كتاب صفة الجنة للحافظ ضياء المقدسي

كتاب صفة الجنة -الحافظ ضياء الدين-أأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي

Translate

الثلاثاء، 17 يناير 2023

ج23وج24.الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي

 

23. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)

قوله تعالى:" وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ" أي يخذله" فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ" هذا فيمن أعرض عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما دعاه إليه من الايمان بالله والمودة في القربى، ولم يصدقه في البعث وأن متاع الدنيا قليل. أي من أضله الله عن هذه الأشياء فلا يهديه هاد. قوله تعالى:" وَتَرَى الظَّالِمِينَ" أي الكافرين." لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ" يعني جهنم. وقيل رأوا العذاب عند الموت." يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ" يطلبون أن يردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله فلا يجابون إلى ذلك.

[سورة الشورى (42): آية 45]
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45)
قوله تعالى:" وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها" أي على النار لأنها عذابهم، فكنى عن العذاب المذكور بحرف التأنيث، لان ذلك العذاب هو النار، وإن شئت جهنم، ولو راعى اللفظ لقال عليه. ثم قيل: هم المشركون جميعا يعرضون على جهنم عند انطلاقهم إليها، قاله الأكثرون. وقيل: آل فرعون خصوصا، تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح، فهو عرضهم عليها، قاله ابن مسعود. وقيل: إنهم عامة المشركين، تعرض عليهم ذنوبهم في قبورهم، ويعرضون على العذاب في قبورهم، وهذا معنى قول أبي الحجاج." خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ" ذهب بعض القراء إلى الوقف على" خاشِعِينَ". وقوله:" مِنَ الذُّلِّ" متعلق ب" يَنْظُرُونَ". وقيل: متعلق ب" خاشِعِينَ". والخشوع الانكسار والتواضع. ومعنى" يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ" أي لا يرفعون أبصارهم للنظر رفعا تاما، لأنهم ناكسو الرؤوس. والعرب تصف الذليل بغض الطرف، كما يستعملون في ضده حديد النظر إذا لم يتهم بريبة فيكون عليه منها غضاضة. وقال مجاهد:" مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ" أي ذليل، قال: وإنما ينظرون بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا، وعين القلب طرف خفي. وقال قتادة والسدي والقرظي وسعيد بن جبير: يسارقون النظر من شدة الخوف. وقيل: المعنى ينظرون من

وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)

عين ضعيفة النظر. وقال يونس:" من" بمعنى الباء، أي ينظرون بطرف خفي، أي ضعيف من الذل والخوف، ونحوه عن الأخفش. وقال ابن عباس: بطرف ذابل ذليل. وقيل: أي يفزعون أن ينظروا إليها بجميع أبصارهم لما يرون من أصناف العذاب." وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ" أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حل بالكفار إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإنهم خسروا أنفسهم لأنهم في العذاب المخلد، وخسروا أهليهم لان الأهل إن كانوا في النار فلا انتفاع بهم، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينه وبينهم. وقيل: خسران الأهل أنهم لو آمنوا لكان لهم أهل في الجنة من الحور العين. وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات «1» فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى:" أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ" [المؤمنون: 10]. وقد تقدم «2». وفي مسند الدارمي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من أحد يدخله الله الجنة إلا زوجه اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين وسبعين من ميراثه من أهل النار وما منهن واحدة إلا ولها قبل شهي وله ذكر لا ينثني (. قال هشام ابن خالد:) من ميراثه من أهل النار) يعني رجالا أدخلوا النار فورث أهل الجنة نساءهم كما ورثت امرأة فرعون." أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ" أي دائم لا ينقطع. ثم يجوز أن يكون هذا من قول المؤمنين، ويجوز أن يكون ابتداء من الله تعالى

[سورة الشورى (42): آية 46]
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
قوله تعالى:" وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ" أي أعوانا ونصراء" يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ" أي من عذابه" وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ" أي طريق يصل به إلى الحق في الدنيا والجنة في الآخرة، لأنه قد سدت عليه طريق النجاة.
__________
(1). في ز ل: فإذا مات الرجل ودخل النار.
(2). راجع ج 12 ص 108 [.....]

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)

[سورة الشورى (42): آية 47]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
قوله تعالى:" اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ" أي أجيبوه إلى ما دعاكم إليه من الايمان به والطاعة. استجاب وأجاب بمعنى، وقد تقدم." مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ" يريد يوم القيامة، أي لا يرده أحد بعد ما حكم الله به وجعله أجلا ووقتا." ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ" أي من ملجأ ينجيكم من العذاب." وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ" أي من ناصر ينصركم، قاله مجاهد. وقيل: النكير بمعنى المنكر، كالأليم بمعنى المؤلم، أي لا تجدون يومئذ منكرا لما ينزل بكم من العذاب، حكاه ابن أبى حاتم، وقاله الكلبي. الزجاج: معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها. وقيل:" مِنْ نَكِيرٍ" أي إنكار ما ينزل بكم من العذاب، والنكير والإنكار تغيير المنكر.

[سورة الشورى (42): آية 48]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
قوله تعالى:" فَإِنْ أَعْرَضُوا" أي عن الايمان" فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً" أي حافظا لأعمالهم حتى تحاسبهم عليها. وقيل: موكلا بهم لا تفارقهم دون أن يؤمنوا، أي ليس لك إكراههم على الايمان." إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ" وقيل: نسخ هذا بآية القتال." وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ" الكافر." مِنَّا رَحْمَةً" رخاء وصحة." فَرِحَ بِها" بطر بها." وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ" بلاء وشدة." بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ" أي لما تقدم من النعمة فيعدد المصائب وينسى النعم.

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

[سورة الشورى (42): الآيات 49 الى 50]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
قوله تعالى:" لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ" فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" ابتداء وخبر." يَخْلُقُ ما يَشاءُ" من الخلق." يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ" قال أبو عبيدة وأبو مالك ومجاهد والحسن والضحاك: يهب لمن يشاء إناثا لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء ذكورا لا إناثا معهم، وأدخل الالف واللام على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف. وقال واثلة بن الأسقع: إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، وذلك أن الله تعالى قال:" يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ" فبدأ بالإناث." أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً" قال مجاهد: هو أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية، ثم تلد غلاما ثم تلد جارية. وقال محمد بن الحنفية: هو أن تلد توأما، غلاما وجارية، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. قال القتبي: التزويج ها هنا هو الجمع بين البنين والبنات، تقول العرب: زوجت إبلي إذا جمعت بين الكبار والصغار." وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً" أي لا يولد له، يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم. وعقمت المرأة تعقم عقما، مثل حمد يحمد. وعقمت تعقم، مثل عظم يعظم. وأصله القطع، ومنه الملك العقيم، أي تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق خوفا على الملك. وريح عقيم، أي لا تلقح سحابا ولا شجرا. ويوم القيامة يوم عقيم، لأنه لا يوم بعده. ويقال: نساء عقم وعقم، قال الشاعر «1»:
عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم
__________
(1). في لسان العرب:" قال أبو دهبل يمدح عبد الله بن الأزرق المخزومي. وقيل هو للحزين الليثي".

وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصا وإن عم حكمها. وهب للوط الإناث ليس معهن ذكر، ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى، ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث، وجعل عيسى ويحيى عقيمين، ونحوه عن ابن عباس وإسحاق بن بشر. قال إسحاق: نزلت في الأنبياء، ثم عمت." يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً" يعني لوطا عليه السلام، لم يولد له ذكر وإنما ولد له ابنتان." وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ" يعني إبراهيم عليه السلام لم يولد له أنثى بل ولد له ثمانية ذكور." أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً" يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولد له أربعة بنين وأربع بنات." وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً" يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام، لم يذكر عيسى. ابن العربي: قال علماؤنا" يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً" يعني لوطا كان له بنات ولم يكن له ابن." وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ" يعني إبراهيم، كان له بنون ولم يكن له بنت. وقوله" أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً" يعني آدم، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ذكرا وأنثى، ويزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر، حتى أحكم الله التحريم في شرع نوح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذلك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له ذكور وإناث من الأولاد: القاسم والطيب والطاهر وعبد الله «1» وزينب وام كلثوم ورقية وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم وهو من مارية القبطية. وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا، إلى أن تقوم الساعة، على هذا التقدير المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة، ليبقى النسل، ويتمادى الخلق، وينفذ الوعد، ويحق الامر، وتعمر الدنيا، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها ويبقى. ففي الحديث: (إن النار لن تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه «2»، فتقول قط قط «3». وأما الجنة فيبقى منها فينشئ الله لها خلقا آخر.) الثانية- قال ابن العربي: إن الله تعالى لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شي، وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شيء لا عن حاجة، فانه قدوس
__________
(1). القول الأصح أن الذكور ثلاثة: القاسم وعبد الله (ويسمى بالطيب والطاهر) وابراهيم. راجع شرح المواهب اللدنية.
(2). قال القسطلاني:" أي يذللها تذليل من يوضع تحت الرجل، والعرب تضع الأمثال بالأعضاء ولا تريد أعيانها كقولها للنادم: سقط في يده".
(3). قوله:" قط قط" بكسر الطاء وسكونها فيهما، ويجوز التنوين مع الكسر والمعنى: حسبي حسبي قد اكتفيت.

عن الحاجات سلام عن الآفات، كما قال القدوس السلام، فخلق آدم من الأرض وخلق حواء من آدم وخلق النشأة من بينهما منهما مرتبا على الوطي كائنا عن الحمل موجودا في الجنين بالوضع، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة اذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل أنثى «1»). وكذلك في الصحيح أيضا (إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله (. قلت: وهذا معنى حديث عائشة لا لفظه خرجه مسلم من حديث عروة بن الزبير عنها أن امرأة قالت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء؟ فقال: (نعم) فقالت لها عائشة: تربت يداك وألت «2»، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دعيها وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك. إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه (. قال علماؤنا: فعلى مقتضى هذا الحديث أن العلو يقتضي الشبه، وقد جاء في حديث ثوبان خرجه مسلم أيضا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لليهودي: (ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة اذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثى بإذن الله ... (الحديث. فجعل في هذا الحديث أيضا العلو يقتضي الذكورة والأنوثة، فعلى مقتضى الحديثين يلزم اقتران الشبه للأعمام والذكورة إن علا مني الرجل، وكذلك يلزم إن علا مني المرأة اقتران الشبه للأخوال والأنوثة، لأنهما معلولا علة واحدة، وليس الامر كذلك بل الوجود بخلاف ذلك، لأنا نجد الشبه للأخوال والذكورة والشبه للأعمام والأنوثة فتعين تأويل أحد الحديثين. والذي يتعين تأويله الذي في حديث ثوبان فيقال: إن ذلك العلو معناه سبق الماء إلى الرحم، ووجهه أن العلو لما كان معناه الغلبة من قولهم سابقني فلان فسبقته أي غلبته، ومنه قوله تعالى:
__________
(1). روى بالمد وتخفيف النون وبالقصر وتشديد النون.
(2). قوله:" تربت يداك". معناه: ما أصبت! وهو في الأصل بمعنى صار في يدك التراب ولا أصبت خيرا أي افتقرت، لكن لا يريدون به الدعاء على المخاطب، كما يقولون: قاتله الله، إلى غير ذلك. قوله" وألت": أي صاحت لما أصابها من شدة هذا الكلام. وروى بضم الهمزة مع التشديد، أي طعنت بالأدلة وهي الحربة. قال ابن الأثير: وفية بعد، لأنه لا يلائم لفظ الحديث.

" وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ" [الواقعة: 60] أي بمغلوبين قيل «1» عليه: علا. ويؤيد هذا التأويل قوله في الحديث: (إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة اذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل أنثى). وقد بنى القاضي أبو بكر بن العربي على هذه الأحاديث بناء فقال: إن للماءين أربعة أحوال: الأول أن يخرج ماء الرجل أولا، الثاني أن يخرج ماء المرأة أولا، الثالث أن يخرج ماء الرجل أولا ويكون أكثر، الرابع أن يخرج ماء المرأة أولا ويكون أكثر. ويتم التقسيم بأن يخرج ماء الرجل أولا ثم يخرج ماء المرأة بعده ويكون أكثر أو بالعكس، فإذا خرج ماء الرجل أولا وكان أكثر جاء الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه الولد أعمامه بحكم الكثرة. وإن خرج ماء المرأة أولا وكان أكثر جاء الولد أنثى بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم الغلبة. وإن خرج ماء الرجل أولا لكن لما خرج ماء المرأة بعده كان أكثر كان الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة. وإن سبق ماء المرأة لكن لما خرج ماء الرجل كان أعلى من ماء المرأة كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة وأشبه أعمامه بحكم غلبة ماء الرجل. قال: وبانتظام هذه الأقسام يستتب الكلام ويرتفع التعارض عن الأحاديث، فسبحان الخالق العليم. الثالثة- قال علماؤنا: كانت الخلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الاولى الخنثى فأتي به فريض العرب ومعمرها «2» عامر بن الظرب فلم يدر ما يقول فيه وأرجأهم عنه، فلما جن عليه الليل تنكر موضعه، وأقض عليه مضجعه، وجعل يتقلى ويتقلب، وتجيء به الأفكار وتذهب، إلى أن أنكرت خادمه حاله فقالت: ما بك؟ قال لها: سهرت لأمر قصدت به فلم أدر ما أقول فيه؟ فقالت ما هو؟ قال لها: رجل له ذكر وفرج كيف يكون حاله في الميراث؟ قالت له الامة: ورثه من حيث يبول، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم وانقلبوا بها راضين. وجاء الإسلام على ذلك فلم تنزل إلا في عهد علي رضي الله عنه فقضى فيها. وقد روى الفرضيون عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث؟ قال: من حيث يبول. وروي
__________
(1). في ل هـ: قيل غلبه.
(2). في ابن العربي:" ومعتمدها". ويقال أنه عاش ثلاثمائة عام.

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

أنه أتى بخنثى من الأنصار فقال: (ورثوه من أول ما يبول). وكذا روى محمد بن الحنفية عن علي، ونحوه عن ابن عباس، وبه قال ابن المسيب وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وحكاه المزني عن الشافعي. وقال قوم: لا دلالة في البول، فان خرج البول منهما جميعا قال أبو يوسف: يحكم بالأكثر. وأنكره أبو حنيفة وقال: أتكيله! ولم يجعل أصحاب الشافعي للكثرة حكما. وحكي عن علي والحسن أنهما قالا: تعد أضلاعه، فان المرأة تزيد على الرجل بضلع واحد. وقد مضى ما للعلماء في هذا في آية المواريث في" النساء" «1» مجودا والحمد لله. الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد أنكر قوم من رءوس العوام وجود الخنثى، لان الله تعالى قسم الخلق إلى ذكر وأنثى. قلنا: هذا جهل باللغة، وغباوة عن مقطع الفصاحة، وقصور عن معرفة سعة القدرة. أما قدرة الله سبحانه فانه واسع عليم، وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى، لان الله تعالى قال:" لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ". فهذا عموم مدح فلا يجوز تخصيصه، لان القدرة تقتضيه. وأما قوله" يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً" فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات، وسكت عن ذكر «2» النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول، والوجود يشهد له والعيان يكذب منكره، وقد كان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الامام الشهيد من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية، فربك أعلم به، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله.

[سورة الشورى (42): آية 51]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
__________
(1). راجع ج 5 ص 65 فما بعدها.
(2). لفظة ذكر ساقطة من ح ز ل.

فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى" وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً" سبب ذلك أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن موسى لن ينظر إليه) فنزل قوله" وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً"، ذكره النقاش والواحدي والثعلبي." وَحْياً" قال مجاهد: نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاما، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن روح القدس نفث في روعي «1» إن نفسا لن تموت حتى تستكمل، رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. خذوا ما حل ودعوا ما حرم)." أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ" كما كلم موسى." أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا" كارساله جبريل عليه السلام. وقيل:" إِلَّا وَحْياً" رؤيا يراها في منامه، قاله محمد بن زهير." أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ" كما كلم موسى." أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا" قال زهير هو جبريل عليه السلام." فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ" وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقا ويرونه عيانا. وهكذا كانت حال جبريل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عباس: نزل جبريل عليه السلام على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا عليهم السلام. فأما غيرهم فكان وحيا إلهاما في المنام. وقيل" إِلَّا وَحْياً" بإرسال جبريل" أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ" كما كلم موسى." أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا" إلى الناس كافة. وقرا الزهري وشيبة ونافع" أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ" برفع الفعلين. الباقون بنصبهما. فالرفع على الاستئناف، أي وهو يرسل. وقيل:" يرسل" بالرفع في موضع الحال، والتقدير إلا موحيا أو مرسلا. ومن نصب عطفوه على محل الوحي، لان معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي أو يرسل. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حذف الجار من أن المضمرة. ويكون في موضع الحال، التقدير أو بأن يرسل رسولا. ولا يجوز أن يعطف" أَوْ يُرْسِلَ" بالنصب على" أَنْ يُكَلِّمَهُ" لفساد المعنى، لأنه يصير: ما كان لبشر أن يرسله أو أن يرسل إليه رسولا، وهو قد أرسل الرسل من البشر وأرسل إليهم.
__________
(1). الروع (بالضم): القلب والعقل. والروع (بالفتح): الفزع.

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

الثانية- احتج بهذه الآية من رأى فيمن حلف ألا يكلم رجلا فأرسل إليه رسولا أنه حانث، لان المرسل قد سمي فيها مكلما للمرسل إليه، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب. قال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يحلف ألا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا، فقال الثوري: الرسول ليس بكلام. وقال الشافعي: لا يبين أن يحنث. وقال النخعي: والحكم في الكتاب يحنث. وقال مالك: يحنث في الكتاب والرسول. وقال مرة: الرسول أسهل من الكتاب. وقال أبو عبيد: الكلام سوى الخط والإشارة. وقال أبو ثور: لا يحنث في الكتاب. قال ابن المنذر: لا يحنث في الكتاب والرسول. قلت: وهو قول مالك. قال أبو عمر: ومن حلف ألا يكلم رجلا فسلم عليه عامدا أو ساهيا، أو سلم على جماعة هو فيهم فقد حنث في ذلك كله عند مالك. وإن أرسل إليه رسولا أو سلم عليه في الصلاة لم يحنث. قلت: يحنث في الرسول إلا أن ينوي المشافهة، للآية، وهو قول مالك وابن الماجشون. وقد مضى في أول" سورة مريم" «1» هذا المعنى عن علمائنا مستوفى، والحمد لله.

[سورة الشورى (42): الآيات 52 الى 53]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ" أي وكالذي أوحينا إلى الأنبياء من قبلك أوحينا إليك" رُوحاً" أي نبوة، قاله ابن عباس. الحسن وقتادة: رحمة من عندنا. السدي: وحيا. الكلبي: كتابا. الربيع: هو جبريل. الضحاك: هو القرآن. وهو قول
__________
(1). راجع ج 11 ص 86

مالك بن دينار. وسماه روحا لان فيه حياة من موت الجهل. وجعله من أمره بمعنى أنزله كما شاء على من يشاء من النظم المعجز والتأليف المعجب. ويمكن أن يحمل قوله" وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ"»
[الاسراء: 85] على القرآن أيضا" قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" [الاسراء: 85] أي يسئلونك من أين لك هذا القرآن، قل إنه من أمر الله أنزله علي معجزا، ذكره القشيري. وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض. الثانية- قوله تعالى:" ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ" أي لم تكن تعرف الطريق إلى الايمان. وظاهر هذا يدل على أنه ما كان قبل الإيحاء متصفا بالايمان. قال القشيري: وهو من مجوزات «2» العقول، والذي صار إليه المعظم ان الله ما بعث نبيا إلا كان مؤمنا به قبل البعثة. وفية تحكم، إلا أن يثبت ذلك بتوقيف مقطوع به. قال القاضي أبو الفضل عياض: وأما عصمتهم من هذا الفن «3» قبل النبوة فللناس فيه خلاف، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك. وقد تعاضدت الاخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والايمان، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك، كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم عليهم السلام. قال الله تعالى" وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا" «4» [مريم: 12] قال المفسرون: أعطي يحيى العلم بكتاب الله في حال صباه. قال معمر: كان ابن سنتين أو ثلاث، فقال له الصبيان: لم لا تلعب! فقال: اللعب خلقت! وقيل في قوله" مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ" «5» [آل عمران: 39] صدق يحيى بعيسى وهو ابن ثلاث سنين، فشهد له أنه كلمة الله وروحه وقيل: صدقه وهو في بطن أمه، فكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك تحية له. وقد نص الله على كلام عيسى لامه عند ولادتها إياه بقوله" أَلَّا تَحْزَنِي" «6» [مريم: 24] على قراءة من قرأ"
__________
(1). راجع ج 10 ص 323.
(2). في ل: معجزات وفي ن: تجوزات [.....]
(3). كذا في الأصل
(4). راجع ج 11 ص 87 و94.
(5). راجع ج 4 ص 76.
(6). راجع ج 11 ص 87 و94.

مِنْ تَحْتِها"، وعلى قول من قال إن المنادى عيسى ونص على كلامه في مهده فقال" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي «1» نَبِيًّا" [مريم: 30]. وقال:" فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً" «2» [الأنبياء: 79] وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبي يلعب في قصة المرجومة وفي قصة الصبي ما اقتدى به أبوه داود. وحكى الطبري أن عمره كان حين أوتي الملك اثني عشر عاما. وكذلك قصة موسى مع فرعون واخذه بلحيته وهو طفل. وقال المفسرون في قوله تعالى" وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ" «3» [الأنبياء: 51]: أي هديناه صغيرا، قاله مجاهد وغيره. وقال ابن عطاء: اصطفاه قبل إبداء خلقه. وقال بعضهم: لما ولد إبراهيم بعث الله إليه ملكا يأمره عن الله تعالى أن يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال: قد فعلت، ولم يقل أفعل، فذلك رشده. وقيل: إن إلقاء إبراهيم في النار ومحنته كانت وهو ابن ست عشرة سنة. وإن ابتلاء إسحاق بالذبح وهو ابن سبع سنين. وإن استدلال إبراهيم بالكوكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمس عشرة سنة «4». وقيل أوحي إلى يوسف وهو صبي عند ما هم إخوته بإلقائه في الجب بقوله تعالى:" وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ «5» هذا" [يوسف: 15] الآية، إلى غير ذلك من أخبارهم. وقد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد حين ولد باسطا يديه إلى الأرض رافعا رأسه إلى السماء، وقال في حديثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أعد (. ثم يتمكن الامر لهم، وتترادف نفحات الله تعالى عليهم، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم حتى يصلوا الغاية ويبلغوا باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة ولا رياضة. قال الله تعالى:" وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً" «6» [يوسف: 22]. قال القاضي: ولم ينقل أحد من أهل الاخبار أن أحدا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك. ومستند هذا الباب النقل. وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله.
__________
(1). آية 79 سورة الأنبياء.
(2). آية 79 سورة الأنبياء.
(3). آية 79 سورة الأنبياء.
(4). في الأصول:" خمسة عشر شهرا" راجع ج 7 ص 25.
(5). آية 5 سورة يوسف.
(6). آية 14 سورة القصص.

قال القاضي: وأنا أقول إن قريشا قد رمت نبينا عليه السلام بكل ما افترته، وعير كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها واختلقته، مما نص الله عليه أو نقلته إلينا الرواة، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهتهم وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه. ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين، ويتلونه في معبوده محتجين، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركه آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل، ففي إطباقهم على الاعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه، إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة وقالوا" ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها" «1» [البقرة: 142] كما حكاه الله عنهم. الثالثة- وتكلم العلماء في نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل كان متعبدا بدين قبل الوحي أم لا، فمنهم من منع ذلك مطلقا وأحاله عقلا. قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح. وقالت فرقة أخرى بالوقف في أمره عليه السلام وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك، إذ لم يحل الوجهين منهما العقل ولا استبان عندها «2» في أحدهما طريق النقل، وهذا مذهب أبي المعالي. وقالت فرقة ثالثة: إنه كان متعبدا بشرع من قبله وعاملا به، ثم اختلف هؤلاء في التعيين، فذهبت طائفة إلى أنه كان على دين عيسى فإنه ناسخ لجميع الأديان والملل قبلها، فلا يجوز أن يكون النبي على دين منسوخ. وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين إبراهيم، لأنه من ولده وهو أبو الأنبياء. وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين موسى، لأنه أقدم الأديان. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بد أن يكون على دين ولكن عين الدين غير معلومة عندنا. وقد أبطل هذه الأقوال كلها أئمتنا، إذ هي أقوال متعارضة وليس فيها دلالة قاطعة، وإن كان العقل يجوز ذلك كله. والذي يقطع به أنه عليه السلام لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته ومخاطبا بكل شريعته، بل شريعته مستقلة بنفسها مفتتحة من عند الله الحاكم عز وجل وأنه
__________
(1). راجع ج 2 ص 147
(2). في الأصول:" عندهما".

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مؤمنا بالله عز وجل، ولا سجد لصنم، ولا أشرك بالله، ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر «1» ولا حضر حلف المطر «2» ولا حلف المطيبين «3»، بل نزهه الله وصانه عن ذلك. فإن قيل: فقد روى عثمان بن أبي شيبة حديثا بسنده عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه أحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى تقوم خلفه، فقال الآخر: كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام فلم يشهدهم بعد؟ فالجواب أن هذا حديث أنكره الامام أحمد بن حنبل جدا وقال: هذا موضوع أو شبيه بالموضوع. وقال الدارقطني: إن عثمان وهم في إسناده، والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه، والمعروف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافه عند أهل العلم من قوله: (بغضت إلي الأصنام) وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللات والعزى إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي، وراي فيه علامات النبوة فاختبره بذلك، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما) فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال: (سل عما بدا لك). وكذلك المعروف من سيرته عليه السلام وتوفيق الله إياه له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج، وكان يقف هو بعرفة، لأنه كان
__________
(1). الموضع الذي يجتمعون للسمر فيه.
(2). كذا في الأصول. [.....]
(3). في الأصول:" المطيب". قال ابن الأثير:" أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلوات الله عليه: (لا حلف في الإسلام). وما كان منه في الجاهلية على نصرة المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذلك الذي قال فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام. والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام". ويلاحظ أنه قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين). اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه وتحالفوا على التناصر والأخذ من المظلوم للظالم، فسموا المطيبين. وقال عليه السلام: (شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت). قال ابن الأثير: يعني حلف الفضول. (راجع نهاية ابن الأثير مادة حلف. طيب. فضل).

موقف إبراهيم عليه السلام. فإن قيل: فقد قال الله تعالى:" قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ" «1» [البقرة: 135] وقال:" أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ" «2» [النحل: 12] وقال:" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ" «3» [الشورى: 13] الآية. وهذا يقتضي أن يكون متعبدا بشرع. فالجواب أن ذلك فيما لا تختلف فيه الشرائع من التوحيد وإقامة الدين، على ما تقدم بيانه في غير موضع وفي هذه السورة عند قوله" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ" [الشورى: 13] والحمد لله. الرابعة- إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في تأويل قوله تعالى:" ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ". فقال جماعة: معنى الايمان في هذه الآية شرائع الايمان ومعالمه، ذكره الثعلبي. وقيل: تفاصيل هذا الشرع، أي كنت غافلا عن هذه التفاصيل. ويجوز إطلاق لفظ الايمان على تفاصيل الشرع، ذكره القشيري: وقيل: ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الايمان، ونحوه عن أبي العالية. وقال بكر القاضي: ولا الايمان الذي هو الفرائض والأحكام. قال: وكان قبل مؤمنا بتوحيده ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فزاد بالتكليف إيمانا. وهذه الأقوال الاربعة متقاربة. وقال ابن خزيمة: عنى بالايمان الصلاة، لقوله تعالى" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" «4» [البقرة: 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عاما والمراد الخصوص. وقال الحسين بن الفضل: أي ما كنت تدري ما الكتاب ولا أهل الايمان. وهو من باب حذف المضاف، أي من الذي يؤمن؟ أبو طالب أو العباس أو غيرهما. وقيل: ما كنت تدري شيئا إذ كنت في المهد وقبل البلوغ. وحكى الماوردي نحوه عن علي بن عيسى قال: ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة، ولا الايمان لولا البلوغ. وقيل: ما كنت تدري ما الكتاب لولا أنعامنا عليك، ولا الايمان لولا هدايتنا لك، وهو محتمل. وفي هذا الايمان وجهان: أحدهما أنه الايمان بالله، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته. والثاني- أنه دين الإسلام، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة.
__________
(1). آية 135 سورة البقرة.
(2). آية 123 سورة النحل.
(3). آية 13 من هذه السورة.
(4). آية 135 سورة البقرة.

قلت: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مؤمنا بالله عز وجل من حين نشأ إلى حين بلوغه، على ما تقدم. وقيل:" ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ" أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الايمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم، وهو كقوله تعالى:" وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ" «1» [العنكبوت: 48] روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما." وَلكِنْ جَعَلْناهُ" قال ابن عباس والضحاك: يعني الايمان. السدي: القرآن. وقيل الوحي، أي جعلنا هذا الوحي" نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ" أي من نختاره للنبوة، كقوله تعالى:" يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ" «2» [آل عمران: 74]. ووحد الكناية لان الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل في الاسم الواحد، ألا ترى أنك تقول: إقبالك وإدبارك يعجبني، فتوحد، وهما اثنان." وَإِنَّكَ لَتَهْدِي" أي تدعو وترشد" إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" دين قويم لا اعوجاج فيه. وقال علي: إلى كتاب مستقيم. وقرا عاصم الجحدري وحوشب" وإنك لتهدي" غير مسمى الفاعل، أي لتدعى. الباقون" لتهدي" مسمى الفاعل. وفي قراءة أبي" وإنك لتدعو". قال النحاس: وهذا لا يقرأ به، لأنه مخالف للسواد، وإنما يحمل ما كان مثله على أنه من قائله على جهة التفسير، كما قال" وَإِنَّكَ لَتَهْدِي" أي لتدعو. وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى" وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" قال:" وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ" «3» [الرعد: 7 [." صِراطِ اللَّهِ" بدل من الأول بدل المعرفة من النكرة. قال على: هو القرآن. وقيل الإسلام. ورواه النواس بن سمعان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ" ملكا وعبد اوخلقا." أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ" وعيد بالبعث والجزاء. قال سهل بن أبي الجعد: احترق مصحف فلم يبق إلا قوله" ألا إلى الله تصير الأمور" وغرق مصحف فامحى كله إلا قوله" أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ". والحمد لله وحده.
__________
(1). آية 48 سورة العنكبوت.
(2). آية 105 سورة البقرة.
(3). راجع ج 9 ص 285.

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)

[تفسير سورة الزخرف ]
سورة الزخرف مكية بإجماع. وقال مقاتل: إلا قوله" وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا" «1» [الزخرف: 45]. وهي تسع وثمانون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
قوله تعالى:" حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ". تقدم «2» الكلام فيه. وقيل:" حم" قسم." وَالْكِتابِ الْمُبِينِ" قسم ثان، ولله أن يقسم بما شاء. والجواب" إِنَّا جَعَلْناهُ". وقال ابن الأنباري: من جعل جواب" وَالْكِتابِ"" حم"- كما تقول نزل والله وجب والله- وقف على" الْكِتابِ الْمُبِينِ". ومن جعل جواب القسم" إِنَّا جَعَلْناهُ" لم يقف على" الْكِتابِ الْمُبِينِ". ومعنى" جَعَلْناهُ" أي سميناه ووصفناه، ولذلك تعدى إلى مفعولين، كقوله تعالى:" ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ" «3» [المائدة: 103]. وقال السدي: أي أنزلناه قرآنا. مجاهد: قلناه. الزجاج وسفيان الثوري: بيناه." عَرَبِيًّا" أي أنزلناه بلسان العرب، لان كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال مقاتل: لان لسان أهل السماء عربي. وقيل: المراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة على الأنبياء، لان الكتاب اسم جنس فكأنه أقسم بجميع ما أنزل من الكتب أنه جعل القرآن عربيا. والكناية في قوله" جَعَلْناهُ" ترجع إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة، كقوله تعالى:" إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" «4».] القدر: 1]." لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" أي تفهمون أحكامه ومعانيه. فعلى هذا القول يكون خاصا للعرب دون العجم، قاله ابن عيسى. وقال ابن زيد: المعنى لعلكم تتفكرون، فعلى هذا يكون خطابا عاما «5» للعرب والعجم. ونعت الكتاب بالمبين لان الله بين فيه أحكامه وفرائضه، على ما تقدم في غير موضع.
__________
(1). آية (45)
(2). راجع 15 ص (289)
(3). آية 103 سورة المائدة.]
(4). راجع ج 20 ص 129
(5). لفظة عاما ساقطة من ح ز ك هـ

وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)

[سورة الزخرف (43): آية 4]
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
قوله تعالى:" وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ" يعني القرآن في اللوح المحفوظ" لَدَيْنا" عندنا" لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" أي رفيع محكم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض، قال الله تعالى:" إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ" «1» [الواقعة: 78- 77] وقال تعالى:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ «2» مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" [البروج: 22- 21]. وقال ابن جريج: المراد بقوله تعالى" وَإِنَّهُ" أي «3» أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية." لَعَلِيٌّ" أي رفيع عن أن ينال فيبدل" حَكِيمٌ" أي محفوظ من نقص أو تغيير. وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق، فالكتاب عنده، ثم قرأ" وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ". وكسر الهمزة من" أُمِّ الْكِتابِ" حمزة والكسائي. وضم الباقون، وقد تقدم».

[سورة الزخرف (43): آية 5]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) قوله تعالى:" أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً" يعني: القرآن، عن الضحاك وغيره. وقيل: المراد بالذكر العذاب، أي أفنضرب عنكم العذاب «5» ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم، قاله مجاهد وأبو صالح والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال ابن عباس: المعنى أفحسبتم أن نصفح عنكم العذاب ولما تفعلوا ما أمرتم به. وعنه أيضا أن المعنى أتكذبون بالقرآن ولا تعاقبون. وقال السدي أيضا: المعنى أفنترككم سدى فلا نأمركم ولا ننهاكم. وقال قتادة: المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وعنه أيضا: أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به فلا ننزله عليكم. وقاله ابن زيد. قال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رددته أوائل هذه الامة لهلكوا، ولكن الله ردده وكرره عليهم برحمته. وقال الكسائي: أفنطوي عنكم الذكر طيا فلا توعظون ولا تؤمرون. وقيل: الذكر التذكر، فكأنه قال أنترك تذكيركم لان كنتم قوما مسرفين، في قراءة من فتح. ومن كسر جعلها للشرط
__________
(1). آية 77 سورة الواقعة. [.....]
(2). آية 21 سورة البروج.
(3). لفظة أى ساقطة من جميع النسخ ما عدا أ
(4). راجع ج 5 ص 72
(5). ما بين المربعين ساقط من ل

وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

وما قبلها جوابا لها، لأنها لم تعمل في اللفظ. ونظيره:" وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" «1» [البقرة: 278] وقيل: الجواب محذوف دل عليه ما تقدم، كما تقول: أنت ظالم إن فعلت. ومعنى الكسر عند الزجاج الحال، لان في الكلام معنى التقرير والتوبيخ. ومعنى" صَفْحاً" إعراضا، يقال: صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته. والأصل فيه صفحة العنق، يقال: أعرضت عنه أي وليته صفحة عنقي. قال الشاعر «2»:
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن مل منها ذلك الوصل ملت
وانتصب" صَفْحاً" على المصدر لان معنى" أَفَنَضْرِبُ" أفنصفح. وقيل: التقدير أفنضرب عنكم الذكر صافحين، كما يقال: جاء فلان مشيا. ومعنى" مُسْرِفِينَ" مشركين. واختار أبو عبيدة الفتح في" أَنْ" وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، قال: لان الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم، وعلمه قبل ذلك من فعلهم.

[سورة الزخرف (43): الآيات 6 الى 8]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
قوله تعالى:" وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ" كم" هنا خبرية والمراد بها التكثير، والمعنى ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء. كما قال" كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ" «3» [الدخان: 25] أي ما أكثر ما تركوا." وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ" أي لم يكن يأتيهم نبي" إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ" كاستهزاء قومك بك. يعزي نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسليه." فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً" أي قوما أشد منهم قوة. والكناية في" مِنْهُمْ" ترجع إلى المشركين المخاطبين بقوله" أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً" فكنى عنهم بعد أن خاطبهم. و" أَشَدَّ" نصب على الحال. وقيل هو مفعول، أي فقد أهلكنا
__________
(1). آية 278 سورة البقرة.
(2). هو كثير عزة.
(3). آية 25 سورة الدخان.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)

أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم." وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ" أي عقوبتهم، عن قتادة. وقيل: صفة الأولين، فخبرهم بأنهم أهلكوا على كفرهم، حكاه النقاش والمهدوي. والمثل: الوصف والخبر.

[سورة الزخرف (43): آية 9]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
قوله تعالى:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ" يعني المشركين." مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ" فأقروا له بالخلق والإيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم. وقد مضى في غير «1» موضع.

[سورة الزخرف (43): آية 10]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
قوله تعالى:" الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً" وصف نفسه سبحانه بكمال القدرة. وهذا ابتداء إخبار منه عن نفسه، ولو كان هذا إخبارا عن قول الكفار لقال الذي جعل لنا الأرض." مِهاداً" فراشا وبساطا. وقد تقدم «2» .. وقرا الكوفيون" مَهْداً"" جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا" أي معايش. وقيل طرقا، لتسلكوا منها إلى حيث أردتم." لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" فتستدلون بمقدوراته على قدرته. وقيل" لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" في أسفاركم، قاله ابن عيسى. وقيل: لعلكم تعرفون نعمة الله عليكم، قاله سعيد بن جبير. وقيل: تهتدون إلى معايشكم.

[سورة الزخرف (43): آية 11]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
قوله تعالى:" وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ" قال ابن عباس: أي لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم، بل هو بقدر لا طوفان مغرق ولا قاصر عن الحاجة، حتى
__________
(1). راجع ج 6 ص 384 وما بعدها.
(2). راجع ج 11 ص 209

وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

يكون معاشا لكم ولأنعامكم." فَأَنْشَرْنا" أي أحيينا." بِهِ" أي بالماء." بَلْدَةً مَيْتاً" أي مقفرة من النبات." كَذلِكَ تُخْرَجُونَ" أي من قبوركم، لان من قدر على هذا قدر على ذلك. وقد مضى في" الأعراف" مجودا. «1» وقرا يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر" يخرجون" بفتح الياء وضم الراء. الباقون على الفعل المجهول.

[سورة الزخرف (43): الآيات 12 الى 14]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ" أي والله الذي خلق الأزواج. قال سعيد بن جبير: أي الأصناف كلها. وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات والأرض والشمس والقمر والجنة والنار. وقيل: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، قاله ابن عيسى. وقيل: أراد أزواج النبات، كما قال تعالى:" وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" «2» [ق: 7] و" مِنْ كُلِّ زَوْجٍ «3» كَرِيمٍ" [لقمان: 10]. وقيل ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر، وإيمان وكفر، ونفع وضر، وفقر وغنى، وصحة وسقم. قلت: وهذا القول يعم الأقوال كلها ويجمعها بعمومه." وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ" السفن" والْأَنْعامِ" الإبل" ما تَرْكَبُونَ" في البر والبحر." لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ" ذكر الكناية لأنه رده إلى ما في قوله" ما تَرْكَبُونَ"، قاله أبو عبيد. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد لان المراد به الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجيش والجند، فلذلك ذكر، وجمع الظهور، أي على ظهور هذا الجنس.
__________
(1). راجع ج 7 ص (230)
(2). آية 7 سورة ق.
(3). آية 7 سورة الشعراء.

الثانية- قال سعيد بن جبير: الانعام هنا الإبل والبقر. وقال أبو معاذ: الإبل وحدها، وهو الصحيح لقوله عليه السلام: (بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث) فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر [. وما هما «1» في القوم. وقد مضى هذا في أول سورة" النحل" «2» مستوفى والحمد لله. الثالثة- قوله تعالى:" لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ" يعني به الإبل خاصة بدليل ما ذكرنا. ولان الفلك إنما تركب بطونها، ولكنه ذكرهما جميعا في أول الآية وعطف أخرها على أحدهما. ويحتمل أن يجعل ظاهرهما باطنهما، لان الماء غمره وستره وباطنهما ظاهرا، لأنه انكشف للظاهرين وظهر للمبصرين. الرابعة- قوله تعالى:" ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ" أي ركبتم عليه وذكر النعمة هو الحمد لله على تسخير ذلك لنا في البر والبحر." وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا" أي ذلل لنا هذا المركب. وفي قراءة علي بن أبي طالب" سبحان من سخر لنا هذا"." وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ" أي مطيقين، في قول ابن عباس والكلبي. وقال الأخفش وأبو عبيدة:" مُقْرِنِينَ" ضابطين. وقيل: مماثلين في الأيد والقوة، من قولهم: هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة. ويقال: فلان مقرن لفلان أي ضابط له. وأقرنت كذا أي أطقته. وأقرن له أي أطاقه وقوى عليه، كأنه صار له قرنا. قال الله تعالى:" وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ" أي مطيقين. وأنشد قطرب قول عمرو بن معد يكرب:
لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا
وقال آخر:
ركبتم صعبتي أشرا وحيفا ... ولستم للصعاب بمقرنينا
والمقرن أيضا: الذي غلبته ضيعته، يكون له إبل أو غنم ولا معين له عليها، أو يكون يسقي إبله ولا ذائد له يذودها. قال ابن السكيت: وفي أصله قولان: أحدهما- أنه مأخوذ من الاقران، يقال: أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق. وأقرنت كذا إذا أطقته وحكمته، كأنه جعله
__________
(1). أي أبو بكر وعمر لم يكونا حاضرين.
(2). راجع ج 10 ص 72 [.....]

في قرن- وهو الحبل- فأوثقه به وشده. والثاني- أنه مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير، يقال: قرنت كذا بكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه. الخامسة- علمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، وهي قوله تعالى:" وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" «1» [هود: 41] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت «2» أو طاح من ظهرها فهلك «3». وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا. فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور واتصالا بأسباب من أسباب التلف أمر ألا ينسى عند اتصاله به يومه، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منفلت من قضائه. ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدا للقاء الله بإصلاحه من نفسه. والحذر من أن يكون وركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه. حكى سليمان بن يسار أن قوما كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا:" سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ" وكان فيهم رجل على ناقة له رازم- وهي التي لا تتحرك هزالا «4»- فقال: أما أنا فإني لهذه لمقرن، قال: فقمصت به فدقت عنقه. وروي أن أعرابيا ركب قعودا له وقال إني لمقرن له فركضت به القعود «5» حتى صرعته فاندقت عنقه. ذكر الأول الماوردي والثاني ابن العربي. قال: وما ينبغي لعبد أن يدع قول هذا وليس بواجب ذكره باللسان، فيقول متى ركب وخاصة في السفر إذا تذكر:" سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ" اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والجور بعد الكور، وسوء المنظر في الأهل والمال، يعني ب" الجور بعد الكور" تشتت أمر الرجل بعد اجتماعه. وقال عمرو بن دينار: ركبت مع أبي جعفر إلى أرض له نحو حائط يقال لها مدركة، فركب
__________
(1). آية 41 سورة هود.
(2). تقحم الفرس براكبه ألقاء على وجهه.
(3). في الأصول:" فهلكت".
(4). وجد على هامش نسخة من الأصل بخط ناسخه:" الرازم من الإبل: الثابت على الأرض الذي لا يقوم من الهزال. وقد رزمت الناقة ترزم وترزم رزوما ورزاما قامت من الإعياء والهزال فلم يتحرك فهي رازم. قاله الجوهري في "الصحاح".
(5). هذه عبارة ابن العربي والأصول: ويلاحظ أن القعود مذكر

على جمل صعب فقلت له: أبا جعفر! أما تخاف أن يصرعك؟ فقال إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (على سنام كل بعير شيطان إذا ركبتموها فاذكروا اسم الله كما أمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله (. وقال علي بن ربيعة: شهدت علي بن أبي طالب ركب دابة يوما فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على الدابة قال الحمد لله، ثم قال" سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ" ثم قال: الحمد لله والله أكبر- ثلاثا- اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك فقلت له: ما أضحكك؟ قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صنع كما صنعت، وقال كما قلت، ثم ضحك فقلت له ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (العبد- أو قال- عجبا لعبد أن يقول اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب «1» غيره (. خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكامه. وذكر الثعلبي نحوه مختصرا عن علي رضي الله عنه، ولفظه عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا وضع رجله في الركاب قال: (باسم الله- فإذا استوى قال- الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون وإذا نزلتم من الفلك والانعام فقولوا اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين (. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: من ركب ولم يقل" سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ" قال له الشيطان تغنه، فإن لم يحسن قال له تمنه، ذكره النحاس. ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه: تعالوا نتنزه على الخيل أو في بعض الزوارق، فيركبون حاملين مع أنفسهم أواني الخمر والمعازف، فلا يزالون يستقون حتى تمل طلاهم «2» وهم على ظهور الدواب أو في بطون السفن وهي تجري بهم، لا يذكرون إلا الشيطان، ولا يمتثلون إلا أوامره. الزمخشري: ولقد بلغني أن بعض السلاطين ركب وهو يشرب الخمر من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر، فلم يصح إلا بعد ما اطمأنت به الدار، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به، فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمر الله به في هذه الآية!؟
__________
(1). في ح ن هـ: الذنب
(2). الطلاء: ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه. وبعض العرب يسمى الخمر الطلاه، يريد بذلك تحسين اسمها.

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)

[سورة الزخرف (43): آية 15]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
قوله تعالى:" وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً" أي عدلا، عن قتادة. يعني ما عبد من دون الله عز وجل. الزجاج والمبرد: الجزء ها هنا البنات، عجب المؤمنين من جهلهم إذ أقروا بأن خالق السموات والأرض هو الله ثم جعلوا له شريكا «1» أو ولدا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به، لان هذا من صفات النقص. قال الماوردي: والجزء عند أهل العربية البنات، يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات، قال الشاعر:
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا
الزمخشري: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث متحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتا، وبيتا:
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... زوجتها من بنات الأوس مجزئة «2»
وإنما قوله" وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً" متصل بقوله" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ" أي ولين سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى" مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً" أن قالوا الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا «3»، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له. وقرى" جزوا" بضمتين." إِنَّ الْإِنْسانَ" يعني الكافر." لَكَفُورٌ مُبِينٌ" قال الحسن: يعد المصائب وينسى النعم." مبين" مظهر الكفر.
__________
(1). في ل: شركاء.
(2). وتمامه كما في اللسان مادة جزأ:
للعوسج اللدن في أبياتها زجل

(3). في ز: بضعا.

أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)

[سورة الزخرف (43): آية 16]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
قوله تعالى:" أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ" الميم صلة، تقديره اتخذ مما يخلق بنات كما زعمتم أن الملائكة بنات الله، فلفظه لفظ الاستفهام ومعناه التوبيخ." وأصفاكم بالبنين أي اختصكم وأخلصكم بالبنين، يقال: أصفيته بكذا، أي آثرته به. وأصفيته الود أخلصته له. وصافيته وتصافينا تخالصنا. عجب من إضافتهم إلى الله اختيار البنات مع اختيارهم لأنفسهم البنين، وهو مقدس عن أن يكون له ولد إن توهم جاهل أنه اتخذ لنفسه ولدا فهلا أضاف إليه أرفع الجنسين! ولم جعل هؤلاء لأنفسهم أشرف الجنسين وله الأخس؟ وهذا كما قال تعالى:" أَلَكُمُ الذَّكَرُ «1» وَلَهُ الْأُنْثى . تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى " [النجم: 22- 21].

[سورة الزخرف (43): آية 17]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
قوله تعالى:" وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا" أي بأنه ولدت له بنت" ظَلَّ وَجْهُهُ" أي صار وجهه" مُسْوَدًّا" قيل ببطلان مثله الذي ضربه. وقيل: بما بشر به من الأنثى، دليله في سورة النحل" وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى " «2» [النحل: 58]. ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له قد ولدت له أنثى «3» اغتم واربد وجهه غيظا وتأسفا وهو مملوء من الكرب. وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت:
ما لابي حمزة «4» لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا ... وإنما نأخذ ما أعطينا
وقرى" مسودا، ومسواد". وعلى قراءة الجماعة يكون وجهه اسم" ظل" و" مسودا" خبر" ظل". ويجوز أن يكون في" ظل" ضمير عائد على أحد وهو اسمها، و" وجهه"
__________
(1). آية 21 سورة النجم.
(2). راجع ج 10 ص 116.
(3). في ك: ولدت لك
(4). في رواية" جمرة" بالجيم. وفي بلوغ الارب للآلوسي:" لابي والذلقاء". [.....]

أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)

بدل من الضمير. و" مسودا" خبر" ظل". ويجوز أن يكون رفع" وَجْهُهُ" بالابتداء، ويرفع" مُسْوَدًّا" على أنه خبره، وفي" ظل" اسمها والجملة خبرها." وَهُوَ كَظِيمٌ" أي حزين، قاله قتادة. وقيل مكروب، قاله عكرمة. وقيل ساكت، قاله ابن أبي حاتم، وذلك لفساد مثله وبطلان حجته. ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله فقد جعل الملائكة شبها لله، لان الولد من جنس الوالد وشبهه. ومن اسود وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسود وجهه بإضافة مثل ذلك إلى من هو أجل منه، فكيف إلى الله عز وجل! وقد مضى في" النحل" في معنى هذه الآية ما فيه كفاية «1».

[سورة الزخرف (43): الآيات 18 الى 19]
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
قوله تعالى:" أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ" فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا" أي يربى ويشب. والنشوء: التربية، يقال: نشأت في بني فلان نشأ ونشوءا إذا شببت فيهم. ونشئ وأنشئ بمعنى. وقرا ابن عباس والضحاك وابن وثاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف" يُنَشَّؤُا" بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين، أي يربى ويكبر في الحلية. واختاره أبو عبيد، لان الاسناد فيها أعلى. وقرا الباقون" يُنَشَّؤُا" بفتح الياء وإسكان النون، واختاره أبو حاتم، أي يرسخ وينبت، وأصله من نشأ أي ارتفع، قاله الهروي. ف" ينشأ" متعد، و" ينشأ" لازم. الثانية- قوله تعالى:" فِي الْحِلْيَةِ" أي في الزينة. قال ابن عباس وغيره: هن الجواري زيهن غير زي الرجال. قال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير، وقرا هذه الآية. قال الكيا: فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه والاخبار فيه لا تحصى.
__________
(1). راجع ج 10 ص 116

قلت- روي عن أبي هريرة أنه كان يقول لابنته: يا بنية، إياك والتحلي بالذهب! فإني أخاف عليك اللهب. قوله تعالى:" وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ" أي في المجادلة والأدلاء بالحجة. قال قتادة: ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها. وفي مصحف عبد الله" وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ". ومعنى الآية: أيضاف إلى الله من هذا وصفه! أي لا يجوز ذلك. وقيل: المنشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة وحلوها، قاله ابن زيد والضحاك. ويكون معنى" وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ" على هذا القول: أي ساكت عن الجواب. و" مَنْ" في محل نصب، أي اتخذوا لله من ينشأ في الحلية. ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء والخبر مضمر، قاله الفراء. وتقديره: أو من كان على هذه الحالة يستحق العبادة. وإن شئت قلت خفض ردا إلى أول الكلام وهو قوله" بِما ضَرَبَ"، أو على" مِمَّا" في قوله" مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ". وكون البدل في هذين الموضعين ضعيف لكون ألف الاستفهام حائله بين البدل والمبدل منه." وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً" قرأ الكوفيون" عِبادُ" بالجمع. واختاره أبو عبيد، لان الاسناد فيها أعلى، ولان الله تعالى إنما كذبهم في قولهم إنهم بنات الله، فأخبرهم أنهم عبيد وأنهم ليسوا ببناته. وعن ابن عباس أنه قرأ" عِبادُ الرَّحْمنِ"، فقال سعيد بن جبير: إن في مصحفي" عبد الرحمن" فقال: امحها واكتبها" عِبادُ الرَّحْمنِ". وتصديق هذه القراءة قوله تعالى:" بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ" «1» [الأنبياء: 26]. وقوله تعالى:" أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ" «2» [الكهف: 102]. وقوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ" «3» [الأعراف: 194]. وقرا الباقون" عند الرحمن" بنون ساكنة، واختاره أبو حاتم. وتصديق هذه القراءة قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ" «4» وقوله" وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ" «5» [الأنبياء: 19]. والمقصود إيضاح كذبهم وبيان جهلهم
__________
(1). آية 26 سورة الأنبياء.
(2). آية 102 سورة الكهف.
(3). آية 194 سورة الأعراف.
(4). آخرة سورة الأعراف.
(5). آية 19 سورة الأنبياء.

وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)

في نسبة الأولاد إلى الله سبحانه، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث وهم بنات الله. وذكر العباد مدح لهم، أي كيف عبدوا من هو في نهاية العبادة، ثم كيف حكموا بأنهم إناث من غير دليل. والجعل هنا بمعنى القول والحكم، تقول: جعلت زيدا أعلم الناس، أي حكمت له بذلك." أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ" أي أحضروا حالة خلقهم حتى حكموا بأنهم إناث. وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألهم وقال:] فما يدريكم أنهم إناث [؟ فقالوا: سمعنا بذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا في أنهم إناث، فقال الله تعالى:" سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ" أي يسئلون عنها في الآخرة. وقرا نافع" أوشهدوا"»
بهمزة استفهام داخلة على همزة مضمومة مسهلة، ولا يمد سوى ما روى المسيبي عنه أنه يمد. وروى المفضل عن عاصم مثل ذلك وتحقق الهمزتين. والباقون" أَشَهِدُوا" بهمزة واحدة للاستفهام. وروي عن الزهري" أشهدوا خلقهم" على الخبر،" ستكتب" قراءة العامة بضم التاء على الفعل المجهول" شَهادَتُهُمْ" رفعا. وقرا السلمى وابن السميقع وهبيرة عن حفص" سنكتب" بنون،" شَهادَتُهُمْ" نصبا بتسمية الفاعل. وعن أبي رجاء" ستكتب شهاداتهم" بالجمع.

[سورة الزخرف (43): آية 20]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20)
قوله تعالى:" وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ" يعني قال المشركون على طريق الاستهزاء والسخرية: لو شاء الرحمن على زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة. وهذا منهم كلمة حق أريد بها باطل. وكل شيء بإرادة الله، وإرادته تجب وكذا علمه فلا يمكن الاحتجاج بها، وخلاف المعلوم والمراد مقدور وإن لم يقع. ولو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أن الله أراد منهم ما حصل منهم. وقد مضى هذا المعنى في الانعام عند قوله" سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا" «2» [الانعام: 148] وفي يس:" أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ" «3» [يس: 47]. وقوله" ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ" مردود إلى
__________
(1). رسمنا هكذا تصويرا للنطق.
(2). راجع ج 7 ص 3 (128)
(3). راجع ج 15 ص 37

أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)

قوله" وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً" [الزخرف: 19] أي ما لهم بقولهم: الملائكة بنات الله، من علم، قاله قتادة ومقاتل والكلبي. وقال مجاهد وابن جريج: يعني الأوثان، أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم." مِنْ" صلة." إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ" أي يحدسون ويكذبون، فلا عذر لهم في عبادة غير الله عز وجل. وكان في ضمن كلامهم أن الله أمرنا بهذا أو أرضى ذلك منا، ولهذا لم ينهنا ولم يعاجلنا بالعقوبة.

[سورة الزخرف (43): آية 21]
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
هذا معادل لقوله" أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ". والمعنى: أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتابا من قبله، أي من قبل القرآن بما ادعوه، فهم به متمسكون يعملون بما فيه.

[سورة الزخرف (43): الآيات 22 الى 23]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" عَلى أُمَّةٍ" أي على طريقة ومذهب، قاله عمر بن عبد العزيز. وكان يقرأ هو ومجاهد وقتادة" على إمة" بكسر الالف. والامة الطريقة. وقال الجوهري: والامة (بالكسر): النعمة. والامة أيضا لغة في الامة، وهي الطريقة والدين، عن أبي عبيدة. قال عدي بن زيد في النعمة:
ثم بعد الفلاح والملك والا ... مه وارتهم هناك القبور
عن غير الجوهري. وقال قتادة وعطية:" على أمة" على دين، ومنه فول قيس بن الخطيم:
كنا على أمة ءابائنا ... ويقتدي الآخر بالأول

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)

قال الجوهري: والامة الطريقة والدين، يقال: فلان لا أمة له، أي لا دين له ولا نحلة. قال الشاعر:
وهل يستوي ذو أمة وكفور

وقال مجاهد وقطرب: على دين على ملة. وفي بعض المصاحف" قالوا إنا وجدنا آباءنا على ملة" وهذه الأقوال متقاربة. وحكي عن الفراء على ملة على قبلة الأخفش: على استقامة، وأنشد قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
الثانية-" وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ" أي نهتدي بهم. وفي الآية الأخرى" مُقْتَدُونَ" أي نقتدي بهم، والمعنى واحد. قال قتادة: مقتدون متبعون. وفي هذا دليل على إبطال التقليد، لذمه إياهم على تقليد آبائهم وتركهم النظر فيما دعاهم إليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد مضى القول في هذا في" البقرة" مستوفى «1». وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد ابن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش، أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا. يعزي نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونظيره:" ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك" «2» [فصلت: 43]. والمترف: المنعم، والمراد هنا الملوك والجبابرة.

[سورة الزخرف (43): آية 24]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)
قوله تعالى:" قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى " أي قل يا محمد لقومك: أو ليس قد جئتكم من عند الله بأهدى، يريد بأرشد." مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ" يعني بكل ما أرسل به الرسل. فالخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولفظه لفظ الجمع، لان تكذيبه تكذيب لمن سواه. وقرى" قل وقال وجئتكم وجئناكم" يعني أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وان جئتنا بما هو أهدى. وقد مضى في" البقرة" «3» القول في التقليد وذمة فلا معنى لإعادته.
__________
(1). راجع ج 2 ص 211 فما بعدها، طبعه ثانية.
(2). آية 43 سورة فصلت.
(3). آية 43 سورة فصلت.

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

[سورة الزخرف (43): آية 25]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
قوله تعالى:" فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ" بالقحط والقتل والسبي" فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" آخر أمر من كذب الرسل.] وقراءة العامة «1»" قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ". وقرا ابن عامر وحفص" قال أولو" على الخبر عن النذير أنه قال لهم هذه المقالة. وقرا أبو جعفر" قل أولو جئناكم" بنون وألف، على أن المخاطبة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جميع الرسل. [

[سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 27]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
قوله تعالى:" وَإِذْ قالَ" أي ذكرهم إذ قال." إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ" البراء يستعمل للواحد فما فوقه فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، لأنه مصدر وضع موضع النعت، لا يقال: البراءان والبراءون، لان المعنى ذو البراء وذوو البراء. قال الجوهري: وتبرأت من كذا، وأنا منه براء، وخلاء منه، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل، مثل: سمع سماعا. فإذا قلت: أنا برئ منه وخلي ثنيت وجمعت وأنثت، وقلت في الجمع: نحن منه برآء مثل فقيه وفقهاء، وبراء أيضا مثل كريم وكرام، وإبراء مثل شريف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء، وبريئون. وامرأة بريئة وهما بريئتان وهن بريئات وبرايا. ورجل برئ وبراء مثل عجيب وعجاب. والبراء (بالفتح) أول ليلة من الشهر، سميت بذلك لتبرؤ القمر من الشمس." إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي" استثناء متصل، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم. قال قتادة: كانوا يقولون الله ربنا، مع عبادة الأوثان. ويجوز أن يكون منقطعا، أي لكن الذي فطرني فهو يهدين. قال ذلك ثقة بالله وتنبيها لقومه أن الهداية من ربه.

[سورة الزخرف (43): آية 28]
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
__________
(1). ما بين المربعين من الآية السابقة.

فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً" الضمير في" جَعَلَها" عائد على قوله" إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي". وضمير الفاعل في" جَعَلَها" لله عز وجل، أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه، وهم ولده وولد ولده، أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب من يأتي بعده. وقال السدي: هم آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن عباس: قوله" فِي عَقِبِهِ" أي في خلفه. وفي الكلام تقديم وتأخير، المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه. أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. قال مجاهد وقتادة: الكلمة لا إله إلا الله. قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال الضحاك: الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله. عكرمة: الإسلام، لقوله تعالى" هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ" «1» [الحج: 78]. القرظي: وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه وهو قوله" يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى ، لَكُمُ الدِّينَ".] البقرة: 132]- الآية المذكورة في البقرة «2»- كلمة باقية في ذريته وبنيه. وقال ابن زيد: الكلمة قوله" أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ" [البقرة: 131] وقرا" هو سماكم المسلمين من قبل". وقيل: الكلمة النبوة. قال ابن العربي: ولم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم. والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم. الثانية- قال ابن العربي: إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالاحقاب بدعوتيه المجابتين، إحداهما في قوله" إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" «3» [البقرة: 124] فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد. ثانيهما قوله" وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ" «4» [إبراهيم: 35]. وقيل: بل الاولى قوله" وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ" «5» [الشعراء: 84] فكل أمة تعظمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح. الثالثة- قال ابن العربي: جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى «6» والتحبيس. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1). آخر سورة الحج. [.....]
(2). آية (132)
(3). آية 124 سورة البقرة.
(4). آية 35 سورة إبراهيم.
(5). آية 84 سورة الشعراء.
(6). العمرى (كحبلى): تمليك الشيء مدة العمر.

(أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث). وهي ترد على أحد عشر لفظا: اللفظ الأول- الولد، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد من الرجل وامرأته في الإناث والذكور. وعن ولد الذكور دون الإناث لغة وشرعا، ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد الإناث لأنه من قوم آخرين، ولذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ، قاله مالك في المجموعة وغيرها. قلت: هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى" يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ" «1» [النساء: 11]. وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس، يقول المحبس: حبست على ولدي أو على عقبي. وهذا اختيار أبي عمر بن عبد البر وغيره، واحتجوا بقول الله عز وجل:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ" «2» [النساء: 23]. قالوا: فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو عقبه. وقد مضى هذا المعنى في" الانعام" «3» مستوفى. اللفظ الثاني- البنون، فإن قال: هذا حبس على ابني، فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد. ولو قال ولدي، لتعدى وتعدد في كل من ولد. وإن قال على بني، دخل فيه الذكور والإناث. قال مالك: من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك. روى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته فإن بنات بنته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه. والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين. فإن قيل فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحسن ابن ابنته: (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). قلنا: هذا مجاز، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه، ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني، ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه،
__________
(1). آية 11 سورة النساء.
(2). آية 23 سورة النساء.
(3). راجع ج 7 ص 31

لان الحقائق لا تنفى عن منتسباتها «1». ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه، ولذلك قيل في عبد الله بن عباس: إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية. قلت: هذا الاستدلال غير صحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، ولان أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ" [النساء: 23]. وقال تعالى" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ- إلى قوله- مِنَ الصَّالِحِينَ" «2» [الانعام: 85- 84] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدم بيانه هناك. فان قيل فقد قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
قيل لهم: هذا لا دليل فيه، لان معنى قوله إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك، إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسمية ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد لأنه ابن، وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بابني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا، ولا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه. ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا فقد أفسد معناه وأبطل فائدته، وتأول على قائله ما لا يصح، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا، ولا يسمى ولد الابنة ابنا، من أجل أن معنى الولادة التي اشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى، لان ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة، وولد الابن انما هو ولده بماله مما كان سببا للولادة. ولم يخرج مالك رحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان، وإنما أخرجهم منه قياسا على الموارثة. وقد مضى هذا في" الانعام" «3» والحمد لله. اللفظ الثالث- الذرية، وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق، فيدخل فيه ولد البنات لقوله" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ- إلى أن قال- وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى " [الانعام: 85- 84]. وإنما كان من ذريته من قبل أمه. وقد مضى في" البقرة" «4» اشتقاق الذرية وفي" الانعام" الكلام على" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ" [الانعام: 84] الآية، فلا معنى للإعادة.
__________
(1). في نسخة من الأصل:" مشبهاتها". وفي ابن العربي" مسمياتها".
(2). آية 84 سورة الانعام.
(3). راجع ج 7 ص 31.
(4). راجع ج 2 ص 107 طبعه ثانية.

اللفظ الرابع- العقب، وهو في اللغة عبارة عن شيء بعد شيء كان من جنسه أو من غير جنسه، يقال: أعقب الله بخير، أي جاء بعد الشدة بالرخاء. وأعقب الشيب السواد. وعقب يعقب عقوبا وعقبا إذا جاء شيئا بعد شي، ولهذا قيل لولد الرجل: عقبه. والمعقاب من النساء: التي تلد ذكرا بعد أنثى، هكذا أبدا. وعقب الرجل: ولده وولد ولده الباقون بعده. والعاقبة الولد، قال يعقوب: في القرآن" وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ". وقيل: بل الورثة كلهم عقب. والعاقبة الولد، ولذلك فسره مجاهد هنا. وقال ابن زيد: ها هنا هم الذرية. وقال ابن شهاب: هم الولد وولد الولد. وقيل غيره على ما تقدم عن السدي. وفي الصحاح والعقب (بكسر القاف) مؤخر القدم وهي مؤنثة. وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده. وفية لغتان: عقب وعقب (بالتسكين) وهي أيضا مؤنثة، عن الأخفش. وعقب فلان مكان أبيه عاقبة أي خلفه، وهو اسم جاء بمعنى المصدر كقوله تعالى" لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ" «1» [الواقعة: 2]. ولا فرق عند أحد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى. واختلف في الذرية والنسل فقيل إنهما بمنزلة الولد والعقب، لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك. وقيل: إنهم يدخلون فيهما. وقد مضى الكلام في الذرية هنا وفي" الانعام" «2». اللفظ الخامس- نسلي، وهو عند علمائنا كقوله ولدي وولد ولدي، فانه يدخل فيه ولد البنات. ويجب أن يدخلوا، لان نسل به بمعنى خرج، وولد البنات قد خرجوا منه بوجه، ولم يقترن به ما يخصه كما اقترن بقوله عقبي ما تناسلوا. وقال بعض علمائنا: إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه ولد البنات، إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي، كما إذا قال عقبي وعقب عقبي، وأما إذا قال ولدي أو عقبي مفردا فلا يدخل فيه البنات. اللفظ السادس- الآل، وهم الأهل، وهو اللفظ السابع. قال ابن القاسم: هما سواء، وهم العصبة والاخوة والبنات والعمات، ولا يدخل فيه الخالات. واصل أهل الاجتماع،
__________
(1). آية 2 سورة الواقعة.
(2). راجع ج 7 ص 31. [.....]

يقال: مكان آهل إذا كان فيه جماعة، وذلك بالعصبة ومن دخل في القعدد «1» من النساء، والعصبة مشتقة منه وهي أخص به. وفي حديث الافك: يا رسول الله، أهلك! ولا نعلم إلا خيرا، يعني عائشة. ولكن لا تدخل فيه الزوجة بإجماع وإن كانت أصل التأهل، لان ثبوتها ليس بيقين إذ قد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق. وقد قال مالك: آل محمد كل تقي، وليس من هذا الباب. وإنما أراد أن الايمان أخص من القرابة فاشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة. وقد قال أبو إسحاق التونسي: يدخل في الأهل كل من كان من جهة الأبوين، فوفى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال. وهذه المعاني إنما تبنى على الحقيقة أو على العرف المستعمل عند الإطلاق، فهذان لفظان. اللفظ الثامن- قرابة، فيه أربعة أقوال: الأول- قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس: إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد، ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات. الثاني- يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه، قاله علي بن زياد. الثالث- قال أشهب: يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء. الرابع- قال ابن كنانة: يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخت. وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى" قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى " «2» [الشورى: 23] قال: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم. وقال: لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرابة، فهذا يضبطه والله أعلم. اللفظ التاسع- العشيرة، ويضبطه الحديث الصحيح: إن الله تعالى لما أنزل" وأنذر عشيرتك الأقربين" «3» [الشعراء: 214] دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطون قريش وسماهم- كما تقدم ذكره- وهم العشيرة الأقربون، وسواهم عشيرة في الإطلاق. واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد، كما تقدم من قول علمائنا.
__________
(1). في الأصول:" ومن دخل في العقد". وفي ابن العربي:" ومن دخل في العقدة" وقد أثبتناه كما ترى استئناسا بما في شرح الباجي على الوطء، وعبارته:" ... ولا يدخل في ذلك الخالات. ومعنى ذلك عندي العصبة أو من كان في قعددهن من النساء". والقعدد (بضم أوله وسكون ثانيه وضم ثالثه وفتحه): القربى.
(2). آية 23 سورة الشورى.
(3). آية 214 سورة الشعراء. راجع ج 13 ص 143

بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)

اللفظ العاشر- القوم، يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء. والقوم يشمل الرجال والنساء، وإن كان الشاعر قد قال:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء، فتعممه الصفة وتخصصه القرينة «1». اللفظ الحادي عشر- الموالي، قال مالك: يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه. وقال ابن وهب: يدخل فيه أولاد مواليه. قال ابن العربي: والذي يتحصل منه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء، قال: وهذه فصول الكلام وأصوله المرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له، والتفريع والتتميم في كتاب المسائل، والله أعلم.

[سورة الزخرف (43): الآيات 29 الى 32]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
قوله تعالى:" بَلْ مَتَّعْتُ" وقرى" بل متعنا"." هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ" أي في الدنيا بالامهال." حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ" أي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد والإسلام الذي هو أصل دين إبراهيم، وهو الكلمة التي بقاها الله في عقبه." وَرَسُولٌ مُبِينٌ" أي يبين لهم ما بهم إليه حاجة." وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ" يعني القرآن." قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ" جاحدون." وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ" أي هلا نزل" هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ"
__________
(1). في ح ز ى: فتعمه الصفة وتخصه القرينة وفي ك ... أو تخصه ...

وقرى" على رجل" بسكون الجيم." مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" أي من إحدى القريتين، كقوله تعالى:" يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ" «1» [الرحمن: 22] أي من أحدهما. أو على أحد رجلين من القريتين. القريتان: مكة والطائف. والرجلان: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل. والذي من الطائف أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، قاله قتادة. وقيل: عمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف، وعتبة بن ربيعة من مكة، وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس: أن عظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي. وقال السدي: كنانة بن عبد بن عمرو. روي أن الوليد بن المغيرة- وكان يسمى ريحانة قريش- كان يقول: لو كان ما يقوله محمد حقا لنزل علي أو على أبي مسعود، فقال الله تعالى:" أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ" يعني النبوة فيضعونها حيث شاءوا." نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" أي أفقرنا قوما وأغنينا قوما، فإذا لم يكن أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم. قال قتادة: تلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه «2». وقرا ابن عباس ومجاهد وابن محيصن في رواية عنه" معايشهم". وقيل: أي نحن أعطينا عظيم القريتين ما أعطينا لا لكرامتهما علي وأنا قادر على نزع النعمة عنهما، فأي فضل وقدر لهما." وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ" أي فاضلنا بينهم، فمن فاضل ومفضول ورئيس ومرءوس، قاله مقاتل. وقيل: بالحرية والرق، فبعضهم مالك وبعضهم مملوك. وقيل: بالغنى والفقر، فبعضهم غني وبعضهم فقير. وقيل: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر." لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا" قال السدي وابن زيد: خولا وخداما، يسخر الأغنياء الفقراء فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك: يعني ليملك بعضهم بعضا. وقيل: هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء، أي ليستهزئ الغني بالفقير. قال الأخفش: سخرت به وسخرت منه، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وبه، كل يقال، والاسم السخرية (بالضم). والسخري والسخري (بالضم والكسر). وكل الناس ضموا" سُخْرِيًّا" إلا ابن محيصن ومجاهد فإنهما قرءا" سخريا"."
__________
(1). راجع ج 17 ص 163.
(2). في ح ز ل: مفتر عليه بالفاء.

وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)

وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" أي أفضل مما يجمعون من الدنيا. ثم قيل: الرحمة النبوة، وقيل الجنة. وقيل: تمام الفرائض خير من كثرة النوافل. وقيل: ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم.

[سورة الزخرف (43): آية 33]
وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33)
فيه خمس مسائل: الاولى- قال العلماء: ذكر حقارة الدنيا وقلة خطرها، وأنها عنده من الهوان بحيث كان يجعل بيوت الكفرة ودرجها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على القلوب، فيحمل ذلك على الكفر. قال الحسن: المعنى لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لاعطيناهم في الدنيا ما وصفناه، لهوان الدنيا عند الله عز وجل. وعلى هذا أكثر المفسرين ابن عباس والسدي وغيرهم. وقال ابن زيد:" وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً" في طلب الدنيا واختيارها على الآخرة" لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ". وقال الكسائي: المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير وفي المسلمين مثل ذلك لاعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها. الثانية- قرأ ابن كثير وأبو عمرو" سقفا" بفتح السين وإسكان القاف على الواحد ومعناه الجمع، اعتبارا بقوله تعالى" فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ «1» مِنْ فَوْقِهِمْ" [النحل: 26]. وقرا الباقون بضم السين والقاف على الجمع، مثل رهن ورهن. قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما. وقيل: هو جمع سقيف، مثل كثيب وكثب، ورغيف ورغف، قاله الفراء. وقيل: هو جمع سقوف، فيصير جمع الجمع: سقف وسقوف، نحو فلس وفلوس. ثم جعلوا فعولا كأنه اسم واحد فجمعوه على فعل. وروي عن مجاهد" سقفا" بإسكان القاف. وقيل: اللام في" لِبُيُوتِهِمْ" بمعنى على، أي على بيوتهم. وقيل: بدل، كما تقول فعلت هذا لزيد لكرامته، قال الله تعالى" وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ" «2» [النساء: 1 1] كذلك قال هنا" لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ".
__________
(1). راجع ج 10 ص 97.
(2). راجع ج 5 ص 54.

الثالثة- قوله تعالى:" وَمَعارِجَ" يعني الدرج، قاله ابن عباس وهو قول الجمهور. واحدها معراج، والمعراج السلم، ومنه ليلة المعراج. والجمع معارج ومعاريج، مثل مفاتح ومفاتيح، لغتان." ومعاريج" قرأ أبو رجاء العطاردي وطلحة بن مصرف، وهي المراقي والسلاليم. قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحد معرج ومعرج، مثل مرقاة ومرقاة." عَلَيْها يَظْهَرُونَ" أي على المعارج يرتقون ويصعدون، يقال: ظهرت على البيت أي علوت سطحه. وهذا لان من علا شيئا وارتفع عليه ظهر للناظرين. ويقال: ظهرت على الشيء أي علمته. وظهرت على العدو أي غلبته. وأنشد نابغة بني جعدة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله:
علونا السماء عزة ومهابة ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا «1»
أي مصعدا، فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال:] إلى أين [؟ قال إلى الجنة، قال:] أجل إن شاء الله [. قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك! فكيف لو فعل؟! الرابعة- استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لا حق فيه لرب العلو، لان الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الأبواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه الله. قال ابن العربي: وذلك لان البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب، فمن له البيت فله أركانه. ولا خلاف أن العلو له إلى السماء. واختلفوا في السفل، فمنهم من قال هو له، ومنهم من قال ليس له في باطن الأرض شي. وفي مذهبنا القولان. وقد بين حديث الإسرائيلي الصحيح فيما تقدم: أن رجلا باع من رجل دارا فبناها فوجد فيها جرة من ذهب، فجاء بها إلى البائع فقال: إنما اشتريت الدار دون الجرة، وقال البائع: إنما بعت الدار بما فيها، وكلهم تدافعها فقضى بينهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يزوج أحدهما ولده من بنت
__________
(1). رواية البيت كما في كتاب الاغالي ج 5 ص 8 طبع دار الكتب المصرية:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا

وروايته كما في جمهرة أشعار العرب:
بلغنا السما مجدا وجودا وسؤددا

وروايته كما في اللسان مادة" ظهر"
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا

الآخر ويكون المال لهما. والصحيح أن العلو والسفل له إلا أن يخرج عنهما بالبيع، فإذا باع أحدهما أحد الموضعين فله منه ما ينتفع به وباقيه للمبتاع منه. الخامسة- من أحكام العلو والسفل. إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه، فذكر سحنون عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة، ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو، لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لرب العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. ولو انكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها ويخاف ضررها على صاحب السفل. قال أشهب: وباب الدار على صاحب السفل. قال: ولو انهدم السفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السفل، فإن أبى صاحب السفل من البناء قيل له بع ممن يبني. وروى ابن القاسم عن مالك في السفل لرجل والعلو لآخر فاعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل وعليه تعليق العلو حتى يصلح سفله، لان عليه إما أن يحمله على بنيان أو على تعليق، وكذلك لو كان على العلو علو فتعليق العلو الثاني على صاحب الأوسط. وقد قيل: إن تعليق العلو الثاني على رب العلو حتى يبني الأسفل. وحديث النعمان بن بشير عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نوذ من فوقنا فان يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا [- أصل في هذا الباب. وهو حجة لمالك وأشهب. وفية دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر، لقوله عليه السلام:] فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا [ولا يجوز الأخذ إلا على يد الظالم أو من هو ممنوع من إحداث

وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

ما لا يجوز له في السنة. وفية دليل على استحقاق العقوبة بترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد مضى في" الأنفال" «1». وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها، وقد مضى في" آل عمران"»
فتأمل كلا في موضعه تجده مبينا، والحمد لله.

[سورة الزخرف (43): الآيات 34 الى 35]
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
قوله تعالى:" وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً" أي ولجعلنا لبيوتهم. وقيل:" لِبُيُوتِهِمْ" بدل اشتمال من قوله" لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ"." أَبْواباً" أي من فضة." وَسُرُراً" كذلك، وهو جمع السرير. وقيل: جمع الأسرة، والأسرة جمع السرير، فيكون جمع الجمع." يَتَّكِؤُنَ عليها" الاتكاء والتوكؤ: التحامل على الشيء، ومنه" أَتَوَكَّؤُا «3» عَلَيْها". ورجل تكأة، مثال همزة، كثير الاتكاء. والتكأة أيضا: ما يتكأ عليه. واتكأ على الشيء فهو متكئ، والموضع متكأ. وطعنه حتى أتكأه (على أفعله) أي ألقاه على هيئة المتكئ. وتوكأت على العصا. واصل التاء في جميع ذلك واو، ففعل به ما فعل باتزن واتعد." وَزُخْرُفاً" الزخرف هنا الذهب، عن ابن عباس وغيره. نظيره:" أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ" [الاسراء: 93] وقد تقدم «4». وقال ابن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث. وقال الحسن: النقوش، وأصله الزينة. يقال: زخرفت الدار، أي زينتها. وتزخرف فلان، أي تزين. وانتصب" زُخْرُفاً" على معنى وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا. وقيل: ينزع الخافض، والمعنى فجعلنا لهم سقفا وأبوابا وسررا من فضة ومن ذهب، فلما حذف" مِنْ" قال" وَزُخْرُفاً" فنصب." وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا" قرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر" وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا" بالتشديد. الباقون بالتخفيف، وقد ذكر هذا. وروي عن أبي رجاء كسر اللام من" لَمَّا"، ف" ما" عنده بمنزلة الذي، والعائد عليها محذوف، والتقدير: وإن كل ذلك للذي
__________
(1). راجع ج 7 ص 391 فما بعدها.
(2). راجع ج 4 ص 86 فما بعدها.
(3). راجع ج 11 ص 176
(4). راجع ج 10 ص 331

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)

هو متاع الحياة الدنيا، وحذف الضمير ها هنا كحذفه في قراءة من قرأ" مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما «1» فَوْقَها" [البقرة: 26" تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ" «2» [الانعام: 154]. أبو الفتح: ينبغي أن يكون" كل" على هذه القراءة منصوبة، لان" إن" مخففة من الثقيلة، وهي إذا خففت وبطل عملها لزمتها اللام في آخر الكلام للفرق بينها وبين" إن" النافية التي بمعنى ما، نحو إن زيد لقائم، ولا لام هنا سوى الجارة." وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ" يريد الجنة لمن اتقى وخاف. وقال كعب: إني لأجد في بعض كتب الله المنزلة: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس عبدي الكافر بالاكليل، ولا يتصدع ولا ينبض منه عرق بوجع. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر [. وعن سهل بن سعد قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء [. وفي الباب عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب. وأنشدوا:
فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن ... إذا لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة ... وقد شبعت فيها بطون البهائم
وقال آخر:
تمتع من الأيام إن كنت حازما ... فإنك فيها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناح بعوضة ... ولا وزن رق من جناح لطائر
فلم يرض بالدنيا ثوابا لمحسن ... ولا رضي الدنيا عقابا لكافر

[سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 38]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
__________
(1). راجع ج 1 ص (243) [.....]
(2). راجع ج 7 ص 142

قوله تعالى:" وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً. فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" وقرا ابن عباس وعكرمة" ومن يعش" بفتح الشين، ومعناه يعمى، يقال منه عشي يعشى عشا إذا عمي. ورجل أعشى وامرأة عشواء إذا كان لا يبصر، ومنه قول الأعشى:
رأت رجلا غائب الوافدين ... مختلف الخلق أعشى ضريرا «1»
وقوله:
أأن رأت رجلا أعشى أضر به ... ريب المنون ودهر مفند خبل
الباقون بالضم، من عشا يعشو إذا لحقه ما لحق الأعشى. وقال الخليل: العشو هو النظر ببصر ضعيف، وأنشد:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «2»
وقال آخر:
لنعم الفتى يعشو إلى ضوء ناره ... إذا الريح هبت والمكان جديب
الجوهري: والعشا (مقصور) مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. والمرأة عشواء، وامرأتان عشواوان. وأعشاه الله فعشي (بالكسر) يعشى عشي، وهما يعشيان، ولم يقولوا يعشوان، لان الواو لما صارت في الواحد ياء لكسرة ما قبلها تركت في التثنية على حالها. وتعاشى إذا أرى من نفسه أنه أعشى. والنسبة إلى أعشى أعشوي. وإلى العشية عشوى. والعشواء: الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شي. وركب فلان العشواء إذا خبط أمره على غير بصيرة. وفلان خابط خبط عشواء. وهذه الآية تتصل بقول أول السورة" أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً" «3» [الزخرف: 5] أي نواصل لكم الذكر، فمن يعش عن ذلك الذكر بالاعراض عنه إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم" نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً" أي نسبب له شيطانا جزاء له على كفره" فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" قيل في الدنيا، يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية، وهو معنى قول ابن عباس.
__________
(1). في اللسان مادة" وفد":" والوافدان اللذان في شعر الأعشى هما الناشزان من الخدين عند المضغ، فإذا هرم الإنسان غاب وافداه".
(2). البيت للحطيئة.
(3). آية 5

وقيل في الآخرة إذا قام من قبره، قاله سعيد الجريري. وفي الخبر: أن الكافر إذا خرج من قبره يشفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخلا النار. وأن المؤمن يشفع بملك حتى يقضي الله بين خلقه، ذكره المهدوي. وقال القشيري: والصحيح فهو له قرين في الدنيا والآخرة. وقال أبو الهيثم والأزهري: عشوت إلى كذا أي قصدته. وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه، فتفرق بين" إلى" و" عن"، مثل: ملت إليه وملت عنه. وكذا قال قتادة: يعش، يعرض، وهو قول الفراء. النحاس: وهو غير معروف في اللغة. وقال القرظي: يولي ظهره، والمعنى واحد. وقال أبو عبيدة والأخفش: تظلم عينه. وأنكر العتبي عشوت بمعنى أعرضت، قال: وإنما الصواب تعاشيت. والقول قول أبي الهيثم والأزهري. وكذلك قال جميع أهل المعرفة. وقرا السلمي وابن أبي إسحاق ويعقوب وعصمة عن عاصم وعن الأعمش" يقيض" (بالياء) لذكر" الرَّحْمنِ" أولا، أي يقيض له الرحمن شيطانا. الباقون بالنون. وعن ابن عباس" يقيض له شيطان فهو له قرين" أي ملازم ومصاحب. قيل:" فهو" كناية عن الشيطان، على ما تقدم. وقيل: عن الإعراض «1» عن القرآن، أي هو قرين للشيطان." وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ" أي وإن الشيطان ليصدونهم عن سبيل الهدى، وذكر بلفظ الجمع لان" مَنْ" في قوله" وَمَنْ يَعْشُ" في معنى الجمع." وَيَحْسَبُونَ" أي ويحسب الكفار" أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ" وقيل: ويحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم." حَتَّى إِذا جاءَنا" على التوحيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص، يعني الكافر يوم القيامة. الباقون" جاءانا" على التثنية، يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة، فيقول الكافر" يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ" أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف، كما قال تعالى:" رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ" «2» [الرحمن: 17] ونحوه قول مقاتل. وقراءة التوحيد وإن كان ظاهرها الافراد فالمعنى لهما جميعا، لأنه قد عرف ذلك بما بعده، كما قال:
وعين لها حدرة بدرة ... شقت مآقيهما من أخر «3»
__________
(1). في الأصول:" عن التعرض".
(2). آية 17 سورة الرحمن.
(3). البيت لامرئ القيس: وحدرة: مكتنزة صلبة، وقيل الواسعة الجاحظة. وبدرة: تبدر بالنظر، وقيل تامة كالبدر.

وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)

قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما بعد مشرق أطول يوم في السنة إلى مشرق أقصر يوم في السنة، ولذلك قال" بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ". وقال الفراء: أراد المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما، كما يقال: القمران للشمس والقمر، والعمران لابي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة والعصر. وقال الشاعر:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
وأنشد أبو عبيدة لجرير:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والعمران أبو بكر ولا عمر
وأنشد سيبويه:
قدني من نصر الخبيثين قدي

يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير، وإنما أبو خبيب عبد الله." فَبِئْسَ الْقَرِينُ" أي فبئس الصاحب أنت، لأنه يورده إلى النار. قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينة من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار.

[سورة الزخرف (43): آية 39]
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
قوله تعالى:" وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ"" إذ" بدل من اليوم، أي يقول الله للكافر لن ينفعكم اليوم إذ أشركتم في الدنيا هذا الكلام، وهو قول الكافر" يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ" أي لا تنفع الندامة اليوم." إِنَّكُمْ" بالكسر" فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ" وهي قراءة ابن عامر باختلاف عنه. الباقون بالفتح. وهي في موضع رفع تقديره: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، لان لكل واحد نصيبه الأوفر منه. أعلم الله تعالى أنه منع أهل النار التأسي كما يتأسى أهل المصائب في الدنيا، وذلك أن التأسي يستروحه أهل الدنيا فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكن ذلك من حزنه، كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي

أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)

فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي شيئا لشغلهم بالعذاب. وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم، لان قرناءكم وأنتم في العذاب مشتركون كما اشتركتم في الكفر.

[سورة الزخرف (43): آية 40]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
قوله تعالى:" أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ" يا محمد" وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا، ففيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفية رد على القدرية وغيرهم، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق الله تعالى، يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

[سورة الزخرف (43): الآيات 41 الى 42]
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
قوله تعالى:" فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ" يريد نخرجنك من مكة من أذى قريش «1»." فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ" وهو الانتقام منهم في حياتك" فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ" قال ابن عباس: قد أراه الله ذلك يوم بدر، وهو قول أكثر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: هي في أهل الإسلام، يريد ما كان بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفتن. و" نَذْهَبَنَّ بِكَ" على هذا نتوفينك. وقد كان بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقمة شديدة فأكرم الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذهب به فلم يره في أمته إلا التي تقر به عينه وأبقى النقمة بعده، وليس من نبي إلا وقد أري النقمة في أمته. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أري ما لقيت أمته من بعده، فما زال منقبضا، ما انبسط ضاحكا حتى لقي، الله عز وجل. وعن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إذا أراد الله بأمة خيرا قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا. و«2»- إذا أراد الله بأمة عذابا عذبها ونبيها حي لتقر عينه لما كذبوه وعصوا أمره [.
__________
(1). جملة: مت أذى قريش ساقطة من ن
(2). ما بين المربعين ساقط من هـ.

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)

[سورة الزخرف (43): الآيات 43 الى 44]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
قوله تعالى:" فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ" يريد القرآن، وإن كذب به من كذب، ف" إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" يوصلك إلى الله ورضاه وثوابه." وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ" يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم، نظيره:" لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ" «1» [الأنبياء: 10] أي شرفكم. فالقرآن نزل بلسان قريش وإياهم خاطب، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم كل من آمن بذلك فصاروا عيالا عليهم، لان أهل كل لغة احتاجوا إلى أن يأخذوه من لغتهم حتى يقفوا على المعنى الذي عنى به من الامر والنهي وجميع ما فيه من الانباء، فشرفوا بذلك على سائر أهل اللغات ولذلك سمي عربيا. وقيل: بيان لك ولأمتك فيما بكم إليه حاجة. وقيل: تذكرة تذكرون به أمر الدين وتعملون به. وقيل:" وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ" يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم [. وقال مالك: هو قول الرجل حدثني أبي عن أبيه، حكاه ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس فيما ذكر الماوردي والثعلبي وغيرهما. قال ابن العربي: ولم أجد في الإسلام هذه المرتبة لاحد إلا ببغداد فإن بني التميمي بها يقولون: حدثني أبي قال حدثني أبي، إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبذلك شرفت أقدارهم، وعظم الناس شأنهم، وتهممت الخلافة بهم. ورأيت بمدينة السلام ابني أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب أبي الفرج بن عبد العزيز بن الحارث بن الأسد بن الليث بن سليمان بن أسود بن سفيان بن يزيد ابن أكينة بن عبد الله التميمي وكانا يقولان: سمعنا أبانا رزق الله يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت علي بن أبي طالب
__________
(1). آية 10 سورة الأنبياء.

وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

يقول وقد سئل عن الحنان المنان فقال: الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال. والقائل سمعت عليا: أكينة بن عبد الله جدهم الأعلى. والأقوى أن يكون المراد بقوله" وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ" يعني القرآن، فعليه انبنى الكلام وإليه يرجع المصير، والله أعلم. قال الماوردي:" وَلِقَوْمِكَ" فيهم قولان: أحدهما- من اتبعك من أمتك، قاله قتادة وذكره الثعلبي عن الحسن. الثاني- لقومك من قريش، فيقال ممن هذا؟ فيقال من العرب، فيقال من أي العرب؟ فيقال من قريش، قاله مجاهد. قلت- والصحيح أنه شرف لمن عمل به، كان من قريش أو من غيرهم. روى ابن عباس قال: أقبل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سرية أو غزاة فدعا فاطمة فقال:] يا فاطمة اشتري نفسك من الله فإني لا أغني عنك من الله شيئا [وقال مثل ذلك لنسوته، وقال مثل ذلك لعترته،. ثم قال نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ما بنو هاشم بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون ولا قريش بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الأنصار بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون ولا الموالي بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون. إنما أنتم من رجل وامرأة وأنتم كجمام «1» الصاع ليس لاحد على أحد فضل إلا بالتقوى [. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم أو يكونون شرا عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها كلكم بنو آدم وآدم من تراب، إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء] الناس [مؤمن تقي وفاجر شقي [. خرجهما الطبري. وسيأتي لهذا مزيد بيان في الحجرات إن شاء الله تعالى." وسوف تسألون" أي عن الشكر عليه، قاله مقاتل والفراء. وقال ابن جريج: أي تسألون أنت ومن معك على ما أتاك. وقيل تسألون عما عملتم فيه، والمعنى متقارب.

[سورة الزخرف (43): آية 45]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
__________
(1). الجمام (بالتثليث): ما علا رأس المكيال من الطفاف.

قال ابن عباس وابن زيد: لما أسري برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى- وهو مسجد بيت المقدس- بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين، وجبريل مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأذن جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أقام الصلاة، ثم قال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لا أسأل قد اكتفيت [. قال ابن عباس: وكانوا سبعين نبيا منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم. في غير رواية ابن عباس: فصلوا خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعة صفوف، المرسلون ثلاثة صفوف والنبيون أربعة، وكان يلي ظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبراهيم خليل الله، وعلى يمينه إسماعيل وعلى يساره إسحاق ثم موسى ثم سائر المرسلين فأمهم ركعتين، فلما انفتل «1» قام فقال:] إن ربي أوحى إلي أن أسألكم هل أرسل أحد منكم يدعو إلى عبادة غير الله [؟ فقالوا: يا محمد، إنا نشهد إنا أرسلنا أجمعين بدعوة واحدة أن لا إله إلا الله وأن ما يعبدون من دونه باطل وأنك خاتم النبيين وسيد المرسلين، قد استبان ذلك لنا بإمامتك إيانا، وأن لا نبي بعدك إلى يوم القيامة إلا عيسى بن مريم فإنه مأمور أن يتبع أثرك (. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى:" وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا" قال: لقي الرسل ليلة أسري به. وقال الوليد بن مسلم في قوله تعالى" وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا" قال: سألت عن ذلك خليد بن دعلج فحدثني عن قتادة قال سألهم ليلة أسري به، لقي الأنبياء ولقي آدم ومالك خازن النار. قلت: هذا هو الصحيح في تفسير هذه الآية. و" من" التي قبل" رُسُلِنا" على هذا القول غير زائدة. وقال المبرد وجماعة من العلماء: إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا. وروي أن في قراءة ابن مسعود" واسال الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا".
__________
(1). انفتل عن الصلاة: إذا انصرف عنها.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)

وهذه قراءة مفسرة، ف" من" على هذا زائدة، وهو قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن وابن عباس أيضا. أي واسأل مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل. وقيل: المعنى سلنا يا محمد عن الأنبياء الذين أرسلنا قبلك، فحذفت" عن"، والوقف على" رسلنا" على هذا تام، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الإنكار. وقيل: المعنى واسأل تباع من أرسلنا من قبلك من رسلنا، فحذف المضاف. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته." أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ" أخبر عن الآلهة كما أخبر عمن يعقل فقال" يُعْبَدُونَ" ولم يقل تعبد ولا يعبدن، لان الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فأجرى الخبر عنهم مجرى الخبر عمن يعقل. وسبب هذا الامر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك، فأمره الله بسؤاله الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير، لا لأنه كان في شك منه. واختلف أهل التأويل في سؤال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم على قولين: أحدهما- أنه سألهم فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد، قاله الواقدي. الثاني- أنه لم يسألهم ليقينه بالله عز وجل، حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل: (هل سألك محمد عن ذلك؟ فقال جبريل: هو أشد إيمانا وأعظم يقينا من أن يسأل عن ذلك (. وقد تقدم هذا المعنى في الروايتين حسبما ذكرناه.

[سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 52]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52)

قوله تعالى:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا" لما أعلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه منتقم له من عدوه وأقام الحجة باستشهاد الأنبياء واتفاق الكل على التوحيد أكد ذلك قصة موسى وفرعون، وما كان من فرعون من التكذيب، وما نزل به وبقومه من الإغراق والتكذيب، أي أرسلنا موسى بالمعجزات وهي التسع الآيات فكذب، فجعلت العاقبة الجميلة له، فكذلك أنت. ومعنى" يَضْحَكُونَ" استهزاء وسخرية، يوهمون أتباعهم أن تلك الآيات سحر وتخييل، وأنهم قادرون عليها. وقوله:" وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها" أي كانت آيات موسى من كبار الآيات، وكانت كل واحدة أعظم مما قبلها. وقيل:" إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها" لان الاولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما، فتضم الثانية إلى الاولى فيزداد الوضوح. ومعنى الاخوة المشاكلة والمناسبة، كما يقال: هذه صاحبة هذه، أي هما قريبتان في المعنى." وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ" أي على تكذيبهم بتلك الآيات، وهو كقوله تعالى:" وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ" «1» [الأعراف: 130]. والطوفان والجراد والقمل والضفادع. وكانت هذه الآيات الأخيرة عذابا لهم وآيات لموسى." لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" من كفرهم." وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ" لما عاينوا العذاب قالوا يا أيها الساحر، نادوه بما كانوا ينادونه به من قبل ذلك على حسب عادتهم. وقيل: كانوا يسمون العلماء سحرة فنادوه بذلك على سبيل التعظيم. قال ابن عباس:" يا أَيُّهَا السَّاحِرُ" يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يوقرونه، ولم يكن السحر صفة ذم. وقيل: يا أيها الذي غلبنا بسحره، يقال: ساحرته فسحرته، أي غلبته بالسحر، كقول العرب: خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة، وفأضلته ففضلته، ونحوها. ويحتمل أن يكون أرادوا به الساحر على الحقيقة على معنى الاستفهام، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا. وقرا ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن وثاب" وايه الساحر" بغير ألف والهاء مضمومة، وعلتها أن الهاء خلطت بما قبلها وألزمت ضم الياء الذي أوجبه النداء المفرد. وأنشد الفراء:
يا أيها القلب اللجوج النفس ... أفق عن البيض الحسان اللعس
__________
(1). آية 130 سورة الأعراف.

فضم الهاء حملا على ضم الياء، وقد مضى في" النور" «1» معنى هذا. ووقف أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويحيى والكسائي" أيها" بالألف على الأصل. الباقون بغير ألف، لأنها كذلك وقعت في المصحف." ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ" أي بما أخبرنا عن عهده إليك إنا إن آمنا كشف عنا، فسله يكشف عنا" إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ" أي فيما يستقبل." فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ" أي فدعا فكشفنا." إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ" أي ينقضون العهد الذي جعلوه على أنفسهم فلم يؤمنوا. وقيل: قولهم" إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ" إخبار منهم عن أنفسهم بالايمان، فلما كشف عنهم العذاب ارتدوا. قوله تعالى:" وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ" قيل: لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إليه فجمع قومه فقال، فنادى بمعنى قال، قاله أبو مالك. فيجوز أن يكون عنده عظماء القبط فرفع صوته بذلك فيما بينهم ثم ينشر عنه في جموع القبط، وكأنه نودي بينهم. وقيل: إنه أمر من ينادي في قومه، قاله ابن جريج." قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ" أي لا ينازعني فيه أحد. قيل: إنه ملك منها أربعين فرسخا في مثلها، حكاه النقاش. وقيل: أراد بالملك هنا الإسكندرية." وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي" يعني أنهار النيل، ومعظمها أربعة «2»: نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس. قال قتادة: كانت جنانا وأنهارا تجري من تحت قصوره. وقيل: من تحت سريره. وقيل:" مِنْ تَحْتِي" أي تصرفي نافذ فيها من غير صانع. وقيل: كان إذا أمسك عنانه أمسك النيل عن الجري. قال القشيري: ويجوز ظهور خوارق العادة على مدعي الربوبية، إذ لا حاجة في تمييز الاله من غير الاله إلى فعل خارق للعادة. وقيل: معنى" وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي" أي القواد والرؤساء والجبابرة يسيرون تحت لوائي، قاله الضحاك. وقيل: أراد بالأنهار الأموال، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها. وقوله" تَجْرِي مِنْ تَحْتِي" أي أفرقها على من يتبعني، لان الترغيب والقدرة في الأموال دون
__________
(1). راجع ج 12 ص (238) [.....]
(2). في كتاب روح المعاني للآلوسي:" والأنهار: الخلجان التي تخرج من النيل المبارك، كنهر الملك ونهر دمياط ونهر تنيس، ولعل نهر طولون كان منها إذ ذاك، لكنه اندرس فجدده أحمد بن طولون ملك مصر في الإسلام".

الأنهار." أَفَلا تُبْصِرُونَ" عظمتي وقوتي وضعف موسى. وقيل قدرتي على نفقتكم وعجز موسى. والواو في" وَهذِهِ" يجوز أن تكون عاطفة للأنهار على" مُلْكُ مِصْرَ" و" تَجْرِي" نصب على الحال منها. ويجوز أن تكون واو الحال، واسم الإشارة مبتدأ، و" الْأَنْهارُ" صفة لاسم الإشارة، و" تَجْرِي" خبر للمبتدإ. وفتح الياء من" تَحْتِي" أهل المدينة والبزي وأبو عمرو، وأسكن الباقون. وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لاولينها أحسن عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال: أهذه القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال" أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ"؟! والله لهي عندي أقل من أن أدخلها! فثنى عنانه. ثم صرح بحاله فقال" أَمْ أَنَا خَيْرٌ" قال أبو عبيدة السدي:" أم" بمعنى" بل" وليست بحرف عطف، على قول أكثر المفسرين. والمعنى: قال فرعون لقومه بل أَنَا خَيْرٌ" مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ" أي لا عز له فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه" وَلا يَكادُ يُبِينُ" يعني ما كان في لسانه من العقدة، على ما تقدم في" طه" «1». وقال الفراء: في" أم" وجهان: إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وإن شئت جعلتها نسقا على قوله" أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ". وقيل: هي زائدة. وروى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون" أم" زائدة، والمعنى أنا خير من هذا الذي هو مهين. وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون، كما قال:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أنت أم أم سالم «2»
أي أنت أحسن أم أم سالم. ثم ابتدأ فقال أنا خير. وقال الخليل وسيبويه: المعنى أفلا تبصرون، أم أنتم بصراء، فعطف ب" أم" على" أَفَلا تُبْصِرُونَ" لان معنى" أَمْ أَنَا خَيْرٌ" أم أي تبصرون، وذلك أنهم إذا قالوا له أنت خير منه كانوا عنده بصراء. وروي عن عيسى
__________
(1). راجع ج 11 ص 192.
(2). القائل هو ذو الرمة. وللوعساء: رملة لينة. وجلاجل: موضع بعينه. والنقاء: الكثيب من الرمل.

فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)

الثقفي ويعقوب الحضرمي أنهما وقفا على" أم" على أن يكون التقدير أفلا تبصرون أم تبصرون، فحذف تبصرون الثاني. وقيل: من وقف على" أم" جعلها زائدة، وكأنه وقف على" تُبْصِرُونَ" من قوله" أَفَلا تُبْصِرُونَ". ولا يتم الكلام على" تُبْصِرُونَ" عند الخليل وسيبويه، لان" أم" تقتضي الاتصال بما قبلها. وقال قوم: الوقف على قوله" أَفَلا تُبْصِرُونَ" ثم ابتدأ" أَمْ أَنَا خَيْرٌ" بمعنى بل أنا خير، وأنشد الفراء:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح
فمعناه: بل أنت أملح. وذكر الفراء أن بعض القراء قرأ" أما أنا خير"، ومعنى هذا الست خيرا. وروي عن مجاهد أنه وقف على" أم" ثم يبتدئ" أَنَا خَيْرٌ" وقد ذكر.

[سورة الزخرف (43): آية 53]
فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
قوله تعالى:" فَلَوْ لا" أي هلا" أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ" إنما قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. وقرا حفص" أسورة" جمع سوار، كخمار وأخمرة. وقرا أبي" أساور" جمع إسوار. وابن مسعود" أساوير". الباقون" أَسْوِرَةٌ" جمع الأسورة، فهو جمع الجمع. ويجوز أن يكون" أساورة" جمع" إسوار" وألحقت الهاء في الجمع عوضا من الياء، فهو مثل زناديق وزنادقة، وبطاريق وبطارقة، وشبهه. وقال أبو عمرو ابن العلاء: واحد الأساورة والأساور والاساوير إسوار، وهي لغة في سوار. قال مجاهد: كانوا إذا سوروا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته، فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا!" أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ" يعني متتابعين، في قول قتادة. مجاهد: يمشون معا. ابن عباس: يعاونونه على من خالفه، والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه حتى يتكثر بهم ويصرفهم على أمره ونهيه، فيكون ذلك أهيب في القلوب. فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)

كرسل الملوك في الشاهد، ولم يعلم أن رسل الله إنما أيدوا بالجنود السماوية، وكل عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده ووحدته من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن يكون له أسورة أو ملائكة يكونون معه أعوانا- في قول مقاتل- أو دليلا على صدقه- في قول الكلبي- وليس يلزم هذا لان الاعجاز كاف، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما كذب مع ظهور الآيات. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى، لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم.

[سورة الزخرف (43): آية 54]
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54)
قوله تعالى:" فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ" قال ابن الاعرابي: المعنى فاستجهل قومه" فَأَطاعُوهُ" لخفة أحلامهم وقلة عقولهم، يقال: استخفه الفرح أي أزعجه، واستخفه أي حمله على الجهل، ومنه" وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ" «1» [الروم: 60]. وقيل: استفزهم بالقول فأطاعوه على، التكذيب. وقيل: استخف قومه «2» أي وجدهم خفاف العقول. وهذا لا يدل على أنه يجب أن يطيعوه، فلا بد من إضمار بعيد تقديره وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه. وقيل: استخف قومه وقهرهم حتى اتبعوه، يقال استخفه خلاف استثقله، واستخف به أهانه." إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ" أي خارجين عن طاعة الله.

[سورة الزخرف (43): آية 55]
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
قوله تعالى:" فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ" روى الضحاك عن ابن عباس: أي غاظونا وأغضبونا. وروى عنه علي بن أبي طلحة: أي أسخطونا. قال الماوردي: ومعناهما مختلف، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة، والغضب إرادة الانتقام. القشيري: والأسف ها هنا بمعنى الغضب، والغضب من الله إما إرادة العقوبة فيكون من صفات الذات، وإما عين العقوبة فيكون من صفات الفعل، وهو معنى قول الماوردي.
__________
(1). آية 60 سورة الروم.
(2). في أز ل ... استخف بقومه ...

فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)

وقال عمر بن ذر: يأهل معاصي الله، لا تغتروا بطول حلم الله عنكم، واحذروا أسفه، فإنه قال" فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ". وقيل:" آسَفُونا" أي أغضبوا رسلنا وأولياءنا المؤمنين، نحو السحرة وبني إسرائيل. وهو كقوله تعالى:" يُؤْذُونَ اللَّهَ" «1» [الأحزاب: 57] و" يُحارِبُونَ اللَّهَ" «2» [المائدة: 33] أي أولياءه ورسله.

[سورة الزخرف (43): آية 56]
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
قوله تعالى:" فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً" أي جعلنا قوم فرعون سلفا. قال أبو مجلز:" سَلَفاً" لمن عمل عملهم،" وَمَثَلًا" لمن يعمل عملهم. وقال مجاهد:" سَلَفاً" إخبارا لامة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،" وَمَثَلًا" أي عبرة لهم. وعنه أيضا" سَلَفاً" لكفار قومك يتقدمونهم إلى النار. قتادة:" سَلَفاً" إلى النار،" وَمَثَلًا" عظة لمن يأتي بعدهم. والسلف المتقدم، يقال: سلف يسلف «3» سلفا، مثل طلب طلبا، أي تقدم ومضى. وسلف له عمل صالح أي تقدم. والقوم السلاف المتقدمون. وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون، والجمع أسلاف وسلاف. وقراءة العامة" سَلَفاً" (بفتح السين واللام) جمع سالف، كخادم وخدم، وراصد ورصد، وحارس وحرس. وقرا حمزة والكسائي" سلفا" (بضم السين واللام). قال الفراء: هو جمع سليف، نحو سرير وسرر. وقال أبو حاتم: هو جمع سلف، نحو خشب وخشب، وثمر وثمر، ومعناهما واحد. وقرا علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس" سلفا" (بضم السين وفتح اللام) جمع سلفه، أي فرقة متقدمة. قال المؤرج والنضر بن شميل:" سَلَفاً" جمع سلفه، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وظلمة وظلم.

[سورة الزخرف (43): آية 57]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
لما قال تعالى:" وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ" [الزخرف: 45] تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا: ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم إلها، قاله قتادة. ونحوه عن مجاهد قال: إن قريشا قالت إن محمدا
__________
(1). آية 57 سورة الأحزاب.
(2). آية 33 سورة المائدة.
(3). لفظة يسلف ساقطة من ب ن ى.

يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى، فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعري مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأن عيسى، وأن الضارب لهذا المثل هو عبد الله بن الزبعري السهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمدا يتلو" إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ" «1» [الأنبياء: 98] الآية، فقال: لو حضرته لرددت عليه، قالوا: وما كنت تقول له؟ قال: كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تعبد عزيرا، أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم، وذلك معنى قوله" يَصِدُّونَ". فأنزل الله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ" «2» [الأنبياء: 101]. ولو تأمل ابن الزبعري الآية ما اعترض عليها، لأنه قال" وَما تَعْبُدُونَ" ولم يقل ومن تعبدون، وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإن كانوا معبودين. وقد مضى هذا في آخر سورة" الأنبياء" «3». وروى ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لقريش:] يا معشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله [. قالوا: أليس تزعم أن عيسى كان عبد انبيا وعبد اصالحا، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله!. فأنزل الله تعالى" وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ" أي يضجون كضجيج الإبل عند حمل الأثقال. قرأ نافع وابن عامر والكسائي" يَصِدُّونَ" (بضم الصاد) ومعناه يعرضون، قاله النخعي، وكسر الباقون. قال الكسائي: هما لغتان، مثل يعرشون ويعرشون، وينمون وينمون، ومعناه يضجون. قال الجوهري: وصد يصد صديدا، أي ضج. وقيل: إنه بالضم من الصدود وهو الاعراض، وبالكسر من الضجيج، قاله قطرب. قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لكانت: إذا قومك عنه يصدون. الفراء: هما سواء، منه وعنه. ابن المسيب: يصدون يضجون. الضحاك يعجون. ابن عباس: يضحكون. أبو عبيدة: من ضم فمعناه يعدلون، فيكون المعنى: من أجل الميل يعدلون. ولا يعدى" يَصِدُّونَ" بمن، ومن كسر فمعناه يضجون، ف" من" متصلة ب" يَصِدُّونَ" والمعنى يضجون منه.
__________
(1). آية 98 سورة الأنبياء.
(2). آية 101 سورة الأنبياء.
(3). راجع ج 11 ص 343 فما بعدها.

وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)

[سورة الزخرف (43): آية 58]
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
قوله تعالى:" وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ" أي آلهتنا خير أم عيسى؟ قاله السدي. وقال: خاصموه وقالوا إن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى والملائكة وعزير، فأنزل الله تعالى" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ" [الأنبياء: 1 0 1] الآية. وقال قتادة:" أَمْ هُوَ" يعنون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي قراءة ابن مسعود" آلهتنا خير أم هذا". وهو يقوي قول قتادة، فهو استفهام تقرير في أن آلهتهم خير. وقرا الكوفيون ويعقوب" أَآلِهَتُنا" بتحقيق الهمزتين، ولين الباقون. وقد تقدم." ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا"" جدلا" حال، أي جدلين. يعني ما ضربوا لك هذا المثل إلا إرادة الجدل، لأنهم علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموات" بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ" مجادلون بالباطل. وفي صحيح الترمذي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل- ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية-" ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ" [.

[سورة الزخرف (43): الآيات 59 الى 60]
إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
قوله تعالى:" إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ" أي ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالنبوة، وجعله مثلا لبني إسرائيل، أي آية وعبرة يستدل بها على قدرة الله تعالى، فإن عيسى كان من غير أب، ثم جعل إليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والاسقام كلها ما لم يجعل لغيره في زمانه، مع أن بني إسرائيل كانوا يومئذ خير الخلق وأحبه إلى الله عز وجل، والناس دونهم، ليس أحد عند الله عز وجل مثلهم. وقيل: المراد بالعبد المنعم عليه محمد صلى الله عليه

وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)

وسلم، والأول أظهر." وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ" أي بدلا منكم" مَلائِكَةً" يكونون خلفا عنكم، قاله السدي. ونحوه عن مجاهد قال: ملائكة يعمرون الأرض بدلا منكم. وقال الأزهري: إن" من" قد تكون للبدل، بدليل هذه الآية. قلت: قد تقدم هذا المعنى في" براءة" «1» وغيرها. وقيل: لو نشاء لجعلنا من الانس ملائكة وإن لم تجر العادة بذلك، والجواهر جنس واحد والاختلاف بالأوصاف، والمعنى: لو نشاء لاسكنا الأرض الملائكة، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا، أو يقال لهم بنات الله. ومعنى" يَخْلُفُونَ" يخلف بعضهم بعضا، قاله ابن عباس.

[سورة الزخرف (43): الآيات 61 الى 62]
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
قوله تعالى:" وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها" قال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير: يريد القرآن، لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، أو به تعلم الساعة وأهوالها وأحوالها. وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة أيضا: إنه خروج عيسى عليه السلام، وذلك من أعلام الساعة، لان الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. وقرا ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك" وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ" (بفتح العين واللام) أي أمارة. وقد روي عن عكرمة" وإنه للعلم" (بلامين) وذلك خلاف للمصاحف. وعن عبد الله بن مسعود قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا الساعة فبدءوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم، فرد الحديث إلى عيسى بن مريم قال: قد عهد إلي فيما دون وجبتها فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل، فذكر خروج الدجال- قال: فأنزل فأقتله. وذكر الحديث، خرجه ابن ماجة في سننه. وفي صحيح مسلم ] فبينما هويعني المسيح الدجال- إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي
__________
(1). راجع ج 8 ص 141

دمشق بين مهرودتين «1» واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ] ينتهي [حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد «2» فيقتله ... [الحديث. وذكر الثعلبي والزمخشري وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء على ثنية من الأرض المقدسة يقال لها أفيق»
بين ممصرتين «4» وشعر رأسه دهين وبيده حربة يقتل بها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر والامام يؤم بهم فيتأخر الامام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به [. وروى خالد عن الحسن قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم إنه ليس بيني وبينه نبي وإنه أول نازل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقاتل الناس على الإسلام [. قال الماوردي: وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون رسولا إلى ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم. وهذا قول مردود لثلاثة أمور، منها الحديث، ولان بقاء الدنيا يقتضي التكليف فيها، ولأنه ينزل آمرا بمعروف وناهيا عن منكر. وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى له مقصورا على تأييد الإسلام والامر به والدعاء إليه. قلت: ثبت في صحيح مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد [. وعنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم [وفي رواية] فأمكم منكم [قال ابن أبي ذئب: تدري ] ما أمكم
__________
(1). أي شقتين أو حلتين.
(2). لد (بالضم والتشديد): قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين. [.....]
(3). في روح المعاني:" أفيق بفاء وقاف بوزن أمير، وهي هنا بالقدس الشريف نفسه ...".
(4). الممصرة من الثياب: التي فيها صفرة خفيفة.

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)

منكم [؟ قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فهذا نص على أنه ينزل مجددا لدين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي درس منه، لا بشرع مبتدأ والتكليف باق، على ما بيناه هنا وفي كتاب التذكرة. وقيل:" وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ" أي وإن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى، قاله ابن إسحاق. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى" وَإِنَّهُ" وإن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلم للساعة، بدليل قوله عليه السلام:] بعثت أنا والساعة كهاتين [وضم السبابة والوسطى، خرجه البخاري ومسلم. وقال الحسن: أول أشراطها محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." فَلا تَمْتَرُنَّ بِها" فلا تشكون فيها، يعني في الساعة، قاله يحيى بن سلام. وقال السدي: فلا تكذبون بها، ولا تجادلون فيها فإنها كائنة لا محالة." وَاتَّبِعُونِ" أي في التوحيد وفيما أبلغكم عن الله." هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ" أي طريق قويم إلى الله، أي إلى جنته. وأثبت الياء يعقوب في قوله" وَاتَّبِعُونِ" في الحالين، وكذلك" وَأَطِيعُونِ". وأبو عمرو وإسماعيل عن نافع في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين." وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ" أي لا تغتروا بوساوسه وشبه الكفار المجادلين، فان شرائع الأنبياء لم تختلف في التوحيد ولا فيما أخبروا به من علم الساعة وغيرها بما تضمنته من جنة أو نار." إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ" تقدم في" البقرة" «1» وغيرها

[سورة الزخرف (43): الآيات 63 الى 64]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
قوله تعالى:" وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ" قال ابن عباس: يريد إحياء الموتى وإبراء الاسقام وخلق الطير والمائدة وغيرها، والاخبار بكثير من الغيوب. وقال قتادة: البينات
__________ (1). راجع ج 2 ص 209 طبعه ثانية.] [

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)

هنا الإنجيل." قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ" أي النبوة، قاله السدي. ابن عباس: علم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح. وقيل الإنجيل، ذكره القشيري والماوردي." وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ" قال مجاهد: من تبديل التوراة. الزجاج: المعنى لأبين لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوراة. قال مجاهد: وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقيل: بين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام «1» التوراة على قدر ما سألوه. ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عنها. وقيل: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم وأشياء من أمر دنياهم فبين لهم أمر دينهم. ومذهب أبي عبيدة أن البعض بمعنى الكل، ومنه قوله تعالى:" يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ" «2» [غافر: 28]. وأنشد الأخفش قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو تعتلق بعض النفوس حمامها
والموت لا يعتلق بعض النفوس دون بعض. ويقال للمنية: علوق وعلاقة. قال المفضل البكري:
وسائله بثعلبة بن سير «3» ... وقد علقت بثعلبة العلوق
وقال مقاتل: هو كقوله" وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ" «4» [آل عمران: 50]. يعني ما أحل في الإنجيل مما كان محرما في التوراة، كلحم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت." فَاتَّقُوا اللَّهَ" أي اتقوا الشرك ولا تعبدوا إلا الله وحده، وإذا كان هذا قول عيسى فكيف يجوز أن يكون إلها أو ابن إله." وَأَطِيعُونِ" فيما أدعوكم إليه من التوحيد وغيره." إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ" أي عبادة الله صراط مستقيم، وما سواه معوج لا يؤدي سالكه إلى الحق.

[سورة الزخرف (43): الآيات 65 الى 66]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من هـ
(2). آية 28 سورة غافر.
(3). يريد ثعلبة بن سيار.
(4). آية 50 سورة آل عمران.] [

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)

قوله تعالى:" فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ" قال قتادة: يعني ما بينهم، وفيهم قولان: أحدهما- أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، خالف بعضهم بعضا، قاله مجاهد والسدي. الثاني- فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعاقبة، اختلفوا في عيسى، فقال النسطورية: هو ابن الله. وقالت اليعاقبة: هو الله. وقالت الملكية: ثالث ثلاثة أحدهم الله، قاله الكلبي ومقاتل، وقد مضى هذا في سورة" مريم" «1»." فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا" أي كفروا وأشركوا، كما في سورة" مريم" «2»." مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ" أي أليم عذابه، ومثله: ليل نائم، أي ينام فيه." هَلْ يَنْظُرُونَ" يريد الأحزاب لا ينتظرون." إِلَّا السَّاعَةَ" يريد القيامة." أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً" أي فجأة." وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" يفطنون. وقد مضى في غير موضع «3». وقيل: المعنى لا ينتظر مشركو العرب إلا الساعة. ويكون" الأحزاب" على هذا، الذين تحزبوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبوه من المشركين. ويتصل هذا بقوله تعالى:" ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا" «4» [الزخرف: 58].

[سورة الزخرف (43): آية 67]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67)
قوله تعالى:" الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ" يريد يوم القيامة." بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ" أي أعداء، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا." إِلَّا الْمُتَّقِينَ" فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة، قال معناه ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط، كانا خليلين، وكان عقبة يجالس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط، فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه، ففعل عقبة ذلك، فنذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتله فقتله يوم بدر صبرا «5»، وقتل أمية في المعركة، وفيهم نزلت هذه الآية. وذكر الثعلبي رضي الله عنه في هذه الآية «6» قال: كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب،
__________
(1). راجع ج 11 ص 106، 108.
(2). راجع ج 11 ص 106، 108.
(3). راجع ج 1 ص 197 طبعه ثانية أو ثالثة.
(4). آية 58 من هذه السورة.
(5). الصبر: نصب الإنسان للقتل.
(6). ما بين المربعين ساقط من هـ

يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)

إن فلانا كان يأمرني بطاعتك، وطاعة رسولك، وكان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر. ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي، واهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني. فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما، فيقول الله تعالى: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول يا رب، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول الله تعالى: نعم الخليل ونعم الأخ ونعم الصاحب كان. قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب، إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك يا رب ألا تهده بعدي، وأن تضله كما أضللتني، وأن تهينه كما أهنتني، فإذا مات خليله الكافر قال الله تعالى لهما: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك أن تضاعف عليه العذاب، فيقول الله تعالى: بئس الصاحب والأخ والخليل كنت. فيلعن كل واحد منهما صاحبه. قلت: والآية عامة في كل مؤمن ومتق وكافر ومضل.

[سورة الزخرف (43): آية 68]
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
قال مقاتل ورواه المعتمر بن سليمان عن أبيه: ينادي مناد في العرصات" يا عبادي لا خوف عليكم اليوم"، فيرفع أهل العرصة رؤوسهم، فيقول المنادي:" الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ" فينكس أهل الأديان رؤوسهم غير المسلمين. وذكر المحاسبي في الرعاية: وقد روي في هذا الحديث أن المنادي ينادي يوم القيامة:" يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون" فيرفع الخلائق رؤوسهم، يقولون: نحن عباد الله. ثم ينادي الثانية:" الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ" فينكس الكفار رؤوسهم ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم. ثم ينادي الثالثة:" الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ" [يونس: 63] فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم، قد أزال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم، لأنه أكرم الأكرمين، لا يخذل وليه ولا يسلمه عند الهلكة. وقرى" يا عباد".

الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)

[سورة الزخرف (43): الآيات 69 الى 70]
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
قال الزجاج:" الَّذِينَ" نصب على النعت ل" عِبادِي" لان" عِبادِي" منادي مضاف. وقيل:" الَّذِينَ آمَنُوا" [خبر لمبتدإ محذوف أو «1» [ابتداء وخبره محذوف، تقديره هم الذين آمنوا أو الذين آمنوا يقال لهم" ادخلوا الجنة". قرأ أبو بكر وزر بن حبيش" يا عبادي" بفتح الياء وإثباتها في الحالين، ولذلك أثبتها نافع وابن عامر وأبو عمرو ورويس ساكنة في الحالين. وحذفها الباقون في الحالين، لأنها وقعت مثبتة في مصاحف أهل الشام والمدينة لا غير." ادْخُلُوا الْجَنَّةَ". أي يقال لهم ادخلوا الجنة، أو يا عبادي الذين آمنوا ادخلوا الجنة." أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ" المسلمات في الدنيا. وقيل: قرناؤكم من المؤمنين. وقيل: زوجاتكم من الحور العين." تُحْبَرُونَ" تكرمون، قاله ابن عباس، والكرامة في المنزلة. الحسن: تفرحون، والفرح في القلب. قتادة: تنعمون، والنعيم في البدن. مجاهد: تسرون، والسرور في العين. ابن أبي نجيح: تعجبون، والعجب ها هنا درك ما يستطرف. يحيى بن أبي كثير: هو التلذذ بالسماع. وقد مضى هذا في" الروم" «2».

[سورة الزخرف (43): آية 71]
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ" أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب وأكواب. ولم يذكر الأطعمة والأشربة، لأنه يعلم أنه لا معنى للاطافة بالصحاف والأكواب عليهم من غير أن يكون فيها شي. وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب، كقوله تعالى:
__________
(1). زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها. [.....]
(2). راجع ج 14 ص 12

" وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ" «1» [الأحزاب: 35]. وفي الصحيحين عن حذيفة أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:] لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها «2» فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة [. وقد مضى في سورة" الحج" «3» أن من أكل فيهما في الدنيا أو لبس الحرير في الدنيا ولم يتب حرم ذلك في الآخرة تحريما مؤبدا. والله أعلم. وقال المفسرون: يطوف على أدناهم في الجنة منزلة سبعون ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب، يغدى عليه بها، في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا، ويراح عليه بمثلها. ويطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام، مع كل غلام صحفة من ذهب، فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا." وَأَكْوابٍ" أي ويطاف عليهم بأكواب، كما قال تعالى:" وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ" «4» [الإنسان: 15] وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أوتوا بالشراب الطهور فتضمر لذلك بطونهم، ويفيض عرقا من جلودهم أطيب من ريح المسك، ثم قرأ" شَراباً طَهُوراً" [الإنسان: 21]. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:] إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ] ولا يمتخطون [قالوا فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير- في رواية- كما يلهمون النفس [. الثانية- روى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وقال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها) وهذا يقتضي التحريم، ولا خلاف في ذلك.
__________
(1). آية 35 سورة الأحزاب. راجع ج 14 ص (185)
(2). قوله" في صحافها" على حد قوله تعالى:" وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها ... فالضمير" عائد على الفضة، ويلزم حكم الذهب بطريق الاولى.
(3). راجع ج 12 ص 29.
(4). آية 15 سورة الإنسان.

واختلف الناس في استعمالها في غير ذلك. قال ابن العربي: والصحيح أنه لا يجوز للرجال استعمالها في شي، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الذهب والحرير: (هذان حرام لذكور أمتي حل لإناثها). والنهي عن الأكل والشرب فيها يدل على تحريم استعمالها، لأنه نوع من المتاع فلم يجز. أصله الأكل والشرب، ولان العلة في ذلك استعجال أمر «1» الآخرة، وذلك يستوي فيه الأكل والشرب وسائر أجزاء الانتفاع، ولأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) فلم يجعل لنا فيها حظا في الدنيا. الثالثة- إذا كان الإناء مضببا بهما أو فيه حلقة منهما، فقال مالك: لا يعجبني أن يشرب فيه، وكذلك المرآة تكون فيها الحلقة من الفضة ولا يعجبني أن ينظر فيها وجهه. وقد كان عند أنس إناء مضبب بفضة وقال: لقد سقيت فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن سيرين: كانت فيه حلقة حديد فأراد أنس أن يجعل فيه حلقة فضة، فقال أبو طلحة: لا أغير شيئا مما صنعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتركه. الرابعة- إذا لم يجز استعمالها لم يجز اقتناؤها، لان ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطنبور «2». وفي كتب علمائنا أنه يلزم الغرم في قيمتها لمن كسرها، وهو معنى فاسد، فإن كسره واجب فلا ثمن لقيمتها. ولا يجوز تقويمها في الزكاة بحال. وغير هذا لا يلتفت إليه. قوله تعالى:" بِصِحافٍ" قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف. قوله تعالى:" وَأَكْوابٍ" قال الجوهري: الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب. قال الأعشى يصف الخمر:
__________
(1). في ابن العربي:" أجر".
(2). الطنبور: من آلات الطرب ذو عنق طويل وستة أوتار من نحاس، معرب.

صريفية طيب طعمها ... لها زبد بين كوب ودن «1»
وقال آخر «2»:
متكئا تصفق أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب
وقال قتادة: الكوب المدور القصير العنق القصير العروة. والإبريق المستطيل العنق الطويل العروة. وقال الأخفش: الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها. وقال قطرب: هي الأباريق التي ليست لها عرى. وقال مجاهد: إنها الآنية المدورة الأفواه. السدي: هي التي لا آذان لها. ابن عزيز:" أَكْوابٍ" أباريق لا عرى لها ولا خراطيم، واحدها كوب. قلت: وهو معنى قول مجاهد والسدي، وهو مذهب أهل اللغة أنها التي لا آذان لها ولا عرى. قوله تعالى:" وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ" روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من خيل؟ قال:] إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها «3» على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك ] في الجنة «4» [حيث شئت [. قال: وسأله رجلا فقال يا رسول الله، هل في الجنة من إبل؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه قال:] إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك [. وقرا أهل المدينة، ابن عامر واهل الشام" وفيها ما تشتهيه الأنفس"، الباقون" تشتهي الأنفس" أي تشتهيه الأنفس، تقول الذي ضربت زيد، أي الذي ضربته زيد." وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ" تقول: لذ الشيء يلذ لذاذا، ولذاذة. ولذذت. بالشيء ألذ (بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل) لذاذا ولذاذة، أي وجدته لذيذا. والتذذت به وتلذذت به بمعنى. أي في الجنة ما تستلذه العين فكان حسن المنظر. وقال سعيد بن جبير:" وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ" النظر إلى الله عز وجل، كما في الخبر:] أسألك لذة النظر إلى وجهك [." وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ" باقون دائمون، لأنها لو انقطعت لتبغضت.
__________ (1). الصريفية: الخمر المنسوبة إلى صريفون، وهي قرية عند عكبراء، أو لأنها أخذت من الدن ساعتئذ كاللبن الصريف (الحليب الحار ساعة يصرف من الضرع).
(2). هو عدي بن زيد.
(3). من أح ز ن هـ
(4). زيادة عن سنن الترمذي.

وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)

[سورة الزخرف (43): آية 72]
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
قوله تعالى:" وَتِلْكَ الْجَنَّةُ" أي يقال لهم هذه تلك الجنة التي كانت توصف لكم في الدنيا. وقال ابن خالويه: أشار تعالى إلى الجنة بتلك وإلى جهنم بهذه، ليخوف بجهنم ويؤكد التحذير منها. وجعلها بالإشارة القريبة كالحاضرة التي ينظر إليها." الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" قال ابن عباس: خلق الله لكل نفس جنة ونارا، فالكافر يرث نار المسلم، والمسلم يرث جنة الكافر، وقد تقدم هذا مرفوعا في" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ" «1» [المؤمنون: 1] من حديث أبي هريرة، وفي" الأعراف" «2» أيضا.

[سورة الزخرف (43): آية 73]
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
الفاكهة معروفة، وأجناسها الفواكه، والفاكهاني الذي يبيعها. وقال ابن عباس: هي الثمار كلها، رطبها ويابسها، أي لهم في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة يأكلون منها.

[سورة الزخرف (43): الآيات 74 الى 76]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
قوله تعالى:" إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ" لما ذكر أحوال أهل الجنة ذكر أحوال أهل النار أيضا ليبين فضل المطيع على العاصي" لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ" أي لا يخفف عنهم ذلك العذاب." وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ" أي آيسون من الرحمة. وقيل: ساكتون سكوت يأس، وقد مضى في" الانعام" «3»" وَما ظَلَمْناهُمْ" بالعذاب" وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ" أنفسهم بالشرك. ويجوز" ولكن كانوا هم الظالمون" بالرفع على الابتداء والخبر، والجملة خبر كان.

[سورة الزخرف (43): آية 77]
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77)
__________
(1). راجع ج 12 ص (108)
(2). راجع ج 7 ص (208)
(3). راجع ج 6 ص 426 [.....]

قوله تعالى:" وَنادَوْا يا مالِكُ" وهو خازن جهنم، خلقه لغضبه، إذا زجر النار زجرة أكل بعضها بعضا. وقرا علي وابن مسعود رضي الله عنهما" ونادوا يا مال" وذلك خلاف المصحف. وقال أبو الدرداء وابن مسعود: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ونادوا يا مال" باللام خاصة، يعني رخم الاسم وحذف الكاف. والترخيم الحذف، ومنه ترخيم الاسم في النداء، وهو أن يحذف من آخره حرف أو أكثر، فتقول في مالك: يا مال، وفى حارث: يا حار، وفي فاطمة: يا فاطم، وفي عائشة: يا عائش وفي مروان: يا مرو، وهكذا. قال:
يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك «1»
وقال امرؤ القيس:
أحار ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل «2»
وقال أيضا:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل «3»
وقال آخر: «4»
يا مرو إن مطيتي محبوسة ... ترجو الحباء وربها لم ييأس
وفي صحيح الحديث (أي فل، هلم). ولك في آخر الاسم المرخم وجهان: أحدهما- أن تبقيه على ما كان عليه قبل الحذف. والآخر- أن تبنيه على الضم، مثل: يا زيد، كأنك أنزلته منزلته ولم تراع المحذوف. وذكر أبو بكر الأنباري قال: حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد- وهو ابن سعدان- قال حدثنا حجاج عن شعبة عن الحكم بن
__________
(1). البيت لزهير بن أبي سلمى، وهو من قصيدة يخاطب بها الحارث بن ورقاء الصيداوي وكان أغار على بني عبد الله ابن غطفان فغنم واخذ ابل زهير وراعيته يسارا، فطالبهم بذلك ليردوا عليه ما أخذوه وتوعدهم بالهجاء ... إلخ، راجع شرح ديوان زهير ص 164 المطبوع بدار الكتب المصرية.
(2). يروى" أصاح". والحبي: السحاب المعترض بالأفق. والمكلل: المتراكب.
(3). فاطمة هي ابنة عبيد بن ثعلبة بن عامر. والصرم (بالضم): القطيعة.
(4). هو الفرزدق يخاطب مروان بن الحكم وكان واليا على المدينة فوفد عليه مادحا له، فأبطأ عليه جائزته ... والحباء (بكسر الحاء المهملة): العطاء. وجعل الرجل للناقة وهو يريد نفسه مجازا. (شرح الشواهد للشنتمري).

عيينة عن مجاهد قال: كنا لا ندري ما الزخرف حتى وجدناه في قراءة عبد الله" بيت من ذهب"»
، وكنا لا ندري" وَنادَوْا يا مالِكُ" أو يا ملك «2» (بفتح اللام وكسرها) حتى وجدناه في قراءة عبد الله" ونادوا يا مال" على الترخيم. قال أبو بكر: لا يعمل على هذا الحديث لأنه مقطوع لا يقبل مثله في الرواية عن الرسول عليه السلام، وكتاب الله أحق بأن يحتاط له وينفى عنه الباطل. قلت: وفي صحيح البخاري عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ على المنبر" وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ" بإثبات الكاف. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني- أو ذكر لي- أن أهل النار استغاثوا بالخزنة فقال الله تعالى:" وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ" «3» [غافر: 49] فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب، فردت عليهم" أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ" [غافر: 50] قال: فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكا، وهو عليهم وله مجلس في وسطها، وجسور تمر عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها فقالوا:" يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ" قال: سألوا الموت، قال: فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال: والسنة ستون وثلاثمائة يوم، والشهر ثلاثون يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال:" إِنَّكُمْ ماكِثُونَ" وذكر الحديث، ذكره ابن المبارك. وفي حديث أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] فيقولون ادعوا مالكا فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [. قال الأعمش: نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام، خرجه الترمذي. وقال ابن عباس: يقولون ذلك فلا يجيبهم ألف سنة، ثم يقول إنكم ماكثون. وقال مجاهد ونوف البكالي: بين ندائهم وإجابته إياهم مائة سنة. وقال عبد الله بن عمرو: أربعون سنة، ذكره ابن المبارك.
__________
(1). في قوله تعالى:" أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ" آية 93 سورة الاسراء. راجع ج 10 ص (331)
(2). لفظة: أو يا ملك ساقطة من ن ز.
(3). آية 49 سورة غافر.

لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)

[سورة الزخرف (43): آية 78]
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
يحتمل أن يكون هذا من قول مالك لهم، أي إنكم ماكثون في النار لأنا جئناكم في الدنيا بالحق فلم تقبلوا. ويحتمل أن يكون من كلام الله لهم اليوم، أي بينا لكم الادلة وأرسلنا إليكم الرسل." وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ" قال ابن عباس:" وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ" أي ولكن كلكم. وقيل: أراد بالكثرة الرؤساء والقادة منهم، وأما الاتباع فما كان لهم أثر" لِلْحَقِّ" أي للإسلام ودين الله" كارِهُونَ".

[سورة الزخرف (43): آية 79]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم بالمكر بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار الندوة، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه، فنزلت هذه الآية، وقتل الله جميعهم ببدر." أَبْرَمُوا" أحكموا. والإبرام الأحكام. أبرمت الشيء أحكمته. وأبرم الفتال إذا أحكم الفتل، وهو الفتل الثاني، والأول سحيل، كما قال:
... من سحيل «1» ومبرم

فالمعنى أم أحكموا كيدا فإنا محكمون لهم كيدا، قاله ابن زيد ومجاهد. قتادة: أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث. الكلبي: أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم بالعذاب. وام بمعنى بل. وقيل:" أَمْ أَبْرَمُوا" عطف على قوله" أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ" «2» [الزخرف: 45]. وقيل: أي ولقد جئناكم بالحق فلم تسمعوا، أم سمعوا فأعرضوا لأنهم في أنفسهم أبرموا أمرا أمنوا به العقاب.

[سورة الزخرف (43): آية 80]
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
__________
(1). هذا عجز بيت لزهير بن أبي سلمى. والبيت كما في ديوانه:
يمينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم
والسحيل، الغزل الذي لم يبرم.
(2). آية 45 من هذه السورة.

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)

قوله تعالى:" أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ" أي ما يسرونه في أنفسهم ويتناجون به بينهم." بَلى " نسمع ونعلم." وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ" أي الحفظة عندهم يكتبون عليهم. وروي أن هذا نزل في ثلاثة نفر كانوا بين الكعبة وأستارها، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا؟ وقال الثاني: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع. وقال الثالث: إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم. قاله محمد بن كعب القرظي. وقد مضى هذا المعنى عن ابن مسعود في سورة" فصلت" «1».

[سورة الزخرف (43): الآيات 81 الى 82]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
قوله تعالى:" قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ" اختلف في معناه، فقال ابن عباس والحسن والسدي: المعنى ما كان للرحمن ولد، ف" إن" بمعنى ما، ويكون الكلام على هذا تاما، ثم تبتدئ" فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ" أي الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له. والوقف على" الْعابِدِينَ" تام. وقيل: المعنى قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده، ولكن يستحيل أن يكون له ولد، وهو كما تقول لمن تناظره: إن ثبت ما قلت بالدليل فأنا أول من يعتقده، وهذا مبالغة في الاستبعاد، أي لا سبيل إلى اعتقاده. وهذا ترقيق في الكلام، كقوله:" وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" «2» [سبأ: 24]. والمعنى على هذا: فأنا أول العابدين لذلك الولد، لان تعظيم الولد تعظيم للوالد. وقال مجاهد: المعنى إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده وحده، على أنه لا ولد له. وقال السدي أيضا: المعنى لو كان له ولد كنت أول من عبده، على أن له ولدا ولكن لا ينبغي ذلك. قال المهدوي: ف" إِنْ" على هذه الأقوال للشرط، وهو الأجود، وهو اختيار الطبري، لان كونها بمعنى ما يتوهم معه أن المعنى لم يكن له فيما مضى. وقيل: إن معنى" الْعابِدِينَ" الآنفين. وقال بعض العلماء: لو كان كذلك لكان العبدين.
__________
(1). راجع ج 15 ص (351)
(2). آية 42 سورة سبأ. راجع ج 14 ص 298

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)

وكذلك قرأ أبو عبد الرحمن واليماني" فأنا أول العبدين" بغير ألف، يقال، عبد يعبد عبد ا (بالتحريك) إذا أنف وغضب فهو عبد، والاسم العبدة مثل الأنفة، عن أبي زيد. قال الفرزدق:
أولئك أجلاسي فجئني بمثلهم ... وأعبد أن أهجو كليبا بدارم
وينشد أيضا:
أولئك ناس إن هجوني هجوتهم ... وأعبد أن يهجي كليب بدارم
قال الجوهري: وقال أبو عمرو وقوله تعالى" فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ" من الأنف والغضب، وقال الكسائي والقتبي، حكاه الماوردي عنهما. وقال الهروي: وقوله تعالى" فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ" قيل هو من عبد يعبد، أي من الآنفين. وقال ابن عرفة: إنما يقال عبد يعبد فهو عبد، وقلما يقال عابد، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ، ولكن المعنى فأنا أول من يعبد الله عز وجل على أنه واحد لا ولد له. وروي أن امرأة دخلت على زوجها فولدت منه لستة أشهر، فذكر ذلك لعثمان رضي الله عنه فأمر برجمها، فقال له علي: قال الله تعالى" وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ «1» شَهْراً" [الأحقاف: 15] وقال في آية أخرى" وَفِصالُهُ فِي «2» عامَيْنِ" [لقمان: 14] فوالله ما عبد عثمان أن بعث إليها ترد. قال عبد الله بن وهب: يعني ما استنكف ولا أنف. وقال ابن الاعرابي:" فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ" أي الغضاب الآنفين. وقيل:" فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ" أي أنا أول من يعبده على الوحدانية مخالفا لكم. أبو عبيدة: معناه الجاحدين، وحكى: عبدني حقي أي جحدني «3». وقرا أهل الكوفة إلا عاصما" ولد" بضم الواو وإسكان اللام. الباقون وعاصم" وَلَدٌ" وقد تقدم «4»." سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أي تنزيها له وتقديسا. نزه نفسه عن كل ما يقتضي الحدوث، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتنزيه." عَمَّا يَصِفُونَ" أي عما يقولون من الكذب.

[سورة الزخرف (43): آية 83]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
__________ (1). راجع ص 193 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 14 ص 63.
(3). لفظة أى جحدنى ساقط من ل. [.....]
(4). راجع ج 11 ص 155

وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)

قوله تعالى:" فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا" يعني كفار مكة حين كذبوا بعذاب الآخرة. أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم" حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ" إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة. وقيل: إن هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو محكم، وإنما أخرج مخرج التهديد. وقرا ابن محيصن ومجاهد وحميد وابن القعقاع وابن السميقع" حتى يلقوا" بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف، وفتح القاف هنا وفي" الطور" «1» و" المعارج" «2». الباقون" يُلاقُوا".

[سورة الزخرف (43): آية 84]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
هذا تكذيب لهم في أن لله شريكا وولدا، أي هو المستحق للعبادة في السماء والأرض. وقال عمر رضي الله عنه وغيره: المعنى وهو الذي في السماء إله في الأرض «3»، وكذلك قرأ. والمعنى أنه يعبد فيهما. وروي أنه قرأ هو وابن مسعود وغيرهما" وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله" وهذا خلاف المصحف. و" إِلهٌ" رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي وهو الذي في السماء هو إله، قاله أبو علي. وحسن حذفه لطول الكلام. وقيل:" في" بمعنى على، كقوله تعالى:" وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ" [طه: 71] أي على جذوع النخل «4»، أي هو القادر على السماء والأرض." وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ" تقدم «5».

[سورة الزخرف (43): آية 85]
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
" تَبارَكَ" تفاعل من البركة، وقد تقدم «6»." وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ" أي وقت قيامها." وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي" وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" بالياء. الباقون بالتاء. وكان ابن محيصن وحميد ويعقوب وابن أبي إسحاق يفتحون أوله على أصولهم. وضم الباقون.
__________
(1). آية (45)
(2). آية (42)
(3). في بعض نسخ الأصل:" ... في السماء اله وفي الأرض ..."
(4). راجع ج 11 ص 224.
(5). راجع ج 1 ص 287 طبعه ثانية أو ثالثة.
(6). راجع ج 7 ص 223

وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)

[سورة الزخرف (43): آية 86]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ"" مِنْ" في موضع الخفض. وأراد ب" الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ" عيسى وعزيرا والملائكة. والمعنى ولا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة، قاله سعيد بن جبير وغيره. قال: وشهادة الحق لا إله إلا الله. وقيل:" مَنْ" في محل رفع، أي ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة، يعني الآلهة- في قول قتادة- أي لا يشفعون لعابديها إلا من شهد بالحق، يعني عزيرا وعيسى والملائكة فإنهم يشهدون بالحق والوحدانية لله." وَهُمْ يَعْلَمُونَ" حقيقة ما شهدوا به. وقيل: إنها نزلت بسبب أن النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة لنا منه، فأنزل الله" وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ" أي اعتقدوا أن الملائكة أو الأصنام أو الجن أو الشياطين تشفع لهم ولا شفاعة لاحد يوم القيامة." إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ" يعني المؤمنين إذا أذن لهم. قال ابن عباس:" إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ" أي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل: أي لا يملك هؤلاء العابدون من دون الله أن يشفع لهم أحد إلا من شهد بالحق، فإن من شهد بالحق يشفع له ولا يشفع لمشرك. و" إِلَّا" بمعنى لكن، أي لا ينال المشركون الشفاعة لكن ينال الشفاعة من شهد بالحق، فهو استثناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا، لان في جملة" الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ" الملائكة. ويقال: شفعته وشفعت له، مثل كلته وكلت له. وقد مضى في" البقرة" معنى الشفاعة واشتقاقها فلا معنى لإعادتها «1». وقيل:" إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ" إلا من تشهد له الملائكة بأنه كان على الحق في الدنيا، مع علمهم بذلك منه بأن يكون الله أخبرهم به، أو بأن شاهدوه على الايمان.
__________ (1). راجع ج 1 ص 378 طبعه ثانية أو ثالثة.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)

الثانية- قوله تعالى:" إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" يدل على معنيين: أحدهما- أن الشفاعة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقيد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني- أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها. ونحوه ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع [. وقد مضى في" البقرة" «1».

[سورة الزخرف (43): آية 87]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
قوله تعالى:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" أي لأقروا بأن الله خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا." فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ" أي كيف ينقلبون عن عبادته وينصرفون عنها حتى أشركوا به غيره رجاء شفاعتهم له. يقال: أفكه يأفكه إفكا، أي قلبه وصرفه عن الشيء. ومنه قوله تعالى:" قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا" «2» [الأحقاف: 22]. وقيل: أي ولين سألت الملائكة وعيسى" مَنْ خَلَقَهُمْ" لقالوا الله." فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ" أي فأنى يؤفك هؤلاء في ادعائهم إياهم آلهة.

[سورة الزخرف (43): آية 88]
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88)
في" قِيلِهِ" ثلاث قراءات: النصب، والجر، والرفع. فأما الجر فهي قراءة عاصم وحمزة. وبقية السبعة بالنصب. وأما الرفع فهي قراءة الأعرج وقتادة وابن هرمز ومسلم بن جندب. فمن جر حمله على معنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله. ومن نصب فعلى معنى: وعنده علم الساعة ويعلم قيله، وهذا اختيار الزجاج. وقال الفراء والأخفش: يجوز أن يكون" قِيلِهِ" عطفا على قوله" أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ" «3» [الزخرف: 80]. قال ابن الأنباري: سألت أبا العباس محمد ابن يزيد المبرد بأي شيء تنصب القيل؟ فقال: أنصبه على" وعنده علم الساعة ويعلم قيله". فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على" تُرْجَعُونَ"، ولا على" يَعْلَمُونَ". ويحسن الوقف على" يَكْتُبُونَ" «4». وأجاز الفراء والأخفش أن ينصب القيل على معنى: لا نسمع سرهم ونجواهم
__________
(1). راجع ج 3 ص 389.
(2). آية 22 سورة الأحقاف.
(3). آية 80 من هذه السورة.
(4). في آية 80.

فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

وقيله، كما ذكرنا عنهما فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على يَكْتُبُونَ. وأجاز الفراء والأخفش أيضا: أن ينصب على المصدر، كأنه قال: وقال قيله، وشكا شكواه إلى الله عز وجل، كما قال كعب بن زهير:
تمشي الوشاة جنابيها «1» وقيلهم ... إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
أراد: ويقولون قيلهم. ومن رفع قِيلِهِ فالتقدير: وعنده قيله، أو قيله مسموع، أو قيله هذا القول «2». الزمخشري: والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه. والرفع على قولهم: أيمن الله وأمانة الله ويمين الله ولعمرك، ويكون قوله" إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ" جواب القسم، كأنه قال: وأقسم بقيله يا رب، أو قيله يا رب قسمي، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وقال ابن الأنباري: ويجوز في العربية" وقيله" بالرفع، على أن ترفعه بإن هؤلاء قوم لا يؤمنون. المهدوي: أو يكون على تقدير وقيله قيله يا رب، فحذف قيله الثاني «3» الذي هو خبر، وموضع" يا رَبِّ" نصب بالخبر المضمر، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع حذف بعض الموصول وبقي بعضه، لان حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور. والهاء في" قِيلِهِ" لعيسى، وقيل لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد جرى ذكره إذ قال" قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ" [الزخرف: 81]. وقرا أبو قلابة" يا رب" بفتح الباء. والقيل مصدر كالقول، ومنه الخبر] نهى عن قيل وقال [. ويقال: قلت قولا وقيلا وقالا. وفي النساء وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا «4» [النساء: 122].

[سورة الزخرف (43): آية 89]
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم، فصار الصفح منسوخا بالسيف. ونحوه عن ابن عباس قال:" فَاصْفَحْ عَنْهُمْ" أي أعرض عنهم." وَقُلْ سَلامٌ" أي معروفا، أي قل لمشركي أهل مكة" فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" ثم نسخ هذا في سورة" براءة" بقوله تعالى:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «5» [التوبة: 5] الآية. وقيل: هي محكمة لم تنسخ. وقراءة العامة" فسوف
__________ (1). أي ناحيتيها.
(2). أو قيله هذا القول ساقط من ح وفي ز ل وفيه هذا القول. [.....]
(3). في الأصول:" الأول".
(4). آية 122.
(5). آية 5.

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)

يعملون" (بالياء) على أنه خبر من الله تعالى لنبيه بالتهديد. وقرا نافع وابن عامر" تعلمون" (بالتاء) على أنه من خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمشركين بالتهديد. و" سَلامٌ" رفع بإضمار عليكم، قاله الفراء. ومعناه الامر بتوديعهم بالسلام، ولم يجعله تحية لهم، حكاه النقاش. وروى شعيب بن الحبحاب أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم، والله أعلم.

[تفسير سورة الدخان ]
سورة الدخان مكية باتفاق، إلا قوله تعالى:" إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا" «1» [الدخان: 15]. وهي سبع وخمسون آية. وقيل تسع. وفي مسند الدارمي عن أبي رافع قال: (من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له وزوج من الحور العين) رفعه الثعلبي من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له). وفي لفظ آخر عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قرأ الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك). وعن أبي أمامة قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
إن جعلت" حم" جواب القسم تم الكلام عند قوله" الْمُبِينِ" ثم تبتدئ" إِنَّا أَنْزَلْناهُ". وإن جعلت" إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ" جواب القسم الذي هو" الْكِتابِ" وقفت على" مُنْذِرِينَ" وابتدأت" فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ". وقيل: الجواب" إِنَّا أَنْزَلْناهُ"، وأنكره بعض النحويين من حيث كان صفة للمقسم به، ولا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم، والهاء في" أَنْزَلْناهُ"
__________
(1). آية 15

فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)

للقرآن. ومن قال: أقسم بسائر الكتب فقوله" إِنَّا أَنْزَلْناهُ" كنى به عن غير القرآن، على ما تقدم بيانه في أول" الزخرف" «1» والليلة المباركة ليلة القدر. ويقال: ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة القدر. ووصفها بالبركة لما ينزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب. وروى قتادة عن واثلة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان وأنزلت الزبور لاثنتي عشرة من رمضان وأنزل الإنجيل لثمان عشرة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان (. ثم قيل: أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا في هذه الليلة. ثم أنزل نجما نجما في سائر الأيام على حسب اتفاق الأسباب. وقيل: كان ينزل في كل ليلة القدر ما ينزل في سائر السنة. وقيل كان ابتداء الانزال في هذه الليلة. وقال عكرمة: الليلة المباركة ها هنا ليلة النصف من شعبان. والأول أصح لقوله تعالى:" إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" «2» [القدر: 1]. قال قتادة وابن زيد: أنزل الله القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم أنزله الله على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة. وهذا المعنى قد مضى في" البقرة" «3» عند قوله تعالى" شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ" [البقرة: 185]، ويأتي آنفا إن شاء الله تعالى.

[سورة الدخان (44): آية 4]
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق. وقاله قتادة ومجاهد والحسن وغيرهم. وقيل: إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران، قاله ابن عمر. قال المهدوي: ومعنى هذا القول أمر الله عز وجل الملائكة بما يكون في ذلك العام ولم يزل ذلك في علمه عز وجل. وقال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وروى عثمان «4» بن المغيرة قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تقطع الآجال من شعبان
__________
(1). راجع ص 61 من هذا الجزء.
(2). آية 185.
(3). راجع ج 2 ص 290 طبعه ثانية.)
(4). في أح ز: وروى عثمان أن المغيرة.

إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى (. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلتها وصوموا نهارها فإن الله ينزل لغروب الشمس إلى سماء الدنيا يقول ألا مستغفر فأغفر له ألا مبتلى فأعافيه ألا مسترزق فأرزقه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر) ذكره الثعلبي. وخرج الترمذي بمعناه عن عائشة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب (. وفي الباب عن أبي بكر الصديق قال أبو عيسى: حديث عائشة لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحجاج بن أرطاه عن يحيى بن أبي كثيرة عن عروة عن عائشة، وسمعت محمدا يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة والحجاج بن أرطاه لم يسمع من يحيى بن أبي كثير. قلت: وقد ذكر حديث عائشة مطولا صاحب كتاب العروس، واختار أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة النصف من شعبان، وأنها تسمى ليلة البراءة. وقد ذكرنا قوله والرد عليه في غير هذا الموضع، وأن الصحيح إنما هي ليلة القدر على ما بيناه. روى حماد ابن سلمة قال أخبرنا ربيعة بن كلثوم قال: سأل رجل الحسن وأنا عنده فقال: يا أبا سعيد، أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ قال: أي والله»
الذي لا إله إلا هو، إنها في كل رمضان، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها. وقال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج، يقال: يحج فلان ويحج فلان. وقال في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى، وهذه الإبانة لأحكام السنة إنما هي للملائكة الموكلين بأسباب الخلق. وقد ذكرنا هذا المعنى آنفا. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر. ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان، وهو باطل لان الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع:" شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ" «2» [البقرة: 185] فنص على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عين من زمانه الليل ها هنا بقوله" فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ"،
__________
(1). من ح ل.
(2). راجع ج 2 ص 290.

أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)

فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها. الزمخشري:" وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق وال والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم: يعطى كل عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى قلوبهم هيبته. وقرى" نفرق" بالتشديد، و" يفرق" كل على بنائه للفاعل ونصب" كل"، والفارق الله عز وجل. وقرا زيد بن علي رضي الله عنه" نفرق" بالنون." كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ" كل شأن ذي حكمة، أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة".

[سورة الدخان (44): الآيات 5 الى 6]
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
قوله تعالى:" أَمْراً مِنْ عِنْدِنا" قال النقاش: الامر هو القرآن أنزله الله من عنده. وقال ابن عيسى: هو ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده. وهو مصدر في موضع الحال. وكذلك" رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ" وهما عند الأخفش حالان، تقديرهما: أنزلناه آمرين به وراحمين. المبرد:" أَمْراً" في موضع المصدر، والتقدير: أنزلناه إنزالا. الفراء والزجاج:" أَمْراً" نصب ب" يُفْرَقُ"، مثل قولك: يفرق فرقا. فأمر بمعنى فرق فهو مصدر، مثل قولك: يضرب ضربا. وقيل:" يُفْرَقُ" يدل على يؤمر، فهو مصدر عمل فيه ما قبله." إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ" قال الفراء «1»:" رَحْمَةً" مفعول ب" مُرْسِلِينَ". والرحمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الزجاج:" رَحْمَةً" مفعول من أجله، أي أرسلناه للرحمة. وقيل: هي بدل من قوله" أَمْراً". وقيل: هي مصدر. الزمخشري:" أَمْراً" نصب على الاختصاص، جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه
__________
(1). جملة قال الفراء: ساقطة من أح.

رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)

فخامة بأن قال: أعنى بهذا الامر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا. وفي قراءة زيد بن علي" أمر من عندنا" على هو أمر، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرا الحسن" رحمة" على تلك هي رحمة، وهي تنصر انتصابها بأنه مفعول له.

[سورة الدخان (44): الآيات 7 الى 9]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
قوله تعالى:" رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" قرأ الكوفيون" رب" بالجر. الباقون بالرفع، ردا على قوله" إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". وإن شئت على الابتداء، والخبر لا إله إلا هو. أو يكون خبر ابتداء محذوف، تقديره: هو رب السموات والأرض. والجر على البدل من" رَبِّكَ" وكذلك" رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ" بالجر فيهما، رواه الشيزري «1» عن الكسائي. الباقون بالرفع على الاستئناف. ثم يحتمل أن يكون هذا الخطاب مع المعترف بأن الله خلق السموات والأرض، أي إن كنتم موقنين به فاعلموا أن له أن يرسل الرسل، وينزل الكتب. ويجوز أن يكون الخطاب مع من لا يعترف أنه الخالق، أي ينبغي أن يعرفوا أنه الخالق، وأنه الذي يحيي ويميت. وقيل: الموقن ها هنا هو الذي يريد اليقين ويطلبه، كما تقول: فلان ينجد، أي يريد نجدا. ويتهم، أي يريد تهامة." لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ" أي هو خالق العالم، فلا يجوز أن يشرك به غيره ممن لا يقدر على خلق شي. و" هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ" أي يحيي الأموات ويميت الأحياء." رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ" أي مالككم ومالك من تقدم منكم. واتقوا تكذيب محمد لئلا ينزل بكم العذاب." بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ" أي ليسوا على يقين فيما يظهرونه من الايمان والإقرار في قولهم: إن الله خالقهم، وإنما
__________
(1). هو عيسى بن سليمان أبو موسى الحجازي، كان حجازيا ثم انتقل إلى شيزر (كحيدر، بلدة قرب حماة) وأقام بها إلى أن مات فنسب إليها، أخذ القراءة عرضا وسماعا من الكسائي، وله عنه انفرادات. (غاية النهاية).

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)

يقولونه لتقليد «1» آبائهم من غير علم فهم في شك. وإن توهموا أنهم مؤمنون فهم يلعبون في دينهم بما يعن لهم من غير حجة. وقيل:" يَلْعَبُونَ" يضيفون إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الافتراء استهزاء. ويقال لمن أعرض عن المواعظ: لاعب، وهو كالصبي الذي يلعب فيفعل ما لا يدري عاقبته.

[سورة الدخان (44): الآيات 10 الى 11]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11)
قوله تعالى:" فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ" ارتقب معناه انتظر يا محمد بهؤلاء الكفار يوم تأتي السماء بدخان مبين، قاله قتادة. وقيل: معناه احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين، ولذلك سمي الحافظ رقيبا. وفي الدخان أقوال ثلاثة: الأول أنه من أشراط الساعة لم يجئ بعد، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما يملأ ما بين السماء والأرض، فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم، ويضيق أنفاسهم، وهو من آثار جهنم يوم القيامة. وممن قال إن الدخان لم يأت بعد: علي وابن عباس وابن عمرو وأبو هريرة وزيد بن علي والحسن وابن أبي مليكة وغيرهم. وروى أبو سعيد الخدري مرفوعا أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة، يأخذ المؤمن منه كالزكمة. وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه، ذكره الماوردي. وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا ونحن نتذاكر فقال: (ما تذكرون)؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات- فذكر- الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم (. في رواية عن حذيفة (إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال
__________
(1). في أز ك ل هـ: لتقليد الآباء لهم. وفي ن: تقليدا لآبائهم.

ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس (. وخرجه الثعلبي أيضا عن حذيفة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) أول الآيات خروجا الدجال ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم إذا قالوا وتصبح معهم إذا أصبحوا وتمسي معهم إذا أمسوا (. قلت: يا نبي الله، وما الدخان؟ قال هذه الآية:" فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ" يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام وأما والكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج الدخان من فمه ومنخره وعينيه وأذنيه ودبره (. فهذا قول. القول الثاني- أن الدخان هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا، قاله ابن مسعود. قال: وقد كشفه الله عنهم، ولو كان يوم القيامة لم يكشفه عنهم «1». والحديث عنه بهذا في صحيح البخاري ومسلم والترمذي. قال البخاري: حدثني يحيي قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال قال عبد الله: إنما كان هذا لان قريشا لما استعصت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط «2» وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى:" فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ". قال: فأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت. قال: (لمضر! إنك لجرى) فاستسقى فسقوا، فنزلت:" إِنَّكُمْ عائِدُونَ" [الدخان: 15]. فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل" يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ"
قال: يعني يوم بدر. قال أبو عبيدة: والدخان الجدب. القتبي: سمي دخانا ليبس الأرض منه حين يرتفع منها كالدخان. القول الثالث- إنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة، قاله عبد الرحمن الأعرج." يَغْشَى النَّاسَ" في موضع الصفة للدخان، فإن كان قد مضى على ما قال ابن مسعود فهو خاص بالمشركين من أهل مكة، وإن كان من
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ك. [.....]
(2). في ح ز ل: فأصابهم الجوع والقحط

رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)

أشراط الساعة فهو عام على ما تقدم." هذا عَذابٌ أَلِيمٌ" أي يقول الله لهم:" هذا عَذابٌ أَلِيمٌ". فمن قال: إن الدخان قد مضى فقوله:" هذا عَذابٌ أَلِيمٌ" حكاية حال ماضية، ومن جعله مستقبلا فهو حكاية حال آتية. وقيل:" هذا" بمعنى ذلك. وقيل: أي يقول الناس لذلك الدخان:" هذا عَذابٌ أَلِيمٌ". وقيل: هو إخبار عن دنو الامر، كما تقول: هذا الشتاء فأعد له.

[سورة الدخان (44): آية 12]
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
أي يقولون ذلك، اكشف عنا العذاب ف" إِنَّا مُؤْمِنُونَ"، أي نؤمن بك إن كشفته عنا. قيل: إن قريشا أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، ثم نقضوا هذا القول. قال قتادة:" الْعَذابَ" هنا الدخان. وقيل: الجوع، حكاه النقاش. قلت: ولا تناقض، فإن الدخان لم يكن إلا من الجوع الذي أصابهم، على ما تقدم. وقد يقال للجوع والقحط: الدخان، ليبس الأرض في سنة الجدب وارتفاع الغبار بسبب قلة الأمطار، ولهذا يقال لسنة الجدب: الغبراء. وقيل: إن العذاب هنا الثلج. قال الماوردي وهذا لا وجه له، لان هذا إنما يكون في الآخرة أو في أهل مكة، ولم تكن مكة من بلاد الثلج، غير أنه مقول فحكيناه.

[سورة الدخان (44): الآيات 13 الى 14]
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
قوله تعالى:" أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى " أي من أين يكون لهم التذكر والاتعاظ عند حلول العذاب." وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ" يبين لهم الحق، والذكرى والذكر واحد، قاله البخاري." ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ" أي أعرضوا. قال ابن عباس: أي متى يتعظون والله أبعدهم من الاتعاظ والتذكر بعد توليهم عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكذيبهم إياه. وقيل: أي أنى ينفعهم

إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)

قولهم:" إِنَّا مُؤْمِنُونَ" بعد ظهور العذاب غدا أو بعد ظهور أعلام الساعة، فقد صارت المعارف ضرورية. وهذا إذا جعلت الدخان آية مرتقبة." وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ" أي علمه بشر أو علمه الكهنة والشياطين، ثم هو مجنون وليس برسول.

[سورة الدخان (44): آية 15]
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15)
قوله تعالى:" إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا" أي وقتا قليلا، وعد أن يكشف عنهم ذلك العذاب قليلا، أي في زمان قليل ليعلم أنهم لا يفون بقولهم، بل يعودون إلى الكفر بعد كشفه، قاله ابن مسعود. فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى لهم الله عليه وسلم عادوا إلى تكذيبه. ومن قال: إن الدخان منتظر قال: أشار بهذا إلى ما يكون من الفرجة بين آية وآية من آيات قيام الساعة. ثم من قضي عليه بالكفر يستمر على كفره. ومن قال هذا في القيامة قال: أي لو كشفنا عنكم العذاب لعدتم إلى الكفر. وقيل: معنى" إِنَّكُمْ عائِدُونَ" إلينا، أي مبعوثون بعد الموت. وقيل: المعنى" إِنَّكُمْ عائِدُونَ" إلى نار جهنم إن لم تؤمنوا.

[سورة الدخان (44): آية 16]
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
يَوْمَ" محمول على ما دل عليه" مُنْتَقِمُونَ"، أي ننتقم منهم يوم نبطش. وأبعده بعض النحويين بسبب أن ما بعد" إن" لا يفسر ما قبلها. وقيل: إن العامل فيه" مُنْتَقِمُونَ". وهو بعيد أيضا، لان ما بعد" إن" لا يعمل فيما قبلها. ولا يحسن تعلقه بقوله:" عائِدُونَ" ولا بقوله:" إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ"، إذ ليس المعنى عليه. ويجوز نصبه بإضمار فعل، كأنه قال: ذكرهم أو اذكر. ويجوز أن يكون المعنى إنكم عائدون، فإذا عدتم أنتقم منكم يوم نبطش البطشة الكبرى. ولهذا وصل هذا بقصة فرعون، فإنهم وعدوا موسى الايمان إن كشف عنهم العذاب، ثم لم يؤمنوا حتى غرقوا. وقيل:" إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ" كلام تام. ثم ابتدأ" يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ" أي ننتقم من جميع الكفار. وقيل: المعنى وارتقب الدخان وارتقب يوم نبطش، فحذف واو العطف،

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)

كما تقول: اتق النار اتق العذاب. و" الْبَطْشَةَ الْكُبْرى " في قول ابن مسعود: يوم بدر. وهو قول ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد والضحاك. وقيل: عذاب جهنم يوم القيامة، قاله الحسن وعكرمة وابن عباس أيضا، واختاره الزجاج. وقيل: دخان يقع في الدنيا، أو جوع أو قحط يقع قبل يوم القيامة. الماوردي: ويحتمل أنها قيام الساعة، لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا. ويقال: انتقم الله منه، أي عاقبه. والاسم منه النقمة «1» والجمع النقمات. وقيل بالفرق بين النقمة والعقوبة، فالعقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة. والنقمة قد تكون قبلها، قاله ابن عباس. وقيل: العقوبة ما تقدرت والانتقام غير مقدر.

[سورة الدخان (44): آية 17]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
أي ابتليناهم. ومعنى هذه الفتنة والابتلاء الامر بالطاعة. والمعنى: عاملناهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم فكذبوا فأهلكوا، فهكذا أفعل بأعدائك يا محمد إن لم يؤمنوا. وقيل: فتناهم عذبناهم بالغرق. وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولقد جاء آل فرعون رسول كريم وفتناهم، أي أغرقناهم، لان الفتنة كانت بعد مجيء الرسل. والواو لا ترتب. ومعنى" كريم" أي كريم في قومه. وقيل: كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح. وقال الفراء: كريم على ربه إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام.

[سورة الدخان (44): الآيات 18 الى 19]
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19)
قوله تعالى:" أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ" قال ابن عباس: المعنى جاءهم فقال اتبعوني. ف" عِبادَ اللَّهِ" منادى. وقال مجاهد: المعنى أرسلوا معي عباد الله وأطلقوهم من العذاب. ف" عِبادَ اللَّهِ" على هذا مفعول. وقيل: المعنى أدوا إلي سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربي." إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ" أي أمين على الوحي فاقبلوا نصحي. وقيل: أمين على ما أستأديه
__________
(1). في كتب اللغة:" النقمة بالكسر والفتح وكفرحة جمع نقم ككلم وعنب وكلمات".

وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)

منكم فلا أخون فيه." وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ" أي لا تتكبروا عليه ولا ترتفعوا عن طاعته. وقال قتادة: لا تبغوا على الله. ابن عباس: لا تفتروا على الله. والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل والافتراء بالقول. وقال ابن جريج: لا تعظموا على الله. يحيى بن سلام: لا تستكبروا على عبادة الله. والفرق بين التعظيم والاستكبار أن التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر، ذكره الماوردي." إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ" قال قتادة: بعذر بين. وقال يحيى بن سلام: بحجة بينة. والمعنى واحد، أي برهان بين.

[سورة الدخان (44): آية 20]
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
كأنهم توعدوه بالقتل فاستجار بالله. قال قتادة:" تَرْجُمُونِ" بالحجارة. وقال ابن عباس: تشتمون، فتقولوا ساحر كذاب. وأظهر الذال من" عُذْتُ" نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب. وأدغم الباقون. والإدغام طلبا للتخفيف، والإظهار على الأصل. ثم قيل: إني عذت بالله فيما مضى، لان الله وعده فقال:" فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما" «1» [القصص: 35]. وقيل: إني أعوذ، كما تقول نشدتك بالله، وأقسمت عليك بالله، أي أقسم.

[سورة الدخان (44): آية 21]
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
قوله تعالى:" وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي" أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني، فاللام في" لي" لام أجل. وقيل: أي وإن لم تؤمنوا بي، كقوله:" فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ" «2» [العنكبوت: 26] أي به." فاعتزلون" أي دعوني كفافا «3» لا لي ولا علي، قاله مقاتل. وقيل: أي كونوا بمعزل مني وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا. وقيل: فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي. والمعنى متقارب، والله أعلم.

[سورة الدخان (44): آية 22]
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
__________
(1). آية 35 سورة القصص.
(2). آية 26 سورة العنكبوت.
(3). أي مكفوفا عنى شركم.

فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)

قوله تعالى:" فَدَعا رَبَّهُ" فيه حذف، أي فكفروا فدعا ربه." أَنَّ هؤُلاءِ" بفتح" أن" أي بأن هؤلاء." قَوْمٌ مُجْرِمُونَ" أي مشركون، قد امتنعوا من إطلاق بني إسرائيل ومن الايمان.

[سورة الدخان (44): آية 23]
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا" أي فأجبنا دعاءه وأوحينا إليه أن أسر بعبادي، أي بمن آمن بالله من بني إسرائيل." لَيْلًا" أي قبل الصباح." إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ" وقرا أهل الحجاز" فأسر" بوصل الالف. وكذلك ابن كثير، من سرى. الباقون" فَأَسْرِ" بالقطع، من أسرى. وقد تقدم «1». وتقدم خروج فرعون وراء موسى في" البقرة والأعراف وطه والشعراء ويونس" «2» وإغراقه وإنجاء موسى، فلا معنى للإعادة. الثانية- أمر موسى عليه السلام بالخروج ليلا. وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف، والخوف يكون بوجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا، فهو من أستار الله تعالى. وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحر أو جدب، فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسري ويدلج «3» ويترفق ويستعجل، بحسب الحاجة وما تقتضيه المصلحة. وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها) «4». وقد مضى في أول" النحل" «5»، والحمد لله.

[سورة الدخان (44): آية 24]
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
__________
(1). راجع ج 9 ص (79)
(2). راجع ج 1 ص 389 وما بعدها. وج 8 ص 377 وما بعدها. وج 11 ص 227 وما بعدها. وج 13 ص 105 وما بعدها.
(3). قوله:" يسري" أي يسير عامة الليل. و" يدلج" أي سار من أول الليل. وربما استعمل لسير آخر الليل.
(4). قوله:" في السنة" أي في القحط وانعدام نبات الأرض من يبسها. والنقي (بكسر النون وسكون القاف) هو المخ، ومعناه أسرعوا في السير الإبل لتصلوا إلى المقصد وفيها بقية من قوتها.
(5). راجع ج 10 ص 73

قال ابن عباس:" رَهْواً" أي طريقا. وقاله كعب والحسن. وعن ابن عباس أيضا سمتا. الضحاك والربيع: سهلا. عكرمة: يبسا، لقوله:" فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً" وقيل: مفترقا. مجاهد: منفرجا. وعنه يابسا. وعنه ساكنا، وهو المعروف في اللغة. وقاله قتادة والهروي. وقال غيرهما: منفرجا. وقال ابن عرفة: وهما يرجعان إلى معنى واحد وإن اختلف لفظاهما، لأنه إذا سكن جريه انفرج. وكذلك كان البحر يسكن جريه وانفرج لموسى عليه السلام. والرهو عند العرب: الساكن، يقال: جاءت الخيل رهوا، أي ساكنة. قال:
والخيل تمزع رهوا في أعنتها ... كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد «1»
الجوهري: ويقال افعل ذلك رهوا، أي ساكنا على هينتك «2». وعيش راه، أي ساكن رافه. وخمس راه، إذا كان سهلا. ورها البحر أي سكن. وقال أبو عبيد: رها بين رجليه يرهو رهوا أي فتح، ومنه قوله تعالى:" وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً". والرهو: السير السهل، يقال: جاءت الخيل رهوا. قال ابن الاعرابي: رها يرهو في السير أي رفق. قال القطامي في نعت الركاب:
يمشين رهوا فلا الاعجاز خاذله ... ولا الصدور على الاعجاز تتكل
والرهو والرهوة: المكان المرتفع، والمنخفض أيضا يجتمع فيه الماء، وهو من الأضداد. وقال أبو عبيد: الرهو: الجوبة تكون في محلة القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره. وفي الحديث أنه قضى أن (لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة ولا ركح ولا رهو) «3». والجمع رهاء. والرهو: المرأة الواسعة الهن. حكاه النضير بن شميل. والرهو: ضرب من الطير، ويقال:
__________
(1). البيت للنابغة الذبياني. و" تمزع": تمرمرا سريعا. وقد وردت هذه الكلمة في الأصل محرفة، ففي بعضها" تمرح" بالراء والحاء. وفي البعض الآخر:" تمرع" بالراء والعين. ويروى:" غربا" بدل" رهوا" أي حدة. و" الشؤبوب": السحاب العظيم القطر.
(2). الهينة (بالكسر): السكينة والوقار.
(3). الفناء: فناء الدار، هو ما امتد معها من جوانبها. والمنقبة: هي الطريق بين الدارين. وقيل: هو الطريق الذي يعلو أنشاز الأرض. والركح (بالضم): ناحية البيت من ورائه، وربما كان فضاء لا بناء فيه.

كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)

هو الكركي. قال الهروي: ويجوز أن يكون" رَهْواً" من نعت موسى- وقاله القشيري- أي سر ساكنا على هينتك، فالرهو من نعت موسى وقومه لا من نعت البحر، وعلى الأول هو من نعت البحر، أي اتركه ساكنا كما هو قد انفرق فلا تأمره بالانضمام حتى يدخل فرعون وقومه. قال قتادة: أراد موسى أن يضرب البحر لما قطعه بعصاه حتى يلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون فقيل له هذا. وقيل: ليس الرهو من السكون بل هو الفرجة بين الشيئين، يقال: رها ما بين الرجلين أي فرج. فقوله:" رَهْواً" أي منفرجا. وقال الليث: الرهو ومشي في سكون، يقال: رها يرهو رهوا فهو راه. وعيش راه: وادع خافض. وافعل ذلك سهوا رهوا، أي ساكنا بغير شدة. وقد ذكرناه آنفا." إِنَّهُمْ" أي إن فرعون وقومه." جُنْدٌ مُغْرَقُونَ" أخبر موسى بذلك ليسكن قلبه.

[سورة الدخان (44): الآيات 25 الى 27]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27)
قوله تعالى:" كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ"" كم" للتكثير. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في" الشعراء" مستوفى «1»." وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ" النعمة (بالفتح) التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمة فتنعم. وامرأة منعمة ومناعمة، بمعنى. والنعمة (بالكسر) اليد والصنيعة والمنة وما أنعم به عليك. وكذلك النعمى. فإن فتحت النون مددت وقلت: النعماء. والنعيم مثله. وفلان واسع النعمة، أي واسع المال، جميعه عن الجوهري. وقال ابن عمر: المراد بالنعمة نيل مصر. ابن لهيعة: الفيوم. ابن زياد: أرض مصر لكثرة خيرها. وقيل: ما كانوا فيه من السعة والدعة. وقد يقال: نعمة ونعمة (بفتح النون وكسرها)، حكاه الماوردي. قال: وفى الفرق بينهما وجهان: أحدهما- أنها بكسر النون في الملك، وبفتحها في البدن والدين، قاله النضر بن شميل. الثاني- أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية، وبالفتح من التنعيم وهو سعة العيش والراحة، قاله ابن زياد.
__________
(1). راجع ج 13 ص 102 وما بعدها. [.....]

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)

قلت: هذا الفرق هو الذي وقع في الصحاح وقد ذكرناه. وقرا أبو رجاء والحسن وأبو الأشهب والأعرج وأبو جعفر وشيبة" فكهين" بغير ألف، ومعناه أشرين بطرين. قال الجوهري: فكه الرجل (بالكسر) فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وقرى" ونعمة كانوا فيها فكهين" أي أشرين بطرين. و" فاكِهِينَ" أي ناعمين. القشيري:" فاكِهِينَ" لاهين مازحين، يقال: إنه لفاكه أي مزاح. وفية فكاهة أي مزح. الثعلبي: وهما لغتان كالحاذر والحذر، والفاره والفره. وقيل: إن الفاكه هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة. والفاكهة: فضل عن القوت الذي لا بد منه.

[سورة الدخان (44): آية 28]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28)
قال الزجاج: أي الامر كذلك، فيوقف على" كَذلِكَ". وقيل: إن الكاف في موضع نصب، على تقدير نفعل فعلا كذلك بمن نريد إهلاكه. وقال الكلبي:" كَذلِكَ" أفعل بمن عصاني. وقيل:" كَذلِكَ" كان أمرهم فأهلكوا." وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ" يعني بني إسرائيل، ملكهم الله تعالى أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين، لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث. ونظيره" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا" «1» [الأعراف: 137]. الآية.

[سورة الدخان (44): آية 29]
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
قوله تعالى:" فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ" أي لكفرهم." وَما كانُوا مُنْظَرِينَ". أي مؤخرين بالغرق. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات. قال الشاعر:
__________
(1). آية 137 سورة الأعراف.

فالريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في الغمامه «1»
وقال آخر: «2»
والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقالت الخارجية: «3»
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وقيل: في الكلام إضمار، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة، كقوله تعالى:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «4» [يوسف: 82] بل سروا بهلاكهم، قاله الحسن. وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه- ثم تلا-" فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ". يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك. وقال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله فقال: أتعجب! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل!. وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير. وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه: أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان. ويشبه أن يكون قول مجاهد. وقال شريح الحضرمي قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة-
__________
(1). البيت ليزيد بن مغرغ الحميري. ورد هذا البيت في الأصول محرفا، والتصويب عن وفيات الأعيان وشرح الكامل.
(2). هو جرير.
(3). الخارجية هي ليلى بنت طريف الشيباني ترثي أخاها الوليد ابن طريف، وكان رأس الخوارج وأشدهم بأسا وصوله.
(4). راجع ج 9 ص 425.

قيل: من هم يا رسول الله؟ قال- هم الذين إذا فسد الناس صلحوا- ثم قال- ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض- ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ"- ثم قال- ألا إنهما لا يبكيان على الكافر (. قلت: وذكر أبو نعيم محمد بن معمر «1» قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال حدثنا يحيى بن عبد الله قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت. وقيل: بكاؤهما حمرة أطرافهما، قاله علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وعطاء والسدي والترمذي محمد ابن علي وحكاه عن الحسن. قال السدي: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء، وبكاؤها حمرتها. وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد: واحمرارها بكاؤها. وقال محمد بن سيرين: أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما. وقال سليمان القاضي: مطرنا دما يوم قتل الحسين. قلت: روى الدارقطني من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الشفق الحمرة). وعن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا: الشفق شفقان، الحمرة والبياض، فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة. وعن أبي هريرة قال: الشفق الحمرة. وهذا يرد ما حكاه ابن سيرين. وقد تقدم في" سبحان" «2» عن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكرياء والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها. وقال محمد بن علي الترمذي: البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت، لان المؤمن نور ومعه نور الله، فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك، فإن فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت
__________
(1). في ن ز: وذكر أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا محمد بن معمر ...
(2). راجع ج 10 ص 220.

وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)

باغبرارها، لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك، وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن، فإذا قبض المؤمن منها درت بغبرتها. وقال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أضاء كل شي، فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شي، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الأيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا. وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال الحسن. وقال نصر بن عاصم: إن أول الآيات حمرة تظهر، وإنما ذلك لدنو الساعة، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين. وقيل: بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن. قلت: والقول الأول أظهر، إذ لا استحالة في ذلك. وإذا كانت السموات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم- كما بيناه في" سبحان ومريم وحم فصلت «1»"- فكذلك تبكي، مع ما جاء من الخبر في ذلك. والله أعلم بصواب هذه الأقوال «2»

[سورة الدخان (44): الآيات 30 الى 31]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
يعني ما كانت القبط تفعل بهم بأمر فرعون، من قتل الأبناء واستخدام النساء، واستعبادهم إياهم وتكلفهم الأعمال الشاقة." مِنْ فِرْعَوْنَ" بدل من" الْعَذابِ الْمُهِينِ" فلا تتعلق" من" بقوله:" مِنَ الْعَذابِ" لأنه قد وصف، وهو لا يعمل بعد الوصف عمل الفعل. وقيل: أي أنجيناهم من العذاب ومن فرعون." إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ" أي جبارا من المشركين. وليس هذا علو مدح بل هو علو في الإسراف، كقوله:" إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ" «3» [القصص: 4]. وقيل: هذا العلو هو الترفع عن عبادة الله.

[سورة الدخان (44): آية 32]
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32)
قوله تعالى:" وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ" يعني بني إسرائيل." عَلى عِلْمٍ" أي على علم منا بهم لكثرة الأنبياء منهم." عَلَى الْعالَمِينَ" أي عالمي زمانهم، بدليل قوله لهذه الامة:"
__________
(1). راجع ج 10 ص 266 وج 11 ص 157 وج 15 ص (344)
(2). ما بين المربعين زيادة من ن
(3). آية 4 سورة القصص.

وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" «1» [آل عمران: 110]. وهذا قول قتادة وغيره. وقيل على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم، حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما. ويكون قوله:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ" أي بعد بني إسرائيل. والله أعلم. وقيل: يرجع هذا الاختيار إلى تخليصهم من الغرق وإيراثهم الأرض بعد فرعون.

[سورة الدخان (44): آية 33]
وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
قوله تعالى:" وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ" أي من المعجزات لموسى." ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ" قال قتادة: الآيات إنجاؤهم من فرعون وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى. ويكون هذا الخطاب متوجها إلى بني إسرائيل. وقيل: إنها العصا واليد. ويشبه أن يكون قول الفراء. ويكون الخطاب متوجها إلى قوم فرعون. وقول ثالث- إنه الشر الذي كفهم عنه والخبر الذي أمرهم به، قاله عبد الرحمن بن زيد. ويكون الخطاب متوجها إلى الفريقين معا من قوم فرعون وبني إسرائيل. وفي قوله:" بَلؤُا مُبِينٌ" أربعة أوجه: أحدها- نعمة ظاهرة، قاله الحسن وقتادة. كما قال الله تعالى:" وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً" «2» [الأنفال: 17]. وقال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو»

الثاني- عذاب شديد، قاله الفراء. الثالث- اختيار يتميز به المؤمن من الكافر، قاله عبد الرحمن بن زيد. وعنه أيضا: ابتلاؤهم بالرخاء والشدة، ثم قرأ" وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً" «4» [الأنبياء: 35].

[سورة الدخان (44): الآيات 34 الى 36]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36)
__________
(1). آية 11 سورة آل عمران.
(2). آية 17 سورة الأنفال.
(3). صدره:
رأي الله بالإحسان ما فعلا بكم

(4). آية 35 سورة الأنبياء. [.....]

أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)

قوله تعالى:" إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ" يعني كفار قريش" إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى " ابتداء وخبر، مثل" إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ" «1» [الأعراف: 155]،" إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا" «2» [المؤمنون: 37]" وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ" أي بمبعوثين." فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ" أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم «3». والمنشورون المبعوثون. قيل: إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل، قال: يا محمد، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا، أحدهما- قصي بن كلاب فإنه كان رجلا صادقا، لنسأله عما يكون بعد الموت. وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات، لان الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف، فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف. وهو كقول قائل: لو قال إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء، فلم لا يرجع من مضى من الآباء، حكاه الماوردي. ثم قيل:" فَأْتُوا بِآبائِنا" مخاطبة وللنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، كقوله:" رَبِّ ارْجِعُونِ" «4» [المؤمنون: 99] قاله الفراء. وقيل: مخاطبة له ولاتباعه.

[سورة الدخان (44): الآيات 37 الى 39]
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)
قوله تعالى:" أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ" هذا استفهام إنكار، أي إنهم مستحقون في هذا القول العذاب، إذ ليسوا خيرا من قوم تبع والأمم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك فكذا هؤلاء. وقيل: المعنى أهم أظهر نعمة وأكثر أموالا أم قوم تبع. وقيل: أهم أعز وأشد وأمنع أم قوم تبع. وليس المراد بتبع رجلا واحدا بل المراد به ملوك اليمن، فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة. فتبع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم. وقال أبو عبيدة: سمى كل واحد منهم تبعا لأنه يتبع صاحبه. قال الجوهري: والتبابعة ملوك اليمن، واحدهم تبع. والتبع أيضا الظل، وقال:
__________ (1). آية 155 سورة الأعراف.
(2). آية 29 سورة الانعام.
(3). راجع ج 11 ص (278)
(4). آية 99 سورة المؤمنون.

يرد المياه حضيرة ونفيضة ... ورد القطاة إذا أسمال التبع «1»
والتبع أيضا ضرب من الطير. وقال السهيلي: تبع اسم لكل ملك ملك اليمن والشحر وحضرموت، وإن ملك اليمن وحدها لم يقل له تبع، قاله المسعودي. فمن التبابعة: الحارث الرائش، هو ابن همال ذي سدد «2». وأبرهة ذو المنار. وعمرو ذو الإذعار. وشمر بن مالك، الذي تنسب إليه سمرقند. وأفريقيس بن قيس، الذي ساق البربر إلى إفريقية من أرض كنعان، وبه سميت إفريقية. والظاهر من الآيات أن الله سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم أشد من معرفة غيره، ولذلك قال عليه السلام: (ولا أدري أتبع لعين أم لا). ثم قد روي عنه أنه قال: (لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا) فهذا يدلك على أنه كان واحدا بعينه، وهووالله أعلم- أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها، ثم انصرف عنها لما أخبر أنهم مهاجر نبي اسمه أحمد. وقال شعرا أودعه عند أهلها، فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأدوه إليه. ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد. وفية:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا والزمخشري وغيرهم أنه حفر قبر له «3» بصنعاء- ويقال بناحية حمير- في الإسلام، فوجد فيه امرأتان صحيحتان، وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب" هذا قبر حبي ولميس" ويروى أيضا: حبي وتماضر، ويروى أيضا: هذا قبر رضوى وقبر حبي ابنتا تبع، ماتتا وهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به شيئا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
__________
(1). البيت لسعدي- وقيل لسلمى- الجهنية ترثي أخاها أسعد. والحضيرة والنقيضة: جماعة القوم، وقيل: النفر يغزي بهم. وقيل غير هذا. وأسمال الظل: قصر وضمر، وذلك عند نصف النهار.
(2). وردت هذه الأسماء محرفة.
(3). لفظة له ساقطة من ن ك هـ.

قلت: وروى ابن إسحاق وغيره أنه كان في الكتاب الذي كتبه: (أما بعد، فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شي، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين وبايعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام". ثم ختم الكتاب ونقش عليه:" لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ" «1» [الروم: 4]. وكتب على عنوانه (إلى محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله، خاتم النبيين ورسول رب العالمين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. من تبع الأول". وقد ذكرنا بقية خبره وأوله في" اللمع اللؤلؤية شرح العشر بينات النبوية" «2» للفارابي رحمه الله. وكان من اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي بعث فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف سنة لا يزيد ولا ينقص. واختلف هل كان نبيا أو ملكا، فقال ابن عباس: كان تبع نبيا. وقال كعب: كان تبع ملكا من الملوك، وكان قومه كهانا وكان معهم قوم من أهل الكتاب، فأمر الفريقين أن يقرب كل فريق منهم قربانا ففعلوا، فتقبل قربان أهل الكتاب فأسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا. وحكى قتادة أن تبعا كان رجلا من حمير، سار بالجنود حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها، حكاه الماوردي. وحكى الثعلبي عن قتادة أنه تبع الحميري، وكان سار بالجنود حتى عبر الحيرة. وبنى سمرقند وقتل وهدم البلاد. وقال الكلبي: تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعا لأنه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت الحبرات «3». وقال كعب: ذم الله قومه ولم يذمه، وضرب بهم لقريش مثلا لقربهم من دارهم وعظمهم في نفوسهم، فلما أهلكهم الله تعالى ومن قبلهم- لأنهم كانوا مجرمين- كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك. وافتخر أهل اليمن بهذه الآية، إذ جعل الله قوم تبع خيرا من قريش. وقيل: سمي أولهم تبعا لأنه أتبع قرن الشمس وسافر في الشرق مع العساكر.
__________
(1). راجع ج 14 ص 1.
(2). اضطربت الأصول في هذا الكتاب وفي اسم مؤلفه، ولم نعثر عليه.
(3). الحبرات (بالكسر ففتح جمع حبرة وحبرة): ضرب من برود اليمن منمّر.

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)

قوله تعالى:" وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ"" الذين" في موضع رفع عطف على" قَوْمُ تُبَّعٍ"." أَهْلَكْناهُمْ" صلته. ويكون" مِنْ قَبْلِهِمْ" متعلقا به. ويجوز أن يكون" مِنْ قَبْلِهِمْ" صلة" الَّذِينَ" ويكون في الظرف عائد إلى الموصول. وإذا كان كذلك كان" أَهْلَكْناهُمْ" على أحد أمرين: إما أن يقدر معه" قد" فيكون في موضع الحال. أو يقدر حذف موصوف، كأنه قال: قوم أهلكناهم. والتقدير أفلا تعتبرون أنا إذا قدرنا على إهلاك هؤلاء المذكورين قدرنا على إهلاك المشركين. ويجوز أن يكون" وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" ابتداء خبره" أَهْلَكْناهُمْ". ويجوز أن يكون" الَّذِينَ" في موضع جر عطفا على" تُبَّعٍ" كأنه قال: قوم تبع المهلكين من قبلهم. ويجوز أن يكون" الَّذِينَ" في موضع نصب بإضمار فعل دل عليه" أَهْلَكْناهُمْ". والله أعلم. قوله تعالى:" وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ" أي غافلين، قاله مقاتل. وقيل: لاهين، وهو قول الكلبي." وما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ" أي إلا بالأمر الحق، قاله مقاتل. وقيل: إلا للحق، قاله الكلبي والحسن. وقيل: إلا لإقامة الحق وإظهاره من توحيد الله والتزام طاعته. وقد مضى هذا المعنى في" الأنبياء" «1»." وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ" يعني أكثر الناس." لا يَعْلَمُونَ" ذلك.

[سورة الدخان (44): آية 40]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
" يَوْمَ الْفَصْلِ" هو يوم القيامة، وسمي بذلك لان الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. دليله قوله تعالى:" لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ" «2» [الممتحنة: 3]. ونظيره قوله تعالى:" وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ" «3» [الروم: 14]. ف" يَوْمَ الْفَصْلِ" ميقات الكل، كما قال تعالى:" إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً" «4» [النبأ: 17] أي الوقت المجعول لتمييز المسيء من المحسن، والفصل بينهما: فريق في الجنة وفريق في السعير. وهذا غاية في التحذير والوعيد. ولا خلاف بين القراء في رفع
__________
(1). راجع ج 11 ص 276.
(2). آية 3 سورة الممتحنة.
(3). آية 14 سورة الروم.
(4). آية 17 سورة النبأ. [.....]

يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)

" مِيقاتُهُمْ" على أنه خبر" إن" واسمها" يَوْمَ الْفَصْلِ". وأجاز الكسائي والفراء نصب" ميقاتهم". ب" إن" و" يَوْمَ الْفَصْلِ" ظرف في موضع خبر" إن"، أي إن ميقاتهم يوم الفصل.

[سورة الدخان (44): الآيات 41 الى 42]
يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
قوله تعالى:" يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً"" يوم" بدل من" يوم" الأول. والمولى: الولي وهو ابن العم والناصر. أي لا يدفع ابن عم عن ابن عمه، ولا قريب عن قريبه، ولا صديق عن صديقه." وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ" أي لا ينصر المؤمن الكافر لقرابته. ونظير هذه الآية" وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً" «1» [البقرة: 48] الآية." إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ"" من" رفع على البدل من المضمر في" يُنْصَرُونَ"، كأنك قلت: لا يقوم أحد إلا فلان. أو على الابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: إلا من رحم الله فمغفور له، أو فيغني عنه ويشفع وينصر. أو على البدل من" مَوْلًى" الأول، كأنه قال: لا يغني إلا من رحم الله. وهو عند الكسائي والفراء نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من رحم الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه إلى من يغنيهم من المخلوقين. ويجوز أن يكون استثناء متصلا، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض." إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه، كما قال" شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ" «2» [غافر: 3] فقرن الوعد بالوعيد.

[سورة الدخان (44): الآيات 43 الى 46]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
قوله تعالى:" إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ" كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر الشجرة فالوقف عليه بالهاء، إلا حرفا واحدا في صورة الدخان" إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ"، قاله
__________
(1). آية 48 سورة البقرة.
(2). آية 3 سورة غافر.

ابن الأنباري. و" الْأَثِيمِ" الفاجر، قاله أبو الدرداء. وكذلك قرأ هو وابن مسعود. وقال همام بن الحارث: كان أبو الدرداء يقرئ رجلا" إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ" والرجل يقول: طعام اليتيم، فلما لم يفهم قال له:" طعام الفاجر". قال أبو بكر الأنباري: حدثني أبي قال حدثنا نصر قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا نعيم بن حماد عن عبد العزيز بن محمد عن ابن عجلان عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: علم عبد الله بن مسعود رجلا" إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ" فقال الرجل: طعام اليتيم، فأعاد عليه عبد الله الصواب وأعاد الرجل الخطأ، فلما رأى عبد الله أن لسان الرجل لا يستقيم على الصواب قال له: أما تحسن أن تقول طعام الفاجر؟ قال بلى، قال فافعل. ولا حجة في هذا للجهال من أهل الزيغ، أنه يجوز إبدال الحرف من القرآن بغيره، لان ذلك إنما كان من عبد الله تقريبا للمتعلم، وتوطئة منه له للرجوع إلى الصواب، واستعمال الحق والتكلم بالحرف على إنزال الله وحكاية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الزمخشري:" وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة، وهي أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئا. قالوا: وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة، لان في كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه، من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر. وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية". وشَجَرَةُ الزَّقُّومِ: الشجرة التي خلقها الله في جهنم وسماها الشجرة الملعونة، فإذا جاع أهل النار التجئوا إليها فأكلوا منها، فغليت في بطونهم كما يغلي الماء الحار. وشبه ما يصير منها إلى بطونهم بالمهل، وهو النحاس المذاب. وقراءة العامة" تغلي" بالتاء حملا على الشجرة. وقرا ابن كثير وحفص وابن محيصن ورويس عن يعقوب" يغلي" بالياء حملا على الطعام، وهو في معنى الشجرة. ولا يحمل على المهل لأنه

خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)

ذكر للتشبيه. و" الْأَثِيمِ" الآثم، من أثم يأثم إثما، قاله القشيري وابن عيسى. وقيل هو المشرك المكتسب للإثم، قاله يحيى بن سلام. وفي الصحاح: وقد أثم الرجل (بالكسر) إثما ومأثما إذا وقع في الإثم، فهو آثم وأثيم أيضا. فمعنى" طَعامُ الْأَثِيمِ" أي ذي الإثم الفاجر، «1» وهو أبو جهل. وذلك أنه قال: يعدنا محمد أن في جهنم الزقوم، وإنما هو الثريد بالزبد والتمر، فبين الله خلاف ما قاله. وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل. قلت: وهذا لا يصح عن مجاهد. وهو مردود بما ذكرناه في هذه الشجرة في سورة" الصافات وسبحان" «2» أيضا.

[سورة الدخان (44): الآيات 47 الى 48]
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48)
قوله تعالى:" خُذُوهُ" أي يقال للزبانية خذوه، يعني الأثيم." فَاعْتِلُوهُ" أي جروه وسوقوه. والعتل: أن تأخذ بتلابيب الرجل فتعتله، أي تجره إليك لتذهب به إلى حبس أو بلية. عتلت الرجل أعتله وأعتله عتلا إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل، معتل (بالكسر). وقال يصف فرسا:
نفرعه فرعا ولسنا نعتله «3»

وفيه لغتان: عتله وعتنه (باللام والنون جميعا)، قاله ابن السكيت. وقرا الكوفيون وأبو عمرو" فَاعْتِلُوهُ" بالكسر. وضم الباقون." إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ" وسط الجحيم." ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ" قال مقاتل: يضرب مالك خازن النار ضربة على رأس أبي جهل بمقمع من حديد، فيتفتت رأسه عن دماغه، فيجري دماغه عل جسده،
__________
(1). في ح ز ل: أى هو الآثم الفاجر.
(2). راجع ج 10 ص 283 وج 15 ص (85)
(3). القائل هو أبو النجم، وقبله:
طار عن المهر ينسله ... عن مفرع الكتفين حر عطلة

ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)

ثم يصب الملك فيه ماء حميما قد انتهى حره فيقع في بطنه، فيقول الملك: ذق العذاب. ونظيره" يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ" «1» [الحج: 19].

[سورة الدخان (44): الآيات 49 الى 50]
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
قوله تعالى:" ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ" قال ابن الأنباري: أجمعت العوام على كسر" إن". وروي عن الحسن عن علي رحمه الله" ذُقْ إِنَّكَ" بفتح" أن"، وبها قرأ الكسائي. فمن كسر" إن" وقف على" ذُقْ". ومن فتحها لم يقف على" ذُقْ"، لان المعنى ذق لأنك وبأنك أنت العزيز الكريم. قال قتادة: نزلت في أبي جهل وكان قد قال: ما فيها أعز مني ولا أكرم، فلذلك قيل له: ذق إنك أنت العزيز الكريم. وقال عكرمة: التقى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو جهل فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى) فقال: بأي شيء تهددني! والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه، فقتله الله يوم بدر وأذله ونزلت هذه الآية. أي يقول له الملك: ذق إنك أنت العزيز الكريم بزعمك. وقيل: هو على معنى الاستخفاف والتوبيخ والاستهزاء والإهانة والتنقيص، أي قال له: إنك أنت الذليل المهان. وهو كما قال قوم شعيب لشعيب:" إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ «2» الرَّشِيدُ" [هود: 87] يعنون السفيه الجاهل في أحد التأويلات على ما تقدم «3». وهذا قول سعيد بن جبير." إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ" أي تقول لهم الملائكة: إن هذا ما كنتم تشكون فيه في الدنيا.

[سورة الدخان (44): الآيات 51 الى 53]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53)
__________
(1). آية 19 سورة الحج.
(2). آية 87 سورة هود.
(3). راجع ج 9 ص 87

كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)

قوله تعالى:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ" لما ذكر مستقر الكافرين وعذابهم ذكر نزل المؤمنين ونعيمهم. وقرا نافع وابن عامر" في مقام" بضم الميم. الباقون بالفتح. قال الكسائي: المقام المكان، والمقام الإقامة، كما قال:
عفت الديار محلها فمقامها «1»

قال الجوهري: وأما المقام والمقام فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام، لأنك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح، وإن جعلته من أقام يقيم فمضموم، لان الفعل إذا جاوز الثلاثة فالموضع مضموم الميم، لأنه مشبه ببنات الاربعة، نحو دحرج وهذا مدحرجنا. وقيل: المقام (بالفتح) المشهد والمجلس، و(بالضم) يمكن أن يراد به المكان، ويمكن أن يكون مصدرا ويقدر فيه المضاف، أي في موضع إقامة." أمين" يؤمن فيه من الآفاتِ ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
" بدل" فِي مَقامٍ أَمِينٍ"." يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ" لا يرى بعضهم قفا بعض، متواجهين يدور بهم مجلسهم حيث داروا. والسندس: ما رق من الديباج. والإستبرق: ما غلظ منه. وقد مضى في" الكهف" «2».

[سورة الدخان (44): آية 54]
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
قوله تعالى:" كَذلِكَ" أي الامر كذلك الذي ذكرناه. فيوقف على" كَذلِكَ". وقيل: أي كما أدخلناهم الجنة وفعلنا بهم ما تقدم ذكره، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم حورا عينا. وقد مضى الكلام في العين في" والصافات" «3». والحور: البيض، في قول قتادة والعامة، جمع حوراء. والحوراء: البيضاء التي يرى ساقها من وراء ثيابها، ويرى الناظر وجهه في كعبها، كالمرآة من دقة الجلد وبضاضة البشرة وصفاء اللون. ودليل هذا التأويل أنها في حرف ابن مسعود" بعيس «4» عين". وذكر أبو بكر الأنباري أخبرنا أحمد بن الحسين قال حدثنا حسين
__________
(1). هذا أول معلقة لبيد. وتمامه:
بمنى تأبد غولها فرجامها

(2). راجع ج 10 ص (397)
(3). راجع ج 15 ص 4
(4). العيس (بالكسر): بياض يخالطه شيء من شقرة.

قال حدثنا عمار بن محمد قال: صليت خلف منصور بن المعتمر فقرأ في" حم" الدخان" بعيس عين. لا يذوقون طعم الموت إلا الموتة الاولى". والعيس: البيض، ومنه قيل للإبل البيض: عيس، واحدها بعير أعيس وناقة عيساء. قال امرؤ القيس: ي
رعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا «1»
فمعنى الحور هنا: الحسان الثاقبات «2» البياض بحسن. وذكر ابن المبارك أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم، ومن تحت سبعين حلة، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. وقال مجاهد: إنما سميت الحور حورا لأنهن يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن. وقيل: إنما قيل لهن حور لحور أعينهن. والحور: شدة بياض العين في شدة سوادها. امرأة حوراء بينة الحور. يقال: احورت عينه أحورارا. وأحور الشيء ابيض. قال الأصمعي: ما أدري ما الحور في العين؟ وقال أبو عمرو: الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر. قال: وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء: حور العين لأنهن يشبهن بالظباء والبقر. وقال العجاج:
بأعين محورات حور «3»

يعني الأعين النقيات البياض الشديدات سواد الحدق. والعين جمع عيناء، وهي الواسعة العظيمة العينين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز). وعن أبي قرصافة «4» سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين). وعن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________ (1). العيط (جمع عيطاء). الناقة الفتية التي لم تحمل.
(2). الثاقب: المضي. [.....]
(3). في الأصول:
بأعين محورات بيض

والتصويب عن أراجيز العجاج. وقيله:
إذ ترتمي من خلل الخدور

وبعده:
خزر بالباب إلى صور

(4). أبو قرصافة (بكسر أوله) اسمه جندرة بن خيشنة الكناني.

يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)

قال: (كنس المساجد مهور الحور العين) ذكره الثعلبي رحمه الله. وقد أفردنا لهذا المعنى بابا مفردا في (كتاب التذكرة) والحمد لله. واختلف أيما أفضل في الجنة، نساء الآدميات أم الحور؟ فذكر ابن المبارك قال: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حبان بن أبي جبلة قال: إن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وروي مرفوعا إن (الآدميات أفضل من الحور العين سبعين ألف ضعف). وقيل: إن الحور العين أفضل، لقوله عليه السلام في دعائه: (وأبدله زوجا خيرا من زوجه). والله أعلم. وقرا عكرمة" بحور عين" مضاف. والإضافة والتنوين في" بحور عين" سواء.

[سورة الدخان (44): آية 55]
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
قال قتادة:" آمِنِينَ" من الموت والوصب والشيطان. وقيل: آمنين من انقطاع ما هم فيه من النعيم، أو من أن ينالهم من أكلها أذى أو مكروه.

[سورة الدخان (44): الآيات 56 الى 57]
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
قوله تعالى:" لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى " أي لا يذوقون فيها الموت البتة لأنهم خالدون فيها. ثم قال:" إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى " على الاستثناء المنقطع، أي لكن الموتة الاولى قد ذاقوها في الدنيا. وأنشد سيبويه:
من كان أسرع في تفرق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدت»
__________
(1). في كتاب سيبويه:
من كان أشرك

والقائل هو عنز بن دجاجة المازني. وفالج هذا، هو فالج بن مازن بن مالك. سعى عليه بعض بني مالك وأساء إليه حتى رحل عنهم، ولحق ببني ذكوان بن بهثة فنسب إليهم. وكانت بنو مازن قد ضيقوا على رجل منهم يسمى" ناشرة" حتى انتقل عنهم إلى بني أسد، فدعا هذا الشاعر المازني على بني مازن حيث اضطروه فألجئ إلى الخروج عنهم. واستثنى" ناشرة" منهم، لأنه لم يرض فعلهم، ولأنه قد امتحن محنة" فالج" بهم. واللبون: ذوات اللبن، وتقع للواحد والجماعة. ومعنى" أغدت" صارت فيها الغدة، وهي من أدواء الإبل كالذبحة. والغلواء: النماء والارتفاع. والمنبت: المنمى والمغذى. ويروى بكسر الباء، ومعناه النابت النامي. (عن شرح الشواهد)

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

ثم استثنى بما ليس من الأول فقال:
إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبت
وقيل: إن" إِلَّا" بمعنى بعد، كقولك: ما كلمت رجلا اليوم إلا رجلا عندك، أي بعد رجل عندك. وقيل:" إِلَّا" بمعنى سوى، أي سوى الموتة التي ماتوها في الدنيا، كقوله تعالى:" وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ" «1» [النساء: 22]. وهو كما تقول: ما ذقت اليوم طعاما سوى ما أكلت أمس. وقال القتبي:" إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى " معناه أن المؤمن إذا أشرف على الموت استقبلته ملائكة الرحمة ويلقى الروح والريحان، وكان موته في الجنة لاتصافه بأسبابها، فهو استثناء صحيح. والموت عرض لا يذاق، ولكن جعل كالطعام الذي يكره ذوقه، فاستعير فيه لفظ الذوق." وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ" أي فعل ذلك بهم تفضلا منه عليهم. ف" فَضْلًا" مصدر عمل فيه" يَدْعُونَ". وقيل: العامل فيه" وَوَقاهُمْ". وقيل فعل مضمر. وقيل: معنى الكلام الذي قبله، لأنه تفضل منه عليهم، إذ وفقهم في الدنيا إلى أعمال يدخلون بها الجنة." ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" أي السعادة والربح العظيم والنجاة العظيمة. وقيل: هو من قولك فاز بكذا، أي ناله وظفر به.

[سورة الدخان (44): الآيات 58 الى 59]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
قوله تعالى:" فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ" يعني القرآن، أي سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرؤه. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي يتعظون وينزجرون. ونظيره" وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ"
«2» [القمر: 17] فختم السورة بالحث على اتباع القرآن وإن لم يكن مذكورا، كما قال في مفتتح السورة:" إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ" «3» [الدخان: 3]،" إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" [القدر: 1] على ما تقدم." فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ" أي انتظر ما وعدتك من النصر عليهم إنهم منتظرون لك الموت، حكاه
__________
(1). آية 22 سورة النساء.
(2). آية 17، 22، 32، 40 سورة القمر.
(3). راجع ج 20 ص.

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

النقاش. وقيل: انتظر الفتح من ربك إنهم منتظرون بزعمهم قهرك. وقيل: انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم فإنهم ينتظرون بك ريب الحدثان. والمعنى متقارب. وقيل: ارتقب ما وعدتك من الثواب فإنهم كالمنتظرين لما وعدتهم من العقاب. وقيل: ارتقب يوم القيامة فإنه يوم الفصل، وإن لم يعتقدوا وقوع القيامة، جعلوا كالمرتقبين لان عاقبتهم ذلك. والله تعالى أعلم.

[تفسير سورة الجاثية-]
سورة الجاثية مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية، هي:" قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ" «1» [الجاثية: 14] نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكره الماوردي، وقال المهدوي والنحاس عن ابن عباس: إنها نزلت في عمر رضي الله عنه، شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة. فأراد أن يبطش به، فأنزل الله عز وجل" قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ" [الجاثية: 14] ثم نسخت بقوله:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «2» [التوبة: 5]. فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف. وهي سبع وثلاثون آية. وقيل ست.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجاثية (45): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
قوله تعالى:" حم" مبتدأ و" تَنْزِيلُ" خبره. وقال بعضهم:" حم" اسم السورة. و" تَنْزِيلُ الْكِتابِ" مبتدأ. وخبره" مِنَ اللَّهِ". والكتاب القرآن. و" الْعَزِيزِ" المنيع." الْحَكِيمِ" في فعله. وقد تقدم جميع هذا «3».

[سورة الجاثية (45): الآيات 3 الى 5]
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
__________
(1). آية 14.
(2). آية 5 سورة التوبة.
(3). راجع ج 1 ص 287 وج 2 ص 131 طبعه ثانية.

قوله تعالى:" إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أي في خلقهما" لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ" يعني المطر." فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" تقدم جميعه مستوفى في" البقرة" وغيرها «1». وقراءة العامة" وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ"" وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ" بالرفع فيهما. وقرا حمزة والكسائي بكسر التاء فيهما. ولا خلاف في الأول أنه بالنصب على اسم" إن" وخبرها" فِي السَّماواتِ". ووجه الكسر في" آيات" الثاني العطف على ما عملت فيه، التقدير: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات. فأما الثالث فقيل: إن وجه النصب فيه تكرير" آيات" لما طال الكلام، كما تقول: ضربت زيدا زيدا «2». وقيل: إنه على الحمل على ما عملت فيه" إن" على تقدير حذف" في"، التقدير: وفي اختلاف الليل والنهار آيات. فحذفت" في" لتقدم ذكرها. وأنشد سيبويه في الحذف:
أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل «3»
نارا فحذف" كل" المضاف إلى نار المجرورة لتقدم ذكرها. وقيل: هو من باب العطف على عاملين. ولم يجزه سيبويه، وأجازه الأخفش وجماعة من الكوفيين، فعطف" اختلاف" على قوله: (وفي خلقكم) ثم قال: (وتصريف الرياح آيات) فيحتاج إلى العطف على عاملين، والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل، فلم تقو أن تنوب مناب عاملين مختلفين، إذ لو ناب مناب رافع وناصب لكان رافعا ناصبا في حال. وأما قراءة الرفع فحملا على موضع" إن" مع ما عملت فيه. وقد ألزم النحويون في ذلك أيضا العطف على عاملين، لأنه عطف على" واختلاف" على" وَفِي خَلْقِكُمْ"، وعطف" آياتٌ" على موضع" آياتٌ" الأول، ولكنه يقدر على تكرير" فِي". ويجوز أن يرفع
__________
(1). راجع ج 2 ص 191 وما بعدها. وج 14 ص (58)
(2). في ل: زيدا وزيدا بزيادة الواو.
(3). البيت لابي دواد الايادي.

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)

على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء، وما قبله خبره، ويكون عطف جملة على جملة. وحكى الفراء رفع" اختلاف" و" آياتٌ" جميعا، وجعل الاختلاف هو الآيات.

[سورة الجاثية (45): آية 6]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تعالى:" تِلْكَ آياتُ اللَّهِ" أي هذه آيات الله، أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته." نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ" أي بالصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه. وقرى" يتلوها" بالياء." فبأي حديث بعد الله «1»" وقيل بعد قرآنه" وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ" وقراءة العامة بالياء على الخبر. وقرا ابن محيصن وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي" تؤمنون" بالتاء على الخطاب.

[سورة الجاثية (45): الآيات 7 الى 8]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8)
قوله تعالى:" وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ"" وَيْلٌ" واد في جهنم. توعد من ترك الاستدلال بآياته. والأفاك: الكذاب. والافك الكذب. (أثيم) أي مرتكب للإثم. والمراد فيما روي النضر بن الحارث. وعن ابن عباس أنه الحارث بن كلدة. وحكى الثعلبي أنه أبو جهل وأصحابه." يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ" يعني آيات القرآن." ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً" أي يتمادى على كفره متعظما في نفسه عن الانقياد، مأخوذ من صر الصرة إذا شدها. قال معناه ابن عباس وغيره. وقيل: أصله من إصرار الحمار على العانة «2»، وهو أن ينحني عليها صارا أذنيه. و" أن" من" كان" مخففة من الثقيلة، كأنه لم يسمعها، والضمير ضمير الشأن، كما في قوله:
كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم «3»
__________
(1). ما بين المربعين زيادة من ل ن.
(2). العانة: الأتان (الحمارة). [.....]
(3). ويروي: إلى وارق السلم. وهذا عجز بيت لابن صريم اليشكري. وصدره كما في كتاب سيبويه والمقاصد النحوية:
ويوما توافينا بوجه مقسم

والمقسم: المحسن. و" تعطوا": تتناول. و" السلم": شجر بعينه. وصف امرأة حسنة الوجه فشبهها بظبية مخصبة المرعى.

وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)

ومحل الجملة النصب، أي يصر مثل غير السامع. وقد تقدم في أول" لقمان" القول في معنى هذه الآية «1». وتقدم معنى" فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ" في" البقرة" «2».

[سورة الجاثية (45): الآيات 9 الى 10]
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)
قوله تعالى:" وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً" نحو قوله في الزقوم: إنه الزبد والتمر، وقوله في خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي." أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ" مذل مخز." مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ" أي من وراء ما هم فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق جهنم. وقال ابن عباس:" مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ" أي أمامهم، نظيره" مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ" «3» [إبراهيم: 16] أي من أمامه. قال:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... أدب مع الولدان أزحف كالنسر
" وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً" أي من المال والولد، نظيره" لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً" «4» [آل عمران: 10] أي من المال والولد «5»." وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ" يعني الأصنام." وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ" أي دائم مؤلم.

[سورة الجاثية (45): آية 11]
هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
قوله تعالى:" هذا هُدىً" ابتداء وخبر، يعني القرآن. وقال ابن عباس: يعنى كل ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ" أي جحدوا دلائله.
__________
(1). راجع ج 14 ص (57)
(2). راجع ج 1 ص 198 و238 طبعه ثانية أو ثالثة.
(3). آية 16 سورة إبراهيم.
(4). آية 10 سورة آل عمران.
(5). ما بين المربعين ساقط من ح ز ل ن هـ.

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

" لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ" الرجز العذاب، أي لهم عذاب من عذاب أليم، دليله قوله تعالى:" فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ" «1» [البقرة: 59] أي عذابا. وقيل: الرجز القذر مثل الرجس، وهو كقوله تعالى:" وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ" «2» [إبراهيم: 16] أي لهم عذاب من تجرع الشراب القذر. وضم الراء من الرجز ابن محيصن حيث وقع. وقرا ابن كثير وابن محيصن وحفص" اليم" بالرفع، على معنى لهم عذاب أليم من رجز. الباقون بالخفض نعتا للرجز.

[سورة الجاثية (45): الآيات 12 الى 13]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
قوله تعالى:" اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" ذكر كمال قدرته وتمام نعمته على عباده، وبين أنه خلق ما خلق لمنافعهم." وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ" يعني أن ذلك فعله وخلقه وإحسان منه وإنعام. وقرا ابن عباس والجحدري وغيرهما" جَمِيعاً مِنْهُ" بكسر الميم وتشديد النون وتنوين الهاء، منصوبا على المصدر. قال أبو عمرو: وكذلك سمعت مسلمة يقرؤها" منة" أي تفضلا وكرما. وعن مسلمة بن محارب أيضا" جميعا منه" على إضافة المن إلى هاء الكناية. وهو عند أبي حاتم خبر ابتداء محذوف، أي ذلك، أو هو منه. وقراءة الجماعة ظاهرة." إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"

[سورة الجاثية (45): آية 14]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قوله تعالى:" قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا" جزم على جواب" قل" تشبيها بالشرط والجزاء، كقولك: قم تصب خيرا. وقيل: هو على حذف اللام. وقيل: على معنى قل
__________
(1). آية 59 سورة البقرة.
(2). آية 16 سورة إبراهيم.

لهم اغفروا يغفروا، فهو جواب أمر محذوف دل الكلام عليه، قاله علي بن عيسى واختاره ابن العربي. ونزلت الآية بسبب أن رجلا من قريش شتم عمر بن الخطاب فهم أن يبطش به. قال ابن العربي: وهذا لم يصح. وذكر الواحدي والقشيري وغيرهما عن ابن عباس أن الآية نزلت في عمر مع عبد الله بن أبي في غزوة بني المصطلق، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها" المريسيع" فأرسل عبد الله غلامه ليستقي، وأبطأ عليه فقال: ما حبسك؟ قال: غلام عمر بن الخطاب قعد على فم البئر، فما ترك أحدا يستقي حتى ملا قرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه. فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك. فبلغ عمر رضي الله عنه قوله، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله، فأنزل الله هذه الآية. هذه رواية عطاء عن ابن عباس. وروى عنه ميمون بن مهران قال: لما نزلت" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" «1» [البقرة: 245] قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج رب محمد! قال: فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (إن ربك يقول لك قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله). وأعلم أن عمر قد اشتمل على سيفه وخرج في طلب اليهودي، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طلبه، فلما جاء قال: (يا عمر، ضع سيفك) قال: يا رسول الله، صدقت. أشهد إنك أرسلت بالحق. قال: (فإن ربك يقول قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) قال: لا جرم! والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي. قلت: وما ذكره المهدوي والنحاس فهو رواية الضحاك عن ابن عباس، وهو قول القرظي والسدي، وعليه يتوجه النسخ في الآية. وعلى أن الآية نزلت بالمدينة أو في غزوة بني المصطلق فليست بمنسوخة. ومعنى" يَغْفِرُوا": يعفوا ويتجاوزوا. ومعنى" لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ": أي لا يرجون ثوابه. وقيل: أي لا يخافون بأس الله ونقمه. وقيل: الرجاء بمعنى الخوف، كقوله:" ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً" «2» [نوح: 13] أي لا تخافون له عظمة. والمعنى: لا تخشون «3»
__________
(1). آية 245 سورة البقرة.
(2). آية 13 سورة نوح.
(3). في ك: لا تخافون.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)

مثل عذاب الأمم الخالية. والأيام يعبر بها عن الوقائع. وقيل: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. وقيل: المعنى لا يخافون البعث." لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ" قراءة العامة" لِيَجْزِيَ" بالياء على معنى ليجزي الله. وقرا حمزة والكسائي وابن عامر" لنجزي" بالنون على التعظيم. وقرا أبو جعفر والأعرج وشيبة" ليجزي" بياء مضمومة وفتح الزاي على الفعل المجهول،" قَوْماً" بالنصب. قال أبو عمرو: وهذا لحن ظاهر. وقال الكسائي: معناه ليجزي الجزاء قوما، نظيره" وكذلك نجي المؤمنين" على قراءة ابن عامر وأبي بكر في سورة" الأنبياء" «1». قال الشاعر:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا «2»
أي لسب السب.

[سورة الجاثية (45): آية 15]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
تقدم «3».

[سورة الجاثية (45): الآيات 16 الى 17]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
قوله تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ" يعني التوراة." وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ" الحكم: الفهم في الكتاب. وقيل: الحكم على الناس والقضاء. و" النُّبُوَّةَ" يعني الأنبياء من وقت يوسف عليه السلام إلى زمن عيسى عليه السلام." وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ" أي الحلال
__________
(1). راجع ج 11 ص (334)
(2). قائله جرير يهجو الفرزدق. وقفيزة (كجينة): أم الفرزدق.
(3). راجع ج 15 ص 370. [.....]

ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)

من الأقوات والثمار والأطعمة التي كانت بالشام. وقيل: يعني المن والسلوى في التيه." وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ" أي على عالمي زمانهم، على ما تقدم في" الدخان" «1» بيانه" وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ" قال ابن عباس: يعني أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشواهد نبوته بأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، وينصره أهل يثرب. وقيل: بينات الامر شرائع واضحات في الحلال والحرام ومعجزات." فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ" يريد يوشع بن نون، فآمن بعضهم وكفر بعضهم، حكاه النقاش. وقيل:" إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ" نبوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاختلفوا فيها." بَغْياً بَيْنَهُمْ" أي حسدا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال معناه الضحاك. وقيل: معنى" بَغْياً" أي بغى بعضهم على بعض يطلب الفضل والرياسة، وقتلوا الأنبياء، فكذا مشركو عصرك يا محمد، قد جاءتهم البينات ولكن أعرضوا عنها للمنافسة في الرياسة." إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ" أي يحكم ويفصل." يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" في الدنيا.

[سورة الجاثية (45): آية 18]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ" الشريعة في اللغة: المذهب والملة. ويقال لمشرعة الماء- وهي مورد الشاربة-: شريعة. ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد. فالشريعة: ما شرع الله لعباده من الدين، والجمع الشرائع. والشرائع في الدين: المذاهب التي شرعها الله لخلقه. فمعنى" جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ" أي على منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلى الحق. وقال ابن عباس:" عَلى شَرِيعَةٍ" أي على هدى من الامر. قتادة: الشريعة الامر والنهي والحدود والفرائض. مقاتل: البينة، لأنها
__________
(1). راجع ج 16 ص

إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)

طريق إلى الحق. الكلبي: السنة، لأنه يستن بطريقة من قبله من الأنبياء. ابن زيد: الدين، لأنه طريق النجاة. قال ابن العربي: والامر يرد في اللغة بمعنيين: أحدهما- بمعنى الشأن كقوله:" فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ" «1» [هود: 97]. والثاني- أحد أقسام الكلام الذي يقابله النهي. وكلاهما يصح أن يكون مرادا ها هنا، وتقديره: ثم جعلناك على طريقة «2» من الدين وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى:" ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" «3» [النحل: 123]. ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينهما في الفروع حسبما علمه سبحانه. الثانية- قال ابن العربي: ظن بعض من يتكلم في العلم أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، لان الله تعالى أفرد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء هل يلزم اتباعه أم لا. قوله تعالى:" وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" يعني المشركين. وقال ابن عباس: قريظة والنضير. وعنه: نزلت لما دعته قريش إلى دين آبائه.

[سورة الجاثية (45): آية 19]
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
قوله تعالى:" إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً" أي إن اتبعت أهواءهم لا يدفعون عنك من عذاب الله شيئا." وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ" أي أصدقاء وأنصار وأحباب. قال ابن عباس: يريد أن المنافقين أولياء اليهود." وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ" أي ناصرهم ومعينهم. والمتقون هنا: الذين اتقوا الشرك والمعاصي.
__________
(1). آية 97 سورة هود.
(2). في ج ز ل: على شريعة من الدين.
(3). آية 123 سورة النحل.

هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

[سورة الجاثية (45): آية 20]
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
قوله تعالى:" هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ" ابتداء وخبر، أي هذا الذي أنزلت عليك براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام. وقرى" هذه بصائر" أي هذه الآيات." هُدىً" أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن أخذ به." وَرَحْمَةٌ" في الآخرة" لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"

[سورة الجاثية (45): آية 21]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21)
قوله تعالى:" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
" أي اكتسبوها. والاجتراح: الاكتساب، ومنه الجوارح، وقد تقدم في المائدة «1»." أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ"
قال الكلبي:" الَّذِينَ اجْتَرَحُوا"
عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. و" كَالَّذِينَ آمَنُوا"
علي وحمزة وعبيدة بن الحارث- رضي الله عنهم- حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم. وقيل: نزلت في قوم من المشركين قالوا: إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن، كما أخبر الرب عنهم في قوله:" وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى " «2» [فصلت: 50]. وقوله" أَمْ حَسِبَ"
استفهام معطوف معناه الإنكار. واهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب. وقوم يقولون: فيه إضمار، أي والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم. وقيل: هي أم المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. وقراءة العامة" سَواءً
" بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم، أي محياهم ومماتهم سواء. والضمير في" مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ"
يعود على الكفار، أي محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك. وقرا حمزة والكسائي والأعمش" سواء" بالنصب، واختاره أبو عبيد قال: معناه
__________
(1). راجع ج 6 ص (66)
(2). آية 50 سورة فصلت.

وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)

نجعلهم سواء. وقرا الأعمش أيضا وعيسى بن عمر" وَمَماتُهُمْ"
بالنصب، على معنى سواء في محياهم ومماتهم، فلما أسقط الخافض انتصب. ويجوز أن يكون" مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
" بدلا من الهاء والميم في نجعلهم، المعنى: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم. ويجوز أن يكون الضمير في" مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ"
للكفار والمؤمنين جميعا. قال مجاهد: المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا. وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال قال رجل من أهل مكة: هذا مقام تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ"
الآية كلها. وقال بشير: بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد. وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول: ليت شعري! من أي الفريقين أنت؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين لأنها محكمة.

[سورة الجاثية (45): آية 22]
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)
قوله تعالى:" وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ" أي بالأمر الحق." وَلِتُجْزى " أي ولكي تجزى." كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ" أي في الآخرة." وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ".

[سورة الجاثية (45): آية 23]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
قال ابن عباس والحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه. وقال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه، فإذا استحسن

شيئا وهويه اتخذه إلها. قال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه. وقال سفيان بن عيينة: إنما عبدوا الحجارة لان البيت حجارة. وقيل: المعنى أفرأيت من ينقاد لهواه ومعبوده تعجيبا لذوي العقول من هذا الجهل. وقال الحسن بن الفضل: في هذه الآية تقديم وتأخير، مجازه: أفرأيت من اتخذ هواه إلهه. وقال الشعبي: إنما سمي الهوى ] هوى [لأنه يهوي بصاحبه في النار. وقال ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال الله تعالى:" وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ"»
[الأعراف: 176]. وقال تعالى:" وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً" «2» [الكهف: 28]. وقال تعالى" بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ «3» اللَّهُ" [الروم: 29]. وقال تعالى:" وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ" «4» [القصص: 50]. وقال تعالى:" وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" «5» [ص: 26]. وقال عبد الله ابن عمرو بن العاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". وقال أبو أمامة: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى". وقال شداد بن أوس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله (. وقال عليه السلام:" إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فالمهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. والمنجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر والعدل في الرضا والغضب". وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه، فإن كان عمله
__________
(1). آية 176 سورة الأعراف.
(2). آية 28 سورة الكهف.
(3). آية 29 سورة الروم.
(4). آية 50 سورة القصص.
(5). آية 26 سورة ص.

تبعا لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح. وقال الأصمعي سمعت رجلا يقول:
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوان سرقت نونه، فأخذه شام فنظمه وقال:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال آخر:
إن الهوى لهو الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد كسبت هوانا
وإذا هويت فقد تعبدك الهوى ... فاخضع لحبك كائنا من كانا
ولعبد الله بن المبارك:
ومن البلايا للبلاء علامة ... ألا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع تارة ويجوع
ولابن دريد:
إذا طالبتك النفس يوما بشهوة ... وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما ... هواك عدو والخلاف صديق
ولابي عبيد الطوسي:
والنفس إن أعطيتها مناها ... فاغرة نحو هواها فاها

وقال أحمد بن أبي الحوارى: مررت براهب فوجدته نحيفا فقلت له: أنت عليل. قال نعم. قلت مذ كم؟ قال: مذ عرفت نفسي! قلت فتداوى؟ قال: قد أعياني الدواء، وقد عزمت على الكي. قلت وما الكي؟ قال: مخالفة الهوى. وقال سهل بن عبد الله التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وقال وهب: إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأته.

وللعلماء في هذا الباب في ذم الهوى ومخالفته كتب وأبواب أشرنا إلى ما فيه كفاية منه، وحسبك بقوله تعالى:" وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى " «1» [النازعات: 41- 40]. قوله تعالى:" وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ" أي على علم قد علمه منه. وقيل: أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه. وقال ابن عباس: أي على علم قد سبق عنده أنه سيضل. مقاتل: على علم منه أنه ضال، والمعنى متقارب. وقيل: على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر. ثم قيل:" عَلى عِلْمٍ" يجوز أن يكون حالا من الفاعل، المعنى: أضله على علم منه به، أي أضله عالما بأنه من أهل الضلال في سابق علمه. ويجوز أن يكون حالا من المفعول، فيكون المعنى: أضله في حال علم الكافر بأنه ضال." وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ" أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى «2»." وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً" أي غطاء حتى لا يبصر الرشد. وقرا حمزة والكسائي" غشوة" بفتح الغين من غير ألف، وقد مضى في" البقرة" «3». وقال الشاعر:
أما والذي أنا عبد له ... يمينا ومالك أبدى اليمينا
لئن كنت ألبستني غشوة ... لقد كنت أصفيتك الود حينا
" فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ" أي من بعد أن أضله." أَفَلا تَذَكَّرُونَ" تتعظون وتعرفون أنه قادر على ما يشاء. وهذه الآية ترد على القدرية والإمامية ومن سلك سبيلهم في الاعتقاد، إذ هي مصرحة بمنعهم من الهداية. ثم قيل:" وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ" إنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم. وقيل: إنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم، كما تقدم في أول" البقرة" «4». وحكى ابن جريج أنها نزلت
__________
(1). آية 40 سورة النازعات.
(2). في بعض نسخ الأصل:" الهوى" بالواو.
(3). راجع ج 1 ص 191 طبعه ثانية أو ثالثة. [.....]
(4). راجع ج 1 ص 186.

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)

في الحارث بن قيس من الغياطلة «1». وحكى النقاش أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد ابن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له مه! وما دلك على ذلك!؟ قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن!! والله إني لأعلم أنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة «2»، واللات والعزى إن اتبعته أبدا. فنزلت" وختم على سمعه وقلبه".

[سورة الجاثية (45): آية 24]
وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)
قوله تعالى:" وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا" هذا إنكار منهم للآخرة وتكذيب للبعث وإبطال للجزاء. ومعنى" نَمُوتُ وَنَحْيا" أي نموت نحن وتحيا أولادنا، قاله الكلبي. وقرى" وَنَحْيا" بضم النون. وقيل: يموت بعضنا ويحيا بعضنا. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي نحيا ونموت، وهي قراءة ابن مسعود." وما يهلكنا إلا الدهر" قال مجاهد: يعني السنين والأيام. وقال قتادة: إلا العمر، والمعنى واحد. وقرى" إلا دهر يمر". وقال ابن عيينة كان أهل الجاهلية يقولون: الدهر هو الذي يهلكنا وهو الذي يحيينا ويميتنا، فنزلت هذه الآية. وقال قطرب: وما يهلكنا إلا الموت، وأنشد قول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
__________
(1). في كتاب الاشتقاق لابن دريد (ص 75 طبع أوربا):" بنو قيس بن عدي كانوا من رجال قريش يلقبون الغياطل، وكان قيس سيد قريش في دهره غير مدافع". قال:" والغياطل: جمع غيطلة، وهو الشجر الملتف، واختلاط الظلام".
(2). في أز ح: كسيرة.

وقال عكرمة: أي وما يهلكنا إلا الله. وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" كان أهل الجاهلية يقولون ما يهلكنا إلا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فيسبون الدهر قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الامر أقلب الليل والنهار". قلت: قوله" قال الله" إلى آخره نص البخاري ولفظه. وخرجه مسلم أيضا وأبو داود. وفي الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر). وقد استدل بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله. وقال: من لم يجعله من العلماء اسما إنما خرج ردا على العرب في جاهليتها، فإنهم كانوا يعتقدون أن الدهر هو الفاعل كما أخبر الله عنهم في هذه الآية، فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه نسبوا ذلك إلى الدهر فقيل لهم على ذلك لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، أي إن الله هو الفاعل لهذه الأمور التي تضيفونها إلى الدهر فيرجع السب إليه سبحانه، فنهوا عن ذلك. ودل على صحة هذا ما ذكرناه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قال الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم ...) الحديث. ولقد أحسن من قال، وهو أبو علي الثقفي:
يا عاتب الدهر إذا نابه ... لا تلم الدهر على غدره
الدهر مأمور، له آمر ... وينتهي الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمة ... تزداد أضعافا على كفره
ومؤمن ليس له درهم ... يزداد إيمانا على فقره
وروي أن سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيرا ما يذكر الدهر فزجره أبوه وقال: إياك يا بني وذكر الدهر! وأنشد:
فما الدهر بالجاني لشيء لحينه ... ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا
ولكن متى ما يبعث الله باعثا ... على معشر يجعل مياسيرهم عسرا

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

وقال أبو عبيد: ناظرت بعض الملحدة فقال: ألا تراه يقول:" فإن الله هو الدهر"!؟ فقلت: وهل كان أحد يسب الله في آباد الدهر، بل كانوا يقولون كما قال الأعشى:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضوا مهلا
استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا
قال أبو عبيد: ومن شأن العرب أن يذموا الدهر عند المصائب والنوائب، حتى ذكروه في أشعارهم، ونسبوا الأحداث إليه. قال عمرو بن قميئة:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برام
فلو أنها نبل إذا لاتقيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام
على الراحتين مرة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهن قيامي
ومثله كثير في الشعر. ينسبون ذلك إلى الدهر ويضيفونه إليه، والله سبحانه الفاعل لا رب سواه." وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ". أي علم. و" من" زائدة، أي قالوا «1» ما قالوا شاكين." إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" أي ما هم إلا يتكلمون بالظن. وكان المشركون أصنافا، منهم هؤلاء، ومنهم من كان يثبت الصانع وينكر البعث، ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره. وحدث في الإسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفا من المسلمين، فيتأولون ويرون القيامة موت البدن، ويرون الثواب والعقاب إلى خيالات تقع للأرواح بزعمهم، فشر هؤلاء أضر من شر جميع الكفار، لان هؤلاء يلبسون على الحق، ويغتر بتلبيسهم الظاهر. والمشرك المجاهر بشركه يحذره المسلم. وقيل: نموت وتحيا آثارنا، فهذه حياة الذكر. وقيل أشاروا إلى التناسخ، أي يموت الرجل فتجعل روحه في موات فتحيا به.

[سورة الجاثية (45): الآيات 25 الى 26]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)
__________
(1). جملة: ما قالوا ساقطة من از ل.

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)

قوله تعالى:" وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ" أي وإذ تقرأ على هؤلاء المشركين آياتنا المنزلة في جواز البعث لم يكن ثم دفع" ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا"" حُجَّتَهُمْ" خبر كان، والاسم" إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا" الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون، فرد الله عليهم بقوله" قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ" يعني بعد كونكم نطفا أمواتا" ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ" كما أحياكم في الدنيا." وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" أن الله يعيدهم كما بدأهم. الزمخشري:" فإن قلت لم سمي قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها فسميت حجة على سبيل التهكم. أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة. أو لأنه في أسلوب قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع «1»

كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. والمراد نفي أن تكون لهم حجة البتة. فإن قلت: كيف وقع قوله" قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ" جواب" ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"؟ قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أن ما قالوه قول مبكت ألزموا ما هم مقرون به من أن الله عز وجل وهو الذي يحييهم ثم يميتهم، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق وهو جمعهم يوم القيامة، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.

[سورة الجاثية (45): آية 27]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
قوله تعالى:" وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" خلقا وملكا." وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ"" يوم" الأول منصوب ب" يخسر" و" يومئذ" تكرير للتأكيد (هامش)
__________
(1). هذا عجز بيت لعمرو بن معد يكرب. وصدره:
وخيل قد دلفت لها بخيل

يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلا من تحية بعضهم لبعض الضرب الوجيع. ودلفت: زحفت. والدليف: مقاربة الخطو في المشي.

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

أو بدل. وقيل: إن التقدير وله الملك يوم تقوم الساعة. والعامل في" يومئذ"" يَخْسَرُ"، ومفعول" يَخْسَرُ" محذوف، والمعنى يخسرون منازلهم في الجنة.

[سورة الجاثية (45): آية 28]
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
قوله تعالى:" وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً" أي من هول ذلك اليوم. والامة هنا: أهل كل ملة. وفي الجاثية تأويلات خمس: الأول- قال مجاهد: مستوفزة. وقال سفيان: المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله. الضحاك: ذلك عند الحساب. الثاني- مجتمعة، قاله ابن عباس. الفراء: المعنى وترى أهل كل دين مجتمعين. الثالث- متميزة، قاله عكرمة. الرابع- خاضعة بلغة قريش، قاله مؤرج. الخامس- باركة على الركب، قاله الحسن. والجثو: الجلوس على الركب. جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثوا وجثيا، على فعول فيهما، وقد مضى في" مريم" «1»: واصل الجثوة «2»: الجماعة من كل شي. قال طرفة يصف قبرين:
ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد «3»
ثم قيل: هو خاص بالكفار، قاله يحي بن سلام. وقيل: إنه عام للمؤمن والكافر انتظارا للحساب. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" كأني أراكم بالكوم «4» جاثين دون جهنم" ذكره الماوردي. وقال سلمان: إن في يوم القيامة لساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي" لا أسألك اليوم إلا نفسي"." كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا" قال يحيى ابن سلام: إلى حسابها. وقيل: إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر،
__________
(1). راجع ج 11 ص 132.
(2). مثلثة الجيم.
(3). الصم: الصلب. والمنضد: الذي جعل بعضه على بعض.
(4). الكوم: المواضع المشرفة.

هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

قاله مقاتل. وهو معنى قول مجاهد. وقيل:" كِتابِهَا" ما كتبت الملائكة عليها. وقيل كتابها المنزل عليها لينظر هل عملوا بما فيه. وقيل: الكتاب ها هنا اللوح المحفوظ. وقرا يعقوب الحضرمي" كل أمة" بالنصب على البدل من" كل" الاولى لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الاولى، إذ ليس في جثوها شيء من حال شرح الجثو كما في الثانية من ذكر السبب الداعي إليه وهو استدعاؤها إلى كتابها. وقيل: انتصب بإعمال" ترى" مضمرا. والرفع على الابتداء." الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" من خير أو شر.

[سورة الجاثية (45): آية 29]
هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
قوله تعالى:" هذا كِتابُنا" قيل من قول الله لهم. وقيل من قول الملائكة." يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ" أي يشهد. وهو استعارة، يقال: نطق الكتاب بكذا أي بين. وقيل: إنهم يقرءونه فيذكرهم الكتاب ما عملوا، فكأنه ينطق عليهم، دليله قوله:" وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها" «1» [الكهف: 49]. وفي المؤمنين:" وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" «2» وقد تقدم «3». و" يَنْطِقُ" في، موضع الحال من الكتاب، أو من ذا، أو خبر ثان لذا، أو يكون" كِتابُنا" بدلا من" هذا" و" يَنْطِقُ" الخبر." إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" أي نأمر بنسخ ما كنتم تعملون. قال علي رضي الله عنه: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم. وقال ابن عباس: إن الله وكل ملائكة مطهرين فينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما يكون من أعمال بني آدم فيعارضون حفظة الله على العباد كل خميس، فيجدون ما جاء به الحفظة من أعمال العباد موافقا لما في كتابهم الذي استنسخوا من ذلك الكتاب لا زيادة فيه ولا نقصان. قال ابن عباس: وهل يكون النسخ إلا من كتاب. الحسن: نستنسخ ما كتبته الحفظة
__________
(1). آية 49 سورة الكهف
(2). آية 62 سورة المؤمنون.
(3). راجع ج 10 ص 418 وج 12 ص 134.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)

على بني آدم، لان الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال. وقيل: تحمل الحفظة كل يوم ما كتبوا على العبد، ثم إذا عادوا إلى مكانهم نسخ منه الحسنات والسيئات «1»، ولا تحول المباحات إلى النسخة الثانية. وقيل: إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله عز وجل أمر بأن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط من جملتها ما لا ثواب فيه ولا عقاب.

[سورة الجاثية (45): الآيات 30 الى 31]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)
قوله تعالى:" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ" أي الجنة" ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ" أي فيقال لهم ذلك. وهو استفهام توبيخ." فَاسْتَكْبَرْتُمْ" عن قبولها." وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ" أي مشركين تكسبون المعاصي. يقال: فلان جريمة أهله إذا كان كاسبهم، فالمجرم من أكسب نفسه المعاصي. وقد قال الله تعالى:" أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ" «2» [القلم: 35] فالمجرم ضد المسلم فهو المذنب بالكفر إذا.

[سورة الجاثية (45): آية 32]
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
قوله تعالى:" وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" أي البعث كائن." وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها" وقرا حمزة" والساعة" بالنصب عطفا على" وَعْدَ". الباقون بالرفع على الابتداء، أو العطف
__________
(1). كلمة: السيئات ساقطة من ل.
(2). آية 35 سورة القلم. [.....]

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)

على موضع" إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ". ولا يحسن على الضمير الذي في المصدر، لأنه غير مؤكد، والضمير المرفوع إنما يعطف عليه بغير تأكيد في الشعر." قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ" هل هي حق أم باطل." إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا" تقديره عند المبرد: إن نحن إلا نظن ظنا. وقيل لا التقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا وقيل أى وقلتم إن نظن إلا ظنا «1»" وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ" أن الساعة آتية.

[سورة الجاثية (45): آية 33]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33)
قوله تعالى:" وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا" أي ظهر لهم جزاء سيئات ما عملوا." وَحاقَ بِهِمْ" أي نزل بهم وأحاط." ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من عذاب الله.

[سورة الجاثية (45): آية 34]
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34)
قوله تعالى:" وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ" أي نترككم في النار كما تركتم لقاء يومكم هذا، أي تركتم العمل له." وَمَأْواكُمُ النَّارُ" أي مسكنكم ومستقركم." وما لكم من ناصرين" من ينصركم.

[سورة الجاثية (45): آية 35]
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
قوله تعالى:" ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ" يعني القرآن." هُزُواً" لعبا." وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا" أي خدعتكم بأباطيلها وزخارفها، فظننتم أن ليس ثم غيرها، وأن لا بعث." فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها" أي من النار." وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ" يسترضون. وقد تقدم «2». وقرا حمزة والكسائي" فاليوم لا يخرجون" بفتح الياء وضم الراء، لقوله تعالى:
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ح ن والمطبوعة.
(2). راجع ج 10 ص 162 وج 14 ص 49 وج 15 ص 353

" كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها" «1» [السجدة: 20] الباقون بضم الياء وفتح الراء، لقوله تعالى:" رَبَّنا أَخْرِجْنا" «2» [فاطر: 37] ونحوه.

[سورة الجاثية (45): الآيات 36 الى 37]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
قوله تعالى:" فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ" قرأ مجاهد وحميد وابن محيصن" رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ" بالرفع فيها كلها على معنى هو رب." وَلَهُ الْكِبْرِياءُ" أي العظمة والجلال والبقاء والسلطان والقدرة والكمال." فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" والله أعلم.

[تفسير سورة الأحقاف ]
سورة الأحقاف مكية في قول جميعهم. وهي أربع وثلاثون آية، وقيل خمس.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
قوله تعالى:" حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" تقدم «3»" ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ" تقدم أيضا «4»." وَأَجَلٍ مُسَمًّى" يعني القيامة، في قول ابن عباس وغيره. وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض. وقيل: إنه هو الأجل
__________
(1). آية 20 سورة السجدة.
(2). راجع ج 12 ص 153.
(3). راجع ص 156 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 10 ص 53.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)

المقدور لكل مخلوق." وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا" خوفوه" مُعْرِضُونَ" مولون لا هون غير مستعدين له. ويجوز أن تكون" ما" مصدرية، أي عن إنذارهم ذلك اليوم.

[سورة الأحقاف (46): آية 4]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ" أي ما تعبدون من الأصنام والأنداد من دون الله." أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ" أي هل خلقوا شيئا من الأرض" أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ" أي نصيب" فِي السَّماواتِ" أي في خلق السموات مع الله." ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا" أي من قبل هذا القرآن. الثانية- قوله تعالى:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ". قراءة العامة" أو أثارة" بألف بعد الثاء. قال ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هو خط كانت تخطه العرب في الأرض [، ذكره المهدوي والثعلبي. وقال ابن العربي: ولم يصح. وفي مشهور الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك [ولم يصح أيضا. قلت: هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي، خرجه مسلم. وأسند النحاس: حدثنا محمد بن أحمد (يعرف بالجرايجي) «1» قال حدثنا محمد بن بندار قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان الثوري عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله عز وجل" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" قال ] الخط [وهذا صحيح أيضا. قال ابن العربي: واختلفوا في تأويله، فمنهم من قال: جاء لاباحة الضرب، لان بعض الأنبياء كان يفعله.
__________
(1). اضطربت الأصول في كتابة هذه النسبة.

