضع (5) الحجر الأسود يوم الاثنين.

هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين (6) فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم، فاشتبه على الراوي، والله أعلم.

[و] (7) قال ابن جرير: وقد قيل: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، ثم روي من طريق العَوْفِيِّ عن ابن عباس في قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يقول: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال: وقد قيل: إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسِيره إلى حجة الوداع. ثم رواه من طريق أبى جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس.

قلت: وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق أبي هارون العَيْدي، عن أبي سعيد الخدري؛ أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غَدِير خُم (8) حين قال لعلي: "من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه". ثم رواه عن أبي هريرة (9) وفيه: أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، يعني مرجعه عليه السلام (10) من حجة الوداع.

__________

(1) في ر: "هاشم".

(2) في أ: "يوم".

(3) زيادة من أ.

(4) تفسير الطبري (9/530).

(5) في أ: "ورفع".

(6) المسند (1/277) وقال الهيثمي في المجمع (1/196): "فيه ابن لهيعة وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح".

(7) زيادة من أ.

(8) في ر: "غديرهم"

(9) وفي إسناده أبو هارون العبدي شيعي متروك، لكن تابعه عطية العوفي رواه الطبراني في الأوسط برقم (3737) "مجمع البحرين"، وحديث أبي هريرة رواه الطبراني في الأوسط برقم (3738) "مجمع البحرين". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: "ليس في الصحاح لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته فنقل عنه البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعفوه، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي". وقد جمع طرق هذا الحديث الشيخ ناصر الألباني في السلسلة الصحيحة (1750).

(10) في أ: "صلى الله عليه وسلم".

(3/28)

________________________________________

ولا يصح هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية: أنها أنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسَمُرَة بن جندب، رضي الله عنهم، وأرسله [عامر] (1) الشعبي، وقتادة بن دعامة، وشَهْر بن حَوْشَب، وغير واحد من الأئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري، رحمه (2) الله.

وقوله: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها تعالى (3) لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناول ذلك، والله غفور رحيم له؛ لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي المسند وصحيح ابن حبَّان، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رُخْصته (4) كما يكره أن تؤتى مَعْصِيته" (5) لفظ ابن حبان. وفي لفظ لأحمد (6) من لم يقبل رُخْصَة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة". (7)

ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على مهجته (8) التلف ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبا، و [قد] (9) يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به الرَّمَق، أو له أن يشبع، أو يشبع ويتزود؟ على أقوال، كما هو مقرر في كتاب الأحكام. وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير، أو صيدًا (10) وهو محرم: هل يتناول الميتة، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطعام ويضمن بدله؟ على قولين، هما قولان للشافعي، رحمه الله. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما، كما قد يتوهمه كثير من العوام (11) وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا (12) بها المخمصة، فمتى تحل (13) لنا بها الميتة؟ فقال: "إذا لم تَصْطَبِحوا، ولم تَغْتَبِقُوا، ولم تَجتفئوا (14) بقْلا فشأنكم بها ".

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين. وكذا رواه ابن جرير، عن عبد الأعلى بن واصل، عن محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي به (15) لكن رواه بعضهم

__________

(1) زيادة من أ.

(2) في أ: "رحمهم".

(3) في أ: "الله".

(4) في د: "رخصه".

(5) المسند (2/108) وصحيح ابن حبان برقم (545) "موارد" وقال الهيثمي في المجمع (3/162): "رجاله رجال الصحيح".

(6) في د: "لفظ أحمد".

(7) المسند (2/71).

(8) في د: "نفسه"، وفي أ: "مهجة"

(9) زيادة من ر.

(10) في ر: "وصيدًا".

(11) في ر: "الأعوام".

(12) في أ: "يصيبنا".

(13) في د: "فما يحل"، وفي أ: "فمتى يحل".

(14) في أ: "تحتفنوا".

(15) المسند (5/218) وتفسير الطبري (9/538) ورواه الحاكم في المستدرك (4/125) من طريق الأوزاعي به وقال: "على شرطهما ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي فقال: "فيه انقطاع".

(3/29)

________________________________________

عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقد، به (1) ومنهم من رواه عن الأوزاعي، عن حسان، عن مرثد -أو أبي مرثد-عن أبي واقد، به (2) ورواه ابن جرير عن هناد بن السري، عن عيسي بن يونس، عن حسان، عن رجل قد سمي له، فذكره. ورواه أيضا عن هناد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان، مرسلا (3)

وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عَوْن قال: وجدت عند الحسن كتاب سَمُرة، فقرأته عليه، فكان فيه: "ويُجزى من الأضرار غَبُوق أو صبوح ".

حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا هُشَيْم، عن الخَصيب بن زيد التميمي (4) حدثنا الحسن، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [إلى] (5) متى يحل [لي] (6) الحرام؟ قال: فقال: "إلى متى يَرْوى أهلك من اللبن، أو تجيء مِيرَتُهم ".

حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عن جدته (7) ؛ أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَحِلُّ لك الطيبات، وتَحْرُم عليك الخبائث (8) إلا أن تَفْتَقِر إلى طعام لا يحل لك، فتأكل منه حتى تَسْتَغْنِيَ عنه". فقال الرجل: وما فَقْرِي الذي يحل لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كنت ترجو نِتَاجًا، فتبلغ بلُحُوم ماشيتك إلى نتاجك، أو كنت ترجو غِنًى، تطلبه، فتبلغ من ذلك شيئا، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه". فقال الأعرابي: ما غناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال [النبي] (9) صلى الله عليه وسلم: "إذا أرويت أهلك غَبُوقا من الليل، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام، وأما مالك فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام". (10)

ومعنى قوله: "ما لم تصطبحوا": يعني به: الغداء، "وما لم (11) تغتبقوا": يعني به: العشاء، "أو تختفئوا (12) بقلا (13) فشأنكم بها" [أي] (14) فكلوا منها. وقال ابن جرير: يروى هذا الحرف -يعني قوله: "أو تختفئوا (15) [بقلا] (16) على أربعة أوجه: "تختفئوا" بالهمزة، "وتحتفيوا" بتخفيف الياء والحاء، "وتحتفوا" بتشديد [الفاء] (17) وتحتفوا" بالحاء وبالتخفيف، ويحتمل الهمز، كذا ذكره في التفسير.

حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا الفضل بن دُكَيْن، حدثنا عُقْبَة بن وَهْب بن عقبة العامري (18) سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

__________

(1) رواهما الطبراني في المعجم الكبير (3/284) من طريق الأوزاعي به.

(2) رواهما الطبراني في المعجم الكبير (3/284) من طريق الأوزاعي به

(3) تفسير الطبري (9/542).

(4) في أ: "يزيد التيمي".

(5) زيادة من ر، أ.

(6) زيادة من أ.

(7) في أ: "عمن حدثه".

(8) في ر، أ: "يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث".

(9) زيادة من ر، أ.

(10) تفسير الطبري (9/540).

(11) في أ: "ولم".

(12) في أ: "تحتفنوا".

(13) في د: "ليلا".

(14) زيادة من ر.

(15) في أ: "تحتفؤوا".

(16) زيادة من أ.

(17) زيادة من ر، أ.

(18) في أ: "وهب بن عقبة بن وهب العامري".

(3/30)

________________________________________

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

ما يحل لنا من الميتة؟ قال: "ما طعامكم؟" قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم: فَسَّرَه لي عقبة: قدح غُدوة، وقدح عَشيَّة (1) قال: "ذَاكَ وأبي الجُوعُ". وأحل لهم الميتة على هذه (2) الحال.

تفرد به أبو داود (3) وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد ذلك بسد الرَّمَق، والله أعلم.

حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا سماك، عن جابر بن سَمُرَة، أن رجلا نزل الحَرَّةَ، ومعه أهله وولده، فقال له رجل: إن ناقة لي ضَلَّت، فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها، فمرضت فقالت امرأته: انحرها، فأبى، فَنَفَقَتْ، فقالت له امرأته: اسلخها حتى نُقدد شَحْمَها ولحمها فنأكله. فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنًى يُغْنِيك؟" قال: لا. قال: " فكلوها". قال: فجاء صاحبها فأخبره (4) الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك.

تفرد به (5) وقد يحتج به من يُجوز الأكل والشبع، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم.

وقوله: { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ } أي: [غير] (6) مُتَعَاطٍ لمعصية الله، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الآية : 173 ] .

وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأن الرخص لا تنال (7) بالمعاصي، والله أعلم.

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) }

لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها، إما في بَدَنِه، أو في دينه، أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة (8) الضرورة، كما قال: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] قال بعدها: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } كما [قال] (9) في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: أنه { يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } [ الآية : 157 ] .

__________

(1) في أ: "عشوة".

(2) في د، ر، أ: "هذا".

(3) سنن أبي داود برقم (2817).

(4) في د: "فأخبر".

(5) سنن أبي داود برقم (2817).

(6) زيادة من ر.

(7) في أ: "لأن الترخص لا ينال".

(8) في ر، أ: "في حال".

(9) زيادة من أ.

(3/31)

________________________________________

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني عبد الله بن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْر، عن عَدِيّ بن حاتم، وزيد بن المهَلْهِل الطائيين (1) سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا يا رسول الله، قد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } قال سعيد [بن جبير] (2) يعني: الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل: [بن حيان] (3) [ في قوله: { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ] (4) فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه (5) وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: ليس هو من الطيبات.

رواه ابن أبي حاتم (6) وقال ابن وَهْبٍ: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس. فقال: ليس هو من الطيبات.

وقوله تعالى: { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } أي: أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق، وأحل لكم ما اصطدتموه (7) بالجوارح، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة، وممن قال ذلك: علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } وهن (8) الكلاب المعلمة (9) والبازي، وكل طير يعلم للصيد (10) والجوارح: يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها.

رواه ابن أبى حاتم، ثم قال: وروي عن خَيْثَمَة، وطاوس، ومجاهد، ومكحول، ويحيى بن أبي كثير، نحو ذلك. وروي عن الحسن أنه قال: الباز والصقر من الجوارح. وروي عن علي بن الحسين مثله. ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله، وقرأ قول الله [عز وجل] (11) { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } قال: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك.

ونقله ابن جرير عن الضحاك والسُّدِّي، ثم قال: حدثنا هَنَّاد، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن جُرَيْجٍ، عن نافع، عن ابن عمر قال: أما ما صاد من الطير البُزاة وغيرها من الطير، فما أدركتَ فهو لك، وإلا فلا تطعمه.

قلت: والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب (12) ؛ لأنها تَكْلَبُ الصيد بمخالبها (13) كما تكلبه الكلاب، فلا فرق. وهذا (14) مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، واختاره ابن جرير، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد، حدثنا عيسي بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: "ما أمسك عليك فَكُلْ". (15)

__________

(1) في أ: "الطائي".

(2) زيادة من أ.

(3) زيادة من د، أ.

(4) زيادة من أ.

(5) في أ: "أن تصيبوه"

(6) سنن أبي داود برقم (2817).

(7) في د: " ما صدتموه".

(8) في د: "وهي".

(9) في أ: "المعلمين".

(10) في د، أ: "يعلم الصيد".

(11) زيادة من ر.

(12) في د: "كالصيد بالكلاب".

(13) في ر: "بمخاليبها".

(14) في د: "وهو".

(15) تفسير الطبري (9/550).

(3/32)

________________________________________

واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود؛ لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ" فقلت: ما بال الكلب الأسود من الأحمر (1) ؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان" (2) وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال: "ما بالهم وبال الكلاب، اقتلوا (3) منها كل أسود بَهِيم". (4)

وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن: جوارح، من الجرح، وهو: الكسب. كما تقول (5) العرب: فلان جَرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. ويقولون: فلان لا جارح له، أي: لا كاسب له، وقال الله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] أي: ما كسبتم من خير وشر.

وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني موسى بن عبيدة، حدثني أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت (6) بقتلها؟ قال: فسكت، فأنزل الله: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسل الرجل كلبه وسَمَّى، فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل ".

وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن زيد بن الحباب بإسناده، عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن (7) عليه، فأذن له فقال: قد أذنا لك يا رسول الله. قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب، قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت، حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأنزل الله عز وجل: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ }

ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق، عن أبَان بن صالح، به. وقال: صحيح ولم يخرجاه. (8)

__________

(1) في أ: "الأصفر".

(2) صحيح مسلم برقم (510).

(3) في أ: "وقالوا".

(4) صحيح مسلم برقم (1573) وسنن أبي داود برقم (74) وسنن النسائي (1/177) وسنن ابن ماجة برقم (365).

(5) في أ: "يقول".

(6) في د: "أمر".

(7) في ر: "يستأذن عليه".

(8) ورواه الطبري في تفسيره (9/545) من طريق زيد بن الحباب به، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/326) من طريق موسى بن عبيدة به. قال الهيثمي في المجمع (4/42): "فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف". قلت: وقد توبع: تابعه محمد بن إسحاق. رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/235)، والحاكم في المستدرك (2/311) من طريق معلى بن منصور، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق به مختصرا.

(3/33)

________________________________________

وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرَمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا (1) رافع في قتل الكلاب، حتى بلغ العَوالي فدخل (2) عاصم بن عَدِيٍّ، وسعد بن خَيْثَمةَ، وعُوَيْم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلت: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } [الآية] (3)

ورواه الحاكم من طريق سِمَاك، عن عكرمة (4) وهكذا قال محمد بن كعب القُرَظِيّ في سبب نزول هذه الآية: إنه في قتل الكلاب.

وقوله تعالى: { مُكَلِّبِينَ } يحتمل أن يكون حالا من الضمير في { عَلَّمْتُمْ } فيكون حالا من الفاعل، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو { الْجَوَارِحِ } أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد، وذلك أن تقتنصه (5) [الجوارح] (6) بمخالبها أو أظفارها (7) فيستدل بذلك -والحالة هذه-على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه وظفره أنه لا يحل، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء؛ ولهذا قال: { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى (8) وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه؛ ولهذا قال تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } فمتى كان (9) الجارحة معلما وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد، وإن قتله بالإجماع.

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، كما ثبت في الصحيحين عن عَدِيّ بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلَّمة وأذكر اسم الله. فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك (10) عليك". قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن ما لم يشركها كلب (11) ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". قلت له: فإني أرمي بالمِعْرَاض الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فَخَزق (12) فكله، وإن أصابه بعَرْض فإنه وَقِيذٌ، فلا تأكله". وفي لفظ لهما: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخْذ الكلب ذكاته". وفي رواية لهما: "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه." (13) فهذا دليل للجمهور (14) وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا.

__________

(1) في أ: "بعث أبي" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.

(2) في د: "فجاء".

(3) زيادة من د.

(4) تفسير الطبري (9/546) والمستدرك (2/311).

(5) في د: "تصيد".

(6) زيادة من ر.

(7) في أ: "وأظفارها".

(8) أشلاه استشلى: أي دعاه إليه.

(9) في أ: "كانت".

(10) في أ: "أمسكن".

(11) في ر: "كلب ما".

(12) في أ: "فخرق"

(13) صحيح البخاري برقم (5483) وصحيح مسلم برقم (1929).

(14) في ر، أ: "الجمهور".

(3/34)

________________________________________

ذكر الآثار بذلك:

قال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد، حدثنا وَكِيع، عن شُعْبَة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: قال سلمان الفارسي: كل وإن أكل ثلثيه (1) -يعني الصيد-إذا أكل منه الكلب. وكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبَة، وعمر (2) بن عامر، عن قتادة. وكذا رواه محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان.

ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن (3) موسى، عن يزيد، عن بكر بن عبد الله المُزَنِيّ (4) والقاسم؛ أن (5) سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه.

وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني مَخْرَمَة بن بُكَيْر (6) عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خُثَيْم (7) الدؤلي؛ أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال: كل، وإن لم يبق منه إلا حِذْيَة (8) -يعني: [إلا] (9) بضعة.

ورواه شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن بكير بن الأشَجِّ، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: كل وإن أكل ثلثيه.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن المُثَنَّى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن عامر، عن أبي هريرة قال: لو أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المُعْتَمِر قال: سمعت عُبَيد الله (10) وحدثنا هناد، حدثنا (11) عبدة، عن عبيد الله (12) بن عمر-عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله (13) فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل.

وكذا رواه عبيد الله (14) بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد، عن نافع.

فهذه الآثار ثابتة عن سلمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وابن عمر. وهو محكي عن علي، وابن عباس. واختلف فيه عن عطاء، والحسن البصري. وهو قول الزهري، وربيعة، ومالك. وإليه ذهب الشافعي في القديم، وأومأ إليه في الجديد.

وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا، فقال ابن جرير: حدثنا عمران بن بَكَّار الكُلاعِيّ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني، حدثنا محمد بن دينار -هو الطاحي-عن أبي إياس معاوية بن قُرَّة، عن سعيد بن المسيَّب، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه، وقد أكل منه، فليأكل ما بقي ".

ثم قال ابن جرير: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان،

__________

(1) في ر: "ثلثه".

(2) في أ: "وعمرو".

(3) في ر: "عن".

(4) في أ: "عن حميد عن ابن عبد الله المزني".

(5) في أ: "بن".

(6) في أ: "بكر".

(7) في أ: "هشيم".

(8) في ر: "جذية".

(9) زيادة من ر.

(10) في أ: "عبد الله".

(11) في د: "بن".

(12) في أ: "عبد الله".

(13) في أ: "اسم الله عليه".

(14) في أ: "عبد الله".

(3/35)

________________________________________

والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع. (1)

وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر، فقال أبو داود: حدثنا محمد بن مِنْهال الضرير، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا حبيب المعلم، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن أعرابيا -يقال له: أبو ثعلبة-قال: يا رسول الله، إن لي كلابا مُكَلَّبة، فأفتني في صيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك". فقال: ذكيا وغير ذكي؟ قال: "نعم". قال: وإن أكل منه؟ قال: "نعم، وإن أكل منه". قال: يا رسول الله، أفتني في قوسي. فقال: "كُلْ ما ردت عليك قوسك" قال: ذكيا وغير ذكي؟ قال: "وإن تغيب عنك ما لم يصل، أو تجد فيه أثر غير سهمك". قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال: "اغسلها وكل فيها". (2) .

هكذا رواه أبو داود (3) وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود، من طريق بُسْر بن عبيد الله (4) عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك" (5)

وهذان إسنادان جيدان، وقد روى الثوري، عن سِماك بن حَرْب، عن عَدِيٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان من كلب ضار أمسك عليك، فكل". قلت: وإن أكل؟ قال: "نعم".

وروى عبد الملك بن حبيب: حدثنا أسد بن موسى، عن ابن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عَدي مثله. (6)

فهذه آثار دالة على أنه يغتفر إن أكل منه الكلب. وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، كما تقدم عمن حكيناه عنهم، وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم. وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع (7) فأكل من الصيد لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخُشَنِيّ، وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين صحيح. وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجُوَيني في كتابه "النهاية" أن لو فصل مفصل هذا التفصيل، وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم، وقال آخرون قولا رابعا في المسألة، وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عَدِيّ، وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم؛ لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل.

__________

(1) تفسير الطبري (9/565، 566).

(2) في أ: "منها".

(3) سنن أبي داود برقم (2857).

(4) في ر: "يوسف بن سيف"، وفي أ: "يونس بن سيف".

(5) سنن أبي داود برقم (2852) ولم أجده في سنن النسائي.

(6) ورواه البخاري في صحيحه برقم (5475) ومسلم في صحيحه برقم (1929) من طريق زكريا بن أبي زائدة، به.

(7) في أ: "فجاع".

(3/36)

________________________________________

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن حماد، عن (1) إبراهيم، عن ابن عباس؛ أنه قال في الطير: إذا أرسلته فقتل فكل، فإن الكلب إذا ضربته لم يَعُدْ، وإن تَعَلّم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب، فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل. (2)

وكذا قال إبراهيم النَّخَعِي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان.

وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا المحاربي، حدثنا مُجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فما يحل لنا منها؟ قال: "يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه" ثم قال: "ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه، فكل مما أمسك عليك". قلت: وإن قتل؟ قال: "وإن قتل، ما لم يأكل". قلت: يا رسول الله، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها؟ قال: فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك". قال: قلت: إنا قوم نرمي، فما يحل لنا؟ قال: "ما ذكرت اسم الله عليه وخزَقَتْ فكل ".

فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب ألا يأكل، ولم يشترط ذلك في البزاة، فدل على التفرقة بينهما في الحكم، والله أعلم.

وقوله: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } أي: عند الإرسال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم (3) وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك". وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا: "إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله" ؛ ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كأحمد [بن حنبل] (4) -في المشهور عنه (5) -التسمية -عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث، وهذا القول هو المشهور عن (6) الجمهور، أن (7) المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال، كما قال (8) السُّدِّي وغير واحد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } يقول: إذا أرسلت جارحك فقل: باسم الله، وإن نسيت فلا حرج.

وقال بعض الناس: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل كما ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّم رَبِيبه عمر بن أبي سلمة فقال: "سَمّ الله، وكُل بيمينك، وكل مما يليك". (9) وفي صحيح البخاري: عن عائشة أنهم قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا -حديث عهدهم بكفر-بلُحْمانٍ لا ندري أذكر اسم الله عليها (10) أم لا؟ فقال: "سَمّوا الله أنتم وكلوا." (11)

__________

(1) في ر، أ: "بن".

(2) تفسير الطبري (9/557).

(3) في أ: "المكلب".

(4) زيادة من ر، أ.

(5) في أ: "عند".

(6) في أ: "عند".

(7) في أ: "وأن".

(8) في أ: "قاله".

(9) صحيح البخاري برقم (5376) وصحيح مسلم برقم (2022).

(10) في ر، أ: "عليه".

(11) صحيح البخاري برقم (5507).

(3/37)

________________________________________

حديث آخر: وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا هشام، عن بُدَيل، عن عبد الله بن عُبَيد بن عُمَير، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه لو (1) كان ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله أوله فليقل: باسم الله (2) أوله وآخره ".

وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، به (3) وهذا منقطع بين عبد الله (4) بن عبيد بن عمير وعائشة، فإنه لم يسمع منها هذا الحديث، بدليل ما رواه الإمام أحمد:

حدثنا عبد الوهاب، أخبرنا هشام -يعني ابن أبي عبد الله الدَّسْتَوائي-عن بديل، عن عبد الله بن عبيد بن عمير؛ أن امرأة منهم -يقال لها: أم كلثوم-حدثته، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين، فقال: "أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي اسم الله في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره ".

[و] (5) رواه أحمد أيضا، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من غير وجه، عن هشام الدستوائي، به (6) وقال الترمذي: حسن صحيح.

حديث آخر: وقال أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا جابر بن صبح (7) حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي، وصحبته إلى واسط، فكان يسمي في أول طعامه (8) وفي آخر لقمة يقول: بسم الله أوله وآخره.

فقلت له: إنك تسمي في أول ما تأكل، أرأيت (9) قولك في آخر ما تأكل: باسم الله أوله وآخره؟ فقال: أخبرك عن ذلك إن جدي أمية بن مخشى (10) -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم-سمعته يقول: إن رجلا كان يأكل، والنبي ينظر، فلم يسم، حتى كان في آخر طعامه لقمة، فقال: باسم الله أوله وآخره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سَمّى، فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه ".

وهكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث جابر بن صبح (11) الراسبي أبي بشر البصري (12) ووثقه ابن مَعِين والنسائي، وقال أبو الفتح الأزدي: لا تقوم به الحجة. (13)

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن خَيْثَمَة، عن أبي حذيفة

__________

(1) في ر: "أما لو أنه".

(2) في أ: "باسم الله على".

(3) المسند (6/143) وسنن ابن ماجه برقم (3264).

(4) في أ: "عبيد الله".

(5) زيادة من ر.

(6) المسند (6/265)، (6/246) وسنن أبي داود برقم (3767) وسنن الترمذي برقم (1858) وسنن النسائي الكبرى برقم (10112).

(7) في أ: "صبيح"

(8) في أ: "الطعام".

(9) في أ: "أفرأيت".

(10) في ر: "خالد بن أمية بن مخشى".

(11) في أ: "صبيح".

(12) المسند (4/336) وسنن أبي داود برقم (3768) وسنن النسائي الكبرى برقم (10113).

(13) في أ: "لا يقوم به حجة.

(3/38)

________________________________________

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد: واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب -من أصحاب ابن مسعود-عن حذيفة قال: كنا إذا حضرنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] (1) على طعام، لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (2) فيضع يده، وإنا حضرنا معه طعاما فجاءت جارية، كأنما تُدفع، فذهبت تضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، وجاء أعرابي كأنما يُدفع، فذهب يضع يده في الطعام، فأخذ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يَسْتَحِلُّ الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل (4) بها، فأخذت بيدها، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع يدهما (5) يعني الشيطان. وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث الأعمش به. (6)

حديث آخر: روى مسلم وأهل السنن إلا الترمذي (7) من طريق ابن جُرَيْج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله (8) عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مَبِيت لكم ولا عَشَاء، وإذا دخل فلم (9) يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم (10) المبيت، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال: أدركتم (11) المبيت والعشاء". لفظ أبي داود.

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن وَحْشِيّ بن حَرْب بن وَحْشِي بن حَرْب، عن أبيه، عن جده؛ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نأكل وما نشبع؟ قال: "فلعلكم (12) تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله، يبارك لكم فيه ".

ورواه أبو داود، وابن ماجه، من طريق الوليد بن مسلم. (13)

{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) }

لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث، وما أحله لهم من الطيبات، قال بعده: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ }

__________

(1) زيادة من أ.

(2) زيادة من أ.

(3) زيادة من و، أ.

(4) في أ: "فيستحل".

(5) في أ: "بيديهما".

(6) المسند (5/382) وصحيح مسلم برقم (2017) وسنن أبي داود برقم (3766) وسنن النسائي الكبرى برقم (6754).

(7) صحيح مسلم برقم (2018) وسنن أبي داود برقم (3765) وسنن النسائي الكبرى برقم (6757) وسنن ابن ماجة برقم (3887).

(8) في أ: "فذكر اسم الله".

(9) في أ: "ولم".

(10) في أ: "أدركتكم".

(11) في أ: "أدركتكم".

(12) في أ: "فعلكم".

(13) المسند (3/501) وسنن أبي داود برقم (3764) وسنن ابن ماجة برقم (3286).

(3/39)

________________________________________

ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى، فقال: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ } قال ابن عباس، وأبو أمامة، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة، وعَطاء، والحسن، ومَكْحول، وإبراهيم النَّخَعِي، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حيَّان: يعني ذبائحهم.

وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء: أن ذبائحهم حلال للمسلمين؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم، تعالى وتقدس. وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مُغَفَّل قال: دُلِّي بجراب من شحم يوم خيبر. [قال] (1) فاحتضنته (2) وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدًا، والتفتُّ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم. (3)

فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناولُ ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة، وهذا ظاهر. واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل (4) ما يعتقد اليهود تحريمه (5) من ذبائحهم، كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم. فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله؛ لقوله تعالى: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } قالوا: وهذا ليس من طعامهم. واستدل عليهم (6) الجمهور بهذا الحديث، وفي ذلك نظر؛ لأنه قضية عين، ويحتمل أنه كان شحما يعتقدون حله، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما، والله أعلم.

وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح: أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مَصْليَّة، وقد سَمّوا ذراعها، وكان يعجبه الذراع، فتناوله فنَهَشَ منه نَهْشةً، فأخبره الذراع أنه مسموم، فلَفَظَه وأثر ذلك السم في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبْهَرِه، وأكل معه منها بشر بن البراء بن مَعْرور؛ فمات، فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب، فقتلت ببشر بن البراء. (7)

ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا.

وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنَخَة، يعني: ودَكا زنخا (8)

وقال ابن أبي حاتم: قرئ على العباس بن الوليد بن مَزْيَد، أخبرنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان بن المنذر، عن مكحول قال: أنزل الله: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ثم نسخها الرب، عز وجل، ورحم المسلمين، فقال: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فنسخها بذلك، وأحل طعام أهل الكتاب.

وفي هذا الذي قاله مكحول، رحمه الله، نظر، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحةُ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه؛ لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم، وهم متعبدون

__________

(1) زيادة من أ.

(2) في أ: "فاحتبسته".

(3) صحيح البخاري برقم (3153) وصحيح مسلم برقم (1772).

(4) في أ: "كل".

(5) في أ: "وتحريمه".

(6) في ر: "عليه".

(7) ورواه أبو داود في سننه برقم (4512) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

(8) رواه أحمد في مسنده (3/211) من حديث أنس، رضي الله عنه.

(3/40)

________________________________________

بذلك؛ ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم، لأنهم لم يذكروا اسم الله على ذبائحهم، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة، بل يأكلون الميتة، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة، ومن تَمَسّك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء، على أحد قولي العلماء، ونصارى العرب كبني تَغْلِب وتَنُوخ وبَهْرَاء وجُذام ولَخْم وعَاملة ومن أشبههم، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.

[و] (1) قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن (2) محمد بن عَبِيدة قال: قال علي: لا تأكلوا ذبائح بنى تغلب؛ لأنهم (3) إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر.

وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة عن سعيد بن المسيب، والحسن؛ أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب.

وأما المجوس، فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم (4) لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد بن حنبل، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك، حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه! يعني في هذه المسألة، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سُنوا بهم سنة أهل الكتاب"، (5) ولكن لم يثبت بهذا اللفظ، وإنما الذي في صحيح البخاري: عن عبد الرحمن بن عوف؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مَجوس هَجَر (6) ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فدل بمفهومه -مفهوم المخالفة-على أن طعام من عداهم من أهل الأديان (7) لا يحل (8)

وقوله: { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } أي: ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم، وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم، اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى، أي: ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مات ودفنه فيه، قالوا: لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك، فأما (9) الحديث الذي فيه: "لا تَصْحَبْ إلا مُؤْمِنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" (10) فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم.

__________

(1) زيادة من أ.

(2) في ر، أ: "بن".

(3) في ر، أ: "فإنهم".

(4) في أ "فإنه".

(5) رواه مالك في الموطأ (1/278) ومن طريقة الشافعي في السنن (1183) والبيهقي في السنن الكبرى (9/189) عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". ومحمد بن علي لم يسمع من عمر، فهو منقطع.

(6) صحيح البخاري برقم (3156).

(7) في أ: "الأوثان".

(8) في د: "طعام غير أهل الكتاب لا يحل".

(9) في أ: "وأما".

(10) رواه أبو دواد في السنن برقم (4832) وابن ماجة في السنن برقم (2395) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.

(3/41)

________________________________________

وقوله: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } أي: وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده، وهو قوله: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم } فقيل: (1) أراد بالمحصنات: الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد. وإنما قال مجاهد: المحصنات: الحرائر، فيحتمل (2) أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة، كما قاله مجاهد في الرواية الأخرى عنه. وهو (3) قول الجمهور هاهنا، وهو الأشبه؛ لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل (4) في المثل: "حَشفَا (5) وسَوء كيلة". (6) (7) والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنا، كما قال في الآية الأخرى: { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ] .

ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هل يعم كل كتابية عفيفة، سواء كانت حرة أو أمة؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف، ممن فسر المحصنة بالعفيفة. وقيل: المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات، وهو مذهب الشافعي. وقيل: المراد بذلك: الذميات دون الحربيات؛ لقوله: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ[وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] } [ التوبة : 29 ] (8)

وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } الآية [ البقرة : 221 ].

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب، حدثنا القاسم بن مالك -يعني المُزَنِيّ-حدثنا إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي مالك الغفاري، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت التي بعدها: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فنكح الناس [من] (9) نساء أهل الكتاب.

وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا، أخذا بهذه الآية الكريمة: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فجعلوا (10) هذه مخصصة للآية التي البقرة: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ الآية : 221 ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها (11) ؛ لأن أهل الكتاب قد يُفْصَل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كما قال تعالى: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] وكقوله (12) { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } الآية [ آل عمران : 20 ]

__________

(1) في د: "قيل"، وفي أ: "قلت".

(2) في أ: "يحتمل".

(3) في أ: "وهي".

(4) في د: "كما قيل".

(5) في ر، د: "حثف".

(6) في أ: "كلية"، وهو خطأ.

(7) الحشف: أردأ التمر، وانظر: مجمع الأمثال للميداني (1/207).

(8) زيادة من ر،أ. وفي هـ: "الآية".

(9) زيادة من أ.

(10) في أ: "وجعلوا".

(11) في ر، أ: "وبيننا".

(12) في ر: "ولقوله".

(3/42)

________________________________________

، وقوله: { إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي: (1) مهورهن، أي: كما هن محصنات عفائف، فابذلوا لهن المهور (2) عن طيب نفس. وقد أفتى جابر بن عبد الله، وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبي، والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها: أنه يفرق بينه وبينها، وتَرُدّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم..

وقوله: { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } فكما شرط الإحصان في النساء -وهي العفة-عن الزنا كذلك شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا؛ ولهذا قال: { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وهم: الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية، ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم، { وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } أي: ذوي العشيقات الذين (3) لا يفعلون إلا معهن، كما تقدم في سورة النساء سواء؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البَغي حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا؛ لهذه الآية وللحديث الآخر: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله." (4)

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بَشّار، حدثنا سليمان بن حَرْب، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (5) لقد هممت ألا أدع أحدًا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب. (6)

وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى [إن شاء الله تعالى] (7) عند قوله: { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

__________

(1) في أ: "يعني".

(2) في أ: "مهورهن".

(3) في ر، أ: "اللاتي".

(4) رواه أبو داود في سننه برقم (2052) من طريق عمرو بن شعيب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به.

(5) زيادة من أ.

(6) تفسير الطبري (9/584).

(7) زيادة من أ.

 

 

 

 

==================

 

المائدة - تفسير القرطبي

 

 

3- {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

(6/47)

________________________________________

فيه ست وعشرون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } تقدم القول فيه كاملا في البقرة.

الثانية: قوله تعالى: { وَالْمُنْخَنِقَةُ } هي التي تموت خنقا، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو أتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه. وذكر قتادة: أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها؛ وذكر نحوه ابن عباس.

الثالثة: قوله تعالى: { وَالْمَوْقُوذَةُ } الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية؛ عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي؛ يقال منه: وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ. والوقذ شدة الضرب، وفلان وقيذ أي مثخن ضربا. قال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه. وقال الضحاك: كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها، ومنه المقتولة بقوس البندق. وقال الفرزدق:

شغارة تقذ الفصيل برجلها ... فطارة لقوادم الأبكار

وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؛ فقال: "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله" وفي رواية "فإنه وقيذ" . قال أبو عمر: اختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض؛ فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته؛ على ما روي عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي. وخالفهم الشاميون في ذلك؛ قال الأوزاعي في المعراض؛ كله خزق أو لم يخزق؛ فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبدالله بن عمر

(6/48)

________________________________________

ومكحول لا يرون به بأساً ؛ قال أبو عمر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبدالله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه. والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه "وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ" .

الرابعة: قوله تعالى: { وَالْمُتَرَدِّيَةُ } المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت؛ كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه؛ وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك؛ وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها. وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضا؛ لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم؛ ومنه الحديث "وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" أخرجه مسلم. وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف؛ فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة؛ فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها، وبقيت هذه كلها ميتة، وهذا كله من المحكم المتفق عليه. وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل.

الخامسة: قوله تعالى: { وَالنَّطِيحَةُ } النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى. وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة؛ لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان. وقيل: نطيحة ولم يقل نطيح، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال: كف خضيب ولحية دهين؛ لكن ذكر الهاء ههنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به؛ يقال: شاة نطيح وامرأة قتيل، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول: رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم؛ لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت: رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة. وقرأ أبو ميسرة { وَالمنَّطِوحَةُ } .

السادسة: قوله تعالى: { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } يرد كل ما أفترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها، هذه كلها سباع. يقال: سبع فلان فلانا أي عضه بسنه، وسبعه أي عابه ووقع فيه. وفي الكلام إضمار، أي وما أكل منه

(6/49)

________________________________________

السبع؛ لأن ما أكله السبع فقد فني. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها؛ قاله قتادة وغيره وقرأ الحسن وأبو حيوة { السَّبْعُ } بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد. وقال حسان في عتبة بن أبي لهب:

من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع

وقرأ ابن مسعود: "وأكيلة السَّبُع" وقرأ عبدالله بن عباس: { وأَكَيلَ السَّبُعُ } .

السابعة: قوله تعالى: { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } نصب على الاستثناء المتصل، عند الجمهور من العلماء والفقهاء. وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة؛ فإن الذكاة عاملة فيه؛ لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له. روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال: كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل. قال إسحاق بن راهويه: السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس؛ فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم؛ وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها ؟ فكذلك المريضة؛ قال إسحاق: ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء.

قلت: وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك؛ وهو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي. قال المزني: وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه؛ وهو قول المدنيين، والمشهور من قول مالك، وهو الذي ذكره عبدالوهاب في تلقينه، وروي عن زيد بن ثابت؛ ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين. والاستثناء على هذا القول منقطع؛ أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم. قال ابن العربي: اختلف قول مالك

(6/50)

________________________________________

في هذه الأشياء؛ فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة؛ والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تضطرب فليأكل؛ وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره؛ فهو أولى من الروايات النادرة. وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة؛ وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض، وبقية حياة من سبع لو أتسق النظر، وسلمت من الشبهة الفكر !. وقال أبو عمرو: قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك؛ وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها؛ وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية. والله أعلم.

الثامنة: قوله تعالى: { ذَكَّيْتُمْ } الذكاة في كلام العرب الذبح؛ قاله قطرب. وقال ابن سيده في "المحكم" والعرب تقول "ذكاة الجنين ذكاة أمه"؛ قال ابن عطية: وهذا إنما هو حديث. وذكى الحيوان ذبحه؛ ومنه قول الشاعر:

يذكيها الأسل

قلت: الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه " وبه يقول جماعة أهل العلم، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا لم يحل أكله؛ لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين. قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" دليل على أن الجنين غير الأم، وهو يقول: لو أعتقت أمة حامل أن عتقه عتق أمه؛ وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه؛ لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين؛ على أن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن أصحابه، وما عليه جل الناس مستغنى به عن قول كل قائل. وأجمع أهل العلم على

(6/51)

________________________________________

أن الجنين إذا خرج حيا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له، واختلفوا إذا ذكيت الأم وفي بطنها جنين؛ فقال مالك وجميع أصحابه: ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج به رمق من الحياة، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك، فإن سبقهم بنفسه أكل. وقال ابن القاسم: ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم؛ فأمرت أهلي أن يشووه. وقال عبدالله بن كعب بن مالك. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. قال ابن المنذر: وممن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق. قال القاضي أبو الوليد الباجي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" إلا أنه حديث ضعيف؛ فمذهب مالك هو الصحيح من الأقوال الذي عليه عامة فقهاء الأمصار. وبالله التوفيق

التاسعة: قوله تعالى: { ذَكَّيْتُمْ } الذكاة في اللغة أصلها التمام، ومنه تمام السن. والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح بسنة، وذلك تمام استكمال القوة. ويقال: ذكى يذكي، والعرب تقول: جري المذكيات غلاب. والذكاء حدة القلب؛ وقال الشاعر:

يفضله إذا اجتهدوا عليه ... تمام السن منه والذكاء

والذكاء سرعة الفطنة، والفعل منه ذكي يذكى ذكا، والذكوة ما تذكو به النار، وأذكيت الحرب والنار أو قدتهما. وذكاء اسم الشمس؛ وذلك أنها تذكو كالنار، والصحيح ابن ذكاء لأنه من ضوئها. فمعنى { ذَكَّيْتُمْ } أدركتم ذكاته على التمام. ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب؛ يقال: رائحة ذكية؛ فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب، لأنه يتسارع إليه التجفيف؛ وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما "ذكاة الأرض يبسها" يريد

(6/52)

________________________________________

طهارتها من النجاسة؛ فالذكاة في الذبيحة لها، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة؛ وهو قول أهل العراق. وإذا تقرر هذا فأعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه؛ على ما يأتي بيانه

العاشرة- واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة؛ فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم؛ على هذا تواترت الآثار، وقال به فقهاء الأمصار. والسن والظفر المنهي عنهما في التذكية هما غير المنزوعين؛ لأن ذلك يصير خنقا؛ وكذلك قال ابن عباس: ذلك الخنق؛ فأما المنزوعان فإذا فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم. وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال؛ منزوعة أو غير منزوعة؛ منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد، وروي عن الشافعي؛ وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال: قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى - في رواية - فنذكي بالليط ؟. وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ: أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله صلى الله عليهوسلم  عن ذلك فقال: "لا بأس بها وكلوها" . وفي مصنف أبي داود: أنذبح بالمروة وشقة العصا ؟ قال: "أعجل وأرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" الحديث أخرجه مسلم. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما ذبح بالليطة والشطير والظرر فحل ذكي. الليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر. والشطير

(6/53)

________________________________________

فلقة العود، وقد يمكن بها الذبح لأن لها جانبا دقيقا. والظرر فلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر؛ وعكسه الشظاظ ينحر به، لأنه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح

الحادية عشرة: قال مالك وجماعة: لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين. وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت. ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة؛ وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله: "ما أنهر الدم" . وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع: الحلقوم والودجين والمريء؛ وهو قول أبي ثور، والمشهور ما تقدم وهو قول الليث. ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا ؟ على قولين

الثانية عشرة: وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة؛ واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا، على قولين: وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل؛ وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل. وقال الشافعي: تؤكل؛ لأن المقصود قد حصل. وهذا ينبني على أصل، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد؛ وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال: "إنما الذكاة في الحلق واللبة" فبين محلها وعين موضعها، وقال مبينا لفائدتها: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" . فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد، فلم تؤكل لذلك. والله أعلم.

الثالثة عشرة: واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة؛ فقيل: يجزئه. وقيل: لا يجزئه؛ والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها

(6/54)

________________________________________

الرابعة: ويستحب إلا يذبح إلا من ترضى حاله، وكل من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلما أو كتابيا، وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي، ولا يذبح نسكا إلا مسلم؛ فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه؛ ولا يجوز في تحصيل المذهب، وقد أجازه أشهب

الخامسة عشرة: وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسي، في قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد؛ وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبة على سنة الذكاة. وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم؛ وفي الباب حديث رافع بن خديج وقد تقدم، وتمامه بعد قوله: "فمدى الحبشة" قال: وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا - وفي رواية - فكلوه" . وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ قال الشافعي: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة؛ واحتج بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي الشعراء عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ قال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك" قال يزيد بن هارون: وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ورواه عن أبي داود، وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه. قال أبو داود: لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش. وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة؛ وهو قول أنفرد به عن مالك وأصحابه. قال أبو عمر: قول الشافعي أظهر في أهل العلم، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي؛ لحديث رافع بن خديج؛ وهو قول ابن عباس وابن مسعود؛ ومن جهة القياس لما كان الوحشي إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسي؛ لأنه صار مقدورا عليه؛ فكذلك ينبغي في القياس إذا توحش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يحل بما يحل به الوحشي.

(6/55)

________________________________________

قلت: أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته، وهو مقتضى الحديث وظاهره؛ لقوله: "فحبسه" ولم يقل إن السهم قتله؛ وأيضا فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه، وإنما يكون ذلك في الصيد. وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوسا صار مقدورا عليه؛ فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر. والله أعلم. وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث. واختلفوا في اسم أبي الشعراء؛ فقال بعضهم: اسمه أسامة بن قهطم، ويقال: اسمه يسار بن برز - ويقال: بلز - ويقال: اسمه عطارد نسب إلى جده" فهذا سند مجهول لا حجة فيه؛ ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة؛ إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور وغيره، ولا قائل به في المقدور؛ فظاهره ليس بمراد قطعا. وتأويل أبي داود وابن حجيب له غير متفق عليه؛ فلا يكون فيه حجة، والله أعلم. قال أبو عمر: وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يند الإنسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا. وهذا لا حجة فيه؛ لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدور عليه، وهذا غير مقدور عليه.

السادسة عشرة: ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم عن شداد بن أوس قال: اثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب" فذكره. قال علماؤنا: إحسان الذبح في البهائم الرفق بها؛ فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الإباحة والقربة وتوجيهها إلى القبلة، والإجهاز، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله بالمنة، والشكر له بالنعمة؛ بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء

(6/56)

________________________________________

لحرمه علينا. وقال ربيعة: من إحسان الذبح ألا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها؛ وحكي جوازه عن مالك؛ والأول أحسن. وأما حسن القتلة فعام في كل شيء من التذكية والقصاص والحدود وغيرها. وقد روى أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، زاد ابن عيسى في حديثه "وهي التي تذبح فتقطع ولا تفرى الأوداج ثم تترك فتموت"

السابعة عشرة: قوله تعالى: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال ابن فارس: "النصب" حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح، وهو النصب أيضا. والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وغبار منتصب مرتفع. وقيل: { النُّصُبِ } جمع، واحده نصاب كحمار وحمر. وقيل: هو اسم مفرد والجمع أنصاب؛ وكانت ثلاثمائة وستين حجرا. وقرأ طلحة { النُّصْبِ } بجزم الصاد. وروي عن ابن عمر { النَصْبِ } بفتح النون وجزم الصاد. الجحدري: بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب؛ كالأجمال والأجبال. قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها. قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة؛ فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك؛ فأنزل الله تعالى: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا } ونزلت { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } المعنى: والنية فيها تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، وقال الأعشى:

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعافية والله ربك فاعبدا

وقيل: {على} بمعنى اللام؛ أي لأجلها؛ قال قطرب قال ابن زيد: ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد. قال ابن عطية: ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وتشرف الموضع وتعظيم النفوس له

(6/57)

________________________________________

الثامنة عشرة: قوله تعالى: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ } معطوف على ما قبله، و {أن} في محل رفع، أي وحم عليكم الاستقسام. والأزلام قداح الميسر، واحدها زلم وزلم؛ قال:

بات يقاسيها غلام كالزلم

وقال آخر، فجمع:

فلئن جذيمة قتلت سرواتها ... فنساؤها يضربن بالأزلام

وذكر محمد بن جرير: أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها. قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشطرنج. فأما قول لبيد:

تزل عن الثرى أزلامها

فقالوا: أراد أظلاف البقرة الوحشية. والأزلام العرب ثلاثة أنواع:

منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها أفعل، وعلى الثاني لا تفعل، والثالث مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده - وهي متشابهة - فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب؛ وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة؛ وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون؛ كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسقي. ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل نجم كذا. وقال جل وعز: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً } الآية . وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله.

والنوع الثاني: سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل، كل قدح منها فيه كتاب؛ قدح فيه العقل من أم الديات، وفي آخر "منكم" وفي آخر "من غيركم"، وفي آخر "ملصق"، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك،

(6/58)

________________________________________

وهي التي ضرب بها عبدالمطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة؛ الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق. وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم؛ على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل.

والنوع الثالث: هو قداح المسير وهي عشرة؛ سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقام لهوا ولعبا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف. وقال مجاهد: الأزلام هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها. وقال سفيان ووكيع: هي الشطرنج؛ فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا؛ وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله؛ وهو صرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب. قال ابن خويز منداد: ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم، ورقاع الفأل في أشباه ذلك. وقال الكيا الطبري: وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب؛ فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدا، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر؛ فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة، وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام؛ فإن العتق حكم شرعي، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شيء يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا؛ فظهر افتراق البابين.

التاسعة عشرة: وليس من هذا الباب طلب الفأل، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح؛ أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح غريب؛ وإنما كان يعجبه الفأل لأنه

(6/59)

________________________________________

تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل؛ فيحسن الظن بالله عز وجل، وقد قال: "أنا عند ظن عبدي بي" وكان عليه السلام يكره الطيرة؛ لأنها من أعمال أهل الشرك؛ ولأنها تجلب ظن السوء بالله عز وجل. قال الخطابي: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه. وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم، أو يكون باغيا فيسمع يا واجد؛ وهذا معنى حديث الترمذي، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طيرة وخيرها الفأل" ، قيل: يا رسول الله وما الفأل ؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم " . وسيأتي لمعنى الطيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى. روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا؛ من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة

الموفية العشرون: قوله تعالى: { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } إشارة إلى الاستقسام بالأزلام. والفسق الخروج، وقد تقدم. وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرمات، وكل شيء منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود، إذ قال: { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } .

الحادية والعشرون: قوله تعالى: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا. قال الضحاك: نزلت هذه الآية حين فتح مكة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، ويقال: سنة ثمان، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا من قال لا إله إلا الله فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" . وفي { يَئِسَ } لغتان، يئس ييأس يأسا، وأيس يأيس

(6/60)

________________________________________

إياسا وإياسة؛ قاله النضر بن شميل. { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } أي لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم

الثانية والعشرون: قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج؛ فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية؛ على ما نبينه. روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا؛ قال: وأي آية ؟ قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة. لفظ مسلم. وعند النسائي ليلة جمعة. وروي أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك" ؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقت" وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة.

قلت: القول الأول أصح، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت. و { الْيَوْمَ } قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه؛ تقول: فعلنا في شهر كذا وكذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة؛ وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم. والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا؛ فإنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حكم، قاله ابن عباس والسدي. وقال الجمهور: المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا: وقد نزل

(6/61)

________________________________________

بعد ذلك قرآن كثير، ونزلت آية الربا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأم الحج، إذا لم يطف معهم في هذه السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة. وقيل: { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } بأن أهلكت لكم عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول: قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك.

الثالثة والعشرون: قوله تعالى: { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } أي بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وعدتكم، إذ قلت: { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } وهي دخول مكة. آمنين مطمئنين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى

الرابعة والعشرون: لعل قائلا يقول: قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص، ومعلوم أن النقص عيب، ودين الله تعالى قيم، كما قال تعالى: { دِيناً قِيَماً } فالجواب أن يقال له: لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له: أرأيت نقصان الشهر هل كون عيبا، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } أهو عيب له، ونقصان أيام الحيض عن المعهود، ونقصان أيام الحمل، ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشين ولا عيب، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يخرج على وجهين:

أحدهما: أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب، لكنه يوصف بنقصان مقيد

(6/62)

________________________________________

فيقال له: إنه كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه؛ كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال: أكمل الله عمره؛ ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور وخلل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر" . ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيد فيقال: كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه مبلغه إياه ومعمره إليه. وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات؛ فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحا، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل؛ ولو قيل: كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامه إليها وزائدة عليها لكان ذلك صحيحا فهكذا، هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده. والله أعلم.

والوجه الآخر: أنه أراد بقوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره، فحجوا؛ فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه وقياما بفرائضه؛ فإنه يقول عليه السلام: "بني الإسلام على خمس" الحديث. وقد كانوا تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا؛ فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى وهم بالموقف عشية عرفة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فإنما أراد أكمل وضعه لهم؛ وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام.

الخامسة والعشرون: قوله تعالى: { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } أي أعلمتكم برضاي به لكم دينا؛ فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا؛ فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره. و { دِيناً } نصب على التمييز، وإن شئت على مفعول ثان. وقيل: المعنى ورضيت عنكم إذا أنقدتم لي بالدين الذي شرعته لكم. ويحتمل أن يريد { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } أي ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئا. والله أعلم. و { الإسْلامَ } في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى:

(6/63)

________________________________________

{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ } وهو الذي يفسر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام، وهو الإيمان والأعمال والشعب

السادسة والعشرون: قوله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية. والمخمصة الجوع وخلاء البطن من الطعام. والخمص ضمور البطن. ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة؛ ومنه أخمص القدم، ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث؛ قال الأعشى:

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن. وقال النابغة في خمص البطن من جهة ضمره:

والبطن ذو عكن خميص لين ... والنحر تنفجه بثدي مقعد

وفي الحديث: "خماص البطون خفاف الظهور" الخماص جمع الخميص البطن، وهو الضامر. أخبر أنهم أعفاء عن أموال الناس؛ ومنه الحديث: "إن الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" والخميصة أيضا ثوب؛ قال الأصمعي: الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة، وهي سوداء، كانت من لباس الناس. وقد تقدم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة.

السابعة والعشرون: قوله تعالى: { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي غير مائل لحرام، وهو بمعنى { غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } وقد تقدم. والجنف الميل، والإثم الحرام؛ ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تجانفنا فيه لإثم؛ أي ما ملنا ولا تعمدنا ونحن نعلمه: وكل مائل فهو متجانف وجنف. وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي { مُتَجَنِِّفٍ } دون ألف، وهو أبلغ في المعني، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه؛ وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء

(6/64)

________________________________________

والتقرب منه؛ ألا ترك أنك إذا قلت: تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا ومقاربة ميل، وإذا قلت: تميل فقد ثبت حكم الميل، وكذلك تصاون الرجل وتصون، وتعاقل وتعقل؛ فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده؛ قاله قتادة والشافعي. { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي فإن الله له غفور رحيم فحذف، وأنشد سيبويه:

قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع

أراد لم أصنعه فحذف. والله أعلم.

4- { يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

فيه ثماني عشرة مسألة:

الأولى- قوله تعالى: { يَسْأَلونَكَ } الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير؛ قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآية.

الثانية- قوله تعالى: { مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } {مَا} في موضع رفع بالابتداء، والخبر { أُحِلَّ لَهُمْ } و {ذَا} زائدة، وإن شئت كانت بمعنى الذي، ويكون الخبر { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } وهو الحلال، وكل حرام فليس بطيب. وقيل: ما التذه آكله وشاربه ولم يكن عليه فيه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة. وقيل: الطيبات الذبائح، لأنها طابت بالتذكية

الثالثة- قوله تعالى: { وَمَا عَلَّمْتُمْ } أي وصيد ما علمتم؛ ففي الكلام إضمار لا بد منه، ولولاه لكان المعنى يقتضي أن يكون الحل المسؤول عنه متناولا للمعلم من الجوارح المكلبين،

(6/65)

________________________________________

وذلك ليس مذهبا لأحد؛ فإن الذي يبيح لحم الكلب فلا يخصص الإباحة بالمعلم؛ وسيأتي ما للعلماء في أكل الكلب في {الأنعام} إن شاء الله تعالى. وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تتناول ما علمناه من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل، وهو الأكل من الجوارح أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير؛ وكان لعدي كلاب خمسة قد سماها بأسماء أعلام، وكان أسماء أكلبه سلهب وغلاب والمختلس والمتناعس، قال السهيلي: وخامس أشك، قال فيه أخطب، أو قال فيه وثاب.

الرابعة- أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فينشلي إذا أشلي ويجيب إذ دعي، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر، وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده، وأثر فيه بجرح أو تنييب، وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف؛ فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف. فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب. يقال: جرح فلان واجترح إذا اكتسب؛ ومنه الجارحة لأنها يكتسب بها، ومنه اجتراح السيئات. وقال الأعشى:

ذا جبار منضجا ميسمه ... يذكر الجارح ما كان اجترح

وفي التنزيل { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } وقال: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } .

الخامسة- قوله تعالى: { مُكَلِّبِينَ } معنى { مُكَلِّبِينَ } أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب. وقيل: معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب؛ قال الرماني: وكلا

(6/66)

________________________________________

القولين محتمل. وليس في { مُكَلِّبِينَ } دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة؛ لأنه بمنزلة قوله: { مُؤْمِنِينَ } وإن كان قد تمسك به من قصر الإباحة على الكلاب خاصة. روي عن ابن عمر فيما حكى ابن المنذر عنه قال: وأما ما يصاد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو لك حلال، وإلا فلا تطعمه. قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي يحل صيده قال: لا؛ إلا أن تدرك ذكاته. وقال الضحاك والسدي: { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } هي الكلاب خاصة؛ فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي. وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما؛ وبه قال إسحاق بن راهويه؛ فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم، أما من منع صيد الكلب الأسود فلقوله صلىالله عليه وسلم : "الكلب الأسود شيطان" ، أخرجه مسلم. احتج الجمهور بعموم الآية، واحتجوا أيضا في جواز صيد البازي بما ذكر من سبب النزول، وبما خرجه الترمذي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليك فكل" . في إسناده مجالد ولا يعرف إلا من جهته وهو ضعيف. وبالمعنى وهو أن كل ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير؛ وهذا هو القياس في معنى الأصل، كقياس السيف على المدية والأمة على العبد، وقد تقدم.

السادسة- وإذا تقرر هذا فأعلم أنه لا بد للصائد أن يقصد عند الإرسال التذكية والإباحة، وهذا لا يختلف فيه؛ لقوله عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل" وهذا يقتضي النية والتسمية؛ فلو قصد مع ذلك اللهو فكرهه مالك وأجازه ابن عبدالحكم، وهو ظاهر قول الليث: ما رأيت حقا أشبه بباطل منه، يعني الصيد؛ فأما لو فعله بغير نية التذكية فهو حرام؛ لأنه من باب الفساد وإتلاف حيوان لغير منفعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة. وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الإرسال؛ لقوله: "وذكرت اسم الله" فلو لم توجد على أي وجه كان لم يؤكل الصيد؛ وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث. وذهبت جماعة

(6/67)

________________________________________

من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه وإن ترك التسمية عمدا؛ وحملوا الأمر بالتسمية على الندب. وذهب مالك في المشهور إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا فقال: لا تؤكل مع العمد وتؤكل مع السهو؛ وهو قول فقهاء الأمصار، وأحد قولي الشافعي، وستأتي هذه المسألة في {الأنعام} إن شاء الله تعالى. ثم لا بد أن يكون انبعاث الكلب بإرسال من يد الصائد بحيث يكون زمامه بيده. فيخلي عنه ويغريه عليه فينبعث، أو يكون الجارح ساكنا مع رؤيته الصيد فلا يتحرك له إلا بالإغراء من الصائد، فهذا بمنزلة ما زمامه بيده فأطلقه مغريا له على أحد القولين؛ فأما لو انبعث الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال ولا إغراء فلا يجوز صيده ولا يحل أكله عند الجمهور ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي؛ لأنه إنما صاد لنفسه من غير إرسال وأمسك عليها، ولا صنع للصائد فيه، فلا ينسب إرسال إليه؛ لأنه لا يصدق عليه قوله عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك المعلم" وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي: يؤكل صيده إذا كان أخرجه للصيد.

السابعة- قرأ الجمهور { عَلَّمْتُمْ } بفتح العين واللام. وابن عباس ومحمد بن الحنفية بضم العين وكسر اللام، أي من أمر الجوارح والصيد بها. والجوارح الكواسب، وسميت أعضاء الإنسان جوارح لأنها تكسب وتتصرف. وقيل: سميت جوارح لأنها تجرح وتسيل الدم، فهو مأخوذ من الجراح، وهذا ضعيف، وأهل اللغة على خلافه، وحكاه ابن المنذر عن قوم. و{ مُكَلِّبِينَ } قراءة الجمهور بفتح الكاف وشد اللام، والمكلب معلم الكلاب ومضريها. ويقال لمن يعلم غير الكلب: مكلب؛ لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب؛ حكاه بعضهم. ويقال للصائد: مكلب فعلى هذا معناه صائدين. وقيل: المكلب صاحب الكلاب، يقال: كلب فهو مكلب وكلاب. وقرأ الحسن { مُكْلِبِِينَ } بسكون الكاف وتخفيف اللام، ومعناه أصحاب كلاب، يقال: أمشى الرجل كثرت ماشيته، وأكلب كثرت كلابه، وأنشد الأصمعي:

وكل فتى وإن أمشى فأثرى ... ستخلجه عن الدنيا منون

(6/68)

________________________________________

الثامنة- قوله تعالى: { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } أنث الضمير مراعاة للفظ الجوارح؛ إذ هو جمع جارحة. ولا خلاف بين العلماء في شرطين في التعليم وهما: أن يأتمر إذا أمر وينزجر إذا زجر؛ لا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش. واختلف فيما يصاد به من الطير؛ فالمشهور أن ذلك مشترط فيها عند الجمهور. وذكر ابن حبيب أنه لا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت؛ فإنه لا يتأتى ذلك فيها غالبا، فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت. وقال ربيعة: ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري؛ لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي. وقد شرط الشافعي وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه، ولم يشترطه مالك في المشهور عنه. وقال الشافعي: المعلم هو الذي إذا أشلاه صاحبه انشلى؛ وإذا دعاه إلى الرجوع رجع إليه، ويمسك الصيد على صاحبه ولا يأكل منه؛ فإذا فعل هذا مرارا وقال أهل العرف: صار معلما فهو المعلم. وعن الشافعي أيضا والكوفيين: إذا أشلي فانشلى وإذا أخذ حبس وفعل ذلك مرة بعد مرة أكل صيده في الثالثة. ومن العلماء من قال: يفعل ذلك ثلاث مرات ويؤكل صيده في الرابعة. ومنهم من قال: إذا فعل ذلك مرة فهو معلم ويؤكل صيده في الثانية.

التاسعة- قوله تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } أي حبسن لكم. واختلف العلماء في تأويله؛ فقال ابن عباس وأبو هريرة والنخعي وقتادة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه: المعنى ولم يأكل؛ فإن أكل لم يؤكل ما بقي، لأنه أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه. والفهد عند أبي حنيفة وأصحابه كالكلب ولم يشترطوا ذلك في الطيور بل يؤكل ما أكلت منه. وقال سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر وسلمان الفارسي وأبو هريرة أيضا: المعنى وإن أكل؛ فإذا أكل الجارح كلبا كان أو فهدا أو طيرا أكل ما بقي من الصيد وإن لم يبق إلا بضعة؛ وهذا قول مالك وجميع أصحابه، وهو القول الثاني للشافعي، وهو القياس. وفي الباب حديثان بمعنى ما ذكرنا أحدهما: حديث عدي في الكلب المعلم "وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" أخرجه مسلم. الثاني:

(6/69)

________________________________________

حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك" أخرجه أبو داود، وروي عن عدي ولا يصح؛ والصحيح عنه حديث مسلم؛ ولما تعارضت الروايتان رام بعض أصحابنا وغيرهم الجمع بينهما فحملوا حديث النهي على التنزيه والورع، وحديث الإباحة على الجواز، وقالوا: إن عديا كان موسعا عليه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالكف ورعا، وأبا ثعلبة كان محتاجا فأفتاه بالجواز؛ والله أعلم. وقد دل على صحة هذا التأويل قول عليه الصلاة والسلام في حديث عدي: "فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" هذا تأويل علمائنا. وقال أبو عمر في كتاب "الاستذكار": وقد عارض حديث عدي هذا حديث أبي ثعلبة، والظاهر أن حديث أبي ثعلبة ناسخ له؛ فقوله: وإن أكل يا رسول الله ؟ قال: "وإن أكل"

قلت: هذا فيه نظر؛ لأن التاريخ مجهول؛ والجمع بين الحديثين أولى ما لم يعلم التاريخ؛ والله أعلم. وأما أصحاب الشافعي فقالوا: إن كان الأكل عن فرط جوع من الكلب أكل وإلا لم يؤكل؛ فإن ذلك من سوء تعليمه. وقد روي عن قوم من السلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب والفهد فمنعوه، وبين ما أكل منه البازي فأجازوه، قال النخعي والثوري وأصحاب الرأي وحماد بن أبي سليمان، وحكي عن ابن عباس وقالوا: الكلب والفهد يمكن ضربه وزجره، والطير لا يمكن ذلك فيه، وحد تعليمه أن يدعى فيجيب، وأن يشلى فينشلي؛ لا يمكن فيه أكثر من ذلك، والضرب يؤذيه.

العاشرة- والجمهور من العلماء على أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل؛ قال عطاء: ليس شرب الدم بأكل؛ وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري، ولا خلاف بينهم أن سبب إباحة الصيد الذي هو عقر الجارح له لا بد أن يكون متحققا غير مشكوك فيه، ومع الشك لا يجوز الأكل، وهي:

الحادية عشرة- فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه، ولا يختلف في هذا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:

(6/70)

________________________________________

"وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل - في رواية - فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" . فأما لو أرسله صائد آخر فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدين يكونان شريكين فيه. فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ثم جاء الآخر فهو للذي أنفذ مقاتله، وكذلك لا يؤكل ما رمي بسهم فتردى من جبل أو غرق في ماء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي: "وإن رميت بسهمك فأذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" وهذا نص

الثانية عشرة- لو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع لم يؤكل؛ لأنه مات خنقا فأشبه أن يذبح بسكين كالة فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه. ولو أمكنه أخذه من الجوارح وذبحه فلم يفعل حتى مات لم يؤكل، وكان مقصرا في الذكاة؛ لأنه قد صار مقدورا على ذبحه، وذكاة المقدور عليه تخالف ذكاة غير المقدور عليه. ولو أخذه ثم مات قبل أن يخرج السكين، أو تناولها وهي معه جاز أكله؛ ولو لم تكن السكين معه فتشاغل بطلبها لم تؤكل. وقال الشافعي: فيما نالته الجوارح ولم تدمه قولان أحدهما: إلا يؤكل حتى يجرح؛ لقوله تعالى: { مِنَ الْجَوَارِحِ } وهو قول ابن القاسم؛ والآخر: أنه حر وهو قول أشهب، قال أشهب: إن مات من صدمة الكلب أكل.

الثالثة عشرة- قوله: "فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل" ونحوه في حديث أبي ثعلبة الذي خرجه أبو داود، غير أنه زاد "فكله بعد ثلاث ما لم ينتن" يعارضه قوله عليه السلام: "كل ما أصميت ودع ما أنميت" فالإصماء ما قتل مسرعا وأنت تراه، والإنماء أن ترمي الصيد فيغيب، عنك فيموت وأنت لا تراه؛ يقال: قد أنميت الرمية فنمت تنمي إذا غابت ثم ماتت قال امرؤ القيس:

فهو لا تنمي رميته ... ماله لا عد من نفرة

وقد اختلف العلماء في أكل الصيد الغائب على ثلاثة أقوال: يؤكل، وسواء قتله السهم أو الكلب. الثاني: لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب؛ لقوله: "كل ما أصميت ودع ما أنميت"

(6/71)

________________________________________

وإنما لم يؤكل مخافة أن يكون قد أعان على قتله غير السهم من الهوام. الثالث: الفرق بين السهم فيؤكل وبين الكلب فلا يؤكل، ووجهه أن السهم يقتل على جهة واحدة فلا يشكل؛ والجارح على جهات متعددة فيشكل، والثلاثة الأقوال لعلمائنا. وقال مالك في غير الموطأ: إذا بات الصيد ثم أصابه ميتا لم ينفذ البازي أو الكلب أو السهم مقاتله لم يأكله؛ قال أبو عمر: فهذا يدلك على أنه إذا بلغ مقاتله كان حلالا عنده أكله وإن بات، إلا أنه يكرهه إذا بات؛ لما جاء عن ابن عباس: "وإن غاب عنك ليلة فلا تأكل" ونحوه عن الثوري قال: إذا غاب عنك يوما كرهت أكله. وقال الشافعي: القياس ألا يأكله إذا غاب عنه مصرعه. وقال الأوزاعي: إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا من كلبه فليأكله؛ ونحوه قال أشهب وعبدالملك وأصبغ؛ قالوا: جائز أكل الصيد وإن بات إذا نفذت مقاتله، وقوله في الحديث: "ما لم ينتن" تعليل؛ لأنه إذا أنتن لحق بالمستقذرات التي تمجها الطباع فيكره أكلها؛ فلو أكلها لجاز، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم الإهالة السنخة وهي المنتنة. وقيل: هو معلل بما يخاف منه الضرر على آكله، وعلى هذا التعليل يكون أكله محرما إن كان الخوف محققا، والله أعلم

الرابعة عشرة- واختلف العلماء من هذا الباب في الصيد بكلب اليهودي والنصراني إذا كان معلما، فكرهه الحسن البصري؛ وأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبدالله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعي والثوري وإسحاق، وأجاز الصيد بكلابهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إذا كان الصائد مسلما؛ قالوا: وذلك مثل شفرته. وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك، وفرق بين ذلك وبين ذبيحته؛ وتلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } قال: فلم يذكر الله في هذا اليهود ولا النصارى. وقال ابن وهب وأشهب: صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته؛ وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابئ ولا ذبحه، وهم قوم بين اليهود والنصارى

(6/72)

________________________________________

ولا دين لهم. وأما إن كان الصائد مجوسا فمنع من أكله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور الناس. وقال أبو ثور فيها قولان: أحدهما: كقول هؤلاء، والآخر: أن المجوس من أهل الكتاب وأن صيدهم جائز. ولو أصطاد السكران أو ذبح لم يؤكل صيده ولا ذبيحته؛ لأن الذكاة تحتاج إلى قصد، والسكران لا قصد له.

الخامسة عشرة- واختلف النحاة في { مِنْ } في قوله تعالى: { مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } فقال الأخفش: هي زائدة كقوله: { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ } وخطأه البصريون وقالوا: { مِنْ } لا تزاد في الإثبات وإنما تزاد في النفي والاستفهام، وقوله: { مِنْ ثَمَرِهِ } { َيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } و { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } للتبعيض؛ أجاب فقال: قد قال: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } بإسقاط { مِنْ } فدل على زيادتها في الإيجاب؛ أجيب بأن { مِنْ } ههنا للتبعيض؛ لأنه إنما يحل من الصيد اللحم دون الفرث والدم

قلت: هذا ليس بمراد ولا معهود في الأكل فيعكر على ما قال. ويحتمل أن يريد { مِمَّا أَمْسَكْنَ } أي مما أبقته الجوارح لكم؛ وهذا على قول من قال: لو أكل الكلب الفريسة لم يضر وبسبب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل الجارح منه على ما تقدم

السادسة عشرة- ودلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد، وثبت ذلك في صحيح السنة وزادت الحرث والماشية؛ وقد كان أول الإسلام أمر بقتل الكلاب حتى كان يقتل كلب المرية من البادية يتبعها؛ روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان" وروي أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط" . قال الزهري: وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال: يرحم الله أبا هريرة، كان صاحب زرع؛ فقد دلت السنة على ما ذكرنا، وجعل النقص من أجر من أقتناها على غير ذلك من المنفعة؛ إما لترويع الكلب المسلمين

(6/73)

________________________________________

وتشويشه عليهم بنباحه - كما قال بعض شعراء البصرة، وقد نزل بعمار فسمع لكلابه نباحا فأنشأ يقول:

نزلنا بعمار فأشلى كلابه ... علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل

فقلت لأصحابي أسر إليهم ... إذا اليوم أم يوم القيامة أطول

أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه؛ والله أعلم. وقال في إحدى الروايتين: "قيراطان" وفي الأخرى "قيراط" وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر؛ كالأسود الذي أمر عليه الصلاة والسلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها فقال: "عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان" أخرجه مسلم. ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان، وبغيرهما قيراط؛ والله أعلم. وأما المباح اتخاذه فلا ينقص أجر متخذه كالفرس والهر، ويجوز بيعه وشراؤه، حتى قال سحنون: ويحج بثمنه. وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع والدار في البادية.

السابعة عشرة- وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل؛ لأن الكلب إذا علم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس، لا سيما إذا عمل بما علم؛ وهذا كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه

الثامنة عشرة- قوله تعالى: { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } أمر بالتسمية؛ قيل: عند الإرسال على الصيد، وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد، يأتي بيانه في {الأنعام}. وقيل: المراد بالتسمية هنا التسمية عند الأكل، وهو الأظهر. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم

(6/74)

________________________________________

قال لعمر بن أبي سلمة: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" . وروي من حديث حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه" الحديث. فإن نسي التسمية أول الأكل فليسم آخره؛ وروى النسائي عن أمية بن مخشي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل ولم يسم الله، فلما كان في آخر لقمة قال: بسم الله أوله وآخره؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمى قاء ما أكله" .

التاسعة عشرة- قوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أمر بالتقوى على الجملة، والإشارة القريبة هي ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر. وسرعة الحساب هي من حيث كونه تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا؛ فلا يحتاج إلى محاولة عد ولا عقد كما يفعله الحساب؛ ولهذا قال: { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } فهو سبحانه يحاسب الخلائق دفعة واحدة. ويحتمل أن يكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال: إن حساب الله لكم سريع إتيانه؛ إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد بالحساب المجازاة؛ فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتقوا الله.

5- { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

فيه عشر مسائل:

الأولى- قوله تعالى: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ، أي { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } و { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فأعاد تأكيدا أي أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها؛ وكانت

(6/75)

________________________________________

الطيبات أبيحت للمسلمين قبل نزول هذه الآية؛ فهذا جواب سؤالهم إذ قالوا: ماذا أحل لنا ؟. وقيل: أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم كما يقال: هذه أيام فلان؛ أي هذا أوان ظهوركم وشيوع الإسلام؛ فقد أكملت بهذا دينكم، وأحللت لكم الطيبات. وقد تقدم ذكر الطيبات في الآية قبل هذا

الثانية- قوله تعالى: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } ابتداء وخبر. والطعام اسم لما يؤكل والذبائح منه، وهو هنا خاص بالذبائح عند كثير من أهل العلم بالتأويل. وأما ما حرم علينا من طعامهم فليس بداخل تحت عموم الخطاب؛ قال ابن عباس: قال الله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ، ثم استثنى فقال: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } يعني ذبيحة اليهودي والنصراني؛ وإن كان النصراني يقول عند الذبح: باسم المسيح واليهودي يقول: باسم عزير؛ وذلك لأنهم يذبحون على الملة. وقال عطاء: كل من ذبيحة النصراني وإن قال باسم المسيح؛ لأن الله جل وعز قد أباح ذبائحهم، وقد علم ما يقولون. وقال القاسم بن مخيمرة: كل من ذبيحته وإن قال باسم سرجس - اسم كنيسة لهم - وهو قول الزهري وربيعة والشعبي ومكحول؛ وروي عن صحابيين: عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت. وقالت طائفة: إذا سمعت الكتابي يسمي غير اسم الله عز وجل فلا تأكل؛ وقال بهذا من الصحابة علي وعائشة وابن عمر؛ وهو قول طاوس والحسن متمسكين بقوله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } . وقال مالك: أكره ذلك، ولم يحرمه.

قلت: العجب من الكيا الطبري الذي حكى الاتفاق على جواز ذبيحة أهل الكتاب، ثم أخذ يستدل بذلك على أن التسمية على الذبيحة ليست بشرط فقال: ولا شك أنهم لا يسمون على الذبيحة إلا الإله الذي ليس معبودا حقيقة مثل المسيح وعزير، ولو سموا الإله حقيقة لم تكن تسميتهم على طريق العبادة، وإنما كان على طريق آخر؛ واشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل، ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة؛ إذا لم تتصور منه العبادة، ولأن النصراني إنما يذبح على اسم المسيح، وقد حكم الله بحل ذبائحهم مطلقا، وفي ذلك دليل على أن

(6/76)

________________________________________

التسمية لا تشترط أصلا كما يقول الشافعي، وسيأتي ما في هذا للعلماء في {الأنعام} إن شاء الله تعالى.

الثالثة- ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام الذي لا محاولة فيه كالفاكهة والبر جائز أكله؛ إذ لا يضر فيه تملك أحد. والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين: أحدهما: ما فيه محاولة صنعة لا تعلق للدين بها؛ كخبز الدقيق، وعصر الزيت ونحوه؛ فهذا إن تجنب من الذمي فعلى وجه التقزز. والضرب الثاني: هي التذكية التي ذكرنا أنها هي التي تحتاج إلى الدين والنية؛ فلما كان القياس إلا تجوز ذبائحهم - كما نقول إنهم لا صلاة لهم ولا عبادة مقبولة - رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة، وأخرجها النص عن القياس على ما ذكرناه من قول ابن عباس؛ والله أعلم

الرابعة- واختلف العلماء أيضا فيما ذكوه هل تعمل الذكاة فيما حرم عليهم أولا ؟ على قولين؛ فالجمهور على أنها عاملة في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه، لأنه مذكى. وقالت جماعة من أهل العلم: إنما حل لنا من ذبيحتهم ما حل لهم؛ لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم؛ فمنعت هذه الطائفة الطريف، والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب؛ وقصرت لفظ الطعام على البعض، وحملته الأولى على العموم في جميع ما يؤكل. وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك. قال أبو عمر: وكره مالك شحوم اليهود وأكل ما نحروا من الإبل، وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا؛ وسيأتي هذا في {الأنعام} إن شاء الله تعالى؛ وكان مالك رحمه الله يكره ما ذبحوه إذا وجد ما ذبحه المسلم، وكره أن يكون لهم أسواق يبيعون فيها ما يذبحون؛ وهذا منه رحمه الله تنزه

الخامسة- وأما المجوس فالعلماء مجمعون - إلا من شذ منهم - على أن ذبائحهم لا تؤكل، ولا يتزوج منهم؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء. ولا بأس يأكل

(6/77)

________________________________________

طعام من لا كتاب له كالمشركين وعبدة الأوثان ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة؛ إلا الجبن؛ لما فيه من إنفحة الميتة. فإن كان أبو الصبي مجوسيا وأمه كتابية فحكمه حكم أبيه عند مالك، وعند غيره لا تؤكل ذبيحة الصبي إذا كان أحد أبويه ممن لا تؤكل ذبيحته

السادسة- وأما ذبيحة نصارى بني تغلب وذبائح كل دخيل في اليهودية والنصرانية فكان علي رضي الله عنه ينهى عن ذبائح بني تغلب؛ لأنهم عرب، ويقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر؛ وهو قول الشافعي؛ وعلى هذا فليس ينهى عن ذبائح النصارى المحققين منهم. وقال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال؛ سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهودي. واحتج ابن عباس بقوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فلو لم تكن بنو تغلب من النصارى إلا بتوليهم إياهم لأكلت ذبائحهم

السابعة- ولا بأس بالأكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم، ما لم تكن ذهبا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتغلى؛ لأنهم لا يتوقون النجاسات ويأكلون الميتات؛ فإذا طبخوا في تلك القدور تنجست، وربما سرت النجاسات في أجزاء دور الفخار؛ فإذا طبخ فيها بعد ذلك توقع مخالطة تلك الأجزاء النجسة للمطبوخ في القدد ثانية؛ فاقتضى الورع الكف عنها. وروي عن ابن عباس أنه قال: إن كان الإناء من نحاس أو حديد غسل، وإن كان من فخار أغلي فيه الماء ثم غسل - هذا إذا احتيج إليه - وقاله مالك؛ فأما ما يستعملونه لغير الطبخ فلا بأس باستعماله من غير غسل؛ لما روى الدارقطني عن عمر أنه توضأ من بيت نصراني في حق نصرانية؛ وهو صحيح وسيأتي في { الْفُرْقَانَ } بكماله. وفي صحيح مسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم من أهل كتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم، وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم؛ فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك؟ قال: "أما ما ذكرت

(6/78)

________________________________________

أنكم بأرض قوم من أهل كتاب تأكلون في آنيتهم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها" ثم ذكر الحديث.

الثامنة- قوله تعالى: { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } دليل على أنهم مخاطبون بتفاصيل شرعنا؛ أي إذا اشتروا منا اللحم يحل لهم اللحم ويحل لنا الثمن المأخوذ منهم.

التاسعة- قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية. قد تقدم معناها في {البقرة} و{النساء} والحمد لله. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } . هو على العهد دون دار الحرب فيكون خاصا. وقال غيره: يجوز نكاح الذمية والحربية لعموم الآية. وروي عن ابن عباس أنه قال: {الْمُحْصَنَاتُ} العفيفات العاقلات. وقال الشعبي: هو أن تحصن فرجها فلا تزني، وتغتسل من الجنابة. وقرأ الشعبي { وَالْمُحْصِنَاتُ } بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي. وقال مجاهد: { وَالْمُحْصَنَاتُ } الحرائر؛ قال أبو عبيد: يذهب إلى أنه لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: { فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } وهذا القول الذي عليه جلة العلماء

العاشرة- قوله تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ } قيل: لما قال تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } قال نساء أهل الكتاب: لولا أن الله تعالى رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا؛ فنزلت { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ } أي بما أنزل على محمد. وقال أبو الهيثم: الباء صلة؛ أي ومن يكفر الإيمان أي يجحده { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وقرأ ابن السميقع { فَقَدْ حَبَطَ } بفتح الباء. وقيل: لما ذكرت فرائض وأحكام يلزم القيام بها، ذكر الوعيد على مخالفتها؛ لما في ذلك من تأكيد الزجر عن تضييعها. وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المعنى: ومن يكفر بالله؛ قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية فمعناها برب الإيمان. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: ولا يجوز أن يسمى الله إيمانا خلافا للحشوية والسالمية؛ لأن

(6/79)

________________________________________

الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانا، واسم الفاعل منه مؤمن؛ والإيمان التصديق، والتصديق لا يكون إلا كلاما، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى كلاما.

( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )

 

 

 

=================

 

المائدة - تفسير أضواء البيان

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المائدة:

قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} لم يبين هنا ما هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية بهيمة الأنعام. ولكنه بينه بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [5/3]، إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ، فالمذكورات في هذه الآية الكريمة كالموقوذة والمتردية، وإن كانت من الأنعام. فإنها تحرم بهذه العوارض.

والتحقيق أن الأنعام هي الأزواج الثمانية، كما قدمنا في سورة آل عمران، وقد استدل ابن عمر، وابن عباس، وغير واحد من العلماء بهذه الآية على إباحة أكل الجنين إذا ذكيت أمه ووجد في بطنها ميتاً.

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن ذكاة أمه ذكاة له" كما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي سعيد.

وقال الترمذي: إنه حسن، ورواه أبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى:

قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ، يعني إن شئتم، فلا يدل هذا الأمر على إيجاب الاصطياد عند الإحلال، ويدل له الاستقراء في القرآن، فإن كل شيء كان جائزاً، ثم حرم لموجب، ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب، فإن ذلك الأمر كله في القرآن للجواز نحو قوله هنا: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [62/10]، وقوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [2/187]، وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} الآية [2/222].

ولا ينقض هذا بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [9/5]؛ لأن قتلهم كان واجباً قبل تحريمه العارض بسبب الأشهر الأربعة سواء قلنا: إنها أشهر الإمهال المذكورة في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [9/2]، أو

(1/326)

________________________________________

قلنا: إنها الأشهر الحرم المذكورة في قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [9/36].

وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب، فالصيد قبل الإحرام كان جائزاً فمنع للإحرام، ثم أمر به بعد الإحلال بقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الجواز، وقتل المشركين كان واجباً قبل دخول الأشهر الحرم، فمنع من أجلها، ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} الآية، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الوجوب.

وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية.

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده، واجباً، وإن كان مستحباً فمستحب، أو مباحاً فمباح.

ومن قال: إنه للوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة. ومن قال: إنه للإباحة يرد عليه بآيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم، انتهى منه بلفظه.

وفي هذه المسألة أقوال أخر عقدها في "مراقي السعود" بقوله:[الرجز]

والأمر للوجوب بعد الحظل ... وبعد سؤال قد أتى للأصل

أو يقتضي إباحة للأغلب ... إذا تعلق بمثل السبب

إلا فذي المذهب والكثير ... له إلى إيجابه مصير

وقد تقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة بلا خلاف، وغير التام المعروف. بـ "إلحاق الفرد بالأغلب" حجة ظنية، كما عقده في مراقي السعود في كتاب "الاستدلال" بقوله:[الرجز]

ومنه الاستقراء بالجزئي ... على ثبوت الحكم للكلى

فإن يعم غير ذي الشقاق ... فهو حجة بالاتفاق

وهو في البعض إلى الظن انتسب ... يسمى لحقوق الفرد بالذي غلب

فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الاستقراء التام في القرآن دل على ما اخترنا،

(1/327)

________________________________________

واختاره ابن كثير، وهو قول الزركشي من أن الأمر بعد الحظر يدل على رجوع الحكم إلى ما كان عليه قبل التحريم، عرفت أن ذلك هو الحق، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} ، الآية.

نهى الله المسلمين في هذه الآية الكريمة أن يحملهم بغض الكفار لأجل أن صدوهم عن المسجد الحرام في عمرة الحديبية أن يعتدوا على المشركين بما لا يحل لهم شرعاً.

كما روى ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن زيد بن أسلم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله هذه الآية، بلفظه من ابن كثير.

ويدل لهذا قوله قبل هذا: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [5/2]، وصرح بمثل هذه الآية في قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} الآية [5/8]، وقد ذكر تعالى في هذه الآية أنهم صدوهم عن المسجد الحرام بالفعل على قراءة الجمهور: {أَنْ صَدُّوكُمْ} ، بفتح الهمزة، لأن معناها: لأجل أن صدوكم، ولم يبين هنا حكمة هذا الصد، ولم يذكر أنهم صدوا معهم الهدي معكوفاً أن يبلغ محله، وذكر في سورة الفتح أنهم صدوا معهم الهدى، وأن الحكمة في ذلك المحافظة على المؤمنين والمؤمنات، الذين لم يتميزوا عن الكفار في ذلك الوقت، بقوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [48/25]؛ وفي هذه الآية دليل صريح على أن الإنسان عليه أن يعامل من عصى الله فيه، بأن يطيع الله فيه.

وفي الحديث: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" .

وهذا دليل واضح على كمال دين الإسلام، وحسن ما يدعو إليه من مكارم الأخلاق، مبين أنه دين سماوي لا شك فيه.

(1/328)

________________________________________

وقوله في هذه الآية الكريمة {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} ، معناه: لا يحملنكم شنآن قوم على أن تعتدوا، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

أي حملتهم على أن يغضبوا.

وقال بعض العلماء: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ} ، أي: لا يكسبنكم، وعليه فلا تقدير لحرف الجر في قوله: {أَنْ تَعْتَدُوا} ، أي لا يكسبنكم بغضهم الاعتداء عليهم.

وقرأ بعض السبعة: {شَنْآنُ} ، بسكون النون، ومعنى الشنآن على القراءتين، أي بفتح النون، وبسكونها: البغض. مصدر "شنأه" إذا أبغضه.

وقيل على قراءة سكون النون يكون وصفاً كالغضبان، وعلى قراءة: "إِنْ صَدُّوكُمْ" بكسر الهمزة. فالمعنى إن وقع منهم صدهم لكم عن المسجد الحرام، فلا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم بما لا يحل لكم.

وإبطال هذه القراءة: بأن الآية نزلت بعد صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية، وأنه لا وجه لاشتراط الصد بعد وقوعه ـ مردود من وجهين:

الأول منهما: أن قراءة: {أَنْ صَدُّوكُمْ} ، بصيغة الشرط قراءة سبعية متواترة لا يمكن ردها، وبها قرأ ابن كثير، وأبو عمرو من السبعة.

الثاني: أنه لا مانع من أن يكون معنى هذه القراءة: إن صدوكم مرة أخرى على سبيل الفرض والتقدير، كما تدل عليه صيغة "إن"، لأنها تدل على الشك في حصول الشرط، فلا يحملنكم تكرر الفعل السيىء على الاعتداء عليهم بما لا يحل لكم، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، ظاهر هذه الآية الكريمة أن المرتد يحبط جميع عمله بردته من غير شرط زائد، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن ذلك فيما إذا مات على الكفر، وهو قوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [2/217].

ومقتضى الأصول حمل هذا المطلق على هذا المقيد، فيقيد إحباط العمل بالموت على الكفر، وهو قول الشافعي ومن وافقه، خلافاً لمالك القائل بإحباط الردة العمل

(1/329)

________________________________________

مطلقاً، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، في قوله {وَأَرْجُلَكُمْ} ثلاث قراءآت: واحدة شاذة، واثنتان متواترتان.

أما الشاذة: فقراءة الرفع، وهي قراءة الحسن. وأما المتواترتان: فقراءة النصب، وقراءة الخفض.

أما النصب: فهو قراءة نافع. وابن عامر، والكسائي، وعاصم في رواية حفص من السبعة، ويعقوب من الثلاثة.

وأما الجر: فهو قراءة ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم، في رواية أبي بكر.

أما قراءة النصب: فلا إشكال فيها لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه، وتقرير المعنى عليها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا بروؤسكم.

وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب، لأن الرأس يمسح بين المغسولات، ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة.

وأما على قراءة الجر: ففي الآية الكريمة إجمال، وهو أنها يفهم منها الاكتفاء بمسح الرجلين في الوضوء عن الغسل كالرأس، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء والتوعد بالنار لمن ترك ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" .

اعلم أولاً أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لهما حكم الآيتين، كما هو معروف عند العلماء، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض، مع أن إعرابها النصب، أو الرفع.

وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود من اللحن الذي يتحمل

(1/330)

________________________________________

لضرورة الشعر خاصة، وأنه غير مسموع في العطف، وأنه لم يجز إلا عند أمن اللبس، فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه.

وممن صرح به الأخفش، وأبو البقاء، وغير واحد.

ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره له -مع ثبوته في كلام العرب، وفي القرآن العظيم- يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعاً كافياً.

والتحقيق: أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين.

فمنه في النعت قول امرىء القيس:[الطويل]

كأن ثبيرا في عرانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل

بخفض "مزمل" بالمجاورة، مع أنه نعت "كبير" المرفوع بأنه خبر "كأن" وقول ذي الرمة: [البسيط]

تريك سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب

إذ الرواية بخفض "غير"، كما قاله غير واحد للمجاورة، مع أنه نعت "سنة" المنصوب بالمفعولية.

ومنه في العطف قول النابغة: [البسيط]

لم يبق إلا أسير غير منفلت ... وموثق في حبال القد مجنوب

بخفض "موثق" لمجاورته المخفوض، مع أنه معطوف على "أسير" المرفوع بالفاعلية.

وقول امرىء القيس: [الطويل]

وظل طهاة اللحم ما بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل

بجر "قدير" لمجاورته للمخفوض، مع أنه عطف على "صفيف" المنصوب بأنه مفعول اسم الفاعل الذي هو "منضج" والصفيف: فعيل بمعنى مفعول وهو المصفوف من اللحم على الجمر لينشوي، والقدير: كذلك فعيل بمعنى مفعول، وهو المجعول في القدر من اللحم لينضج بالطبخ.

(1/331)

________________________________________

وهذا الإعراب الذي ذكرناه هو الحق، لأن الإنضاج واقع على كل من الصفيف والقدير، فما زعمه "الصبان" في حاشيته على "الأشموني" من أن قوله "أو قدير" معطوف على "منضج" بتقدير المضاف أي وطابخ قدير الخ ظاهر السقوط، لأن المنضج شامل لشاوي الصفيف، وطابخ القدير، فلا حاجة إلى عطف الطابخ على المنضج لشموله له، ولا داعي لتقدير "طابخ" محذوف.

وما ذكره العيني من أنه معطوف على "شواء"، فهو ظاهر السقوط أيضاً. وقد رده عليه "الصبان"، لأن المعنى يصير بذلك: وصفيف قدير، والقدير لا يكون صفيفاً.

والتحقيق: هو ما ذكرنا من الخفض بالمجاورة، وبه جزم ابن قدامة في المغني.

ومن الخفض بالمجاورة في العطف قول زهير: [الكامل]

لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر

بجر "القطر" لمجاورته للمخفوض مع أنه معطوف على "سوافي" المرفوع، بأنه فاعل غير.

ومنه في التوكيد قول الشاعر[البسيط]:

يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب

بجر "كلهم" على ما حكاه الفراء، لمجاورة المخفوض، مع أنه توكيد "ذوي" المنصوب بالمفعولية.

ومن أمثلته في القرآن العظيم في العطف ـ كالآية التي نحن بصددها قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [56/22]، على قراءة حمزة، والكسائي.

ورواية المفضل عن عاصم بالجر لمجاورته لأكواب وأباريق، إلى قوله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [56/21]، مع أن قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} ، حكمه الرفع: فقيل، إنه معطوف على فاعل "يطوف" الذي هو {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [56/17].

وقيل: هو مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف دل المقام عليه.

أي: وفيها حور عين، أو لهم حور عين.

(1/332)

________________________________________

وإذن فهو من العطف بحسب المعنى.

وقد أنشد سيبويه للعطف على المعنى قول الشماخ، أو ذي الرمة: [الكامل]

بادت وغير آيهن مع البلا ... إلا رواكد جمرهن هباء

ومشجج أما سواء قذاله ... فبدا وغيب ساره المعزاء

لأن الرواية بنصب "رواكد" على الاستثناء، ورفع مشجج عطفاً عليه، لأن المعنى لم يبق منها إلا رواكد ومشجج، ومراده بالرواكد أثافي القدر، وبالمشجج وتد الخباء، وبه تعلم أن وجه الخفض في قراءة حمزة، والكسائي هو المجاورة للمخفوض، كما ذكرنا خلافاً لمن قال في قراءة الجر: إن العطف على أكواب، أي يطاف عليهم بأكواب، وبحور عين، ولمن قال: إنه معطوف على جنات النعيم، أي هم في جنات النعيم، وفي حور على تقدير حذف مضاف أي في معاشرة حور.