ومنهم من قال جاء للنهي عنه، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] فمن وافق خطه فذاك [ولا سبيل إلى معرفة طريق النبي المتقدم فيه، فإذا لا سبيل إلى العمل به. قال:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع «1»
وحقيقته عند أربابه ترجع إلى صور الكواكب، فيدل ما يخرج منها على ما تدل عليه تلك الكواكب من سعد أو نحس يحل بهم، فصار ظنا مبنيا على ظن، وتعلقا بأمر غائب قد درست طريقه وفات تحقيقه، وقد نهت الشريعة عنه، وأخبرت أن ذلك مما اختص الله به، وقطعه عن الخلق، وإن كانت لهم قبل ذلك أسباب يتعلقون بها في درك الأشياء المغيبة، فإن الله قد رفع تلك الأسباب وطمس تيك الأبواب وأفرد نفسه بعلم الغيب، فلا يجوز مزاحمته في ذلك، ولا يحل لاحد دعواه. وطلبه عناء لو لم يكن فيه نهي، فإذ وقد ورد النهي فطلبه معصية أو كفر بحسب قصد الطالب. قلت: ما اختاره هو قول الخطابي. قال الخطابي: قوله عليه السلام: «2» [فمن وافق خطه فذاك [هذا يحتمل الزجر إذ كان ذلك علما لنبوته وقد انقطعت، فنهينا عن التعاطي لذلك. قال القاضي عياض: الأظهر من اللفظ خلاف هذا، وتصويب خط من يوافق خطه، لكن من أين تعلم الموافقة والشرع منع من التخرص وادعاء الغيب جملة- فإنما معناه أن من وافق خطه فذاك الذي يجدون إصابته، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم. وحكى مكي في تفسير قوله:] كان نبي من الأنبياء يخط [أنه كان يخط «3» بإصبعه السبابة والوسطى في الرمل ثم يزجر. وقال ابن عباس في تفسير قوله ] ومنا رجال يخطون [: هو الخط الذي يخطه الحازي»
فيعطى حلوانا فيقول: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام معه ميل ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط الأستاذ خطوطا معجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو على مهل خطين خطين، فإن بقي خطان فهو علامة النجح، وإن بقي خط فهو علامة الخيبة. والعرب تسميه الأسحم وهو مشئوم عندهم.
__________
(1). البيت للبيد. والرواية فيه:" الطوارق" بدل" الضوارب". والطرق: الضرب بالحصا. والطوارق المنكهنات.
(2). ما بين المربعين ساقط من ك هـ.
(3). جملة: أنه كان يخط ساقطة من ل ز.
(4). الحازي: الكاهن.

الثالثة- قال ابن العربي: إن الله تعالى لم يبق من الأسباب الدالة على الغيب التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا، فإنه أذن فيها، وأخبر أنها جزء من النبوة وكذلك الفأل، وأما الطيرة والزجر فإنه نهى عنهما. والفأل: هو الاستدلال بما يسمع من الكلام على ما يريد من الامر إذا كان حسنا، فإن سمع مكروها فهو تطير، أمره الشرع بأن يفرح بالفأل ويمضي على أمره مسرورا. وإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك [. وقد روى بعض الأدباء:
الفأل والزجر والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال
وهذا كلام صحيح، إلا في الفأل فإن الشرع استثناه وأمر به، فلا يقبل من هذا الشاعر ما نظمه فيه، فإنه تكلم بجهل، وصاحب الشرع أصدق وأعلم وأحكم. قلت: قد مضى في الطيرة والفأل وفي الفرق بينهما ما يكفي في (المائدة) «1» وغيرها. ومضى في (الانعام) «2» أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب، وأن أحدا لا يعلم ذلك إلا ما أعلمه الله، أو يجعل على ذلك دلالة عادية يعلم بها ما يكون على جري العادة، وقد يختلف. مثاله إذا رأى نخلة قد أطلعت فإنه يعلم أنها ستثمر، وإذا رآها قد تناثر طلعها علم أنها لا تثمر. وقد يجوز أن يأتي عليها آفة تهلك ثمرها فلا تثمر، كما أنه جائز أن تكون النخلة التي تناثر طلعها يطلع الله فيها طلعا ثانيا فتثمر. وكما أنه جائز أيضا ألا يلي شهره شهر ولا يومه يوم إذا أراد الله إفناء العالم ذلك الوقت. إلى غير ذلك مما تقدم في (الانعام) بيانه. الرابعة- قال ابن خويز منداد: قوله تعالى:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" يريد الخط. وقد كان مالك رحمه الله يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه. وإذا عرف الحاكم خطه أو خط من كتب إليه حكم به، ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل والتزوير. وقد روي عنه أنه قال:] يحدث الناس فجورا فتحدث لهم أقضيه [. فأما إذا شهد الشهود على الخط المحكوم به، مثل أن يشهدوا أن هذا خط الحاكم وكتابه، أشهدنا على
__________
(1). راجع ج 6 ص 59 وما بعدها.
(2). راجع ج 7 ص 2

ما فيه وإن لم يعلموا ما في الكتاب. وكذلك الوصية أو خط الرجل باعترافه بمال لغيره يشهدون أنه خطه ونحو ذلك- فلا يختلف مذهبه أنه يحكم به. وقيل:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" أو بقية من علم، قاله ابن عباس والكلبي وأبو بكر بن عياش وغيرهم. وفي الصحاح" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" بقية منه. وكذلك الأثرة (بالتحريك). ويقال: سمنت الإبل على أثارة، أي بقية شحم كان قبل ذلك. وأنشد الماوردي والثعلبي قول الراعي:
وذات أثارة أكلت عليها ... نباتا في أكمته ففارا
وقال الهروي: والإثارة والأثر: البقية، يقال: ما ثم عين ولا أثر. وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" خاصة من علم. وقال مجاهد: رواية تأثرونها عمن كان قبلكم. وقال عكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء. وقال القرظي: هو الاسناد. الحسن: المعنى شيء يثار أو يستخرج. وقال الزجاج:" أَوْ أَثارَةٍ" أي علامة. والإثارة مصدر كالسماحة والشجاعة. واصل الكلمة من الأثر، وهي الرواية، يقال: أثرت الحديث آثره أثرا وأثارة وأثرة فأنا آثر، إذا ذكرته عن غيرك. ومنه قيل: حديث مأثور، أي نقله خلف عن سلف. قال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما ... بين للسامع والآثر
ويروى" بين" وقرى" أو أثرة" بضم الهمزة وسكون الثاء. ويجوز أن يكون معناه بقية من علم. ويجوز أن يكون معناه شيئا مأثورا من كتب الأولين. والمأثور: ما يتحدث به مما صح سنده عمن تحدث به عنه «1». وقرا السلمي والحسن وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف، أي خاصة من علم أوتيتموها أو أوثرتم بها على غيركم. وروي عن الحسن أيضا وطائفة" أثرة" مفتوحة الالف ساكنة الثاء، ذكر الاولى الثعلبي والثانية الماوردي. وحكى الثعلبي عن عكرمة: أو ميراث من علم." إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ". الخامسة- قوله تعالى:" ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" فيه بيان مسالك الادلة بأسرها، فأولها المعقول، وهو قوله تعالى:"
__________
(1). كلمة عنه ساقطة من ز ل. [.....]

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ" وهو احتجاج بدليل العقل في أن الجماد لا يصح أن يدعى من دون الله فإنه لا يضر ولا ينفع. ثم قال:" ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا" فيه بيان أدلة السمع" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ".

[سورة الأحقاف (46): آية 5]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)
قوله تعالى:" وَمَنْ أَضَلُّ" أي لا أحد أضل وأجهل" مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ" وهي الأوثان." وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ" يعني لا يسمعون ولا يفهمون، فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم، إذ قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم.

[سورة الأحقاف (46): آية 6]
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
قوله تعالى:" وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ" يريد يوم القيامة." كانُوا لَهُمْ أَعْداءً" أي هؤلاء المعبودون أعداء الكفار يوم القيامة. فالملائكة أعداء الكفار، والجن والشياطين يتبرءون غدا من عبدتهم، ويلعن بعضهم بعضا. ويجوز أن تكون الأصنام للكفار الذين عبدوها أعداء، على تقدير خلق الحياة لها، دليله قوله تعالى:" تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ" «1» [القصص: 63]. وقيل: عادوا معبوداتهم لأنهم كانوا سبب هلاكهم، وجحد المعبودون عبادتهم، وهو قوله" وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ".

[سورة الأحقاف (46): آية 7]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
__________
(1). آية 63 سورة القصص.] [

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)

قوله تعالى:" وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ" يعني القرآن." قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ".

[سورة الأحقاف (46): آية 8]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
قوله تعالى:" أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ" الميم صلة، التقدير: أيقولون افتراه، أي تقوله محمد. وهو إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا. ومعنى الهمزة في" أم" الإنكار والتعجب، كأنه قال: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضي منه العجب. وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، ولو قدر عليه دون أمة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفتريا، والضمير للحق، والمراد به الآيات." قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ" على سبيل الفرض." فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً" أي لا تقدرون على أن تردوا عني عذاب الله، فكيف أفتري على الله لأجلكم." هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ" أي تقولونه، عن مجاهد. وقيل: تخوضون فيه من التكذيب. والإفاضة في الشيء: الخوض فيه والاندفاع. أفاضوا في الحديث أي اندفعوا فيه. وأفاض البعير أي دفع جرته من كرشه فأخرجها، ومنه قول الشاعر:
وأفضن بعد كظومهن بجرة «1»
__________
(1). هذا عجز بيت للراعي، وصدره كما في معجم البلدان لياقوت في" حقيل":
من ذي الابارق إذ رعين حقيلا

وذو الابارق وحقيل: موضع واحد. يقول: كن كظوما من العطش (والكاظم من الإبل الذي أمسك عن الجرة)، فلما ابتل ما في بطونها أفضن بجرة.

قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

وأفاض الناس من عرفات إلى منى أي دفعوا، وكل دفعة إفاضة." كَفى بِهِ شَهِيداً" نصب على التمييز." بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" أي هو يعلم صدقي وأنكم مبطلون." وَهُوَ الْغَفُورُ" لمن تاب" الرَّحِيمُ" بعباده المؤمنين.

[سورة الأحقاف (46): آية 9]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قوله تعالى:" قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ" أي أول من أرسل، قد كان قبلي رسل، عن ابن عباس وغيره. والبدع: الأول. وقرا عكرمة وغيره" بدعا" بفتح الدال، على تقدير حذف المضاف، والمعنى: ما كنت صاحب بدع. وقيل: بدع وبديع بمعنى، مثل نصف ونصيف. وأبدع الشاعر: جاء بالبديع. وشئ بدع (بالكسر) أي مبتدع. وفلان بدع في هذا الامر أي بديع. وقوم إبداع، عن الأخفش. وأنشد قطرب قول عدي بن زيد:
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالا غدت من بعد بؤسى بأسعد «1»
" وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" يريد يوم القيامة. ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزلت" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" «2» [الفتح: 2] فنسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف الكفار. وقالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا؟ فنزلت" لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" «3» [الفتح: 5] الآية. ونزلت" وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً" «4» [الأحزاب: 47]. قاله أنس وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك. وقالت أم العلاء امرأة من الأنصار: اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان
__________
(1). هذا رواية البيت كما في نسخ الأصل. والذي في شعراء النصرانية: فلست
بمن يخشى حوادث تعتري ... رجالا فبادروا بعد بؤس وأسعد

(2). آية 2 سورة الفتح.
(3). آية 5 سورة الفتح.
(4). آية 47 سورة الأحزاب.

ابن مظعون بن حذافة بن جمح، فأنزلناه أبياتنا فتوفي، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب! إن الله أكرمك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] وما يدريك أن الله أكرمه [؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! فمن؟ قال:] أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم [. قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا. ذكره الثعلبي، وقال: وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه، وإنما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين. قلت: حديث أم العلاء خرجه البخاري، وروايتي فيه:" وما أدري ما يفعل به" ليس فيه" بِي وَلا بِكُمْ" وهو الصحيح إن شاء الله، على ما يأتي بيانه. والآية ليست بمنسوخة، لأنها خبر. قال النحاس: محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين: أحدهما أنه خبر، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده، ومحال أن يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمشركين" ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" في الآخرة، ولم يزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الايمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة، فقد رأى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يفعل به وبهم في الآخرة. وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعه أم إلى عذاب وعقاب. والصحيح في الآية قول الحسن، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن" وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ في الدنيا" قال أبو جعفر: وهذا أصح قول وأحسنه، لا يدري صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر. ومثله" وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ" «1» [الأعراف: 188]. وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن
__________
(1). آية 188 سورة الأعراف.] [

ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا: يا رسول الله، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى:" وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا. ثم قال:] إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي [أي لم يوح إلي ما أخبرتكم به. قال القشيري: فعلى هذا لا نسخ في الآية. وقيل: المعنى لا أدري ما يفرض علي وعليكم من الفرائض. واختار الطبري أن يكون المعنى: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، أتؤمنون أم تكفرون، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخرون. قلت: وهو معنى قول الحسن والسدي وغيرهما. قال الحسن: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أما في الآخرة فمعاذ الله! قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال «1» ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي، أو أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي، ولا أدري ما يفعل بكم، أأمتي المصدقة أم المكذبة، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا، أو مخسوف بها خسفا، ثم نزلت" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" «2» [التوبة: 33]. يقول: سيظهر دينه على الأديان. ثم قال في أمته:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ" «3» [الأنفال: 33] فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته، ولا نسخ على هذا كله، والحمد لله. وقال الضحاك أيضا:" ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" أي ما تؤمرون به وتنهون عنه. وقيل: أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة، ثم بين الله تعالى ذلك في قوله:" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" [الفتح: 2] وبين فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بين حال الكافرين. قلت: وهذا معنى القول الأول، إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان، وأنه أمر أن يقول ذلك للمؤمنين، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره. و" ما" في" ما يُفْعَلُ" يجوز أن
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ن.
(2). آية 33 سورة التوبة.
(3). آية 33 سورة الأنفال.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

تكون موصولة، وأن تكون استفهامية مرفوعة." إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ" وقرى" يوحى" أي الله عز وجل. تقدم في غير موضع.

[سورة الأحقاف (46): آية 10]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قوله تعالى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" يعني القرآن." وَكَفَرْتُمْ بِهِ" قال الشعبي: المراد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ" قال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: هو عبد الله بن سلام، شهد على اليهود أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مذكور في التوراة، وأنه نبي من عند الله. وفي الترمذي عنه: ونزلت في آيات من كتاب الله، نزلت في" وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ". وقد تقدم في آخر سورة" الرعد" «1». وقال مسروق: هو موسى والتوراة، لا ابن سلام، لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية. وقال: وقوله" وَكَفَرْتُمْ بِهِ" مخاطبة لقريش. الشعبي: هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة، لان ابن سلام إنما أسلم قبل وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعامين، والسورة مكية. قال القشيري: ومن قال الشاهد موسى قال السورة مكية، وأسلم ابن سلام قبل موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعامين «2». ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية، فإن الآية كانت تنزل فيقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضعوها في سورة كذا. والآية في محاجة المشركين، ووجه الحجة أنهم كانوا يراجعون اليهود في أشياء، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم لي من أوضح الحجج. ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود، ولما جاء ابن سلام مسلما من قبل أن تعلم اليهود بإسلامه قال: يا رسول الله، اجعلني حكما بينك وبين اليهود، فسألهم عنه:] أي رجل هو فيكم [قالوا: سيدنا وعالمنا. فقال:] إنه قد آمن بي [فأساءوا القول فيه ... الحديث،
__________
(1). راجع ج 9 ص 335
(2). ما بين المربعين ساقط من ك.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)

وقد تقدم. قال ابن عباس: رضيت اليهود بحكم ابن سلام، وقالت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن يشهد لك آمنا بك، فسئل فشهد ثم أسلم." عَلى مِثْلِهِ" أي على مثل ما جئتكم به، فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن. وقال الجرجاني." مثل" صلة، أي وشهد شاهد عليه أنه من عند الله." فَآمَنَ" أي هذا الشاهد." وَاسْتَكْبَرْتُمْ" أنتم عن الايمان. وجواب" إِنْ كانَ" محذوف تقديره: فآمن أتؤمنون، قاله الزجاج. وقيل:" فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ" أليس قد ظلمتم، يبينه" إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" وقيل:" فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ" أفتأمنون عذاب الله. و" أَرَأَيْتُمْ" لفظ موضوع للسؤال والاستفهام، ولذلك لا يقتضي مفعولا. وحكى النقاش وغيره: أن في الآية تقديما وتأخيرا، وتقديره: قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن هو وكفرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.

[سورة الأحقاف (46): آية 11]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
قوله تعالى:" وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ" اختلف في سبب نزولها على ستة «1» أقوال: الأول- أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام بمكة فأجاب، واستجار به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم، ثم دعاهم الزعيم فأسلموا، فبلغ ذلك قريشا فقالوا: غفار الحلفاء لو كان هذا خيرا ما سبقونا إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل. الثاني- أن زنيرة «2» أسلمت فأصيب بصرها فقالوا لها: أصابك اللات والعزى، فرد الله عليها بصرها. فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله عروة بن الزبير.
__________
(1). كذا في نسخ الأصل. ويلاحظ أن المؤلف رحمه الله ذكر خمسة أقوال.
(2). زنيرة (بكسر الزاي وتشديد النون المكسورة): رومية، وكانت من السابقات إلى الإسلام، وممن يعذب في الله، وكان أبو جهل يعذبها، وهي من السبعة الذين اشتراهم أبو بكر الصديق وأنقذهم من التعذيب. [.....]

وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)

الثالث- أن الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع، قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه رعاة البهم إذ نحن أعز منهم، قاله الكلبي والزجاج، وحكاه القشيري عن ابن عباس. وقال قتادة: نزلت في مشركي قريش، قالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه بلال وصهيب وعمار وفلان وفلان. وهو القول الرابع. القول الخامس- أن الذين كفروا من اليهود قالوا للذين آمنوا يعني عبد الله بن سلام وأصحابه: لو كان دين محمد حقا ما سبقونا إليه، قاله أكثر المفسرين، حكاه الثعلبي. وقال مسروق: إن الكفار قالوا لو كان خيرا ما سبقتنا إليه اليهود، فنزلت هذه الآية. وهذه المعارضة من الكفار في قولهم: لو كان خيرا ما سبقونا إليه من أكبر المعارضات بانقلابها عليهم لكل من خالفهم، حتى يقال لهم: لو كان ما أنتم عليه خيرا ما عدلنا عنه، لو كان تكذيبكم للرسول «1» خيرا ما سبقتمونا إليه، ذكره الماوردي. ثم قيل: قوله" ما سَبَقُونا إِلَيْهِ" يجوز أن يكون من قول الكفار لبعض المؤمنين، ويجوز أن يكون على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى" حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ" «2» [يونس: 22]." وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ" يعني الايمان. وقيل القرآن. وقيل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ" أي لما لم يصيبوا الهدى بالقرآن ولا بمن جاء به عادوه ونسبوه إلى الكذب، وقالوا هذا إفك قديم، كما قالوا: أساطير الأولين. وقيل لبعضهم: هل في القرآن: من جهل شيئا عاداه؟ فقال نعم؟ قال الله تعالى:" وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ" ومثله" بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ" «3» [يونس: 39].

[سورة الأحقاف (46): آية 12]
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
__________
(1). في ك: ولو كان تكذيب الرسول.
(2). آية 22 سورة يونس.
(3). آية 39 سورة يونس.

قوله تعالى:" وَمِنْ قَبْلِهِ" أي ومن قبل القرآن" كِتابُ مُوسى " أي التوراة" إِماماً" يقتدى بما فيه و" وَرَحْمَةً" من الله. وفي الكلام حذف، أي فلم تهتدوا به. وذلك أنه كان في التوراة نعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والايمان به فتركوا ذلك. و" إِماماً" نصب على الحال، لان المعنى: وتقدمه كتاب موسى إماما." وَرَحْمَةً" معطوف عليه. وقيل: انتصب بإضمار فعل، أي أنزلناه إماما ورحمة. وقال الأخفش: على القطع، لان كتاب موسى معرفة بالإضافة، لان النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة «1»." وَهذا كِتابٌ" يعني القرآن" مُصَدِّقٌ" يعني للتوراة ولما قبله من الكتب. وقيل: مصدق للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." لِساناً عَرَبِيًّا" منصوب على الحال، أي مصدق لما قبله عربيا، و" لِساناً" توطئة للحال أي تأكيد، كقولهم: جاءني زيد رجلا صالحا، فتذكر رجلا توكيدا. وقيل: نصب بإضمار فعل تقديره: وهذا كتاب مصدق أعني لسانا عربيا. وقيل: نصب بإسقاط حرف الخفض تقديره: بلسان عربي. وقيل: إن لسانا مفعول والمراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي وهذا كتاب مصدق للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه معجزته، والتقدير: مصدق ذا لسان عربي. فاللسان منصوب بمصدق، وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويبعد أن يكون اللسان القرآن، لان المعنى يكون يصدق نفسه." لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا" قراءة العامة" لِيُنْذِرَ" بالياء خبرا عن الكتاب، أي لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية. وقيل: هو خبر عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرا نافع وابن عامر والبزي بالتاء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تعالى:" إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ" «2» [الرعد: 7]." وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ"" بُشْرى " في موضع رفع، أي وهو بشرى. وقيل: عطفا على الكتاب، أي وهذا كتاب مصدق وبشرى. ويجوز أن يكون منصوبا بإسقاط حرف الخفض، أي لينذر الذين ظلموا وللبشرى، فلما حذف الخافض نصب. وقيل: على المصدر، أي وتبشر المحسنين بشرى، فلما جعل مكان وتبشر بشرى أو بشارة نصب، كما تقول: أتيتك لازورك، وكرامة لك وقضاء لحقك، يعني لازورك وأكرمك وأقضي حقك، فنصب الكرامة بفعل مضمر
__________
(1). راجع ما ذكره الصبان (باب النكرة والمعرفة).
(2). راجع ج 9 ص 285.
.

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)

[سورة الأحقاف (46): الآيات 13 الى 14]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)
قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا" الآية تقدم معناها «1». وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر الصديق. والآية تعم." جزاء" نصب على المصدر.

[سورة الأحقاف (46): آية 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً" بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض، قاله القشيري. الثانية- قوله تعالى:" حسنا" قراءة العامة" حسنا" وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقرا ابن عباس والكوفيون" إِحْساناً" وحجتهم قوله تعالى في سورة (الانعام وبني إسرائيل):" وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً" «2» [الانعام: 151] وكذا هو في مصاحف الكوفة. وحجة القراءة الاولى قول تعالى في سورة العنكبوت:" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً" «3» [العنكبوت: 8]
__________
(1). راجع ج 15 ص (357)
(2). آية 151 سورة الانعام، 23 سورة الاسراء.
(3). آية 8

ولم يختلفوا فيها. والحسن خلاف القبح. والإحسان خلاف الإساءة. والتوصية الامر. وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت «1». الثالثة- قوله تعالى:" حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً" أي بكره ومشقة. وقراءة العامة بفتح الكاف. واختاره أبو عبيد، قال: وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ" «2» [البقرة: 216] لان ذلك اسم وهذه كلها مصادر. وقرا الكوفيون" كرها" بالضم. قيل: هما لغتان مثل الضعف والضعف والشهد والشهد، قاله الكسائي، وكذلك هو عند جميع البصريين. وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما: إن الكره (بالضم) ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره، أي قهرا وغصبا، ولهذا قال بعض أهل العربية: إن كرها (بفتح الكاف) لحن. الرابعة- قوله تعالى:" وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً" قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا. وروي أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد، فقال له علي رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى:" وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً" وقال تعالى:" وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ" [البقرة: 233] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدها. وقد مضى في" البقرة" «3». وقيل: لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل، لان الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى:" فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ «4» بِهِ" [الأعراف: 189]. والفصال الفطام. وقد تقدم في" لقمان" «5» الكلام فيه. وقرا الحسن ويعقوب وغيرهما" وفصله" بفتح الفاء وسكون الصاد. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا. وفي الكلام إضمار،
__________
(1). راجع ج 13 ص (328)
(2). آية (216)
(3). راجع ج 3 ص 160 وما بعدها.
(4). آية 189 سورة الأعراف.
(5). راجع ج 14 ص 64 وما بعدها.

أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا، ولولا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى. الخامسة- قوله تعالى:" حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ" قال ابن عباس: ثماني عشرة سنة. وقال في رواية عطاء عنه: إن أبا بكر صحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام للتجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدين. فقال الراهب: من الرجل الذي في ظل الشجرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب. فقال: هذا والله نبي، وما استظل أحد تحتها بعد عيسى. فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يكاد يفارق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسفاره وحضره. فلما نبئ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن أربعين سنة، صدق أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة. فلما بلغ أربعين سنة قال:" رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ" الآية. وقال الشعبي وابن زيد: الأشد الحلم. وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين. وعنه قيام الحجة عليه. وقد مضى في" الانعام" الكلام «1» في الآية. وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص. وقد تقدم»
. وقال الحسن: هي مرسلة نزلت على العموم. والله أعلم. السادسة- قوله تعالى:" قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي" أي ألهمني." أَنْ أَشْكُرَ" في موضع نصب على المصدر، أي شكر نعمتك" عَلَيَّ" أي ما أنعمت به علي من الهداية" وَعَلى والِدَيَّ" بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا. وقيل: أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة. وقال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه! أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لاحد من المهاجرين أن أسلم «3» أبواه غيره، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. ووالده هو أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمه
__________
(1). راجع ج 7 ص 134 وما بعدها. [.....]
(2). راجع ج 13 ص 328 وج 14 ص 63
(3). زيادة يقتضيها السياق.

أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وام أبيه أبي قحافة" قيلة"" بالياء المعجمة باثنتين من تحتها". وامرأة أبي بكر الصديق اسمها" قتيلة"" بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها" بنت عبد العزى." وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ" قال ابن عباس: فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من أصبح منكم اليوم صائما [؟ قال أبو بكر أنا. قال:] فمن تبع منكم اليوم جنازة [؟ قال أبو بكر أنا. قال:] فمن أطعم منكم اليوم مسكينا [؟ قال أبو بكر أنا. قال:] فمن عاد منكم اليوم مريضا [؟ قال أبو بكر أنا. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة [. السابعة- قوله تعالى:" وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي" أي اجعل ذريتي صالحين. قال ابن عباس: فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده. ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وقال سهل بن عبد الله: المعنى اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيد حق. وقال أبو عثمان: اجعلهم أبرارا لي مطيعين لك. وقال ابن عطاء: وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. وقال محمد بن علي: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا. وقال مالك بن مغول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية، وتلا" رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ"." إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ" قال ابن عباس: رجعت عن الامر الذي كنت عليه." وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" أي المخلصين بالتوحيد.

[سورة الأحقاف (46): آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)

قوله تعالى:" أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ" قراءة العامة بضم الياء فيهما. وقرى" يتقبل، ويتجاوز" بفتح الياء، والضمير فيهما يرجع لله عز وجل. وقرا حفص وحمزة والكسائي" نتقبل، ونتجاوز" النون فيهما، أي نغفرها ونصفح عنها. والتجاوز أصله من جزت الشيء إذا لم تقف عليه. وهذه الآية تدل على أن الآية التي قبلها" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ" إلى آخرها مرسلة نزلت على العموم. وهو قول الحسن. ومعنى" نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ" أي نتقبل منهم الحسنات ونتجاوز عن السيئات. قال زيد بن أسلم- ويحكيه مرفوعا-: إنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم. وقيل: الأحسن ما يقتضى الثواب من الطاعات، وليس في الحسن المباح ثواب ولا عقاب، حكاه ابن عيسى." فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ"" في" بمعنى مع، أي مع أصحاب الجنة، تقول: أكرمك وأحسن إليك في جميع أهل البلد، أي مع جميعهم." وَعْدَ الصِّدْقِ" نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله، أي وعد الله أهل الايمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، لان الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله، وهو كقوله تعالى:" حَقُّ الْيَقِينِ" «1» [الواقعة: 95]. وهذا عند الكوفيين، فأما عند البصريين فتقديره: وعد الكلام الصدق أو الكتاب الصدق، فحذف الموصوف. وقد مضى هذا في غير موضع «2»." الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ" في الدنيا على ألسنة الرسل، وذلك الجنة.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 17 الى 18]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18)
__________
(1). آية 95 سورة الواقعة.
(2). راجع ج 9 ص 356.

قوله تعالى:" وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ" أي أن أبعث." وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي" قراءة نافع وحفص وغيرهما" أُفٍّ" مكسور منون. وقرا ابن كثير وابن محيصن وابن عامر والمفضل عن عاصم" أُفٍّ" بالفتح من غير تنوين. الباقون بالكسر غير منون، وكلها لغات، وقد مضى في" بني إسرائيل" «1». وقراءة العامة" أَتَعِدانِنِي" بنونين مخففتين. وفتح ياءه أهل المدينة ومكة. وأسكن الباقون. وقرا أبو حيوة والمغيرة وهشام" أتعداني" بنون واحدة مشددة، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. والعامة على ضم الالف وفتح الراء من" أَنْ أُخْرَجَ". وقرا الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الالف وضم الراء. قال ابن عباس والسدي وأبو العالية ومجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله عز وجل. وقال قتادة والسدي أيضا: هو عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وكان أبوه وأمه أم رومان يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث، فيرد عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه، وكان هذا منه قبل إسلامه. وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت أن تكون نزلت في عبد الرحمن. وقال الحسن وقتادة أيضا: هي نعت عبد كافر عاق لوالديه. وقال الزجاج: كيف يقال نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه والله عز وجل يقول:" أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ" أي العذاب، ومن ضرورته عدم الايمان، وعبد الرحمن من أفاضل المؤمنين، فالصحيح أنها نزلت في عبد كافر عاق لوالديه. وقال محمد بن زياد: كتب معاوية إلى مروان ابن الحكم حتى يبايع الناس ليزيد، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية «2»، أتبايعون لأبنائكم! فقال مروان: هو الذي يقول الله فيه" وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما" الآية. فقال: والله ما هو به. ولو شئت لسميت، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض «3» من لعنة الله. قال المهدوي: ومن جعل الآية في عبد الرحمن كان قوله بعد ذلك" أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ"
__________
(1). راجع ج 10 ص 242.
(2). أراد أن البيعة لأولاد الملوك سنة ملوك الروم، وهرقل: اسم ملك الروم.
(3). كل ما انقطع من شيء أو تفرق فهو فضض، أراد أنك قطعة وطائفة منها.

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)

يراد به من اعتقد ما تقدم ذكره، فأول الآية خاص وآخرها عام. وقيل: إن عبد الرحمن لما قال" وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي" قال مع ذلك: فأين عبد الله ابن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأين عامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون. فقوله" أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ" يرجع إلى أولئك الأقوام. قلت: قد مضى من خبر عبد الرحمن بن أبي بكر في سورة (الانعام) عند قوله" لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى" «1» [الانعام: 71] ما يدل على نزول هذه الآية فيه، إذ كان كافرا وعند إسلامه وفضله تعين أنه ليس المراد بقوله" أولئك الذين حق عليهم القول"." وَهُما" يعني والديه." يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ" أي يدعوان الله له بالهداية. أو يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. وقيل: الاستغاثة الدعاء، فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء: أجاب الله دعاءه وغواثه." وَيْلَكَ آمِنْ" أي صدق بالبعث." إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" أي صدق لا خلف فيه." فَيَقُولُ ما هذا" أي ما يقوله والداه." إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ" أي أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له." أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ" يعني الذين أشار إليهم ابن أبي بكر في قوله أحيوا لي مشايخ قريش، وهم المعنيون بقوله" وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي". فأما ابن أبي بكر عبد الله أو عبد الرحمن فقد أجاب الله فيه دعاء أبيه في قوله" وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي" [الأحقاف: 15] على ما تقدم. ومعنى" حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ" أي، وجب عليهم العذاب، وهي كلمة الله:] هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي [." فِي أُمَمٍ" أي مع أمم" قَدْ خَلَتْ" تقدمت ومضت." مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ" الكافرين" إِنَّهُمْ" أي تلك الأمم الكافرة" كانُوا خاسِرِينَ" لأعمالهم، أي ضاع سعيهم وخسروا الجنة.

[سورة الأحقاف (46): آية 19]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
__________
(1). راجع ج 7 ص 18

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

قوله تعالى:" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ" أي ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والانس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفالا، ودرج أهل الجنة علوا." وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ" قرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء لذكر الله قبله، وهو قوله تعالى:" إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" واختاره أبو حاتم. الباقون بالنون ردا على قوله تعالى:" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ" وهو اختيار أبي عبيد." وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" أي لا يزاد على مسي ولا ينقص من محسن.

[سورة الأحقاف (46): آية 20]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قوله تعالى:" وَيَوْمَ يُعْرَضُ" أي ذكرهم يا محمد يوم يعرض." الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ" أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها." أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ" أي يقال لهم أذهبتم، فالقول مضمر. وقرا الحسن ونصر وأبو العالية ويعقوب وابن كثير" أأذهبتم" بهمزتين مخففتين، واختاره أبو حاتم. وقرا أبو حيوة وهشام" آذهبتم" بهمزة واحدة مطولة على الاستفهام. الباقون بهمزة واحدة من غير مد على الخبر، وكلها لغات فصيحة ومعناها التوبيخ، والعرب توبخ بالاستفهام وبغير الاستفهام، وقد تقدم. واختار أبو عبيد ترك الاستفهام لأنه قراءة أكثر أئمة السبعة نافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، مع من وافقهم شيبة والزهري وابن محيصن والمغيرة بن أبي شهاب ويحيى بن الحارث والأعمش ويحيى بن وثاب وغيرهم، فهذه عليها جلة الناس. وترك الاستفهام أحسن، لان إثباته يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك، كما تقول: أنا ظلمتك؟ تريد أنا لم أظلمك. وإثباته حسن أيضا، يقول القائل: ذهبت فعلت كذا، يوبخ ويقول: أذهبت فعلت! كل ذلك جائز. ومعنى

" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ" أي تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي." فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ" أي عذاب الخزي والفضيحة. قال مجاهد: الهون الهوان. قتادة: بلغة قريش." بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" أي تستعجلون على أهلها بغير استحقاق." وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" في أفعالكم بغيا وظلما. وقيل:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ" أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي. قال ابن بحر: الطيبات الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه، أي شبابه وقوته. قال الماوردي: ووجدت الضحاك قاله أيضا. قلت: القول الأول أظهر، روى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصنابا وصلائق، ولكني استبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها" وقال أبو عبيد في حديث عمر: لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة. وفي بعض الحديث: وأفلاذ. قال أبو عمرو وغيره: الصلاء (بالمد والكسر): الشواء، سمي بذلك لأنه يصلى بالنار. والصلاء أيضا: صلاء النار، فإن فتحت الصاد قصرت وقلت: صلى النار. والصناب: الاصبغة المتخذة من الخردل والزبيب. قال أبو عمرو: ولهذا قيل للبرذون: صنابي، وإنما شبه لونه بذلك. قال: والسلائق (بالسين) هو ما يسلق من البقول وغيرها. وقال غيره: هي الصلائق بالصاد، قال جرير:
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالصلائق والصناب
والصلائق: الخبز الرقاق العريض. وقد مضى هذا المعنى في (الأعراف) «1». وأما الكراكر فكراكر الإبل، واحدتها كركرة وهي معروفة، هذا قول أبي عبيد. وفي الصحاح: والكركرة رحى زور البعير، وهي إحدى النفثات الخمس. والكركرة أيضا الجماعة من
__________
(1). راجع ج 7 ص 198

الناس. وأبو مالك عمرو بن كركرة رجل من علماء اللغة. قال أبو عبيد: وأما الأفلاذ فإن واحدها فلذ، وهي القطعة من الكبد. قال أعشى باهلة:
تكفيه حزة فلذ إن ألم بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر «1»
وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة. ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله قال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير! فقال خالد ابن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بالدموع وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بونا بعيدا. وفي صحيح مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه دخل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مشربته «2» حين هجر نساءه قال: فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا «3» جلودا معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله، أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ قال: فاستوى جالسا وقال: (أفي شك أنت يا بن الخطاب. أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا) فقلت: استغفر لي! فقال: (اللهم اغفر له). وقال حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغريض «4». وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله، فجئ بخبز متفلع «5» غليظ، فجعل يأكل ويقول: كلوا، فجعلنا لا نأكل، فقال: ما لكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا، فقال: يا بن أبي العاص أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق «6» سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصلية «7» كأنها كذا وكذا،
__________
(1). الغمر (بضم الأول وفتح الثاني): القدح الصغير.
(2). المشربة (بفتح الميم والراء): الموضع الذي يشرب منه الناس. (بضم الراء وفتحها): الغرفة.
(3). بضم الهمزة والهاء، وبفتحهما على غير قياس، جمع إهاب، وهو الجلد.
(4). الغريض: الطري.
(5). في نسخة من الأصل:" متقلع" بالقاف. والمتفلع: المشقق. [.....]
(6). العناق: الأنثى من ولد المعز، والجمع أعنق وعنوق.
(7). الصلاء (بالكسر): الشواء.

أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال، فقلت: يا أمير المؤمنين، أجل «1»! ما تنعت العيش، قال: أجل! والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش! ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها"." فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ" أي الهوان." بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" أي تتعظمون عن طاعة الله وعلى عباد الله." وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" تخرجون عن طاعة الله. وقال جابر: اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟ فأخبرته، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه! أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ" الآية. قال ابن العربي: وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الامارة بالسوء، فأخذ عمر الامر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله. والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا «2»، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمده أصلا، ولا يجعله ديدنا. ومعيشة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معلومة، وطريقة الصحابة منقولة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص، ويعين على الخلاص برحمته. وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن، فإن
__________
(1). في بعض نسخ الأصل:" أجاد".
(2). القفار (بالفتح): الطعام بلا أدم.

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)

تناول الطيب الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه. والله أعلم.

[سورة الأحقاف (46): آية 21]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
قوله تعالى:" وَاذْكُرْ أَخا عادٍ" هو هود بن عبد الله بن رباح عليه السلام، كان أخاهم في النسب لا في الدين." إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ" أي اذكر لهؤلاء المشركين قصة عاد ليعتبروا بها. وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصة هود ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه له. والأحقاف: ديار عاد. وهي الرمال العظام، في قول الخليل وغيره. وكانوا قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم. والأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا، والجمع حقاف وأحقاف ] وحقوف [. واحقوقف الرمل والهلال أي اعوج. وقيل: الحقف جمع حقاف. والأحقاف جمع الجمع. ويقال: حقف أحقف. قال الأعشى:
بات إلى أرطاة حقف أحقفا «1»

أي رمل مستطيل مشرف. والفعل منه احقوقف. قال العجاج:
طي الليالي زلفا فزلفا ... سماوة الهلال حتى احقوقفا
أي انحنى واستدار. وقال امرؤ القيس:
كحقف النقا «2» يمشي الوليدان فوقه ... بما احتسبا من لين مس وتسهال
وفيما أريد بالأحقاف ها هنا مختلف فيه. فقال ابن زيد: هي رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالا، وشاهده ما ذكرناه. وقال قتادة: هي جبال
__________
(1). هذا الرجز نسبه الطبري في تفسيره إلى العجاج، ولم نعثر عليه في شعر الأعشى ولا في أراجيز العجاج. والأرطاة: جمعه أرطي، وهو شجر من شجر الرمل.
(2). النقا: الكثيب من الرمل.

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

مشرفة بالشحر، والشحر قريب من عدن، يقال: شحر عمان وشحر عمان، وهو ساحل البحر بين عمان وعدن. وعنه أيضا: ذكر لنا أن عادا كانوا أحياء باليمن، أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. وقال مجاهد: هي أرض من حسمى تسمى بالأحقاف. وحسمى (بكسر الحاء) اسم أرض بالبادية فيها جبال شواهق ملس الجوانب لا يكاد القتام يفارقها. قال النابغة:
فأصبح عاقلا بجبال حسمى ... دقاق الترب محتزم القتام «1»
قاله الجوهري. وقال ابن عباس والضحاك: الأحقاف جبل بالشام. وعن ابن عباس أيضا: واد بين عمان ومهرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بواد يقال له مهرة، وإليه تنسب الإبل «2» المهرية، فيقال: إبل مهرية ومهاري. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج «3» العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. وقال الكلبي: أحقاف الجبل ما نضب عنه الماء زمان الغرق، كان ينضب الماء من الأرض ويبقى أثره. وروى الطفيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير واديين في الناس واد بمكة وواد نزل به آدم بأرض الهند. وشر واديين في الناس واد بالأحقاف وواد بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار. وخير بئر في الناس بئر زمزم. وشر بئر في الناس بئر برهوت، وهو في ذلك الوادي الذي بحضرموت." وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ" أي مضت الرسل." مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ" أي من قبل هود." وَمِنْ خَلْفِهِ" أي ومن بعده، قاله الفراء. وفي قراءة ابن مسعود" من بين يديه ومن بعده"." أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ" هذا من قول المرسل، فهو كلام معترض. ثم قال هود" إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" وقيل" أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ" من كلام هود، والله أعلم.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 22 الى 25]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
__________
(1). قال ابن بري:" أي حسمى قد أحاط به القتام كالحزام له".
(2). في معجم البلدان لياقوت وكتب اللغة أن الإبل المهرية تنسب إلى مهرة بن حيدان أبو قبيلة.
(3). هاج البقل: إذا أخذ في اليبس.

قوله تعالى:" قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا" فيه وجهان: أحدهما- لتزيلنا عن عبادتها بالإفك. الثاني- لتصرفنا عن آلهتنا بالمنع، قاله الضحاك. قال عروة بن أذينة:
إن تك عن أحسن الصنيعة ما ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا
يقول: إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا." فَأْتِنا بِما تَعِدُنا" هذا يدل على أن الوعد قد يوضع موضع الوعيد." إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" أنك نبي" قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ" بوقت مجيء العذاب." عِنْدَ اللَّهِ" لا عندي." وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ" عن ربكم." وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ" في سؤالكم استعجال العذاب." فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً" قال المبرد: الضمير في" رَأَوْهُ" يعود إلى غير مذكور، وبينه قوله:" عارِضاً" فالضمير يعود إلى السحاب، أي فلما رأوا السحاب عارضا. ف" عارِضاً" نصب على التكرير، سمي بذلك لأنه يبدو في عرض السماء. وقيل: نصب على الحال. وقيل: يرجع الضمير إلى قوله:" فَأْتِنا بِما تَعِدُنا" فَلَمَّا رَأَوْهُ حسبوه سحابا يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عنهم، فلما رأوه" مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ" استبشروا. وكان قد جاءهم من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثا، قاله ابن عباس وغيره. قال الجوهري: والعارض السحاب يعترض في الأفق، ومنه قوله تعالى:" هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا" أي ممطر لنا، لأنه معرفة لا يجوز أن يكون صفة لعارض وهو نكرة. والعرب إنما تفعل مثل هذا في الأسماء المشتقة من الافعال دون غيرها. قال جرير:
يا رب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا
ولا يجوز أن يقال: هذا رجل غلامنا. وقال أعرابي بعد الفطر: رب صائمة لن تصومه وقائمة لن تقومه، فجعله نعتا للنكرة وأضافه إلى المعرفة.

قلت: قوله: (لا يجوز أن يكون صفة لعارض) خلاف قول النحويين، والإضافة في تقدير الانفصال، فهي إضافة لفظية لا حقيقية، لأنها لم تفد الأول تعريفا، بل الاسم نكرة على حاله، فلذلك جرى نعتا على النكرة. هذا قول النحويين في الآية والبيت. ونعت النكرة نكرة. و" رب" لا تدخل إلا على النكرة." بَلْ هُوَ" أي قال هود لهم. والدليل عليه قراءة من قرأ" قال هود بل هو" وقرى" قل بل ما استعجلتم به هي ريح" أي قال الله قل بل هو ما استعجلتم به، يعني قولهم:" فَأْتِنا بِما تَعِدُنا" ثم بين ما هو فقال:" رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ" والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت تحمل الفساطيط وتحمل الظعينة «1» فترفعها كأنها جرادة، ثم تضرب بها الصخور. قال ابن عباس: أول ما راو العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوما «2»، ولهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر، فهي التي قال الله تعالى فيها:" تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها" أي كل شيء مرت عليه من رجال عاد وأموالها. قال ابن عباس: أي كل شيء بعثت إليه. والتدمير: الهلاك. وكذلك الدمار. وقرى" يدمر كل شي" من دمر دمارا. يقال: دمره تدميرا ودمارا ودمر عليه بمعنى. ودمر يدمر دمورا دخل بغير إذن. وفي الحديث:] من سبق طرفه استئذانه فقد دمر [مخفف الميم. وتدمر: بلد بالشام. ويربوع تدمري إذا كان صغيرا قصيرا." بِأَمْرِ رَبِّها" بإذن ربها. وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضاحكا حتى أرى منه لهواته «3» إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا
__________
(1). الظعينة: الجمل يظعن عليه. والهودج فيه امرأة أم لا.
(2). الأيام الحسوم: الدائمة في البشر.
(3). جمع لهاة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.

عرف في وجهه. قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، واراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال:] يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا [خرجه مسلم والترمذي، وقال فيه: حديث حسن. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:] نصرت بالصبا «1» وأهلكت عاد بالدبور [. وذكر الماوردي أن القائل" هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا" من قوم عاد: بكر بن معاوية، ولما رأى السحاب قال: إني لأرى سحابا مرمدا، لا تدع من عاد أحدا «2». فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم. قال ابن إسحاق: واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه منها إلا ما يلين أعلى ثيابهم. وتلتذ الأنفس به، وأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا. وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك:
فدعا هود عليهم ... دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم ... تركت عادا خمودا
سخرت سبع ليال ... لم تدع في الأرض عودا
وعمر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة." فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ" قرأ عاصم وحمزة" لا يرى إلا مساكنهم" بالياء غير مسمى الفاعل. وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إلا أنه قرأ" ترى" بالتاء. وقد روى ذلك عن أبي بكر عن عاصم. الباقون" ترى" بتاء مفتوحة." مَساكِنُهُمْ" بالنصب، أي لا ترى يا محمد إلا مساكنهم. قال المهدوي: ومن قرأ بالتاء غير مسمى الفاعل فعلى لفظ الظاهر الذي هو المساكن المؤنثة، وهو قليل لا يستعمل إلا في الشعر. وقال أبو حاتم: لا يستقيم هذا في اللغة إلا أن يكون فيها إضمار، كما تقول في الكلام ألا ترى النساء إلا زينب. ولا يجوز لا ترى إلا زينب.
__________
(1). الصبا (بالفتح): ريح الشمال. والدبور: ريح الجنوب.
(2). في نهاية ابن الأثير واللسان مادة (رمد) وتاريخ الطبري:" خذها رمادا رمددا، لا تذر من عاد أحدا" والرمد (بالكسر): المتناهي في الاحتراق والدقة. [.....]

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)

وقال سيبويه: معناه لا ترى أشخاصهم إلا مساكنهم. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة عاصم وحمزة. قال الكسائي: معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم، فهو محمول على المعنى، كما تقول: ما قام إلا هند، والمعنى ما قام أحد إلا هند. وقال الفراء: لا يرى الناس لأنهم كانوا تحت الرمل، وإنما ترى مساكنهم لأنها قائمة." كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ" أي مثل هذه العقوبة نعاقب بها المشركين.

[سورة الأحقاف (46): آية 26]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)
قوله تعالى:" وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ" قيل: إِنْ" إن" زائدة، تقديره ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه. وهذا قول القتبي. وأنشد الأخفش:
يرجي المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب
وقال آخر:
فما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا «1»
وقيل: إن" ما" بمعنى الذي. و" إن" بمعنى ما، والتقدير ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه، قاله المبرد. وقيل: شرطية وجوابها مضمر محذوف، والتقدير ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد، وتم الكلام. ثم ابتدأ فقال:" وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً" يعني قلوبا يفقهون بها." فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ" من عذاب الله." إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ" يكفرون" بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ" أحاط بهم." ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ".
__________
(1). البيت لفروة بن مسيك المرادي. والطب: الشأن والعادة والشهوة والإرادة.

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)

[سورة الأحقاف (46): آية 27]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
قوله تعالى:" وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى " يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم." وَصَرَّفْنَا الْآياتِ" يعني الحجج والدلالات وأنواع البينات والعظات، أي بيناها لأهل تلك القرى." لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" فلم يرجعوا. وقيل: أي صرفنا آيات القرآن في الوعد والوعيد والقصص والاعجاز لعل هؤلاء المشركين يرجعون.

[سورة الأحقاف (46): آية 28]
فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
قوله تعالى:" فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ"" فَلَوْ لا" بمعنى هلا، أي هلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا:" هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ" «1» [يونس: 18] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين. واحد مفعولي اتخذ الراجع «2» إلى الذين المحذوف، والثاني" آلِهَةً". و" قُرْباناً" حال، ولا يصح أن يكون" قُرْباناً" مفعولا ثانيا. و" آلِهَةً" بدل منه لفساد المعنى، قاله الزمخشري. وقرى" قربانا" بضم الراء." بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ" أي هلكوا عنهم. وقيل:" بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ" أي ضلت عنهم آلهتهم لأنها لم يصبها ما أصابهم، إذ هي جماد. وقيل: ضلوا عنهم، أي تركوا الأصنام وتبرءوا منها." وَذلِكَ إِفْكُهُمْ" أي والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى. وقراءة العامة" إِفْكُهُمْ" بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي كذبهم. والافك: الكذب، وكذلك الأفيكة، والجمع الافائك. ورجل أفاك أي كذاب. وقرا ابن عباس ومجاهد وابن الزبير" وذلك أفكهم" بفتح الهمزة
__________
(1). آية 18 سورة يونس.
(2). الضمير الراجع.

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)

والفاء والكاف، على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. والافك" بالفتح" مصدر قولك: أفكه يأفكه إفكا، أي قلبه وصرفه عن الشيء. وقرا عكرمة" أفكهم" بتشديد الفاء على التأكيد والتكثير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. وذكر المهدوي عن ابن عباس أيضا" آفكهم" بالمد وكسر الفاء، بمعنى صارفهم. وعن عبد الله بن الزبير باختلاف عنه" آفكهم" بالمد، فجاز أن يكون أفعلهم، أي أصارهم إلى الافك. وجاز أن يكون فاعلهم كخادعهم. ودليل قراءة العامة" إِفْكُهُمْ" قوله" وَما كانُوا يَفْتَرُونَ" أي يكذبون. وقيل" إِفْكُهُمْ" مثل" أفكهم". الافك والافك كالحذر والحذر، قاله المهدوي.

[سورة الأحقاف (46): آية 29]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
قوله تعالى:" وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ" هذا توبيخ لمشركي قريش، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر. ومعنى" صَرَفْنا" وجهنا إليك وبعثنا. وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب- على ما يأتي- ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال المفسرون ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم: لما مات أبو طالب خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة فقصد عبد ياليل ومسعودا وحبيبا وهم إخوة- بنو عمرو بن عمير- وعندهم امرأة من قريش من بني جمح، فدعاهم إلى الايمان وسألهم أن ينصروه على قومه فقال أحدهم: هو يمرط «1» ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدا، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك. ثم أغروا به سفهاءهم
__________
(1). يمرط: ينزع.

وعبيدهم يسبونه ويضحكون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة. فقال للجمحية:] ماذا لقينا من أحمائك [؟ ثم قال:] اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني! إلى عبد»
يتجهمني «2»، أو إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك [. فرحمه ابنا ربيعة وقالا لغلام لهما نصراني يقال له عداس: خذ قطفا من العنب وضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (باسم الله) ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك [؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى [؟ فقال: وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال:] ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي [فانكب عداس حتى قبل رأس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويديه ورجليه. فقال له ابنا ربيعة: لم فعلت هكذا!؟ فقال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا، أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. ثم انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين. وكان سبب ذلك أن الجن كانوا يسترقون السمع، فلما حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض، فبعث سراياه ليعرف الخبر، أولهم ركب نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا له وقالوا: أنصتوا. وقالت طائفة: بل أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينذر
__________
(1). في سيرة ابن هشام:" بعيد".
(2). أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه.

الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله عز وجل إليه نفرا من الجن من نينوى وجمعهم له، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إني أريد أن أقرأ القرآن على الجن الليلة فأيكم يتبعني [؟ فأطرقوا، ثم قال الثانية فأطرقوا، ثم قال الثالثة فأطرقوا، فقال ابن مسعود: أنا يا رسول الله، قال ابن مسعود: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شعبا يقال له (شعب الحجون) وخط لي خطا وأمرني أن أجلس فيه وقال:] لا تخرج منه حتى أعود إليك [. ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوى وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطا وغمغة حتى خفت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغشيته أسودة «1» كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الفجر فقال:] أنمت [؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول اجلسوا، فقال:] لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم [ثم قال:] هل رأيت شيئا [؟ قلت: نعم يا رسول الله، رأيت رجالا سودا مستثفري «2» ثيابا بيضا، فقال:] أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل «3» وروثة وبعرة [. فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستنجى بالعظم والروث. قلت: يا نبي الله، وما يغني ذلك عنهم! قال:] إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكل [فقلت: يا رسول الله، لقد سمعت لغطا شديدا؟ فقال:] إن الجن تدارأت «4» في قتيل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق [. ثم تبرز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أتاني فقال:] هل معك ماء [، فقلت يا نبي الله، معي إداوة «5» فيها شيء من نبيذ التمر فصببت على يديه فتوضأ فقال:] تمرة طيبة وماء طهور [. روى معناه معمر عن قتادة وشعبة أيضا عن ابن مسعود. وليس
__________
(1). أسودة (جمع السواد) والسواد والاسودات والأساود: جماعة الناس. وقيل هم الضروب المتفرقون.
(2). الاستثفار: أن يدخل الإنسان إزاره بين فخذيه ملويا ثم يخرجه.
(3). العظم الحائل: المتغير، قد غيره البلى.
(4). تدارأ: اختلف.
(5). الإداوة: إناء صغير من جلد.

في حديث معمر ذكر نبيذ التمر. روي عن أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا «1» فقال: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزط. قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن فكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضا. وذكر الدارقطني عن عبد الله بن لهيعة حدثني قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس عن ابن مسعود أنه وضأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن بنبيذ فتوضأ به وقال:] شراب وطهور [. ابن لهيعة لا يحتج به. وبهذا السند عن ابن مسعود أنه خرج مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أمعك ماء يا بن مسعود [؟ فقال: معي نبيذ في إداوة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] صب علي منه [. فتوضأ وقال:] هو شراب وطهور [تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. قال الدارقطني: وقيل إن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن. كذلك رواه علقمة بن قيس وأبو عبيدة بن عبد الله وغيرهما عنه أنه قال: ما شهدت ليلة الجن. حدثنا أبو محمد بن صاعد حدثنا أبو الأشعث حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود بن أبي هند عن عامر عن علقمة بن قيس قال قلت لعبد الله بن مسعود: أشهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ قال لا. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة راويه. وعن عمرو بن مرة قال قلت لابي عبيدة: حضر عبد الله بن مسعود ليلة الجن؟ فقال لا. قال ابن عباس: كان الجن سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسلا إلى قومهم. وقال زر بن حبيش: كانوا تسعة أحدهم زوبعة. وقال قتادة: إنهم من أهل نينوى. وقال مجاهد: من أهل حران. وقال عكرمة: من جزيرة الموصل. وقيل: إنهم كانوا سبعة، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين. وروى ابن أبي الدنيا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في هذا الحديث وذكر فيه نصيبين فقال:] رفعت إلي حتى رأيتها فدعوت الله أن يكثر مطرها وينضر شجرها وأن يغزو نهرها [. وقال السهيلي: ويقال كانوا سبعة، وكانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قالوا" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ". وقيل في أسمائهم: شاصر «2» وماصر ومنشي
__________
(1). الزط: جيل أسود من السند. وقيل: إعراب" جت" بالهندية، وهم جيل من أهل الهند.
(2). في كتاب اللغة:" شصار" ككتاب.

وماشي والاحقب، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد. ومنهم عمرو بن جابر، ذكره ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان: أيكم دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا: ما ندري من عمرو بن جابر! فقالتا: إن كنتم ابتغيتم الأجر «1» فقد وجدتموه، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ولوا إلى قومهم منذرين. وذكر ابن سلام رواية أخرى: أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل. قلت: وذكر هذا الخبر الثعلبي بنحوه فقال: وقال ثابت بن قطبة جاء أناس إلى ابن مسعود فقالوا: إنا كنا في سقر فرأينا حية متشحطة في دمائها، فأخذها رجل منا فواريناها، فجاء أناس فقالوا: أيكم دفن عمرا؟ قلنا: وما عمرو! قالوا الحية التي دفنتم في مكان كذا، أما إنه كان من النفر الذين سمعوا القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان بين حيين من الجن مسلمين وكافرين قتال فقتل. ففي هذا الخبر أن ابن مسعود لم يكن في سفر ولا حضر الدفن، والله أعلم. وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين سماه: أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم أنها ماتت فدفنها، فأتي من الليل فسلم عليه وشكر، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا عن جن نصيبين اسمه زوبعة. قال السهيلي: وبلغنا في فضائل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه مما حدثنا به أبو بكر بن طاهر الإشبيلي أن عمر بن عبد العزيز كان يمشي بأرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها، فإذا قائل يقول: يا سرق، أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:] ستموت بأرض فلاة فيكفنك رجل صالح [. فقال: ومن أنت يرحمك الله! فقال: رجل من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبق منهم إلا أنا وسرق، وهذا سرق قد مات. وقد قتلت
__________
(1). كلمة الأجر ساقطة من ل. [.....]

عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ، فأتيت في المنام فقيل لها: إنك قتلت رجلا مؤمنا من الجن الذين قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: لو كان مؤمنا ما دخل على حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل لها: ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة «1»، وما جاء إلا ليستمع الذكر. فأصبحت عائشة فزعة، واشترت رقابا فأعتقتهم. قال السهيلي: وقد ذكرنا من أسماء هؤلاء الجن ما حضرنا، فإن كانوا سبعة فالاحقب منهم وصف لأحدهم، وليس باسم علم، فإن الأسماء التي ذكرناها آنفا ثمانية بالاحقب. والله أعلم. قلت: وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه: هامة بن الهيم «2» بن الأقيس بن إبليس، قيل: إنه من مؤمني الجن وممن لقي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمه سورة" إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ" [الواقعة: 1] و" الْمُرْسَلاتِ" [المرسلات: 1] و" عَمَّ يَتَساءَلُونَ" [النبأ: 1] و" إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" [التكوير: 1] و" الْحَمْدُ" [الفاتحة: 1] و" المعوذتين" [الفلق: 1- والناس: 1]. وذكر أنه حضر قتل هابيل وشرك في دمه وهو غلام ابن أعوام، وأنه لقي نوحا وتاب على يديه، وهودا وصالحا ويعقوب ويوسف وإلياس وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم السلام. وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن مجاهد فقال: حسى ومسي ومنشى وشاصر وماصر والأرد وإنيان والاحقم. وذكرها أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بابن السماك قال: حدثنا محمد ابن البراء قال حدثنا الزبير بن بكار قال: كان حمزة بن عتبة بن أبي لهب يسمى جن نصيبين الذين قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: حسى ومسي وشاصر وماصر والأفخر والأرد وإنيان «3». قوله تعالى:" فَلَمَّا حَضَرُوهُ" أي حضروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من باب تلوين الخطاب. وقيل: لما حضروا القرآن واستماعه." قالُوا أَنْصِتُوا" أي قال بعضهم لبعض اسكتوا لاستماع القرآن. قال ابن مسعود: هبطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). في ز ل: منقبة.
(2). في بعض الأصول:" الأهيم".
(3). لم نوفق لتحقيق هذه الأسماء. والأصول والمصادر التي بين أيدينا مضطربة فيها.

قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)

وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه" قالُوا أَنْصِتُوا" قالوا صه. وكانوا سبعة: أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى:" وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا" الآية إلى قوله:" فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" [الأحقاف: 32]. وقيل:" أَنْصِتُوا" لسماع قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى متقارب." فَلَمَّا قُضِيَ" وقرا لاحق بن حميد وخبيب بن عبد الله بن الزبير" فَلَمَّا قُضِيَ" بفتح القاف والضاد، يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الصلاة. وذلك أنهم خرجوا حين حرست السماء من استراق السمع ليستخبروا ما أوجب ذلك؟ فجاءوا وادي نخلة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة الفجر، وكانوا سبعة، فسمعوه وانصرفوا إلى قومهم منذرين، ولم يعلم بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: بل أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم، فلما تلا عليهم القرآن وفرغ انصرفوا بأمره قاصدين من وراءهم من قومهم من الجن، منذرين لهم مخالفة القرآن ومحذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا. وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أرسلهم. ويدل على هذا قولهم:" يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ" [الأحقاف: 31] ولولا ذلك لما أنذروا قومهم. وقد تقدم عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلهم رسلا إلى قومهم، فعلى هذا ليلة الجن ليلتان، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وفي صحيح مسلم ما يدل على ذلك على ما يأتي بيانه في" قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ" «1» [الجن: 1]. وفي صحيح مسلم عن معن قال: سمعت أبي قال سألت مسروقا من آذن «2» النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك- يعني ابن مسعود- أنه آذنته بهم شجرة.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 30 الى 31]
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31)
__________
(1). راجع ج 19 ص 1.
(2). آذن: أعلم.

قوله تعالى:" قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى " أي القرآن، وكانوا مؤمنين بموسى. قال عطاء: كانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قالوا:" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ". وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى، فلذلك قالت:" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى "." مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" يعني ما قبله من التوراة." يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ" دين الحق." وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ" دين الله القويم." يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ" يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يدل على أنه كان مبعوثا إلى الجن والانس. قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيا إلى الجن والانس قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قلت: يدل على قوله ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة [. قال مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والانس. وفي رواية من حديث أبي هريرة" وبعثت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون"." وَآمِنُوا بِهِ" أي بالداعي، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل:" بِهِ" أي بالله، لقوله:" يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ". قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم سبعون رجلا، فرجعوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوافقوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم. مسألة- هذه الآي تدل على أن الجن كالإنس في الامر والنهي والثواب والعقاب. وقال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، يدل عليه قوله تعالى:" يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ". وبه قال أبو حنيفة قال: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون

وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الانس. وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلي. وقد قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. قال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله. قلت: قوله تعالى:" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا" «1» [الانعام: 132] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة، لأنه قال في أول الآية:"امَعْشَرَ
«2»ْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي- إلى أن قال- وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا" [الانعام: 132- 130]. والله أعلم، وسيأتي لهذا في سورة" الرحمن" «3» مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

[سورة الأحقاف (46): آية 32]
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
قوله تعالى:" وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ" أي لا يفوت الله ولا يسبقه" وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ" أي أنصار يمنعونه من عذاب الله." أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ".

[سورة الأحقاف (46): آية 33]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" الرؤية هنا بمعنى العلم. و" أن" واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية." وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى " احتجاج على منكري البعث. ومعنى" لَمْ يَعْيَ" يعجز ويضعف عن إبداعهن. يقال: عي بأمره وعيي إذا لم يهتد لوجهه، والإدغام أكثر. وتقول في الجمع عيوا، مخففا، وعيوا أيضا بالتشديد. قال:
__________
(1). آية 132 سورة الانعام.
(2). آية 130 سورة الانعام.
(3). راجع ج 17 ص 167.

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)

عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة «1»
وعييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه. وأعياني هو. وقرا الحسن" ولم يعي" بكسر العين وإسكان الياء، وهو قليل شاذ، لم يأت إعلال العين وتصحيح اللام إلا في أسماء قليلة، نحو غاية وآية. ولم يأت في الفعل سوى بيت أنشده الفراء، وهو قول الشاعر:
فكأنها بين النساء سبيكة ... تمشى بسدة «2» بيتها فتعي
" بِقادِرٍ" قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله:" وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً" «3» [النساء: 166]، وقوله:" تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ" «4» [المؤمنون: 20]. وقال الكسائي والفراء والزجاج: الباء فيه خلف الاستفهام والجحد في أول الكلام. قال الزجاج: والعرب تدخلها مع الجحد تقول: ما ظننت أن زيدا بقائم. ولا تقول: ظننت أن زيدا بقائم. وهو لدخول" ما" ودخول" أن" للتوكيد. والتقدير: أليس الله بقادر، كقوله تعالى:" أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ" «5» [يس: 81]. وقرا ابن مسعود والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب" يقدر" واختاره أبو حاتم، لان دخول الباء في خبر" أن" قبيح. واختار أبو عبيد قراءة العامة، لأنها في قراءة عبد الله" خلق السموات والأرض قادر" بغير باء. والله أعلم.

[سورة الأحقاف (46): آية 34]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
قوله تعالى:" وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ" أي ذكرهم يوم يعرضون فيقال لهم:" أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا" فيقول لهم المقرر:" فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" أي بكفركم.
__________
(1). البيت لعبيد بن الأبرص.
(2). السدة: الفناء.
(3). راجع ج 5 ص 287.
(4). آية 20 سورة المؤمنون.
(5). آية 81 سورة يس.

فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

[سورة الأحقاف (46): آية 35]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
قوله تعالى:" فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" وقال ابن عباس: ذوو الحزم والصبر، قال مجاهد: هم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وهم أصحاب الشرائع. وقال أبو العالية: إن أولي العزم: نوح، وهود، وإبراهيم. فأمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون رابعهم. وقال السدي: هم ستة «1»: إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلوات الله عليهم أجمعين. وقيل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورة" الأعراف والشعراء". وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه مدة. وإبراهيم صبر على النار. وإسحاق صبر على الذبح. ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر. ويوسف صبر على البئر والسجن. وأيوب صبر على الضر. وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم. وقال الشعبي والكلبي ومجاهد أيضا: هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة. وقيل: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة" الانعام" «2» وهم ثمانية عشر: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكرياء، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. واختاره الحسن بن الفضل لقوله في عقبه:" أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" «3» [الانعام: 90] وقال ابن عباس أيضا: كل الرسل كانوا أولي عزم. واختاره علي بن مهدي الطبري، قال: وإنما دخلت" من" للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: اشتريت أردية من البز وأكسية من الخز. أي اصبر كما صبر الرسل. وقيل: كل الأنبياء أولو عزم إلا يونس بن متي، ألا ترى أن
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ب ل ن. [.....]
(2). راجع ج 7 ص 35.
(3). آية 90 سورة الانعام.

النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهي أن يكون مثله، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولى مغاضبا لقومه، فابتلاه الله بثلاث: سلط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله، وسلط الذئب على ولده فأكله، وسلط عليه الحوت فابتلعه، قاله أبو القاسم الحكيم. وقال بعض العلماء: أولو العزم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم، فأوحى الله إلى الأنبياء أني مرسل عذابي إلى عصاة بني إسرائيل، فشق ذلك على المرسلين فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم نجيتكم وأنزلت العذاب ببني إسرائيل، فتشاوروا بينهم فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي الله بني إسرائيل، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب. وذلك أنه سلط عليهم ملوك الأرض، فمنهم من نشر بالمناشير، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات، ومنهم من حرق بالنار. والله أعلم. وقال الحسن: أولو العزم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى، فأما إبراهيم فقيل له:" أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ" «1» [البقرة: 131] ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه، فوجد صادقا وافيا في جميع ما ابتلي به. وأما موسى فعزمه حين قال له قومه:" إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ" «2» [الشعراء: 62- 61]. وأما داود فأخطأ خطيئته فنبه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة، فقعد تحت ظلها. وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة وقال:" إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها". فكأن الله تعالى يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصبر، أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى، مهتما بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى. ثم قيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة، والأظهر أنها منسوخة، لان السورة مكية. وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل، تسهيلا عليه وتثبيتا له. والله أعلم." وَلا تَسْتَعْجِلْ" قال مقاتل: بالدعاء
__________
(1). آية 131 سورة البقرة.
(2). آية 61 سورة الشعراء.

عليهم. وقيل: في إحلال العذاب «1» بهم، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة. ومفعول الاستعجال محذوف، وهو العذاب." كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ" قال يحيى: من العذاب. النقاش: من الآخرة." لَمْ يَلْبَثُوا" أي في الدنيا حتى جاءهم العذاب، وهو مقتضى قول يحيى. وقال النقاش: في قبورهم حتى بعثوا للحساب." إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ" يعني في جنب يوم القيامة. وقيل: نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا. ثم قال:" بَلاغٌ" أي هذا القرآن بلاغ، قاله الحسن. ف" بَلاغٌ" رفع على إضمار مبتدأ، دليله قوله تعالى:" هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ" «2» [إبراهيم: 52]، وقوله:" إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ" «3» [الأنبياء: 106]. والبلاغ بمعنى التبليغ. وقيل: أي إن ذلك اللبث بلاغ، قاله ابن عيسى، فيوقف على هذا على" بلاغ" وعلى" نهار". وذكر أبو حاتم أن بعضهم وقف على" وَلا تَسْتَعْجِلْ" ثم ابتدأ" لَهُمْ" على معنى لهم بلاغ. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ، لأنك قد فصلت بين البلاغ وبين اللام،- وهي رافعة- بشيء ليس منهما. ويجوز في العربية: بلاغا وبلاغ، النصب على معنى إلا ساعة بلاغا، على المصدر أو على النعت للساعة. والخفض على معنى من نهار بلاغ. وبالنصب قرأ عيسى بن عمر والحسن. وروي عن بعض القراء" بلغ" على الامر، فعلى هذه القراءة يكون الوقف على" مِنْ نَهارٍ" ثم يبتدئ" بَلاغٌ"." فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ" أي الخارجون عن أمر الله، قاله ابن عباس وغيره. وقرا ابن محيصن" فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ" على إسناد الفعل إلى القوم. وقال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم، سبحان الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم" كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً «4» أَوْ ضُحاها" [النازعات: 46]." كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون" صدق الله العظيم. وعن قتادة: لا يهلك الله»
إلا هالك مشرك «6». وقيل: هذه أقوى آية في الرجاء. والله أعلم.
__________
(1). في ب ك ل: العقاب.
(2). آخر سورة إبراهيم.
(3). آية 106 سورة الأنبياء.
(4). آخر سورة النازعات.
(5). لفظ الجلالة ساقط من ب ك ل.
(6). في تفسير الطبري:" تعلموا ما يهلك على الله الا هالك ولي الإسلام ظهره، أو منافق صدق بلسانه وخالف بعمله".

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)

[تفسير سورة محمد]
سورة القتال، وهي سورة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدنية في قول ابن عباس، ذكره النحاس. وقال الماوردي: في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه، فنزل عليه" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ" «1» [محمد: 13]. وقال الثعلبي: إنها مكية، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد ابن جبير. وهي تسع وثلاثون آية «2». وقيل ثمان.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة محمد (47): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1)
قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل مكة كفروا بتوحيد الله، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، وقاله السدي. وقال الضحاك:" عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" عن بيت الله بمنع قاصديه. ومعنى" أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل الدائرة عليهم، قاله الضحاك. وقيل: أبطل ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم، من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار. وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل، والحارث ابن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبي وأمية ابنا خلف، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل.

[سورة محمد (47): آية 2]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2)
__________
(1). آية 13
(2). من ب ل ن.

قوله تعالى:" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ" قال ابن عباس ومجاهد: هم الأنصار. وقال مقاتل: إنها نزلت خاصة في ناس من قريش. وقيل: هما عامتان فيمن كفروا وآمن. ومعنى" أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" أبطلها. وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق." وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ" من قال إنهم الأنصار فهي المواساة في مساكنهم وأموالهم. ومن قال إنهم من قريش فهي الهجرة. ومن قال بالعموم فالصالحات جميع الأعمال التي ترضي الله تعالى." وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ" لم يخالفوه في شي، قاله سفيان الثوري. وقيل: صدقوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاء به." وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ" يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم. وقيل: أي إن القرآن هو الحق من ربهم، نسخ به ما قبله" كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ" أي ما مضى من سيئاتهم قبل الايمان." وَأَصْلَحَ بالَهُمْ" أي شأنهم، عن مجاهد وغيره. وقال قتادة: حالهم. ابن عباس: أمورهم. والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم. وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم، ومنه قول الشاعر:
فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
وهو على هذا التأول محمول على صلاح دينهم." والبال" كالمصدر، ولا يعرف منه فعل، ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر فيقولون فيه: بالات. المبرد: قد يكون البال في موضع آخر بمعنى القلب، يقال: ما يخطر فلان على بالي، أي على قلبي. الجوهري: والبال رخاء النفس، «1» يقال فلان رخي البال. والبال: الحال، يقال ما بالك. وقولهم: ليس هذا من بالي، أي مما أباليه. والبال: الحوت العظيم من حيتان البحر، وليس بعربي. والبالة: وعاء الطيب، فارسي معرب، وأصله بالفارسية پيلة. قال أبو ذؤيب:
كأن عليها بالة لطمية ... لها من خلال الدأيتين أريج «2»
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ك.
(2). اللطمية: العنبرة التي لطمت بالمسك فتفتقت به حتى نشبت رائحتها. والداي: فقر الكاهل والظهر. [.....]

ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

[سورة محمد (47): آية 3]
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
قوله تعالى:" ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ"" ذلك" في موضع رفع، أي الامر ذلك، أو ذلك الإضلال والهدى المتقدم ذكرهما سببه هذا. فالكافر اتبع الباطل، والمؤمن اتبع الحق. والباطل: الشرك. والحق: التوحيد والايمان." كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ" أي كهذا البيان الذي بين يبين الله للناس أمر الحسنات والسيئات. والضمير في" أَمْثالَهُمْ" يرجع إلى الذين كفروا والذين آمنوا.

[سورة محمد (47): آية 4]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ" لما ميز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار. قال ابن عباس: الكفار المشركون عبدة الأوثان. وقيل: كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي. واختاره ابن العربي وقال: وهو الصحيح لعموم الآية فيه." فَضَرْبَ الرِّقابِ" مصدر. قال الزجاج أي فاضربوا الرقاب ضربا. وخص الرقاب بالذكر لان القتل أكثر ما يكون بها. وقيل: نصب على الإغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولك يا نفس صبرا. وقيل: التقدير

اقصدوا ضرب الرقاب. وقال:" فَضَرْبَ الرِّقابِ" ولم يقل فاقتلوهم، لان في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حز العنق «1» وأطاره العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. الثانية- قوله تعالى:" حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ" أي أكثرتم القتل. وقد مضى في" الأنفال" عند قوله تعالى:" حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ" «2» [الأنفال: 67]." فَشُدُّوا الْوَثاقَ" أي إذا أسرتموهم. والوثاق اسم من الايثاق، وقد يكون مصدرا، يقال: أوثقته إيثاقا ووثاقا. وأما الوثاق (بالكسر) فهو اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط، قاله القشيري. وقال الجوهري: وأوثقه في الوثاق أي شده، وقال تعالى:" فَشُدُّوا الْوَثاقَ". والوثاق (بكسر الواو) لغة فيه. وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يفلتوا." فَإِمَّا مَنًّا" عليهم بالإطلاق من غير فدية" وَإِمَّا فِداءً". ولم يذكر القتل ها هنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام، و" مَنًّا" و" فِداءً" نصب بإضمار فعل. وقرى" فدى" بالقصر مع فتح الفاء، أي فإما أن تمنوا عليهم منا، وإما أن تفادوهم فداء. روي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا! قال: ولم ذلك؟ قال: لان الله تعالى قال" فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" في حق الذين كفروا، فوالله! ما مننت ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
فقال الحجاج: أف لهذه الجيف! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام!؟ خلوا سبيل من بقي. فخلي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل.
__________
(1). في ح ل: جز العنق بالجيم.
(2). راجع ج 8 ص 45 وما بعدها.

الثالثة- واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال: الأول- أنها منسوخة، وهي في أهل الأوثان، لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم. والناسخ لها عندهم قوله تعالى:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «1» [التوبة: 5] وقوله:" فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ" «2» [الأنفال: 57] وقوله:" وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً" «3» [التوبة: 36] الآية، قاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس، وقاله كثير من الكوفيين. وقال عبد الكريم الجوزي: كتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال: اقتلوه، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا. الثاني- أنها في الكفار جميعا. وهي منسوخة على قول جماعة من العلماء واهل النظر، منهم قتادة ومجاهد. قالوا: إذ أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة، لأنها لا تقتل. والناسخ لها" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" [التوبة: 5] إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن يؤخذ منه الجزية. وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين. ذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" قال نسخها" فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ". وقال مجاهد: نسخها" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" [التوبة: 5]. وهو قول الحكم. الثالث- أنها ناسخة، قاله الضحاك وغيره. روى الثوري عن جويبر عن الضحاك" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" [التوبة: 5] قال نسخها" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً". وقال ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى، كما قال الله عز وجل. قال أشعث: كان الحسن يكره أن يقتل الأسير، ويتلو" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً". وقال الحسن أيضا: في الآية تقديم وتأخير، فكأنه قال: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها. ثم قال:" حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ".
__________
(1). آية 5 سورة التوبة.
(2). آية 57 سورة الأنفال.
(3). آية 36 سورة التوبة.

وزعم أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل: إما أن يمن، أو يفادي، أو يسترق. الرابع- قول سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، لقوله تعالى:" ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ" «1» [الأنفال: 67]. فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره. الخامس- أن الآية محكمة، والامام مخير في كل حال، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقاله كثير من العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم. وهو الاختيار، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك، قتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا، وفادى سائر أسارى بدر، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، واخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين، وهبط عليه عليه السلام قوم من أهل مكة فأخذهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن عليهم، وقد من على سبي هوازن. وهذا كله ثابت في الصحيح، وقد مضى جميعه في (الأنفال) «2» وغيرها. قال النحاس: وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن، لان النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ، إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن، على ما فيه الصلاح للمسلمين. وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد، وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة، والمشهور عنه ما قدمناه، وبالله عز وجل التوفيق. الرابعة- قوله تعالى:" حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها" قال مجاهد وابن جبير: هو خروج عيسى عليه السلام. وعن مجاهد أيضا: أن المعنى حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب. ونحوه
__________
(1). آية 67 سورة الأنفال.
(2). راجع ج 8 ص 45 وما بعدها.

عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي. قال الكسائي: حتى يسلم الخلق. وقال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقال الكلبي: حتى يظهر الإسلام على الدين كله. وقال الحسن: حتى لا يعبدوا إلا الله. وقيل: معنى الأوزار السلاح، فالمعنى شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح. وقيل: معناه حتى تضع الحرب، أي الاعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة. ويقال للكراع أوزار. قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا
ومن نسج داود يحدى بها ... على أثر الحي عيرا فعيرا «1»
وقيل:" حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها" أي أثقالها. والوزر الثقل، ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال. وأثقالها السلاح لثقل حملها. قال ابن العربي: قال الحسن وعطاء: في الآية تقديم وتأخير، المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسير. وقد روي عن الحجاج أنه دفع أسيرا إلى عبد الله بن عمر ليقتله فأبى وقال: ليس بهذا أمرنا الله، وقرا" حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق". قلنا: قد قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله، وليس في تفسير الله للمن والفداء منع من غيره، فقد بين الله في الزنى حكم الجلد، وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم الرجم، ولعل ابن عمر كره ذلك من يد الحجاج فاعتذر بما قال، وربك أعلم". قوله تعالى:" ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ"" ذلك" في موضع رفع على ما تقدم، أي الامر ذلك الذي ذكرت وبينت. وقيل: هو منصوب على معنى افعلوا ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ، المعنى ذلك حكم الكفار. وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام، وهو كما قال تعالى:" هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ" «2» [ص: 55]. أي هذا حق وأنا أعرفكم أن للظالمين كذا. ومعنى" لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ" أي أهلكهم بغير قتال. وقال
__________
(1). هذه رواية البيت في الأصول. وروايته في كتاب" الاعشين":
ومن نسج داود موضونة ... تساق مع الحي عيرا فعيرا
والموضونة: الدرع المنسوجة. وفي شعراء النصرانية:
... على أثر العيس ...

(2). آية 55 سورة ص.

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)

ابن عباس: لأهلكهم بجند من الملائكة." وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" أي أمركم بالحرب ليبلو ويختبر بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين والصابرين، كما في السورة نفسها." وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" يريد قتلى أحد من المؤمنين" فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ" قراءة العامة" قاتلوا" وهي اختيار أبي عبيد. وقرا أبو عمرو وحفص" قتلوا" بضم القاف وكسر التاء، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير. وقرا الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة" قتلوا" بفتح القاف والتاء من غير ألف، يعني الذين قتلوا المشركين. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اعل هبل. ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل. وقال المشركون: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قولوا لا سواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون). فقال المشركون: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم. وقد تقدم ذكر ذلك في (آل عمران) «1».

[سورة محمد (47): آية 5]
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5)
قال القشيري: قراءة أبي عمرو" قتلوا" بعيدة، لقوله تعالى:" سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ" والمقتول لا يوصف بهذا. قال غيره: يكون المعنى سيهديهم إلى الجنة، أو سيهدي من بقي منهم، أي يحقق لهم الهداية. وقال ابن زياد: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، ومن ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ. ومنه قوله تعالى:" فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ" «2» [الصافات: 23] معناه فاسلكوا بهم إليها.

[سورة محمد (47): آية 6]
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)
__________
(1). راجع ج 4 ص (234)
(2). آية 23 سورة الصافات.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)

أي إذا دخلوها يقال لهم تفرقوا «1» إلى منازلكم، فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم. قال معناه مجاهد وأكثر المفسرين. وفي البخاري ما يدل على صحة هذا القول عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار] فيقص لبعضهم من بعض مظالم [كانت بينهم في الدنيا «2» [حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة] منه «3» [بمنزله في الدنيا (. وقيل:" عَرَّفَها لَهُمْ" أي بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال. قال الحسن: وصف الله تعالى لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وقيل: فيه حذف، أي عرف طرقها ومساكنها وبيوتها لهم، فحذف المضاف. وقيل: هذا التعريف بدليل، وهو الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه ويتبعه العبد حتى يأتي العبد منزله، ويعرفه الملك جميع ما جعل له في الجنة. وحديث أبي سعيد الخدري يرده. وقال ابن عباس" عَرَّفَها لَهُمْ" أي طيبها لهم بأنواع الملاذ، مأخوذ من العرف، وهو الرائحة الطيبة. وطعام معرف أي مطيب، تقول العرب: عرفت القدر إذا طيبتها بالملح والأبزار. وقال الشاعر يخاطب رجلا ويمدحه:
عرفت كاتب عرفته اللطائم «4»

يقول: كما عرف الاتب، وهو البقير والبقيرة، وهو قميص لا كمين له تلبسه النساء. وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، يقال: حرير معرف، أي بعضه على بعض، وهو من العرف المتتابع كعرف الفرس. وقيل:" عَرَّفَها لَهُمْ" أي وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة. وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم إظهارا لكرامتهم فيها. وقيل: عرف المطيعين أنها لهم.

[سورة محمد (47): آية 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)
__________
(1). في أز ل: تقربوا.
(2). زيادة عن صحيح البخاري.
(3). زيادة عن صحيح البخاري. [.....]
(4). اللطائم (جمع لطيمة): قطعة مسك.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)

قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ" أي إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار. نظيره" وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ" [الحج: 40] وقد تقدم «1». وقال قطرب: إن تنصروا نبي الله ينصركم الله، والمعنى واحد." وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ" أي عند القتال. وقيل على الإسلام. وقيل على الصراط. وقيل: المراد تثبيت القلوب بالأمن، فيكون تثبيت الاقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب. وقد مضى في" الأنفال" «2» هذا المعنى. وقال هناك:" إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا" «3» [الأنفال: 12] فأثبت هناك واسطة ونفاها هنا «4»، كقوله تعالى:" قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ" «5» [السجدة: 11] ثم نفاها بقوله:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ" «6» [الروم: 40]." الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ" «7» [الملك: 2] ومثله كثير، فلا فاعل إلا الله وحده.

[سورة محمد (47): آية 8]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)
قوله تعالى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا" يحتمل الرفع على الابتداء، والنصب بما يفسره" فَتَعْساً لَهُمْ" كأنه قال: أتعس الذين كفروا. و" تعسا لهم" نصب على المصدر بسبيل الدعاء، قاله الفراء، مثل سقيا له ورعيا. وهو نقيض لعا «8» له. قال الأعشى:
فالتعس أولى لها من أن أقول لعا «9»

وفية عشرة أقوال: الأول- بعدا لهم، قاله ابن عباس وابن جريج. الثاني- حزنا لهم، قاله السدي. الثالث- شقاء لهم، قاله ابن زيد. الرابع- شتما لهم من الله، قاله الحسن. الخامس- هلاكا لهم، قاله ثعلب. السادس- خيبة لهم، قاله الضحاك وابن زيد. السابع- قبحا لهم، حكاه النقاش. الثامن- رغما لهم، قاله الضحاك أيضا. التاسع-
__________
(1). راجع ج 12 ص (72)
(2). راجع ج 7 ص (371 377)
(3). راجع ج 7 ص (371 377)
(4). ما بين المربعين ساقط من ز ك ل.
(5). آية 11 سورة السجدة.
(6). آية 40 سورة الروم.
(7). آية 2 سورة الملك.
(8). لعا: كلمة يدعى بها للعاثر معناه الارتفاع.
(9). في اللسان وكتاب الاعشين:" أدنى" بدل" أولى". وصدره:
بذات لوث عفرناة إذا عثرت

واللوث (بالفتح): القوة". عفرناة: قرية.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

شرا لهم، قاله ثعلب أيضا. العاشر- شقوة لهم، قاله أبو العالية. وقيل: إن التعس الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه. والنكس أن يخر على رأسه. قال: والتعس أيضا الهلاك. قال الجوهري: وأصله الكب، وهو ضد الانتعاش. وقد تعس (بفتح العين) يتعس تعسا، وأتعسه الله. قال مجمع بن هلال:
تقول وقد أفردتها من خليلها ... تعست كما أتعستني يا مجمع
يقال: تعسا لفلان، أي ألزمه الله هلاكا. قال القشيري: وجوز قوم تعس (بكسر العين). قلت: ومنه حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة «1» إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض" خرجه البخاري. في بعض طرق هذا الحديث" تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" «2» خرجه ابن ماجة. قوله تعالى:" وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" أي أبطلها لأنها كانت في طاعة الشيطان. ودخلت الفاء في قوله فَتَعْساً" لأجل الإبهام الذي في" الَّذِينَ"، وجاء" وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" على الخبر حملا على لفظ الذين، لأنه خبر في اللفظ، فدخول الفاء حملا على المعنى، وأضل حملا على اللفظ.

[سورة محمد (47): آية 9]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
أي ذلك الإضلال والاتعاس، لأنهم" كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ" من الكتب والشرائع." فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ" أي ما لهم من صور الخيرات، كعمارة المسجد وقرى الضيف وأصناف القرب، ولا يقبل الله العمل إلا من مؤمن. وقيل: أحبط أعمالهم أي عبادة الصنم.

[سورة محمد (47): آية 10]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)
__________
(1). القطيفة: دثار. والخميصة: كساء أسود مربع له أعلام وخطوط.
(2). قوله" شيك" أي أصابته شوكة. و" فلا انتقش" أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)

بين أحوال المؤمن والكافر تنبيها على وجوب الايمان، ثم وصل هذا بالنظر، أي ألم يسر هؤلاء في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بهم" فَيَنْظُرُوا" بقلوبهم" كَيْفَ كانَ" آخر أمر الكافرين قبلهم." دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" أي أهلكهم واستأصلهم. يقال: دمره تدميرا، ودمر عليه بمعنى. ثم تواعد مشركي مكة فقال" وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها" أي أمثال هذه الفعلة، يعني التدمير. وقال الزجاج والطبري: الهاء تعود على العاقبة، أي وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا.

[سورة محمد (47): آية 11]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11)
أي وليهم وناصرهم. وفي حرف ابن مسعود" ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا". فالمولى: الناصر ها هنا، قاله ابن عباس وغيره. قال:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها»
قال قتادة: نزلت يوم أحد والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] قولوا الله مولانا ولا مولى لكم [وقد تقدم «2»." وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ" أي لا ينصرهم أحد من الله.

[سورة محمد (47): آية 12]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)
__________
(1). البيت من معلقة لبيد. ويروى" فعدت" بالعين المهملة. أخبر أنها (أي البقرة) خائفة من كلا جانبيها من خلفها وأمامها. والفرج: الواسع من الأرض. والفرج: الثغر المخوف، وهو موضع المخافة.
(2). راجع ص 230 من هذا الجزء. [.....]

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" تقدم في غير موضع" وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ" في الدنيا كأنهم أنعام، ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عما في غدهم. وقيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع." وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ" أي مقام ومنزل.

[سورة محمد (47): آية 13]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13)
قوله تعالى:" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ" تقدم الكلام في" كأين" في (آل عمران) «1». وهي ها هنا بمعنى كم، أي وكم من قرية. وأنشد الأخفش قول لبيد:
وكائن رأينا من ملوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل
فيكون معناه: وكم من أهل قرية." هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ" أي أخرجك أهلها." فَلا ناصِرَ لَهُمْ" قال قتادة وابن عباس: لما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال:] اللهم أنت أحب البلاد إلى الله وأنت أحب البلاد إلي ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك [. فنزلت الآية «2»، ذكره الثعلبي، وهو حديث صحيح.

[سورة محمد (47): آية 14]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
قوله تعالى:" أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ" الالف ألف تقرير. ومعنى" عَلى بَيِّنَةٍ" أي على ثبات ويقين، قاله ابن عباس. أبو العالية: وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والبينة: الوحي." كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ" أي عبادة الأصنام، وهو أبو جهل والكفار.
__________
(1). راجع ج 4 ص 228
(2). ساقط من ك.

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

" وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ" أي ما اشتهوا. وهذا التزيين من جهة الله خلقا. ويجوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة. ويجوز أن يكون من الكافر، أي زين لنفسه سوء عمله وأصر على الكفر. وقال" سوء" على لفظ" من"" وَاتَّبَعُوا" على معناه.

[سورة محمد (47): آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
قوله تعالى:" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ" لما قال عز وجل:" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ" [الحج: 14] وصف تلك الجنات، أي صفة الجنة المعدة للمتقين. وقد مضى الكلام في هذا في" الرعد" «1». وقرا علي بن أبي طالب" مثال الجنة التي وعد المتقون"." فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ" أي غير متغير الرائحة. والآسن من الماء مثل الآجن. وقد أسن الماء يأسن ويأسن ] أسنا و[أسونا إذا تغيرت رائحته. وكذلك أجن الماء يأجن ويأجن أجنأ وأجونا. ويقال بالكسر فيهما: أجن وأسن يأسن ويأجن أسنا وأجنأ، قاله اليزيدي. وأسن الرجل أيضا يأسن (بالكسر «2» لا غير) إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك فغشي عليه أو دار رأسه، قال زهير:
قد أترك «3» القرن مصفرا أنامله ... يميد في الرمح ميد المائح الأسن
ويروى" الوسن". وتأسن الماء تغير. أبو زيد: تأسن علي تأسنا اعتل وأبطأ. أبو عمرو: تأسن الرجل أباه أخذ أخلاقه. وقال اللحياني: إذا نزع إليه في الشبه. وقراءة العامة" آسِنٍ" بالمد. وقرا ابن كثير وحميد" أسن" بالقصر، وهما لغتان، مثل حاذر وحذر. وقال الأخفش: أسن للحال، وآسن (مثل فاعل) يراد به الاستقبال."
__________
(1). راجع ج 9 ص (324)
(2). أي في الماضي.
(3). وفية رواية أخرى:" يغادر القرن".

وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ" أي لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة." وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ" أي لم تدنسها الأرجل ولم ترنقها «1» الأيدي كخمر الدنيا، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون. يقال: شراب لذ ولذيذ بمعنى. واستلذه عده لذيذا." وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى" العسل ما يسيل من لعاب النحل." مُصَفًّى" أي من الشمع والقذى، خلقه الله كذلك لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل. وفي الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد [. قال: حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة [. وقال كعب: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم. وهذه الأنهار الاربعة تخرج من نهر الكوثر. والعسل: يذكر ويؤنث. وقال ابن عباس:" مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى" أي لم يخرج من بطون النحل." وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ"" من" زائدة للتأكيد." وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ" أي لذنوبهم." كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ" قال الفراء: المعنى أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار. وقال الزجاج: أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطى هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار. فقوله" كَمَنْ" بدل من قوله" أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ" [فاطر: 8]. وقال ابن كيسان: مثل هذه الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم. ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كميل أهل النار في العذاب المقيم." وَسُقُوا ماءً حَمِيماً" أي حارا شديد الغليان، إذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم. والأمعاء: جمع معى، والتثنية معيان، وهو جميع ما في البطن من الحوايا.
__________
(1). رنق الماء: كدره.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)

[سورة محمد (47): الآيات 16 الى 17]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)
قوله تعالى:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ" أي من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام، وزين لهم سوء عملهم قوم يستمعون إليك وهم المنافقون: عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت «1» والحارث بن عمرو ومالك بن دخشم، كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه، قاله الكلبي ومقاتل. وقيل: كانوا يحضرون عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر." حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ" أي إذا فارقوا مجلسك." قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ" قال عكرمة: هو عبد الله بن العباس. قال ابن عباس: كنت ممن يسأل، أي كنت من الذين أوتوا العلم. وفي رواية عن ابن عباس: أنه يريد عبد الله بن مسعود. وكذا قال عبد الله بن بريدة: هو عبد الله بن مسعود. وقال القاسم بن عبد الرحمن: هو أبو الدرداء. وقال ابن زيد: إنهم الصحابة." ماذا قالَ آنِفاً" أي الآن، على جهة الاستهزاء. أي أنا لم ألتفت إلى قوله. و" آنِفاً" يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات إليك، من قولك: استأنفت الشيء إذا ابتدأت به. ومنه أمر أنف، وروضة أنف، أي لم يرعها أحد. وكأس أنف: إذا لم يشرب منها شي، كأنه استؤنف شربها مثل روضة أنف. قال الشاعر: «2»
ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع
__________
(1). كذا في الأصول. وفي سيرة ابن هشام وابن الأثير طبع أوربا:" اللصيت" بالتاء المثناة من فوق. وفي تاريخ الطبري (طبع أوربا قسم أول ص 1699:" اللصيب" بالباء الموحدة.
(2). هو الحطيئة.

وقال آخر «1»:
إن الشواء والنشيل والرغف ... والقينة الحسناء والكأس الأنف

للطاعنين الخيل والخيل قطف «2»

وقال امرؤ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه «3»

أي في أوله. وأنف كل شيء أوله. وقال قتادة في هؤلاء المنافقين: الناس رجلان: رجل عقل عن الله فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل ولم ينتفع بما سمع. وكان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك. قوله تعالى:" أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ" فلم يؤمنوا." وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ" في الكفر." وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا" أي للايمان زادهم الله هدى. وقيل: زادهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدى. وقيل: ما يستمعونه من القرآن هدى. أي يتضاعف يقينهم. وقال الفراء: زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى. وقيل: زادهم نزول الناسخ هدى. وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل: أحدها- زادهم علما، قاله الربيع بن أنس. الثاني- أنهم علموا ما سمعوا وعملوا بما علموا، قاله الضحاك. الثالث- زادهم بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم، قاله الكلبي. الرابع- شرح صدورهم بما هم عليه من الايمان." وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ" أي ألهمهم إياها. وقيل: فيه خمسة أوجه: أحدها- آتاهم الخشية، قاله الربيع. الثاني- ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. الثالث- وفقهم للعمل الذي فرض عليهم، قاله مقاتل. الرابع- بين لهم ما يتقون، قاله ابن زياد والسدي أيضا. الخامس- أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. الماوردي: ويحتمل. سادسا-
__________ (1). هو لقيط بن زرارة. والنشيل: ما طبخ من اللحم بغير تأبل. والرغف جمع رغيف. ويقال: أرغفة ورغفان.
(2). في الأصول:" حنف" والتصويب عن اللسان مادة" قطف". وقد ورد هذا الشطر في اللسان مادة" نشل":" للضاربين الهام والخيل قطف". وقطفت الدابة: أساءت السير وأبطأت.
(3). تمامه:
لا حق الأيطل محبوك ممر

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)

أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم. وقرى" وأعطاهم" بدل" وَآتاهُمْ". وقال عكرمة: هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب.

[سورة محمد (47): آية 18]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)
قوله تعالى:" فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً" أي فجأة. وهذا وعيد للكفار." فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها" أي أماراتها وعلاماتها. وكانوا قد قرءوا في كتبهم أن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخر الأنبياء، فبعثه من أشراطها وأدلتها، قاله الضحاك والحسن. وفي الصحيح عن أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] بعثت أنا والساعة كهاتين [وضم السبابة والوسطى، لفظ مسلم. وخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة. ويروى ] بعثت والساعة كفرسي رهان [. وقيل: أشراط الساعة أسبابها التي هي دون معظمها. ومنه يقال للدون من الناس: الشرط. وقيل: يعني علامات الساعة انشقاق القمر والدخان، قاله الحسن أيضا. وعن الكلبي: كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام، وقلة الكرام وكثرة اللئام. وقد أتينا على هذا الباب في كتاب" التذكرة" مستوفى والحمد لله. وواحد الأشراط شرط، وأصله الاعلام. ومنه قيل الشرط، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. ومنه الشرط في البيع وغيره. قال أبو الأسود:
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو
ويقال: أشرط فلان نفسه في عمل كذا أي أعلمها وجعلها له. قال أوس بن حجر يصف رجلا تدلى بحبل من رأس جبل إلى نبعة «1» يقطعها ليتخذ منها قوسا:
فأشرط نفسه فيها وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكلا
__________
(1). النبعة (واحدة النبع): شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسي.

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

" أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً"" أن" بدل اشتمال من" السَّاعَةَ" نحو قوله:" أَنْ تَطَؤُهُمْ" من قوله:" رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ" «1». وقرى" بغتة" بوزن جربه «2»، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها،، وهي مروية عن أبي عمرو. الزمخشري: وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو، وأن يكون الصواب" بغتة" بفتح الغين من غير تشديد، كقراءة الحسن. وروى عن أبو جعفر الرؤاس، وغيره من أهل مكة" إن تأتهم بغتة". قال المهدوي: ومن قرأ" إن تأتهم بغتة" كان الوقف على" السَّاعَةَ" ثم استأنف الشرط. وما يحتمله الكلام من الشك مردود إلى الخلق، كأنه قال: إن شكوا في مجيئها" فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها". قوله تعالى:" فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ"" ذِكْراهُمْ" ابتداء و" فَأَنَّى لَهُمْ" الخبر. والضمير المرفوع في" جاءَتْهُمْ" للساعة، التقدير: فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة، قال معناه قتادة وغيره. وقيل: فكيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة، قاله ابن زيد. وفي الذكرى وجهان: أحدهما- تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر. الثاني- هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيرا وتخويفا، روى أبان عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] أحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة يا فلان قم إلى نورك يا فلان قم لا نور لك [ذكره الماوردي.

[سورة محمد (47): آية 19]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
قوله تعالى:" فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ" قال الماوردي: وفية- وإن كان الرسول عالما بالله- ثلاثة أوجه: يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني- ما علمته استدلالا فأعلمه خبرا يقينا. الثالث- يعني فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم
__________
(1). آية 25 سورة الفتح.
(2). الجربة (بالفتح والتشديد): القطيع من حمر الوحش. وقد يقال للأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين: جربه. [.....]

لحدوثه عنه. وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به" فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" فأمر بالعمل بعد العلم وقال:" اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ- إلى قوله- سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ" «1» [الحديد: 21- 20] وقال:" وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ"
«2» [الأنفال: 28]. ثم قال بعد:" فَاحْذَرُوهُمْ" «3» [التغابن: 14]. وقال تعالى:" وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ" «4» [الأنفال: 41]. ثم أمر بالعمل بعد. قوله تعالى:" وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" يحتمل وجهين: أحدهما- يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني- استغفر الله ليعصمك من الذنوب. وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الايمان، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار. وقيل: الخطاب له والمراد به الامة، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين. وقيل: كان عليه السلام يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين، فنزلت الآية. أي فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل: أمر بالاستغفار لتقتدي به الامة." وللمؤمنين والمؤمنات" أي ولذنوبهم. وهذا أمر بالشفاعة. وروى مسلم عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس المخزومي قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واكلت من طعامه فقلت: يا رسول الله، غفر الله لك! فقال له صاحبي: هل استغفر لك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، ولك. ثم تلا هذه الآية" وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ" ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، جمعا «5» [عليه «6» [خيلان كأنه الثآليل." وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ" فيه خمسة أقوال: أحدها- يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم. الثاني-" مُتَقَلَّبَكُمْ" في أعمالكم نهارا" وَمَثْواكُمْ" في ليلكم نياما. وقيل
__________
(1). آية 20 سورة الحديد.
(2). آية 28 سورة الأنفال.
(3). في قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ" آية 14 سورة التغابن.
(4). آية 41 سورة الأنفال.
(5). يريد مثل جمع الكف، وهو أن يجمع الأصابع ويضمها.
(6). زيادة عن صحيح مسلم. والخيلان: جمع خال، وهو الشامة في الجسد. والثآليل: وهو ثؤلول، وهي حبيبات تعلو الجسد.

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)

" مُتَقَلَّبَكُمْ" في الدنيا." وَمَثْواكُمْ" في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس والضحاك. وقال عكرمة:" مُتَقَلَّبَكُمْ" في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات." وَمَثْواكُمْ" مقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان:" مُتَقَلَّبَكُمْ" من ظهر إلى بطن إلى الدنيا." وَمَثْواكُمْ" في القبور. قلت: والعموم يأتي على هذا كله، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم، وكذا جميع خلقه. فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلا أولى وأخرى. سبحانه! لا إله إلا هو.

[سورة محمد (47): الآيات 20 الى 21]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21)
قوله تعالى:" وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا" أي المؤمنون المخلصون." لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ" اشتياقا للوحي وحرصا على الجهاد وثوابه. ومعنى" لَوْ لا" هلا." فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ" لا نسخ فيها. قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين. وفي قراءة عبد الله" فإذا أنزلت سورة محدثة" أي محدثة النزول." وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ" أي فرض فيها الجهاد. وقرى" فإذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال" على البناء للفاعل ونصب القتال." رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" أي شك ونفاق." يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ" أي نظر مغموصين مغتاظين بتحديد وتحديق، كمن يشخص بصره عند الموت، وذلك لجبنهم عن القتال جزعا وهلعا، ولميلهم في السر إلى الكفار. قوله تعالى:" فَأَوْلى لَهُمْ. طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ"" فأولى لهم" قال الجوهري: وقولهم: أولى لك، تهدد ووعيد. قال الشاعر:
فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل للدر يحلب من مرد

قال الأصمعي: معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به. وأنشد:
فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث
أي قارب أن يزيد. قال ثعلب: ولم يقل أحد في" فَأَوْلى " أحسن مما قال الأصمعي. وقال المبرد: يقال لمن هم بالعطب ثم أفلت: أولى لك، أي قاربت العطب. كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فيفلت منه ليقول: أولى لك. ثم رمى صيدا فقاربه ثم أفلت منه فقال:
فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ... ولكن أولى يترك القوم جوعا
وقيل: هو كقول الرجل لصاحبه: يا محروم، أي شيء فاتك! وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل، فهو أفعل، ولكن فيه قلب، وهو أن عين الفعل وقع موقع اللام. وقد تم الكلام على قوله:" فَأَوْلى لَهُمْ". قال قتادة: كأنه قال العقاب أولى لهم. وقيل: أي وليهم المكروه. ثم قال:" طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ" أي طاعة وقول معروف أمثل وأحسن، وهو مذهب سيبويه والخليل. وقيل: إن التقدير أمرنا طاعة وقول معروف، فحذف المبتدأ فيوقف على" فَأَوْلى لَهُمْ". وكذا من قدر يقولون منا طاعة. وقيل: إن الآية الثانية متصلة بالأولى. واللام في قوله" لَهُمْ" بمعنى الباء، أي الطاعة أولى وأليق بهم، وأحق لهم من ترك امتثال أمر الله. وهي قراءة أبي" يَقُولُونَ طاعَةٌ". وقيل: إن" طاعة" نعت ل" سورة"، على تقدير: فإذا أنزلت سورة ذات طاعة، فلا يوقف على هذا على" فَأَوْلى لَهُمْ". قال ابن عباس: إن قولهم" طاعة" إخبار من الله عز وجل عن المنافقين. والمعنى لهم طاعة وقول معروف، قيل وجوب الفرائض عليهم، فإذا أنزلت الفرائض شق عليهم نزولها. فيوقف على هذا على" فَأَوْلى ". قوله تعالى:" فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ" أي جد القتال، أو وجب فرض القتال، كرهوه. فكرهوه جواب" فَإِذا" وهو محذوف. وقيل: المعنى فإذا عزم أصحاب الامر." فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ" أي في الايمان والجهاد." لَكانَ خَيْراً لَهُمْ" من المعصية والمخالفة.

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)

[سورة محمد (47): الآيات 22 الى 24]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
فيه أربع مسائل: الاولى: قوله تعالى:" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ" اختلف في معنى" إِنْ تَوَلَّيْتُمْ" فقيل: هو من الولاية. قال أبو العالية: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاما أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا. وقال الكلبي: أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الامة أن تفسدوا في الأرض بالظلم. وقال ابن جريج: المعنى فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام. وقال كعب: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الامر أن يقتل بعضكم بعضا. وقيل: من الاعراض عن الشيء. قال قتادة: أي فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام، وتقطعوا أرحامكم. وقيل:" فَهَلْ عَسَيْتُمْ" أي فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض فتعودوا إلى جاهليتكم. وقرى بفتح السين وكسرها. وقد مضى في" البقرة" القول فيه مستوفى «1». وقال بكر المزني: إنها نزلت في الحرورية والخوارج، وفية بعد. والأظهر أنه إنما عني بها المنافقون. وقال ابن حيان: قريش. ونحوه قال المسيب بن شريك والفراء، قالا: نزلت في بني أمية وبني هاشم، ودليل هذا التأويل ما روى عبد الله بن مغفل قال سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ"- ثم قال- هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الأرض ولا يقطعوا أرحامهم [. وقرا علي بن أبي طالب" إن توليتم أن تفسدوا في الأرض" بضم التاء والواو وكسر اللام. وهي قراءة ابن أبي إسحاق، ورواها رويس عن
__________
(1). راجع ج 3 ص 244

يعقوب. يقول: إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم." وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ" بالبغي والظلم والقتل. وقرا يعقوب وسلام وعيسى وأبو حاتم" وَتُقَطِّعُوا" بفتح التاء وتخفيف القاف، من القطع، اعتبارا بقوله تعالى" وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ" «1» [البقرة: 27]. وروى هذه القراءة هارون عن أبى عمرو. وقرا الحسن" وَتُقَطِّعُوا" مفتوحة الحروف مشددة، اعتبارا بقوله تعالى:" وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ" «2» [الأنبياء: 93]. الباقون" وَتُقَطِّعُوا" بضم التاء مشددة الطاء، من التقطيع على التكثير، وهو اختيار أبي عبيد. وتقدم ذكر" عَسَيْتُمْ" [البقرة: 246] في (البقرة) «3». وقال الزجاج في قراءة نافع: لو جاز هذا لجاز" عسى" بالكسر. قال الجوهري: ويقال عسيت أن أفعل ذلك، وعسيت بالكسر. وقرى" فهل عسيتم" بالكسر. قلت: ويدل قوله هذا على أنهما لغتان. وقد مضى القول فيه في" البقرة" مستوفى «4»." أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ" أي طردهم وأبعدهم من رحمته." فَأَصَمَّهُمْ" عن الحق." وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ" أي قلوبهم عن الخير. فأتبع الاخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه لعنته، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل. وقال:" فَهَلْ عَسَيْتُمْ" ثم قال:" أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ" فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك. الثانية- قوله تعالى:" أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ" أي يتفهمونه فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام." أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها" أي بل على قلوب أقفال أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون. وهذا يرد على القدرية والإمامية مذهبهم. وفي حديث مرفوع أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إن عليها أقفالا كأقفال الحديد حتى يكون الله يفتحها [. واصل القفل اليبس والصلابة. ويقال لما يبس من الشجر: القفل. والقفيل مثله. والقفيل أيضا نبت. والقفيل: الصوت. قال الراجز:
لما أتاك يابسا قرشبا ... قمت إليه بالقفيل ضربا

كيف قريت شيخك الازبا «5»
__________
(1). آية 27 سورة البقرة.
(2). آية 93 سورة الأنبياء.
(3). راجع ج 1 ص 246 وج 3 ص 244.
(4). راجع ج 1 ص 246 وج 3 ص 244.
(5). ج 3 ص 4 (244) الأزب (بالفتح والتشديد): الكثير الشعر.

القرشب (بكسر القاف): المسن، عن الأصمعي. وأقفله الصوم أي أيبسه، قاله القشيري والجوهري. فالاقفال ها هنا إشارة إلى ارتتاج القلب وخلوه عن الايمان. أي لا يدخل قلوبهم الايمان ولا يخرج منها الكفر، لان الله تعالى طبع على قلوبهم وقال:" عَلى قُلُوبٍ" لأنه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة. والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها. الثالثة- في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذاك لك- ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقرءوا إن شئتم" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها" [. وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار. وقال قتادة وغيره: معنى الآية فلعلكم، أو يخاف عليكم، إن أعرضتم عن الايمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء. قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى! ألم يسفكوا الدماء الحرام ويقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن. فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والايمان، التي قد سماها الله إخوة بقوله تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" «1». وعلى قول الفراء أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية، والمراد من أضمر منهم نفاقا، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القرابة بتكذيبهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذلك يوجب القتال. وبالجملة فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين، ويجب مواصلتها بملازمة الايمان والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم، والنصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم، وغير ذلك من ] الحقوق [المترتبة لهم. وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة وتفقد أحوالهم،
__________
(1). آية 10 سورة الحجرات.

وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب. وقال بعض أهل العلم: إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم محرم، وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال. وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث، محرما كان أو غير محرم. فيخرج من هذا أن رحم الام التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم. وهذا ليس بصحيح، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال، قربة ودينية، على ما ذكرناه أولا والله أعلم. وقد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال: حدثنا شعبة قال أخبرني محمد بن عبد الجبار قال سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:] إن للرحم لسانا يوم القيامة تحت العرش يقول يا رب قطعت يا رب ظلمت يا رب أسئ إلي فيجيبها ربها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك [. وفي صحيح مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] لا يدخل الجنة قاطع [. قال ابن أبي عمر قال سفيان: يعني قاطع رحم. ورواه البخاري. الرابعة- قوله عليه السلام:] إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم ... [" خلق" بمعنى اخترع وأصله التقدير، كما تقدم «1». والخلق هنا بمعنى المخلوق. ومنه قوله تعالى:" هذا خَلْقُ اللَّهِ" «2» أي مخلوقه. ومعنى ] فرغ منهم [كمل خلقهم. لا أنه اشتغل بهم ثم فرغ من شغله بهم، إذ ليس. فعله بمباشرة ولا مناولة، ولا خلقه بآلة ولا محاولة، تعالى عن ذلك. وقوله:] قامت الرحم فقالت [يحمل على أحد وجهين: أحدهما- أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة فيقول ذلك، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ويكتب ثواب من وصلها ووزر من قطعها، كما وكل الله بسائر الأعمال كراما كاتبين، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين. وثانيهما- (هامش)
__________
(1). راجع ج 1 ص (226) [.....]
(2). آية 11 سورة لقمان.

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)

أن ذلك على جهة التقدير والتمثيل المفهم للاعياء وشدة الاعتناء. فكأنه قال: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام، كما قال تعالى:" لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ- ثم قال- وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" «1». وقوله:] فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة [مقصود هذا الكلام الاخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأن الله سبحانه قد نزلها بمنزلة من استجار به فأجاره، وأدخله في ذمته وخفارته»
وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول وعهده غير منقوض. ولذلك قال مخاطبا للرحم:] أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك [. وهذا كما قال عليه السلام:] ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه بذمته بشيء يدركه ثم يكبه في النار على وجهه [.

[سورة محمد (47): آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25)
قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب، كفروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما عرفوا نعته عندهم، قاله ابن جريج. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون، قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن." الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ" أي زين لهم خطاياهم، قاله الحسن." وَأَمْلى لَهُمْ" أي مد لهم الشيطان في الأمل ووعدهم طول العمر، عن الحسن أيضا. وقال: إن الذي أملى لهم في الأمل ومد في آجالهم هو الله عز وجل، قاله الفراء والمفضل. وقال الكلبي ومقاتل: إن معنى" أَمْلى لَهُمْ" أمهلهم، فعلى هذا يكون الله تعالى أملى لهم بالامهال في عذابهم. وقرا أبو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو جعفر وشيبة" وَأَمْلى لَهُمْ" بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء، على ما لم يسم فاعله. وكذلك قرأ ابن هرمز ومجاهد والجحدري ويعقوب، إلا أنهم سكنوا الياء على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم، كأنه قال: وأنا أملي لهم. واختاره أبو حاتم، قال: لان فتح الهمزة يوهم أن الشيطان
__________
(1). آية 21 سورة الحشر.
(2). الخفارة (بالضم والكسر): الذمام.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)

يملي لهم، وليس كذلك، فلهذا عدل إلى الضم. قال المهدوي: ومن قرأ" وأملى لهم" فالفاعل اسم الله تعالى. وقيل الشيطان. واختار أبو عبيد قراءة العامة، قال: لان المعنى معلوم، لقوله:" لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ" «1» [الفتح: 9] رد التسبيح على اسم الله، والتوقير والتعزير على اسم الرسول.

[سورة محمد (47): آية 26]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)
قوله تعالى:" ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا" أي ذلك الاملاء لهم حتى يتمادوا في الكفر بأنهم قالوا، يعني المنافقين واليهود." للذين كرهوا ما نزل الله" وَهُمْ مُشْرِكُونَ" سنطيعكم في بعض الامر" أي في مخالفة محمد والتظاهر على عداوته، والقعود عن الجهاد معه وتوهين أمره في السر. وهم إنما قالوا ذلك سرا فأخبر الله نبيه. وقراءة العامة" أسرارهم" بفتح الهمزة، جمع سر، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرا الكوفيون وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم" إِسْرارَهُمْ" بكسر الهمزة على المصدر، نحو قوله تعالى:" وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً" «2» [نوح: 9] جمع لاختلاف ضروب السر.

[سورة محمد (47): آية 27]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27)
قوله تعالى:" فَكَيْفَ" أي فكيف تكون حالهم." إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ" أي ضاربين، فهو في موضع الحال. ومعنى الكلام التخويف والتهديد، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر. وقد مضى في" الأنفال والنحل" «3». وقال ابن عباس: لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه. وقيل: ذلك عند القتال نصرة لرسول الله
__________
(1). آية 9 سورة الفتح.
(2). آية 9 سورة نوح.
(3). راجع ج 8 ص 28 وج 10 ص 99

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بضرب الملائكة وجوههم عند الطلب وأدبارهم عند الهرب. وقيل: ذلك في القيامة عند سوقهم إلى النار.

[سورة محمد (47): آية 28]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)
قوله تعالى:" ذلِكَ" أي ذلك جزاؤهم." بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ" قال ابن عباس: هو كتمانهم ما في التوراة من نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن حملت على المنافقين فهو إشارة إلى ما أضمروا عليه من الكفر." وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ" يعني الايمان." فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ" أي ما عملوه من صدقة وصلة رحم وغير ذلك، على ما تقدم.

[سورة محمد (47): الآيات 29 الى 30]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)
قوله تعالى:" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" نفاق وشك، يعني المنافقين." أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ" الأضغان ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه، فقال السدي: غشهم. وقال ابن عباس: حسدهم. وقال قطرب: عداوتهم، وأنشد قول الشاعر:
قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وشيد الاضغانا
وقيل: أحقادهم. واحدها ضغن. قال:
وذي ضغن كففت النفس عنه

وقد تقدم. وقال عمرو بن كلثوم:
وإن الضغن بعد الضغن يفشو ... عليك ويخرج الداء الدفينا

قال الجوهري: الضغن والضغينة: الحقد. وقد ضغن عليه (بالكسر) ضغنا. وتضاغن القوم واضطغنوا: أبطنوا على الأحقاد. واضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك. وأنشد الأحمر:
كأنه مضطغن صبيا
أي حامله في حجره. وقال ابن مقبل:
إذا اضطغنت سلاحي عند مغرضها ... ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا «1»
وفرس ضاغن لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام." وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ" أي لعرفناكهم. قال ابن عباس: وقد عرفه إياهم في سورة" براءة" «2». تقول العرب: سأريك ما اصنع، أي سأعلمك، ومنه قوله تعالى:" بِما أَراكَ «3» اللَّهُ" [النساء: 105] أي بما أعلمك." فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ" أي بعلاماتهم. قال أنس. ما خفي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذه الآية أحد من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم. وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم «4» الناس، فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب (هذا منافق) فذلك سيماهم. وقال ابن زيد: قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله، فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها." وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ" أي في فحواه ومعناه. ومنه قول الشاعر:
وخير الكلام ما كان لحنا

أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به. مأخوذ من اللحن في الاعراب، وهو الذهاب عن الصواب، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض [أي أذهب بها في الجواب لقوته على تصريف الكلام. أبو زيد:
__________
(1). المغرض: جانب البطن أسفل الأضلاع. و" رئاس السيف": مقبضه. و" الشاسف": اليابس من الضمر والهزال.
(2). راجع ج 8 ص 196.
(3). آية 105 سورة النساء.
(4). في نسخ الأصل:" يشكونهم".

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

لحنت له (بالفتح) ألحن لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره. ولحنه هو عني (بالكسر) يلحنه لحنا أي فهمه. وألحنته أنا إياه، ولاحنت الناس فاطنتهم، قال الفزاري:
وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق رائع وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا
يريد أنها تتكلم ] بشيء [وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها. وقد قال تعالى:" وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ". وقال القتال الكلابي:
ولقد وحيت «1» لكم لكيما تفهموا ... ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
وقال مرار الأسدي:
ولحنت لحنا فيه غش ورابني ... صدودك ترضين الوشاة الأعاديا
قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منافق إلا عرفه. وقيل: كان المنافقون يخاطبون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكلام تواضعوه فيما بينهم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد، فنبهه الله تعالى عليه، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. قال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه." وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ" أي لا يخفى عليه شيء منها.

[سورة محمد (47): آية 31]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)
قوله تعالى:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ" أي نتعبدكم بالشرائع وإن علمنا عواقب الأمور. وقيل: لنعاملنكم معاملة المختبرين." حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ" عليه. قال ابن عباس:" حَتَّى نَعْلَمَ" حتى نميز. وقال على رضي الله عنه." حَتَّى نَعْلَمَ" حتى نرى. وقد مضى
__________
(1). في اللسان:" لحنت".

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)

في" البقرة" «1». وقراءة العامة بالنون في" لَنَبْلُوَنَّكُمْ" و" نَعْلَمَ"" ونبلوا". وقرا أبو بكر عن عاصم بالياء فيهن. وروى رويس عن يعقوب إسكان الواو من" نبلو" على القطع مما قبل. ونصب الباقون ردا على قوله:" حَتَّى نَعْلَمَ". وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة." وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ" نختبرها ونظهرها. قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلينا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

[سورة محمد (47): آية 32]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)
يرجع إلى المنافقين أو إلى اليهود. وقال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر. نظيرها" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" [الأنفال: 36] الآية «2»." وَشَاقُّوا الرَّسُولَ" أي عادوه وخالفوه." مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى " أي علموا أنه نبي بالحجج والآيات." لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً" بكفرهم." وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ" أي ثواب ما عملوه.

[سورة محمد (47): آية 33]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ" لما بين حال الكفار أمر المؤمنين بلزوم الطاعة في أوامره والرسول في سننه." وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ" أي حسناتكم بالمعاصي، قاله الحسن. وقال الزهري: بالكبائر. ابن جريج: بالرياء والسمعة.
__________
(1). راجع ج 2 ص 156 طبعه ثانية.
(2). آية 36 سورة الأنفال.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)

وقال مقاتل والثمالي: بالمن، وهو خطاب لمن كان يمن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامه. وكله متقارب، وقول الحسن يجمعه. وفية إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الايمان. الثانية- احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع- صلاة كان أو صوما- بعد التلبس به لا يجوز، لان فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه. وقال من أجاز ذلك- وهو الامام الشافعي وغيره-: المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلا فلا، لأنه ليس واجبا عليه. فإن زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه. ووجه تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخييرا. وعن أبي العالية كانوا يرون أنه لا يضر مع الإسلام ذنب، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل: يقول الله تعالى إذا عصيتم الرسول فقد أبطلتم أعمالكم.

[سورة محمد (47): آية 34]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
بين أن الاعتبار بالوفاة على الكفر يوجب الخلود في النار. وقد مضى في" البقرة" الكلام «1» فيه. وقيل: إن المراد بالآية أصحاب القليب «2». وحكمها عام.