ولا يخفى ما في هذين الوجهين، لأن الأول يرد، بأن الحور العين لا يطاف بهن مع الشراب، لقوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [55/72].

والثاني فيه أن كونهم في جنات النعيم، وفي حور ظاهر السقوط كما ترى، وتقدير ما لا دليل عليه لا وجه له.

وأجيب عن الأول بجوابين، الأول: أن العطف فيه بحسب المعنى، لأن المعنى: يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور. قاله الزجاج وغيره.

الجواب الثاني: أن الحور قسمان:

1 - حور مقصورات في الخيام.

2- وحور يطاف بهن عليهم.

قاله الفخر الرازي وغيره، وهو تقسيم لا دليل عليه، ولا يعرف من صفات الحور العين كونهن يطاف بهن كالشراب، فأظهرها الخفض بالمجاورة، كما ذكرنا.

وكلام الفراء وقطرب، يدل عليه، وما رد به القول بالعطف على أكواب من كون الحور لا يطاف بهن يرد به القول بالعطف على {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} ، في قراءة الرفع؛ لأنه يقتضي أن الحور يطفن عليهم كالولدان، والقصر في الخيام ينافي ذلك.

وممن جزم بأن خفض "وأرجلكم" لمجاورة المخفوض البيهقي في "السنن

(1/333)

________________________________________

الكبرى"، فإنه قال ما نصه: باب قراءة من قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} نصباً، وأن الأمر رجع إلى الغسل وأن من قرأها خفضاً، فإنما هو للمجاورة، ثم ساق أسانيده إلى ابن عباس، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعروة بن الزبير، ومجاهد وعطاء والأعرج وعبد الله بن عمرو بن غيلان، ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارىء، وأبي محمد يعقوب بن إسحاق بن يزيد الحضرمي أنهم قرأوها كلهم: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب.

قال: وبلغني عن إبراهيم بن يزيد التيمي أنه كان يقرؤها نصباً، وعن عبد الله بن عامر اليحصبي، وعن عاصم برواية حفص، وعن أبي بكر بن عياش من رواية الأعشى، وعن الكسائي، كل هؤلاء نصبوها.

ومن خفضها فإنما هو للمجاورة، قال الأعمش: كانوا يقرأونها بالخفض، وكانوا يغسلون، اهـ كلام البيهقي.

ومن أمثلة الخفض بالمجاورة في القرآن في النعت قوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [11/84]، بخفض "مُحِيطٍ" مع أنه نعت للعذاب. وقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [11/26]، ومما يدل أن النعت للعذاب، وقد خفض للمجاورة، كثرة ورود الألم في القرآن نعتاً للعذاب. وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ, فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [85/22]، على قراءة من قرأ بخفض "مَحْفُوظٍ" كما قاله القرطبي ومن كلام العرب "هذا جحر ضب خرب" بخفض خرب لمجاورة المخفوض مع أنه نعت خبر المبتدأ. وبهذا تعلم أن دعوى كون الخفض بالمجاورة لحناً لا يتحمل إلا لضرورة الشعر باطلة، والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين، إذ لم يرد تحديد الممسوح، وتزيله قراءة النصب، كما ذكرنا: فإن قيل قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبينة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفاً على المحل. لأن الرؤوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول ابن مالك في الخلاصة: [الرجز]

وجر ما يتبع ما جر ومن ... راعى في الاتباع المحل فحسن

وابن مالك وإن كان أورد هذا في "إعمال المصدر" فحكمه عام، أي وكذلك الفعل والوصف كما أشار له في الوصف بقوله: [الرجز]

واجرر أو انصب تابع الذي انخفض ... كمبتغي جاه وما لا من نهض

(1/334)

________________________________________

فالجواب أن بيان قراءة النصب بقراءة الجر ،كما ذكر، تأباه السنة الصريحة الصحيحة الناطقة بخلافه، وبتوعد مرتكبه بالويل من النار بخلاف بيان قراءة الخفض بقراءة النصب، فهو موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه قولاً وفعلاً.

فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما، عن عبد الله ابن عمر ورضي الله عنهما.

قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار" وكذلك هو في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار" ، وروى البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن حارث بن جزء، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب، وبطون الأقدام من النار" , وروى الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن جرير، عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار" .

وروى الإمام أحمد عن معيقيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار" وروى ابن جرير عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" ، قال: فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما.

وثبت في أحاديث الوضوء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم، والمقداد بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه، إما مرة أو مرتين أو ثلاثاً على اختلاف رواياتهم.

وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه. ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" .

والأحاديث في الباب كثيرة جداً، وهي صحيحة صريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وعدم الاجتزاء بمسحهما.

وقال بعض العلماء: المراد بمسح الرجلين غسلهما. والعرب تطلق المسح على الغسل أيضاً، وتقول تمسحت بمعنى توضأت ومسح المطر الأرض أي غسلها،

(1/335)

________________________________________

ومسح الله ما بك أي غسل عنك الذنوب والأذى. ولا مانع من كون المراد بالمسح في الأرجل هو الغسل، المراد به في الرأس المسح الذي ليس بغسل، وليس من حمل المشترك على معنييه، ولا عن حمل اللفظ على حقيقته ومجازه، لأنهما مسألتان كل منهما منفردة عن الأخرى مع أن التحقيق جواز حمل المشترك على معنييه، كما حققه الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن، وحرر أنه هو الصحيح في مذاهب الأئمة الأربعة رحمهم الله، وجمع بن جرير الطبري في تفسيره بين قراءة النصب والجر بأن قراءة النصب يراد بها غسل الرجلين، لأن العطف فيها على الوجوه والأيدي إلى المرافق، وهما من المغسولات بلا نزاع، وأن قراءة الخفض يراد بها المسح مع الغسل، يعني الدلك باليد أو غيرها.

والظاهر أن حكمة هذا في الرجلين دون غيرهما. أن الرجلين هما أقرب أعضاء الإنسان إلى ملابسة الأقذار لمباشرتهما الأرض فناسب ذلك أن يجمع لهما بين الغسل بالماء والمسح أي الدلك باليد ليكون ذلك أبلغ في التنظيف.

وقال بعض العلماء: المراد بقراءة الجر: المسح، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك المسح لا يكون إلا على الخف.

وعليه فالآية تشير إلى المسح على الخف في قراءة الخفض، والمسح على الخفين ، إذا لبسمها طاهراً ،متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يخالف فيه إلا من لا عبرة به، والقول بنسخه بآية المائدة يبطل بحديث جرير أنه بال ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه، قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، متفق عليه.

ويوضح عدم النسخ أن آية المائدة نزلت في غزوة "المريسيع".

ولا شك أن إسلام جرير بعد ذلك، مع أن المغيرة بن شعبة روى المسح على الخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة "تبوك" وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم.

وممن صرح بنزول آية المائدة في غزوة "المريسيع" ابن حجر في "فتح الباري"، وأشار له البدوي الشنقيطي في "نظم المغازي" بقوله في غزوة المريسيع:[الرجز]

والإفك في قفولهم ونقلا ... أن التيمم بها قد أنزلا

(1/336)

________________________________________

والتيمم في آية المائدة، وأجمع العلماء على جواز المسح على الخف الذي هو من الجلود، واختلفوا فيما كان من غير الجلد إذا كان صفيقاً ساتراً لمحل الفرض، فقال مالك وأصحابه:

لا يمسح على شيء غير الجلد. فاشترطوا في المسح أن يكون الممسوح خفاً من جلود، أو جورباً مجلداً ظاهره وباطنه، يعنون ما فوق القدم وما تحتها لا باطنه الذي يلي القدم.

واحتجوا بأن المسح على الخف رخصة، وأن الرخص لا تتعدى محلها وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمسح على غير الجلد. فلا يجوز تعديه إلى غيره، وهذا مبني على شطر قاعدة أصولية مختلف فيها، وهي: هل يلحق بالرخص ما في معناها، أو يقتصر عليها ولا تعدي محلها؟

ومن فروعها اختلافهم في بيع "العرايا" من العنب بالزبيب اليابس، هل يجوز إلحاقاً بالرطب بالتمر أو لا؟.

وجمهور العلماء منهم الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وأصحابهم على عدم اشتراط الجلد، لأن سبب الترخيص الحاجة إلى ذلك وهي موجودة في المسح على غير الجلد، ولما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه مسح على الجوربين، والموقين.

قالوا. والجورب: لفافة الرجل، وهي غير جلد.

وفي القاموس: الجورب لفافة الرجل، وفي اللسان: الجورب لفافة الرجل، معرب وهو بالفارسيه "كورب".

وأجاب من اشترط الجلد بأن الجورب هو الخف الكبير، كما قاله بعض أهل العلم، أما الجرموق والموق، فالظاهر أنهما من الخفاف.

وقيل: إنهما شيء واحد، وهو الظاهر من كلام أهل اللغة. وقيل: إنهما متغايران، وفي القاموس: الجرموق: كعصفور الذي يلبس فوق الخف وفي القاموس أيضاً: الموق خف غليظ يلبس فوق الخف، وفي اللسان: الجرموق، خف صغير، وقيل: خف صغير يلبس فوق الخف، في اللسان أيضاً: الموق الذي يلبس فوق الخف، فارسي معرب. والموق: الخف اهـ.

قالوا: والتساخين: الخفاف، فليس في الأحاديث ما يعين أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح

(1/337)

________________________________________

على غير الجلد، والجمهور قالوا: نفس الجلد لا أثر له، بل كل خف صفيق ساتر لمحل الفرض يمكن فيه تتابع المشي، يجوز المسح عليه، جلداً كان أو غيره.

مسائل تتعلق بالمسح على الخفين:

الأولى: أجمع العلماء على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر. وقال الشيعة والخوارج: لا يجوز، وحكي نحوه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن داود، والتحقيق عن مالك، وجل أصحابه، القول بجواز المسح على الخف في الحضر والسفر.

وقد روي عنه المنع مطلقاً، وروي عنه جوازه في السفر دون الحضر.

قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً أنكره إلا مالكاً في رواية أنكرها أكثر أصحابه، والروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وموطأه يشهد للمسح في الحضر والسفر، وعليه جميع أصحابه، وجميع أهل السنة.

وقال الباجي: رواية الإنكار في "العتبية" وظاهرها المنع، وإنما معناها أن الغسل أفضل من المسح، قال ابن وهب: آخر ما فارقت مالكاً على المسح في الحضر والسفر. وهذا هو الحق الذي لا شك فيه، فما قاله ابن الحاجب عن مالك من جوازه في السفر دون الحضر غير صحيح، لأن المسح على الخف متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الزرقاني في شرح "الموطأ": وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وروى ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري، حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين، اهـ.

وقال النووي في شرح "المهذب": وقد نقل ابن المنذر في كتاب "الإجماع" إجماع العلماء على جواز المسح على الخف، ويدل عليه الأحاديث الصحيحة المستفيضة في مسح النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، وأمره بذلك وترخيصه فيه، واتفاق الصحابة، فمن

بعدهم عليه. قال الحافظ أبو بكر البيهقي: روينا جواز المسح على الخفين عن عمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وحذيفة بن اليمان، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبي مسعود الأنصاري، والمغيرة بن شعبة، والبراء بن عازب، وأبي سعيد الخدري،

(1/338)

________________________________________

وجابر بن سمرة، وأبي أمامة الباهلي، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وأبي زيد الأنصاري رضي الله عنهم.

قلت: ورواه خلائق من الصحابة، غير هؤلاء الذين ذكرهم البيهقي، وأحاديثهم معروفة في كتب السنن وغيرها.

قال الترمذي: وفي الباب عن عمر، وسلمان، وبريدة، وعمرو بن أمية، ويعلى بن مرة، وعبادة بن الصامت، وأسامة بن شريك، وأسامة بن زيد، وصفوان بن عسال، وأبي هريرة، وعوف بن مالك، وابن عمر، وأبي بكرة وبلال، وخزيمة بن ثابت.

قال ابن المنذر: وروينا عن الحسن البصري، قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين.

قال: وروينا عن ابن المبارك، قال: ليس في المسح على الخفين اختلاف، اهـ.

وقد ثبت في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف في غزوة تبوك، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، وثبت في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخف، ولا شك أن ذلك بعد نزول آية المائدة كما تقدم، وفي سنن أبي داود أنهم لما قالوا لجرير: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة.

وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا تدل على عدم نسخ المسح على الخفين، وأنه لا شك في مشروعيته، فالخلاف فيه لا وجه له ألبتة.

المسألة الثانية: اختلف العلماء في غسل الرجل والمسح على الخف أيهما أفضل؟ فقالت جماعة من أهل العلم: غسل الرجل أفضل من المسح على الخف، بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن الرخصة في المسح، وهو قول الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابهم، ونقله ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وابنه رضي الله عنهما، ورواه البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري.

وحجة هذا القول أن غسل الرجل هو الذي واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في معظم

(1/339)

________________________________________

الأوقات، ولأنه هو الأصل، ولأنه أكثر مشقة.

وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن المسح أفضل، وهو أصح الروايات عن الإمام أحمد، وبه قال الشعبي، والحكم، وحماد.

واستدل أهل هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات حديث المغيرة بن شعبة: "بهذا أمرني ربي عز وجل" .

ولفظه في سنن أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، فقلت: يا رسول الله أنسيت؟ قال: "بل أنت نسيت. بهذا أمرني ربي عز وجل" .

واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بن عسال الآتي إن شاء الله تعالى: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين الحديث.

قالوا: والأمر إذا لم يكن للوجوب، فلا أقل من أن يكون للندب، قال مقيده عفا الله عنه: وأظهر ما قيل في هذه المسألة عندي، هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله، وعزاه لشيخه تقي الدين رحمه الله، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف ضد حاله التي كان عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما، ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه. وهذا أعدل الأقوال في هذه المسألة، اهـ.

ويشترط في الخف: أن يكون قوياً يمكن تتابع المشي فيه في مواضع النزول، وعند الحط والترحال، وفي الحوائج التي يتردد فيها في المنزل، وفي المقيم نحو ذلك، كما جرت عادة لابسي الخفاف.

المسألة الثالثة: إذا كان الخف مخرقاً، ففي جواز المسح عليه خلاف بين العلماء، فذهب مالك وأصحابه إلى أنه إن ظهر من تخريقه قدر ثلث القدم لم يجز المسح عليه، وإن كان أقل من ذلك جاز المسح عليه، واحتجوا بأن الشرع دل على أن الثلث آخر حد اليسير، وأول حد الكثير.

وقال بعض أهل العلم: لا يجوز المسح على خف فيه خرق يبدو منه شيء من القدم، وبه قال أحمد بن حنبل، والشافعي في الجديد، ومعمر بن راشد.

(1/340)

________________________________________

واحتج أهل هذا القول بأن المنكشف من الرجل حكمه الغسل، والمستور حكمه المسح، والجمع بين المسح والغسل لا يجوز، فكما أنه لا يجوز له أن يغسل إحدى رجليه ويمسح على الخف في الأخرى، لا يجوز له غسل بعض القدم مع مسح الخف في الباقي منها.

وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الخرق الكبير يمنع المسح على الخف دون الصغير. وحددوا الخرق الكبير بمقدار ثلاثة أصابع.

قيل: من أصابع الرجل الأصاغر، وقيل: من أصابع اليد.

وقال بعض أهل العلم: يجوز المسح على جميع الخفاف، وإن تخرقت تخريقاً كثيراً ما دامت يمكن تتابع المشي فيها. ونقله ابن المنذر عن سفيان الثوري، وإسحاق، ويزيد بن هارون، وأبي ثور.

وروى البيهقي في السنن الكبرى عن سفيان الثوري أنه قال: امسح عليهما ما تعلقا بالقدم، وإن تخرقا، قال: وكانت كذلك خفاف المهاجرين والأنصار مخرقة مشققة، اهـ.

وقال البيهقي: قول معمر بن راشد في ذلك أحب إلينا، وهذا القول الذي ذكرنا عن الثوري، ومن وافقه هو اختيار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله.

وقال ابن المنذر: وبقول الثوري أقول، لظاهر إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين قولاً عاماً يدخل فيه جميع الخفاف. اهـ، نقله عنه النووي، وغيره، وهو قوي.

وعن الأوزاعي إن ظهرت طائفة من رجله مسح على خفيه، وعلى ما ظهر من رجله. هذا حاصل كلام العلماء في هذه المسألة.

وأقرب الأقوال عندي، المسح على الخف المخرق ما لم يتفاحش خرقه حتى يمنع تتابع المشي فيه لإطلاق النصوص، مع أن الغالب على خفاف المسافرين، والغزاة عدم السلامة من التخريق، والله تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: اختلف العلماء في جواز المسح على النعلين، فقال قوم: يجوز المسح على النعلين.

وخالف في ذلك جمهور العلماء، واستدل القائلون بالمسح على

(1/341)

________________________________________

النعلين بأحاديث، منها ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي قيس الأودي، هو عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح الجوربين والنعلين قال أبو داود، وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وروى هذا الحديث البيهقي.

ثم قال: قال أبو محمد: رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر، وقال أبو قيس الأودي، وهزيل بن شرحبيل: لا يحتملان مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة، فقالوا: مسح على الخفين، وقال: لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس، وهزيل، فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي، فسمعته يقول: علي بن شيبان يقول: سمعت أبا قدامة السرخسي يقول: قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لسفيان الثوري: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك، فقال سفيان: الحديث ضعف أو واه، أو كلمة نحوها، اهـ.

وروى البيهقي أيضاً عن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال حدثت أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس، قال أبي: إن عبد الرحمن بن مهدي، يقول: هو منكر، وروى البيهقي أيضاً عن علي بن المديني أنه قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة، إلا أنه قال: ومسح على الجوربين، وخالف الناس.

وروي أيضاً عن يحيى بن معين أنه قال في هذا الحديث: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس، ثم ذكر أيضاً ما قدمنا عن أبي داود من أن عبد الرحمن بن مهدي كان لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وقال أبو داود: وروي هذا الحديث أيضاً عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بالقوي ولا بالمتصل، وبين البيهقي، مراد أبي داود بكونه غير متصل وغير قوي، فعدم اتصاله، إنما هو لأن راويه عن أبي موسى الأشعري هو الضحاك بن عبد الرحمن، قال البيهقي: والضحاك بن عبد الرحمن: لم يثبت سماعه من أبي موسى، وعدم قوته، لأن في إسناده عيسى بن سنان، قال البيهقي: وعيسى بن سنان ضعيف، اهـ.

(1/342)

________________________________________

وقال فيه ابن حجر في "التقريب": لين الحديث، واعترض المخالفون تضعيف الحديث المذكور في المسح على الجوربين والنعلين، قالوا: أخرجه أبو داود، وسكت عنه، وما سكت عنه فأقل درجاته عنده الحسن قالوا: وصححه ابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح، قالوا: وأبو قيس وثقه ابن معين، وقال العجلي: ثقة ثبت، وهزيل وثقه العجلي، وأخرج لهما معاً البخاري في صحيحه، ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة، بل رويا أمراً زائداً على ما رووه بطريق مستقل غير معارض، فيحمل على أنهما حديثان قالوا: ولا نسلم عدم سماع الضحاك بن عبد الرحمن من أبي موسى، لأن المعاصرة كافية في ذلك كما حققه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه. ولأن عبد الغني قال في "الكمال": سمع الضحاك من أبي موسى، قالوا: وعيسى بن سنان، وثقه ابن معين وضعفه غيره، وقد أخرج الترمذي في "الجنائز" حديثاً في سنده عيسى بن سنان هذا، وحسنه.

ويعتضد الحديث المذكور أيضاً بما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر، الثابت في الصحيح أن عبيد بن جريج. قال له: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها، قال: ما هن؟ فذكرهن، وقال فيهن: رأيتك تلبس النعال السبتية، قال: أما النعال السبتية، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها.

قال البيهقي، بعد أن ساق هذا الحديث بسنده: ورواه البخاري في الصحيح، عن عبد الله بن يوسف عن مالك، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، ورواه جماعة عن سعيد المقبري، ورواه ابن عيينة عن ابن عجلان عن المقبري، فزاد فيه: ويمسح عليها. وهو محل الشاهد قال البيهقي. وهذه الزيادة إن كانت محفوظة فلا ينافي غسلهما، فقد يغسلهما في النعل، ويمسح عليهما.

ويعتضد الاستدلال المذكور أيضاً في المسح على النعلين بما رواه البيهقي بإسناده عن زيد بن وهب، قال: بال علي، وهو قائم ثم توضأ، ومسح على النعلين، ثم قال: وبإسناده قال: حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل، عن أبي ظبيان، قال: بال علي وهو قائم ثم توضأ ومسح على النعلين ثم خرج فصلى الظهر.

وأخرج البيهقي أيضاً نحوه عن أبي ظبيان بسند آخر، ويعتضد الاستدلال المذكور

(1/343)

________________________________________

بما رواه البيهقي أيضاً من طريق رواد بن الجراح، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومسح على نعليه.

ثم قال: هكذا رواه رواد بن الجراح، وهو ينفرد عن الثوري بمناكير هذا أحدها، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة.

وروي عن زيد بن الحباب عن الثوري هكذا، وليس بمحفوظ. ثم قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، أنبأ سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، حدثني أبي ثنا زيد بن الحباب، ثنا سفيان فذكره بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على النعلين اهـ.

قال البيهقي بعد أن ساقه: والصحيح رواية الجماعة، ورواهد عبد العزيز الدراوردي، وهشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، فحكيا في الحديث: رشا على الرجل وفيها النعل، وذلك يحتمل أن يكون غسلها في النعل.

فقد رواه سليمان بن بلال، ومحمد بن عجلان، وورقاء بن عمر، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، فحكوا في الحديث غسله رجليه، والحديث حديث واحد.

والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير، مع فضل حفظ من حفظ فيه الغسل بعد الرش على من لم يحفظه، ويعتضد الاستدلال المذكور أيضاً بما رواه البيهقي أيضاً، أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو بكر بن داسة، ثنا أبو داود، ثنا مسدد، وعباد بن موسى، قالا: ثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، قال عباد: قال: أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه.

وقال مسدد: إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء، عن أوس الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وهو منقطع أخبرناه أبو بكر بن فورك، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا حماد بن سلمة، فذكره.

وهذا الإسناد غير قوي، وهو يحتمل ما احتمل الحديث الأول، اهـ كلام البيهقي.

ولا يخفى أن حاصله أن أحاديث المسح على النعلين منها ما هو ضعيف لا يحتج

(1/344)

________________________________________

به، ومنها ما معناه عنده إنه صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في النعلين.

ثم استدل البيهقي على أن المراد بالوضوء في النعلين غسل الرجلين فيهما بحديث ابن عمر، الثابت في الصحيحين، أنه قال: أما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها اهـ.

ومراد البيهقي أن معنى قول ابن عمر: ويتوضأ فيها أنه يغسل رجليه فيها، وقد علمت أنا قدمنا رواية ابن عيينة التي ذكرها البيهقي عن ابن عجلان، عن المقبري، وفيها زيادة، ويمسح عليها.

وقال البيهقي، رحمه الله، في منع المسح على النعلين والجوربين: والأصل وجوب غسل الرجلين إلا ما خصته سنة ثابتة، أو إجماع لا يختلف فيه، وليس على المسح على النعلين ولا على الجوربين واحد منهما، اهـ.

وأجيب من جهة المخالفين بثبوت المسح على الجوربين والنعلين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن الترمذي صحح المسلم على الجوربين والنعلين، وحسنه من حديث هزيل عن المغيرة، وحسنه أيضاً من حديث الضحاك عن أبي موسى، وصحح ابن حبان المسح على النعلين من حديث أوس، وصحح ابن خزيمة حديث ابن عمر في المسح على النعال السبتية.

قالوا: وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب، عن الثوري في المسح على النعلين، حديث جيد قالوا: وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه، ويمسح عليهما.

ويقول كذلك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وصححه ابن القطان. وقال ابن حزم: المنع من المسح على الجوربين خطأ، لأنه خلاف السنة الثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف الآثار. هذا حاصل ما جاء في المسح على النعلين والجوربين.

قال مقيده عفا الله عنه: إن كان المراد بالمسح على النعلين والجوربين, أن

(1/345)

________________________________________

الجوربين ملصقان بالنعلين، بحيث يكون المجموع ساتراً لمحل الفرض مع إمكان تتابع المشي فيه، والجوربان صفيقان فلا إشكال.

وإن كان المراد المسح على النعلين بانفرادهما، ففي النفس منه شيء، لأنه حينئذ لم يغسل رجله، ولم يمسح على ساتر لها، فلم يأت بالأصل، ولا بالبدل.

والمسح على نفس الرجل ترده الأحاديث الصحيحة المصرحة بمنع ذلك بكثرة، كقوله صلىالله عليه وسلم : "ويل للأعقاب من النار" ، والله تعالى أعلم.

المسألة الخامسة: اختلف العلماء في توقيت المسح على الخفين.

فذهب الجمهور العلماء إلى توقيت المسح بيوم وليلة المقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر.

وإليه ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم وهو مذهب الثوري، والأوزاعي، وأبي ثور، وإسحاق بن راهويه، وداود الظاهري، ومحمد بن جرير الطبري،

والحسن بن صالح بن حسين.

وممن قال به من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس وحذيفة، والمغيرة، وأبو زيد الأنصاري.

وروي أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن جميعهم.

وممن قال به من التابعين شريح القاضي، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز.

وقال أبو عمر بن عبد البر: أكثر التابعين والفقهاء على ذلك.

وقال أبو عيسى الترمذي: التوقيت ثلاثاً للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم.

وقال الخطابي: التوقيت قول عامة الفقهاء، قاله النووي.

وحجة أهل هذا القول بتوقيت المسح الأحاديث الواردة بذلك، فمن ذلك حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم، يوم وليلة" ، أخرجه مسلم، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن

(1/346)

________________________________________

حبان.

ومن ذلك أيضاً حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما، أخرجه ابن خزيمة، والدارقطني، وابن أبي شيبة، وابن حبان والبيهقي، والترمذي في العلل، والشافعي، وابن الجارود، والأثرم في سننه، وصححه الخطابي، وابن خزيمة، وغيرهما.

ومن ذلك أيضاً حديث صفوان بن عسال المرادي قال: أمرنا، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناها على طهر ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط، ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة أخرجه الإمام أحمد، وابن خزيمة والترمذي، وصححاه والنسائي، وابن ماجه، والشافعي، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي.

قال الشوكاني في "نيل الأوطار": وحكى الترمذي عن البخاري، أنه حديث حسن، ومداره على عاصم بن أبي النجود، وهو صدوق، سييء الحفظ.

وقد تابعه جماعة، ورواه عنه أكثر من أربعين نفساً قاله ابن منده اهـ.

وذهبت جماعة من أهل العلم إلى عدم توقيت المسح وقالوا: إن من لبس خفيه، وهو طاهر، مسح عليهما ما بدا له، ولا يلزمه خلعهما إلا من جنابة.

وممن قال بهذا القول مالك، وأصحابه، والليث بن سعد، والحسن البصري.

ويروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وربيعة، وهو قول الشافعي في القديم، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم.

وحجة أهل هذا القول ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ أحدكم، فلبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء، إلا من جنابة ونحوه" . وأخرجه الدارقطني.

وهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الحاكم وغيره، يعتضد بما رواه الدارقطني عن ميمونة بنت الحارث الهلالية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم من عدم التوقيت.

(1/347)

________________________________________

ويؤيده أيضاً ما رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، أنه زاد في حديث التوقيت ما لفظه: ولو استزدناه لزادنا، وفي لفظ: لو مضى السائل على مسألته لجعلها خمساً يعني ليالي التوقيت للمسح.

وحديث خزيمة هذا الذي فيه الزيادة المذكورة صححه ابن معين، وابن حبان وغيرهما، وبه تعلم أن ادعاء النووي في "شرح المهذب" الاتفاق على ضعفه، غير صحيح.

وقول البخاري رحمه الله. إنه لا يصح عنده لأنه لا يعرف للجدلي سماع من خزيمة، مبني على شرطه، وهو ثبوت اللقى.

وقد أوضح مسلم بن الحجاج رحمه الله في مقدمة صحيحه، أن الحق هو الاكتفاء بإمكان اللقى بثبوت المعاصرة، وهو مذهب جمهور العلماء.

فإن قيل: حديث خزيمة الذي فيه الزيادة، ظن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لو استزيد لزاد، وقد رواه غيره، ولم يظن هذا الظن، ولا حجة في ظن صحابي خالفه غيره فيه.

فالجواب: أن خزيمة هو ذو الشهادتين الذي جعله صلى الله عليه وسلم بمثابة شاهدين، وعدالته، وصدقه، يمنعانه من أن يجزم بأنه لو استزيد لزاد إلا وهو عارف أن الأمر كذلك، بأمور أخر اطلع هو عليها، ولم يطلع عليها غيره.

ومما يؤيد عدم التوقيت ما رواه أبو داود، وقال: ليس بالقوي عن أبي بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: "نعم" قال: يوماً: قال "نعم" ، قال: ويومين، قال: "نعم" ، قال: وثلاثة أيام، قال: "نعم، وما شئت" .

وهذا الحديث وإن كان لا يصلح دليلا مستقلاً، فإنه يصلح لتقوية غيره من الأحاديث التي ذكرنا.

فحديث أنس في عدم التوقيت صحيح. ويعتضد بحديث خزيمة الذي فيه الزيادة، وحديث ميمونة، وحديث أبي بن عمارة، وبالآثار الموقوفة على عمر، وابنه، وعقبة بن عامر، رضي الله عنهم.

تنبيه:

الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه لا يمكن الجمع في هذه الأحاديث بحمل

(1/348)

________________________________________

المطلق على المقيد، لأن المطلق هنا فيه التصريح بجواز المسح أكثر من ثلاث للمسافر، والمقيم، والمقيد فيه التصريح بمنع الزائد على الثلاث للمسافر واليوم والليلة للمقيم. فهما متعارضان في ذلك الزائد، فالمطلق يصرح بجوازه، والمقيد يصرح بمنعه، فيجب الترجيح بين الأدلة، فترجح أدلة التوقيت بأنها أحوط، كما رجحها بذلك ابن عبد البر، وبأن رواتها من الصحابة أكثر، وبأن منها ما هو ثابت في صحيح مسلم، وهو حديث علي رضي الله عنه المتقدم.

وقد ترجح أدلة عدم التوقيت بأنها تضمنت زيادة، وزيادة العدل مقبولة، وبأن القائل بها مثبت أمراً، والمانع منها ناف له، والمثبت أولى من النافي.

قال مقيده عفا الله عنه: والنفس إلى ترجيح التوقيت أميل، لأن الخروج من الخلاف أحوط، كما قال بعض العلماء: [الرجز]

وإن الأورع الذي يخرج من ... خلافهم ولو ضعيفاً فاستبن

وقال الآخر: [الرجز]

وذو احتياط في أمور الدين ... من فر من شك إلى يقين

ومصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" .

فالعامل بأدلة التوقيت طهارته صحيحة باتفاق الطائفتين، بخلاف غيره فإحدى الطائفتين تقول ببطلانها بعد الوقت المحدد، والله تعالى أعلم.

واعلم أن القائلين بالتوقيت اختلفوا في ابتداء مدة المسح.

فذهب الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهما، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وسفيان الثوري، وداود في أصح الروايتين، وغيرهم، إلى أن ابتداء مدة التوقيت من أول حدث يقع بعد لبس الخف، وهذا قول جمهور العلماء.

واحتج أهل هذا القول بزيادة رواها الحافظ القاسم بن زكريا المطرز في حديث صفوان: من الحدث إلى الحدث.

قال النووي في "شرح المهذب": وهي زيادة غريبة ليست ثابتة.

واحتجوا أيضاً بالقياس وهو أن المسح عبادة موقتة، فيكون ابتداء وقتها من حين جواز فعلها قياساً على الصلاة.

(1/349)

________________________________________

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث.

وممن قال بهذا، الأوزاعي، وأبو ثور، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وداود، ورجح هذا القول النووي، واختاره ابن المنذر، وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

واحتج أهل هذا القول بأحاديث التوقيت في المسح، وهي أحاديث صحاح.

ووجه احتجاجهم بها أن قوله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المسافر ثلاثة أيام" صريح، في أن الثلاثة كلها ظرف للمسح.

ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان ابتداء المدة من المسح، وهذا هو أظهر الأقوال دليلا فيما يظهر لي، والله تعالى أعلم.

وفي المسألة قول ثالث، وهو أن ابتداء المدة من حين لبس الخف، وحكاه الماوردي والشاشي، عن الحسن البصري، قاله النووي، والله تعالى أعلم.

المسألة السادسة: اختلف العلماء: هل يكفي مسح ظاهر الخف، أو لا بد من مسح ظاهره وباطنه.

فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يكفي مسح ظاهره.

وممن قال به أبو حنيفة، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وحكاه ابن المنذر، عن الحسن، وعروة بن الزبير، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وغيرهم.

وأصح الروايات عن أحمد أن الواجب مسح أكثر أعلى الخف، وأبو حنيفة يكفي عنده مسح قدر ثلاثة أصابع من أعلى الخف.

وحجة من اقتصر على مسح ظاهر الخف دون أسفله، حديث علي رضي الله عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه أخرجه أبو داود، والدارقطني.

قال ابن حجر في "بلوغ المرام": إسناده حسن.

وقال في "التلخيص": إسناده صحيح.

(1/350)

________________________________________

واعلم أن هذا الحديث لا يقدح فيه بأن في إسناده عبد خير بن يزيد الهمداني، وأن البيهقي قال: لم يحتج بعبد خير المذكور صاحبا الصحيح، اهـ. لأن عبد خير المذكور، ثقة مخضرم مشهور، قيل: إنه صحابي.

والصحيح أنه مخضرم وثقة يحيى بن معين، والعجلي، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": مخضرم ثقة من الثانية لم يصح له صحبة.

وأما كون الشيخين لم يخرجا له، فهذا ليس بقادح فيه باتفاق أهل العلم.

وكم من ثقة عدل لم يخرج له الشيخان!

وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن الواجب مسح أقل جزء من أعلاه، وأن مسح أسفله مستحب.

وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه يلزم مسح أعلاه وأسفله معاً، فإن اقتصر على أعلاه أعاد في الوقت، ولم يعد أبداً، وإن اقتصر على أسفله أعاد أبداً.

وعن مالك أيضاً أن مسح أعلاه واجب، ومسح أسفله مندوب.

واحتج من قال بمسح كل من ظاهر الخف وأسفله، بما رواه ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن وراد، كاتب المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله، أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وابن الجارود.

وقال الترمذي: هذا حديث معلول، لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم، وسألت أبا زرعة ومحمداً عن هذا الحديث فقالا: ليس بصحيح اهـ. ولا شك أن هذا الحديث ضعيف.

وقد احتج مالك لمسح أسفل الخف بفعل عروة بن الزبير رضي الله عنهما.

المسألة السابعة: أجمع العلماء على اشتراط الطهارة المائية للمسح على الخف، وأن من لبسهما محدثاً، أو بعد تيمم، لا يجوز له المسح عليهما.

واختلفوا في اشتراط كمال الطهارة، كمن غسل رجله اليمنى فأدخلها في الخف قبل أن يغسل رجله اليسرى، ثم غسل رجله اليسرى فأدخلها أيضاً في الخف، هل يجوز له المسح على الخفين إذا أحدث بعد ذلك؟

(1/351)

________________________________________

ذهب جماعة من أهل العلم إلى اشتراط كمال الطهارة، فقالوا في الصورة المذكورة: لا يجوز له المسح لأنه لبس أحد الخفين قبل كمال الطهارة.

وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه، ومالك وأصحابه، وإسحاق، وهو أصح الروايتين عن أحمد.

واحتج أهل هذا القول بالأحاديث الواردة باشتراط الطهارة للمسح على الخفين، كحديث المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما" ، متفق عليه، ولأبي داود عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين، وهما طاهرتان، فمسح عليهما" .

وعن أبي هريرة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال له لما نبهه على أنه لم يغسل رجليه: "إني أدخلتهما طاهرتان" .

وفي حديث صفوان بن عسال المتقدم أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر، الحديث، إلى غير ذلك من الأحاديث.

قالوا: والطهارة الناقصة كلا طهارة.

وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم اشتراط كمال الطهارة وقت لبس الخف فأجازوا لبس خف اليمنى قبل غسل اليسرى والمسح عليه، إذا أحدث بعد ذلك، لأن الطهارة كملت بعد لبس الخف.

قالوا: والدوام كالابتداء. وممن قال بهذا القول: الإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري، ويحيى بن آدم، والمزني، وداود. واختار هذا القول ابن المنذر، قاله النووي.

قال مقيده عفا الله عنه: منشأ الخلاف في هذه المسألة هو قاعدة مختلف فيها، وهي هل يرتفع الحدث عن كل عضو من أعضاء الوضوء بمجرد غسله، أو لا يرتفع الحدث عن شيء منها إلا بتمام الوضوء؟ وأظهرهما عندي أن الحدث معنى من المعاني لا ينقسم ولا يتجزأ، فلا يرتفع منه جزء، وأنه قبل تمام الوضوء محدث، والخف يشترط في المسح عليه أن يكون وقت لبسه غير محدث -والله تعالى أعلم-، اهـ.

تنبيه:

جمهور العلماء على اشتراط النية في الوضوء والغسل، لأنهما قربة، والنبي صلى الله عليه وسلم

(1/352)

________________________________________

يقول: "إنما الأعمال بالنيات" ، وخالف أبو حنيفة قائلاً: إن طهارة الحدث لا تشترط فيها النية، كطهارة الخبث.

واختلف العلماء أيضاً في الغاية في قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [5/6]، هل هي داخلة فيجب غسل المرافق في الوضوء؟. وهو مذهب الجمهور. أو خارجة فلا يجب غسل المرافق فيه؟

والحق اشتراط النية، ووجوب غسل المرافق، والعلم عند الله تعالى.

واختلف العلماء في مسح الرأس في الوضوء هل يجب تعميمه، فقال مالك وأحمد، وجماعة: يجب تعميمه. ولا شك أنه الأحوط في الخروج من عهدة التكليف بالمسح. وقال الشافعي، وأبو حنيفة: لا يجب التعميم.

واختلفوا في القدر المجزىء، فعن الشافعي: أقل ما يطلق عليه اسم المسح كاف، وعن أبي حنيفة: الربع، وعن بعضهم: الثلث، وعن بعضهم: الثلثان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على العمامة، وحمله المالكية على ما إذا خيف بنزعها ضرر، وظاهر الدليل الإطلاق.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم المسح على الناصية والعمامة، ولا وجه للاستدلال به على الاكتفاء بالناصية، لأنه لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بها، بل مسح معها على العمامة، فقد ثبت في مسح الرأس ثلاث حالات: المسح على الرأس، والمسح على العمامة، والجمع بينهما بالمسح على الناصية، والعمامة.

والظاهر من الدليل جواز الحالات الثلاث المذكورة، والعلم عند الله تعالى.

وما قدمنا من حكاية الإجماع على عدم الاكتفاء في المسح على الخف بالتيمم، مع أن فيه بعض خلاف كما يأتي، لأنه لضعفه عندنا كالعدم، ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية الكريمة خوف الإطالة.

قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} الآية.

اعلم أن لفظة {مِنْ} في هذه الآية الكريمة محتملة، لأن تكون للتبعيض، فيتعين في التيمم التراب الذي له غبار يعلق باليد. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، أي مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطيب، فلا يتعين ماله غبار، وبالأول قال الشافعي،

(1/353)

________________________________________

وأحمد، وبالثاني قال مالك، وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى جميعاً.

فإذا علمت ذلك، فاعلم أن في هذه الآية الكريمة إشارة إلى هذا القول الأخير، وذلك في قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [5/6] فقوله: {مِنْ حَرَجٍ} نكرة في سياق النفي زيدت قبلها {مِنْ}، والنكرة إذا كانت كذلك، فهي نص في العموم، كما تقرر في الأصول، قال في "مراقي السعود" عاطفاً على صيغ العموم: [الرجز]

وفي سياق المنفي منها يذكر ... إذا بنى أو زيد من منكر

فالآية تدل على عموم النفي في كل أنواع الحرج، والمناسب لذلك كون {مِنْ} لابتداء الغاية، لأن كثيراً من البلاد ليس فيه إلا الرمال أو الجبال، فالتكليف بخصوص ما فيه غبار يعلق باليد، لا يخلو من حرج في الجملة.

ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما،

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصل" ، وفي لفظ: "فعنده مسجده وطهوره" الحديث.

فهذا نص صحيح صريح في أن من أدركته الصلاة في محل ليس فيه إلا الجبال أو الرمال أن ذلك الصعيد الطيب الذي هو الحجارة، أو الرمل طهور له ومسجد. وبه تعلم أن ما ذكره الزمخشري من تعين كون {مِنْ} للتبعيض غير صحيح. فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على تعين التراب الذي له غبار يعلق باليد، دون غيره من أنواع الصعيد، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهورا، إذا لم نجد الماء" ، الحديث، فتخصيص التراب بالطهورية في مقام الامتنان يفهم منه أن غيره من الصعيد ليس كذلك، فالجواب من ثلاثة أوجه:

الأول: أن كون الأمر مذكوراً في معرض الامتنان، مما يمنع فيه اعتبار مفهوم المخالفة، كما تقرر في الأصول، قال في "مراقي السعود" في موانع اعتبار مفهوم المخالفة: [الرجز]

(1/354)

________________________________________

أو امتنان أو وفاق الواقع ... والجهل والتأكيد عند السامع

ولذا أجمع العلماء على جواز أكل القديد من الحوت مع أن الله، خص اللحم الطري منه في قوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [16/14]؛ لأنه ذكر اللحم الطري في معرض الامتنان، فلا مفهوم مخالفة له، فيجوز أكل القديد مما في البحر.

الثاني: أن مفهوم التربة مفهوم لقب، وهو لا يعتبر عند جماهير العلماء، وهو الحق كما هو معلوم في الأصول.

الثالث: أن التربة فرد من أفراد الصعيد. وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصاً له عند الجمهور، سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [2/238]، أو ذكرا في نصين كحديث: " أيما إهاب دبغ فقد طهر" عند أحمد، ومسلم، وابن ماجه، والترمذي وغيرهم، مع حديث: "هلا انتفعتم بجلدها" يعني شاة ميتة عند الشيخين، كلاهما من حديث ابن عباس، فذكر الصلاة الوسطى في الأول، وجلد الشاة في الأخير لا يقتضي أن غيرهما من الصلوات في الأول، ومن الجلود في الثاني ليس كذلك، قال في "مراقي السعود" عاطفاً على ما لا يخصص به العموم: [الرجز]

وذكر ما وافقه من مفرد ... ومذهب الراوي على المعتمد

ولم يخالف في عدم التخصيص بذكر بعض أفراد العام بحكم العام، إلا أبو ثور محتجاً بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص.

وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام، والصعيد في اللغة: وجه الأرض، كان عليه تراب، أو لم يكن، قاله الخليل، وابن الأعرابي، والزجاج.

قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [18/8]، أي أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً، وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [18/40]، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط]

كأنه بالضحى ترمى الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم

(1/355)

________________________________________

وإنما سمي صعيداً، لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صعدات على غير قياس، ومنه حديث: "إياكم والجلوس في الصعدات" ، قاله القرطبي وغيره عنه.

واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب، فقالت طائفة: "الطيب"، هو الطاهر، فيجوز التيمم بوجه الأرض كله، تراباً كان أو رملاً، أو حجارة، أو معدناً، أو سبخة، إذا كان ذلك طاهراً. وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم.

وقالت طائفة: الطيب: الحلال، فلا يجوز التيمم بتراب مغصوب. وقال الشافعي، وأبو يوسف: الصعيد الطيب التراب المنبت، بدليل قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} الآية [7/58].

فإذا علمت هذا، فاعلم أن المسألة لها واسطة وطرفان: طرف أجمع جميع المسلمين على جواز التيمم به، وهو التراب المنبت الطاهر الذي هو غير منقول، ولا مغصوب. وطرف أجمع جميع المسلمين على منع التيمم به، وهو الذهب والفضة الخالصان، والياقوت والزمرد، والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، والنجاسات وغير هذا هو الواسطة التي اختلف فيها العلماء، فمن ذلك المعادن.

فبعضهم يجيز التيمم عليها كمالك، وبعضهم يمنعه كالشافعي ومن ذلك الحشيش، فقد روى ابن خويز منداد عن مالك أنه يجيز التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، ومشهور مذهب مالك المنع، ومن ذلك التيمم على الثلج، فروي عن مالك في "المدونة"، والمبسوط جوازه: قيل: مطلقاً. وقيل: عند عدم الصعيد، وفي غيرهما منعه.

واختلف عنه في التيمم على العود، فالجمهور على المنع، وفي "مختصر الوقار" أنه جائز، وقيل: يجوز في العود المتصل بالأرض دون المنفصل عنها، وذكر الثعلبي أن مالكاً قال: لو ضرب بيده على شجرة، ثم مسح بها أجزأه، قال: وقال الأوزاعي، والثوري: يجوز بالأرض، وكل ما عليها من الشجر والحجر، والمدر وغيرها حتى قالا: لو ضرب بيده على الجمد، والثلج أجزأه.

وذكر الثعلبي عن أبي حنيفة أنه يجيزه بالكحل، والزرنيخ، والنورة، والجص، والجوهر المسحوق، ويمنعه بسحالة الذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، لأن

(1/356)

________________________________________

ذلك ليس من جنس الأرض.

وذكر النقاش عن ابن علية، وابن كيسان أنهما أجازاه بالمسك، والزعفران، وأبطل ابن عطية هذا القول، ومنعه إسحاق بن راهويه بالسباخ، وعن ابن عباس نحوه، وعنه فيمن أدركه التيمم، وهو في طين أنه يطلي به بعض جسده، فإذا جف تيمم به، قاله القرطبي.

وأما التراب المنقول في طبق أو غيره، فالتيمم به جائز في مشهور مذهب مالك، وهو قول جمهور المالكية، ومذهب الشافعي، وأصحابه. وعن بعض المالكية، وجماعة من العلماء منعه.

وما طبخ كالجص، والآجر ففيه أيضاً خلاف عن المالكية، والمنع أشهر.