[سورة محمد (47): آية 35]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" فَلا تَهِنُوا" أي تضعفوا عن القتال. والوهن: الضعف وقد وهن الإنسان ووهنه غيره، يتعدى ولا يتعدى. قال:
إنني لست بموهون فقر «3»
__________
(1). راجع ج 3 ص (48) [.....]
(2). المراد به قليب بدر.
(3). هذا عجز بيت لطرفة، وصدره:
وإذا تلسنني ألسنها

ووهن أيضا (بالكسر) وهنا أي ضعف، وقرى" فَما وَهَنُوا" بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في (آل عمران) «1». الثانية- قوله تعالى:" وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ" أي الصلح." وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ" أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقيل: وأنتم الأعلون في الحجة. وقيل: المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال. وقال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. الثالثة- واختلف العلماء في حكمها، فقيل: إنها ناسخة لقوله تعالى:" وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها" «2» [الأنفال: 61]، لان الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح. وقيل: منسوخة بقوله تعالى:" وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها". وقيل: هي محكمة. والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال. وقيل: إن قوله" وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها" مخصوص في قوم بأعيانهم، والأخرى عامة. فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى «3»." وَاللَّهُ مَعَكُمْ" أي بالنصر والمعونة، مثل" وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" «4» [العنكبوت: 69]" وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ" أي لن ينقصكم، عن ابن عباس وغيره. ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه: وتره يتره وترا وترة. ومنه قوله عليه السلام:] من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله [أي ذهب بهما. وكذلك وتره حقه أي نقصه. وقوله تعالى:" وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ
" أي لن ينتقصكم في أعمالكم، كما تقول: دخلت البيت، وأنت تريد في البيت، قاله الجوهري. الفراء:" وَلَنْ يَتِرَكُمْ" هو مشتق من الوتر وهو الفرد، فكان المعنى ولن يفردكم بغير ثواب.
__________
(1). راجع ج 4 ص (230)
(2). آية 61 سورة الأنفال
. (3). راجع ج 8 ص 69
(4). 39 سورة العنكبوت.

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)

[سورة محمد (47): الآيات 36 الى 37]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)
قوله تعالى:" إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ" تقدم في" الانعام" «1»." وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ" شرط وجوابه." وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ" أي لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض، قاله ابن عيينة وغيره. وقيل:" لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ" لنفسه أو لحاجة منه إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم. وقيل:" لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ" إنما يسألكم أمواله، لأنه المالك لها وهو المنعم بإعطائها. وقيل: ولا يسألكم محمد أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة. نظيره" قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ" «2» [الفرقان: 57] الآية." إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ" يلح عليكم، يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد. والحفي المستقصي في السؤال، وكذلك الإحفاء الاستقصاء في الكلام والمنازعة. ومنه أحفى شاربه أي استقصى في أخذه." تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ" أي يخرج البخل أضغانكم. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. وقرا ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد" وتخرج" بتاء مفتوحة وراء مضمومة." أَضْغانَكُمْ" بالرفع لكونه الفاعل. وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي" ونخرج" بالنون. وأبو معمر عن عبد الوارث عن أبي عمرو" ويخرج" بالرفع في الجيم على القطع والاستئناف. والمشهور عنه" ويخرج" كسائر القراء، عطف على ما تقدم.

[سورة محمد (47): آية 38]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
__________
(1). راجع ج 6 ص (414)
(2). آية 57 سورة الفرقان.

قوله تعالى:" ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ" أي هأنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون" لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" أي في الجهاد وطريق الخير." فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ" أي على نفسه، أي يمنعها الأجر والثواب." وَاللَّهُ الْغَنِيُّ" أي إنه ليس بمحتاج إلى أموالكم." وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ" إليها «1»." وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ" أي أطوع لله منكم. روى الترمذي عن أبى هريرة قال: تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية" وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ" قالوا: ومن يستبدل بنا؟ قال: فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على منكب سلمان ثم قال:] هذا وقومه. هذا وقومه [قال: حديث غريب في إسناده مقال. وقد روى عبد الله بن جعفر بن نجيح والد على بن المديني أيضا هذا الحديث عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال أناس من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا رسول الله، من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولينا استبدلوا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان جنب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخذ سلمان، قال:] هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس [. وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة: هم فارس والروم. قال المحاسبي: فلا أحد بعد العرب من جميع أجناس الأعاجم أحسن دينا، ولا كانت العلماء منهم إلا الفرس. وقيل: إنهم اليمن، وهم الأنصار، قاله شريح بن عبيد. وكذا قال ابن عباس: هم الأنصار. وعنه أنهم الملائكة. وعنه هم التابعون. وقال مجاهد: إنهم من شاء من سائر الناس." ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ" قال الطبري: أي في البخل بالإنفاق في سبيل الله. وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال:] هي أحب إلي من الدنيا [. والله أعلم
__________
(1). لفظة: إليها ساقطة من ل.
.

[تفسير سورة الفتح ]
سورة الفتح مدنية بإجماع، وهي تسع وعشرون آية. ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية. روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلت أم عمر، نزرت «1» رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك، فقال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت «2» أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلمت عليه، فقال:] لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس- ثم قرأ-" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً" [. لفظ البخاري. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً- إلى قوله- فَوْزاً عَظِيماً" مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال:] لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا [. وقال عطاء عن ابن عباس: إن اليهود شتموا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين لما نزل قوله تعالى:" وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" «3» [الأحقاف: 9] وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به! فاشتد ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى:" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ". ونحوه قال مقاتل
__________
(1). أي ألححت عليه وبالغت في السؤال.
(2). أي ما لبثت وما تعلقت بشيء.
(3). راجع ص 185 من هذا الجزء.

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)

ابن سليمان: لما نزل قوله تعالى:" وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" «1» [الأحقاف: 9] فرح المشركون والمنافقون وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه، فنزلت بعد ما رجع من الحديبية:" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً" أي قضينا لك قضاء. فنسخت هذه الآية تلك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لقد أنزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم [. وقال المسعودي: بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله ذلك العام.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفتح (48): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
اختلف في هذا الفتح ما هو؟ ففي البخاري حدثني محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً" قال: الحديبية. وقال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية. وقال الفراء «2»: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا نعد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع عشرة مائة «3»، والحديبية بئر. وقال الضحاك:" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً" بغير قتال. وكان الصلح من الفتح. وقال مجاهد: هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه. وقال: كان فتح الحديبية آية عظيمة، نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقال موسى بن عقبة: قال رجل عند منصرفهم من الحديبية: ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا [. وقال الشعبي في قوله تعالى" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً" قال: هو فتح الحديبية، لقد أصاب بها ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان،
__________
(1). آية 9 سورة الأحقاف.
(2). في تفسير الطبري:" البراء". [.....]
(3). في تفسير الطبري:" خمس مائة".

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال الزهري: لقد كان الحديبية أعظم الفتوح، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال مجاهد أيضا والعوفي: هو فتح خبير. والأول أكثر، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى:" سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ" «1» [الفتح: 10] وقوله" وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ" «2» [الفتح: 20]. وقال مجمع بن جارية- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن-: شهدنا الحديبية مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون «3» الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فخرجنا نوجف «4» فوجدنا نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند كراع الغميم «5»، فلما اجتمع الناس قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً" فقال عمر بن الخطاب: أوفتح هو يا رسول الله؟ قال:] نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح [. فقسمت خيبر على أهل الحديبية، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية. وقيل: إن قوله تعالى" فَتْحاً" يدل على أن مكة فتحت عنوة»
، لان اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على ما فتح عنوة. هذا هو حقيقة الاسم. وقد يقال: فتح البلد صلحا، فلا يفهم الصلح إلا بأن يقرن بالفتح، فصار الفتح في الصلح مجازا. والاخبار دالة على أنها فتحت عنوة، وقد مضى القول فيها «7»، ويأتي.

[سورة الفتح (48): الآيات 2 الى 3]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
__________
(1). آية 15 من هذه السورة.
(2). آية 20 من هذه السورة.
(3). في ك: يهرعون.
(4). الإيجاف: سرعة السير.
(5). كراع الغميم: موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة.
(6). أي فتحت بالقتال، قوتل أهلها حتى غلبوا عليها.
(7). راجع ج 8 ص 2

قال ابن الأنباري: فَتْحاً مُبِيناً غير تام، لان قوله" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ" متعلق بالفتح. كأنه قال: إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة، فيجمع الله لك به ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة. وقال أبو حاتم السجستاني: هي لام القسم. وهذا خطأ، لان لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز هذا لجاز: ليقوم زيد، بتأويل ليقومن زيد. الزمخشري: فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الاربعة، وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قال: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ليجمع لك عز الدارين وأعراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للغفران والثواب. وفي الترمذي عن أنس قال: أنزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" مرجعه من الحديبية، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض [. ثم قرأها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا يا وسول الله، لقد بين الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه" لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ- حتى بلغ- فَوْزاً عَظِيماً" قال حديث حسن صحيح. وفية عن مجمع ابن جارية. واختلف أهل التأويل في معنى" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" فقيل:" ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ" قبل الرسالة." وَما تَأَخَّرَ" بعدها، قاله مجاهد. ونحوه قال الطبري وسفيان الثوري، قال الطبري: هو راجع إلى قوله تعالى" إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ- إلى قوله- تَوَّاباً" «1» [النصر: 3- 1]." لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ" قبل الرسالة" وَما تَأَخَّرَ" إلى وقت نزول هذه الآية وقال سفيان الثوري:" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ" ما عملته في الجاهلية من قبل أن يوحى إليك." وَما تَأَخَّرَ" كل شيء لم تعمله، وقاله الواحدي. وقد مضى الكلام في جريان الصغائر على الأنبياء في سورة" البقرة" «2»، فهذا قول. وقيل:
__________
(1). راجع ج 20 ص 229.
(2). راجع ج 1 ص 308 طبعه ثانية أو ثالثة.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)

" ما تَقَدَّمَ" قبل الفتح." وَما تَأَخَّرَ" بعد الفتح. وقيل:" ما تَقَدَّمَ" قبل نزول هذه الآية." وَما تَأَخَّرَ" بعدها. وقال عطاء الخراساني:" ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ" يعنى من ذنب أبويك آدم وحواء." وَما تَأَخَّرَ" من ذنوب أمتك. وقيل: من ذنب أبيك إبراهيم." وَما تَأَخَّرَ" من ذنوب النبيين. وقيل:" ما تَقَدَّمَ" من ذنب يوم بدر." وَما تَأَخَّرَ" من ذنب يوم حنين. وذلك أن الذنب المتقدم يوم بدر، أنه جعل يدعو ويقول:" اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا" وجعل يردد هذا القول دفعات، فأوحى الله إليه من أين تعلم أني لو أهلكت هذه العصابة لا أعبد أبدا، فكان هذا الذنب المتقدم. وأما الذنب المتأخر فيوم حنين، لما انهزم الناس قال لعمه العباس ولابن عمه أبي سفيان:] ناولاني كفا من حصباء الوادي [فناولاه فأخذه بيده ورمى به في وجوه المشركين وقال:] شاهت الوجوه. حم. لا ينصرون [فانهزم القوم عن آخرهم، فلم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. ثم نادى في أصحابه فرجعوا فقال لهم عند رجوعهم:] لو لم ارمهم لم ينهزموا [فأنزل الله عز وجل" وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى " «1» [الأنفال: 17] فكان هذا هو الذنب المتأخر. وقال أبو علي الروذباري: يقول لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك. قوله تعالى:" وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
" قال ابن عباس: في الجنة. وقيل: بالنبوة والحكمة. وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر. وقيل: بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر." وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً" أي يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه." وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً" أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل.

[سورة الفتح (48): آية 4]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
__________
(1). آية 17 سورة الأنفال.

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)

" السكينة": السكون والطمأنينة. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في" البقرة" «1». وتقدم معنى زيادة الايمان في" آل عمران" «2». وقال ابن عباس: بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله:" لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ" أي تصديقا بشرائع الايمان مع تصديقهم بالايمان. وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم. وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم." وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" قال ابن عباس: يريد الملائكة والجن والشياطين والانس" وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً" بأحوال خلقه" حَكِيماً" فيما يريده.

[سورة الفتح (48): آية 5]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)
أي أنزل السكينة ليزدادوا إيمانا. ثم تلك الزيادة بسبب إدخالهم الجنة. وقيل: اللام في" ليدخل" يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله:" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ"." وَكانَ ذلِكَ" أي ذلك الوعد من دخول مكة وغفران الذنوب." عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً" أي نجاة من كل غم، وظفرا بكل مطلوب. وقيل: لما قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فماذا لنا؟ فنزل" لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ" ولما قرأ" وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ" قالوا: هنيئا لك، فنزلت" وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" «3» [المائدة: 3] فلما قرأ" وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً" نزل في حق الامة" وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً" «4» [الفتح: 2]. ولما قال" وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً" [الفتح: 3] نزل" كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1). راجع ج 3 ص (248)
(2). راجع ج 4 ص (280)
(3). آية 3 سورة المائدة. [.....]
(4). آية 20 من هذه السورة.

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

" «1» [الروم: 47]. وهو كقوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً" «2».] الأحزاب: 56]. ثم قال:" هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ" «3» [الأحزاب: 43] ذكره القشيري.

[سورة الفتح (48): الآيات 6 الى 7]
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
قوله تعالى:" وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ" أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبأن يسلط النبي عليه السلام قتلا وأسرا واسترقاقا." الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ" يعني ظنهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم. كما قال:" بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً" [الفتح: 12]. وقال الخليل وسيبويه:" السَّوْءِ" هنا الفساد." عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ" في الدنيا بالقتل والسبي والأسر، وفي الآخرة جهنم. وقرا ابن كثير وأبو عمرو" دائِرَةُ السَّوْءِ" بالضم. وفتح الباقون. قال الجوهري: ساءه يسوءه سوءا (بالفتح) ومساءة ومساية، نقيض سره، والاسم السوء (بالضم). وقرى" عليهم دائرة السوء" يعني الهزيمة والشر. ومن فتح فهو من المساءة." وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً" تقدم في غير موضع جميعه، والحمد لله. وقيل: لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبي: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدو، فأين فارس والروم! فبين الله عز وجل أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم. وقيل: يدخل فيه
__________
(1). آية 47 سورة الروم.
(2). آية 56 سورة الأحزاب.
(3). آية 43 سورة الأحزاب.

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)

جميع المخلوقات. وقال ابن عباس:" وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ" الملائكة. وجنود الأرض المؤمنون. وأعاد لان الذي سبق عقيب ذكر المشركين من قريش، وهذا عقيب ذكر المنافقين وسائر المشركين. والمراد في الموضعين التخويف والتهديد. فلو أراد إهلاك المنافقين والمشركين لم يعجزه ذلك، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.

[سورة الفتح (48): الآيات 8 الى 9]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
قوله تعالى:" إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً" قال قتادة: على أمتك بالبلاغ. وقيل: شاهدا عليهم بأعمالهم من طاعة أو معصية. وقيل: مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم. وقيل: شاهدا عليهم يوم القيامة. فهو شاهد أفعالهم اليوم، والشهيد عليهم يوم القيامة. وقد مضى في" النساء" عن سعيد بن جبير «1» هذا المعنى مبينا." وَمُبَشِّراً" لمن أطاعه بالجنة." وَنَذِيراً" من النار لمن عصى، قاله قتادة وغيره. وقد مضى في" البقرة" اشتقاق البشارة والنذارة ومعناهما «2». وانتصب" شاهدا ومبشرا ونذيرا" على الحال المقدرة. حكى سيبويه: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، فالمعنى: إنا أرسلناك مقدرين بشهادتك يوم القيامة. وعلى هذا تقول: رأيت عمرا قائما غدا." لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ" قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو" ليؤمنوا" بالياء، وكذلك" يعزروه ويوقروه ويسبحوه" كله بالياء على الخبر. واختاره أبو عبيد لذكر المؤمنين قبله وبعده، فأما قبله فقوله" لِيُدْخِلَ" وأما بعده فقوله" إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ" [الفتح: 10] الباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم." وَتُعَزِّرُوهُ" أي تعظموه وتفخموه، قاله الحسن والكلبي. والتعزير: التعظيم والتوقير. وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه. ومنه التعزير في الحد. لأنه مانع. قال القطامي:
__________
(1). يلاحظ أن الذي مضى في سورة النساء هو: سعيد بن المسيب. راجع ج 5 ص 197 وما بعدها.
(2). راجع ج 1 ص 184، 238 طبعه ثانية أو ثالثة.

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

ألا بكرت مي بغير سفاهة ... تعاتب والمودود ينفعه العزر
وقال ابن عباس وعكرمة: تقاتلون معه بالسيف. وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه." وَتُوَقِّرُوهُ" أي تسودوه، قاله السدي. وقيل تعظموه. والتوقير: التعظيم والترزين أيضا. والهاء فيهما للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهنا وقف تام، ثم تبتدئ" وَتُسَبِّحُوهُ" أي تسبحوا الله" بُكْرَةً وَأَصِيلًا" أي عشيا. وقيل: الضمائر كلها لله تعالى، فعلى هذا يكون تأويل" تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ" أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. واختار هذا القول القشيري. والأول قول الضحاك، وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وتعالى وهو" وَتُسَبِّحُوهُ" من غير خلاف. وبعضه راجعا إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو" وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ" أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وفي" تُسَبِّحُوهُ" وجهان: أحدهما- تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح. والثاني- هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح." بُكْرَةً وَأَصِيلًا" أي غدوة وعشيا. وقد مضى القول «1» فيه. وقال الشاعر:
لعمري لانت البيت أكرم أهله ... وأجلس في أفيائه بالاصائل «2»

[سورة الفتح (48): آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ" بالحديبية يا محمد." إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ" بين أن بيعتهم لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هي بيعة الله، كما قال تعالى:" مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ" «3» [النساء: 80]. وهذه المبايعة هي بيعة الرضوان، على ما يأتي بيانها في هذه السورة إن شاء الله تعالى." يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ" قيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة. وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا
__________
(1). راجع ج 14 ص (198)
(2). البيت لابي ذؤيب.
(3). آية 80 سورة النساء.

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)

من البيعة. وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم." فَمَنْ نَكَثَ" بعد البيعة." فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ" أي يرجع ضرر النكث عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب." وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ" قيل في البيعة. وقيل في إيمانه." فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً" يعنى في الجنة. وقرا حفص والزهري" عليه" بضم الهاء. وجرها الباقون. وقرا نافع وابن كثير وابن عامر" فسنؤتيه" بالنون. واختاره الفراء وأبو معاذ. وقرا الباقون بالياء. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقرب اسم الله منه.

[سورة الفتح (48): آية 11]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)
قوله تعالى:" سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ" قال مجاهد وابن عباس: يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل، وهم الاعراب الذين كانوا حول المدينة، تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت. وإنما قال:" الْمُخَلَّفُونَ" لان الله خلفهم عن صحبة نبيه. والمخلف المتروك. وقد مضى في" براءة" «1»." شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا" أي ليس لنا من يقوم بهما." فَاسْتَغْفِرْ لَنا" جاءوا يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم، ففضحهم الله تعالى بقوله:" يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ" وهذا هو النفاق المحض." قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا" قرأ حمزة والكسائي" ضرا" بضم الضاد هنا فقط، أي أمرا يضركم. وقال ابن عباس: الهزيمة.
__________
(1). راجع ج 8 ص 216

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)

الباقون بالفتح، وهو مصدر ضررته ضرا. وبالضم اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأنه قابله بالنفع وهو ضد الضر. وقيل: هما لغتان بمعنى، كالفقر والفقر والضعف والضعف." أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً" أي نصرا وغنيمة. وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع.

[سورة الفتح (48): آية 12]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)
قوله تعالى:" بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً" وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة «1» رأس لا يرجعون." وَزُيِّنَ ذلِكَ" أي النفاق." فِي قُلُوبِكُمْ" وهذا التزيين من الشيطان، أو يخلق الله ذلك في قلوبهم." وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ" أن الله لا ينصر رسوله." وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً" أي هلكى، قاله مجاهد. وقال قتادة: فاسدين لا يصلحون لشيء من الخير. قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال عبد الله بن الزبعري السهمي:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
وامرأة بور أيضا، حكاه أبو عبيد. وقوم بور هلكى. قال تعالى:" وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً" وهو جمع بائر، مثل حائل وحول. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله أي أهلكه. وقيل:" بُوراً" أشرارا، قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت:
لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد ... يهدي الاله سبيل المعشر البور «2»
أي الهالك.
__________
(1). أي هم قليل يشبعهم رأس واحد.
(2). ورد هذا البيت في الأصول محرفا.

وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)

[سورة الفتح (48): آية 13]
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)
وعيد لهم، وبيان أنهم كفروا بالنفاق.

[سورة الفتح (48): آية 14]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
أي هو غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى.

[سورة الفتح (48): آية 15]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
قوله تعالى:" سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها" يعني مغانم خيبر، لان الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسهم من حضر. قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين." ذرونا نتبعكم" أي دعونا. تقول: ذره، أي دعه. وهو يذره، أي يدعه. وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه. وقد أميت صدره «1»، لا يقال: وذره ولا وأذر، ولكن تركه وهو تارك. قال مجاهد: تخلفوا عن الخروج إلى مكة، فلما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واخذ قوما
__________
(1). هذه العبارة الأصل وصحاح الجوهري. وعبارة اللسان:" والعرب قد أماتت المصدر من" يذر" والفعل الماضي، فلا يقال ..." إلخ.

ووجه بهم قالوا ذرونا نتبعكم فنقاتل معكم." يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ" أي يغيروا. قال ابن زيد: هو قوله تعالى" فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا" «1» [التوبة: 83] الآية. وأنكر هذا القول الطبري وغيره، بسبب أن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة. وقيل: المعنى يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد لأهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح، قاله مجاهد وقتادة، واختاره الطبري وعليه عامة أهل التأويل. وقرا حمزة والكسائي" كلم" بإسقاط الالف وكسر اللام جمع كلمة، نحو سلمة وسلم. الباقون" كلام" على المصدر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اعتبارا بقوله" إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي" «2» [الأعراف: 144]. والكلام: ما استقل بنفسه من الجمل. قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير. والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة، مثل نبقة ونبق. ولهذا قال سيبويه: (هذا باب علم ما الكلم من العربية) ولم يقل ما الكلام، لأنه أراد نفس ثلاثة أشياء: الاسم والفعل والحرف، فجاء بما لا يكون إلا جمعا، وترك ما يمكن أن يقع على الواحد والجماعة. وتميم تقول: هي كلمة، بكسر الكاف، وقد مضى في" براءة" القول فيها «3»." كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ" أي من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة." فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا" أن نصيب معكم من الغنائم. وقيل قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،] إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم [. فقالوا: هذا حسد. فقال المسلمون: قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه وهو قوله تعالى" فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا" فقال الله تعالى" بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا" يعني لا يعلمون إلا أمر الدنيا. وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، وهو ترك القتال.
__________
(1). آية 83 سورة التوبة. [.....]
(2). آية 144 سورة الأعراف.
(3). راجع ج 8 ص 149]]

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)

[سورة الفتح (48): آية 16]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ" أي قل لهؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية." سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ" قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني: هم فارس. وقال كعب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى: الروم. وعن الحسن أيضا: فارس والروم. وقال ابن جبير: هوازن وثقيف. وقال عكرمة: هوازن. وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهري ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة. وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى" سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ" فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد. وظاهر الآية يرده. الثانية- في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لان أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم. وأما قول عكرمة وقتادة إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا، لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه السلام، لأنه قال" لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا" «1» فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الزمخشري: فإن صح ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين.
__________ (1). آية 83 سورة التوبة.

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

أو على قول مجاهد كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم. والله أعلم «1». الثالثة- قوله تعالى:" تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ" هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهو معطوف على" تُقاتِلُونَهُمْ" أي يكون أحد الأمرين، إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما. وفي حرف أبي" أو يسلموا" بمعنى حتى يسلموا، كما تقول: كل أو تشبع، أي حتى تشبع. قال:
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا «2»
وقال الزجاج: قال" أَوْ يُسْلِمُونَ" لان المعنى أو هم يسلمون من غير قتال. وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب. الرابعة- قوله تعالى:" فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً" الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة." وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ" عام الحديبية." يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً" وهو عذاب النار.

[سورة الفتح (48): آية 17]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
قال ابن عباس: لما نزلت" وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً" قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت" لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ" أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد لعماهم وزمانتهم وضعفهم. وقد مضى في" براءة" وغيرها الكلام فيه مبينا «3». والعرج: آفة تعرض لرجل واحدة، وإذا كان ذلك مؤثرا فخلل الرجلين أولى أن يؤثر. وقال مقاتل: هم أهل الزمانة
__________
(1). زيادة من ب ز ك ن.
(2). البيت لامرئ القيس.
(3). راجع ج 8 ص 226 وج 12 ص 312

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم. أي من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل." وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" فيما أمره." يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" قرأ نافع وابن عامر" ندخله" بالنون على التعظيم. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لتقدم اسم الله أولا." وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً".

[سورة الفتح (48): الآيات 18 الى 19]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
قوله تعالى:" لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" هذه بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وهذا خبر الحديبية على اختصار: وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام منصرفه من غزوة بني المصطلق في شوال، وخرج في ذي القعدة معتمرا، واستنفر الاعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة. وقيل: ألف وخمسمائة. وقيل غير هذا، على ما يأتي. وساق معه الهدي، فأحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشا خرج جمعهم صادين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الحرام ودخول مكة، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى (كراع الغميم) «1» فورد الخبر بذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو (بعسفان) «2» وكان المخبر له بشر بن سفيان الكعبي، فسلك طريقا يخرج به في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيهم رجل من أسلم، فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد، جرت إلى قريش تعلمهم بذلك،
__________
(1). لسمم موضع بين مكة والمدينة.
(2). عسفان (بضم أوله وسكون ثانيه): منهلة من مناهل الطريق بين الحجفة ومكة. وقيل: على مرحلتين من مكة على طريق المدينة. (معجم البلدان).

فلما وصل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية «1» بركت ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال الناس: خلات! خلات! «2» فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ما خلات وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها [. ثم نزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هناك، فقيل: يا رسول الله، ليس بهذا الوادي ماء! فأخرج عليه الصلاة والسلام سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرواء»
حتى كفى جميع الجيش. وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي وهو سائق بدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ. وقيل: نزل بالسهم في القليب البراء بن عازب، ثم جرت السفراء بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاءه سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمرا ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح، حاشا السيوف في قربها فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين، فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا، فقال لأصحابه.] اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه [فأنس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم، وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصلح: من محمد رسول الله، وقالوا له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد! فلا بد أن تكتب: باسمك اللهم. فقال لعلي وكان يكتب صحيفة الصلح:] امح يا علي، واكتب باسمك اللهم [فأبى علي أن يمحو بيده" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] اعرضه علي [فأشار إليه فمحاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وأمره أن
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ك.
(2). خلات الناقة: حزنت وبركت من غير علة.
(3). الرواء: الكثير.

يكتب ] من محمد بن عبد الله [. وأتى أبو جندل بن سهيل يومئذ بأثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده، فرده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبيه، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبر أبا جندل ] أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا [. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولا، فجاء خبر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة، فروي أنه بايعهم على الموت. وروي أنه بايعهم على ألا يفروا. وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة، التي أخبر الله تعالى أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتها. وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم لا يدخلون النار. وضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيمينه على شماله لعثمان، فهو كمن شهدها. وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أول من بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية أبو سفيان الأسدي. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة «1»، وقال: بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت. وعنه أنه سمع جابرا يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره. وعن سالم بن أبي الجعد قال: سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشجرة. فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة. وفي رواية: كنا خمس عشرة مائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين. وعن يزيد بن أبي عبيد قال قلت لسلمة: على أي شيء بايعتم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية؟ قال: على الموت. وعن البراء بن عازب قال: كتب علي رضي الله عنه الصلح بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فقالوا:
__________
(1). السمرة: شجر الطلح.

لا تكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي:] امحه [. فقال: ما أنا بالذي أمحاه «1»، فمحاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده. وكان فيما اشترطوا: أن يدخلوا مكة فيقيموا فيها ثلاثا، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح.] قلت لابي إسحاق: وما جلبان السلاح؟ قال: «2» [القراب وما فيه. وعن أنس: أن قريشا صالحوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي:] اكتب بسم الله الرحمن الرحيم [فقال سهيل بن عمرو: أما باسم «3» الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم. فقال:] اكتب من محمد رسول الله [قالوا: لو علمنا أنك رسوله لاتبعناك! ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] اكتب من محمد بن عبد الله [فاشترطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا! قال:] نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا [. وعن أبي وائل قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس، اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين. فجاء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال ] بلى [قال. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال ] بلى [قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال ] يا بن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا [قال: فانطلق عمر، فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا بن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى
__________
(1). أمحاه: لغة في أمحوه.
(2). زيادة عن مسلم. [.....]
(3). قوله:" أما باسم الله ..." أي فنحن ندريه. وأما البسملة التي تذكرها بتمامها فما ندريها.

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)

الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال ] نعم [. فطابت نفسه ورجع. قوله تعالى:" فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ" من الصدق والوفاء، قاله الفراء. وقال ابن جريج وقتادة: من الرضا بأمر البيعة على ألا يفروا. وقال مقاتل: من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت." فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ" حتى بايعوا وقيل:" فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ" من الكآبة بصد المشركين إياهم وتخلف رؤيا النبي صلى الله على وسلم عنهم، إذا رأى أنه يدخل الكعبة، حتى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إنما ذلك رؤيا منام [. وقال الصديق: لم يكن فيها الدخول في هذا العام. والسكينة: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. وقيل الصبر." وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً" قال قتادة وابن أبي ليلى: فتح خيبر. وقيل فتح مكة. وقرى" وآتاهم"" وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها" يعني أموال خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة. ف" مَغانِمَ" على هذا بدل من" فَتْحاً قَرِيباً" والواو مقحمة. وقيل:" وَمَغانِمَ" فارس والروم.

[سورة الفتح (48): آية 20]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)
قوله تعالى:" وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها" قال ابن عباس ومجاهد. إنها المغانم التي تكون إلى يوم القيامة. وقال ابن زيد: هي مغانم خيبر." فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ" أي خيبر، قاله مجاهد. وقال ابن عباس: عجل لكم صلح الحديبية." وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ" يعني أهل مكة، كفهم عنكم بالصلح. وقال قتادة: كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية وخيبر. وهو اختيار الطبري، لان كف أيدي المشركين بالحديبية مذكور في قوله" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ" «1» [الفتح: 24]. وقال ابن
__________
(1). آية 24 من هذه السورة.

وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)

عباس: في" كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ" يعني عيينة بن حصن الفزاري وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما، إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محاصر لهم، فألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين" وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ" أي ولتكون هزيمتهم وسلامتكم آية للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم. وقيل: أي ولتكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين. وقيل: أي ولتكون هذه التي عجلها لكم آية للمؤمنين على صدقك حيث وعدتهم أن يصيبوها. والواو في" وَلِتَكُونَ" مقحمة عند الكوفيين. وقال البصريون: عاطفة على مضمر، أي وكف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية للمؤمنين." وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً" أي يزيدكم هدى، أو يثبتكم على الهداية.

[سورة الفتح (48): آية 21]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)
قوله تعالى:" وَأُخْرى "" أخرى" معطوفة على" هذِهِ"، أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى." لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها" قال ابن عباس: هي الفتوح التي فتحت على المسلمين، كأرض فارس والروم، وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هي خيبر، وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وعن الحسن أيضا وقتادة: هو فتح مكة. وقال عكرمة: حنين، لأنه قال" لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها". وهذا يدل على تقدم محاولة لها وفوات درك المطلوب في الحال كما كان في مكة، قاله القشيري. وقال مجاهد: هي ما يكون إلى يوم القيامة. ومعنى" قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها" أي أعدها لكم، فهي كالشيء الذي قد أحيط به من جوانبه، فهو محصور لا يفوت، فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل:" أَحاطَ اللَّهُ بِها" علم أنها ستكون لكم، كما قال" وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً" «1» [الطلاق: 12]. وقيل: حفظها الله عليكم. ليكون فتحها لكم." وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً".
__________
(1). آية 12 سورة الطلاق.] [

وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)

[سورة الفتح (48): الآيات 22 الى 23]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)
قوله تعالى:" وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ" قال قتادة: يعني كفار قريش في الحديبية. وقيل:" وَلَوْ قاتَلَكُمُ" غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر، لكانت الدائرة عليهم." ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ" يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه. وانتصب" سُنَّةَ"
على المصدر. وقيل:" سُنَّةَ اللَّهِ" أي كسنة الله. والسنة الطريقة والسيرة. قال:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها «1»
والسنة أيضا: ضرب من تمر المدينة." وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا".

[سورة الفتح (48): آية 24]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
قوله تعالى:" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ" وهي الحديبية." مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ" روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جبل التنعيم «2» متسلحين يريدون غرة «3» النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فأخذناهم «4» سلما
__________
(1). البيت لخالد بن عتبة الهذلي.
(2). التنعيم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف.
(3). الغرة (بالكسر): الغفلة، أي يريدون أن يصادفوا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أصحابه غفلة من التأهب لهم.
(4). رواية مسلم:" فأخذهم سلما فاستحياهم". وقوله" سلما" قال ابن الأثير:" يروي بكسر السين وفتحها، وهما لغتان في الصلح، وهو المراد في الحديث على ما فسره الحميدي في غريبه. وقال الخطابي: إنه السلم، بفتح السين واللام، يريد الاستسلام والإذعان .... وهذا هو الأشبه بالقضية، فإنهم لم يؤخذوا عن صلح وإنما أخذوا قهرا وأسلموا أنفسهم عجزا ...".

فاستحييناهم، فأنزل الله تعالى" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ". وقال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ الله بأبصارهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا [. قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى:" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ" الآية. وذكر ابن هشام عن وكيع: وكانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين رجلا أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، فأطلقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم الذين يسمون العتقاء، ومنهم معاوية وأبوه. وقال مجاهد: أقبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمرا، إذ أخذ أصحابه ناسا من الحرم غافلين فأرسلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذلك الاظفار ببطن مكة. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلا فأتوا باثني عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هل لكم علي ذمة [؟ قالوا لا؟ فأرسلهم فنزلت. وقال ابن أبزى والكلبي: هم أهل الحديبية، كف الله أيديهم عن المسلمين حتى وقع الصلح، وكانوا خرجوا بأجمعهم وقصدوا المسلمين، وكف أيدي المسلمين عنهم. وقد تقدم أن خالد بن الوليد كان في خيل المشركين. قال القشيري «1»: فهذه رواية، والصحيح أنه كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك الوقت. وقد قال سلمة بن الأكوع: كانوا في أمر الصلح إذ أقبل أبو سفيان، فإذا الوادي يسير بالرجال والسلاح، قال: فجئت بستة من المشركين أسوقهم متسلحين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فأتيت بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان عمر قال في الطريق: يا رسول الله، نأتي قوما حربا وليس معنا سلاح ولا كراع؟ فبعث
__________
(1). وجد في هامش ك بخط الناسخ ما نصه: حاشية تعقب بعضهم هذا الكلام وقال: هذا باطل وإنما أسلم خالد بن وليد بعد الحديبية بزمن كثير. قال: وإن كان ابن عبد البر ذكر أنه كان على خيل المسلمين بالحديبية فإنه وهم. قال بعضهم: حاشا ابن عبد البر أن يظن به هذا وقد تقدم بورقتين: أنه كان على خيل المشركين يومئذ وهذا أمر معلوم ولكن القشيري ليس هذا من علمه والمؤلف ينقل ما وجد وخالد أسلم بعد الحديبية بستة أشهر.

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة من الطريق فأتوه بكل سلاح وكراع كان فيها، وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عكرمة بن أبي جهل خرج إليك في خمسمائة فارس، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد بن الوليد:] هذا ابن عمك أتاك في خمسمائة [. فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، فيومئذ سمي بسيف الله، فخرج ومعه خيل وهزم الكفار ودفعهم إلى حوائط مكة. وهذه الرواية أصح، وكان بينهم قتال بالحجارة، وقيل بالنبل والظفر «1». وقيل: أراد بكف اليد أنه شرط في الكتاب أن من جاءنا منهم فهو رد عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول عليه السلام إلى المشركين فلحقوا بالساحل، ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل. وقيل: همت غطفان وأسد منع المسلمين من يهود خيبر، لأنهم كانوا حلفاءهم فمنعهم الله عن ذلك، فهو كف اليد." بِبَطْنِ مَكَّةَ" فيه قولان: أحدهما- يريد به مكة. الثاني- الحديبية، لان بعضها مضاف إلى الحرم. قال الماوردي: وفي قوله" مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ" بفتح مكة. تكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحا، لقوله عز وجل:" كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ". قلت: الصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين. وروى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن ثمانين هبطوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى:" وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ" الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد تقدم. وأما فتح مكة فالذي تدل عليه الاخبار أنها إنما فتحت عنوة، وقد مضى القول في ذلك في" الحج" «2» وغيرها." وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً".
__________
(1). الظفر (بالضم): طرف القوس.
(2). راجع ج 12 ص 33

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)

[سورة الفتح (48): آية 25]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)
قوله تعالى:" هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ". فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا" يعني قريشا، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه، وأدخل الانس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيانه ووعده. الثانية- قوله تعالى:" وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً" أي محبوسا. وقيل موقوفا «1». وقال أبو عمرو ابن العلاء: مجموعا. الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفا، ومنه قوله تعالى:" وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً"، يقال: ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس." أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ" أي منحره، قاله الفراء. وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرم. وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه، المحصر محل هديه الحرم. والمحل (بكسر الحاء): غاية الشيء. (وبالفتح): هو الموضع الذي يحله الناس. وكان الهدي سبعين بدنة، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا. وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في" البقرة" عند قوله تعالى" فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ" «2» والصحيح ما ذكرناه. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر
__________
(1). في الأصول:" واقفا".
(2). راجع ج 2 ص 371 طبعه ثانية.

ابن عبد الله قال: نحرنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. وعنه قال: اشتركنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة. فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن. وحضر جابر الحديبية قال: ونحرنا يومئذ سبعين بدنة، اشتركنا كل سبعة في بدنة. وفي البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدنة وحلق رأسه. قيل: إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقالت له أم سلمة: لو نحرت لنحروا، فنحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه ونحروا بنحره، وحلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. وراي كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه، فقال:] أيؤذيك هوامك [؟ قال نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية. خرجه البخاري والدارقطني. وقد مضى في" البقرة" «1». الثالثة- قوله تعالى:" وَالْهَدْيَ" الهدى والهدى لغتان. وقرى" حتى يبلغ الهدي محله" بالتخفيف والتشديد، الواحدة هدية. وقد مضى في" البقرة" «2» أيضا. وهو معطوف على الكاف والميم من" صَدُّوكُمْ". و" مَعْكُوفاً" حال، وموضع" أَنْ" من قوله" أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ" نصب على تقدير الحمل على" صَدُّوكُمْ" أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ. ويجوز أن يكون مفعولا له، كأنه قال: وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله. أبو علي: لا يصح حمله على العكف، لأنا لا نعلم" عكف" جاء متعديا، ومجيء" مَعْكُوفاً" في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك، كما حما الرفث على معنى الإفضاء فعدى بإلى، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه، وجرا على قياس
__________
(1). راجع ج 2 ص 383 طبعه ثانية.
(2). ج 2 ص 378. [.....]

قول الخليل. أو يكون مفعولا له، كأنه قال: محبوسا كراهية أن يبلغ محله. ويجوز تقدير الجر في" أن" لان عن تقدمت، فكأنه قال: وصدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي" عن" أن يبلغ محله. ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس: مررت برجل إن زيد وإن عمرو، فأضمر الجار لتقدم ذكره. قوله تعالى:" وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ" فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ" يعنى المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار، كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة أبي جندل بن سهيل، وأشباههم." لَمْ تَعْلَمُوهُمْ" أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون." أَنْ تَطَؤُهُمْ" بالقتل والإيقاع بهم، يقال: وطئت القوم، أي أوقعت بهم. و" أن" يجوز أن يكون رفعا على البدل من" رجال، ونساء" كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات. ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في" تَعْلَمُوهُمْ"، فيكون التقدير: لم تعلموا وطأهم، وهو في الوجهين بدل الاشتمال." لَمْ تَعْلَمُوهُمْ" نعت ل" رجال" و" نساء". وجواب" لَوْ لا" محذوف، والتقدير: ولو أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لاذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكنا صنا من كان فيها يكتم إيمانه خوفا. وقال الضحاك: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطئوا آباءهم فتهلك أبناؤهم. الثانية- قوله تعالى:" فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ" المعرة العيب، وهي مفعلة من العر وهو الجرب، أي يقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم. وقيل: المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، لان الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله:" فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ" [النساء: 92] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما. وقد مضى

في" النساء" القول فيه «1». وقال ابن زيد:" مَعَرَّةٌ" إثم. وقال الجوهري وابن إسحاق: غرم الدية. قطرب: شدة. وقيل غم. الثالثة- قوله تعالى:" بِغَيْرِ عِلْمٍ" تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد. وهذا كما وصفت النملة عن جند سليمان عليه السلام في قولها:" لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" «2» [النمل: 18]. قوله تعالى:" لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا" فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ" اللام في" لِيُدْخِلَ" متعلقة بمحذوف، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته. ويجوز أن تتعلق بالايمان. ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين، لان الجميع يدخلون في الرحمة. وقيل: المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه، ودخلوا في رحمته، أي جنته. الثانية- قوله تعالى:" لَوْ تَزَيَّلُوا" أي تميزوا، قاله القتبي. وقيل: لو تفرقوا، قاله الكلبي. وقيل: لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، قاله الضحاك. ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار. وقال علي رضي الله عنه: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية" لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا" فقال:] هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما [. الثالثة- هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن أذائه الكافر إلا بأذية المؤمن. قال أبو زيد قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم،
__________
(1). راجع ج 5 ص (323)
(2). آية 18 سورة النمل.] [

أيحرق هذا الحصن أم لا؟ قال: سمعت مالكا وسيل عن قوم من المشركين في مراكبهم أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم؟ قال: فقال مالك لا أرى ذلك، لقوله تعالى لأهل مكة:" لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً". وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة. فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والديه على عواقلهم. فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا. وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة. قال ابن العربي:" وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف، لان من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال:" وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ" وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل. وكذلك قال مالك: وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا. وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم. ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة. وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية. وقال الشافعي بقولنا. وهذا ظاهر، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز، سيما بروح المسلم، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه. والله أعلم." قلت: قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية. فمعنى كونها ضرورية، أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية، أنها قاطعة لكل الامة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الامة. ومعنى كونها

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

قطعية، أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، لان الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم. والله أعلم. الرابعة- قراءة العامة" لَوْ تَزَيَّلُوا" إلا أبا حيوة فإنه قرأ" تزايلوا" وهو مثل" تزيلوا" في المعنى. والتزايل: التباين. و" تزيلوا" تفعلوا، من زلت. وقيل: هي تفيعلوا." لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا" قيل: اللام جواب لكلامين، أحدهما:" لَوْ لا رِجالٌ" والثاني-" لَوْ تَزَيَّلُوا". وقيل جواب" لَوْ لا" محذوف، وقد تقدم." ولَوْ تَزَيَّلُوا" ابتداء كلام.

[سورة الفتح (48): آية 26]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
العامل في" إِذْ" قوله تعالى:" لَعَذَّبْنَا" أي لعذبناهم إذ جعلوا هذا. أو فعل مضمر تقديره واذكروا." الْحَمِيَّةَ" فعيلة وهي الأنفة. يقال: حميت عن كذا حمية (بالتشديد) ومحمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. ومنه قول المتلمس:
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم ... كذي الأنف يحمي أنفه أن يكشما «1»
أي يمنع. قال الزهري: حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة
__________
(1). الكشم: قطع الأنف باستيصال.

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)

والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من دخول مكة. وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله: سهيل بن عمرو، على ما تقدم. وقال ابن بحر: حميتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها. وقيل:" حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ" إنهم قالوا: قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبدا." فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ" أي الطمأنينة والوقار." عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ". وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية." وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى " قيل لا إله إلا الله. روي مرفوعا من حديث أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو قول علي وابن عمر وابن عباس، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك، وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مصرف، والربيع والسدي وابن زيد. وقاله عطاء الخراساني، وزاد" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". وعن علي وابن عمر أيضا هي لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال الزهري: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني أن المشركين لم يقروا بهذه الكلمة، فخص الله بها المؤمنين. و" كَلِمَةَ التَّقْوى " هي التي يتقى بها من الشرك. وعن مجاهد أيضا أن" كَلِمَةَ التَّقْوى " الإخلاص." وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها" أي أحق بها من كفار مكة، لان الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه." وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً".

[سورة الفتح (48): آية 27]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)
قال قتادة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

إنه يدخل مكة، فأنزل الله تعالى" لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ" فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق. وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتا بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأن رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء." لَتَدْخُلُنَّ" أي في العام القابل" الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ" قال ابن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه، خوطب في منامه بما جرت به العادة، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ولهذا استثنى، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى:" وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ" «1» [الكهف: 24- 23]. وقيل: خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال" وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ". وقيل: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، قاله ثعلب. وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قاله الحسين بن الفضل. وقيل: الاستثناء من" آمِنِينَ"، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة. وقيل: معنى" إِنْ شاءَ اللَّهُ" إن أمركم الله بالدخول. وقيل: أي إن سهل الله. وقيل:" إِنْ شاءَ اللَّهُ" أي كما شاء الله. وقال أبو عبيدة:" إن" بمعنى" إذ"، أي إذ شاء الله، كقوله تعالى" اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" «2» [البقرة: 278] أي إذ كنتم. وفية بعد، لان" إذ" في الماضي من الفعل، و" إذا" في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلقه بشرط المشيئة، وذلك عام الحديبية، فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا، ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتد عليهم وصالحهم ورجع، ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله" لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ". وإنما قيل له في المنام" لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ" فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام، فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك، والله تعالى لا يشك، و" لَتَدْخُلُنَّ" تحقيق فكيف يكون شك. ف" إن" بمعنى" إذا"." آمِنِينَ" أي من العدو."
__________
(1). آية 23 سورة الكهف.
(2). آية 278 سورة البقرة.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ" والتحليق والتقصير جميعا للرجال، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل، وليس للنساء إلا التقصير. وقد مضى القول في هذا في" البقرة" «1». وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المروة بمشقص. وهذا كان في العمرة لا في الحج، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلق في حجته." لا تَخافُونَ" حال من المحلقين والمقصرين، والتقدير: غير خائفين." فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا" أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خيبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر واخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوه وعدة بأضعاف ذلك. وقال الكلبي: أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم. وقيل: علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم." فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً" أي من دون رؤيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتح خيبر، قاله ابن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد: هو صلح الحديبية، وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري: ما فتح الله في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية، لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف.

[سورة الفتح (48): آية 28]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)
قوله تعالى:" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ" يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" أي يعليه على كل الأديان. فالدين اسم بمعنى المصدر،
__________
(1). راجع ج 2 ص 381 طبعه ثانية.

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

ويستوي لفظ الواحد والجمع فيه. وقيل: أي ليظهر رسوله على الدين كله، أي على الدين الذي هو شرعه بالحجة ثم باليد والسيف، ونسخ ما عداه." وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً"" شَهِيداً" نصب على التفسير، والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهادته له تبين صحة نبوته بالمعجزات. وقيل:" شَهِيداً" على ما أرسل به، لان الكفار أبو اأن يكتبوا: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله.

[سورة الفتح (48): آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى:" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"" مُحَمَّدٌ" مبتدأ و" رسول" خبره. وقيل:" محمد" ابتداء و" رَسُولُ اللَّهِ" نعته." وَالَّذِينَ مَعَهُ" عطف على المبتدأ، والخبر فيما بعده، فلا يوقف على هذا التقدير على" رَسُولُ اللَّهِ". وعلى الأول يوقف على" رَسُولُ اللَّهِ"، لان صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف به أصحابه، فيكون" محمد" ابتداء و" رَسُولُ اللَّهِ" الخبر" وَالَّذِينَ مَعَهُ" ابتداء ثان. و" أَشِدَّاءُ" خبره و" رُحَماءُ" خبر ثان. وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأشبه. قال ابن عباس: أهل الحديبية أشداء على الكفار، أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته. وقيل: المراد ب" الَّذِينَ مَعَهُ" جميع المؤمنين." رُحَماءُ بَيْنَهُمْ" أي يرحم بعضهم بعضا. وقيل:

متعاطفون متوادون. وقرا الحسن" أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ" بالنصب على الحال، كأنه قال: والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم." تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً" إخبار عن كثرة صلاتهم." يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً" أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى. الثانية- قوله تعالى:" سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ" السيما العلامة، وفيها لغتان: المد والقصر، أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر. وفي سنن ابن ماجة قال: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار [. وقال ابن العربي: ودسه قوم في حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه الغلط، وليس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه ذكر بحرف. وقد روى ابن وهب عن مالك" سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ" ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود، وبه قال سعيد بن جبير. وفي الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف «1» المسجد وكان على عريش، فانصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين. وقال الحسن: هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة. وقاله سعيد بن جبير أيضا، ورواه العوفي عن ابن عباس، قاله الزهري. وفي الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أبي هريرة، وفية:] حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود [. وقال شهر بن حوشب: يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال ابن عباس ومجاهد: السيماء في الدنيا وهو السمت الحسن. وعن مجاهد أيضا: هو الخشوع والتواضع. قال
__________
(1). أي قطر سقفه.

منصور: سألت مجاهدا عن قوله تعالى" سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ" أهو أثر يكون بين عيني الرجل؟ قال لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة! ولكنه نور في وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريج: هو الوقار والبهاء. وقال شمر بن عطية: هو صفرة الوجه من قيام الليل. قال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال الضحاك: أما انه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة. وقال سفيان الثوري: يصلون بالليل فإذا أصبحوا رؤي ذلك في وجوههم، بيانه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار [. وقد مضى القول فيه آنفا. وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. الثالثة- قوله تعالى:" ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ" قال الفراء: فيه وجهان، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا، كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على" الْإِنْجِيلِ" وإن شئت قلت: تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة، ثم ابتداء فقال ومثلهم في الإنجيل. وكذا قال ابن عباس وغيره: هما مثلان، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل، فيوقف على هذا على" التَّوْراةِ". وقال مجاهد: هو مثل واحد، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل، فلا يوقف على" التَّوْراةِ" على هذا، ويوقف على" الْإِنْجِيلِ". ويبتدئ" كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ" على معنى وهم كزرع. و" شَطْأَهُ" يعني فراخه وأولاده، قاله ابن زيد وغيره. وقال مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. قال الجوهري: شطء الزرع والنبات فراخه، والجمع أشطاء. وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه. قال الأخفش في قوله" أَخْرَجَ شَطْأَهُ" أي طرفه. وحكاه الثعلبي عن الكسائي. وقال الفراء: أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج. قال الشاعر:
أخرج الشطء على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر
الزجاج: أخرج شطأه أي نباته. وقيل: إن الشطء شوك السنبل، والعرب أيضا تسميه: السفا، وهو شوك البهمى «1»، قاله قطرب. وقيل: إنه السنبل، فيخرج من الحبة
__________
(1). البهمى: نبت تجد الغنم وجدا شديدا ما دام أخضر.

عشر سنبلات وتسع وثمان، قاله الفراء، حكاه الماوردي. وقرا ابن كثير وابن ذكوان" شطأه" بفتح الطاء، وأسكن الباقون. وقرا أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب" شطأه" مثل عصاه. وقرا الجحدري وابن أبي إسحاق" شطه" بغير همز، وكلها لغات فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه. فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان. وقال قتادة: مثل أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر." فَآزَرَهُ" أي قواه وأعانه وشده، أي قوى الشطء الزرع. وقيل بالعكس، أي قوى الزرع الشطء. وقراءة العامة" آزره" بالمد. وقرا ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس" فآزره" مقصورة، مثل فعله. والمعروف المد. قال امرؤ القيس:
بمحنية «1» قد آزر الضال نبتها ... مجر جيوش غانمين وخيب
" فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ" على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له. والسوق: جمع الساق." يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ" أي يعجب هذا الزرع زراعة. وهو مثل كما بينا، فالزرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشطء أصحابه، كانوا قليلا فكثروا، وضعفاء فقووا، قاله الضحاك وغيره." لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ" اللام متعلقة بمحذوف، أي فعل الله هذا لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ليغيظ بهم الكفار. الرابعة- قوله تعالى:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا" أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة." مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً" أي ثوابا لا ينقطع وهو الجنة. وليست" من" في قوله" مِنْهُمْ" مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم، ولكنها عامة
__________
(1). المحنية (بالتخفيف): واحدة المحاني، وهي معاطف الأودية. والضال (بتخفيف اللام): شجرة السدر.

مجنسة، مثل قوله تعالى:" فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ" «1» [الحج: 30] لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب، فأدخل" من" يفيد بها الجنس وكذا" مِنْهُمْ"، أي من هذا الجنس، يعني جنس الصحابة. ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم، أي اجعل نفقتك هذا الجنس. وقد يخصص أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوعد المغفرة تفضيلا لهم، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة. وفي الآية جواب آخر: وهو أن" من" مؤكدة للكلام، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما. فجرى مجرى ] قول [العربي: قطعت من الثوب قميصا، يريد قطعت الثوب كله قميصا. و" من" لم يبعض شيئا. وشاهد هذا من القرآن" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ" «2» [الاسراء: 82] معناه وننزل القرآن شفاء، لان كل حرف منه يشفي، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض. على أن من اللغويين من يقول" من" مجنسة، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن، ومن جهة القرآن، ومن ناحية القرآن. قال زهير:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم «3»

أراد من ناحية أم أوفى دمنة، أم من منازلها دمنة. وقال الآخر:
أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوفل الزفر «4»
ف" من" لم تبعض شيئا، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر. والنوفل: الكثير العطاء. والزفر: حامل الأثقال والمؤن عن الناس. الخامسة- روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرأ مالك هذه الآية"
__________
(1). آية 30 سورة الحج.
(2). آية 82 سورة الاسراء.
(3). الدمنة: آثار الناس وما سودوا بالرماد. لم تكلم: لم تبين، والعرب تقول لكل ما بين من أثر وغيره: تكلم، أي ميز، فصار بمنزلة المتكلم.
(4). البيت لأعشى باهلة.

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ" حتى بلغ" يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ". فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أصابته هذه الآية، ذكره الخطيب أبو بكر. قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين، قال الله تعالى:" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ" الآية. وقال:" لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" [الفتح: 18] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح، قال الله تعالى:" رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" «1» [الأحزاب: 23]. وقال:" لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً- إلى قوله- أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"»
[الحشر: 8]، ثم قال عز من قائل:" وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ- إلى قوله- فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" «3» [الحشر: 9]. وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] خير الناس قرني ثم الذين يلونهم [وقال:] لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه [خرجهما البخاري. وفي حديث آخر:] فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه [. قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد، فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال للعشر عشير، وللخمس خميس، وللتسع تسيع، وللثمن ثمين، وللسبع سبيع، وللسدس سديس، وللربع ربيع. ولم تقل العرب للثلث ثليث. وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا:] إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة- يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا- فجعلهم أصحابي [. وقال:] في أصحابي كلهم خير [. وروى عويم بن ساعدة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة
__________
(1). آية 23 سورة الأحزاب. [.....]
(2). آية 8 سورة الحشر.
(3). آية 9 سورة الحشر.

الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة «1» صرفا ولا عدلا [. والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، فحذار من الوقوع في أحد منهم، كما فعل من طعن في الدين فقال: إن المعوذتين ليستا من القرآن، وما صح حديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطرحة. وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما. فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب، لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب، وقد لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سب أصحابه، فالمكذب لأصغرهم- ولا صغير فيهم- داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه. وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن! فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه،
__________
(1). الصرف: التوبة. وقيل النافلة. والعدل: الفدية. وقيل الفريضة.

فسلمني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع «1»، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقاني ] أحد [ «2» من الرد والدفع ] لقولي بمثل [ «3» ما تلقيتني به فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] وعلى ما جاء به [ «4»، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله! وأمر لي بعشرة آلاف درهم. قلت: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الامة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الامر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى" مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً". وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة" الحجرات" مبينة إن شاء الله تعالى.
__________
(1). النطع (بالكسر): بساط من الأديم.
(2). زيادة عن كتاب تاريخ بغداد في ترجمة عمر بن حبيب.
(3). زيادة عن كتاب تاريخ بغداد في ترجمة عمر بن حبيب.
(4). زيادة عن كتاب تاريخ بغداد في ترجمة عمر بن حبيب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)

[تفسير سورة الحجرات ]
تفسير سورة الحجرات مدنية بإجماع. وهي ثماني عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحجرات (49): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" قال العلماء: كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلقيب الناس. فالسورة في الامر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وقرا الضحاك ويعقوب الحضرمي:" لا تقدموا" بفتح التاء والدال من التقدم. الباقون" تُقَدِّمُوا" بضم التاء وكسر الدال من التقديم. ومعناهما ظاهر، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قدمه على الله تعالى، لان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يأمر عن أمر الله عز وجل. الثانية- واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة: الأول- ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد. وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما،

فنزل في ذلك:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ- إلى قوله- وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ". رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح، ذكره المهدوي أيضا. الثاني- ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر، فنزل" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". ذكره المهدوي أيضا. الثالث- ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفؤا «1» إلى المدينة، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: ان بيننا وبينك عهدا، وقد قتل منا رجلان، فوداهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمائة بعير، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين. وقال قتادة: إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا، لو أنزل في كذا؟ فنزلت هذه الآية. ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. مجاهد: لا تفتاتوا «2» على الله ورسوله حتى يقضي الله على لسان رسوله، ذكره البخاري أيضا. الحسن: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. ابن جريج: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قلت: هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي، وسردها قبله الماوردي. قال القاضي: وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها، ولعلها نزلت دون سبب، والله أعلم. قال القاضي: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح، لان كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها
__________
(1). انكفأ القوم انكفاء: رجعوا وتبددوا.
(2). افتات الكلام: ابتدعه. وافتات عليه في الامر: حكم عليه. وافتات برأيه: استبد به.

عليه كالصلاة والصوم والحج، وذلك بين. إلا «1» أن العلماء اختلفوا في الزكاة، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم، وهو سد خلة الفقير، ولان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها. وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. وراي سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلي كما قاله أبو حنيفة والشافعي، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب. الثالثة- قوله تعالى:" لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ" أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه:] مروا أبا بكر فليصل بالناس [. فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف «2» وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إنكن لأنتن صواحب يوسف «3». مروا أبا بكر فليصل بالناس [. فمعنى قوله ] صواحب يوسف [الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز.
__________
(1). في الأصول:" وذلك أن العلماء ..." والتصويب عن ابن العربي.
(2). سريع البكاء والحزن. وقيل: هو الرقيق.
(3). قال القسطلاني:" أي مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن، فإن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الامامة عن الصديق لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو ألا يتشاءم الناس به. وهذا مثل زليخا استدعت النسوة وأظهرت الإكرام بالضيافة وغرضها أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته، فعبر بالجمع في قوله" انكن" والمراد عائشة فقط. وفي قوله" صواحب" والمراد زليخا كذلك.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)

وربما احتج بغات القياس بهذه الآية. وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذا تقدم بين يديه." واتقوا الله" يعني في التقدم المنهي عنه." إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ" لقولكم" عَلِيمٌ" بفعلكم.

[سورة الحجرات (49): آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال: حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه، فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر «1»: ما أردت خلافك، قال: فنزلت هذه الآية:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسمع كلامه حتى يستفهمه. قال: وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر. قال: هذا حديث غريب حسن. وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا، لم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير. قلت: هو البخاري، قال: عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، فقال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما
__________
(1). كلمة عمر ساقطة من أب هـ.

في ذلك، فأنزل الله عز وجل" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" الآية. فقال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه «1»، يعني أبا بكر الصديق. وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه: نزل قوله" لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة، فقضى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجعفر، لان خالتها عنده. وقد تقدم هذا الحديث في" آل عمران" «2» وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر! كان «3» يرفع صوته فوق صوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى «4»: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال:] اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة [. لفظ البخاري. وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد. وقيل: أبا عبد الرحمن. قتل له يوم الحرة «5» ثلاثة من الولد: محمد، ويحيى، وعبد الله. وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك، كان يقال له خطيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يقال لحسان شاعر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولما قدم وفد تميم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم، وقام شاعرهم وهو الأقرع بن حابس فأنشد:
__________
(1). قوله" عن أبيه" يريد جده لامه أسماء. [.....]
(2). راجع ج 4 ص 88.
(3). هذا التفات من الحاضر إلى الغائب، والأصل: كنت أرفع صوتي.
(4). هو ابن أنس، أحد رجال سند الحديث.
(5). الحرة: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كبيرة، تعرف بحرة واقم، وبها كانت الوقعة في سنة ثلاث وستين من الهجرة أيام يزيد بن معاوية حين أنهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين، وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري.