واختلفوا أيضاً في التيمم على الجدار، فقيل: جائز مطلقاً، وقيل: ممنوع مطلقاً، وقيل بجوازه للمريض دون غيره، وحديث أبي جهيم الآتي يدل على الجواز مطلقاً.

والظاهر أن محله فيما إذا كان ظاهر الجدار من أنواع الصعيد، ومشهور مذهب مالك جواز التيمم على المعادن غير الذهب، والفضة ما لم تنقل، وجوازه على الملح غير المصنوع، ومنعه بالأشجار، والعيدان ونحو ذلك، وأجازه أحمد، والشافعي، والثوري على اللبد، والوسائد. ونحو ذلك إذا كان عليه غبار.

والتيمم في اللغة: القصد، تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، وأنشد الخليل قول عامر بن مالك، ملاعب الألسنة: [البسيط]

يممته الرمح شزراً ثم قلت له ... هذي البسالة لا لعب الزحاليق

ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]

تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامى

وقول أعشى باهلة: [المتقارب]

تيممت قيساً وكم دونه ... من الأرض من مهمة ذي شزن

وقول حميد بن ثور: [الطويل]

سل الربع أني يممت أم طارق ... وهل عادة للربع أن يتكلما

(1/357)

________________________________________

والتيمم في الشرع: القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه، واليدين منه بنية استباحة الصلاة عند عدم الماء، أو العجز عن استعماله، وكون التيمم بمعنى القصد يدل على اشتراط النية في التيمم، وهو الحق.

مسائل في أحكام التيمم:

المسألة الأولى: لم يخالف أحد من جميع المسلمين في التيمم، عن الحدث الأصغر، وكذلك عن الحدث الأكبر، إلا ما روي عن عمر، وابن مسعود، وإبراهيم النخعي من التابعين أنهم منعوه، عن الحدث الأكبر.

ونقل النووي في "شرح المهذب" عن ابن الصباغ وغيره القول برجوع عمر، وعبد الله بن مسعود عن ذلك، واحتج لمن منع التيمم، عن الحدث الأكبر بأن آية النساء ليس فيها إباحته إلا لصاحب الحدث الأصغر. حيث قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} الآية [4/43]، ورد هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:

الأول: أنا لا نسلم عدم ذكر الجنابة في آية النساء، لأن قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [4/43]، فسره ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، بأن المراد به الجماع، وإذاً فذكر التيمم بعد الجماع المعبر عنه باللمس، أو الملامسة بحسب القراءتين، والمجيء من الغائط دليل على شمول التيمم لحالتي الحدث الأكبر، والأصغر.

الثاني: أنه تعالى في سورة المائدة، صرح بالجنابة غير معبر عنها بالملامسة، ثم ذكر بعدها التيمم، فدل على أن يكون عنها أيضاً حيث قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [5/6]، ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية [5/6].

فهو عائد إلى المحدث، والجنب جميعاً، كما هو ظاهر.

الثالث: تصريحه صلى الله عليه وسلم بذلك الثابت عنه في الصحيح: فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، أنه قال: أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد وصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنما يكفيك هكذا" ،

(1/358)

________________________________________

وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه، وكفيه.

وأخرجا في صحيحيهما أيضاً من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى بالناس. فإذا هو برجل معتزل، فقال: "ما منعك أن تصلي" ؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد، فإنه يكفيك" .

والأحاديث في الباب كثيرة.

المسألة الثانية: اختلف العلماء، هل تكفي للتيمم ضربة واحدة أو لا؟ فقال جماعة: تكفي ضربة واحدة للكفين والوجه، وممن ذهب إلى ذلك الإمام أحمد، وعطاء، ومكحول، والأوزاعي، وإسحاق، ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره، وهو قول عامة أهل الحديث، ودليله حديث عمار المتفق عليه المتقدم آنفاً.

وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا بد من ضربتين: إحداهما للوجه، والأخرى للكفين، ومنهم من قال بوجوب الثانية، ومنهم من قال بسنيتها كمالك، وذهب ابن المسيب، وابن شهاب، وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة لليدين، وضربة للذراعين.

قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر من جهة الدليل الاكتفاء بضربة واحدة. لأنه لم يصح من أحاديث الباب شيء مرفوعاً، إلا حديث عمار المتقدم، وحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من نحو بئر جمل فلقيه رجل، فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام، أخرجه البخاري موصولاً، ومسلم تعليقاً، وليس في واحد منهما ما يدل على أنهما ضربتان كما رأيت، وقد دل حديث عمار أنها واحدة.

المسألة الثالثة: هل يلزم في التيمم مسح غير الكفين؟ اختلف العلماء في ذلك، فأوجب بعضهم المسح في التيمم إلى المرفقين، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهما، والثوري، وابن أبي سلمة، والليث، كلهم يرون بلوغ التيمم بالمرفقين فرضاً واجباً، وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي.

(1/359)

________________________________________

قال ابن نافع: من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبداً، وقال مالك: في المدونة يعيد في الوقت، وروي التيمم إلى المرفقين مرفوعاً، عن جابر بن عبد الله، وابن عمر، وأبي أمامة، وعائشة وعمار، والأسلع، وسيأتي ما في أسانيد رواياتهم من المقال إن شاء الله تعالى، وبه كان يقول ابن عمر، وقال ابن شهاب: يمسح في التيمم إلى الآباط.

واحتج من قال بالتيمم إلى المرفقين بما روي عمن ذكرنا من ذكر المرفقين، وبأن ابن عمر كان يفعله، وبالقياس على الوضوء، وقد قال تعالى فيه: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} .

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر من الأدلة، والله تعالى أعلم، أن الواجب في التيمم هو مسح الكفين فقط، لما قدمنا من أن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها شيء ثابت الرفع إلا حديث عمار: وحديث أبي جهيم المتقدمين.

أما حديث أبي جهيم، فقد ورد بذكر اليدين مجملاً، كما رأيت، وأما حديث عمار فقد ورد بذكر الكفين في الصحيحين، كما قدمنا آنفاً. وورد في غيرهما بذكر المرفقين، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط، فأما رواية المرفقين، ونصف الذراع، ففيهما مقال سيأتي، وأما رواية الآباط، فقال الشافعي وغيره: إن كان ذاك وقع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكل تيمم للنبي صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له. وإن كان وقع بغير أمره، فالحجة فيما أمر به ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين، كون عمار كان يفتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره. ولا سيما الصحابي المجتهد، قاله ابن حجر في "الفتح".

وأما فعل ابن عمر، فلم يثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف على ابن عمر لا يعارض به مرفوع متفق عليه، وهو حديث عمار.

وقد روى أبو داود عن ابن عمر بسند ضعيف، أنه قال: مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى في السكك، فضرب بيده على حائط، ومسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه ومدار الحديث على محمد بن ثابت، وقد ضعفه ابن معين، وأحمد والبخاري وأبو حاتم. وقال أحمد والبخاري: ينكر عليه حديث التيمم. أي

(1/360)

________________________________________

هذا، زاد البخاري: خالفه أيوب، وعبيد الله والناس، فقالوا عن نافع عن ابن عمر فعله.

وقال أبو داود: لم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورووه من فعل ابن عمر، وقال الخطابي: لا يصح. لأن محمد بن ثابت ضعيف جداً، ومحمد بن ثابت هذا هو العبدي، أبو عبد الله البصري، قال فيه في التقريب: صدوق، لين الحديث.

واعلم أن رواية الضحاك بن عثمان، وابن الهاد لهذا الحديث عن نافع عن ابن عمر، ليس في واحدة منهما متابعة محمد بن ثابت على الضربتين، ولا على الذراعين. لأن الضحاك لم يذكر التيمم في روايته، وابن الهاد قال في روايته مسح وجهه ويديه. قاله ابن حجر، والبيهقي، وروى الدارقطني والحاكم، والبيهقي من طريق علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" .

قال الدارقطني: وقفه يحيى القطان، وهشيم وغيرهما، وهو الصواب، ثم رواه من طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً، قاله ابن حجر، مع أن علي بن ظبيان ضعفه القطان، وابن معين، وغير واحد.

وهو ابن ظبيان بن هلال العبسي الكوفي، قاضي بغداد، قال فيه في "التقريب": ضعيف.

ورواه الدارقطني من طريق سالم عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ تيممنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب، ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا، ثم ضربنا ضربة أخرى فمسحنا من المرافق إلى الأكف، الحديث، لكن في إسناده سليمان بن أرقم، وهو متروك.

قال البيهقي: رواه معمر وغيره عن الزهري موقوفاً، وهو الصحيح، ورواه الدراقطني أيضاً من طريق سليمان بن أبي داود الحراني، وهو متروك أيضاً عن سالم، ونافع جميعاً عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: "وفي التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" .

قال أبو زرعة: حديث باطل، ورواه الدارقطني، والحاكم من طريق عثمان بن

(1/361)

________________________________________

محمد الأنماطي عن عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين" ، ومن طريق أبي نعيم عن عزرة بسنده المذكور، قال: جاء رجل، فقال: أصابتني جنابة، وإني تمعكت في التراب، فقال: "اضرب" ، فضرب بيده الأرض فمسح وجهه، ثم ضرب يديه فمسح بهما إلى المرفقين.

ضعف ابن الجوزي هذا الحديث بأن فيه عثمان بن محمد، ورد على ابن الجوزي بأن عثمان بن محمد لم يتكلم فيه أحد، كما قاله ابن دقيق العيد، لكن روايته المذكورة شاذة، لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوفاً، أخرجه الدارقطني، والحاكم أيضاً.

وقال الدارقطني في حاشية السنن، عقب حديث عثمان بن محمد: كلهم ثقات، والصواب موقوف، قال ذلك كله ابن حجر في التلخيص، وقال في "التقريب" في عثمان بن محمد المذكور مقبول، وقال في "التلخيص" أيضاً: وفي الباب عن الأسلع قال: كنت أخدم النبي صلىالله عليه وسلم ، فأتاه جبريل بآية الصعيد، فأراني التيمم، فضربت بيدي الأرض واحدة، فمسحت بها وجهي ثم ضربت بها الأرض فمسحت بها يدي إلى المرفقين رواه الدارقطني، والطبراني، وفيه الربيع بن بدر، وهو ضعيف، وعن أبي أمامة رواه الطبراني، وإسناده ضعيف أيضاً.

ورواه البزار، وابن عدي من حديث عائشة مرفوعاً: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" . تفرد به الحريش بن الخريت، عن ابن أبي مليكة عنها قال أبو حاتم: حديث منكر، والحريش شيخ لا يحتج به.

وحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر: "تكفيك ضربة للوجه، وضربة للكفين" , رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو ضعيف، ولكنه حجة عند الشافعي.

وحديث عمار: كنت في القوم حين نزلت الرخصة فأمرنا فضربنا واحدة للوجه، ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين.

رواه البزار، ولا شك أن الرواية المتفق عليها عن عمار أولى منه.

وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، اهـ، منه. فبهذا كله تعلم أنه لم يصح في الباب إلا حديث

(1/362)

________________________________________

عمار، وأبي جهيم المتقدمين، كما ذكرنا.

فإذا عرفت نصوص السنة في المسألة فاعلم أن الواجب في المسح الكفان فقط، ولا يبعد ما قاله مالك رحمه الله من وجوب الكفين، وسنية الذراعين إلى المرفقين، لأن الوجوب دل عليه الحديث المتفق عليه في الكفين.

وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال، فإن بعضها يشد بعضاً، لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يقوي بعضها بعضاً حتى يصلح مجموعها للاحتجاج: لا تخاصم بواحد أهل بيت، فضعيفان يغلبان قوياً، وتعتضد أيضاً بالموقوفات المذكورة.

والأصل إعمال الدليلين، كما تقرر في الأصول.

المسألة الرابعة: هل يجب الترتيب في التيمم أو لا؟ ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي وأصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين ركن من أركان التيمم، وحكى النووي عليه اتفاق الشافعية، وذهبت جماعة منهم مالك، وجل أصحابه إلى أن تقديم الوجه على اليدين سنة.

ودليل تقديم الوجه على اليدين أنه تعالى قدمه في آية النساء، وآية المائدة، حيث قال فيهما: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} .

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أبدأ بما بدأ الله به" يعني قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية [2/158]، وفي بعض رواياته "ابدؤوا" بصيغة الأمر. وذهب الإمام أحمد، ومن وافقه إلى تقديم اليدين، مستدلاً بما ورد في صحيح البخاري في باب "التيمم ضربة" من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا" ، فضرب بكفيه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه، الحديث.

ومعلوم أن "ثم" تقتضي الترتيب، وأن الواو لا تقتضيه عند الجمهور، وإنما تقتضي مطلق التشريك، ولا ينافي ذلك أن يقوم دليل منفصل على أن المعطوف بالواو مؤخر عما قبله، كما دل عليه الحديث المتقدم في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية، وكما في قول حسان: [الوافر]

(1/363)

________________________________________

هجوت محمداً وأجبت عنه

وعلى رواية "الواو" فحديث البخاري هذا نص في تقديم اليدين على الوجه، وللاسماعيلي من طريق هارون الحمال، عن أبي معاوية ما لفظه: "إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض ثم تنفضهما، ثم تمسح بيمينك على شمالك، وشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك" قاله ابن حجر في الفتح، وأكثر العلماء على تقديم الوجه مع الاختلاف في وجوب ذلك، وسنيته.

المسألة الخامسة: هل يرفع التيمم الحدث أو لا؟ وهذه المسألة من صعاب المسائل لإجماع المسلمين على صحة الصلاة بالتيمم عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله، وإجماعهم على أن الحدث مبطل للصلاة، فإن قلنا: لم يرتفع حدثه، فكيف صحت صلاته، وهو محدث؟ وإن قلنا: صحت صلاته، فكيف نقول: لم يرتفع حدثه؟

اعلم أولاً أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهب:

الأول: أن التيمم لا يرفع الحدث.

الثاني: أنه يرفعه رفعاً كلياً.

الثالث: أنه يرفعه رفعاً مؤقتاً.

حجة القول الأول أن التيمم لا يرفع الحدث ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فرأى رجلاً معتزلاً لم يصل مع القوم، فقال: "ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم" ؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" . إلى أن قال: وكان آخر ذلك أن أعطي الذي أصابته الجنابة إناء من ماء. قال: "اذهب فأفرغه عليك" ، الحديث. ولمسلم في هذا الحديث وغسلنا صاحبنا يعني الجنب المذكور. وهذا نص صحيح في أن تيممه الأول لم يرفع جنابته.

ومن الأدلة على أنه لا يرفع الحدث ما رواه أبو داود، وأحمد، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم موصولاً، ورواه البخاري تعليقاً عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه تيمم عن الجنابة من شدة البرد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صليت بأصحابك

(1/364)

________________________________________

وأنت جنب" ، فقال عمرو: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [4/29]. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه قال ابن حجر في "التلخيص" في الكلام على حديث عمرو هذا: واختلف فيه على عبد الرحمن بن جبير.

فقيل عنه عن أبي قيس عن عمرو، وقيل عن عن عمرو بلا واسطة. لكن الرواية التي فيها أبو قيس، ليس فيها ذكر التيمم، بل فيها أنه غسل مابنه فقط.

وقال أبو داود: روى هذه القصة الأوزاعي عن حسان بن عطية، وفيه: "فتيمم". ورجح الحاكم إحدى الروايتين على الأخرى.

وقال البيهقي: يحتمل أن يكون فعل ما في الروايتين جميعاً، فيكون قد غسل ما أمكن، وتيمم عن الباقي. وله شاهد من حديث ابن عباس، وحديث أبي أمامة، عند الطبراني، انتهى من التلخيص لابن حجر.

قال مقيده عفا الله عنه: ما أشار إليه البيهقي من الجمع بين الروايتين متعين، لأن الجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في الأصول، وعلوم الحديث.

ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "صليت بأصحابك وأنت جنب" ، فإنه أثبت بقاء جنابته مع التيمم.

ومن الأدلة على أن التيمم لا يرفع الحدث حديث أبي ذر عند أحمد، وأصحاب السنن الأربع، وصححه الترمذي، وأبو حاتم من حديث أبي ذر، وابن القطان من حديث أبي هريرة عند البزار، والطبراني، قاله ابن حجر في التلخيص.

وذكر في "الفتح" أنه صححه ابن حبان، والدارقطني من حديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" الحديث. قال ابن حجر في التلخيص: بعد أن ذكر هذا الحديث عن أصحاب السنن من رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر: واختلف فيه على أبي قلابة، فقيل هكذا.

وقيل عنه عن رجل من بني عامر، وهذه رواية أيوب عنه، وليس فيها مخالفة لرواية خالد، وقيل عن أيوب عنه عن أبي المهلب عن أبي ذر، وقيل عنه بإسقاط

(1/365)

________________________________________

الواسطة، وقيل في الواسطة محجن، أو ابن محجن، أو رجاء بن عامر، أو رجل من بني عامر، وكلها عند الدارقطني، والاختلاف فيه كله على أيوب، ورواه ابن حبان، والحاكم من طريق خالد الحذاء كرواية أبي داود، وصححه أيضاً أبو حاتم، ومدار طريق خالد على عمرو بن بجدان، وقد وثقه العجلي، وغفل ابن القطان فقال: إنه مجهول. هكذا قاله ابن حجر في التلخيص.

وقال في "التقريب" في ابن بجدان المذكور: لا يعرف حاله، تفرد عنه أبو قلابة وفي الباب عن أبي هريرة رواه البزار قال: حدثنا مقدم بن محمد، ثنا عمي القاسم بن يحيى، ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رفعه: "الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله، وليمسه بشرته، فإن ذلك خير" .

وقال: لا نعلمه عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ورواه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه مطولاً، أخرجه في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة، وساق فيه قصة أبي ذر وقال: لم يروه إلا هشام، عن ابن سيرين، ولا عن هشام إلا القاسم، تفرد به مقدم، وصححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إن إرساله أصح، انتهى من التلخيص بلفظه، وقد رأيت تصحيح هذا الحديث للترمذي، وأبي حاتم، وابن القطان، وابن حبان.

ومحل الشاهد منه قوله: "فإن وجد الماء فليمسه بشرته" ، لأن الجنابة لو كان التيمم رفعها، لما احتيج إلى إمساس الماء البشرة.

واحتج القائلون بأن التيمم يرفع الحدث: بأن النبي صلى الله عليه وسلم، صرح بأنه طهور في قوله في الحديث المتفق عليه: "وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" ، وبأن في الحديث المار آنفاً: "التيمم وضوء المسلم" ، وبأن الله تعالى قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية، وبالإجماع على أن الصلاة تصح به كما تصح بالماء، ولا يخفى ما بين القولين المتقدمين من التناقض.

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر من الأدلة تعين القول الثالث، لأن الأدلة تنتظم به ولا يكون بينهما تناقض والجمع واجب متى أمكن. قال في "مراقي السعود":

(1/366)

________________________________________

[الرجز]

والجمع واجب متى ما أمكنا ... إلا فللأخير نسخ بينا

والقول الثالث المذكور هو: أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً لا كلياً، وهذا لا مانع منه عقلاً ولا شرعاً، وقد دلت عليه الأدلة، لأن صحة الصلاة به المجمع عليها يلزمها أن المصلي غير محدث، ولا جنب لزوماً شرعياً لا شك فيه.

ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك عند إمكانه المجمع عليه أيضاً يلزمه لزوماً شرعياً لا شك فيه، وأن الحدث مطلقاً لم يرتفع بالكلية، فيتعين الارتفاع المؤقت. هذا هو الظاهر، ولكنه يشكل عليه ما تقدم في حديث عمرو بن العاص، أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "صليت بأصحابك وأنت جنب" ، وقد تقرر عند علماء العربية أن وقت عامل الحال هو بعينه وقت الحال، فالحال وعاملها إذاً مقترنان في الزمان، فقولك: جاء زيد ضاحكاً مثلا، لا شك في أن وقت المجيء فيه هو بعينه وقت الضحك، وعليه فوقت صلاته، هو بعينه وقت كونه جنباً، لأن الحال هي كونه جنباً وعاملها قوله: "صليت" ، فيلزم أن وقت الصلاة والجنابة متحد، ولا يقدح فيما ذكرنا أن الحال المقدرة لا تقارن عاملها في الزمان، كقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [39/73]؛ لأن الخلود متأخر عن زمن الدخول أي مقدرين الخلود فيها؛ لأن الحال في الحديث المذكور ليست من هذا النوع.

فالمقارنة بينها وبين عاملها في الزمن لا شك فيها، وإذا كانت الجنابة حاصلة له في نفس وقت الصلاة، كما هو مقتضى هذا الحديث، فالرفع المؤقت المذكور لا يستقيم، ويمكن الجواب عن هذا من وجهين:

الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "وأنت جنب" قبل أن يعلم عذره بخوفه الموت إن اغتسل.

والمتيمم من غير عذر مبيح جنب قطعاً، وبعد أن علم عذره المبيح للتيمم الذي هو خوف الموت أقره وضحك، ولم يأمره بالإعادة، فدل على أنه صلى بأصحابه وهو غير جنب، وهذا ظاهر الوجه.

الثاني: أنه أطلق عليه اسم الجنابة نظراً إلى أنها لم ترتفع بالكلية، ولو كان في وقت صلاته غير جنب. كإطلاق اسم الخمر على العصير في وقت هو فيه ليس بخمر في

(1/367)

________________________________________

قوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [12/36]، نظراً إلى مآله في ثاني حال، والعلم عند الله تعالى.

ومن المسائل التي تبنى على الاختلاف في التيمم، هل يرفع الحدث أو لا؟ جواز وطء الحائض إذا طهرت، وصلت بالتيمم للعذر الذي يبيحه، فعلى أنه يرفع الحدث يجوز وطؤها قبل الاغتسال، والعكس بالعكس.

وكذلك إذا تيمم ولبس الخفين. فعلى أن التيمم يرفع الحدث يجوز المسح عليهما في الوضوء بعد ذلك، والعكس بالعكس.

وكذلك ما ذهب إليه أبو سلمة بن عبد الرحمن من أن الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء لا يلزمه الغسل، فالظاهر أنه بناه على رفع الحدث بالتيمم، لكن هذا القول ترده الأحاديث المتقدمة، وإجماع المسلمين قبله، وبعده على خلافه.

المسألة السادسة: هل يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد فريضتان أو لا؟

ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز به فريضتان، أو فرائض ما لم يحدث، وعليه كثير من العلماء، منهم الإمام أحمد في أشهر الروايتين، والحسن البصري، وأبو حنيفة، وابن المسيب، والزهري.

وذهب مالك، والشافعي، وأصحابهما إلى أنه لا تصلى به إلا فريضة واحدة. وعزاه النووي في شرح المهذب لأكثر العلماء، وذكر أن ابن المنذر حكاه عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، والشافعي، والنخعي، وقتادة، وربيعة، ويحيى الأنصاري، والليث، وإسحاق، وغيرهم.

واحتج أهل القول الأول بأن النصوص الواردة في التيمم، ليس فيها التقييد بفرض واحد، وظاهرها الإطلاق، وبحديث: "الصعيد الطيب وضوء المسلم" الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: "وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" ، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} الآية [5/6].

واحتج أهل القول الثاني بما روي عن ابن عباس رضي عنهما أنه قال: من السنة ألا يصلي بالتيمم إلا مكتوبة واحدة، ثم يتيمم للأخرى، وقول الصحابي من السنة

(1/368)

________________________________________

له حكم الرفع على الصحيح عند المحدثين، والأصوليين، أخرج هذا الحديث الدارقطني، والبيهقي من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عنه، والحسن ضعيف جداً قال فيه ابن حجر في "التقريب" متروك، وقال فيه مسلم، في مقدمة صحيحه: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود قال: قال لي شعبة: ائت جرير بن حازم، فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة، فإنه يكذب.

وقال البيهقي لما ساق هذا الحديث في سننه: الحسن بن عمارة لا يحتج به اهـ وهو أبو محمد البجلي مولاهم الكوفي قاضي بغداد، واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عمر، وعلي، وعمرو بن العاص موقوفاً عليهم، أما ابن عمر فرواه عنه البيهقي، والحاكم من طريق عامر الأحول، عن نافع عن ابن عمر قال: يتيمم لكل صلاة، وإن لم يحدث، قال البيهقي: وهو أصح ما في الباب قال: ولا نعلم له مخالفاً من الصحابة.

قال مقيده عفا الله عنه: ومثل هذا يسمى إجماعاً سكوتياً، وهو حجة عند أكثر العلماء، ولكن أثر ابن عمر هذا الذي صححه البيهقي، وسكت ابن حجر على تصحيحه له في التلخيص، والفتح، تكلم فيه بعض أهل العلم بأن عامرا الأحول ضعفه سفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وقيل لم يسمع من نافع، وضعف هذا الأثر ابن حزم ونقل خلافه عن ابن عباس وقال ابن حجر في الفتح: بعد أن ذكر أن البيهقي قال: لا نعلم له مخالفاً. وتعقب بما رواه ابن المنذر عن ابن عباس، أنه لا يجب.

وأما عمرو بن العاص فرواه عنه الدارقطني، والبيهقي، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. أن عمرو بن العاص كان يتيمم لكل صلاة، وبه كان يفتي قتادة، وهذا فيه إرسال شديد بين قتادة، وعمرو، قاله ابن حجر في التليخص، والبيهقي في "السنن الكبرى" وهو ظاهر، وأما علي فرواه عنه الدارقطني أيضاً بإسناد فيه حجاج بن أرطاة والحارث الأعور قاله ابن حجر أيضاً، ورواه البيهقي في السنن الكبرى بالإسناد الذي فيه المذكوران.

أما حجاج بن أرطاة، فقد قال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق، كثير الخطأ، والتدليس، وأما الحارث الأعور فقال فيه ابن حجر في التقريب: كذبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف، وقال فيه مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جابر عن مغيرة عن الشعبي قال: حدثني الحارث الأعور

(1/369)

________________________________________

الهمداني، وكان كذاباً. حدثنا أبو عامر عبد الله بن براد الأشعري، حدثنا أبو أسامة عن مفضل عن مغيرة قال: سمعت الشعبي يقول: حدثني الحارث الأعور وهو يشهد أنه أحد الكذابين وقد ذكر البيهقي هذا الأثر عن علي في التيمم، في باب "التيمم لكل فريضة"، وسكت عن الكلام في المذكورين أعني حجاج بن أرطاة، والحارث الأعور، لكنه قال في حجاج في باب "المنع من التطهير بالنبيذ" لا يحتج به. وضعفه في باب "الوضوء من لحوم الإبل"، وقال في باب "الدية أرباع" مشهور بالتدليس، وأنه يحدث عمن لم يلقه، ولم يسمع منه، قاله الدارقطني، وضعف الحارث الأعور في باب "منع التطهير بالنبيذ أيضاً".

وقال في باب "أصل القسامة": قال الشعبي: كان كذاباً.

المسألة السابعة: إذا كان في بدنه نجاسة، ولم يجد الماء، هل يتيمم لطهارة تلك النجاسة الكائنة في بدنه -فيكون التيمم بدلاً عن طهارة الخبث عند فقد الماء. كطهارة الحدث- أو لا يتيمم لها؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يتيمم عن الخبث، وإنما يتيمم عن الحدث فقط. واستدلوا بأن الكتاب والسنة إنما دلا على ذلك كقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [4/43].

وتقدم في حديث عمران بن حصين، وحديث عمار بن ياسر المتفق عليهما: التيمم عند الجنابة، وأما عن النجاسة فلا، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجوز عن النجاسة إلحاقاً لها بالحدث، واختلف أصحابه في وجوب إعادة تلك الصلاة.

وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو ثور إلى أنه يمسح موضع النجاسة بتراب ويصلي، نقله النووي عن ابن المنذر. كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية [5/15]، لم يبين هنا شيئاً من ذلك الكثير الذي يبينه لهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كانوا يخفون من الكتاب، يعني التوراة والإنجيل، وبين كثيراً منه في مواضع أخر.

فمما كانوا يخفون من أحكام التوراة رجم الزاني المحصن، وبينه القرآن في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ

(1/370)

________________________________________

يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [3/23].

يعني يدعون إلى التوراة ليحكم بينهم في حد الزاني المحصن بالرجم، وهم معرضون عن ذلك منكرون له، ومن ذلك، ما أخفوه من صفات الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وإنكارهم أنهم يعرفون أنه هو الرسول، كما بينه تعالى بقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [2/89].

ومن ذلك إنكارهم أن الله حرم عليهم بعض الطيبات بسبب ظلمهم ومعاصيهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [4/160]، وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [6/146].

فإنهم أنكروا هذا، وقالوا لم يحرم علينا إلا ما كان محرماً على إسرائيل، فكذبهم القرآن في ذلك في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [3/93].

ومن ذلك كتم النصارى بشارة عيسى ابن مريم لهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد بينها تعالى بقوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [61/6], إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما أخفوه من كتبهم.

قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} الآية.

قال جمهور العلماء: إنهما ابنا آدم لصلبه، وهما هابيل، وقابيل.

وقال الحسن البصري رحمه الله: هما رجلان من بني إسرائيل، ولكن القرآن يشهد لقول الجماعة، ويدل على عدم صحة قول الحسن، وذلك في قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [5/31]، ولا يخفى على أحد أنه ليس في بني إسرائيل رجل يجهل الدفن حتى يدله عليه الغراب، فقصة الاقتداء بالغراب في الدفن، ومعرفته منه تدل على أن الواقعة وقعت في أول الأمر قبل أن

(1/371)

________________________________________

يتمرن الناس على دفن الموتى، كما هو واضح، ونبه عليه غير واحد من العلماء، والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} الآية, صرح في هذه الآية الكريمة أنه كتب على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ولم يتعرض هنا لحكم من قتل نفساً بنفس، أو بفساد في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر، فبين أن قتل النفس بالنفس جائز، في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} الآية [5/45]، وفي قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [2/178]، وقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} الآية [17/33].

واعلم أن آيات القصاص في النفس فيها إجمال بينته السنة، وحاصل تحرير المقام فيها أن الذكر الحر المسلم يقتل بالذكر الحر المسلم إجماعاً، وأن المرأة كذلك تقتل بالمرأة كذلك إجماعاً، وأن العبد يقتل كذلك بالعبد إجماعاً، وإنما لم نعتبر قول عطاء باشتراط تساوي قيمة العبدين، وهو رواية عن أحمد، ولا قول ابن عباس: ليس بين العبيد قصاص، لأنهم أموال.

لأن ذلك كله يرده صريح قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية، وأن المرأة تقتل بالرجل، لأنها إذا قتلت بالمرأة، فقتلها بالرجل أولى، وأن الرجل يقتل بالمرأة عند جمهور العلماء فيهما.

وروي عن جماعة منهم علي، والحسن، وعثمان البتي، وأحمد في رواية عنه أنه لا يقتل بها حتى يلتزم أولياؤها قدر ما تزيد به ديته على ديتها. فإن لم يلتزموه أخذوا ديتها.

وروي عن علي والحسن أنها إن قتلت رجلاً قتلت به، وأخذ أولياؤه أيضاً زيادة ديته على ديتها، أو أخذوا دية المقتول واستحيوها.

قال القرطبي بعد أن ذكر هذا الكلام عن علي رضي الله عنه، والحسن البصري، وقد أنكر ذلك عنهم أيضاً: روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح لأن الشعبي لم يلق علياً.

وقد روى الحكم عن علي، وعبد الله أنهما قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمداً

(1/372)

________________________________________

فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وقال ابن حجر في "فتح الباري" في باب سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود بعد أن ذكر القول المذكور عن علي والحسن: ولا يثبت عن علي، ولكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة ويدل على بطلان هذا القول أنه ذكر فيه أن أولياء الرجل إذا قتلته امرأة يجمع لهم بين القصاص نصف الدية، وهذا قول يدل الكتاب والسنة على بطلانه، وأنه إما القصاص فقط، وإما الدية فقط، لأنه تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، فرتب الاتباع بالدية على العفو دون القصاص.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين" الحديث، وهو صريح في عدم الجمع بينهما، كما هو واضح عند عامة العلماء. وحكي عن أحمد في رواية عنه، وعثمان البتي، وعطاء أن الرجل لا يقتل بالمرأة، بل تجب الدية، قاله ابن كثير، وروي عن الليث والزهري أنها إن كانت زوجته لم يقتل بها، وإن كانت غير زوجته قتل بها.

والتحقيق قتله بها مطلقاً. كما سترى أدلته، فمن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة إجماع العلماء على أن الصحيح السليم الأعضاء إذا قتل أعور أو أشل، أو نحو ذلك عمداً وجب عليه القصاص، ولا يجب لأوليائه شيء في مقابلة ما زاد به من الأعضاء السليمة على المقتول.

ومن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بالحجارة قصاصاً بجارية فعل بها كذلك، وهذا الحديث استدل به العلماء على قتل الذكر بالأنثى، وعلى وجوب القصاص في القتل بغير المحدد، والسلاح.

وقال البيهقي في "السنن الكبرى"، في باب "قتل الرجل بالمرأة": أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي، ثنا الحكم بن موسى القنطري، ثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض، والسنن، والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، وكان فيه، وإن الرجل يقتل بالمرأة.

(1/373)

________________________________________

وروي هذا الحديث موصولاً أيضاً النسائي، وابن حبان، والحاكم، وفي تفسير ابن كثير ما نصه: وفي الحديث الذي رواه النسائي، وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه عمرو بن حزم أن الرجل يقتل بالمرأة، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لعمرو بن حزم الذي فيه أن الرجل يقتل بالمرأة، رواه مالك، والشافعي، ورواه أيضاً الدارقطني، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم، والدارمي وكلام علماء الحديث في كتاب عمرو بن حزم هذا مشهور بين مصحح له، ومضعف وممن صححه ابن حبان، والحاكم والبيهقي، وعن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحاً. وصححه أيضاً من حيث الشهرة لا من حيث الإسناد، جماعة منهم الشافعي فإنه قال: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن عبد البر: هو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الإسناد. لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول، قال: ويدل على شهرته ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث بن سعيد، عن يحيى بن سعد عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم.

وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب، ثم ساق ذلك بسنده إليهما وضعف كتاب ابن حزم هذا جماعة، وانتصر لتضعيفه أبو محمد بن حزم في محلاه.

والتحقيق: صحة الاحتجاج به، لأنه ثبت أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتبه ليبين به أحكام الديات، والزكوات وغيرها، ونسخته معروفة في كتب الفقه.

والحديث: ولاسيما عند من يحتج بالمرسل كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في أشهر الروايات.

ومن أدلة قتله بها عموم حديث: "المسلمون تتكافؤ دماؤهم" الحديث، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله، ومن أوضح الأدلة في قتل الرجل بالمرأة قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [5/45]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم

(1/374)

________________________________________

يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس" الحديث، أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

فعموم هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث الصحيح يقتضي قتل الرجل بالمرأة، لأنه نفس بنفس، ولا يخرج عن هذا العموم، إلا ما أخرجه دليل صالح لتخصيص النصر به. نعم يتوجه على هذا الاستدلال سؤالان:

الأول: ما وجه الاستدلال بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، مع أنه حكاية عن قوم موسى، والله تعالى يقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [5/48].

السؤال الثاني: لم لا يخصص عموم قتل النفس بالنفس في الآية والحديث المذكورين بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [2/178]؛ لأن هذه الآية أخص من تلك، لأنها فصلت ما أجمل في الأولى، ولأن هذه الأمة مخاطبة بها صريحاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الآية.

الجواب عن السؤال الأول: أن التحقيق الذي عليه الجمهور، ودلت عليه نصوص الشرع، أن كل ما ذكر لنا في كتابنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، مما كان شرعاً لمن قبلنا أنه يكون شرعاً لنا، من حيث إنه وارد في كتابنا، أو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لا من حيث إنه كان شرعاً لمن قبلنا، لأنه ما قص علينا في شرعنا إلا لنعتبر به، ونعمل بما تضمن.

والنصوص الدالة على هذا كثيرة جداً، ولأجل هذا أمر الله في القرآن العظيم في غير ما آية بالاعتبار بأحوالهم، ووبخ من لم يعقل ذلك، كما في قوله تعالى في قوم لوط: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ, وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [37/138،137].

في قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} ، توبيخ لمن مر بديارهم، ولم يعتبر بما وقع لهم، ويعقل ذلك ليجتنب الوقوع في مثله، وكقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، ثم هدد الكفار بمثل ذلك، فقال: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [47/10].

(1/375)

________________________________________

وقال في حجارة قوم لوط التي أهلكوا بها، أو ديارهم التي أهلكوا فيها: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [11/83]، وهو تهديد عظيم منه تعالى لمن لم يعتبر بحالهم، فيجتنب ارتكاب ما هلكوا بسببه، وأمثال ذلك كثير في القرآن.

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [12/111] فصرح بأنه يقص قصصهم في القرآن للعبرة، وهو دليل واضح لما ذكرنا، ولما ذكر الله تعالى من ذكر من الأنبياء في سورة الأنعام، قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [6/90]، وأمره صلى الله عليه وسلم أمر لنا، لأنه قدوتنا، ولأن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية [33/21]، ويقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية [3/31]، ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [59/7].

ويقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} الآية [4/80]، ومن طاعته اتباعه فيما أمر به كله، إلا ما قام فيه دليل على الخصوص به صلى الله عليه وسلم، وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرعاً لنا، إلا بدليل على النسخ هو مذهب الجمهور، منهم مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أشهر الروايتين، وخالف الإمام الشافعي رحمه الله في أصح الروايات عنه، فقال: إن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعاً لنا إلا بنص من شرعنا على أنه مشروع لنا، وخالف أيضاً في الصحيح عنه في أن الخطاب الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم يشمل حكمه الأمة. واستدل للأول بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ، وللثاني: بأن الصيغة الخاصة بالرسول لا تشمل الأمة وضعاً، فإدخالها فيها صرف للفظ عن ظاهره، فيحتاج إلى دليل منفصل، وحمل الهدى في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، والدين في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} الآية [42/13], على خصوص الأصول التي هي التوحيد دون الفروع العملية، لأنه تعالى قال في العقائد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [21/25]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [16/36]، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [43/45].

وقال في الفروع العملية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ، فدل ذلك على اتفاقهم في الأصول، واختلافهم في الفروع، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد" ، أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله

(1/376)

________________________________________

عنه.

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما خمل الهدى في آية: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، والدين في آية {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} ، على خصوص التوحيد دون الفروع العملية، فهو غير مسلم، أما الأول فلما أخرجه البخاري في صحيحه، في تفسير سورة ص?، عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في ص? فقال: أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [6/84 و90]، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا نص صحيح صريح عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل سجود التلاوة في الهدى في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، ومعلوم أن سجود التلاوة فرع من الفروع لا أصل من الأصول.

وأما الثاني: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في حديث جبريل الصحيح المشهور أن اسم "الدين" يتناول الإسلام، والإيمان، والإحسان، حيث قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" ، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [3/19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً} [3/85].

وصرح صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن الإسلام يشمل الأمور العملية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وفي حديث ابن عمر المتفق عليه، "بني الإسلام على خمس" الحديث، ولم يقل أحد إن الإسلام هو خصوص العقائد، دون الأمور العملية، فدل على أن الدين لا يختص بذلك في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} الآية، وهو ظاهر جداً، لأن خير ما يفسر به القرآن هو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم في نحو قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، فقد دلت النصوص على شمول حكمه للأمة، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية إلى غيرها مما تقدم من الآيات، وقد علمنا ذلك من استقراء القرآن العظيم حيث يعبر فيه دائماً بالصيغة الخاصة به صلى الله عليه وسلم، ثم يشير إلى أن المراد عموم حكم الخطاب للأمة، كقوله في أول سورة الطلاق: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [65/1]، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، فدل على دخول الكل حكماً تحت قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، وقال في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [66/1]، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ

(1/377)

________________________________________

تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [66/2]، فدل على عموم حكم الخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، ونظير ذلك أيضاً في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [33/1]، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [4/94]، فقوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} ، يدل على عموم الخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، وكقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [10/61]، ثم قال: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} الآية.

ومن أصرح الأدلة في ذلك آية الروم، وآية الأحزاب، أما آية الروم فقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [30/30]، ثم قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [30/31]، وهو حال من ضمير الفاعل المستتر، المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} الآية.

وتقرير المعنى: فأقم وجهك يا نبي الله، في حال كونكم منيبين، فلو لم تدخل الأمة حكماً في الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم لقال: منيباً إليه، بالإفراد، لإجماع أهل اللسان العربي على أن الحال الحقيقية أعني التي لم تكن سببية تلزم مطابقتها لصاحبها إفراداً وجمعاً وثنية، وتأنيثاً وتذكيراً، فلا يجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكين، ولا جاءت هند ضاحكات، وأما آية الأحزاب، فقوله تعالى في قصة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [33/37]، فإن هذا الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وقد صرح تعالى بشمول حكمته لجميع المؤمنين في قوله: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية، وأشار إلى هذا أيضاً في الأحزاب بقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [33/50]، لأن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية، لو كان حكمه خاصاً به صلى الله عليه وسلم لأغنى ذلك عن قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، كما هو ظاهر.

وقد ردت عائشة رضي الله عنها على من زعم أن تخيير الزوجة طلاق، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه فاخترنه، فلم يعده طلاقاً مع أن الخطاب في ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ} الآيتين [33/28].

وأخذ مالك رحمه الله بينونة الزوجة بالردة من قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [39/65]، وهو خطاب خاص به صلى الله عليه وسلم.

(1/378)

________________________________________

وحاصل تحرير المقام في مسألة "شرع من قبلنا" أن لها واسطة وطرفين، طرف يكون فيه شرعاً لنا إجماعاً، وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، ثم بين لنا في شرعنا أنه شرع لنا، كالقصاص، فإنه ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، وبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وطرف يكون فيه غير شرع لنا إجماعاً وهو أمران:

أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلاً أنه كان شرعاً لمن قبلنا، كالمتلقي من الإسرائيليات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديقهم، وتكذيبهم فيها، وما نهانا صلى الله عليه وسلم عن تصديقه لا يكون مشروعاً لنا إجماعاً.

والثاني: ما ثبت في شرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا كالآصار، والأغلال التي كانت على من قبلنا، لأن الله وضعها هنا، كما قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [7/157]، وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [2/286]، "أن الله قال: نعم قد فعلت" .

ومن تلك الآصار التي وضعها الله عنا، على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم ما وقع لعبدة العجل، حيث لم تقبل توبتهم إلا بتقديم أنفسهم للقتل، كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [2/54].

والواسطة هي محل الخلاف بين العلماء، وهي ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، ولمن يبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا، ولا غير مشروع لنا، وهو الذي قدمنا أن التحقيق كونه شرعاً لنا، وهو مذهب الجمهور، وقد رأيت أدلتهم عليه، وبه تعلم أن آية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، يلزمنا الأخذ بما تضمنته من الأحكام.

مع أن القرآن صرح بذلك في الجملة في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [17/33]، وفي حديث ابن مسعود المتفق عليه المتقدم التصريح بأن ما فيها من قتل النفس بالنفس مشروع لنا،

(1/379)

________________________________________

حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس" ، الحديث.

وإلى هذا أشار البخاري في صحيحه، حيث قال: باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، ثم ذكر حديث ابن مسعود المتقدم، وقال ابن حجر: والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث، ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب، فالحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام فهو أصل في القصاص في قتل العمد، ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" أخرجه الشيخان من حديث أنس، بناء على أن المراد بكتاب الله قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ، في هذه الآية التي نحن بصددها، وعلى بقية الأقوال فلا دليل في الحديث، ولم يزل العلماء يأخذون الأحكام من قصص الأمم الماضية، كما أوضحنا دليله.

فمن ذلك قول المالكية وغيرهم: إن القرينة الجازمة ربما قامت مقام البينة مستدلين على ذلك بجعل شاهد يوسف شق قميصه من دبر قرينة على صدقه، وكذب المرأة، في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ, وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ, فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} الآية [12/28،27،26]، فذكره تعالى لهذا مقرراً له يدل على جواز العمل به، ومن هنا أوجب مالك حد الخمر على من أستنكه فشم في فيه ريح الخمر، لأن ريحها في فيه قرينة على شربه إياها.

وأجاز العلماء للرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها فتزفها إليه ولائد، لا يثبت بقولهن أمر أن يجامعها من غير بينة على عينها أنها فلانة بنت فلان التي وقع عليها العقد اعتماداً على القرينة، وتنزيلاً لها منزلة البينة.

وكذلك الضيف ينزل بساحة قوم فيأتيه الصبي، أو الوليدة بطعام فيباح له أكله من غير بينة تشهد على إذن أهل الطعام له في الأكل، اعتماداً على القرينة.

وأخذا المالكية وغيرهم إبطال القرينة بقرينة أقوى منها من أن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب، جعلوا على قميصه دم سخلة، ليكون الدم على قميصه قرينة على صدقهم في أنه أكله الذئب، فأبطلها يعقوب بقرينة أقوى منها، وهي عدم شق

(1/380)

________________________________________

القميص فقال: سبحان الله متى كان الذئب حليماً كيساً يقتل يوسف، ولا يشق قميصه؟ كما بينه تعالى بقوله: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [12/18]، وأخذ المالكية ضمان الغرم من قوله تعالى في قصة يوسف وإخوته: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [12/72]، وأخذ بعض الشافعية ضمان لوجه المعروف بالكفالة من قوله تعالى في قصة يعقوب وبنيه: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [12/66].

وأخذ المالكية تلوم القاضي للخصوم ثلاثة أيام بعد انقضاء الآجال من قوله تعالى في قصة صالح: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [11/65].

وأخذوا وجوب الإعذار إلى الخصم الذي توجه إليه الحكم بـ "أبقيت لك حجة؟"، ونحو ذلك من قوله تعالى في قصة سليمان مع الهدهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [27/21]، وأخذ الحنابلة جواز طول مدة الإجارة من قوله تعالى في قصة موسى، وصهره شعيب أو غيره: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [28/27]، وأمثال هذا كثيرة جداً، وقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [5/48]، لا يخالف ما ذكرنا، لأن المراد به أن بعض الشرائع تنسخ فيها أحكام كانت مشروعة قبل ذلك، ويجدد فيها تشريع أحكام لم تكن مشروعة قبل ذلك.

وبهذا الاعتبار يكون لكل شرعة منهاج من غير مخالفة لما ذكرنا، وهذا ظاهر، فبهذا يتضح لك الجواب عن السؤال الأول، وتعلم أن ما تضمنته آية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، مشروع لهذه الأمة، وأن الرجل يقتل بالمرأة كالعكس على التحقيق الذي لا شك فيه، وكأن القائل بعدم القصاص بينهما يتشبث بمفهوم قوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [2/178]، وسترى تحقيق المقام فيه إن شاء الله قريباً.

والجواب عن السؤال الثاني -الذي هو لم لا يخصص عموم النفس بالنفس بالتفصيل المذكور في قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ؟ هو

(1/381)

________________________________________

ما تقرر في الأصول من أن مفهوم المخالفة إذا كان محتملاً لمعنى آخر غير مخالفته لحكم المنطوق يمنعه ذلك من الاعتبار.

قال صاحب "جمع الجوامع" في الكلام على مفهوم المخالفة: وشرطه ألا يكون المسكوت ترك لخوف ونحوه، إلى أن قال: أو غيره مما يقتضي التخصيص بالذكر، فإذا علمت ذلك، فاعلم أن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ، يدل على قتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، ولم يتعرض لقتل الأنثى بالذكر، أو العبد بالحر، ولا لعكسه بالمنطوق.

ومفهوم مخالفته هنا غير معتبر. لأن سبب نزول الآية، أن قبيلتين من العرب اقتتلتا، فقالت إحداهما: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان تطاولا منهم عليهم، وزعماً أن العبد منهم بمنزلة الحر من أولئك، وأن أنثاهم أيضاً بمنزلة الرجل من الآخرين تطاولاً عليهم، وإظهاراً لشرفهم عليهم، ذكر معنى هذا القرطبي، عن الشعبي، وقتادة.

وروى ابن أبي حاتم نحوه عن سعيد بن جبير، نقله عنه ابن كثير في تفسيره، والسيوطي في أسباب النزول، وذكر ابن كثير أنها نزلت في قريظة والنضير، لأنهم كان بينهم قتال، وبنو النضير يتطاولون على بني قريظة.

فالجميع متفق على أن سبب نزولها أن قوماً يتطاولون على قوم، ويقولون: إن العبد منا لا يساويه العبد منكم، وإنما يساويه الحر منكم، والمرأة منا لا تساويها المرأة منكم، وإنما يساويها الرجل منكم، فنزل القرآن مبيناً أنهم سواء، وليس المتطاول منهم على صاحبه بأشرف منه، ولهذا لم يعتبر مفهوم المخالفة هنا.

وأما قتل الحر بالعبد، فقد اختلف فيه، وجمهور العلماء على أنه لا يقتل حر بعبد، منهم مالك، وإسحاق، وأبو ثور، والشافعي، وأحمد.

وممن قال بهذا أبو بكر، وعمر، وعلي، وزيد، وابن الزبير رضي الله عنهم وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن، وعكرمة، وعمرو بن دينار، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وغيره.

وقال أبو حنيفة: يقتل الحر بالعبد: وهو مروي عن سعيد بن المسيب، والنخعي، وقتادة، والثوري، واحتج هؤلاء على قتل الحر بالعبد، بقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافؤ

(1/382)

________________________________________

دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" الحديث. أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والحاكم وصححه.

فعموم المؤمنين يدخل فيه العبيد، وكذلك عموم النفس في قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الأية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "والنفس بالنفس" في الحديث المتقدم، واستدلوا أيضاً بما رواه قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه" ، رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حسن غريب، وفي رواية لأبي داود، والنسائي: "ومن خصي عبده خصيناه" ، هذه هي أدلة من قال بقتل الحر بالعبد.

وأجيب عنها من جهة الجمهور بما ستراه الآن إن شاء الله تعالى، أما دخول قتل الحر بالعبد في عموم المؤمنين في حديث: "المؤمنون تتكافؤ دماؤهم" . وعموم النفس بالنفس في الآية. والحديث المذكورين، فاعلم أولاً أن دخول العبيد في عمومات نصوص الكتاب والسنة اختلف فيه علماء الأصول على ثلاثة أقوال:

الأول: وعليه أكثر العلماء: أن العبيد داخلون في عمومات النصوص، لأنهم من جملة المخاطبين بها.

الثاني: وذهب إليه بعض العلماء من المالكية، والشافعية، وغيرهم أنهم لا يدخلون فيها إلا بدليل منفصل، واستدل لهذا القول بكثرة عدم دخولهم، كعدم دخولهم في خطاب الجهاد، والحج، وكقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} الآية [2/228]، فالإماء لا يدخلن فيه.

الثالث: وذهب إليه الرازي من الحنفية أن النص العام إن كان من العبادات، فهم داخلون فيه، وإن كان من المعاملات لم يدخلوا فيه، وأشار في "مراقي السعود" إلى أن دخولهم في الخطاب العام هو الصحيح الذي يقتضيه الدليل بقوله: [الرجز]

والعبد والموجود والذي كفر ... مشمولة له لدى ذوي النظر

وينبني على الخلاف في دخولهم في عمومات النصوص، وجوب صلاة الجمعة على المملوكين، فعلى أنهم داخلون في العموم فهي واجبة عليهم، وعلى أنهم لا يدخلون فيه إلا بدليل منفصل، فهي غير واجبة عليهم، وكذلك إقرار العبد بالعقوبة ببدنه ينبني أيضاً على الخلاف المذكور، قاله صاحب "نشر البنود شرح مراقي السعود" في

(1/383)

________________________________________

شرح البيت المذكور آنفاً، فإذا علمت هذا، فاعلم أنه على القول بعدم دخول العبيد في عموم نصوص الكتاب والسنة، فلا إشكال.

وعلى القول بدخولهم فيه، فالجواب عن عدم إدخالهم في عموم النصوص التي ذكرناها يعلم من أدلة الجمهور الآتية إن شاء الله على عدم قتل الحر بالعبد، وأما حديث سمرة فيجاب عنه من أوجه:

الأول: أن أكثر العلماء بالحديث تركوا رواية الحسن عن سمرة، لأنه لم يسمع منه، وقال قوم: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة، وأثبت علي بن المديني، والبخاري سماعه عنه.

قال البيقهي في "السنن الكبرى" في كتاب "الجنايات" ما نصه: وأكثر أهل العلم بالحديث رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة، وذهب بعضهم إلى أنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة. وقال أيضاً في باب "النهي عن بيع الحيوان بالحيوان": إن أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة.

الثاني: أن الحسن كان يفتي بأن الحر لا يقتل بالعبد، ومخالفته لما روى تدل على ضعفه عنده، قال البيهقي أيضاً ما نصه: قال قتادة: ثم إن الحسن نسي هذا الحديث، قال: لا يقتل حر بعبد، قال الشيخ: يشبه أن يكون الحسن لم ينس الحديث، لكن رغب عنه لضعفه.

الثالث: ما ذكره صاحب "منتقى الأخبار" من أن أكثر العلماء قال بعدم قتل الحر بالعبد، وتأولوا الخبر على أنه أراد من كان عبده، لئلا يتوهم تقدم الملك مانعاً من القصاص.

الرابع: أنه معارض بالأدلة التي تمسك بها الجمهور في عدم قتل الحر بالعبد، وستأتي إن شاء الله تعالى مفصلة، وهي تدل على النهي عن قتل الحر بالعبد، والنهي مقدم على الأمر، كما تقرر في الأصول.

الخامس: ما ادعى ابن العربي دلالته على بطلان هذا القول من قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [17/33]، وولي العبد سيده، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية، ما نصه. قال ابن العربي:

(1/384)

________________________________________

ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه. ورووا في ذلك حديثاً عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه" وهو حديث ضعيف.

ودليلنا قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} ، والولي ها هنا: السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه، وقد اتفق الجميع على أن السيد إذا قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال اهـ.

وتعقب القرطبي تضعيف ابن العربي لحديث الحسن هذا عن سمرة، بأن البخاري، وابن المديني صححا سماعه منه، وقد علمت تضعيف الأكثر لرواية الحسن عن سمرة فيما تقدم. ويدل على ضعفه مخالفة الحسن نفسه له.

السادس: أن الحديث خارج مخرج التحذير، والمبالغة في الزجر.

السابع: ما قيل من أنه منسوخ.

قال الشوكاني: ويؤيد دعوى النسخ فتوى الحسن بخلافه.

الثامن: مفهوم قوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ولكنا قد قدمنا عدم اعتبار هذا المفهوم، كما يدل عليه سبب النزول.

واحتج القائلون بأن الحر لا يقتل بالعبد، وهم الجمهور بأدلة منها ما رواه الدارقطني، بإسناده عن إسماعيل بن عياش، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلاً قتل عبده متعمداً، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة، ومحا اسمه من المسلمين، ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة ورواية إسماعيل بن عياش، عن الشاميين: قوية صحيحة.

ومعلوم أن الأوزاعي شامي دمشقي، قال في "نيل الأوطار": ولكن دونه في إسناد هذا الحديث محمد بن عبد العزيز الشامي، قال فيه ابن أبي حاتم: لم يكن عندهم بالمحمود، وعنده غرائب.

وأسند البيهقي هذا الحديث، فقال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأ علي بن عمر الحافظ، ثنا الحسين بن الحسين الصابوني الأنطاكي، قاضي الثغور، ثنا محمد بن الحكم الرملي، ثنا محمد بن عبد العزيز الرملي، ثنا إسماعيل بن عياش عن

(1/385)

________________________________________

الأوزاعي إلى آخر السند المتقدم بلفظ المتن، ومحمد بن عبد العزيز الرملي من رجال البخاري، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق يهم، فتضعيف هذا الحديث به لا يخلو من نظر.

والظاهر أن تضعيف البيهقي له من جهة إسماعيل بن عياش، وقد عرفت أن الحق كونه قوياً في الشاميين، دون الحجازيين، كما صرح به أئمة الحديث كالإمام أحمد والبخاري، ولحديث عمرو بن شعيب هذا شاهد من حديث علي عند البيهقي وغيره من طريق إسماعيل بن عياش، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قتل عبده متعمداً فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة، ونفاه سنة، ومحا اسمه من المسلمين، ولم يقده به. ولكن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك.

ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ما رواه البيهقي، وغيره عن عمر بن الخطاب، أنه جاءته جارية اتهمها سيدها فأقعدها في النار فاحترق فرجها، فقال رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده" ، لأقدناها منك فبرزه، وضربه مائة سوط، وقال للجارية: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وأنت مولاة الله ورسوله.

قال أبو صالح، وقال الليث: وهذا القول معمول به. وفي إسناد هذا الحديث عمر بن عيسى القرشي الأسدي. ذكر البيهقي عن أبي أحمد أنه سمع ابن حماد يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث.

وقال فيه الشوكاني: هو منكر الحديث، كما قال البخاري: ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد، ما رواه الدارقطني، والبيهقي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل حر بعبد" قال البيهقي بعد أن ساق هذا الحديث: وفي هذا الإسناد ضعف، وإسناده المذكور فيه جويبر، وهو ضعيف جداً.

وقال الشوكاني في إسناد هذا الحديث: فيه جويبر وغيره من المتروكين، ومن أدلتهم على أن الحر لا يقتل بعبد ما رواه البيهقي وغيره من طريق جابر بن زيد الجعفي، عن علي رضي الله عنه أنه قال: من السنة ألا يقتل حر بعبد تفرد بهذا الحديث جابر المذكور، وقد ضعفه الأكثر، وقال فيه ابن حجر في التقريب: ضعيف

(1/386)

________________________________________

رافضي.

وقال فيه النسائي: متروك، ووثقه قوم منهم الثوري، وذكر البيهقي في السنن الكبرى في باب "النهي عن الإمامة جالساً" عن الدارقطني: أنه متروك.

ومن أدلتهم أيضاً ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان لزنباع عبد يسمى سندرا، أو ابن سندر، فوجده يقبل جارية له فأخذه فجبه، وجدع أذنيه وأنفه، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من مثل بعبده أو حرقه بالنار فهو حر، وهو مولى الله ورسوله" فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقده منه، فقال: يا رسول الله أوص بي، فقال: "أوصي بك كل مسلم" .

قال البيهقي بعد أن ساق هذا الحديث: المثنى بن الصباح ضعيف لا يحتج به، وقد روي عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو مختصراً، ولا يحتج به، وقد قدمنا في آية التيمم تضعيف حجاج بن أرطاة.

وروي عن سوار بن أبي حمزة، وليس بالقوي، والله أعلم، هكذا قال البيهقي.

قال مقيده عفا الله عنه: سوار بن أبي حمزة من رجال مسلم، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق له أوهام، ومن أدلتهم أيضاً ما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل مستصرخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: حادثة له يا رسول الله، فقال: "ويحك ما لك" ؟ فقال: شر، أبصر لسيده جارية فغار فجب مذاكيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل" ، فطلب فلم يقدر عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأنت حر" ، فقال: يا رسول الله على من نصرتي؟ قال: "على كل مؤمن" ، أو قال: "على كل مسلم" ، ومن أدلتهم، ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن أبي جعفر عن بكير أنه قال: مضت السنة بألا يقتل الحر المسلم بالعبد، وإن قتله عمداً، وعليه العقل.

ومن أدلتهم أيضاً ما أخرجه البيهقي أيضاً عن الحسن، وعطاء، والزهري وغيرهم من قولهم: "إنه لا يقتل حر بعبد" وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد وهذه الروايات الكثيرة، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال، فإن بعضها يشد بعضاً،

(1/387)

________________________________________

ويقويه حتى يصلح المجموع للاحتجاج.

قال الشوكاني في "نيل الأوطار" ما نصه: وثانياً بالأحاديث القاضية، بأنه لا يقتل حر بعبد، فإنها قد رويت من طرق متعددة يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج.

قال مقيده عفا الله عنه: وتعتضد هذه الأدلة على ألا يقتل حر بعبد بإطباقهم على عدم القصاص للعبد من الحر فيما دون النفس، فإذا لم يقتص له منه في الأطراف، فعدم القصاص في النفس من باب أولى ولم يخالف في أنه لا قصاص للعبد من الحر فيما دون النفس إلا داود، وابن أبي ليلى، وتعتضد أيضاً بإطباق الحجة من العلماء على أنه إن قتل خطأ ففيه القيمة، لا الدية.

وقيده جماعة بما إذا لم تزد قيمته عن دية الحر، وتعتضد أيضاً بأن شبه العبد بالمال أقوى من شبهه بالحر، من حيث إنه يجري فيه ما يجري في المال من بيع وشراء، وإرث وهدية، وصدقه إلى غير ذلك من أنواع التصرف، وبأنه لو قذفه حر ما وجب عليه الحد عند عامة العلماء، إلا ما روي عن ابن عمر والحسن، وأهل الظاهر من وجوبه في قذف أم الولد خاصة.

ويدل على عدم حد الحر بقذفه العبد ما رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "من قذف مملوكه -وهو بريء مما يقول- جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال" ، وهو يدل على عدم جلده في الدنيا، كما هو ظاهر.

هذا ملخص كلام العلماء في حكم قتل الحر بالعبد.

وأما قتل المسلم بالكافر فجمهور العلماء على منعه، منهم مالك، والشافعي، وأحمد، وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، ومعاوية رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وعطاء، وعكرمة، والحسن، والزهري، وابن شبرمة، والثوري والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وغيره، ورواه البيهقي عن عمر، وعلي، وعثمان وغيرهم.

وذهب أبو حنيفة، والنخعي، والشعبي إلى أن المسلم يقتل بالذمي، واستدلوا بعموم النفس بالنفس في الآية والحديث المتقدمين، وبالحديث الذي رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد،

(1/388)

________________________________________

وهو مرسل من رواية ضعيف، فابن البيلماني لا يحتج به لو وصل، فكيف وقد أرسل، وترجم البيهقي في "السنن الكبرى" لهذا الحديث بقوله باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر، وما جاء عن الصحابة في ذلك، وذكر طرقه، وبين ضعفها كلها.

ومن جملة ما قال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، قال: قال أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ ابن البيلماني: ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله، والله أعلم.

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية، ما نصه، ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلماً بكافر لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني، وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، قال الدارقطني: لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث.

والصواب عن ربيعة، عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف الحديث، لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله فإذا عرفت ضعف الاستدلال على قتل المسلم بالكافر، فاعلم أن كونه لا يقتل به ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه مبيناً بطلان تلك الأدلة التي لا يعول عليها.

فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب "كتابة العلم"، وفي باب "لا يقتل المسلم بالكافر" أن أبا جحيفة سأل علياً رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه، وما في هذه الصحيفة قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر.

فهذا نص صحيح قاطع للنزاع مخصص لعموم النفس بالنفس، مبين عدم صحة الأخبار المروية بخلافه، ولم يصح في الباب شيء يخالفه، قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ساق حديث علي هذا: ولا يصح حديث، ولا تأويل يخالف هذا، وقال القرطبي في تفسيره: قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية، وعموم قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [5/45]، فهذا الذي ذكرنا في هذا المبحث هو تحقيق المقام في حكم

(1/389)

________________________________________

القصاص في الأنفس بين الذكور والإناث، والأحرار والعبيد، والمسلمين والكفار.

وأما حكم القصاص بينهم في الأطراف، فجمهور العلماء على أنه تابع للقصاص في الأنفس، فكل شخصين يجري بينهما القصاص في النفس، فإنه يجري بينهما في الأطراف، فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم، والعبد بالعبد، والذمي بالذمي، والذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر، ويقطع الناقص بالكامل، كالعبد بالحر، والكافر بالمسلم.

ومشهور مذهب مالك أن الناقص لا يقتص منه للكامل في الجراح، فلا يقتص من عبد جرح حراً، ولا من كافر جرح مسلماً، وهو مراد خليل بن إسحاق المالكي بقوله في مختصره: والجرح كالنفس في الفعل، والفاعل والمفعول، إلا ناقصاً جرح كاملاً، يعني فلا يقتص منه له، ورواية ابن القصار عن مالك وجوب القصاص وفاقاً للأكثر، ومن لا يقتل بقتله، لا يقطع طرفه بطرفه، فلا يقطع مسلم بكافر، ولا حر بعبد، وممن قال بهذا مالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، وأبو ثور، وإسحاق، وابن المنذر، كما نقله عنهم صاحب المغني، وغيره.

وقال أبو حنيفة: لا قصاص في الأطراف بين مختلفي البدل، فلا يقطع الكامل بالناقص، ولا الناقص بالكامل، ولا الرجل بالمرأة، ولا المرأة بالرجل، ولا الحر بالعبد، ولا العبد بالحر.

ويقطع المسلم بالكافر، والكافر بالمسلم. لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، ولا الكاملة بالناقصة، فكذلك لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة، ولا يؤخذ طرفها بطرفه، كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى.

وأجيب من قبل الجمهور، بأن من يجري بينهما القصاص في النفس، يجرى في الطرف بينهما، كالحرين، وما ذكره المخالف يبطل بالقصاص في النفس، فإن التكافؤ فيه معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن، ثم يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة، لأن المماثلة قد وجدت، ومعها زيادة، فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق، كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع.

وأما اليسار واليمين، فيجريان مجرى النفس لاختلاف محليهما، ولهذا استوى بدلهما، فعلم أنها ليست ناقصة عنها شرعاً، وأن العلة فيهما ليست، كما ذكر المخالف، قاله ابن قدامة في المغني.

(1/390)

________________________________________

ومن الدليل على جريان القصاص في الأطراف، بين من جرى بينهم في الأنفس، قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [5/45].

وما روي عن الإمام أحمد من أنه لا قصاص بين العبيد، فيما دون النفس، وهو قول الشعبي، والثوري، والنخعي، وفاقاً لأبي حنيفة، معللين بأن أطراف العبيد مال كالبهائم يرد عليه بدليل الجمهور الذي ذكرنا آنفاً، وبأن أنفس العبيد مال أيضاً كالبهائم، مع تصريح الله تعالى بالقصاص فيها في قوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} .

واعلم أنه يشترط للقصاص فيما دون النفس ثلاثة شروط:

الأول: كونه عمداً، وهذا يشترط في قتل النفس بالنفس أيضاً.

الثاني: كونهما يجري بينهما القصاص في النفس.

الثالث: إمكان الاستيفاء من غير حيف، ولا زيادة، لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [16/126]، ويقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [2/194]، فإن لم يمكن استيفاؤه من غير زيادة سقط القصاص، ووجبت الدية، ولأجل هذا أجمع العلماء على أن ما يمكن استيفاؤه من غير حيف، ولا زيادة، فيه القصاص المذكور في الآية، في قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ، وكالجراح التي تكون في مفصل، كقطع اليد، والرجل من مفصليهما.

واختلفوا في قطع العضو من غير مفصل، بل من نفس العظم، فمنهم من أوجب فيه القصاص نظراً إلى أنه يمكن من غير زيادة، وممن قال بهذا مالك، فأوجب القصاص في قطع العظم من غير المفصل، إلا فيما يخشى منه الموت، كقطع الفخذ، ونحوها.

وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقاً، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وبه يقول عطاء، والشعبي، والحسن البصري، والزهري، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب سفيان الثوري، والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد، كما نقله عنهم ابن كثير، وغيره.

وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام، إلا في السن.

(1/391)

________________________________________

واستدل من قال بأنه لا قصاص في قطع العظم من غير المفصل، بما رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش، عن دهثم بن قران، عن نمران بن جارية، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي، أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر له بالدية. فقال: يا رسول الله أريد القصاص، فقال: "خذ الدية بارك الله لك فيها" ولم يقض له بالقصاص.

قال ابن عبد البر: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد، ودهثم بن قران العكلي ضعيف أعرابي ليس حديثه مما يحتج به، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضاً، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة، اهـ. من ابن كثير.

وقال ابن حجر في "التقريب" في دهثم المذكور: متروك، وفي نمران المذكور: مجهول، واختلاف العلماء في ذلك، إنما هو من اختلافهم في تحقيق مناط المسألة، فالذين يقولون بالقصاص: يقولون: إنه يمكن من غير حيف، والذين يقولون: بعدمه، يقولون: لا يمكن إلا بزيادة، أو نقص، وهم الأكثر.

ومن هنا منع العلماء القصاص، فيما يظن به الموت، كما بعد الموضحة من منقلة أطارت بعض عظام الرأس، أو مأمومة وصلت إلى أم الدماغ، أو دامغة خرقت خريطته، كالجائفة، وهي التي نفذت إلى الجوف، ونحو ذلك للخوف من الهلاك.

وأنكر الناس على ابن الزبير القصاص في المأمومة. وقالوا: ما سمعنا بأحد قاله قبله، واعلم أن العين الصحيحة لا تؤخذ بالعوراء، واليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، ونحو ذلك، كما هو ظاهر.

تنبيه:

إذا اقتص المجني عليه من الجاني، فيما دون النفس، فمات من القصاص، فلا شيء على الذي اقتص منه، عند مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة، والتابعين، وغيرهم.

وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص، وقال الشعبي، وعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، والحارث العكلي، وابن أبي ليلى، وحماد بن أبي سليمان، والزهري، والثوري، تجب الدية على عاقلة المقتص له.

(1/392)

________________________________________

وقال ابن مسعود، وإبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، وعثمان البتي، يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله، قاله ابن كثير.

والحق أن سراية القود غير مضمونة، لأن من قتله القود، قتله الحق، كما روي عن أبي بكر، وعمر، وغيرها، بخلاف سراية الجناية، فهي مضمونة، والفرق بينهما ظاهر جداً.

واعلم أنه لا تؤخذ عين، ولا أذن، ولا يد يسرى بيمنى، ولا عكس ذلك، لوجوب اتحاد المحل في القصاص، وحكي عن ابن سيرين، وشريك أنهما قالا بأن إحداهما تؤخذ بالأخرى، والأول قول أكثر أهل العلم.

واعلم أنه يجب تأخير القصاص في الجراح حتى تندمل جراحة المجني عليه، فإن اقتص منه قبل الاندمال، ثم زاد جرحه، فلا شيء له.

والدليل على ذلك، ما رواه الإمام أحمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقدني، فقال: "حتى تبرأ" ، ثم جاء إليه، فقال: أقدني، فأقاده، فقال: يا رسول الله عرجت، فقال: "قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك" ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح قبل أن يبرأ صاحبه، تفرد به أحمد، قاله ابن كثير.

وقال بعض العلماء بجواز تعجيل القصاص قبل البرء، وقد عرفت من حديث عمرو بن شعيب المذكور آنفاً، أن سراية الجناية بعد القصاص هدر، وقال أبو حنيفة، والشافعي: ليست هدراً، بل هي مضمونة، والحديث حجة عليهما، رحمهما الله تعالى، ووجهه ظاهر، لأنه استعجل ما لم يكن له استعجاله، فأبطل الشارع حقه.

وإذا عرفت مما ذكرنا تفصيل مفهوم قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية. فاعلم أن مفهوم قوله: {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} [5/32]، هو المذكور في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [5/33].

قال ابن كثير في تفسيره: المحاربة هي المخالفة والمضادة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض، يطلق على أنواع

(1/393)

________________________________________

من الشر، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [2/205].

فإذا علمت ذلك، فاعلم أن المحارب الذي يقطع الطريق، ويخيف السبيل، ذكر الله أن جزاءه واحدة من أربع خلال هي: أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، وظاهر هذه الآية الكريمة: أن الإمام مخير فيها، يفعل ما شاء منها بالمحارب، كما هو مدلول، أو لأنها تدل على التخيير.

ونظيره في القرآن قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [2/196]، وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [5/89]، وقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [5/95].

وكون الإمام مخيراً بينهما مطلقاً من غير تفصيل، هو مذهب مالك، وبه قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، كما نقله عنهم ابن جرير، وغيره، وهو رواية ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، ونقله القرطبي، عن أبي ثور، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، ومالك، وقال: وهو مروي عن ابن عباس.

ورجح المالكية هذا القول بأن اللفظ فيه مستقل غير محتاج إلى تقدير محذوف، لأن اللفظ إذا دار بين الاستقلال، والافتقار إلى تقدير محذوف، فالاستقلال مقدم، لأنه هو الأصل، إلا بدليل منفصل على لزوم تقدير المحذوف، وإلى هذا أشار في "مراقي السعود" بقوله:[الرجز]

كذاك ما قابل ذا اعتلال ... من التأصل والاستقلال

إلى قوله: [الرجز]

كذاك ترتيب لإيجاب العمل ... بما له الرجحان مما يحتمل

والرواية المشهورة عن ابن عباس، أن هذه الآية منزلة على أحوال، وفيها قيود مقدرة، وإيضاحه: أن المعنى أن يقتلوا إذا قتلوا، ولم يأخذوا المال، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا أحداً،

(1/394)

________________________________________

أو ينفوا من الأرض، إذا أخافوا السبيل، ولم يقتلوا أحداً، ولم يأخذوا مالاً، وبهذا قال الشافعي، وأحمد، وأبو مجلز، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والحسن، وقتادة، والسدي، وعطاء الخرساني، وغير واحد من السلف والأئمة.

قاله ابن كثير، ونقله القرطبي، وابن جرير، عن ابن عباس، وأبي مجلز، وعطاء الخراساني، وغيرهم.

ونقل القرطبي، عن أبي حنيفة، إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل، فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه، ولا يخفى أن الظاهر المتبادر من الآية، هو القول الأول. لأن الزيادة على ظاهر القرآن بقيود تحتاج إلى نص من كتاب، أو سنة، وتفسير الصحابي لهذا بذلك، ليس له حكم الرفع، لإمكان أن يكون عن اجتهاد منه، ولا نعلم أحداً روى في تفسير هذه الآية بالقيود المذكورة، خبراً مرفوعاً، إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره عن أنس:

حدثنا علي بن سهل قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين إلى أن قال. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال: "من سرق، وأخاف السبيل، فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل، واستحل الفرج الحرام، فاصلبه" ، وهذا الحديث لو كان ثابتاً لكان قاطعاً للنزاع، ولكن فيه ابن لهيعة، ومعلوم أنه خلط بعد احتراق كتبه، ولا يحتج به، وهذا الحديث ليس راويه عنه ابن المبارك، ولا ابن وهب. لأن روايتهما عنه أعدل من رواية غيرهما، وابن جرير نفسه يرى عدم صحة هذا الحديث الذي ساقه، لأنه قال في سوقه للحديث المذكور: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا به علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، إلى آخر الإسناد الذي قدمنا آنفاً، وذكرنا معه محل الغرض من المتن، ولكن هذا الحديث، وإن كان ضعيفاً، فإنه يقوي هذا القول الذي عليه أكثر أهل العلم، ونسبه ابن كثير للجمهور.

واعلم أن الصلب المذكور في قوله: {أَوْ يُصَلَّبُوا} ، اختلف فيه العلماء. فقيل: يصلب حياً، ويمنع من الشراب، والطعام، حتى يموت، وقيل: يصلب حياً، ثم يقتل برمح،

(1/395)

________________________________________

ونحوه، مصلوباً، وقيل: يقتل أولاً، ثم يصلب بعد القتل، وقيل: ينزل بعد ثلاثة أيام، وقيل: يترك حتى يسيل صديده، والظاهر أنه يصلب بعد القتل زمناً يحصل فيه اشتهار ذلك. لأن صلبه ردع لغيره.

وكذلك قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ، اختلف العلماء في المراد بالنفي فيه أيضاً، فقال بعضهم: معناه أن يطلبوا حتى يقدر عليهم، فيقام عليهم الحد، أو يهربوا من دار الإسلام، وهذا القول رواه ابن جرير، عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس.

وقال آخرون: هو أن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر، أو يخرجهم السلطان، أو نائبه، من عمالته بالكلية، وقال عطاء الخراساني، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان، إنهم ينفون، ولا يخرجون من أرض الإسلام.

وذهب جماعة إلى أن المراد بالنفي في الآية السجن، لأنه نفي من سعة الدنيا إلى ضيق السجن، فصار المسجون كأنه منفي من الأرض، إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض المسجونين في ذلك: [الطويل]

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ولا يخفى عدم ظهوره.

واختار ابن جرير، أن المراد بالنفي في هذه الآية، أن يخرج من بلده إلى بلد آخر، فيسجن فيه، وروي نحوه عن مالك أيضاً، وله اتجاه. لأن التغريب عن الأوطان نوع من العقوبة، كما يفعل بالزاني البكر، وهذا أقرب الأقوال، لظاهر الآية. لأنه من المعلوم إنه لا يراد نفيهم من جميع الأرض إلى السماء، فعلم أن المراد بالأرض أوطانهم التي تشق عليهم مفارقتها، والله تعالى أعلم.

مسائل من أحكام المحاربين:

المسألة الأولى: اعلم أن جمهور العلماء يثبتون حكم المحاربة في الأمصار

(1/396)

________________________________________

والطرق على السواء، لعموم قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} ، وممن قال بهذا الأوزاعي، والليث بن سعد، وهو مذهب الشافعي، ومالك، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه، حتى يدخله بيتاً، فيقتله ويأخذ ما معه، إن هذه محاربة، ودمه إلى السلطان، لا إلى ولي المقتول، فلا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل.

وقال القاضي ابن العربي المالكي: كنت أيام حكمي بين الناس، إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار، وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، وتوقف الإمام أحمد في ذلك، وظاهر كلام الخرقي أنه لا محاربة إلا في الطرق، فلا يكون محارباً في المصر. لأنه يلحقه الغوث.

وذهب كثير من الحنابلة إلى أنه يكون محارباً في المصر أيضاً، لعموم الدليل.

وقال أبو حنيفة: وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرق، وأما في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه، ويعينه.

قاله ابن كثير ولا يثبت لهم حكم المحاربة، إلا إذا كان عندهم سلاح.

ومن جملة السلاح: العصي، والحجارة عند الأكثر. لأنها تتلف بها الأنفس والأطراف كالسلاح، خلافاً لأبي حنيفة.

المسألة الثانية: إذا كان المال الذي أتلفه المحارب، أقل من نصاب السرقة الذي يجب فيه القطع، أو كانت النفس التي قتلها غير مكافئة له، كأن يقتل عبداً، أو كافراً، وهو حر مسلم، فهل يقطع في أقل من النصاب؟ ويقتل بغير الكفؤ أو لا؟

اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: لا يقطع إلا إذا أخذ ربع دينار، وبهذا قال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وقال مالك: يقطع ولو لم يأخذ نصاباً: لأنه يحكم عليه بحكم المحارب.

قال ابن العربي: وهو الصحيح. لأن الله تعالى، حدد على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ربع دينار سث لوجوب القطع في السرقة، ولم يحدد في قطع الحرابة شيئاً، ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية جزائهم على المحاربة عن حبة، ثم إن هذا قياس أصل على أصل،

(1/397)

________________________________________

وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى، وذلك عكس القياس، وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق، وهو يطلب خطف المال؟ فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال، فإن منع منه، أو صيح عليه حارب عليه، فهو محارب يحكم عليه بحكم المحاربين، اهـ كلام ابن العربي.

ويشهد لهذا القول، عدم اشتراط الإخراج من حرز فيما يأخذه المحارب في قطعه، وأما قتل المحارب بغير الكفؤ، فهو قول أكثر العلماء، وعن الشافعي، وأحمد فيه روايتان، والتحقيق عدم اشتراط المكافأة في قتل الحرابة. لأن القتل فيها ليس على مجرد القتل، وإنما هو على الفساد العام من إخافة السبيل، وسلب المال.

قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} ، فأمر بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع بين شيئين، وهما المحاربة، والسعي في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفاً من وضيع، ولا رفيعاً من دنيء، اهـ من القرطبي.

قال مقيده عفا الله عنه: ومما يدل على عدم اعتبار المكافأة في قتل الحرابة، إجماع العلماء على أن عفو ولي المقتول في الحرابة لغو لا أثر له، وعلى الحاكم قتل المحارب القاتل، فهو دليل على أنها ليست مسألة قصاص خالص، بل هناك تغليظ زائد من جهة المحاربة.

المسألة الثالثة: إذا حمل المحاربون على قافلة مثلاً، فقتل بعضهم بعض القافلة، وبعض المحاربين لم يباشر قتل أحد، فهل يقتل الجميع، أو لا يقتل إلا من باشر القتل، فيه خلاف، والتحقيق قتل الجميع، لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة، فلا يتمكن المباشر من فعله، إلا بقوة الآخر الذي هو ردء له ومعين على حرابته، ولو قتل بعضهم، وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم كلهم، وصلبهم كلهم. لأنهم شركاء في كل ذلك، وخالف في هذا الشافعي رحمه الله فقال: لا يجب الحد إلا على من ارتكب المعصية، ولا يتعلق بمن أعانه عليها كسائر الحدود، وإنما عليه التعزير.

المسألة الرابعة: إذا كان في المحاربين صبي، أو مجنون، أو أب المقطوع عليه،

(1/398)

________________________________________

فهل يسقط الحد عن كلهم؟ ويصير القتل للأولياء إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا نظراً إلى أن حكم الجميع واحد، فالشبهة في فعل واحد شبهة في الجميع، وهو قول أبي حنيفة، أو لا يسقط الحد عن غير المذكور من صبي، أو مجنون، أو أب، وهو قول أكثر العلماء، وهو الظاهر.

المسألة الخامسة: إذا تاب المحاربون بعد القدرة عليهم، فتوبتهم حينئذ لا تغير شيئاً من إقامة الحدود المذكورة عليهم، وأما إن جاءوا تائبين قبل القدرة عليهم، فليس للإمام عليهم حينئذ سبيل. لأنهم تسقط عنهم حدود الله، وتبقى عليهم حقوق الآدميين، فيقتص منهم في الأنفس والجراح، ويلزمهم غرم ما أتلفوه من الأموال، ولولي الدم حينئذ العفو إن شاء، ولصاحب المال إسقاطه عنهم.

وهذا قول أكثر العلماء مع الإجماع على سقوط حدود الله عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم، كما هو صريح قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية [5/34]، وإنما لزم أخذ ما بأيديهم من الأموال، وتضمينهم ما استهلكوا. لأن ذلك غصب، فلا يجوز لهم تملكه، وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب المحارب الذي جاء تائباً قبل القدرة عليه إلا بما وجد معه من المال، وأما ما استهلكه، فلا يطلب به، وذكر الطبري هذا عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه.

قال القرطبي: وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بحارثة بن بدر الغداني، فإنه كان محارباً، ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً، ونحوه ذكره ابن جرير.

قال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد، ولم يوجد له مال، هل يتبع ديناً بما أخذ، أو يسقط عنه، كما يسقط عن السارق؟ يعني عند مالك، والمسلم، والذمي في ذلك سواء ومعنى قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [5/32]، اختلف فيه العلماء، فروي عن ابن عباس أنه قال: معناها أن من قتل نبياً، أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياه، بأن شد عضده ونصره، فكأنما أحيا الناس جميعاً، نقله القرطبي، وابن جرير وغيرهما، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن.

(1/399)

________________________________________

وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: المعنى، أن من انتهك حرمة نفس واحدة بقتلها، فهو كمن قتل الناس جميعاً. لأن انتهاك حرمة الأنفس، سواء في الحرمة والإثم، ومن ترك قتل نفس واحدة واستحياها خوفاً من الله، فهو كمن أحيا الناس جميعاً، لاستواء الأنفس في ذلك.

وعن ابن عباس: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} ، أي عند المقتول إذ لا غرض له في حياة أحد بعد موته هو، ومن أحياها واستنقذها من هلكه، فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ، وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله: جزاءه جهنم، وغضب عليه ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً، ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه.

واختار هذا القول ابن جرير، وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفساً يلزمه من القصاص ما يلزم من قتل الناس جميعاً، قال: ومن أحياها، أي عفا عمن وجب له قتله، وقال الحسن أيضاً: هو العفو بعد المقدرة، وقيل: المعنى أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها وجب على الكل شكره، وقيل: كان هذا مختصاً ببني إسرائيل، وقيل: المعنى أن من استحل قتل واحد، فقد استحل الجميع، لأنه أنكر الشرع، ومن حرم دم مسلم، فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، ذكر هذه الأقوال القرطبي، وابن كثير، وابن جرير وغيرهم، واستظهر ابن كثير هذا القول الأخير، وعزاه لسعيد بن جبير.

وقال البخاري في "صحيحه" باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} ، قال ابن عباس: من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعاً.

وقال القرطبي: إحياؤه عبارة عن الترك، والإنقاذ من هلكة، وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع، إنما هو لله تعالى، وهذا الإحياء، كقول نمروذ لعنه الله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [2/258]، فسمى الترك إحياء.

وكذلك قال ابن جرير، قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية، اعلم أن هذه الآية اختلف في سبب نزولها، فقيل: نزلت في قوم من المشركين، وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب، وقيل: نزلت في الحرورية.

(1/400)

________________________________________

وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح، وغيرها، أنها نزلت في قوم "عرينة"، و "عكل"، الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا وسمنوا، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا اللقاح، فبلغه صلى الله عليه وسلم خبرهم، فأرسل في أثرهم سرية فجاءوا بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون، فلا يسقون حتى ماتوا.

وعلى هذا القول، فهي نازلة في قوم سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها، والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطاع الطريق من المسلمين، كما قاله جماعة من الفقهاء بدليل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية، فإنها ليست في الكافرين قطعاً. لأن الكافر تقبل توبته بعد القدرة عليه، كما تقبل قبلها إجماعاً لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [8/38]، وليست في المرتدين، لأن المرتد يقتل بردته وكفره، ولا يقطع لقوله صلى الله عليه وسلم عاطفاً على ما يوجب القتل: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" ، وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" ، فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين، فإن قيل: وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله؟ فالجواب: نعم.

والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ, فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [2/279،278].

تنبيه:

استشكل بعض العلماء تمثيله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، لأنه سمل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به.

واختلف في الجواب فقيل فيه ما حكاه الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم، وقال محمد بن سيرين: كان ذلك قبل نزول الحدود، وقال أبو الزناد: إن هذه الآية معاتبة له صلى الله عليه وسلم على ما فعل بهم، وبعد العتاب على ذلك لم يعد، قاله أبو داود.

والتحقيق في الجواب هو أنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك قصاصاً، وقد ثبت في صحيح

(1/401)

________________________________________

مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعينهم قصاصاً، لأنهم سملوا أعين رعاة اللقاح، وعقده البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله:[الرجز]

وبعدها أنتهبها الألى انتهوا ... لغاية الجهد وطيبة اجتووا

فخرجوا فشربوا ألبانها ... ونبذوا إذ سمنوا أمانها

فاقتص منهم النبي أن مثلوا ... بعبده ومقلتيه سملوا

واعترض على الناظم شارح النظم حماد لفظة: بعبده، لأن الثابت أنهم مثلوا بالرعاء، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الآية.

اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بإخلاص في ذلك لله تعالى، لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة.

وأصل الوسيلة: الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء، لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جداً كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [59/7]، وكقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [3/31]، وقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [24/54]، إلى غير ذلك من الآيات.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالوسيلة الحاجة، ولما سأله نافع الأزرق هل تعرف العرب ذلك؟ أنشد له بيت عنترة:[الكامل]

إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

قال: يعني لهم إليك حاجة، وعلى هذا القول الذي روي عن ابن عباس، فالمعنى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [5/35]، واطلبوا حاجتكم من الله، لأنه وحده هو الذي يقدر على إعطائها، ومما يبين معنى هذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [29/17] الآية، وقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [4/32]، وفي الحديث "إذا سألت فسأل الله" .

(1/402)

________________________________________

قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة، على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفسير ابن عباس داخل في هذا، لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.

وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال المدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه، أنه تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين وتلاعب بكتاب الله تعالى، واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرح به تعالى في قوله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [39/3]، وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [10/18]، فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضى الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية [4/123].

والظاهر أن الوسيلة في بيت عنترة معناها التقرب أيضاً إلى المحبوب، لأنه وسيلة لنيل المقصود منه، ولذا أنشد بيت عنترة المذكور ابن جرير، والقرطبي وغيرهما لهذا المعنى الذي ذكرنا وجمع الوسيلة: الوسائل، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل

وهذا الذي سرنا به الوسيلة هنا هو معناها أيضاً في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [17/57]، وليس المراد بالوسيلة أيضاً المنزلة التي في الجنة التي أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل له الله أن يعطيه إياها، نرجو الله أن يعطيه إياها، لأنها لا تنبغي إلا لعبد، وهو يرجو أن يكون هو.

قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} ، في هذا الآية الكريمة إجمال، لأن المشار إليه بقوله: {هَذَا} ، ومفسر الضمير في قوله: {فَخُذُوهُ} ، وقوله: {لَمْ تُؤْتَوْهُ} ، لم يصرح به في الآية ولكن الله أشار له هنا، وذكره في موضع آخر.

(1/403)

________________________________________

واعلم أولاً أن هذه الآية نزلت في اليهودي واليهودية الذين زنيا بعد الإحصان، وكان اليهود قد بدلوا حكم الرجم في التوراة، فتعمدوا تحريف كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم على أن الزاني المحصن الذي يعلمون أن حده في كتاب الله "التوراة" الرجم أنهم يجلدونه ويفضحونه بتسويد الوجه والإركاب على حمار، فلما زنى المذكوران قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم في شأن حدهما، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ذلك واجعلوه حجة بينكم وبين الله تعالى ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم فيهما بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بقوله: {هَذَا} ، وقوله: {فَخُذُوهُ} ، وقوله: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} ، هو الحكم المحرف الذي هو الجلد والتحميم كما بينا، وأشار إلى ذلك هنا بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} , يعني المحرف والمبدل الذي هو الجلد والتحميم فخذوه: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} ، بأن حكم بالحق الذي هو الرجم: {فَاحْذَرُوا} أن تقبلوه.

وذكر تعالى هذا أيضاً في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} [3/23]، يعني التوراة {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} ، يعني في شأن الزانيين المذكورين {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، آية عما في التوراة من حكم رجم الزاني المحصن، وقوله هنا: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، هو معنى قوله عنهم: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} ، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} الآية.

أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأحبار والرهبان استحفظوا كتاب الله يعني استودعوه، وطلب منهم حفظه، ولم يبين هنا هل امتثلوا الأمر في ذلك وحفظوه، أو لم يمتثلوا الأمر في ذلك وضيعوه؟ ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا الأمر، ولم يحفظوا ما استحفظوه، بل حرفوه وبدلوه عمداً كقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} الآية [4/46].

وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [6/91]، وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية [2/79]، وقوله جل وعلا: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ

(1/404)

________________________________________

بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية [3/78]، إلى غير ذلك من الآيات.

تنبيه:

إن قيل ما الفرق بين التوراة والقرآن، فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله وسلامه عليهم، والتوراة حرفت، وبدلت كما بيناه آنفاً، والقرآن محفوظ من التحريف والتبديل، لو حرف منه أحد حرفاً واحداً فأبدله بغيره، أو زاد فيه حرفاً أو نقص فيه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلاً عن كبارهم.

فالجواب أن الله استحفظهم التوراة، واستودعهم إياها، فخانوا الأمانة ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمداً والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة، كما أوضحه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [15/9]، وقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية [41/42]، إلى غير ذلك من الآيات و "الباء" في قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} [5/44]، متعلقة بالرهبان والأحبار، لأنهم إنما صاروا في تلك المرتبة بسبب ما استحفظوا من كتاب الله.

وقيل: متعلقة يـ {ثم يحكم} والمعنى متقارب.

قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة: هل هي في المسلمين، أو في الكفار، فروي عن الشعبي أنها في المسلمين، وروي عنه أنها في اليهود، وروي عن طاوس أيضاً أنها في المسلمين، وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر، وأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وروي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: ليس الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه ابن أبي حاتم، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، قاله ابن كثير.

قال بعض العلماء: والقرآن العظيم يدل على أنها في اليهود، لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، وأنهم يقولون: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} ، يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله: {فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} أي المحرف، بل أوتيتم حكم الله الحق: {فَاحْذَرُوا} ، فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه حق.

(1/405)

________________________________________

وقد قال تعالى بعدها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [5/45]، فدل على أن الكلام فيهم، وممن قال بأن الآية في أهل الكتاب، كما دل عليه ما ذكر البراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مجلز، وأبو رجاء العطاردي، وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري وغيرهم، وزاد الحسن، وهي علينا واجبة نقله عنهم ابن كثير، ونقل نحو قول الحسن عن إبراهيم النخعي.

وقال القرطبي في تفسيره: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} [5/47،45،44]، نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم وعلى هذا المعظم، فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل فيه إضمار، أي {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، رداً للقرآن وجحداً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد.

فالآية عامةً على هذا قال ابن مسعود، والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقداً ذلك ومستحلاً له.

فأما من فعل ذلك، وهو معتقد أنه مرتكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.

وقال ابن عباس في رواية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد، ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء.

منهما أن اليهود ذكروا قبل هذا في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُوا} ، [5/44] فعاد الضمير عليهم.

ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك. ألا ترى أن بعده {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} ، فهذا الضمير لليهود بإجماع. وأيضاً فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص، فإن قال قائل "من" إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها قيل له: "من" هنا بمعنى الذي، مع ما ذكرناه من الأدلة والتقرير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا من أحسن ما قيل في هذا.

(1/406)

________________________________________

ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات، أهي في بني إسرائيل، فقال: نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل، وقيل: الكافرون للمسلمين، والظالمون لليهود والفاسقون للنصارى، وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: لأنه ظاهر الآيات، وهو اختيار ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زائدة، وابن شبرمة والشعبي أيضاً. قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر.

وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر. وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري: ومذهب الخوارج أن من ارتشى، وحكم بحكم غير الله فهو كافر، وعزا هذا إلى الحسن والسدي، وقال الحسن أيضاً: أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً، انتهى كلام القرطبي.

قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، نازلة في المسلمين، لأنه تعالى قال قبلها مخاطباً لمسلمي. هذه الأمة {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ, وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} ، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلاً له، أو قاصداً به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها.

أما من حكم بغير حكم الله، وهو عالم أنه مرتكب ذنباً فاعل قبيحاً، وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين، وسياق القرآن ظاهر أيضاً في أن آية {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، في اليهود لأنه قال قبلها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضاً في أن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، في النصارى؛ لأنه قال قبلها: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .

واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منها

(1/407)

________________________________________

ربما أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، معارضةً للرسل وإبطالاً لأحكام الله فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} معتقداً أنه مرتكب حراماً فاعل قبيحاً فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة، وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، د قدمنا احتجاج أبي حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على قتل المسلم بالذمي، ونفس الآية فيها إشارة إلى أن الكافر لا يدخل في عموم الآية، كما ذهب إليه جمهور العلماء، وذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} الآية.

ومن المعلوم أن الكافر ليس من المتصدقين الذين تكون صدقتهم كفارة لهم، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، نبه على هذا إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" كما نقله ابن حجر في "فتح الباري"، وما ذكره إسماعيل القاضي من أن الآية تدل أيضاً على عدم دخول العبد، بناء على أنه لا يصح له التصدق بجرحه، لأن الحق لسيده غير مسلم، لأن من العلماء من يقول: إن الأمور المتعلقة ببدن العبد، كالقصاص له العفو فيها دون سيده، وعليه فلا مانع من تصدقه بجرحه، وعلى قول من قال: إن معنى {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ، أن التصدق بالجناية كفارة للجاني، لا للمجني عليه، فلا مانع أيضاً من الاستدلال المذكور بالآية، لأن الله لا يذكر عن الكافر أنه متصدق، لأن الكافر لا صدقة له لكفره، وما هو باطل لا فائدة فيه لا يذكره الله تعالى، في معرض التقرير والإثبات، مع أن هذا القول ضعيف في معنى الآية.

وجمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم على أن معناها فهو كفارة للمتصدق، وهو أظهر. لأن الضمير فيه عائد إلى مذكور، وذلك في المؤمن قطعاً دون الكافر، فالاستدلال بالآية ظاهر جداً.

تنبيه:

احتج بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يقتل اثنان بواحد، لأنهما لو قتلا به لخرج عن قوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ؛ لكونهما نفسين بنفس واحدة.

(1/408)

________________________________________

وممن قال بهذا متمسكاً بهذا الدليل ابن الزبير، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعبد الملك، وربيعة، وداود، وابن المنذر، وحكاه ابن أبي موسى، عن ابن عباس، وروي عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وابن سيرين، والزهري أنه يقتل منهم واحد، ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية. لأن كل واحد منهم مكافىء له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد، كما نقله عمن ذكرنا ابن قدامة في "المغني".

وقالوا مقتضى قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [2/178]، وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة، قالوا: ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع القصاص، بدليل عدم قتل الحر بالعبد، والتفاوت في العدد أولى.

وقال ابن المنذر: لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد، وعدم قتل الجماعة بالواحد رواية عن الإمام أحمد.

والرواية المشهورة عن الإمام أحمد. ومذهب الأئمة الثلاثة أنه يقتل الجماعة بالواحد، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قتل سبعة بواحد، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعاً، وروي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه، فإنه توقف عن قتال الحرورية حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب، كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال: الله أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب. فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه، نقله القرطبي عن الدارقطني في "سننه".

ويؤيد قتل الجماعة بالواحد، ما رواه الترمذي عن أبي سعيد، وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أهل السماء، وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار" . قال فيه الترمذي: حديث غريب نقله عنه القرطبي.

وروى البيهقي في "السنن الكبرى" نحوه عن ابن عباس مرفوعاً، وزاد "إلا أن يشاء"، وروى البيهقي أيضاً عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله عز وجل يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله" .

وروي عن المغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن،

(1/409)

________________________________________

وأبو سلمة، وعطاء، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، كما نقله عنهم ابن قدامة في "المغني" أن الجماعة تقتل بالواحد، ورواه البيهقي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما أيضاً، ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة، فصار إجماعاً سكوتياً، واعترضه بعضهم بأن ابن الزبير ثبت عنه عدم قتل الجماعة بالواحد، كما قاله ابن المنذر.

وإذن فالخلاف واقع بين الصحابة، والمقرر في الأصول أن الصحابة إذا اختلفوا، لم يجز العمل بأحد القولين إلا بترجيح.

قال مقيده، عفا الله عنه: ويترجح مذهب الجمهور الذي هو قتل الجماعة بالواحد، بأن الله تعالى قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [2/179]، يعني أن من علم أنه يقتل إذا قتل يكون ذلك رادعاً له وزاجراً عن القتل، ولو كان الاثنان لا يقتص منهما للواحد، لكان كل من أحب أن يقتل مسلماً، أخذ واحداً من أعوانه فقتله معه، فلم يكن هناك رادع عن القتل وبذلك تضيع حكمة القصاص من أصلها، مع أن المتمالئين على القتل يصدق على كل واحد منهم أنه قاتل فيقتل، ويدل له أن الجماعة لو قذفوا واحداً لوجب حد القذف على جميعهم، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} ، لم يبين هنا شيئاً مما أنزل في الإنجيل الذي أمر أهل الإنجيل بالحكم به، وبين في مواضع أخر أن من ذلك البشارة بمبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعه. والإيمان به كقوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [61/6]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الآية [7/157]، إلى غير ذلك من الآيات.

لطيفة لها مناسبة بهذه الآية الكريمة: ذكر بعض العلماء أن نصرانياً قال لعالم من علماء المسلمين: ناظرني في الإسلام والمسيحية أيهما أفضل؟ فقال العالم للنصراني: هلم إلى المناظرة في ذلك، فقال النصراني: المتفق عليه أحق بالاتباع أم المختلف فيه؟ فقال العالم: المتفق عليه أحق بالاتباع من المختلف فيه. فقال النصراني: إذن يلزمكم اتباع عيسى معنا، وترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لأننا نحن وأنتم نتفق على نبوة عيسى، ونخالفكم في نبوة محمد عليهما الصلاة والسلام، فقال المسلم: أنتم الذين تمتنعون من

(1/410)

________________________________________

اتباع المتفق عليه، لأن المتفق عليه الذي هو عيسى قال لكم: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ، فلو كنتم متبعين عيسى حقاً لاتبعتم محمداً صلى الله عليه وسلم، فظهر أنكم أنتم الذين لم تتبعوا المتفق عليه ولا غيره، فانقطع النصراني.

ولا شك أن النصارى لو كانوا متبعين عيسى، لاتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، قد قدمنا أن هذه الآية في النصارى، والتي قبلها في اليهود، والتي قبل تلك في المسلمين، كما يقتضيه ظاهر القرآن.

وقد قدمنا أن الكفر، والظلم، والفسق كلها يطلق على المعصية بما دون الكفر، وعلى الكفر المخرج من الملة نفسه. فمن الكفر بمعنى المعصية. قوله صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة عن سبب كون النساء أكثر أهل النار: "إن ذلك واقع بسبب كفرهن" ثم فسره بأنهن يكفرن العشير، ومن الكفر بمعنى المخرج عن الملة، قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ, لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الآية [109/2،1]. ومن الظلم بمعنى الكفر قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2/254]، وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [10/106]، وقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [31/13]، ومنه بمعنى المعصية قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [35/32]، ومن الفسق بمعنى الكفر قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الآية [32/20]، ومنه بمعنى المعصية قوله في الذين قذفوا عائشة، رضي الله عنها: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [24/4].

ومعلوم أن القذف ليس بمخرج عن الملة، ويدل له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [24/11]، ومن الفسق بمعنى المعصية أيضاً، قوله في الوليد بن عقبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [49/6].

وقد قدمنا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فمن كان امتناعه من الحكم بما أنزل الله، لقصد معارضته ورده، والامتناع من التزامه، فهو كافر ظالم فاسق كلها بمعناها المخرج من الملة، ومن كان امتناعه من الحكم لهوى، وهو يعتقد قبح فعله، فكفره وظلمه وفسقه غير المخرج من الملة، إلا إذا كان ما امتنع من الحكم به

(1/411)

________________________________________

شرطاً في صحة إيمانه، كالامتناع من اعتقاد ما لا بد من اعتقاده، هذا هو الظاهر في الآيات المذكورة، كما قدمنا والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [5/51]، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ولكنه بين في مواضع أخر أن ولاية بعضهم لبعض زائفة ليست خالصة، لأنها لا تستند على أساس صحيح، هو دين الإسلام، فبين أن العداوة والبغضاء بين النصارى دائمة إلى يوم القيامة، بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [5/14]، وبين مثل ذلك في اليهود أيضاً، حيث قال فيهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [5/64]، والظاهر أنها في اليهود فيما بينهم، كما هو صريح السياق، خلافاً لمن قال: إنها بين اليهود، والنصارى.

وصرح تعالى بعدم اتفاق اليهود معللاً له بعدم عقولهم في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [59/14].

تنبيه:

أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ، أن اليهودي، والنصراني، يتوارثان، ورده بعض العلماء، بأن المراد بالآية، ولاية اليهود لخصوص اليهود، والنصارى لخصوص النصارى، وعلى هذا المعنى فلا دليل في الآية لتوارث اليهود والنصارى.

قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ، ذكر في هذه الآية الكريمة، أن من تولى اليهود، والنصارى، من المسلمين، فإنه يكون منهم بتوليه إياهم, وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله، والخلود في عذابه، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم، وهو قوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ, وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [5/81،80].

(1/412)

________________________________________

ونهى في موضع آخر عن توليهم مبيناً سبب التنفير منه. وهو قوله:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [60/13].

وبين في موضع آخر: أن محل ذلك، فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف، وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [3/28]، فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً وإيضاح، لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة:

ومن يأتي الأمور على اضطرار ... فليس كمثل آتيها اختيارا

ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم.

قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ, وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} .

ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، يعتذرون عن موالاة الكفار من اليهود بأنهم يخشون أن تدور عليهم الدوائر، أي دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم، كما قال الشاعر: [الوافر]

إذا ما الدهر جر على أناس ... كلا كله أناخ بآخرينا

يعنون إما بقحط فلا يميروننا، ولا يتفضلوا علينا، وإما بظفر الكفار بالمسلمين، فلا يدوم الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، زعماً منهم أنهم عند تقلب الدهر بنحو ما ذكر. يكون لهم أصدقاء كانوا محافظين على صداقتهم، فينالون منهم ما يؤمل الصديق من صديقه، وأن المسلمين يتعجبون من كذبهم في إقسامهم بالله جهد أيمانهم، إنهم لمع المسلمين: وبين في هذه الآية: أن تلك الدوائر التي حافظوا من أجلها على صداقة

(1/413)

________________________________________

اليهود، أنها لا تدور إلا على اليهود، والكفار، ولا تدور على المسلمين، بقوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} الآية، وعسى من الله نافذة، لأنه الكريم العظيم الذي لا يطمع إلا فيما يعطي.

والفتح المذكور قيل: هو فتح المسلمين لبلاد المشركين، وقيل: الفتح الحكم، كقوله {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [7/89]، وعليه فهو حكم الله بقتل مقاتلة بني قريظة، وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير، وقيل: هو فتح مكة، وهو راجع إلى الأول.

وبين تعالى في موضع آخر أن سبب حلفهم بالكذب للمسلمين، أنهم منهم، إنما هو الفرق أي الخوف، وأنهم لو وجدوا محلاً يستترون فيه عن المسلمين لسارعوا إليه، لشدة بغضهم للمسلمين، وهو قوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ, لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [9/57،56]، ففي هذه الآية بيان سبب أيمان المنافقين، ونظيرها قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [58/16].

وبين تعالى في موضع آخر، أنهم يحلفون تلك الأيمان ليرضى عنهم المؤمنون، وأنهم إن رضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عنهم، وهو قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [9/96].

وبين في موضع آخر: أنهم يريدون بأيمانهم إرضاء المؤمنين، وإن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وهو قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [9/62].

وبين في موضع آخر أنهم يحلفون لهم ليرضوا عنهم، بسبب أن لهم عذراً صحيحاً، وأن الله أمرهم بالإعراض عنهم، لا لأن لهم عذراً صحيحاً، بل مع الإعلام بأنهم رجس، ومأواهم النار بسبب ما كسبوا من النفاق، وهو قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [9/95].

وبين في موضع آخر: أن أيمانهم الكاذبة سبب لإهلاكهم أنفسهم وهو قوله:

(1/414)

________________________________________

{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية [9/42].

وهذه الأسباب لحلف المنافقين التي ذكرت في هذه الآيات راجعة جميعاً إلى السبب الأول، الذي هو الخوف. لأن خوفهم من المؤمنين هو سبب رغبتهم في إرضائهم، وإعراضهم عنهم بأن لا يؤذوهم، ولذا حلفوا لهم، ليرضوهم، وليعرضوا عنهم، خوفاً من أذاهم، كما هو ظاهر.

تنبيه:

قوله في هذه الآية الكريمة: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا} [5/53]، فيه ثلاث قراءات سبعيات.

الأولى: يقول بلا واو مع الرفع، وبها قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر.

الثانية: ويقول بإثبات الواو مع رفع الفعل أيضاً، وبها قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي.

الثالثة: بإثبات الواو، ونصب يقول عطفاً على "أن يأتى بالفتح" وبها قرأ أبو عمرو.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية.

أخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضاً عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فأمره بلين الجانب للمؤمنين، بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [15/88]، وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [26/215]، وأمره بالقسوة على غيرهم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [9/73]، وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية [3/159]، وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين، والشدة على الكافرين، من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ

(1/415)

________________________________________

مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [48/29].

وقد قال الشاعر في رسول الله صلى الله عليه وسلم:[الطويل]

وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد

وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحد المشرفي المهند

وقال الآخر فيه:[الطويل]

وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمد

ويفهم من هذه الآيات أن المؤمن يجب عليه أن لا يلين إلا في الوقت المناسب للين، وألا يشتد إلا في الوقت المناسب للشدة، لأن اللين في محل الشدة ضعف، وخور، والشدة في محل اللين حمق، وخرق، وقد قال أبو الطيب المتنبي:[الطويل]

إذا قيل حلم قل فللحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب لو أطاعوا الله، وأقاموا كتابهم باتباعه، والعمل بما فيه، ليسر الله لهم الأرزاق وأرسل عليهم المطر، وأخرج لهم ثمرات الأرض.

وبين في مواضع أخر أن ذلك ليس خاصاً بهم، كقوله عن نوح وقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً, يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً, وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [71/11]، وقوله عن هود وقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الآية [11/52]، وقوله عن نبينا عليه الصلاة والسلام وقومه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [11/3]، وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [16/97]. على أحد الأقوال وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [7/96]، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [65/3،2]، وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [20/132]، ومفهوم الآية أن معصية الله تعالى، سبب لنقيض ما

(1/416)

________________________________________

يستجلب بطاعته، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآية [30/41]، ونحوها من الآيات.

قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة، أن أهل الكتاب قسمان:

طائفة منهم مقتصدة في عملها، وكثير منهم سيىء العمل، وقسم هذه الأمة إلى ثلاثة أقسام في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [35/33]، ووعد الجميع بالجنة بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [35/33].

وذكر القسم الرابع: وهو الكفار منها بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} الآية [35/36].

وأظهر الأقوال في المقتصد، والسابق، والظالم، أن المقتصد هو من امتثل الأمر، واجتنب النهي، ولم يزد على ذلك، وأن السابق بالخيرات هو من فعل ذلك، وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورع عن بعض الجائزات، خوفاً من أن يكون سبباً لغيره، وأن الظالم هو المذكور في قوله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية [9/102]، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية.

أمر تعالى في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل إليه، وشهد له بالامتثال في آيات متعددة كقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [5/3]، وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [24/54]، وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [51/54]، ولو كان يمكن أن يكتم شيئاً، لكتم قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [33/37]، فمن زعم أنه صلى الله عليه وسلم، كتم حرفاً مما أنزل عليه، فقد أعظم الافتراء، على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} الآية.

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن بني إسرائيل عموا وصموا مرتين، تتخللهما

(1/417)

________________________________________

توبة من الله عليهم، وبين تفصيل ذلك في قومه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} الآية [17/4]، فبين جزاء عماهم، وصممهم في المرة الأولى بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} الآية [17/5]، وبين جزاء عماهم، وصممهم في المرة الآخرة بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} ، وبين التوبة التي بينهما بقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} ، ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} ، فعادوا إلى الإفساد بتكذبيه صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته التي في التوراة، فعاد الله إلى الانتقام منهم، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم فذبح مقاتلة بني قريظة، وسبى نساءهم، وذراريهم وأجلى بني قينقاع، وبني النضير. كما ذكر تعالى طرفاً من ذلك في سورة الحشر، وهذا البيان الذي ذكرنا في هذه الآية ذكره بعض المفسرين، وكثير منهم لم يذكره، ولكن ظاهر القرآن يقتضيه، لأن السياق في ذكر أفعالهم القبيحة الماضية من قتل الرسل وتكذبيهم، إذ قبل الآية المذكورة: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [5/70].

ومعنى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [5/71]، ظنوا ألا يصيبهم بلاء وعذاب من الله، بسبب كفرهم، وقتلهم الأنبياء، لزعمهم الباطل، أنهم أبناء الله، وأحباؤه، وقوله: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} ، أحسن، أوجه الإعراب فيه. أنه بدل من واو الفاعل في قوله: {عَمُوا وَصَمُّوا} ، كقولك: جاء القوم أكثرهم، وقوله: {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، قرأه حمزة، والكسائي، وأبو عمرو بالرفع، والباقون بالنصب، فوجه قراءة النصب ظاهر، لأن الحسبان بمعنى الظن، ووجه قراءة الرفع، تنزيل اعتقادهم لذلك -ولو كان باطلاً- منزلة العلم. فتكون أن مخففة من الثقيلة، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

أشار في هذه الآية، إلى أن الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [5/73]، لو تابوا إليه من ذل، لتاب عليهم، وغفر لهم، لأنه استعطفهم إلى ذلك أحسن استعطاف، وألطفه، بقوله: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} ، ثم أشار إلى أنهم إن فعلوا ذلك غفر لهم بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وصرح بهذا المعنى عاماً لجميع الكفار بقوله:

(1/418)

________________________________________

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [8/38].

قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن عيسى وأمه كانا يأكلان الطعام، وذكر في مواضع أخر، أن جميع الرسل كانوا كذلك. كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية [25/20]، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية [21/8]، وقوله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} الآية [25/7]، وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، معنى قوله: [5/75]، {يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن الحق، والمراد بصرفهم عنه، قول بعضهم: إن الله هو المسيح بن مريم، وقول بعضهم: إن الله ثالث ثلاثة، وقول بعضهم: عزير بن الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وعلى من يقول ذلك لعائن الله إلى يوم القيامة، فإنهم يقولون هذا الأمر الذي لم يقل أحد أشنع منه ولا أعظم، مع ظهور أدلة التوحيد المبينة له، ولذا قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، على سبيل التعجب من أمرهم، كيف يؤفكون إلى هذا الكفر مع وضوح أدلة التوحيد؟!.

قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآية، قال بعض العلماء: الذين لعنوا على لسان داود الذين اعتدوا في السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى ابن مريم، هم الذين كفروا من أهل المائدة، وعليه فلعن الأولين مسخهم قردة، كما بينه تعالى بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [2/65]، وقوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [7/166]، ولعن الآخرين هو المذكور في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [5/115]، وذكر غير واحد أنه مسخهم خنازير، وهذا القول مروي عن الحسن، وقتادة، ومجاهد، والباقر نقله الألوسي في تفسيره، وقال: واختاره غير واحد، ونقله القرطبي عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وأبي مالك، وذكر أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال بعض من قال بهذا القول: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، قال داود عليه الصلاة والسلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين ، فمسخهم الله قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا، قال عيسى عليه الصلاة والسلام:

(1/419)

________________________________________

اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير.

وأن هذا معنى لعنهم على لسان داود، وعيسى ابن مريم، وفي الآية أقوال غير هذا تركنا التعرض لها، لأنها ليست مما نحن بصدده.

قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، قد قدمنا في سورة البقرة أن المراد بما عقدتم الأيمان، هو ما قصدتم عقد اليمين فيه، لا ما جرى على ألسنتكم من غير قصد نحو "لا والله" و "بلى والله"، ومنه قول الفرزدق: [الطويل]

ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم

وهذا العقد معنوي، ومنه قول الخطيئة:

قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

وقرأه حمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم: {عَقَّدْتُمُ} [5/89]، بالتخفيف بلا ألف. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر "عاقدتم" بألف بوزن فاعل، وقرأه الباقون بالتشديد من غير ألف، والتضعيف والمفاعلة: معناهما مجرد الفعل بدليل قراءة: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} بلا ألف، ولا تضعيف، والقراءات يبين بعضها بعضاً، و {مَا} في قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} مصدرية على التحقيق لا موصولة، كما قاله بعضهم زاعماً أن ضمير الرابط محذوف.

وفي المراد: {بِاللَّغْوِ} في الآية أقوال أشهرها عند العلماء اثنان:

الأول: أن اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد، كقوله "لا والله" و "بلى والله".

وذهب إلى هذا القول الشافعي، وعائشة في إحدى الروايتين عنها، وروي عن ابن عمر، وابن عباس في أحد قوليه، والشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعروة بن الزبير، وأبي صالح، والضحاك في أحد قوليه، وأبي قلابة، والزهري، كما نقله عنهم ابن كثير، وغيره.

القول الثاني: أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده، فيظهر نفيه: وهذا هو

(1/420)

________________________________________

مذهب مالك بن أنس، وقال: إنه أحسن ما سمع في معنى اللغو، وهو مروي أيضاً عن عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس في أحد قوليه، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد في أحد قوليه، وإبراهيم النخعي في أحد قوليه، والحسن، وزرارة بن أوفى، وأبي مالك، وعطاء الخراساني، وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسدي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن سعيد، وربيعة، كما نقله عنهم ابن كثير.

والقولان متقاربان، واللغو يشملهما. لأنه في الأول لم يقصد عقد اليمين أصلاً، وفي الثاني لم يقصد إلا الحق والصواب، وغير هذين القولين من الأقوال تركته لضعفه في نظري، واللغو في اللغة: هو الكلام بما لا خير فيه، ولا حاجة إليه، ومنه حديث: "إذا قلت لصاحبك، والإمام يخطب يوم الجمعة انصت، فقد لغوت أو لغيت" .

وقول العجاج:[الرجز]

ورب أسراب حجيح كظم ... عن اللغا ورفث التكلم

مسائل من أحكام الأيمان:

المسألة الأولى: اعلم أن الأيمان أربعة أقسام: اثنان فيهما الكفارة بلا خلاف، واثنان مختلف فيهما.

قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفارة فيهما. خرج الدارقطني في سننه، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا خلف بن هشام، حدثنا عبثر عن ليث، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: الأيمان أربعة، يمينان يكفران، ويمينان لا يكفران فاليمينان اللذان يكفران، فالرجل الذي يحلف: والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول: والله لأفعلن كذا وكذا، فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يكفران، فالرجل يحلف: والله ما فعلت كذا وكذا، وقد فعل، والرجل يحلف: لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. قال ابن عبد البر: وذكر سفيان الثوري في "جامعه"، وذكره المروزي عنه أيضاً:

قال سفيان: الأيمان أربعة، يمينان يكفران، وهو أن يقول الرجل: والله لا

(1/421)

________________________________________

أفعل ثم يفعل، أو يقول: والله لأفعلن ثم لا يفعل, ويمينان لا يكفران، وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت، وقد فعل أو يقول والله لقد فعلت وما فعل.

قال المروزي: أما اليمينان الأوليان، فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان. وأما اليمينان الأخريان، فقد اختلف أهل العلم فيهما فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه فعل كذا وكذا عند نفسه صادقاً يرى أنه على ما حلف عليه، فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي.

وكذلك قال أحمد وأبو عبيد. وقال الشافعي: لا إثم عليه، وعليه الكفارة.

قال المروزي: وليس قول الشافعي في هذا بالقوي، قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا، وقد فعل، متعمداً للكذب فهو آثم، ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء. مالك، وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور، وأبي عبيد.

وكان الشافعي يقول: يكفر. قال: وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي، قال المروزي: أميل إلى قول مالك وأحمد، اهـ محل الغرض من القرطبي بلفظه، وهو حاصل تحرير المقام في حلف الإنسان "لأفعلن" أو "لا أفعل".

وأما حلفه على وقوع أمر غير فعله، أو عدم وقوعه، كأن يقول: والله لقد وقع في الوجود كذا، أو لم يقع في الوجود كذا، فإن حلف على ماض أنه واقع، وهو يعلم عدم وقوعه متعمداً الكذب فهي يمين غموس، وإن كان يعتقد وقوعه فظهر نفيه فهي من يمين اللغو كما قدمنا، وإن كان شاكاً فهو كالغموس، وجعله بعضهم من الغموس.

وإن حلف على مستقبل لا يدري أيقع أم لا؟ فهو كذلك أيضاً يدخل في يمين الغموس، وأكثر العلماء على أن يمين الغموس لا تكفر لأنها أعظم إثماً من أن تكفرها كفارة اليمين.

وقد قدمنا قول الشافعي بالكفارة فيها، وفيها عند المالكية تفصيل، وهو وجوب الكفارة في غير المتعلقة بالزمن الماضي منها، واعلم أن اليمين منقسمة أيضاً إلى يمين منعقدة على بر، ويمين منعقدة على حنث، فالمنعقدة بر، هي التي لا يلزم حالفها تحليل اليمين كقوله والله لا أفعل كذا، والمنعقدة على حنث، هي التي يلزم صاحبها حل اليمين بفعل ما حلف عليه، أو بالكفارة كقوله والله لأفعلن كذا، ولا يحكم بحنثه

(1/422)

________________________________________

في المنعقدة على حنث حتى يفوت إمكان فعل ما حلف عليه، إلا إذا كانت موقتة بوقت فيحنث بفواته، ولكن إن كانت بطلاق كقوله على طلاقها لأفعلن كذا فإنه يمنع من وطئها حتى يفعل ما حلف عليه، لأنه لا يدري أيبر في يمينه أم يحنث؟ ولا يجوز الإقدام على فرج مشكوك فيه عند جماعة من العلماء منهم مالك وأصحابه.

وقال بعض العلماء: لا يمنع من الوطء، لأنها زوجته، والطلاق لم يقع بالفعل، وممن قال به أحمد.

المسألة الثانية: اعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله وصفاته، فلا يجوز القسم بمخلوق لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت" ، ولا تنعقد يمين بمخلوق كائناً من كان، كما أنها لا تجوز بإجماع من يعتد به من أهل العلم، وبالنص الصحيح الصريح في منع الحلف بغير الله، فقول بعض أهل العلم بانعقاد اليمين به صلى الله عليه وسلم لتوقف إسلام المرء على الإيمان به ظاهر البطلان، والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: يخرج من عهدة اليمين بواحد من ثلاثة أشياء:

الأول: إبرارها بفعل ما حلف عليه.

الثاني: الكفارة، وهي جائزة قبل الحنث وبعده على التحقيق.

الثالث: الاستثناء بنحو إن شاء الله، والتحقيق أنه حل لليمين لا بدل من الكفارة، كما زعمه ابن الماجشون، ويشترط فيه قصد التلفظ به، والاتصال باليمين، فلا يقبل الفصل بغير ضروري كالسعال، والعطاس، وما ذهب إليه ابن عباس وغيره من جواز تراخي الاستثناء.

فالتحقيق فيه أن المراد به أن العبد يلزمه إذا قال "لأفعلن كذا" أن يقول: إن شاء الله، كما صرح به تعالى في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً, إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [18/24،23]، فإن نسي الاستثناء بإن شاء، وتذكره ولو بعد فصل، فإنه يقول: إن شاء الله. ليخرج بذلك من عهدة عدم تفويض الأمور إلى الله وتعليقها بمشيئته، لا من حيث إنه يحل اليمين التي مضت وانعقدت.

(1/423)

________________________________________

ويدل لهذا أنه تعالى قال لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [38/44]، ولو كان تدارك الاستثناء ممكناً لقال له قل: إن شاء الله، ويدل له أيضاً أنه ولو كان كذلك لما علم انعقاد يمين لإمكان أن يلحقها الاستثناء المتأخر، واعلم أن الاستثناء بإن شاء الله يفيد في الحلف بالله إجماعاً.

واختلف العلماء في غيره كالحلف بالطلاق والظهار والعتق، كأن يقول: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، أو أنت حرة إن شاء الله، فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يفيد في شيء من ذلك، لأن هذه ليست أيماناً، وإنما هي تعليقات للعتق والظهار والطلاق. والاستثناء بالمشيئة إنما ورد به الشرع في اليمين دون التعليق، وهذا مذهب مالك وأصحابه، وبه قال الحسن، والأوزاعي، وقتادة، ورجحه ابن العربي وغيره.

وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يفيد في ذلك كله، وبه قال الشافعي. وأبو حنيفة، وطاوس، وحماد، وأبو ثور، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وفرق قوم بين الظهار وبين العتق والطلاق، لأن الظهار فيه كفارة فهو يمين تنحل بالاستثناء، كاليمين بالله والنذر، ونقله ابن قدامة في المغني عن أبي موسى، وجزم هو به.

المسألة الرابعة: لو فعل المحلوف عن فعله ناسياً، ففيه للعلماء ثلاثة مذاهب:

الأول: لا حنث عليه مطلقاً، لأنه معذور بالنسيان، والله تعالى يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [33/5]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ، وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، فإن العلماء تلقوه بالقبول قديماً وحديثاً، ويشهد له ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [2/286]، "قال الله نعم" ومن حديث ابن عباس: "قال الله قد فعلت" وكون من فعل ناسياً لا يحنث هو قول عطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي نجيح، وإسحاق، ورواية عن أحمد، كما قاله صاحب المغني، ووجه هذا القول ظاهر للأدلة التي ذكرنا، وذهب قوم إلى أنه يحنث مطلقاً، وهو مشهور مذهب مالك، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد والزهري وقتادة، وربيعة وأبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، كما نقله عنهم صاحب

(1/424)

________________________________________

المغني، ووجه هذا القول عند القائل به أنه فعل ما حلف لا يفعله عمداً، فلما كان عامداً للفعل الذي هو سبب الحنث لم يعذر بنسيانه اليمين، ولا يخفى عدم ظهوره.

الثالث: وذهب قوم إلى الفرق بين الطلاق والعتق وبين غيرهما، فلا يعذر بالنسيان في الطلاق والعتق، ويعذر به في غيرهما، وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد، كما قاله صاحب المغني قال: واختاره الخلال، وصاحبه، وهو قول أبي عبيد.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول الأخير له وجه من النظر، لأن في الطلاق والعتق حقاً لله وحقاً للآدمي، والحالف يمكن أن يكون متعمداً في نفس الأمر، ويدعي النسيان لأن العمد من القصود الكامنة التي لا تظهر حقيقتها للناس، فلو عذر بادعاء النسيان لأمكن تأدية ذلك إلى ضياع حقوق الآدميين، والعلم عند الله تعالى.

المسألة الخامسة: إذا حلف لا يفعل أمراً من المعروف كالإصلاح بين الناس ونحوه، فليس له الامتناع من ذلك، والتعلل باليمين بل عليه أن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} الآية [2/224]، أي لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر، وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، ونظير الآية قوله تعالى في حلف أبي بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح، لما قال في عائشة رضي الله عنها ما قال: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [24/22].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه" ، متفق عليه من حديث أبي هريرة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إني والله، إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" ، متفق عليه أيضاً من حديث أبي موسى.

وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" ، متفق عليه أيضاً، والأحاديث في الباب كثيرة. وهذا هو الحق في المسألة خلافاً لمن قال:

(1/425)

________________________________________

كفارتها تركها متمسكاً بأحاديث وردت في ذلك، قال أبو داود: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها: "فليكفر عن يمينه" ، وهي الصحاح، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، لم يقيد هنا {رَقَبَةٍ} كفارة اليمين بالإيمان، وقيد به كفارة القتل خطأ.

وهذه من مسائل المطلق والمقيد في حالة اتفاق الحكم، مع اختلاف السبب، وكثير من العلماء يقولون فيه بحمل المطلق على المقيد فتقيد رقبة اليمين والظهار بالقيد الذي في رقبة القتل خطأ، حملاً للمطلق على المقيد، وخالف في ذلك أبو حنيفة ومن وافقه.

وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب" في سورة النساء عند قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [4/92]، ولذلك لم نطل الكلام بها هنا، والمراد بالتحرير الإخراج من الرق، وربما استعملته العرب في الإخراج من الأسر والمشقات، وتعب الدنيا ونحو ذلك، ومنه قول والدة مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [3/35]، أي من تعب أعمال الدنيا، ومنه قول الفرزدق همام بن غالب التميمي:[الكامل]

أبني غدانة إني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال

يعني حررتكم من الهجاء، فلا أهجوكم.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} الآية.

يفهم من هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين، لأن الله تعالى قال: إنها {رِجْسٌ} ، والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس.

وقيل: إن أصله من الركس، وهو العذرة والنتن. قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنة {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [76/21]؛ لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه، أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [37/47]، وكقوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [56/19]، بخلاف خمر الدنيا ففيها غول يغتال العقول

(1/426)

________________________________________

وأهلها يصدعون. أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها، وقوله: " لاَ يٌنْزَفُونَ" على قراءة فتح الزاي مبنياً للمفعول، فمعناه: أنهم لا يسكرون، والنزيف السكران، ومنه قول حميد بن ثور:

نزيف ترى ردع العبير بجيبها ... كما ضرج الضاري النزيف المكلما

يعني أنها في ثقل حركتها كالسكران، وأن حمرة العبير الذي هو الطيب في جيبها كحمرة الدم على الطريد الذي ضرجه الجوارح بدمه: فأصابه نزيف الدم من جرح الجوارح له، ومنه أيضاً قول امرىء القيس:[المتقارب]

وإذ هي تمشي كمشي النزيف ... يصرعه بالكثيب البهر

وقوله أيضاً: [الطويل]

نزيف إذا قامت لوجه تمايلت ... تراشى الفؤاد الرخص ألا تخترا

وقول ابن أبي ربيعة أو جميل: [الكامل]

فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وعلى قراءة: {يَنْزِفُونَ} بكسر الزاي مبنياً للفاعل، ففيه وجهان من التفسير للعلماء:

أحدهما: أنه من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر. ونظيره قولهم: أحصد الزرع إذا حان حصاده وأقطف العنب إذا حان قطافه، وهذا القول معناه راجع إلى الأول.

والثاني: أنه من أنزف القوم إذا فنيت خمورهم، ومنه قول الخطيئة:

لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتموا ... لبئس الندامى أنتم آل أبجرا

وجماهير العلماء على أن الخمر نجسة العين لما ذكرنا، وخالف في ذلك ربيعة والليث، والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين، كما نقله عنهم القرطبي في تفسيره.

واستدلوا لطهارة عينها بأن المذكورات معها في الآية من مال ميسر، ومال قمار وأنصاب وأزلام ليست نجسة العين، وإن كانت محرمة الاستعمال.

(1/427)

________________________________________

وأجيب من جهة الجمهور بأن قوله: {رِجْسٌ} ، يقتضي نجاسة العين في الكل، فما أخرجه إجماع، أو نص خرج بذلك، وما لم يخرجه نص ولا إجماع، لزم الحكم بنجاسته، لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصص من المخصصات، لا يسقط الاحتجاج به في الباقي، كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود: [الرجز]

وهو حجة لدى الأكثر إن ... مخصص له معيناً يبن

وعلى هذا، فالمسكر الذي عمت البلوي اليوم بالتطيب به المعروف في اللسان الدارجي بالكولانيا نجس لا تجوز الصلاة به، ويؤيده أن قوله تعالى في المسكر: {فَاجْتَنِبُوهُ} ، يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المسكر، وما معه في الآية بوجه من الوجوه، كما قاله القرطبي وغيره.

قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى على منصف أن التضمخ بالطيب المذكور والتلذذ بريحه واستطابته. واستحسانه مع أنه مسكر، والله يصرح في كتابة بأن الخمر رجس فيه ما فيه، فليس للمسلم أن يتطيب بما يسمع ربه يقول فيه: إنه {رِجْسٌ} ، كما هو واضح، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الخمر فلو كانت فيها منفعة أخرى لبينها، كما بين جواز الانتفاع بجلود الميتة، ولما أراقها.

واعلم أن ما استدل به سعيد بن الحداد، القروي على طهارة عين الخمر بأن الصحابة أراقوها في طرق المدينة، ولو كانت نجسة، لما فعلوا ذلك ولنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما نهاهم عن التخلي في الطرق، لا دليل له فيه، فإنها لا تعم الطرق، بل يمكن التحرز منها، لأن المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر كثيرة جداً بحيث تكون نهراً أو سيلاً في الطرق يعمها كلها، وإنما أريقت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها، قاله القرطبي، وهو ظاهر.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، هذه الآية الكريمة يفهم من دليل خطابها أي مفهوم مخالفتها أنهم إن حلوا من إحرامهم، جاز لهم قتل الصيد، وهذا المفهوم مصرح به في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [5/2]، يعني إن شئتم كما تقدم إيضاحه في أول هذه السورة الكريمة.

قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} ، الآية.

(1/428)

________________________________________

ذهب جمهور العلماء إلى أن معنى هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} لقتله ذاكراً لاحرامه، وخالف مجاهد -رحمه الله- الجمهور قائلاً: إن معنى الآية: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} لقتله في حال كونه ناسياً لإحرامه، واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [5/95]، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون فيها قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول, وإذا عرفت ذلك فاعلم أن في الآية قرينة واضحة دالة على عدم صحة قول مجاهد رحمه الله، وهي قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ، فإنه يدل على أنه متعمداً أمراً لا يجوز، أما الناسي فهو غير آثم إجماعاً، فلا يناسب أن يقال فيه: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [5/95]، كما ترى، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} الآية.

ظاهر عموم هذه الآية الكريمة يشمل إباحة صيد البحر للمحرم بحج أو عمرة، وهو كذلك، كما بينه تخصيصه تعالى تحريم الصيد على المحرم بصيد البر في قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [5/96]، فإنه يفهم منه أن صيد البحر لا يحرم على المحرم، كما هو ظاهر.

مسائل تتعلق بالاصطياد في الإحرام أو في الحرم:

المسألة الأولى: اجمع العلماء على منع صيد البر للمحرم بحج أو عمرة.

وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشي كالظبي والغزال ونحو ذلك، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، أنه كان مع قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حلال وهم محرمون، ورسول الله صلىالله عليه وسلم  محرم أمامهم، فأبصروا حماراً وحشياً وأبو قتادة مشغول يخصف نعله فلم يؤذنوه، وأحبوا لو أنه أبصره فأبصره فأسرج فرسه. ثم ركب ونسي سوطه ورمحه فقال لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: والله لا نعينك عليه، فغضب فنزل

(1/429)

________________________________________

فأخذهما فركب فشد على الحمار فعقره ثم جاء به، وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فأدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه فقررهم على أكله، وناوله أبو قتادة عضد الحمار الوحشي، فأكل منها صلى الله عليه وسلم، ولمسلم: "هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء" ، قالوا: لا، قال: "فكلوه" .

وللبخاري: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها: قالوا: لا، قال: "فكلوا ما بقى من لحمها" ، وقد أجمع جميع العلماء على أن ما صاده محرم لا يجوز أكله للمحرم الذي صاده، ولا لمحرم غيره، ولا لحلال غير محرم لأنه ميتة.

واختلف العلماء في أكل المحرم مما صاده حلال على ثلاثة أقوال، قيل: لا يجوز له الأكل مطلقاً، وقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: بالتفصيل بين ما صاده لأجله، وما صاده لا لأجله فيمنع الأول دون الثاني.

واحتج أهل القوم الأول بحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه أنه أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أبو بودان فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرام" متفق عليه، ولأحمد ومسلم لحم حمار وحشي.

واحتجوا أيضاً بحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له عضو من لحم صيد فرده، وقال: "إنا لا نأكله إنا حرم" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.

واحتجوا أيضاً بعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ، ويروى هذا القول عن علي وابن عباس وابن عمر، والليث والثوري وإسحاق وعائشة وغيرهم.

واحتج من قال: بجواز أكل المحرم ما صاده الحلال مطلقاً بعموم الأحاديث الواردة بجواز أكل المحرم من صيد الحلال، كحديث طلحة بن عبيد الله عند مسلم، والإمام أحمد أنه كان في قوم محرمين فأهدي لهم طير، وطلحة راقد، فمنهم من أكل ومنهم من تورع فلم يأكل فلما استيقظ طلحة رضي الله عنه وفق من أكله وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليهوسلم .

وكحديث البهزي واسمه زيد بن كعب، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حمار وحشي عقير

(1/430)

________________________________________

في بعض وادي الروحاء وهو صاحبه شأنكم بهذا الحمار، فأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون، أخرجه الإمامان مالك في موطئه وأحمد في مسنده، والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، كما قاله ابن حجر، وممن قال بإباحته مطلقاً أبو حنيفة وأصحابه.

قال مقيده، عفا الله عنه: أظهر الأقوال وأقواها دليلاً، هو القول المفصل بين ما صيد لأجل المحرم، فلا يحل له، وبين ما صاده الحلال، لا لأجل المحرم، فإنه يحل له.

والدليل على هذا أمران:

الأول: أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا طريق للجمع إلا هذه الطريق, ومن عدل عنها لا بد أن يلغي نصوصاً صحيحة.

الثاني: أن جابراً رضي الله عنه، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم ما لم تصيدوه، أو يصد لكم" ، رواه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والدارقطني.

وقال الشافعي: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس، فإن قيل في إسناد هذا الحديث، عمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن مولاه المطلب، عن جابر، وعمرو مختلف فيه، قال فيه النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك.

وقال الترمذي في مولاه المطلب أيضاً: لا يعرف له سماع من جابر، وقال فيه الترمذي أيضاً في موضع آخر قال محمد: لا أعرف له سماعاً من أحد من الصحابة، إلا قوله حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالجواب أن هذا كله ليس فيه ما يقتضي رد هذا الحديث، لأن عمراً المذكور ثقة، وهو من رجال البخاري ومسلم، وممن روى عنه مالك بن أنس، وكل ذلك يدل على أنه ثقة، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": ثقة ربما وهم، وقال فيه النووي في "شرح المهذب": أما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت، لأن البخاري، ومسلماً رويا له في صحيحيهما، واحتجا به، وهما القدوة في هذا الباب.

(1/431)

________________________________________

وقد احتج به مالك، وروى عنه وهو القدوة، وقد عرف من عادته أنه لا يروي في كتابه إلا عن ثقة، وقال أحمد بن حنبل فيه: ليس به بأس، وقال أبو زرعة: هو ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به.

وقال ابن عدي: لا بأس به، لأن مالكاً روى عنه، ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة، قلت: وقد عرف أن الجرح لا يثبت إلا مفسراً، ولم يفسره ابن معين، والنسائي بما يثبت تضعيف عمرو المذكور، وقول الترمذي: إن مولاه المطلب بن عبد الله بن حنطب، لا يعرف له سماع من جابر، وقول البخاري للترمذي: لا أعرف له سماعاً من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس في شيء من ذلك ما يقتضي رد روايته، لما قدمنا في سورة النساء من أن التحقيق هو الاكتفاء بالمعاصرة.

ولا يلزم ثبوت اللقي، وأحرى ثبوت السماع، كما أوضحه الإمام مسلم بن الحجاج -رحمه الله تعالى- في مقدمة صحيحه، بما لا مزيد عليه مع أن البخاري ذكر في كلامه هذا الذي نقله عنه الترمذي، أن المطلب مولى عمرو بن أبي عمرو المذكور، صرح بالتحديث ممن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو تصريح بالسماع من بعض الصحابة بلا شك.

وقال النووي في "شرح المهذب": وأما إدراك المطلب لجابر. فقال ابن أبي حاتم، وروى عن جابر قال: ويشبه أن يكون أدركه، هذا هو كلام ابن أبي حاتم، فحصل شك في إدراكه، ومذهب مسلم بن الحجاج الذي ادعى في مقدمة صحيحه الإجماع فيه أنه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء، بل يكتفي بإمكانه، والإمكان حاصل قطعاً، ومذهب علي بن المديني، والبخاري، والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء، فعلى مذهب مسلم الحديث متصل، وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلاً لبعض كبار التابعين، وقد سبق أن مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة. أو قول أكثر العلماء، أو غير ذلك مما سبق.

وقد اعتضد هذا الحديث، فقال به من الصحابة رضي الله عنهم، من سنذكره في فرع مذاهب العلماء اهـ، كلام النووي، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور على كل التقديرات، على مذاهب الأئمة الأربعة. لأن الشافعي منهم هو الذي لا يحتج

(1/432)

________________________________________

بالمرسل، وقد عرفت احتجاجه بهذا الحديث على تقدير إرساله.

قال مقيده عفا الله عنه: نعم يشترط في قبول رواية "المدلس" التصريح بالسماع والمطلب المذكور مدلس، لكن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة وأحمد -رحمهم الله تعالى- صحة الاحتجاج بالمرسل، ولا سيما إذا اعتضد بغيره كما هنا، وقد علمت من كلام النووي موافقة الشافعية.

واحتج من قال بأن المرسل حجة بأن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بنسبة الحديث لمن فوقها، إلا وهو جازم بالعدالة والثقة فيمن حذفه، حتى قال بعض المالكية: إن المرسل مقدم على المسند. لأنه ما حذف الواسطة في المرسل إلا وهو متكفل بالعدالة والثقة فيما حذف بخلاف المسند، فإنه يحيل الناظر عليه، ولا يتكفل له بالعدالة والثقة، وإلى هذا أشار في "مراقي السعود" بقوله في مبحث المرسل: [الرجز]

وهو حجة ولكن رجحا ... عليه مسند وعكس صححا

ومن المعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند مالك وأبي حنيفة وأحمد مع أن هذا الحديث له شاهد عند الخطيب وابن عدي من رواية عثمان بن خالد المخزومي، عن مالك عن نافع عن ابن عمر، كما نقله ابن حجر في التلخيص وغيره وهو يقويه.

وإن كان عثمان المذكور ضعيفاً لأن الضعيف يقوي المرسل، كما عرف في علوم الحديث، فالظاهر أن حديث جابر هذا صالح، وأنه نص في محل النزاع، وهو جمع بين هذه الأدلة بعين الجمع الذي ذكرنا أولاً، فاتضح بهذا أن الأحاديث الدالة على منع أكل المحرم مما صاده الحلال كلها محمولة على أنه صاده من أجله، وأن الأحاديث الدالة على إباحة الأكل منه محمولة على أنه لم يصده من أجله، ولو صاده لأجل محرم معين حرم على جميع المحرمين خلافاً لمن قال: لا يحرم إلا على ذلك المحرم المعين الذي صيد من أجله.

ويروى هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "أو يصد لكم" ويدل للأول ظاهر قوله في حديث أبي قتادة: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار لها؟" قالوا: لا، قال: "فكلوه" فمهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم كلهم، ويدل له أيضاً ما رواه أبو داود عن علي أنه دعي وهو محرم إلى

(1/433)

________________________________________

طعام عليه صيد فقال: أطعموه حلالاً فإنا حرم، وهذا مشهور مذهب مالك عند أصحابه مع اختلاف قوله في ذلك.

المسألة الثانية: لا تجوز زكاة المحرم للصيد بأن يذبحه مثلاً، فإن ذبحه فهو ميتة لا يحل أكله لأحد كائناً من كان إذ لا فرق بين قتله بالعقر وقتله بالذبح، لعموم قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [5/95]، وبهذا قال مالك وأصحابه كما نقله عنهم القرطبي وغيره، وبه قال الحسن، والقاسم وسالم، والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه، وقال الحكم والثوري وأبو ثور: لا بأس بأكله، قال ابن المنذر: هو بمنزلة ذبيحة السارق.

وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني يأكله الحلال، وهو أحد قولي الشافعي، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وغيره.

واحتج أهل هذا القول بأن من أباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال، والظاهر هو ما تقدم من أن ذبح المحرم لا يحل الصيد، ولا يعتبر ذكاة له، لأن قتل الصيد حرام عليه، ولأن ذكاته لا تحل له هو أكله إجماعاً، وإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح، فأولى وأحرى ألا يفيد لغيره، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه، فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله، قاله القرطبي، وهو ظاهر.

المسألة الثالثة: الحيوان البري ثلاثة أقسام: قسم هو صيد إجماعاً، وهو ما كالغزال من كل وحشي حلال الأكل، فيمنع قتله للمحرم، وإن قتله فعليه الجزاء. وقسم ليس بصيد إجماعاً، ولا بأس بقتله، وقسم اختلف فيه.

أما القسم الذي لا بأس بقتله، وليس بصيد إجماعاً فهو الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور.

وأما للقسم المختلف فيه: فكالأسد، والنمر، والفهد والذئب، وقد روى الشيخان في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل، والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور.

(1/434)

________________________________________

وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح" ثم عد الخمس المذكورة آنفاً، ولا شك أن الحية أولى بالقتل من العقرب.

وقد أخرج مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر محرماً بقتل حية بمنى، وعن ابن عمرو سئل: ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم؟ فقال: حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحدأة، والغراب، والحية رواه مسلم أيضاً.

والأحاديث في الباب كثيرة، والجاري على الأصول تقييد الغراب بالأبقع، وهو الذي فيه بياض، لما روى مسلم من حديث عائشة في عد الفواسق الخمس المذكورة، والغراب الأبقع. والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، وما أجاب به بعض العلماء من أن روايات الغراب بالإطلاق متفق عليها، فهي أصح من رواية القيد بالأبقع لا ينهض، إذ لا تعارض بين مقيد ومطلق، لأن القيد بيان للمراد من المطلق.

ولا عبرة بقول عطاء، ومجاهد، بمنع قتل الغراب للمحرم، لأنه خلاف النص الصريح الصحيح، وقول عامة أهل العلم، ولا عبرة أيضاً بقول إبراهيم النخعي: إن في قتل الفأرة جزاء لمخالفته أيضاً للنص، وقول عامة العلماء، كما لا عبرة أيضاً بقول الحكم، وحماد، لا يقتل المحرم العقرب، ولا الحية ، ولا شك أن السباع العادية كالأسد، والنمر، والفهد، أولى بالقتل من الكلب، لأنها أقوى منه عقراً، وأشد منه فتكاً.

واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالكلب العقور، فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة بإسناد حسن، أنه الأسد، قاله ابن حجر، وعن زيد بن أسلم أنه قال: وأي كلب أعقر من الحية.

وقال زفر: المراد به هنا الذئب خاصة، وقال مالك في الموطأ: كل ما عقر الناس، وعدا عليهم، وأخافهم، مثل الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، فهو عقور، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور.

وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا هو الكلب المتعارف خاصة. ولا يحلق به في هذا الحكم سوى الذئب، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ

(1/435)

________________________________________

مُكَلِّبِينَ} [5/4]، فاشتقها من اسم الكلب، وبقوله صلى الله عليه وسلم، في ولد أبي لهب: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فقتله الأسد" رواه الحاكم وغيره بإسناد حسن.

قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن السباع العادية ليست من الصيد، فيجوز قتلها للمحرم، وغيره في الحرم وغيره. لما تقرر في الأصول من أن العلة تعمم معلولها، لأن قوله: "العقور" علة لقتل الكلب فيعلم منه أن كل حيوان طبعه العقر كذلك.

ولذا لم يختلف العلماء في أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة المتفق عليه: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" أن هذه العلة التي هي في ظاهر الحديث الغضب تعمم معلولها فيمتنع الحكم للقاضي بكل مشوش للفكر، مانع من استيفاء النظر في المسائل كائناً ما كان غضباً أو غيره كجوع وعطش مفرطين، وحزن وسرور مفرطين، وحقن وحقب مفرطين، ونحو ذلك، وإلى هذا أشار في "مراقي السعود" بقوله في مبحث العلة: [الرجز]

وقد تخصص وقد تعمم ... لأصلها لكنها لا تخرم

ويدل لهذا ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال: "الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور والحدأة والسبع العادي" وهذا الحديث حسنه الترمذي.

وضعف ابن كثير رواية يزيد بن أبي زياد، وقال فيه ابن حجر في التلخيص فيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف. وفيه لفظة منكرة وهي قوله: "ويرمي الغراب ولا يقتله" ، وقال النووي في شرح المهذب: إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتل الغراب كتأكيد قتل الحية وغيرها.

قال مقيده عفا الله عنه: تضعيف هذا الحديث، ومنع الاحتجاج به متعقب من وجهين:

الأول: أنه على شرط مسلم، لأن يزيد بن أبي زياد من رجال صحيحه وأخرج له البخاري تعليقاً، ومنع الاحتجاج بحديث على شرط مسلم لا يخلو من نظر، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه. أن من أخرج حديثهم في غير الشواهد والمتابعات أقل أحوالهم قبول الرواية فيزيد بن أبي زياد عند مسلم مقبول الرواية، وإليه الإشارة بقول

(1/436)

________________________________________

العراقي في ألفيته:[الرجز]

فاحتاج أن ينزل في الإسناد ... إلى يزيد بن أبي زياد

الوجه الثاني: أنا لو فرضنا ضعف هذا الحديث فإنه يقويه ما ثبت من الأحاديث المتفق عليها من جواز قتل الكلب العقور في الإحرام وفي الحرم والسبع العادي، إما أن يدخل في المراد به، أو يلحق به إلحاقاً صحيحاً لامراء فيه، وما ذكره الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-من أن الكلب العقور يلحق به الذئب فقط، لأنه أشبه به من غيره لا يظهر، لأنه لا شك في أن فتك الأسد والنمر مثلاً أشد من عقر الكلب والذئب، وليس من الواضح أن يباح قتل ضعيف الضرر، ويمنع قتل قويه، لأن فيه علة الحكم وزيادة، وهذا النوع من الإلحاق من دلالة اللفظ عند أكثر أهل الأصول، لا من القياس، خلافاً للشافعي وقوم، كما قدمنا في سورة النساء.

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: قلت: العجب من أبي حنيفة -رحمه الله- يحمل التراب على البر بعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق، والعقر، كما فعل مالك، والشافعي، رحمهما الله.

واعلم أن الصيد عند الشافعي هو مأكول اللحم فقط. فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه والصغار منه، والكبار عنده سواء، إلا المتولد من بين مأكول اللحم، وغير مأكوله، فلا يجوز اصطياده عنده، وإن كان يحرم أكله، كالسمع وهو المتولد من بين الذئب، والضبع، وقال: ليس في الرخمة والخنافس، والقردان والحلم، وما لا يؤكل لحمه شيء, لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [5/96]؛ فدل أن الصيد الذي حرم عليهم، هو ما كان حلالاً لهم قبل الإحرام، وهذا هو مذهب الإمام أحمد.

أما مالك -رحمه الله- فذهب إلى أن كل ما يعدو من السباع، كالهر والثعلب، والضبع، وما أشبهها، لا يجوز قتله. فإن قتله فداه، قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها، وهي مثل فراخ الغربان.

قال مقيده عفا الله عنه: أما الضبع فليست مثل ما ذكر معها لورود النص فيها، دون غيرها. بأنها صيد يلزم فيه الجزاء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ولم يجز مالك للمحرم قتل الزنبور، وكذلك النمل والذباب والبراغيث، وقال:

(1/437)

________________________________________

إن قتلها محرم يطعم شيئاً، وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور، وبعض العلماء شبههه بالعقرب، وبعضهم يقول: إذا ابتدأ بالأذى جاز قتله، وإلا فلا، وأقيسها ما ثبت عن عمر بن الخطاب. لأنه مما طبيعته أن يؤذي.

وقد قدمنا عن الشافعي، وأحمد، وغيرهم، أنه لا شيء في غير الصيد المأكول، وهو ظاهر القرآن العظيم.

المسألة الرابعة: أجمع العلماء على أن المحرم إذا صاد الصيد المحرم عليه، فعليه جزاؤه، كما هو صريح قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [5/95].

اعلم أولاً أن المراد بقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} ، أنه متعمد قتله، ذاكر إحرامه، كما هو صريح الآية. وقول عامة العلماء.

وما فسره به مجاهد، من أن المراد أنه متعمد لقتله ناس لإحرامه، مستدلاً بقوله تعالى بعده: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ، قال: لو كان ذاكراً لإحرامه، لوجبت عليه العقوبة لأول مرة. وقال: إن كان ذاكراً لإحرامه، فقد بطل حجه لارتكابه محظور الإحرام غير صحيح، ولا ظاهر لمخالفته ظاهر القرآن بلا دليل. ولأن قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ، يدل على أنه متعمد ارتكاب المحظور، والناسي للإحرام غير متعمد محظوراً.

إذا علمت ذلك، فاعلم أن قاتل الصيد متعمداً، عالماً بإحرامه، عليه الجزاء المذكور، في الآية، بنص القرآن العظيم، وهو قول عامة العلماء. خلافاً لمجاهد، ولم يذكر الله تعالى، في هذه الآية الكريمة حكم الناسي، والمخطىء.

والفرق بينهما: أن الناسي هو من يقصد قتل الصيد ناسياً إحرامه، والمخطىء هو من يرمي غير الصيد، كما لو رمى غرضاً فيقتل الصيد من غير قصد لقتله.

ولا خلاف بين العلماء أنهما لا أثم عليهما، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} الآية [33/5]، ولما قدمنا في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما

(1/438)

________________________________________

قرأ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [2/286]، "أن الله قال: قد فعلت" .

أما وجوب الجزاء عليهما فاختلف فيه العلماء.

فذهب جماعة من العلماء: منهم المالكية، والحنفية، والشافعية، إلى وجوب الجزاء، في الخطأ، والنسيان، لدلالة الأدلة. على أن غرم المتلفات لا فرق فيه بين العامد، وبين غيره، وقالوا: لا مفهوم مخالفة لقوله متعمداً لأنه جري على الغالب، إذ الغالب ألا يقتل المحرم الصيد إلا عامداً، وجرى النص على الغالب من موانع اعتبار دليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود" في موانع اعتبار مفهوم المخالفة: [الرجز]

أو جهل الحكم أو النطق انجلب ... للسؤل أو جرى على الذي غلب

ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [4/23]؛ لجريه على الغالب، وقال بعض من قال بهذا القول، كالزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن العظيم، وفي الخطأ والنسيان بالسنة، قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس، وعمر فنعما هي، وما أحسنها إسوة.

واحتج أهل هذا القول. بأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال: "هي صيد" ، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشاً، ولم يقل عمداً ولا خطأ، فدل على العموم، وقال ابن بكير من علماء المالكية: قوله سبحانه: {مُتَعَمِّداً} ، لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وذكر التعمد لبيان أن الصيد ليس كابن آدم الذي ليس في قتله عمداً كفارة.

وقال القرطبي في تفسيره: إن هذا القول بوجوب الجزاء على المخطىء، والناسي والعامد، قاله ابن عباس، وروي عن عمر، وطاوس، والحسن، وإبراهيم، والزهري، وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم.

وذهب بعض العلماء إلى أن الناسي، والمخطىء لا جزاء عليهما، وبه قال القرطبي، وأحمد بن حنبل، في إحدى الروايتين، وسعيد بن جبير، وأبو ثور، وهو مذهب داود، وروي أيضاً عن ابن عباس، وطاوس، كما نقله عنهم القرطبي.

واحتج أهل هذا القول بأمرين:

(1/439)

________________________________________

الأول: مفهوم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} الآية، فإنه يدل على أن غير المتعمد ليس كذلك.

الثاني: أن الأصل براءة الذمة، فمن ادعى شغلها، فعليه الدليل.

قال مقيده: عفا الله عنه: هذا القول قوي جداً من جهة النظر، والدليل.

المسألة الخامسة: إذا صاد المحرم الصيد، فأكل منه، فعليه جزاء واحد لقتله، وليس في أكله إلا التوبة والاستغفار، وهذا قول جمهور العلماء، وهو ظاهر الآية خلافاً لأبي حنيفة القائل بأن عليه أيضاً جزاء ما أكل يعني قيمته، قال القرطبي: وخالفه صاحباه في ذلك، ويروى مثل قول أبي حنيفة عن عطاء.

المسألة السادسة: إذا قتل المحرم الصيد مرة بعد مرة، حكم عليه بالجزاء في كل مرة، في قول جمهور العلماء منهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة وغيرهم، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} الآية؛ لأن تكرار القتل يقتضي تكرار الجزاء، وقال بعض العلماء: لا يحكم عليه بالجزاء إلا مرة واحدة: فإن عاد لقتله مرة ثانية لم يحكم عليه، وقيل له: ينتقم الله منك، لقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} الآية.

ويروى هذا القول عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وإبراهيم، ومجاهد، وشريح، كما نقله عنهم القرطبي، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه يضرب حتى يموت.

المسألة السابعة: إذا دل المحرم حلالا على صيد فقتله، فهل يجب على المحرم جزاء لتسببه في قتل الحلال للصيد بدلالته له عليه أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك، فذهب الإمام أحمد، وأبو حنيفة إلى أن المحرم الدال يلزمه جزاؤه كاملاً، ويروى نحو ذلك عن علي، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد وبكر المزني، وإسحاق، ويدل لهذا القول سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، أصحابه، "هل أشار أحد منهم إلى أبي قتادة على الحمار الوحشي" ؟

فإن ظاهره أنهم لو دلوه عليه كان بمثابة ما لو صادوه في تحريم الأكل؛ ويفهم من

(1/440)

________________________________________

ذلك لزوم الجزاء، والقاعدة لزوم الضمان للمتسبب إن لم يمكن تضمين المباشر، والمباشر هنا لا يمكن تضمينه الصيد؛ لأنه حلال، والدال متسبب، وهذا القول هو الأظهر، والذين قالوا به منهم من أطلق الدلالة، ومنهم من اشترط خفاء الصيد بحيث لا يراه دون الدلالة، كأبي حنيفة، وقال الإمام الشافعي وأصحابه، لا شيء على الدال.

وروي عن مالك نحوه، قالوا: لأن الصيد يضمن بقتله، وهو لم يقتله وإذا علم المحرم أن الحلال صاده من أجله فأكل منه، فعليه الجزاء كاملاً عند مالك، كما صرح بذلك في موطئه، وأما إذا دل المحرم محرماً آخر على الصيد فقتله، فقال بعض العلماء: عليهما جزاء واحد بينهما، وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال عطاء، وحماد بن أبي سليمان كما نقله عنهم ابن قدامة في "المغني"، وقال بعض العلماء: على كل واحد منهما جزاء كامل، وبه قال الشعبي، وسعيد بن جبير، والحارث العكلي، وأصحاب الرأي، كما نقله عنهم أيضاً صاحب "المغني".

وقال بعض العلماء: الجزاء كله على المحرم المباشر، وليس على المحرم الدال شيء، وهذا

قول الشافعي، ومالك، وهو الجاري على قاعدة تقديم المباشر على المتسبب في الضمان، والمباشر هنا يمكن تضمينه لأنه محرم، وهذا هو الأظهر، وعليه: فعلى الدال الاستغفار والتوبة، وبهذا تعرف حكم ما لو دل محرم محرماً، ثم دل هذا الثاني محرماً ثالثاً، وهكذا، فقتله الأخير، إذ لا يخفى من الكلام المتقدم أنهم على القول الأول شركاء في جزاء واحد.

وعلى الثاني على كل واحد منهم جزاء، وعلى الثالث لا شيء إلا على من باشر القتل.

المسألة الثامنة: إذا اشترك محرمون في قتل صيد بأن باشروا قتله كلهم، كما إذا حذفوه بالحجارة والعصى حتى مات، فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد منهم جزاء كامل، كما لو قتلت جماعة واحداً، فإنهم يقتلون به جميعاً، لأن كل واحد قاتل, وكذلك هنا كل واحد قاتل صيداً فعليه جزاء. وقال الشافعي ومن وافقه: عليهم كلهم جزاء واحد، لقضاء عمر وعبد الرحمن، قاله القرطبي، ثم قال أيضاً: وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا فمرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها،

(1/441)

________________________________________

فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له ذلك، فقال: عليكم كلكم كبش، قالوا: أو على كل واحد منا كبش، قال: إنكم لمعزز بكم عليكم كلكم كبش. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد عليكم.

وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعاً فقال: عليهم كبش يتخارجونه بينهم ودليلنا قول الله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} .

وهذا خطاب لكل قاتل، وكل واحد من القاتلين الصيد قاتل نفساً على التمام والكمال بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص. وقد قلنا بوجوبه إجماعاً منا ومنهم فثبت ما قلناه.

وقال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيداً في الحرم وهم محلون، فعليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل أو الحرم، فإن ذلك لا يختلف.

وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل. بناء على أن الرجل يكون محرماً بدخوله الحرم، كما يكون محرماً بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي فهو هاتك لها في الحالتين.

وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي، قال: السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة. وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه.

وإذا قتل المحلون صيداً في الحرم فإنما أتلفوا دابة محترمة، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة فإن كل واحد منهم قاتل دابة. ويشتركون في القيمة، قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا،اهـ من القرطبي.

المسألة التاسعة: اعلم أن الصيد ينقسم إلى قسمين: قسم له مثل من النعم كبقرة الوحش، وقسم لا مثل له من النعم كالعصافير.

وجمهور العلماء يعتبرون المثلية بالمماثلة في الصورة والخلقة، وخالف الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- الجمهور، فقال: إن المماثلة معنوية، وهي القيمة، أي قيمة الصيد في المكان الذي قتله فيه، أو أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله، فيشتري بتلك القيمة هدياً إن شاء، أو يشتري بها طعاماً، ويطعم المساكين كل

(1/442)

________________________________________

مسكين نصف صاع من بر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر.

واحتج أبو حنيفة -رحمه الله- بأنه لو كان الشبه من طريق الخلقة والصورة معتبراً في النعمامة بدنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عدلين يحكمان به، لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر، وإنما يفتقر إلى العدلين والنظر ما تشكل الحال فيه، ويختلف فيه وجه النظر.

ودليل الجمهور على أن المراد بالمثل من النعم المشابهة للصيد في الخلقة والصورة منها قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} الآية، فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنوي، ثم قال: {مِنَ النَّعَمِ} فصرح ببيان جنس المثل، ثم قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وضمير {بِهِ} راجع إلى المثل {مِنَ النَّعَمِ} ؛ لأنه لم يتقدم ذكر لسواه حتى يرجع إليه الضمير.

ثم قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، والذي يتصور أن يكون هدياً مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هدياً ولا جرى لها ذكر في نفس الآية، وادعاء أن المراد شراء الهدي بها يعيد من ظاهر الآية، فاتضح أن المراد مثل من النعم، وقوله لو كان الشبه الخلقي معتبراً لما أوقفه على عدلين؟ أجيب عنه بأن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من كبر وصغر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص، قاله القرطبي.

قال مقيده عفا الله عنه: المراد بالمثلية في الآية التقريب، وإذاً فنوع المماثلة قد يكون خفياً لا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والفطنة التامة، ككون الشاة مثلاً للحمامة لمشابهتها لها في عب الماء والهدير.

وإذا عرفت التحقيق في الجزاء بالمثل من النعم، فاعلم أن قاتل الصيد مخير بينه، وبين الإطعام، والصيام، كما هو صريح الآية الكريمة، لأن {أَوْ} حرف تخيير، وقد قال تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} ، وعليه جمهور العلماء.

فإن اختار جزاء بالمثل من النعم، وجب ذبحه في الحرم خاصة، لأنه حق لمساكين الحرم، ولا يجزىء في غيره كما نص عليه تعالى بقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، والمراد الحرم كله، كقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [22/33]، مع أن المنحر الأكبر مني، وإن اختار الطعام، فقال مالك: أحسن ما سمعت فيه، أنه يقوم الصيد

(1/443)

________________________________________

بالطعام، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم مكان كل مد يوماً.

وقال ابن القاسم عنه: إن قوم الصيد بالدراهم، ثم قوم الدراهم بالطعام، أجزأه.

والصواب: الأول؛ فإن بقي أقل من مد تصدق به عند بعض العلماء، وتممه مداً كاملاً عند بعض آخر، أما إذا صام، فإنه يكمل اليوم المنكسر بلا خلاف.

وقال الشافعي: إذا اختار الإطعام، أو الصيام، فلا يقوم الصيد الذي له مثل، وإنما يقوم مثله من النعم بالدراهم، ثم تقوم الدراهم بالطعام، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم عن كل مد يوماً، ويتمم المنكسر.

والتحقيق: أن الخيار لقاتل الصيد الذي هو دافع الجزاء.

وقال بعض العلماء: الخيار للعدلين الحكمين، وقال بعضهم: ينبغي للمحكمين إذا حكما بالمثل أن يخيرا قاتل الصيد بين الثلاثة المذكورة.

وقال بعض العلماء: إذا حكما بالمثل لزمه، والقرآن صريح في أنه لا يلزمه المثل من النعم، إلا إذا اختاره على الإطعام والصوم، للتخيير المنصوص عليه بحرف التخيير في الآية.

وقال بعض العلماء: هي على الترتيب، فالواجب الهدي، فإن لم يجد فالإطعام، فإن لم يجد فالصوم، ويروى هذا عن ابن عباس، والنخعي وغيرهما، ولا يخفى أن في هذا مخالفة لظاهر القرآن، بلا دليل.

وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل مدين يوماً واحداً اعتباراً بفدية الأذى، قاله القرطبي. واعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة، أنه يصوم عدل الطعام المذكور، ولو زاد الصيام عن شهرين، أو ثلاثة.

وقال بعض العلماء: لا يتجاوز صيام الجزاء شهرين. لأنهما أعلى الكفارات، واختاره ابن العربي، وله وجه من النظر، ولكن ظاهر الآية يخالفه.

وقال يحيى بن عمر من المالكية: إنما يقال: كم رجلاً يشبع من هذا الصيد، فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؟ فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده، قال القرطبي: وهذا قول حسن احتاط فيه. لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة، فبهذا النظر يكثر الإطعام.

(1/444)

________________________________________

واعلم أن الأنواع الثلاثة واحد منها يشترط له الحرم إجماعاً، وهو الهدي كما تقدم، وواحد لا يشترط له الحرم إجماعاً، وهو الصوم، وواحد اختلف فيه، وهو الإطعام. فذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يطعم إلا في الحرم، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم في موضع إصابة الصيد، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم حيث شاء. وأظهرها أنه حق لمساكين الحرم؛ لأنه بدل عن الهدي، أو نظير له، وهو حق لهم إجماعاً، كما صرح به تعالى بقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، وأما الصوم فهو عبادة تختص بالصائم لا حق فيها لمخلوق، فله فعلها في أي موضع شاء.

وأما إن كان الصيد لا مثل له من النعم كالعصافير. فإنه يقوم، ثم يعرف قدر قيمته من الطعام، فيخرجه لكل مسكين مد، أو يصوم عن كل مد يوماً.

فتحصل أن ماله مثل من النعم يخير فيه بين ثلاثة أشياء: هي الهدي، بمثله، والإطعام، والصيام. وأن ما لا مثل له يخير فيه بين شيئين فقط: وهما الإطعام، والصيام على ما ذكرنا.

واعلم أن المثل من النعم له ثلاث حالات:

الأولى: أن يكون تقدم فيه حكم من النبي صلى الله عليه وسلم.

الثانية: أن يكون تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة، أو التابعين مثلاً.

الثالثة: ألا يكون تقدم فيه حكم منه صلى الله عليه وسلم، ولا منهم رضي الله عنهم. فالذي حكم صلى الله عليه وسلم فيه لا يجوز لأحد الحكم فيه بغير ذلك، وذلك كالضبع، فإنه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بكبش، قال ابن حجر في التلخيص ما نصه: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش أخرجه أصحاب السنن، وابن حبان وأحمد، والحاكم في "المستدرك" من طريق عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر بلفظ سألت النبي صلىالله عليه وسلم  عن الضبع فقال: "هو صيد، ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم" ، ولفظ الحاكم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشاً، وجعله من الصيد وهو عند ابن ماجه إلا أنه لم يقل نجدياً، قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق وقد أعل بالوقف. وقال البيهقي: هو حديث جيد تقوم به الحجة، ورواه البيهقي من طريق الأجلح عن أبي الزبير عن جابر عن عمر قال: لا أراه إلا قد رفعه أنه حكم في الضبع بكبش. الحديث، ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير به موقوفاً، وصحح وقفه من

(1/445)

________________________________________

هذا الباب الدارقطني، ورواه الدارقطني والحاكم من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل" ، وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني، والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عنعكرمة عنه، وقد أعل بالإرسال. ورواه الشافعي من طريق ابن جريج عن عكرمة مرسلا وقال: لا يثبت مثله لو انفرد، ثم أكده بحديث ابن أبي عمار المتقدم، وقال البيهقي: وروي عن ابن عباس موقوفاً أيضاً.

قال مقيده عفا الله عنه: قضاؤه صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش ثابت كما رأيت تصحيح البخاري وعبد الحق له، وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم، والحديث إذا ثبت صحيحاً من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى. كما هو الصحيح عند المحدثين: لأن الوصل والرفع من الزيادات، وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود": [الرجز]

والرفع والوصل وزيد اللفظ ... مقبولة عند إمام الحفظ

.. لخ...

وأما إن تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة، أو ممن بعدهم, فقال بعض العلماء: يتبع حكمهم ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما من جديد، لأن الله قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [5/95]، وقد حكما بأن هذا مثل لهذا.

وقال بعض العلماء: لا بد من حكم عدلين من جديد، وممن قال به مالك، قال القرطبي: ولو اجتزأ بحكم الصحابة رضي الله عنهم لكان حسناً.

وروي عن مالك أيضاً أنه يستأنف الحكم في كل صيد ما عدا حمام مكة، وحمار الوحش، والظبي، والنعامة، فيكتفي فيها بحكم من مضى من السلف، وقد روي عن عمر أنه حكم هو وعبد الرحمن بن عوف في ظبي بغنز أخرجه مالك والبيهقي وغيرهما. وروي عن عبد الرحمن بن عوف، وسعد رضي الله عنهما أنهما حكما في الظبي بتيس أعفر، وعن ابن عباس وعمر، وعثمان وعلي، وزيد بن ثابت ومعاوية، وابن مسعود وغيرهم، أنهم قالوا: في النعامة بدنة، أخرجه البيهقي وغيره. وعن ابن عباس وغيره أن في حمار الوحش والبقرة بقرة، وأن في الأيل، بقرة.

(1/446)

________________________________________

وعن جابر أن عمر قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة، أخرجه مالك والبيهقي، وروى الأجلح بن عبد الله هذا الأثر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح موقوف على عمر كما ذكره البيهقي وغيره، وقال البيهقي: وكذلك رواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن عمر من قوله، وعن ابن عباس أنه قضى في الأرنب بعناق، وقال هي تمشي على أربع، والعناق كذلك، وهي تأكل الشجر، والعناق كذلك وهي تجتر، والعناق كذلك رواه البيهقي.

وعن ابن مسعود أنه قضى في اليربوع بحفر أو جفرة رواه البيهقي أيضاً، وقال البيهقي: قال أبو عبيد: قال أبو زيد: الجفر من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه، وعن شريح أنه قال: لو كان معي حكم حكمت في الثعلب بجدي، وروي عن عطاء أنه قال في الثعلب شاة، وروي عن عمر وأربد رضي الله عنهما أنهما حكما في ضب قتله أربد المذكور بجدي قد جمع الماء والشجر رواه البيهقي وغيره.

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه حكم في أم حبين بجلان من الغنم، والجلان الجدي، ورواه البيهقي وغيره.

تنبيه:

أقل ما يكون جزاء من النعم عند مالك شاة تجزىء ضحية، فلا جزاء عنده بجفرة ولا عناق،

مستدلاً بأن جزاء الصيد كالدية لا فرق فيها بين الصغير والكبير، وبأن الله قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، فلا بد أن يكون الجزاء يصح هدياً، ففي الضب واليربوع عنده قيمتها طعاماً.

قال مقيده عفا الله عنه: قول الجمهور في جزاء الصغير بالصغير، والكبير بالكبير، هو الظاهر، وهو ظاهر قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، قال ابن العربي: وهذا صحيح، وهو اختيار علمائنا يعني مذهب الجمهور الذي هو اعتبار الصغر والكبر والمرض ونحو ذلك كسائر المتلفات.

المسألة العاشرة: إذا كان ما أتلفه المحرم بيضاً، فقال مالك: في بيض النعمامة

(1/447)

________________________________________

عشر ثمن البدنة، وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن شاة، قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر، فإن استهل فعليه الجزاء كاملاً كجزاء الكبير من ذلك الطير، قال ابن الموار بحكومة عدلين وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر قيمته.

قال مقيده عفا الله عنه: وهو الأظهر، قال القرطبي: روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه، أخرجه الدارقطني، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين" ، قاله القرطبي، وإن قتل المحرم فيلاً فقيل: فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان، وإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاماً، فيكون عليه ذلك.

قال القرطبي: والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام إلى الحد الذي نزل فيه والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام وأما إن نظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه، فيكثر الطعام وذلك ضرر اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا الذي ذكره القرطبي في اعتبار مثل الفيل طعاماً فيه أمران:

الأول: أنه لا يقدر عليه غالباً، لأن نقل الفيل إلى الماء، وتحصيل المركب ورفع الفيل فيه، ونزعه منه، لا يقدر عليه آحاد الناس غالباً، ولا ينبغي التكليف العام إلا بما هو مقدور غالباً لكل أحد.

والثاني: أن كثرة القيمة لا تعد ضرراً، لأنه لم يجعل عليه إلا قيمة ما أتلف في الإحرام، ومن أتلف في الإحرام حيواناً عظيماً لزمه جزاء عظيم، ولا ضرر عليه، لأن عظم الجزاء تابع لعظم الجناية كما هو ظاهر.

المسألة الحادية عشرة: أجمع العلماء على أن صيد الحرم المكي ممنوع، وأن قطع شجره، ونباته حرام، إلا الإذخر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكة، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته، إلا لمعرف" . فقال

(1/448)

________________________________________

العباس إلا الإذخر، فإنه لا بد لهم منه، فإنه للقيون والبيوت، فقال: "إلا الإذخر" ، متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال: "لا ينفرد صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد" ، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" متفق عليه أيضاً. وفي لفظ: "لا يعضد شجرها" ، بدل قوله: "لا يختلى شوكها" ، والأحاديث في الباب كثيرة.

واعلم أن شجر الحرم ونباته طرفان، وواسطة طرف لا يجوز قطعه إجماعاً، وهو ما أنبته الله في الحرم من غير تسبب الآدميين، وطرف يجوز قطعه إجماعاً، وهو ما زرعه الآدميون من الزروع، والبقول، والرياحين ونحوها، وطرف اختلف فيه، وهو ما غرسه الآدميون من غير المأكول، والمشموم، كالأثل، والعوسج، فأكثر العلماء على جواز قطعه.

وقال قوم منهم الشافعي بالمنع، وهو أحوط في الخروج من العهدة، وقال بعض العلماء: إن نبت أولا في الحل، ثم نزع فغرس في الحرم جاز قطعه، وإن نبت أولاً في الحرم، فلا يجوز

قطعه، ويحرم قطع الشوك والعوسج، قال ابن قدامة في "المغني"، وقال القاضي، وأبو الخطاب: لا يحرم، وروي ذلك عن عطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار، والشافعي، لأنه يؤذي بطبعه، فأشبه السباع من الحيوان.

قال مقيده عفا الله عنه: قياس شوك الحرم على سباع الحيوان مردود من وجهين:

الأول: أن السباع تتعرض لأذى الناس، وتقصده بخلاف الشوك.

الثاني: أنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يعضد شوكه" ، والقياس المخالف للنص فاسد الاعتبار. قال في "مراقي السعود":[الرجز]

والخلف للنص أو إجماع دعا ... فساد الاعتبار كل من وعى

وفساد الاعتبار قادح مبطل للدليل، كما تقرر في الأصول، واختلف في قطع اليابس من الشجر، والحشيش، فأجازه بعض العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد. لأنه كالصيد الميت لا شيء على من قده نصفين، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يختلى خلاه" . لأن الخلا هو الرطب من النبات، فيفهم منه أنه لا بأس بقطع اليابس.

(1/449)

________________________________________

وقال بعض العلماء: لا يجوز قطع اليابس منه، واستدلوا له بأن استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس، وبأن في بعض طرق حديث أبي هريرة: "ولا يحتش حشيشها" ، والحشيش في اللغة: اليابس من الشعب، ولا شك أن تركه أحوط.

واختلف أيضاً في جواز ترك البهائم ترعى فيه، فمنعه أبو حنيفة، وروي نحوه عن مالك، وفيه عن أحمد روايتان، ومذهب الشافعي وجوازه، واحتج من منعه بأن ما حرم اتلافه، لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد، واحتج من أجازه بأمرين:

الأول: حديث ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان، فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فدخلت في الصف وأرسلت الأتان ترتع متفق عليه، ومنى من الحرم.

الثاني: أن الهدي كان يدخل بكثرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن أصحابه، ولم ينقل عن أحد الأمر بسد أفواه الهدي عن الأكل من نبات الحرم. وهذا القول أظهر، والله تعالى أعلم.

وممن قال به عطاء، واختلف في أخذ الورق، والمساويك من شجر الحرم إذا كان أخذ الورق بغير ضرب يضر بالشجرة، فمنعه بعض العلماء لعموم الأدلة، وأجازه الشافعي، لأنه لا ضرر فيه على الشجرة، وروي عن عطاء، وعمرو بن دينار، أنهما رخصا في ورق السنا للاستمشاء بدون نزع أصله، والأحوط ترك ذلك كله، والظاهر أن من أجازه استدل لذلك بقياسه على الإذخر بجامع الحاجة.

وقال ابن قدامة "المغني": ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان، وانقلع من الشجر بغير فعل آدمي، ولا ما سقط من الورق، نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافاً، لأن الخبر إنما ورد في القطع، وهذا لم يقطع فأما إن قطعه آدمي، فقال أحمد: لم أسمع إذا قطع أنه ينتفع به، وقال في الدوحة تقطع من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها، وذلك لأنه ممنوع من اتلافه لحرمة الحرم، فإذا قطعه من يحرم عليه قطعه لم ينتفع به، كالصيد يذبحه المحرم.

ويحتمل أن يباح لغير القاطع الانتفاع به؛ لأنه انقطع بغير فعله، فأبيح له الانتفاع به، كما لو قطعه حيوان بهيمي، ويفارق الصيد الذي ذبحه؛ لأن الذكاة تعتبر لها الأهلية، ولهذا لا تحصل بفعل بهية بخلاف هذا. اهـ.

(1/450)

________________________________________

وقال في المغني أيضاً: ويباح أخذ الكمأة من الحرم، وكذلك الفقع، لأنه لا أصل له، فأشبه الثمرة، وروى حنبل قال: يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق، وما سقط من الشجر، وما أنبت الناس.

واختلف في عشب الحرم المكي، هل يجوز أخذه لعلف البهائم؟ والأصح المنع لعموم الأدلة.

فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الحلال إذا قتل صيداً في الحرم المكي. فجمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة، وعامة فقهاء الأمصار على أن عليه الجزاء، وهو كجزاء المحرم المتقدم، إلا أن أبا حنيفة قال: ليس فيه الصوم، لأنه إتلاف محض من غير محرم.

وخالف في ذلك داود بن علي الظاهري، محتجاً بأن الأصل براءة الذمة ولم يرد في جزاء صيد الحرم نص، فيبقى على الأصل الذي هو براءة الذمة وقوله هذا قوي جداً.

واحتج الجمهور بأن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في حمام الحرم المكي بشاة شاة، روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن عباس، ولم ينقل عن غيرهم خلافهم، فيكون إجماعاً سكوتياً، واستدلوا أيضاً بقياسه على صيد المحرم، بجامع أن الكل صيد ممنوع لحق الله تعالى، وهذا الذي ذكرنا عن جمهور العلماء من أن كل ما يضمنه المحرم يضمنه من في الحرم يستثنى منه شيئان:

الأول: منهما القمل، فإنه مختلف في قتله في الإحرام ن وهو مباح في الحرم بلا خلاف.

الثاني: الصيد المائي مباح في الإ‘حرام بلا خلاف، واختلف في اصطياده من آبار الحرم وعيونه ن وكرهه جابر بن عبدالله، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر صيدها" فثبت حرمة الصيد لحرمة المكان و ظاهر النص شمول كل صيد، ولأنه صيد غير مؤذ فأشبه الظباء، وأجازه بعض العلماء محتجاً بأن الإحرام لم يحرمه، فكذلك الحرم، وعن الإمام أحمد روايتان في ذلك بالمنع والجواز.

وكذلك اختلف العلماء أيضاً في شجر الحرم المكي وخلاه، هل يجب على من قطعهما ضمان؟

(1/451)

________________________________________

فقالت جماعة من أهل العلم، منهم مالك، وأبو ثور، وداود: لا ضمان في شجره ونباته، وقال ابن المنذر: لا أجد دليلا أوجب به في شجر الحرم فرضاً من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، وأقول كما قال مالك: نستغفر الله تعالى.

والذين قالوا بضمانه، منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، إلا أن أبا حنيفة قال: يضمن كله بالقيمة، وقال الشافعي، وأحمد: يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة، والصغيرة بشاة، والخلا بقيمته والغصن بما نقص، فإن نبت ما قطع منه، فقال بعضهم: يسقط الضمان، وقال بعضهم بعدم سقوطه.

واستدل من قال في الدوحة بقرة، وفي الشجرة الجزلة شاة بآثار رويت في ذلك عن بعض الصحابة كعمر وابن عباس، والدوحة: هي الشجرة الكبيرة، والجزلة: الصغيرة.

المسألة الثانية عشرة: حرم المدينة اعلم أن جماهير العلماء على أن المدينة حرم أيضاً لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها، وخالف أبو حنيفة الجمهور، فقال: إن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له أحكام الحرم من تحريم قتل الصيد، وقطع الشجر، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترد هذا القول، وتقضي بأن ما بين لابتي المدينة حرم لا ينفر صيده، ولا يختلي خلاه إلا لعلف، فمن ذلك حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة" ، الحديث متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة، وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى متفق عليه أيضاً، وكان أبو هريرة يقول: لو رأيت الظباء ترتع في المدينة ما ذعرتها, وعن أبي هريرة أيضاً في المدينة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم شجرها أن يخبط أو يعضد رواه الإمام أحمد، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على المدينة، فقال: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" متفق عليه.

وللبخاري عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المدينة حرام من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث فيها فعليه لعنة الله والملائكة والناس

(1/452)

________________________________________

أجمعين" ، ولمسلم عن عاصم الأحول، قال: سألت أنساً أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ فقال: نعم هي حرام لا يختلى خلاها، الحديث.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني حرمت المدينة، حرام ما بين مأزميها ألا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف" ، رواه مسلم.

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها" ، رواه مسلم أيضاً.

وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور" ، الحديث متفق عليه.

وعن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: "لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره" ، رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه الإمام أحمد.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها، أو يقتل صيدها" .

وقال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يخرج عنها أحد رغبة إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على ولائها وجهدها إلا كنت له شهيداً، أو شفيعاً يوم القيامة" ، رواه مسلم.

وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها" رواه مسلم أيضاً.

وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى المدينة، فقال: "إنها حرم آمن" ، رواه مسلم في صحيحه أيضاً.

وعن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أبي سعيد رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني حرمت ما بين لابتي المدينة، كما حرم إبراهيم مكة" .

قال: وكان أبو سعيد الخدري يجد في يد أحدنا الطير، فيأخذه فيفكه من يده، ثم

(1/453)

________________________________________

يرسله، رواه مسلم في صحيحه أيضاً، وعن عبد الله بن عبادة الزرقي، أنه كان يصيد العصافير في بئر إهاب، وكانت لهم، قال: فرآني عبادة، وقد أخذت عصفوراً فانتزعه مني فأرسله، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرم ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم عليه السلام مكة" وكان عبادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البيهقي.

وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: اصطدت طيراً بالقنبلة، فخرجت به في يدي فلقيني أبي عبد الرحمن بن عوف، فقال: ما هذا في يدك؟ فقلت: طير اصطدته بالقنبلة، فعرك أذني عركاً شديداً، وانتزعه من يدي، فأرسله، فقال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صيد ما بين لابتيها، رواه البيهقي أيضاً، والقنبلة: آلة يصاد بها النهس وهو طائر.

وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه وجد غلماناً قد ألجؤوا ثعلباً إلى زاوية فطردهم عنه، قال مالك: ولا أعلم إلا أنه قال: أفي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا، رواه البيهقي أيضاً.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه وجد رجلاً بالأسواف -وهو موضع بالمدينة- وقد اصطاد نهساً فأخذه زيد من يده فأرسله، ثم قال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم صيد ما بين لابتيها، رواه البيهقي، والرجل الذي اصطاد النهس هو شرحبيل بن سعد والنهي بضم النون وفتح الهاء بعدهما سين مهملة طير صغير فوق العصفور شبيه بالقنبرة.

والأحاديث في الباب كثيرة جداً، ولا شك في أن النصوص الصحيحة الصريحة التي أوردنا في حرم المدينة لا شك معها، ولا لبس في أنها حرام، لا ينفر صيدها، لا يقطع شجرها، ولا يختلي خلاها إلا لعلف، وما احتج به بعض أهل العلم على أنها غير حرام من قوله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل النعير يا أبا عمير" ، لا دليل فيه، لأنه محتمل لأن يكون ذلك قبل تحريم المدينة، ومحتمل لأن يكون صيد في الحل، ثم أدخل المدينة.

وقد استدل به بعض العلماء على جواز إمساك الصيد الذي صيد في الحل وإدخاله المدينة، وما كان محتملاً لهذه الاحتمالات لا تعارض به النصوص الصريحة الصحيحة الكثيرة التي لا لبس فيها ولا احتمال، فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء القائلين بحرمة المدينة، وهم جمهور علماء الأمة اختلفوا في صيد حرم المدينة هل يضمنه قاتله أو لا؟

(1/454)

________________________________________

وكذلك شجرها، فذهب كثير من العلماء منهم مالك والشافعي في الجديد، وأصحابهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وعليه أكثر أهل العلم إلى أنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام، فلم يجب فيه جزاء كصيد وج.

واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير وثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلاً" ، فذكره صلى الله عليه وسلم لهذا الوعيد الشديد في الآخرة، ولم يذكر كفارة في الدنيا دليل على أنه لا كفارة تجب فيه في الدنيا، وهو ظاهر.

وقال ابن أبي ذئب، وابن المنذر: يجب في صيد الحرم المدني الجزاء الواجب في صيد الحرم المكي، وهو قول الشافعي في القديم. واستدل أهل هذا القول بأنه صلى الله عليه وسلم صرح في الأحاديث الصحيحة المتقدمة بأنه حرم المدينة مثل تحريم إبراهيم لمكة، ومماثلة تحريمها تقتضي استواءهما في جزاء من انتهك الحرمة فيهما.

قال القرطبي، قال القاضي عبد الوهاب: وهذا القول أقيس عندي على أصولنا لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: ومذهب الجمهور في تفضيل مكة، وكثرة مضاعفة الصلاة فيها زيادة على المدينة بمائة ضعف أظهر لقيام الدليل عليه، والله تعالى أعلم.

وذهب بعض من قال بوجوب الجزاء في الحرم المدني إلى أن الجزاء فيه هو أخذ سلب قاتل الصيد، أو قاطع الشجر فيه.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول هو أقوى الأقوال دليلا. لما رواه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع شجراً، أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه، أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرده عليهم، رواه مسلم في صحيحه، وأحمد.

وما ذكره القرطبي في تفسيره رحمه الله من أن هذا الحكم خاص بسعد رضي الله عنه، مستدلاً بأن قوله "نفلنيه" أي أعطانيه ظاهر في الخصوص به دون غيره فيه عندي أمران:

(1/455)

________________________________________

الأول: أن هذا لا يكفي في الدلالة على الخصوص، لأن الأصل استواء الناس في الأحكام الشرعية إلا بدليل، وقوله "نفلنيه" ليس بدليل، لاحتمال أنه نفل كل من وجد قاطع شجر، أو قاتل صيد بالمدينة ثيابه، كما نفل سعداً، وهذا هو الظاهر.

الثاني: أن سعداً نفسه روي عنه تعميم الحكم، وشموله لغيره، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن سليمان بن أبي عبد الله قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلبه ثيابه فجاء مواليه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم، وقال: "من رأيتموه يصيد فيه شيئاً فلكم سلبه" . فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم أن أعطيكم ثمنه أعطيتكم وفي لفظ: "من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه" وروى هذا الحديث أيضاً الحاكم وصححه، وهو صريح في العموم وعدم الخصوص بسعد كما ترى، وفيه تفسير المراد بقوله "نفلنيه" وأنه عام لكل من وجد أحداً يفعل فيها ذلك.

وتضعيف بعضهم لهذا الحديث بأن في إسناده سليمان بن أبي عبد الله غير مقبول، لأن سليمان بن أبي عبد الله مقبول، قال فيه الذهبي: تابعي وثق، وقال فيه ابن حجر في "التقريب": مقبول.

والمقبول عنده كما بينه في مقدمة تقريبه: هو من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله فهو مقبول حيث يتابع، وإلا فلين الحديث، وقال فيه ابن أبي حاتم: ليس بمشهور، ولكن يعتبر بحديثه اهـ.

وقد تابع سليمان بن أبي عبد الله في هذا الحديث عامر بن سعد عند مسلم وأحمد، ومولى لسعد عند أبي داود كلهم عن سعد رضي الله عنه، فاتضح رد تضعيفه مع ما قدمنا من أن الحاكم صححه، وأن الذهبي قال فيه: تابعي موثق.

والمراد بسلب قاطع الشجر أو قاتل الصيد في المدينة أخذ ثيابه. قال بعض العلماء: حتى سراويله.

والظاهر ما ذكره بعض أهل العلم من وجوب ترك ما يستر العورة المغلظة، والله تعالى أعلم.

وقال بعض العلماء: السلب هنا سلب القاتل، وفي مصرف هذا السلب ثلاثة أقوال:

(1/456)

________________________________________

أصحها: أنه للسالب كالقتيل، ودليله حديث سعد المذكور.

والثاني: أنه لفقراء المدينة.

و الثالث: أنه لبيت المال، والحق الأول.

وجمهور العلماء على أنه حمى رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه، أن قدره اثنا عشر ميلاً من جهات المدينة لا يجوز قطع شجره، ولا خلاه، كما رواه جابر بن عبد الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يهش هشاً رفيقاً" أخرجه أبو داود والبيهقي، ولم يضعفه أبو داود، والمعروف عن أبي داود رحمه الله إنه إن سكت عن عن الكلام في حديث فأقل درجاته عنده الحسن.

وقال النووي في شرح المهذب بعد أن ساق حديث جابر المذكور: رواه أبو داود بإسناد غير قوي لكنه لم يضعفه اهـ، ويعتضد هذا الحديث بما رواه البيهقي بإسناده عن محمد بن زياد قال: كان جدى مولي لعثمان بن مظعون، وكان يلي أرضاً لعثمان فيها بقل وقثاء. قال: فربما أتاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف النهار، واضعاً ثوبه على رأسه يتعاهد الحمى، ألا يعضد شجره، ولا يخبط. قال: فيجلس إلي فيحدثني، وأطعمه من القثاء والبقل، فقال له يوماً: أراك لا تخرج من ها هنا. قال: قلت: أجل. قال: إني أستعملك على ما ها هنا فمن رأيت يعضد شجراً أو يخبط فخذ فأسه، وحبله، قال: قلت آخذ رداءه، قال: لا وعامة العلماء على أن صيد الحمى المذكور غير حرام، لأنه ليس بحرم، وإنما هو حمى حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم للخيل وإبل الصدقة والجزية، ونحو ذلك.

واختلف في شجر الحمى هل يضمنه قاطعه؟ والأكثرون على أنه لا ضمان فيه، وأصح القولين عند الشافعية، وجوب الضمان فيه بالقيمة، ولا يسلب قاطعه، وتصرف القيمة في مصرف نعم الزكاة والجزية.

المسألة الثالثة عشرة: اعلم أن جماهير العلماء على إباحة صيد وج، وقطع شجره. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: أكره صيد وج، وحمله المحققون من أصحابه على كراهة التحريم.

(1/457)

________________________________________

واختلفوا فيه على القول بحرمته، هل فيه جزاء كحرم المدينة أو لا شيء فيه؟ ولكن يؤدب قاتله، وعليه أكثر الشافعية.

وحجة من قال بحرمة صيدوج ما رواه أبو داود، وأحمد والبخاري في تاريخه، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيد وج محرم" الحديث.

قال ابن حجر في "التلخيص": سكت عليه أبو داود وحسنه المنذري، وسكت عليه عبد الحق، فتعقبه ابن القطان بما نقل عن البخاري، أنه لم يصح، وكذا قال الأزدي.

وذكر الذهبي، أن الشافعي صححه، وذكر الخلال أن أحمد ضعفه، وقال ابن حبان في رواية المنفرد به، وهو محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي كان يخطىء، ومقتضاه تضعيف الحديث فإنه ليس له غيره فإن كان أخطأ فيه فهو ضعيف، وقال العقيلي: لا يتابع إلا من جهة تقاربه في الضعف، وقال النووي في شرح المهذب: إسناده ضعيف.

وذكر البخاري في تاريخه في ترجمة عبد الله بن إنسان أنه لا يصح.

وقال ابن حجر في "التقريب" في محمد بن عبد الله بن إنسان الثقفي الطائفي المذكور: لين الحديث، وكذلك أبوه عبد الله الذي هو شيخه في هذا الحديث: قال فيه أيضاً: لين الحديث، وقال ابن قدامة في المغني في هذا الحديث في صيد وج: ضعفه أحمد ذكره الخلال في كتاب "العلل"، فإذا عرفت هذا ظهر لك حجة الجمهور في إباحة صيدوج، وشجرة كون، الحديث لم يثبت، والأصل براءة الذمة، ووج -بفتح الواو، وتشديد الجيم- أرض بالطائف. وقال بعض العلماء: هو واد بصحراء الطائف، وليس المراد به نفس بلدة الطائف. وقيل: هو كل أرض الطائف، وقيل هو اسم لحصون الطائف وقيل، لواحد منها وربما التبس وج المذكور بوح -بالحاء المهملة- وهي ناحية نعمان.

فإذا عرفت حكم صيد المحرم، وحكم صيد مكة، والمدينة، ووج، مما ذكرنا فاعلم أن الصيد المحرم إذا كان بعض قوائمه في الحل، وبعضها في الحرم، أو كان على غصن ممتد في الحل، وأصل شجرته في الحرم، فاصطياده حرام على التحقيق تغليباً

(1/458)

________________________________________

لجانب حرمة الحرم فيهما.

أما إذا كان أصل الشجرة في الحل، وأغصانها ممتدة في الحرم، فاصطاد طيراً واقعاً على الأغصان الممتدة في الحرم، فلا إشكال في أنه مصطاد في الحرم، لكون الطير في هواء الحرم.

واعلم أن ما ادعاه بعض الحنفية، من أن أحاديث تحديد حرم المدينة مضطربة لأنه وقع في بعض الروايات باللابتين، وفي بعضها بالحرتين، وفي بعضها بالجبلين، وفي بعضها بالمأزمين، وفي بعضها بعير وثور، غير صحيح لظهور الجمع بكل وضوح. لأن اللابتين هما الحرتان المعروفتان، وهما حجارة سود على جوانب المدينة والجبلان هما المأزمان، وهما عير وثور والمدينة بين الحرتين، كما أنها أيضاً بين ثور وعير، كما يشاهده من نظرها. وثور جبيل صغير يميل إلى الحمرة بتدوير خلف أحد من جهة الشمال.

فمن ادعى من العلماء أنه ليس في المدينة جبل يسمى ثوراً، فغلط منه. لأنه معروف عند الناس إلى اليوم، مع أنه ثبت في الحديث الصحيح.

واعلم أنه على قراءة الكوفيين "فَجَزَاءٌ مِثْلُ" الآية، بتنوين جزاء، ورفع مثل فالأمر واضح، وعلى قراءة الجمهور: {فجزاءُ مثلِ} بالإضافة، فأظهر الأقوال أن الإضافة بيانية، أي جزاء هو مثل ما قتل من النعم، فيرجع معناه إلى الأول، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [5/105]؛ لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد، وممن قال بهذا حذيفة، وسعيد بن المسيب، كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره، وابن جرير، ونقله القرطبي عن سعيد ابن المسيب، وأبي عبيد القاسم بن سلام، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن مسعود.

فمن العلماء من قال: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، أي: أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جداً ولا ينبغي

(1/459)

________________________________________

العدول عنه لمنصف.

ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد، أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ, إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ, إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [103/3،2،1]، فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل. وقد دلت الآيات كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [8/25]، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده.

فمن ذلك ما خرجه الشيخان في صحيحهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً مرعوباً يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج، مثل هذه" وحلق بإصبعيه الإبهام، والتي تليها فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث" .

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً" ، أخرجه البخاري والترمذي.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده، أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه" ، رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشربيه وقعيده، فلما فعلوا

(1/460)

________________________________________

ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض" ، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ, كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ, تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ, وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [5/81،80،79،78]، ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعننكم كما لعنهم" .

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن، وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى يأطروهم على الحق أطرا".

ومعنى تأطروهم أي تعطفوهم، ومعنى تقصرونه: تحبسونه، والأحاديث في الباب كثيرة جداً، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [3/104]، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [3/110]، وقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ, كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، وقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [18/29]، وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [15/94]، وقوله: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [7/165]، وقوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [8/25].

والتحقيق في معناها أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن الناس

(1/461)

________________________________________

إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب، صالحهم وطالحهم وبه فسرها جماعة من أهل العلم والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك كما قدمنا طرفاً منها.

مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

المسألة الأولى: اعلم أن كلا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة علىأن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهي عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها.

وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضاً، أما السنة المذكورة فقوله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان ما أصابك، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر، فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" ، أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

ومعنى تندلق أقتابه: تتدلى أمعاؤه، أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسرى بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" أخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد والبزار، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن حيان وابن مردويه والبيهقي، كما نقله عنهم الشوكاني وغيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، فقال ابن عباس: أو بلغت ذلك؟ فقال أرجو، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال: وما هي؟ قال قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الآية [2/44]، وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [61/3]، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} الآية،

(1/462)

________________________________________

[11/88]، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وابن مردوديه، وابن عساكر، كما نقله عنهم أيضاً الشوكاني وغيره.

واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض النار، ليس على الأمر بالمعروف. وإنما هو على ارتكابه المنكر عالماً بذلك، ينصح الناس عنه، فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح، ولا طالح، والوعيد على المعصية، لا على الأمر بالمعروف، لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير، ولقد أجاد من قال: [الكامل]

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم

وقال الآخر: [الطويل]

وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريضا

وقال الآخر: [الطويل]

فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر ... به تلف من إياه تأمر آتيا

وأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضاً، فهي قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ, كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ, فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [74/51،50،49]، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فيجب على المذكر -بالكسر- والمذكر -بالفتح- أن يعملا بمقتصى التذكرة، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها، لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم.

المسألة الثانية: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به، أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر، لأنه إن كان جاهلاً بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهي عما ليس بمنكر، ولا سيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل وصار فيه الحق منكراً، والمنكر معروفاً والله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [12/108]، فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة، وحسن الأسلوب، واللطافة مع إيضاح الحق. لقوله تعالى: {ادْعُ

(1/463)

________________________________________

إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} الآية [16/125]، فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق، فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسناداً مطلقاً، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس، لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل، وأتباعهم وهو مستلزم للأذى من الناس، لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده، فيما قص الله عنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} الآية [31/17]، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل "أو مخرجي هم؟" يعني قريشاً أخبره ورقة أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما ترك الحق لعمر صديقاً، واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر، إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين.

وأما إن كان من مسائل الاجتهاد، فيما لا نص فيه فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكراً، فالمصيب منهم مأجور بإصابته، والمخطىء منهم معذور كما هو معروف في محله.

واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة. أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه. فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت، وهو المطلوب وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده، وتمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} الآية [57/25].

ففيه الإشارة إلى أعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

المسألة الثالثة: يشترط في جواز الأمر بالمعروف، ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر، لإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين. قال في مراقي السعود: [الرجز]

(1/464)

________________________________________

وارتكب لأخف من ضرين ... وخيرن لدى استوا هذين

ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه، كما يدل له ظاهر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [87/9]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم" ، وفي لفظ قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا، أو منهم قال: "بل أجر خمسين منكم" ، أخرجه الترمذي، والحاكم وصححاه، وأبو داود وابن ماجه وابن جرير، والبغوي في معجمه، وابن أبي حاتم، والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردوديه، والبيهقي في الشعب من حديث ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وقال الراوي هذا الحديث عنه أبو أمية الشعباني، وقد سأله عن قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمر" إلى آخر الحديث.

وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع والهوى المتبع الخ مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف. فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه.

تنبيه:

الأمر بالمعروف له ثلاث حكم:

الأولى: إقامة حجة الله على خلقه، كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [4/165].

الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت، {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} الآية [7/164]، وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [51/54]، فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة، لكان ملوماً.

الثالثة: رجاء النفع للمأمور، كما قال تعالى: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ

(1/465)

________________________________________

يَتَّقُونَ} ، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [51/55]، وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا "دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب" في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [87/9]، ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف كزوجته وأولاده ونحوهم، وينهاهم عن المنكر؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} الآية [66/6]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" ، الحديث.

المسألة الرابعة: اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" ، أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن.

وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطان جائر" رواه النسائي بإسناد صحيح.

كما قاله النووي رحمه الله، واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث:

الأولى: أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم، ولو لم ينفع نصحه ويجب

أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف. لأن ذلك هو مظنة الفائدة.

الثانية: ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره، وتأدية نصحه لمنكر أعظم، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب، وكراهة منكره والسخط عليه، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان.

الثالثة: أن يكون راضياً بالمنكر الذي يعمله السلطان متابعاً له عليه، فهذا شريكه في الإثم، والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين، أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" ، قالوا:

(1/466)

________________________________________

يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة" أخرجه مسلم في صحيحه.

فقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كره" يعني بقلبه، ولم يستطع إنكاراً بيد ولا لسان فقد برىء من الإثم، وأدى وظيفته. ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بها وتابع عليها، فهو عاص كفاعلها.

ونظيره حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" وقوله في هذه الآية الكريمة: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، صيغة إغراء يعني: الزموا حفظها كما أشار له في "الخلاصة" بقوله:[الرجز]

والفعل من أسمائه عليكا ... وهكذا دونك مع إليكا

قوله تعالى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} , ذكر في هذه الآية الكريمة أن كاتم الشهادة آثم، وبين في موضع آخر أن هذا الإثم من الآثام القلبية، وهو قوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [2/283]، ومعلوم أن منشأ الآثام والطاعات جميعاً من القلب، لأنه إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد الجسد كله.

قوله تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} , معناه إخراجهم من قبورهم أحياء بمشيئة الله، وقدرته كما أوضحه بقوله: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [3/49].

قوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآية،لم يذكر هنا كيفية كفه إياهم عنه، ولكنه بينه في مواضع أخر، كقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً, بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [4/158]، وقوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [3/55]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} الآية، قال بعض أهل العلم: المراد بالإيحاء إلى الحواريين الإلهام، ويدل له ورود الإيحاء في القرآن بمعنى الإلهام كقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية [16/68]، يعني ألهمها، قال بعض العلماء:

(1/467)

________________________________________

ومنه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [28/7]، وقال بعض العلماء معناه: أوحيت إلى الحواريين إيحاء حقيقياً بواسطة عيسى عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام.

 

 

 

===============

 

المائدة - تفسير فتح القدير

 

 

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

[سورة المائدة (5) : آية 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

هَذَا شُرُوعٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ. وَالْمَيْتَةُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْبَقَرَةِ، وَكَذَلِكَ الدَّمُ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا هُنَا مِنْ تَحْرِيمِ مُطْلَقِ الدَّمِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا كَمَا تَقَدَّمَ حَمْلًا لِلْمُطْلِقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَخْصِيصُ الْمَيْتَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ» أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحلّ مِيتَتُهُ» وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَهْلِ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى. وَالْإِهْلَالُ:

رَفْعُ الصَّوْتِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَأَنْ يَقُولَ: باسم اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا هُنَا إِلَى تَكْرِيرِ مَا قَدْ أَسْلَفْنَاهُ فَفِيهِ مَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْمُنْخَنِقَةُ هِيَ الَّتِي تَمُوتُ بِالْخَنْقِ: وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِهَا كَأَنْ تُدْخِلَ رَأْسَهَا فِي حَبْلٍ أَوْ بَيْنَ عُودَيْنِ، أَوْ بفعل آدميّ أو غيره، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ، فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا. وَالْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا حَتَّى تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، يُقَالُ: وَقَذَهُ يَقِذُهُ وَقْذًا فَهُوَ وَقِيذٌ، وَالْوَقْذُ شِدَّةُ الضَّرْبِ، وَفُلَانٌ وَقِيذٌ: أَيْ مُثْخَنٌ ضَرْبًا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَيَضْرِبُونَ الْأَنْعَامَ بِالْخَشَبِ لِآلِهَتِهِمْ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ يَأْكُلُونَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ:

شَغَّارَةٌ تَقِذُ الْفَصِيلَ بِرِجْلِهَا ... فطّارة لقوادم الأبكار «1»

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الصَّيْدِ بِالْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ، وَيَعْنِي بِالْبُنْدُقِ قَوْسُ الْبُنْدُقَةِ، وَبِالْمِعْرَاضِ السَّهْمُ الَّذِي لَا رِيشَ لَهُ أَوِ الْعَصَا الَّتِي رَأَسُهَا مُحَدَّدٌ، قَالَ: فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَقِيذٌ لَمْ يَجُزْهُ إِلَّا مَا أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَخَالَفَهُمُ الشَّامِيُّونَ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمِعْرَاضِ: كُلْهُ خزق أو لم يخزق، فَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَكْحُولٌ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا ذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَفِيهِ الْحُجَّةُ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَفِيهِ «مَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ» انْتَهَى.

قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَدِيٍّ قَالَ: «قَلْتُ: يَا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد

__________

(1) . في المطبوع: الأظفار، والمثبت من تفسير القرطبي (6/ 48) . «الشغارة» : الناقة ترفع قوائمها لتضرب. «الفطر» :

الحلب بالسبابة والوسطى مع الاستعانة بطرف الإبهام.

(2/11)

________________________________________

فأصيب، فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ» فَقَدِ اعْتَبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم الخزق وَعَدَمَهُ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا مَا خزق لَا مَا صُدِمَ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّذْكِيَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِلَّا كَانَ وَقِيذًا. وَأَمَّا الْبَنَادِقُ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ: وَهِيَ بَنَادِقُ الْحَدِيدِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا الْبَارُودُ وَالرَّصَاصُ وَيُرْمَى بِهَا، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ لِتَأَخُّرِ حُدُوثِهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَصِلْ إِلَى الدِّيَارِ الْيَمَنِيَّةِ إِلَّا فِي الْمِائَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ سَأَلَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنِ الصَّيْدِ بِهَا إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الصَّائِدُ مِنْ تَذْكِيَتِهِ حَيًّا. وَالَّذِي يظهر لي أنه حلال لأنها تخزق وَتَدْخُلُ فِي الْغَالِبِ مِنْ جَانِبٍ مِنْهُ وَتَخْرُجُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ: «إِذَا رَمَيْتَ بالمعراض فخزق فكله» فاعتبر الخزق فِي تَحْلِيلِ الصَّيْدِ. قَوْلُهُ: وَالْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ فَتَمُوتُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ تَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ مَدْفِنٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَالتَّرَدِّي مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ وَسَوَاءٌ تَرَدَّتْ بنفسها أو ردّاها غَيْرُهَا. قَوْلُهُ: وَالنَّطِيحَةُ هِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَنْطَحُهَا أُخْرَى فَتَمُوتُ مِنْ دُونِ تَذْكِيَةٍ.

وَقَالَ قَوْمٌ أَيْضًا: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، لِأَنَّ الدَّابَّتَيْنِ تَتَنَاطَحَانِ فَتَمُوتَانِ، وَقَالَ: نَطِيحَةٌ وَلَمْ يَقُلْ نَطِيحٌ مَعَ أَنَّهُ قِيَاسُ فَعِيلٍ، لِأَنَّ لُزُومَ الْحَذْفِ مُخْتَصٌّ بِمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَذْكُورٍ فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ ثَبَتَتِ التَّاءُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو مَيْسَرَةَ: وَالْمَنْطُوحَةُ. قَوْلُهُ: وَما أَكَلَ السَّبُعُ أَيْ مَا افْتَرَسَهُ ذُو نَابٍ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ، لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ السَّبُعُ كُلُّهُ قَدْ فَنِيَ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخُصُّ اسْمَ السَّبُعِ بِالْأَسَدِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَكَلَ السَّبُعُ شَاةً، ثُمَّ خَلَّصُوهَا مِنْهُ أَكَلُوهَا، وَإِنْ ماتت لم يُذَكُّوهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ: السَّبُعُ بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ نَجْدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:

مَنْ يَرْجِعِ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ ... فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ

وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ» . وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «وَأَكِيلُ السَّبُعِ» . قَوْلُهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رَاجِعٌ عَلَى مَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ سَابِقًا، وَفِيهِ حَيَاةٌ، وَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ السَّبُعُ منها إلى مَا لَا حَيَاةَ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ. وَحَكَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُنْقَطِعًا أَيْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ فَهُوَ الَّذِي يَحِلُّ وَلَا يَحْرُمُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالذَّكَاةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الذَّبْحُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ. وَأَصْلُ الذَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ: التَّمَامُ أَيْ تَمَامُ اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ، وَالذَّكَاءُ حِدَّةُ الْقَلْبِ، وَالذَّكَاءُ سُرْعَةُ الْفِطْنَةِ، وَالذَّكْوَةُ مَا تَذَكَّى مِنْهُ النَّارُ، وَمِنْهُ أَذْكَيْتُ الْحَرْبَ وَالنَّارَ: أَوْقَدْتُهُمَا، وَذَكَاءُ اسْمُ الشَّمْسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: إِلَّا مَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ عَلَى التَّمَامِ، وَالتَّذْكِيَةُ فِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ إِنْهَارِ الدَّمِ، وَفَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ مَقْرُونًا بِالْقَصْدِ لِلَّهِ، وَذِكْرِ اسْمِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْآلَةُ الَّتِي تَقَعُ بِهَا الذَّكَاةُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَفَرَى الْأَوْدَاجَ، فَهُوَ آلَةٌ لِلذَّكَاةِ مَا خَلَا السِّنَّ وَالْعَظْمَ، وَبِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. قَوْلُهُ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النُّصُبُ حَجَرٌ كَانَ يُنْصَبُ فَيُعْبَدُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ دِمَاءُ الذَّبَائِحِ، وَالنَّصَائِبُ حِجَارَةٌ تُنْصَبُ حَوَالَيْ شَفِيرِ الْبِئْرِ فَتُجْعَلُ عَضَائِدَ. وَقِيلَ النُّصُبُ: جَمْعٌ وَاحِدُهُ نِصَابٌ، كَحِمَارٍ وَحُمُرٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ

(2/12)

________________________________________

بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَّادِ، جَعَلَهُ اسْمًا مُوَحَّدًا كَالْجَبَلِ وَالْجَمَلِ، وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ كَالْأَجْبَالِ وَالْأَجْمَالِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوَالَيْ مَكَّةَ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتَنْضَحُ بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قال المسلمون للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ بِذَلِكَ تَعْظِيمُ النُّصُبِ لَا أَنَّ الذَّبْحَ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِهَذَا قِيلَ إن عَلَى بمعنى اللام: أي لأجلها. قاله قُطْرُبٌ، وَهُوَ عَلَى هَذَا دَاخِلٌ فِيمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِتَأْكِيدِ تَحْرِيمِهِ ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذَلِكَ لِتَشْرِيفِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ: أَيْ وَحَرَّمَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ. وَالْأَزْلَامُ: قِدَاحُ الْمَيْسَرِ وَاحِدُهَا زَلَمٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:

بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارِ عَلَى لَحْمِ وَضَمْ وَقَالَ آخَرُ:

فَلَئِنْ جَذِيمَةُ قُتِلَتْ سَادَاتُهَا ... فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالْأَزْلَامِ

وَالْأَزْلَامُ لِلْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا مَكْتُوبٌ فِيهِ افْعَلْ، وَالْآخَرُ مَكْتُوبٌ فِيهِ لَا تَفْعَلْ، وَالثَّالِثُ مُهْمَلٌ لَا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا أَرَادَ فِعْلَ شَيْءٍ أَدْخَلَ يَدَهُ وَهِيَ مُتَشَابِهَةٌ فَأَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْهَا، فَإِنْ خَرَجَ الْأَوَّلُ فَعَلَ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّانِي تَرَكَهُ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّالِثُ أَعَادَ الضَّرْبَ حَتَّى يَخْرُجَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَذَا الْفِعْلِ اسْتِقْسَامٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ الرِّزْقَ وَمَا يُرِيدُونَ فِعْلَهُ كَمَا يُقَالُ اسْتَسْقَى:

أَيْ اسْتَدْعَى السَّقْيَ. فَالِاسْتِقْسَامُ: طَلَبُ الْقِسْمِ وَالنَّصِيبِ. وَجُمْلَةُ قِدَاحِ الْمَيْسَرِ عَشَرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهَا، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا فِي الْمُقَامَرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَزْلَامَ كِعَابُ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الشَّطْرَنْجُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِدَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ وَضَرْبٌ مِنَ الْكَهَانَةِ. قَوْلُهُ:

ذلِكُمْ فِسْقٌ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ أَوْ إِلَى جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الْحَدِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْفِسْقَ هُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ لَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ قَوْمٍ مِنْ أَنَّهُ مَنْزِلَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْمُرَادُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَهُوَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الزَّمَانُ الْحَاضِرُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ، ولم يرد يوما معينا. ويئس فيه لغتان ييئس بياءين يأسا، وأيس يأيس إِيَاسًا وَإِيَاسَةً.

قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. أَيْ حَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ إِبْطَالِ دِينِكُمْ وَأَنْ يَرُدُّوكُمْ إِلَى دِينِهِمْ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ فَلا تَخْشَوْهُمْ أَيْ لَا تَخَافُوا مِنْهُمْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ أَوْ يُبْطِلُوا دِينَكُمْ وَاخْشَوْنِ فَأَنَا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِنْ نَصَرْتُكُمْ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ خَذَلْتُكُمْ لَمْ يَسْتَطِعْ غَيْرِي أَنْ يَنْصُرَكُمْ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ جَعَلْتُهُ

(2/13)

________________________________________

كَامِلًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى إِكْمَالٍ لِظُهُورِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا وَغَلَبَتِهِ لَهَا وَلِكَمَالِ أَحْكَامِهِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمُشْتَبَهِ، وَوَفَّى مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا يُسْتَفَادُ مِنْ تَقْدِيمِ قَوْلِهِ:

لَكُمْ. قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِالْإِكْمَالِ هُنَا: نُزُولُ مُعْظَمِ الْفَرَائِضِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. قَالُوا: وَقَدْ نَزَلَ بعد ذلك قرآن كثير كَآيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الْكَلَالَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْمَذْكُورِ هُنَا هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقِيلَ:

إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. قَوْلُهُ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِإِكْمَالِ الدِّينِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَحْكَامِ وَبِفَتْحِ مَكَّةَ وَقَهْرِ الْكُفَّارِ وَإِيَاسِهِمْ عَنِ الظُّهُورِ عَلَيْكُمْ كَمَا وَعَدْتُكُمْ بِقَوْلِي: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ «1» . قَوْلُهُ:

وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أَيْ أَخْبَرْتُكُمْ بِرِضَايَ بِهِ لَكُمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ رَاضِيًا لِأَمَةِ نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ لِاخْتِصَاصِ الرِّضَا بِهَذَا الْيَوْمِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ دِينًا بَاقِيًا إِلَى انْقِضَاءِ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَدِينًا مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا. قَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ: أَيْ مَنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ فِي مَخْمَصَةٍ أَيْ مَجَاعَةٍ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالْخَمْصُ: ضُمُورُ الْبَطْنِ، وَرَجُلٌ خَمِيصٌ وَخُمْصَانٌ، وَامْرَأَةٌ خَمِيصَةٌ وَخُمْصَانَةٌ، وَمِنْهُ أَخْمَصُ الْقَدَمِ، وَيُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْجُوعِ، قَالَ الْأَعْشَى:

تبيتون في المشتى ملاء بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى «2» يَبِتْنَ خَمَائِصَا

قَوْلُهُ: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ: الْحَرَامُ أَيْ حَالَ كَوْنِ الْمُضْطَرِّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مَائِلٍ لِإِثْمٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى غَيْرِ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، وَكُلُّ مَائِلٍ فَهُوَ مُتَجَانِفٌ وَجَنَفٌ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالسُّلَمِيُّ «مُتَجَنِّفٍ» ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِ لَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا أَلْجَأَتْهُ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ فِي الْجُوعِ مَعَ عَدَمِ مَيْلِهِ بِأَكْلِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ إِلَى الْإِثْمِ بِأَنْ يَكُونَ بَاغِيًا عَلَى غَيْرِهِ أَوْ مُتَعَدِّيًا لِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِي أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَعْرِضُ عَلَيْهِمْ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ جَاءُوا بِقَصْعَةِ دَمٍ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهَا يَأْكُلُونَهَا، قَالُوا: هَلُمَّ يَا صَدِّيُّ فَكُلْ قُلْتُ: وَيَحْكُمْ إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ مَنْ يُحَرِّمُ هَذَا عَلَيْكُمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَمَا ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذا الْآيَةَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ قَالَ:

وَمَا أُهِلَّ لِلطَّوَاغِيتِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ قَالَ: الَّتِي تُخْنَقُ فَتَمُوتُ وَالْمَوْقُوذَةُ قال: التي تضرب بالخشبة فتموت وَالْمُتَرَدِّيَةُ قال: التي تتردّى من الجبل فتموت وَالنَّطِيحَةُ قال: الشاة التي تنطح الشاة

__________

(1) . البقرة: 150.

(2) . غرثى: جوعى.

(2/14)

________________________________________

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

وَما أَكَلَ السَّبُعُ يَقُولُ: مَا أَخَذَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ يَقُولُ: ذَبَحْتُمْ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ رُوحٌ فَكُلُوهُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قَالَ: النُّصُبُ أَنْصَابٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ وَيُهِلُّونَ عَلَيْهَا وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قَالَ:

هِيَ الْقِدَاحُ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْأُمُورِ. ذلِكُمْ فِسْقٌ يَعْنِي مَنْ أَكَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَهُوَ فِسْقٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الرَّدَاةُ الَّتِي تَتَرَدَّى فِي الْبِئْرِ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قَالَ: حَصَى بِيضٍ كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا أَوْ سَفَرًا يَعْمِدُونَ إِلَى قِدَاحٍ ثَلَاثَةٍ يَكْتُبُونَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا: أَمَرَنِي، وَعَلَى الْآخَرِ: نَهَانِي، وَيَتْرُكُونَ الثَّالِثَ مُخَلَّلًا بَيْنَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُجِيلُونَهَا، فَإِنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ أَمَرَنِي، مَضَوْا لِأَمْرِهِمْ، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ نَهَانِي، كَفُّوا، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَعَادُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ قَالَ: يَئِسُوا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ يَئِسَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَبَدًا فَلا تَخْشَوْهُمْ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ وَاخْشَوْنِ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا كَانَ وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ وَالْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَ اللَّهَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَقُولُ: حَلَالُكُمْ وَحَرَامُكُمْ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قَالَ: مِنَّتِي، فَلَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ وَرَضِيتُ يَقُولُ: اخْتَرْتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ:

أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُمُ الْإِيمَانَ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَتَمَّهُ فَلَا يَنْقُصُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ فَلَا يُسْخِطُهُ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ طَارِقِ بْنِ شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالُوا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشيّة عرفة في يوم جمعة. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ يَعْنِي إِلَى مَا حُرِّمَ مِمَّا سُمِّيَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَخْمَصَةٍ يَعْنِي فِي مَجَاعَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ يَقُولُ: غَيْرَ متعمّد لإثم.

 

[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5]

يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)

(2/15)

________________________________________

هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ بَعْدَ بَيَانِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. قَوْلُهُ:

مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أُحِلَّ لَهُمْ؟ أَوْ مَا الَّذِي أُحِلَّ لَهُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ إِجْمَالًا وَمِنَ الصَّيْدِ وَمِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ؟ قَوْلُهُ: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هِيَ مَا يَسْتَلِذُّهُ آكِلُهُ وَيَسْتَطِيبُهُ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَقِيلَ: هِيَ الْحَلَالُ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَقِيلَ: الطَّيِّبَاتُ: الذَّبَائِحُ لِأَنَّهَا طَابَتْ بِالتَّذْكِيَةِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَالسَّبَبُ وَالسِّيَاقُ لَا يَصْلُحَانِ لِذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ هو مَعْطُوفٌ عَلَى الطَّيِّبَاتِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ لِتَصْحِيحِ الْمَعْنَى: أَيْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَأُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَّمْتُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ: أَيْ عُلِّمْتُمْ مِنْ أَمْرِ الْجَوَارِحِ وَالصَّيْدِ بِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ مَنْ صَنَّفَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَنَاوَلَتْ مَا عَلَّمْنَا مِنَ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْكَلْبَ وَسَائِرَ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ إِبَاحَةَ سَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ: وَهُوَ الْأَكْلُ مِنَ الْجَوَارِحِ.

أَيِ الْكَوَاسِبُ مِنَ الْكِلَابِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ. قَالَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ، وَعَلَّمَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ صَيْدِهِ الَّذِي صَادَهُ، وَأَثَّرَ فِيهِ بِجُرْحٍ أَوْ تَنْيِيبٍ، وَصَادَ بِهِ مُسْلِمٌ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ أَنَّ صيده صحيح يؤكل بلا خلاف. فإن انخزم شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ دَخَلَ الْخِلَافُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَادُ بِهِ غَيْرُ كَلْبٍ كَالْفَهْدِ وما أشبه، وَكَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الطَّيْرِ فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا صَادَ بَعْدَ التَّعْلِيمِ فَهُوَ جَارِحٌ كَاسِبٌ، يُقَالُ: جُرِحَ فُلَانٌ وَاجْتَرَحَ: إِذَا اكْتَسَبَ، وَمِنْهُ الْجَارِحَةُ لِأَنَّهُ يُكْتَسَبُ بِهَا، وَمِنْهُ اجْتِرَاحُ السَّيِّئَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ «1» . وَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ

«2» . قَوْلُهُ: مُكَلِّبِينَ حَالٌ، وَالْمُكَلِّبُ: مُعَلِّمُ الْكِلَابِ لِكَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ، وَالْأَخَصُّ مُعَلِّمُ الْكِلَابِ وَإِنْ كَانَ مُعَلِّمَ سَائِرِ الْجَوَارِحِ مِثْلَهُ، لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ بِالْكِلَابِ هُوَ الْغَالِبُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مَعَ أَنَّ التَّكْلِيبَ هُوَ التَّعْلِيمُ، لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ التَّعْلِيمِ وَقِيلَ: إِنَّ السَّبُعَ يُسَمَّى كَلْبًا فَيَدْخُلُ كُلُّ سَبْعٍ يُصَادُ بِهِ وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةً بِالْكِلَابِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا يُصَادُ بِالْبُزَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّيْرِ فَمَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ، وَإِلَّا فَلَا تَطْعَمْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَسُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الْبَازِي هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ هِيَ الْكِلَابُ خَاصَّةً، فإن كان الكلب الأسود بَهِيمًا فَكَرِهَ صَيْدَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِيهِ إِذَا كَانَ بَهِيمًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ. فَأَمَّا عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ فَيَرَوْنَ جَوَازَ صَيْدِ كُلِّ كَلْبٍ مُعَلَّمٍ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ صَيْدِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، والحق أنه يَحِلَّ صَيْدُ كُلِّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْجَوَارِحِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ الْأَسْوَدِ مِنَ الْكِلَابِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ الطَّيْرِ وَغَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ سُؤَالُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ صَيْدِ الْبَازِي كَمَا سَيَأْتِي. قَوْلُهُ: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِمَّا أَدْرَكْتُمُوهُ بِمَا خَلَقَهُ فيكم من العقل الذي تهتدون به

__________

(1) . الأنعام: 60.

(2) . الجاثية: 21.

(2/16)

________________________________________

إِلَى تَعْلِيمِهَا وَتَدْرِيبِهَا حَتَّى تَصِيرَ قَابِلَةً لِإِمْسَاكِ الصَّيْدِ عِنْدَ إِرْسَالِكُمْ لَهَا. قَوْلُهُ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، وَالْجُمْلَةُ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَحْلِيلِ صَيْدِ مَا عَلَّمُوهُ مِنَ الْجَوَارِحِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ بَعْضَ الصَّيْدِ لَا يُؤْكَلُ كَالْجِلْدِ وَالْعَظْمِ وَمَا أَكَلَهُ الْكَلْبُ وَنَحْوُهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُمْسِكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ الصَّيْدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْجَارِحُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ. وَقَالَ عَطَاءُ ابن أَبِي رَبَاحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَقَوْلُهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرْسَلَتْ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» . وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ، فَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّهُ إِنْ أَكَلَ عَقِبَ مَا أَمْسَكَهُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ لِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ ثُمَّ انْتَظَرَ صَاحِبَهُ فَطَالَ عَلَيْهِ الِانْتِظَارُ وَجَاعَ فَأَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ لِجُوعِهِ لَا لِكَوْنِهِ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْثَرُ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمُ بِهِ الصَّيْدُ، وَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، وَحَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ حُرِّمَ لِحَدِيثِ عَدِيٍّ، وَإِنْ أَكَلَ غَيْرَهُ لَمْ يَحْرُمْ لِلْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَقِيلَ: يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَلَى مَا إِذَا أَمْسَكَهُ وَخَلَّاهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَكَلَ مِنْهُ.

وَقَدْ سَلَكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ وَلَمْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ الْجَمْعِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبُعْدِ، قَالُوا: وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَرْجَحُ لِكَوْنِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ قَرَّرْتُ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي شَرْحِي لِلْمُنْتَقَى بِمَا يَزِيدُ النَّاظِرَ فِيهِ بَصِيرَةً. قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ يَعُودُ إِلَى مَا عَلَّمْتُمْ أي سمّوا عليه عند إرساله، أو مما أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. أَيْ سَمُّوا عَلَيْهِ إِذَا أَرَدْتُمْ ذَكَاتَهُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ إِرْسَالِ الْجَارِحِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِلَفْظِ:

«إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ وَإِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ» . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الْأَكْلِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الْإِرْشَادُ إِلَى التَّسْمِيَةِ وَهَذَا خطأ، فإن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ قَدْ وَقَّتَ التَّسْمِيَةَ بِإِرْسَالِ الْكَلْبِ وَإِرْسَالِ السَّهْمِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ حُكْمٌ آخَرُ، وَمَسْأَلَةٌ غَيْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُنَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَلَا مُلْجِئَ إِلَى ذَلِكَ، وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ: «إِنْ أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَكُلْ» . وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ فَقَطْ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ عَلَى الذَّاكِرِ لَا النَّاسِي، وَهَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَأَرْجَحُهَا. قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ

(2/17)

________________________________________

أَيْ حِسَابُهُ سُبْحَانَهُ سَرِيعٌ إِتْيَانُهُ وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الطَّيِّبَاتِ. قَوْلُهُ: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ الطَّعَامُ: اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ، وَمِنْهُ الذَّبَائِحُ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى تَخْصِيصِهِ هُنَا بِالذَّبَائِحِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ طَعَامِ أَهْلِ الْكُتُبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمُ اسْمَ اللَّهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ، وَإِنْ ذَكَرَ الْيَهُودِيُّ عَلَى ذَبِيحَتِهِ اسْمَ عُزَيْرٍ، وَذَكَرَ النَّصْرَانِيُّ عَلَى ذَبِيحَتِهِ اسْمَ الْمَسِيحِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعِبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمَكْحُولٌ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ: إِذَا سَمِعْتَ الْكِتَابِيَّ يُسَمِّي غَيْرَ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلْ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالْحَسَنُ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ «1» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:

وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ. فَهَذَا الْخِلَافُ إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ذَكَرُوا عَلَى ذَبَائِحِهِمُ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ حَكَى الْكِيَا الطَّبَرِيُّ «2» وَابْنُ كَثِيرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى حِلِّهَا لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَكْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنَ الشَّاةِ الْمَصْلِيَّةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ الْجِرَابُ الشَّحْمُ الَّذِي أَخَذَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ خَيْبَرَ وَعَلِمَ بذلك النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا وَغَيْرُ ذَلِكَ.

وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَمَّا الْمَجُوسُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا لَا تُؤْكَلْ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَبُو ثَوْرٍ كَاسْمِهِ، يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِمَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: «سَنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ لَهُ أَصْلًا فَفِيهِ زِيَادَةٌ تَدْفَعُ مَا قَالَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: «غَيْرَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نَاكِحِي نِسَائِهِمْ» . وَقَدْ رَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِفَنِّ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْأَصْلُ وَلَا الزِّيَادَةُ، بَلِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَأَمَّا بَنُو تَغْلَبَ فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَنْهَى عَنْ ذَبَائِحِهِمْ لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ كَتَنُوخَ وَجُذَامٍ وَلَخْمٍ وَعَامِلَةَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بَأْسًا بِذَبِيحَةِ نَصَارَى بَنِي تَغْلَبَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ إِنَّ ذَبِيحَةَ كُلِّ نَصْرَانِيٍّ حَلَالٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَنِي تَغْلَبَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ. قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ كَالطَّعَامِ يَجُوزُ أَكْلُهُ. قَوْلُهُ: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أَيْ وَطَعَامُ الْمُسْلِمِينَ حَلَالٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُطْعِمُوا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ من أعراض الطعام حلال

__________

(1) . الأنعام: 121.

(2) . هو علي بن محمد بن علي، أبو الحسن الطبري، المعروف بالكيا الهرّاسي، فقيه، مفسّر (ت 504 هـ) .

(2/18)

________________________________________

لَهُمْ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ. قَوْلُهُ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا، فَقِيلَ:

الْعَفَائِفُ، وَقِيلَ: الْحَرَائِرُ. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ. وَالْمُحْصَنَاتُ مُبْتَدَأٌ، وَمِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَصْفٌ لَهُ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ حِلٌّ لَكُمْ، وَذَكَرَهُنَّ هُنَا تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْمُرَادُ بِهِنَّ الْحَرَائِرُ دُونَ الْإِمَاءِ، هَكَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَعُمُّ كُلَّ كِتَابِيَّةٍ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ وَقِيلَ:

الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ:

لَا تَحِلُّ النَّصْرَانِيَّةُ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ: رَبُّهَا عِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الْآيَةَ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخَصِّصَةٌ لِلْكِتَابِيَّاتِ مِنْ عُمُومِ الْمُشْرِكَاتِ فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ حَمَلَهَا عَلَى الْحَرَائِرِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:

فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَخَالَفَهُمْ مَنْ قَالَ:

إِنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ أَوْ تَخُصُّ الْعَفَائِفَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ الْحُرَّةُ الْعَفِيفَةُ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْحُرَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَفِيفَةٍ وَالْأَمَةُ الْعَفِيفَةُ، عَلَى قَوْلِ من يقول: إنه يجوز استعمال المشترك فِي كِلَا مَعْنَيَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ فَإِنْ حَمَلَ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا عَلَى الْحَرَائِرِ لَمْ يَقُلْ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَفِيفَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ عَفِيفَةٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَيَقُولُ: بِجَوَازِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ عَفِيفَةٍ، وَإِنْ حَمَلَ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا عَلَى الْعَفَائِفِ قَالَ: بِجَوَازِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ وَالْأَمَةِ الْعَفِيفَةِ دُونَ غَيْرِ الْعَفِيفَةِ مِنْهُمَا. قَوْلُهُ: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أَيْ مُهُورَهُنَّ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ: أَيْ فَهُنَّ حَلَالٌ، أَوْ هِيَ ظَرْفٌ لِخَبَرِ الْمُحْصَنَاتِ الْمُقَدَّرِ: أَيْ حِلٌّ لَكُمْ. قَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ: أَيْ حَالَ كَوْنِكُمْ أَعِفَّاءَ بِالنِّكَاحِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحِينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُحْصِنِينَ أَوْ صِفَةٌ لِمُحْصِنِينَ، وَالْمَعْنَى: غَيْرُ مُجَاهِرِينَ بِالزِّنَا. قَوْلُهُ: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مَعْطُوفٌ عَلَى غَيْرَ مُسافِحِينَ أَوْ عَلَى مُسافِحِينَ. وَلا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْخِدْنُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. أَيْ لَمْ يَتَّخِذُوا مَعْشُوقَاتٍ، فَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ فِي الرِّجَالِ الْعِفَّةَ وَعَدَمَ الْمُجَاهَرَةِ بِالزِّنَا وَعَدَمَ اتِّخَاذِ أَخْدَانٍ، كَمَا شَرَطَ فِي النِّسَاءِ أَنْ يَكُنَّ مُحْصَنَاتٍ.

وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أَيْ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أَيْ بَطَلَ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ وَقَرَأَ ابن السّميقع فَقَدْ حَبَطَ بِفَتْحِ الْبَاءِ اه.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فِي النَّاسِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَدِيَّ ابن حَاتِمٍ وَزَيْدَ بْنَ الْمُهَلْهِلِ الطَّائِيَّيْنِ سَأَلَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِالْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله، ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام لمحمد رشيد رضا

  حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح  المحمدي العام لمحمد رشيد رضا تعليق: محمد ناصر الدين الألباني  ( صحيح ) عن عائشة رضي الله ...