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... وإذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رءوس الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإن لنا المرباع في كل غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهايم «1»
فقام حسان فقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم «2»
في أبيات لهما. فقالوا: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى:" لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ". وقال عطاء الخراساني: حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت: لما نزلت" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" الآية، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه، ففقده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه يسأله ما خبره، فقال: أنا رجل شديد الصوت، أخاف أن يكون حبط عملي. فقال عليه السلام:] لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير [. قال: ثم أنزل الله" إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ" «3» [لقمان: 18] فأغلق بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال:] لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة [. قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من
__________ (1). في سيرة ابن هشام:" ... أو بأرض الأعاجم" والمرباع: ما يأخذه الرئيس وهو ربع الغنيمة.
(2). هبلتم: فقدتم. والخول: حشم الرجل وأتباعه.
(3). آية 18 سورة لقمان.

المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن «1» في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعني أبا بكر- فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت، رحمه الله، ذكره أبو عمر في الاستيعاب. الثانية- قوله تعالى:" وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ" أي لا تخاطبوه: يا محمد، ويا أحمد. ولكن: يا نبي الله، ويا رسول الله، توقيرا له. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك. وقيل:" لا تَجْهَرُوا لَهُ" أي لا تجهروا عليه، كما يقال: سقط لفيه، أي على فيه." كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ" الكاف كاف التشبيه في محل النصب، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا دليل ] على [أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها." أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ" أي من أجل أن تحبط، أي تبطل، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: أي لئلا تحبط أعمالكم. الثالثة- معنى الآية الامر بتعظيم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد
__________
(1). استن الفرس: قمص وعدا إقبالا وإدبارا. والطول والطيل (بالكسر): الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره والطرف الآخر، ليدور فيه ويرعى ولا يذهب لوجهه.

الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق. لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم. وفي قراءة ابن مسعود" لا ترفعوا بأصواتكم" وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام. وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء. الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به. وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى:" وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا" «1» وكلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه. الخامسة- وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لان ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه «2» غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقروا الكبراء، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما كان منهم في الحرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين:] اصرخ بالناس [وكان العباس أجهر الناس صوتا، يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس: يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفية يقول نابغة بني جعدة:
__________
(1). آية 204 سورة الأعراف.
(2). الجرس (بفتح الجيم وكسرها): الصوت.

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

زجر أبي عروة «1» السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه. السادسة- قال الزجاج:" أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ" التقدير لان تحبط، أي فتحبط أعمالكم، فاللام المقدرة لام الصيرورة، وليس قوله:" أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ" بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الايمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع. كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم.

[سورة الحجرات (49): آية 3]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ" أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له. قال أبو هريرة: لما نزلت" لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ"
قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار «2». وذكر سنيد قال: حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال: لما نزلت" لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [الحجرات: 1] قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار. وقال عبد الله بن الزبير: لما نزلت" لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ" ما حدث عمر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض، فنزلت" إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ". قال الفراء: أي أخلصها للتقوى. وقال الأخفش: أي اختصها للتقوى. وقال ابن عباس:" امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى " طهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من الله
__________
(1). أبو عروة: كنية العباس.
(2). السرار (بالكسر): المسارة، أي كصاحب السرار، أو كمثل المساررة لخفض صوته، والكاف صفة لمصدر محذوف.

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)

والتقوى. وقال عمر رضي الله عنه: أذهب عن قلوبهم الشهوات. والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته. فمعنى امتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى. وعلى الأقوال المتقدمة: امتحن قلوبهم فأخلصها، كقولك: امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت. ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام، وهو الإخلاص. وقال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد:
أتت رذايا باديا كلالها ... قد محنت واضطربت آطالها «1»
" لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً".

[سورة الحجرات (49): آية 4]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)
قال مجاهد وغيره: نزلت في أعراب بني تميم، قدم الوفد منهم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخلوا المسجد ونادوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين. وكانوا سبعين رجلا قدموا الفداء ذراري لهم، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نام للقائلة. وروي أن الذي نادي الأقرع بن حابس، وأنه القائل: إن مدحي زين وإن ذمي شين، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ذاك الله [. ذكره الترمذي عن البراء بن عازب أيضا. وروى زيد بن أرقم فقال: أتى أناس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه، وإن يكن ملكا نعش في جنابه «2». فأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قيل: إنهم كانوا من بني تميم. قال مقاتل: كانوا تسعة عشر: قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن
__________
(1). الرذايا: جمع رذية، وهي الناقة المهزولة من السير. والكلال: الإعياء. والآطال: جمع إطل، وهو الخاصرة.
(2). في الطبري:" في جناحه". [.....]==

ج24. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

وهو الأحمق المطاع، وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة، أي يتبعه، وكان اسمه حذيفة وسمي عيينة لشتر «1» كان في عينيه ذكر عبد الرزاق في عيينة هذا أنه الذي نزل فيه" وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا" «2» [الكهف: 28]. وقد مضى في آخر" الأعراف" من قوله لعمر رضي الله عنه ما فيه كفاية «3»، ذكره البخاري. وروي أنهم وفدوا وقت الظهيرة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راقد، فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد، اخرج إلينا، فاستيقظ وخرج، ونزلت. وسيل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:] هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم [. والحجرات جمع الحجرة، كالغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة. وقيل: الحجرات جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع. وفية لغتان ضم الجيم وفتحها «4». قال:
ولما رأونا باديا ركباتنا ... على موطن لا نخلط الجد بالهزل
والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى الحجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة. وقرا أبو جعفر بن القعقاع" الحجرات" بفتح الجيم استثقالا للضمتين. وقرى" الحجرات" بسكون الجيم تخفيفا. واصل الكلمة المنع. وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه. ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضا من الجملة فلهذا قال:" أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ" أي إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل.

[سورة الحجرات (49): آية 5]
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
أي لو انتظروا خروجك لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة
__________ (1). الشتر (بفتحتين): انقلاب في جفن العين.
(2). آية 28 سورة الكهف.
(3). راجع ج 7 ص (347)
(4). وفية لغة ثالثة: سكون الجيم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)

من سوء الأدب. وقيل: كانوا جاءوا شفعاء في أسارى بني عنبر فأعتق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصفهم، وفادي على النصف. ولو صبروا لاعتق جميعهم بغير فداء." وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"

[سورة الحجرات (49): آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ" قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث الوليد بن عقبة مصدقا»
إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم- في رواية: لإحنة كانت بينه وبينهم-، فرجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد وراي صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان يقول نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] التأني من الله والعجلة من الشيطان [. وفي رواية: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره أن القوم قد هموا بقتله، ومنعوا صدقاتهم. فهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاستمر راجعا، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله، والله ما خرجنا لذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا. قال
__________
(1). المصدق (بتخفيف الصاد وتشديد الدال) العامل الذي يجبى الصدقات.

ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله: الفاسق الكذاب. وقال أبو الحسن «1» الوراق: هو المعلن بالذنب. وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من الله. وقرا حمزة والكسائي" فتثبتوا" من التثبت. الباقون" فَتَبَيَّنُوا" من التبيين" أَنْ تُصِيبُوا" أي لئلا تصيبوا، ف" أن" في محل نصب بإسقاط الخافض." قَوْماً بِجَهالَةٍ" أي بخطإ." فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ" على العجلة وترك التأني الثانية- في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الاخبار إجماعا، لان الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها. وقد استثني الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل أن يقول: هذا عبدي، فإنه يقبل قوله. وإذا قال: قد أنفذ فلان هذا لك هدية، فإنه يقبل ذلك. وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر. وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا. وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون وليا في النكاح. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لأنه يلي ما لها فيلي بضعها. كالعدل، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحرمة، وإذا ولي المال فالنكاح أولى. الثالثة- قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبة مال ] كيف [ «2» يصح أن يؤتمن على قنطار دين. وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم، ولا استطيعت إزالتهم صلى معهم ووراءهم، كما قال عثمان: الصلاة أحسن ما يفعل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله، ومنهم من كان يجعلها صلاته. وبوجوب الإعادة أقول،
__________
(1). في بعض النسخ:" أبو الحسين".
(2). زيادة عن ابن العربي.

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

فلا ينبغي لاحد أن يترك الصلاة مع من لا يرضى من الأئمة، ولكن يعيد سرا في نفسه، ولا يؤثر ذلك عند غيره. الرابعة- وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية] تؤثر [ «1» أو قول يحكى، فإن الكلام كثير والحق ظاهر. الخامسة- لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله، أو إذن يعلمه، إذا لم يخرج عن حق المرسل والمبلغ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله. وهذا جائز للضرورة الداعية إليه، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها «2» شي لعدمهم في ذلك. والله أعلم. السادسة- وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لان الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة. السابعة- فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة، كالقضاء بالشاهدين العدلين، وقبول قول العالم المجتهد. وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله. ذكر هذه المسألة القشيري، والذي قبلها المهدوي.

[سورة الحجرات (49): الآيات 7 الى 8]
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
__________
(1). زيادة عن ابن العربي.
(2). في ابن العربي:" منهم".] [

قوله تعالى:" وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ" فلا تكذبوا، فإن الله يعلمه أنباءكم فتفتضحون." لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ" أي لو تسارع إلى ما أردتم قبل وضوح الامر لنالكم مشقة وإثم، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه لكان خطأ، ولعنت من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ومعنى طاعة الرسول لهم: الائتمار بما يأمر به فيما يبلغونه عن الناس والسماع منهم. والعنت الإثم، يقال: عنت الرجل. والعنت أيضا الفجور والزنى، كما في سورة" النساء" «1». والعنت أيضا الوقوع في أمر شاق، وقد مضى في آخر" براءة" القول في" عَنِتُّمْ" [التوبة: 128] بأكثر من هذا «2»." وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ" هذا خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يخبرون بالباطل، أي جعل الايمان أحب الأديان إليكم." وَزَيَّنَهُ" بتوفيقه." فِي قُلُوبِكُمْ" أي حسنه إليكم حتى اخترتموه. وفي هذا رد على القدرية والإمامية وغيرهم، حسب ما تقدم في غير موضع. فهو سبحانه المنفرد بخلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا شريك له." وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ" قال ابن عباس: يريد به الكذب خاصة. وقاله ابن زيد. وقيل: كل ما خرج عن الطاعة، مشتق من فسقت الرطبة خرجت من قشرها. والفأرة من جحرها. وقد مضى في" البقرة" القول فيه مستوفي «3». والعصيان جمع المعاصي. ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر فقال" أُولئِكَ" يعني هم الذين وفقهم الله فحبب إليهم الايمان وكره إليهم الكفر أي قبحه عندهم" هُمُ الرَّاشِدُونَ" كقول تعالى:" وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ" «4» [الروم: 39]. قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، من الرشاد وهي الصخرة.
__________
(1). راجع ج 5 ص (137)
(2). راجع ج 8 ص (302)
(3). راجع ج 1 ص 4 (245)
(4). آية 39 سورة الروم.

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)

قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة. وأنشد:
وغير مقلد وموشمات ... صلين الضوء من صم الرشاد «1»
" فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً" أي فعل الله ذلك بكم فضلا، أي الفضل والنعمة، فهو مفعول له." وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"" عَلِيمٌ" بما يصلحكم" حَكِيمٌ" في تدبيركم.

[سورة الحجرات (49): آية 9]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
فيه عشر مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما" روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال قلت: يا نبي الله، لو أتيت عبد الله بن أبي؟ فانطلق إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إليك عني! فوالله لقد أذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطيب ريحا منك. فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت في الأوس والخزرج. قال مجاهد: تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية. ومثله عن سعيد ابن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتال
__________ (1). في شرح شواهد الكشاف للمرحوم الأستاذ أبي عليان:" الظاهر أن الشاعر يصف الديار بأنها لم يبق فيها غير وتد الحبال المقلد بالحبل وغير الأثافي المغير لونها بالنار. والوشم والتوشيم تغيير اللون، أي التي احترقت بضوئها أي حرها. و" من صم الرشاد" بيان لها. والصم: جمع صماء، أي صلبة. وقيل: يصف مطايا بأنها مطبوعة على العمل غير محتاجة للزمام، وأنها غيرها أثر السير، قوية بحيث يظهر الشرر من شدة وقع خفافها على الصخر الصلب". [.....]

بالسعف والنعال ونحوه، فأنزل الله هذه الآية فيهم. وقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة «1» في حق بينهما، فقال أحدهما: لآخذن حقي عنوة، لكثرة عشيرته. ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبي أن يتبعه، فلم يزل الامر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والسيوف، فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي: نزلت في حرب سمير وحاطب «2»، وكان سمير قتل حاطبا، فاقتتل الأوس والخزرج حتى أتاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلت. وأمر الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين أن يصلحوا بينهما. وقال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها:" أم زيد" تحت رجل من غير الأنصار، فتخاصمت مع زوجها، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى قومها، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وتجالدوا «3» بالنعال، فنزلت الآية. والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والاثنين، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لان الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبد الله" حتى يفيئوا إلى أمر الله فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط". وقرا ابن أبي عبلة" اقتتلتا" على لفظ الطائفتين. وقد مضى في آخر" براءة" القول فيه «4». وقال ابن عباس في قوله عز وجل" وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" «5» [الروم: 2] قال: الواحد فما فوقه، والطائفة من الشيء القطعة منه." فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما" بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما." فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى " تعدت ولم تجب إلى حكم الله وكتابه. والبغي: التطاول والفساد." فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ" أي ترجع إلى كتابه." فَإِنْ فاءَتْ" رجعت" فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ" أي احملوهما على الانصاف." وَأَقْسِطُوا" أيها الناس فلا تقتتلوا. قيل: أقسطوا أي اعدلوا." إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" أي العادلين المحقين.
__________
(1). تدارأ القوم: تدافعوا في الخصومة ونحوها واختلفوا.
(2). راجع خبر حربهما في كتاب الكامل لابن الأثير ج 1 ص 494 طبع أوربا.
(3). تجالدوا: تضاربوا.
(4). راجع ج 8 ص 5 (294)
(5). آية 2 سورة النور.

الثانية- قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أولا. فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما. وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل. فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. والله أعلم. الثالثة- في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الامام أو على أحد من المسلمين. وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين، واحتج بقوله عليه السلام:] قتال المؤمن كفر [. ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرا لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك! وقد قاتل الصديق رضي الله عنه من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولم تحل أموالهم، بخلاف الواجب في الكفار. وقال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله عليه السلام:] خذوا على أيدي سفهائكم [. الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة، واليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:] تقتل عمارا «1» الفئة الباغية [. وقوله عليه السلام في شأن
__________
(1). هو عمار بن ياسر: (راجع خبره في كتب الصحابة).

الخوارج:] يخرجون على خير فرقة أو على حين فرقة [، والرواية الاولى أصح، لقوله عليه السلام:] تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق [. وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه. فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إماما، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتاله واجب حتى يفئ إلى الحق وينقاد إلى الصلح، لان عثمان رضي الله عنه قتل والصحابة برآء من دمه، لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال: لا أكون أول من خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة وفدي بنفسه الامة. ثم لم يمكن ترك الناس سدي، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم ] عمر [ «1» في الشورى، وتدافعوها، وكان علي كرم الله وجهه أحق بها وأهلها، فقبلها حوطة «2» على الامة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل. فربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام. فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان واخذ القود منهم، فقال لهم علي رضي الله عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه. فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحا ومساء. فكان علي في ذلك أشد رأيا وأصوب قيلا، لان عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الامر «3» وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم، فيجري القضاء بالحق. ولا خلاف بين الامة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. وكذلك جرى لطلحة والزبير، فإنهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى. قلت: فهذا قول في سبب الحرب الواقع بينهم. وقال جلة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لان الامر كان قد انتظم بينهم،
__________
(1). زيادة عن ابن العربي.
(2). الحوطة والحيطة: الاحتياط.
(3). في ابن العربي:" الأمن".

وتم الصلح والتفرق على الرضا. فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين، ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين، وتختلف السهام بينهم، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير، والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي. فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه، ومانعا من الإشاطة «1» بدمه. وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل. وهذا هو الصحيح المشهور. والله أعلم. الخامسة- قوله تعالى:" فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ" أمر بالقتال. وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضى الله عنهم عن هذه المقامات، كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو ومحمد بن سلمة وغيرهم. وصوب ذلك علي بن أبي طالب لهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله، منه. ويروى أن معاوية رضي الله عنه لما أفضى إليه الامر عاتب سعدا على ما فعل، وقال له: لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا، ولا ممن قاتل الفئة الباغية. فقال له سعد: ندمت على تركي قتال الفئة الباغية. فتبين أنه ليس على الكل درك «2» فيما فعل، وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد وإعمالا بمقتضى الشرع. والله أعلم. السادسة- قوله تعالى:" فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ" ومن العدل في صلحهم ألا يطالبون بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل. وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء «3» في البغي. وهذا أصل في المصلحة. وقد قال لسان الامة: إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لأحكام قتال أهل التأويل، إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله.
__________
(1). الإشاطة: الإهلاك. يقال: أشاط فلان دم فلان إذا عرضه للهلاك.
(2). الدرك (بفتح الراء وسكونها): التبعة.
(3). استشرى الرجل في الامر: لج. والأمور: تفاقمت وعظمت.

السابعة- إذا خرجت على الامام العدل خارجة باغية ولا حجة لها، قاتلهم الامام بالمسلمين كافة أو بمن فيه الكفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أبو امن الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف «1» على جريحهم، ولا تسبى ذراريهم ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي أو الباغي العادل وهو وليه لم يتوارثا. ولا يرث قاتل عمدا على حال. وقيل: إن العادل يرث الباغي، قياسا على القصاص. الثامنة- وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به. وقال أبو حنيفة: يضمنون. وللشافعي قولان. وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان. والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا، وهم القدوة. وقال ابن عمر قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بغي من هذه الامة [؟ قال: الله ورسوله أعلم. فقال:] لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيئها [. فأما ما كان قائما رد بعينه. هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له. وذكر الزمخشري في تفسيره: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن، إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع. فحمل الإصلاح بالعدل في قوله" فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ" على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل. وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة الباغية قليلة العدد. والذي ذكروا أن الغرض إماتة لضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات، ليس بحسن الطباق المأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأول؟ قلت: لان المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيين أو راكبتي شبهة، وأيتهما كانت
__________
(1). تذفيف الجريح: الإجهاز عليه وتحرير قتله.

فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما إصلاح ذات البين وتسكين الدهماء بإراءة «1» الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة، إلا إذا صرنا فحينئذ تجب المقاتلة، وأما الضمان فلا يتجه وليس كذلك إذا بغت إحداهما، فإن الضمان متجه على الوجهين المذكورين. التاسعة- ولو تغلبوا على بلد فأخذوا الصدقات وأقاموا الحدود، وحكموا فيهم بالأحكام، لم تثن عليهم الصدقات ولا الحدود، ولا ينقص من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة، قاله مطرف وابن الماجشون. وقال ابن القاسم: لا تجوز بحال. وروى عن أصبغ أنه جائز. وروى عنه أيضا أنه لا يجوز كقول ابن القاسم. وبه قال أبو حنيفة، لأنه عمل بغير حق ممن لا تجوز توليته. فلم يجز كما لو لم يكونوا بغاة. والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم، لما انجلت الفتنة وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح، لم يعرضوا لاحد منهم في حكم. قال ابن العربي: الذي عندي أن ذلك لا يصلح، لان الفتنة لما انجلت كان الامام هو الباغي، ولم يكن هناك من يعترضه. والله أعلم. العاشرة- لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. هذا مع ما قد ورد من الاخبار من طرق مختلفة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانا لم يكن بالقتل فيه شهيدا. وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرا في الواجب عليه، لان الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه. ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار. وقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:] بشر قاتل ابن صفية بالنار [. وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير
__________
(1). في ز: وتسكين: الدماء بإبانة الحق. [.....]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

غير عاصيين ولا آثمين بالقتال، لان ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طلحة:] شهيد [. ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار. وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل. بل صواب أراهم الله الاجتهاد. وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم، وإبطال فضائلهم وجهادهم، وعظيم غنائهم في الدين، رضي الله عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال:" تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ" «1» [البقرة: 141]. وسيل بعضهم عنها أيضا فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أخضب بها لساني. يعني في التحرز من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. قال ابن فورك: ومن أصحابنا من قال إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، فكذلك الامر فيما جرى بين الصحابة. وقال المحاسبي: فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم. وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا. قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عند ما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين، ونسأل الله التوفيق.

[سورة الحجرات (49): آية 10]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" أي في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين،
__________
(1). (134) سورة البقرة.

وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا [ «1». وفي رواية:] لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه [لفظ مسلم. وفي غير الصحيحين عن أبي هريرة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه ولا يخذله ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها [. ثم قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل [. الثانية- قوله تعالى:" فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" أي بين كل مسلمين تخاصما. وقيل: بين الأوس والخزرج، على ما تقدم. وقال أبو علي: أراد بالأخوين الطائفتين، لان لفظ التثنية يرد والمراد به الكثرة، كقوله تعالى:" بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ" «2» [المائدة: 64]. وقال أبو عبيدة: أي أصلحوا بين كل أخوين، فهو آت على الجميع. وقرا ابن سيرين ونصر بن عاصم وأبو العالية والجحدري ويعقوب" بين إخوتكم" بالتاء على الجمع. وقرا الحسن" إخوانكم". الباقون" أَخَوَيْكُمْ" بالياء على التثنية. الثالثة- في هذه الآية والتي قبلها دليل على أن البغي لا يزيل أسم الايمان، لان الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين. قال الحارث الأعور: سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو القدوة عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟
__________
(1). التحسس (بالحاء): الاستماع لحديث القوم. والتناجش: أن تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرائها. وقيل: هو تحريض الغير على الشراء.
(2). آية 64 سورة المائدة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

قال: لا، من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون؟ قال: لا، لان المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل له: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.

[سورة الحجرات (49): آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ" فيه أربع مسائل: الاولى-:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ" قيل عند الله. وقيل" خَيْراً مِنْهُمْ" أي معتقدا وأسلم باطنا. والسخرية الاستهزاء. سخرت منه أسخر سخرا (بالتحريك) ومسخرا وسخرا (بالضم). وحكى أبو زيد سخرت به، وهو أردأ اللغتين. وقال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وهزئت به، كل يقال. والاسم السخرية والسخري، وقرى بهما قوله تعالى:" لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا" [الزخرف: 32] وقد تقدم «1». وفلان سخرة، يتسخر في العمل. يقال: خادم سخرة. ورجل سخرة أيضا يسخر منه. وسخرة (بفتح الخاء) يسخر من الناس. الثانية- واختلف في سبب نزولها، فقال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر، فإذا سبقوه إلى مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ أصحابه مجالسهم منه،
__________
(1). آية 32 سورة الزخرف. راجع ص 83 من هذا الجزء. وج 12 ص 154 وج 15 ص 225

فربض كل رجل منهم بمجلسه، وعضوا «1» فيه فلا يكاد يوسع أحد لاحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد وجدت مجلسا فأجلس! فجلس ثابت من خلفه مغضبا، ثم قال: من هذا؟ قالوا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة! يعيره بها، يعني أما له في الجاهلية، فاستحيا الرجل، فنزلت. وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول" السورة" «2» استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الامة. فشكا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت. وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق «3» في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى «4» قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله، والاستهزاء بمن عظمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أصنع مثل الذي صنع. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. و" قَوْمٌ" في اللغة للمذكرين خاصة. قال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وسموا قوما لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد. وقيل: إنه جمع قائم، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. وقد يدخل في القوم النساء مجازا، وقد مضى في" البقرة"»
بيانه.
__________
(1). عض فلان الشيء: لزمه واستمسك به.
(2). راجع ص 300 وص 304.
(3). رجل لبق ولبيق: حاذق رفيق بكل عمل.
(4). في أب ز: وأتقى بالتاء بدل النون.
(5). راجع ج 1 ص 400 طبعه ثانية أو ثالثة.

الثالثة- قوله تعالى:" وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ" أفرد النساء بالذكر لان السخرية منهن أكثر. وقد قال الله تعالى:" إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ" «1» [نوح: 1] فشمل الجميع. قال المفسرون: نزلت في امرأتين من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة- وهو ثوب أبيض، ومثلها السب- وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: انظري! ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتهما. وقال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عيرن أم سلمة بالقصر. وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سلمة، يا نبي الله إنها لقصيرة. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن النساء يعيرنني، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد [. فأنزل الله هذه الآية. الرابعة- في صحيح الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا «2»، فقال:] ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا [. قالت فقلت: يا رسول الله، إن صفية امرأة- وقالت بيدها «3»- هكذا، يعني أنها قصيرة. فقال:] لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج [. وفي البخاري عن عبد الله بن زمعة قال: نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس. وقال:] لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها [. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم [. وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح
__________
(1). أول سورة نوح.
(2). حكيت فلانا وحاكيته: فعلت مثل فعله.
(3). العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، على المجاز والاتساع.

معه تلك الأعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة. بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق، وبالله التوفيق. قوله تعالى:" وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ" فيه ثلاث مسائل: قوله تعالى:" وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ" اللمز: العيب، وقد مضى في" براءة" عند قوله تعالى:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ" «1» [التوبة: 58]. وقال الطبري اللمز باليد والعين واللسان والإشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وهذه الآية مثل قوله تعالى:" وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" «2» [النساء: 29] أي لا يقتل بعضكم بعضا، لان المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه. وكقوله تعالى:" فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ" «3» [النور: 61] يعني يسلم بعضكم على بعض. والمعنى: لا يعب بعضكم بعضا. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضا. وقرى:" ولا تلمزوا" بالضم. وفي قوله" أَنْفُسَكُمْ" تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى [. وقال بكر بن عبد الله المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يبصر أحدكم القذاة «4» في عين أخيه ويدع الجذع في عينه [وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر:
المرء إن كان عاقلا ورعا ... أشغله عن عيوبه ورعه
كما السقيم المريض يشغله ... عن وجع الناس كلهم وجعه
__________
(1). راجع ج 8 ص (166)
(2). آية 29 سورة النساء. [.....]
(3). آية 61 سورة النور.
(4). القذاة: هو ما يقع في العين والماء والتراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.

وقال آخر:
لا تكشفن «1» مساوي الناس ما ستروا ... فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
الثانية- قوله تعالى:" وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ" النبز (بالتحريك) اللقب، والجمع الانباز. والنبز (بالتسكين) المصدر، تقول: نبزه ينبزه نبزا، أي لقبه. وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم، شدد للكثرة. ويقال النبز والنزب لقب السوء. وتنابزوا بالألقاب: أي لقب بعضهم بعضا. وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية" وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ". قال: هذا حديث حسن. وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري. وأبو زيد «2» سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة. وفي مصنف أبي داود عنه قال: فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة" وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ" قال: قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فنزلت هذه الآية" وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ". فهذا قول. وقول ثان- قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني، فنزلت. وروي عن قتادة وأبي العالية وعكرمة. وقال قتادة: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق. وقاله مجاهد والحسن أيضا." بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ" أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، قاله ابن زيد. وقيل: المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق. وفي الصحيح ] من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه [. فمن فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق، وذلك لا يجوز. وقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه كان عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنازعه
__________
(1). في أدب الدنيا والدين:" لا تلمس من مساوي".
(2). أبو زيد من رجال سند هذا الحديث.

رجل فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه [يعني بالتقوى، ونزلت" وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ". وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى الله أن يعير بما سلف. يدل عليه ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة [. الثالثة- وقع من ذلك مستثنى من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الامة واتفق على قوله أهل الملة. قال ابن العربي: وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح «1» جزرة، لأنه صحف" خرزة" فلقب بها. وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي: مطين، لأنه وقع في طين. ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين، ولا أراه سائغا في الدين. وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول: لا أجعل أحدا صغر أسم أبي ] في حل [، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين. والذي يضبط هذا كله، أن كل ما يكرهه الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الاذاية. والله أعلم. قلت- وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه الله في (كتاب الأدب) من الجامع الصحيح. في (باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل) قال: وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ما يقول ذو اليدين [قال أبو عبد الله بن خويز منداد: تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجوز تلقيبه بما يحب، ألا ترى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين، في أشباه ذلك.
__________
(1). هو صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب أبو علي البغدادي الحافظ. روى الخطيب البغدادي بسنده ... سمعت صالحا- يعني جزرة- يقول: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام، فقرأت أنا عليه: حدثكم جرير بن عثمان قال: كان لابي أمامة خرزة يرقى بها المريض، فصحفت" الخرزة" فقلت: كان لابي أمامة" جزرة" وإنما هي" خرزة". راجع تاريخ بغداد في المجلد التاسع ص 322 في ترجمة صالح هذا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

الزمخشري:" روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه [. ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن، قال عمر رضي الله عنه: أشيعوا الكنى فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف الله. وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها- من العرب والعجم- تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير". قال الماوردي: فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب. قلت- فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير. وقد سئل عبد الله بن المبارك عن الرجل يقول: حميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحميد الأعرج، ومروان الأصغر، فقال: إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصلع- يعني عمر- يقبل الحجر. في رواية الأصيلع. قوله تعالى:" وَمَنْ لَمْ يَتُبْ" أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون." فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي.

[سورة الحجرات (49): آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
فيه عشر مسائل: الاولى- قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ" قيل: إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغتابا رفيقهما. وذلك أن النبي صلى

الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما. فضم سلمان إلى رجلين، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهي لهما شيئا، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما، فقالا له: انطلق فاطلب لنا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاما وإداما، فذهب فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «1» [اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك [وكان أسامة خازن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذهب إليه، فقال أسامة: ما عندي شي، فرجع إليهما فأخبرهما، فقالا: قد كان عنده ولكنه بخل. ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا، فقالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة «2» لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شي، فرآهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:] مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما [فقالا: يا نبي الله، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره. فقال:] ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة [فنزلت" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" ذكره الثعلبي. أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير. الثانية- ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا [لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قول تعالى:" وَلا تَجَسَّسُوا" وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك. وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب.
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ك.
(2). بئر قديمة بالمدينة غزيرة الماء.

وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] أن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء [. وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت. الثالثة- للظن حالتان: حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الادلة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثانية- أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا. وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به، تحكما في الدين ودعوى في المعقول. وليس في ذلك أصل يعول عليه، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه، وإنما أورد الذم في بعضه. وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة] إياكم والظن [فإن هذا لا حجة فيه، لان الظن في الشريعة قسمان: محمود ومذموم، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده، بدلالة قوله تعالى:" إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ"، وقوله:" لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً" «1» [النور: 12]، وقوله:" وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً" «2» [الفتح: 12] وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إذا كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على الله أحدا [. وقال:] إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض [خرجه أبو داود. وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح، قاله المهدوي. الرابعة- قوله تعالى:" وَلا تَجَسَّسُوا قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما" ولا تحسسوا" بالحاء. واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، فقال الأخفش: ليس
__________
(1). آية 12 سورة النور.
(2). آية 12 سورة الفتح.

تبعد إحداهما من الأخرى، لان التجسس البحث عما يكتم عنك. والتحسس ] بالحاء [طلب الاخبار والبحث عنها. وقيل: إن التجسس ] بالجيم [هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور. وبالحاء: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقول ثان في الفرق: أنه بالحاء تطلبه لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره، قاله ثعلب. والأول أعرف. جسست الاخبار وتجسستها أي تفحصت عنها، ومنه الجاسوس. ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله. وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:] إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم [فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفعه الله تعالى بها. وعن المقدام بن معدي يكرب عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم [. وعن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وعن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته [. وقال عبد الرحمن ابن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى!؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله تعالى:" وَلا تَجَسَّسُوا" وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم. وقال أبو قلابة: حدث عمر ابن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك! قد نهاك الله عن التجسس، فخرج عمر وتركه. وقال زيد بن أسلم: خرج عمر وعبد الرحمن يعسان،

إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح، فقال عمر: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين! قال عمر: فمن هذه منك؟ قال امرأتي، قال فما في هذا القدح؟ قال ماء زلال، فقال للمرأة: وما الذي تغنين؟ فقالت:
تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن عقلي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين! قال الله تعالى:" وَلا تَجَسَّسُوا". قال صدقت. قلت: لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل، لان عمر لا يقر على الزنى، وإنما غنت بتلك الأبيات تذكارا لزوجها، وأنها قالتها في مغيبه عنها «1». والله أعلم. وقال عمرو بن دينار: كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت، فكان يعودها فماتت فدفنها. فكان هو الذي نزل في قبرها، فسقط من كمه كيس فيه دنانير، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال: لأكشفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارا، فجاء إلى أمه فقال: أخبريني ما كان عمل أختي؟ فقالت: قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها! فلم يزل بها حتى قالت له: كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم، فتجسس عليهم وتخرج أسرارهم، فقال: بهذا هلكت! الخامسة- قوله تعالى:" وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً" نهى عز وجل عن الغيبة، وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] أتدرون ما الغيبة [؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:] ذكرك أخاك بما يكره [قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟
__________
(1). راجع هذه القصة في ج 3 ص 108 من هذا الكتاب.

قال:] إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته [. يقال: اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه، والاسم الغيبة، وهي ذكر العيب بظهر الغيب «1». قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة والافك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الافك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وعن شعبة قال: قال لي معاوية- يعني ابن قرة-: لو مر بك رجل أقطع، فقلت هذا أقطع كان غيبة. قال شعبة: فذكرته لابي إسحاق فقال صدق. وروى أبو هريرة أن الأسلمي ما عزا جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فسمع نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما. ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال:] أين فلان وفلان [؟ فقالا: نحن ذا يا رسول الله، قال:] انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار [فقالا: يا نبي الله ومن يأكل من هذا! قال:] فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها [. السادسة- قوله تعالى:" أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً" مثل الله الغيبة بأكل الميتة، لان الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. وقال ابن عباس: إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لان أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس. وقال قتادة: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لان عادة العرب بذلك جارية. قال الشاعر:
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا «2»
__________
(1). الظهر: ما غاب عنك.
(2). البيت للمقنع الكندي، واسمه محمد بن عميرة.

وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ما صام من ظل يأكل لحوم الناس [. فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم. فمن تنقص مسلما أو ثلم عرضه فهو كالآكل لحمه حيا، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتا. وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم [. وعن المستورد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة [. وقد تقدم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تغتابوا المسلمين [. وقوله للرجلين:] مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما [. وقال أبو قلابة الرقاشي: سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدا مذ عرفت ما في الغيبة. وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدا، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام. وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال: قام رجل من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأوا في قيامه عجزا فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا! فقال:] أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه [. وعن سفيان الثوري قال: أدنى الغيبة أن تقول إن فلانا جعد قطط «1»، إلا أنه يكره ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم وذكر الناس فإنه داء، وعليكم بذكر الله فإنه شفاء. وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر، فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني! فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
__________
(1). الجعد في صفات الرجال يكون مدحا وذما، فالمدح أن يكون معناه شديد الأسر (القوة) والخلق. أو يكون جعد الشعر، وهو ضد السبط. وأما الذم فهو القصير المتردد الخلق. وقد يطلق على البخيل أيضا، يقال: رجل جعد اليدين. والقطط: القصير الجعد من الشعر.

السابعة- ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب. وقالوا: ذلك فعل الله به. وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا: لا تكون الغيبة إلا في الخلق والخلق والحسب. والغيبة في الخلق أشد، لان من عيب صنعة فإنما عيب صانعها. وهذا كله مردود. أما الأول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية: إنها امرأة قصيرة، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته [. خرجه أبو داود. وقال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح، وما كان في معناه حسب ما تقدم. وإجماع العلماء قديما على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب. وأما الثاني فمردود أيضا عند جميع العلماء، لان العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شيء أعظم من الغيبة في الدين، لان عيب الدين أعظم العيب، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه. وكفى ردا لمن قال هذا القول قوله عليه السلام:] إذا قلت في أخيك ما يكره فقد اغتبته ... [الحديث. فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصا. وكفى بعموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام [وذلك عام للدين والدنيا. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحلله منه [. فعم كل عرض، فمن خص من ذلك شيئا دون شيء فقد عارض ما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثامنة- لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل. وهل يستحل المغتاب؟ اختلف فيه، فقالت فرقة: ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه. واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن. وقالت فرقة: هي مظلمة، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. وقالت فرقة: هي مظلمة وعليه الاستحلال منها. واحتجت بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من كانت

لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته [. خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه [. وقد تقدم هذا المعنى في سورة" آل عمران" عند قوله تعالى:" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ" «1» [آل عمران: 169]. وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة: ما أطول ذيلها! فقالت لها عائشة: لقد اغتبتيها فاستحليها. فدلت الآثار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. وأما قول من قال: إنما الغيبة في المال والبدن، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه، وذلك ليس في البدن ولا في المال، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال، وقد قال الله تعالى في القاذف:" فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ" «2» [النور: 13]. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من بهت مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخبال [ «3». وذلك كله في غير المال والبدن. وأما من قال: إنها مظلمة، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال كفارتها أن يستغفر لصاحبها، لان قوله مظلمة تثبت ظلامة المظلوم، فإذا ثبتت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له. وأما قول الحسن فليس بحجة، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه [. وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله، وراي أنه لا يحل
ما حرم الله عليه، منهم سعيد بن المسيب قال: لا أحلل من ظلمني. وقيل لابن سيرين: يا أبا بكر، هذا رجل
__________
(1). راجع ج 4 ص 268. [.....]
(2). آية 13 سورة النور.
(3). الخبال: الفساد، ويكون في الافعال والأبدان والعقول. و" طينة الخبال": عصارة أهل النار.

سألك أن تحلله من مظلمة هي لك عنده، فقال: إني لم أحرمها عليه فأحلها، إن الله حرم الغيبة عليه، وما كنت لأحل ما حرم الله عليه أبدا. وخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدل على التحليل، وهو الحجة والمبين. والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو، وقد قال تعالى:" فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ" «1» [الشوري: 40]. التاسعة- ليس «2» من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر، فإن في الخبر] من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له [. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس [. فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة: صاحب الهوى، والفاسق المعلن، والامام الجائر. وقال الحسن لما مات الحجاج: اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته- وفي رواية شينه- فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمد بيد قصيرة «3» البنان، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله، يرجل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة. لا من الله يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل. ثم يقول الحسن: هيهات! حال دون ذلك السيف والسوط. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال: ليس لأهل البدع غيبة. وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول: فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي، ليس بغيبة. وعلماء الامة على ذلك مجمعة. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك:] لصاحب الحق مقال [. وقال:] مطل الغني ظلم [وقال:] لي الواجد «4» يحل عرضه وعقوبته [. ومن ذلك الاستفتاء، كقول هند للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] نعم فخذي [. فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها، ولم يرها مغتابة، لأنه لم يغير عليها، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها. وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1). آية 40 سورة الشورى.
(2). في ل: ليس يدخل في هذا ...
(3). في ل: بيد واحدة قصيرة.
(4). الواجد: القادر على قضاء دينه

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

[أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم «1» فلا يضع عصاه عن عاتقه ]. فهذا جائز، وكان مقصوده ألا تغتر فاطمة بنت قيس «2» بهما. قال جميعه المحاسبي رحمه الله. العاشرة- قول تعالى:" مَيْتاً" وقرى" ميتا" وهو نصب على الحال من اللحم. ويجوز أن ينصب على الأخ، ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى:" فَكَرِهْتُمُوهُ" وفية وجهان: أحدهما- فكرهتم أكل الميتة فكذلك فأكرهوا الغيبة، روي معناه عن مجاهد. الثاني- فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا غيبة الناس. وقال الفراء: أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه. وقيل: لفظه خبر ومعناه أمر، أي أكرهوه." اتَّقُوا اللَّهَ" عطف عليه. وقيل: عطف على قوله:" اجْتَنِبُوا. وَلا تَجَسَّسُوا"." إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ".

[سورة الحجرات (49): آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى " يعني آدم وحواء. ونزلت الآية في أبي هند، ذكره أبو داود في (المراسيل)، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نزوج
__________
(1). هو ابن حذيفة بن غانم القرشي. وقوله:" لا يضع عصاه" أي أنه ضراب للنساء. وقيل: هو كناية عن كثرة أسفاره، لان المسافر يحمل عصاه في سفره.
(2). هي أخت الضحاك بن قيس، كانت من المهاجرات الأول، وكانت ذات جمال وعقل وكمال، وكانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلقها فخطبها معاوية وأبو جهم، فاستشارت النبي عليه السلام فيهما فأشار عليها بأسامة بن زيد فتزوجته.

بناتنا موالينا؟ «1» فأنزل الله عز وجل:" إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً" الآية. قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة. وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من الذاكر فلانة [؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] انظر في وجوه القوم [فنظر، فقال:] ما رأيت [؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال:] فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى [فنزلت في ثابت هذه الآية. ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ" «2» [المجادلة: 11] الآية. قال ابن عباس: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. زجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء، فإن المدار على التقوى. أي الجميع من آدم وحواء، إنما الفضل بالتقوى. وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب بمكة فقال:] يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [. خرجه من حديث عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف، ضعفه يحيى بن معين وغيره. وقد خرج الطبري في كتاب ] آداب النفوس [وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: حدثني أو حدثنا من
__________
(1). من معاني المولى: لعبد.
(2). آية 11 سورة المجادلة.

شهد خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال:] يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟- قالوا نعم قال- ليبلغ الشاهد الغائب [. وفية عن أبو مالك الأشعري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم [. ولعلي رضي الله عنه في هذا المعنى وهو مشهور من شعره:
الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والام حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة ... وأعظم خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب ... يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... وللرجال على الافعال سيماء
وضد كل امرئ ما كان يجهله ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
الثانية- بين الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، وكذلك في أول سورة" النساء" «1». ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين. وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود. وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه، فلعله هذا القسم، قاله ابن العربي. الثالثة- خلق الله الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا، وخلق لهم منها التعارف، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها، فصار كل أحد يحوز نسبه، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه،
__________
(1). راجع ج 5 ص 1 وما بعدها.

بقوله للعربي: يا عجمي، وللعجمي: يا عربي، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة. انتهى. الرابعة- ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الام، ويستمد من الدم الذي يكون فيه. واحتجوا بقوله تعالى:" أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ" «1» [المرسلات: 21]. وقوله تعالى:" ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ"»
[السجدة: 8]. وقوله:" أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى " «3» [القيامة: 37]. فدل على أن الخلق من ماء واحد. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقوله تعالى:" خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ" «4» [الطارق: 6] والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء، على ما يأتي بيانه. وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الأخر. فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا. وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل، وعن ذلك يكون الشبه، حسب ما تقدم بيانه في آخر" الشورى" «5». وقد قال في قصة نوح" فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ" «6» [القمر: 12] وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض، لان الالتقاء لا يكون إلا من اثنين، فلا ينكر أن يكون" ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ" [السجدة: 8]. وقوله تعالى:" أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ" [المرسلات: 21] ويريد ماءين. والله أعلم. الخامسة- قوله تعالى:" وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا" الشعوب رءوس القبائل، مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، واحدها" شعب" بفتح الشين، سموا به
__________
(1). آية 20، 21 سورة المرسلات.
(2). آية 8 سورة السجدة.
(3). آية 37 سورة القيامة. [.....]
(4). آية 6، 7 سورة الطارق.
(5). راجع ص 50 من هذا الجزء.
(6). آية 12 سورة القمر.

لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة. والشعب من الأضداد، يقال شعبته إذا جمعته، ومنه المشعب (بكسر الميم) وهو الأشفى، لأنه يجمع به ويشعب. قال:
فكاب على حر الجبين ومتق ... بمدرية كأنه ذلق مشعب «1»
وشعبته إذا فرقته، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة. فاما الشعب (بالكسر) فهو الطريق في الجبل، والجمع الشعاب. قال الجوهري: الشعب: ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب. والشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم. وأما الذي في الحديث أن رجلا من الشعوب أسلم «2»، فإنه يعني من العجم. والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم. قال ابن عباس: الشعوب الجمهور «3»، مثل مضر. والقبائل الأفخاذ. وقال مجاهد: الشعوب البعيد من النسب، والقبائل دون ذلك. وعنه أيضا أن الشعوب النسب الأقرب. وقاله قتادة. ذكر الأول عنه المهدوي، والثاني الماوردي. قال الشاعر «4»:
رأيت سعودا من شعوب كثيرة ... فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك
وقال آخر:
قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب
وقيل: إن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل: إن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. وقال ابن عباس في رواية: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب. قال القشيري: وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل «5» والترك، والقبائل من العرب. الماوردي: ويحتمل أن
__________
(1). قوله:"
فكاب على حر الجبين

" أي خار على وجهه. و" المدرية": القرن، وهي المدري والمدراة، والجمع مدار ومداري. و" ذلق" ذلق كل شي: حده. و" مشعب" مثقب.
(2). تمام الحديث كما في اللسان:" فكانت تؤخذ منه الجزية، فأمر عمر ألا تؤخذ منه".
(3). هذا القول منسوب إلى ابن جبير. والمأثور عن ابن عباس أن" الشعوب الجماع" والجماع (بضم الجيم وتشديد الميم): مجتمع أصل كل شي .. أراد: منشأ النسب واصل المولد. وقيل: أراد به الفرق المختلفة من الناس.
(4). هو طرفة بن العبد.
(5). الجبل: الامة من الخلق والجماعة من الناس، وفية لغات كثيرة. راجع ج 15 ص 47 من هذا التفسير.

الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشتركون في الأنساب. قال الشاعر:
وتفرقوا شعبا فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه: الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ. وقيل: الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة، وقد نظمها بعض الأدباء فقال:
اقصد الشعب فهو أكثر حي ... عددا في الحواء ثم القبيلة
ثم تتلوها العمارة ثم ال ... بطن والفخذ بعدها والفصيلة
ثم من بعدها العشيرة لكن ... هي في جنب ما ذكرناه قليله
وقال آخر:
قبيلة قبلها شعب وبعدهما ... عمارة ثم بطن تلوه فخذ
وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ... ولا سداد لسهم ماله قذذ «1»
السادسة- قوله تعالى:" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ" وقد تقدم في سورة" الزخرف" عند قوله تعالى:" وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ" «2» [الزخرف: 44]. وفي هذه الآية ما يدلك على أن التقوى هي المراعى عند الله تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب. وقرى" أن" بالفتح. كأنه قيل: لم لا يتفاخر بالأنساب؟ قيل: لان أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. وفي الترمذي عن سمرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] الحسب المال والكرم التقوى [. قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وذلك يرجع إلى قوله تعالى:" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ"، وقد جاء منصوصا عنه عليه السلام:] من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله [. والتقوى معناها مراعاة حدود الله تعالى أمرا ونهيا، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به، والتنزه عما نهاك عنه. وقد مضى هذا في غير موضع. وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إن الله تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم
__________
(1). القذذ (جمع قذة): ريش السهم.
(2). راجع ص 93 من هذا الجزء.

نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي واضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون [. وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا [. وأعرض في كل عطفيه. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهارا غير سر يقول:] إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين [. وعن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أكرم الناس؟
فقال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:
«فأكرمهم عند اللّه أتقاهم» فقالوا: ليس عن هذا نسألك، فقال: «عن معادن العرب؟
خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» وأنشدوا في ذلك:
ما يصنع العبد بعزّ الغنى ... والعزّ كلّ العزّ للمتّقى
من عرف اللّه فلم تفنه ... معرفة اللّه فذاك الشّقى
السابعة- ذكر الطبري حدّثني «1» عمر بن محمد قال حدّثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدّثنا مندل بن على عن ثور بن يزيد عن سالم بن أبى الجعد قال: تزوّج رجل من الأنصار امرأة فطعن عليها في حسبها، فقال الرجل: إنى لم أتزوجها لحسبها إنما تزوّجتها لدينها وخلقها، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: «ما يضرّك ألا تكون من آل حاجب «2» بن زرارة». ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللّوم لوم الجاهلية». وقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: «إنى لأرجو أن أكون أخشاكم للّه وأعلمكم بما أتقى» ولذلك كان أكرم البشر على اللّه تعالى. قال ابن العربي: وهذا الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح. روى عبد اللّه عن مالك: يتزوج المولى العربية، واحتج بهذه الآية. وقال أبو حنيفة والشافعي:
__________
(1). في ح ون: «عمرو».
(2). سيد من سادات العرب في الجاهلية. أدرك الإسلام وأسلم.

يراعى الحسب والمال. وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة- وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم- تبنّى سالما وأنكحه هندا «1» بنت أخيه الوليد بن عتبة ابن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد «2» بن الأسود.
قلت: وأخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال. وزينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة. فدلّ على جواز نكاح الموالي العربية، وإنما تراعى الكفاءة في الدّين.
والديل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في صحيح البخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرّ عليه رجل فقال: «ما تقولون في هذا»؟ فقالوا: حرّى إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع وإن قال أن يسمع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال:
«ما تقولون في هذا» قالوا: حرىّ إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا».
وقال صلى اللّه عليه وسلم: «تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها- وفي رواية- ولحسبها فعليك بذات الدّين تربت يداك» وقد خطب سلمان إلى أبى بكر أبنته فأجابه، وخطب إلى عمرا بنته فالتوى عليه، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان. وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها، فقال بلال: يا رسول اللّه، ماذا لقيت من بنى البكير، خطبت إليهم أختهم فمنعونى وآذوني، فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أجلال جلال، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا: ماذا لقينا بك من سببك؟ فقالت أختهم: أمرى بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فزوّجوها. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في أبى هند حين حجمه: «أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه». وهو مولى بنى بياضة. وروى الدّارقطنيّ من حديث الزّهرى عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بنى بياضة كان حجاما فحجم النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى من صوّر اللّه الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبى هند».
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أنكحوه وأنكحوا إليه». قال القشيري أبو نصر:
__________
(1). وتسمى فاطمة.
(2). اسم أبيه عمرو بن ثعلبة، وتبناه الأسود بن عبد يغوث وهو أحد السبعة الذين كانوا أوّل من أظهر الإسلام. [.....]

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

وقد يعتبرا لنسب في الكفاءة في النكاح وهو الاتصال بشجرة النبوّة أو بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح. والتقىّ المؤمن أفضل من الفاجر النسيب، فإن كانا تقيّين فحينئذ يقدّم النسيب منهما، كما يقدّم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى.

[سورة الحجرات (49): آية 14]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
نزلت في أعراب م نبنى أسد بن خزيمة قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السرّ. وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال ولم تقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنّون عليه فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية. وقال ابن عباس: نزلت في أعراب أرادوا أن يتّسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا، فأعلم اللّه أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين. وقال السدّى: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع، قالوا آمنّا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلّفوا، فنزلت. وبالجملة فالآية خاصة لبعض الأعراب، لأن منهم من يؤمن باللّه واليوم الآخر كما وصف اللّه تعالى.
ومعنى «ولكن قولوا أسلمنا» أى استسلمنا خوف القتل والسّبى، وهذه صفة المنافقين؟
لأنهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم نؤمن قلوبهم، وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب. وأما الإسلام فقبول ما أتى به النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في الظاهر، وذلك يحقن الدّم. وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعنى إن تخلصوا الإيمان لا يَلِتْكُمْ أى لا ينقصكم. مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً لأنه يلينه ويلونه: نقصه. وقرأ أبو عمرو «لا يألتكم» بالهمزة، من ألت يألت

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)

ألتا، وهو اختيار أى حاتم، اعتبارا بقوله تعالى: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «1» قال الشاعر:
أبلغ بنى ثعل عنى مغلغلة ... جهد الرّسالة لا ألتا ولا كذبا
واختار الأولى أبو عبيد. قال رؤبة:
وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتنى عن سراها ليت
أي لم يمنعني عن سراها مانع، وكذلك ألاته عن وجهه، فعل وأفعل بمعنى. ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا، أي ما نقصه، مثل ألته، قاله الفراء. وأنشد:
ويأكلن ما أعنى الولىّ فلم يلت ... كأن بحافات النّهاء المزارعا «2»
قوله: فلم «يلت» أى لم ينقص منه شيئا. و«أعنى» بمعنى أنبت، يقال:
ما أعنت الأرض شيئا، أى ما أنبتت. و«الوليّ» المعطر بعد الوسمي «3»، سمّى وليا لأنه يلي الوسمىّ، ولم يقل، لا يألتاكم، لأن طاعة اللّه تعالى طاعة الرسول.

[سورة الحجرات (49): الآيات 15 الى 16]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا اى صدّقوا ولم يشكّوا وحققوا ذلك بالجهاد والأعمال الصالحة. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب. فلما نزلت حلف الأعراب أنهم مؤمنون في السر
__________
(1). راجع به ج 17 ص 66.
(2). البيت لعدي بن زيد.
(3). الوسمي: مطر الربيع الأوّل، سمى به لأنه يسم الأرض بالنبات.

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

والعلانية وكذبوا، فنزلت. قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ الذي أنتم عليه. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

[سورة الحجرات (49): الآيات 17 الى 18]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا إشارة إلى قولهم: جئناك بالأثقال والعيال.
و«أن» في موضع نصب على تقدير لأن أسلموا. قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أى بإسلامكم. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ «أن» موضع نصب، تقديره بان. وقيل: لأن. وفي مصحف عبد اللّه «إذا هداكم». إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنكم مؤمنون.
وقرأ عاصم «إن هداكم» بالكسر، وفيه بعد، لقوله: «إن كنتم صادقين». ولا يقال يمن عليكم أن يهديكم إن صدقتم. والقراءة الظاهرة «أن هداكم». وهذا لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين، لأن تقدير الكلام: إن آمنتم فذلك منّة اللّه عليكم. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو بالياء على الخبر، ردّا على قوله: «قالت الأعراب». الباقون بالتاء على الخطاب.

وجد في «ز» ما يأتى: «واللّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، ولا حول ولا قوّه إلا باللّه العلى العظيم وهو حسبي ونعم الوكيل».
4 محرم سنة 1385 5 مايو سنة 1965
حققه أحمد عبد العليم البردونى
ثم بعون اللّه تعالى الجزء السادس عشر من تفسير القرطبي، يتلوه إن شاء اللّه تعالى الجزء السابع عشر، وأوّله:
«سورة (ق)»

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

الجزء السابع عشر

[تفسير سورة ق-]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة ق مكية كلها، وهى خمس وأربعون آية مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، قال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدا سنتين- أو سنة وبعض سنة- وما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا عن لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما ب (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) و(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). وعن جابر بن سمرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الفجر ب (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وكانت صلاته بعد تخفيفا.

[سورة ق (50): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قرأ العامة (قاف) بالجزم. وقرا الحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم (قاف) بكسر الفاء، لان الكسر أخو الجزم، فلما سكن

آخره حركوه بحركة الخفض. وقرا عيسى الثقفي بفتح الفاء حركه إلى أخف الحركات. وقرا هرون ومحمد بن السميقع (قاف) بالضم، لأنه في غالب الامر حركة البناء نحو منذ وقط وقبل وبعد. واختلف في معنى (ق) ما هو؟ فقال ابن زيد وعكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء اخضرت السماء منه، وعليه طرفا السماء والسماء عليه مقبية، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل. ورواه أبو الجوزاء عن عبد الله بن عباس. قال الفراء: كان يجب على هذا أن يظهر الاعراب في (ق)، لأنه اسم وليس بهجاء. قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه، كقوله القائل:
قلت لها قفي فقالت قاف

أي أنا واقفة. وهذا وجه حسن وقد تقدم أول (البقرة) «1». وقال وهب: أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالا صغارا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: فما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الأرض، فقال له: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله، قال: إن شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حر جهنم. [فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها، وأين هي من الأرض «2»]. قال: زدني، قال: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله ترعد فرائصه، يخلق الله من كل رعدة مائة ألف ملك، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي الله تعالى منكسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا الله، وهو قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) «3» يعني قول: لا إله إلا الله. وقال الزجاج: قوله (ق)
أي قضي الامر، كما قيل في (حم) أي حم الامر. وقال ابن عباس: (ق) اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وعنه أيضا: أنه اسم من أسماء
__________
(1). راجع ج 1 ص (155)
(2). الزيادة من حاشية الجمل عن القرطبي.
(3). راجع ج 19 ص 184

القرآن. وهو قول قتادة. وقال القرظي: افتتاح أسماء الله تعالى قدير وقاهر وقريب وقاض وقابض. وقال الشعبي: فاتحة السورة. وقال أبو بكر الوراق: معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما. وقال محمد بن عاصم الأنطاكي: هو قرب الله من عباده، بيانه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وقال ابن عطاء: أقسم الله بقوة قلب حبيبه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث حمل الخطاب ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله. (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أي الرفيع القدر. وقيل: الكريم، قاله الحسن. وقيل: الكثير، مأخوذ من كثرة القدر والمنزلة لا من كثرة العدد، من قولهم: كثير فلان في النفوس، ومنه قول العرب في المثل السائر: (في كل شجر نار، واستمجد المرخ) «1» (والعفار). أي استكثر هذان النوعان من النار فزادا على سائر الشجر، قال ابن بحر. وجواب القسم قيل هو: (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) على إرادة اللام، أي لقد علمنا. وقيل: هو (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى ) وهو اختيار الترمذي محمد بن علي قال: (ق) قسم باسم هو أعظم الأسماء التي خرجت إلى العباد وهو القدرة، وأقسم أيضا بالقرآن المجيد، ثم أقتص ما خرج من القدرة من خلق السموات والأرضين وأرزاق العباد، وخلق الآدميين، وصفه يوم القيامة والجنة والنار، ثم قال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) فوقع القسم على هذه الكلمة كأنه قال: (ق) أي بالقدرة والقرآن المجيد أقسمت أن فيما اقتصصت في هذه السورة (لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). وقال ابن كيسان: جوابه (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ). وقال أهل الكوفة: جواب هذا القسم (بَلْ عَجِبُوا). وقال الأخفش: جوابه محذوف كأنه قال: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) لتبعثن، يدل عليه (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً). قوله تعالى: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) (أَنْ) في موضع نصب على تقدير لان جاءهم منذر منهم، يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والضمير للكفار. وقيل: للمؤمنين والكفار جميعا. ثم ميز بينهم بقوله تعالى: (فَقالَ الْكافِرُونَ) ولم يقل فقالوا، بل قبح حالهم وفعلهم ووصفهم بالكفر، كما تقول: جاءني فلان فأسمعني المكروه، وقال لي الفاسق
__________
(1). المرخ والعفار: شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر، ويسوى من أغصانهما الزناد فيقتدح بها.

أنت كذا وكذا. (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) العجيب الامر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة. وقال قتادة: عجبهم أن دعوا إلى إله واحد. وقيل: من إنذارهم بالبعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى. قوله تعالى: (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) نبعث، ففيه إضمار. (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) الرجع الرد أي هو رد بعيد أي محال. يقال: رجعته أرجعه رجعا، ورجع هو يرجع رجوعا، وفية إضمار آخر، أي وقالوا انبعث إذا متنا. وذكر البعث وإن لم يجرها هنا فقد جرى في مواضع، والقرآن كالسورة الواحدة. وأيضا ذكر البعث منطو تحت قوله: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) لأنه إنما ينذر بالعقاب والحساب في الآخرة. أي ما تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شي حتى تتعذر علينا الإعادة. وفي التنزيل: (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) «1» وفي الصحيح: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفية يركب) وقد تقدم. وثبت أن لأنبياء والأولياء والشهداء لا تأكل الأرض أجسادهم، حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم. وقد بينا هذا في كتاب (التذكرة) وتقدم أيضا في هذا الكتاب. وقال السدي: النقص هنا الموت يقول قد علمنا منهم من يموت ومن يبقى، لان من مات دفن فكأن الأرض تنقص من الناس. وعن ابن عباس: هو من يدخل في الإسلام من المشركين. (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي بعدتهم وأسمائهم فهو فعيل بمعنى فاعل. وقيل: اللوح المحفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شي. وقيل: الكتاب عبارة عن العلم والإحصاء، كما تقول: كتبت عليك هذا أي حفظته، وهذا ترك الظاهر من غير ضرورة. وقيل: أي وعندنا كتاب حفيظ لاعمال بني آدم لنحاسبهم عليها. قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ) أي القرآن في قول الجميع، حكاه الماوردي. وقال الثعلبي: بالحق القرآن. وقيل: الإسلام. وقيل: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)
__________
(1). راجع ج 11 ص 205

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

أي مختلط. يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن، قاله الضحاك وابن زيد. وقال قتادة: مختلف. الحسن: ملتبس، والمعنى متقارب. وقال أبو هريرة: فاسد، ومنه مرجت أمانات الناس أي فسدت، ومرج الدين والامر اختلط، قال أبو دواد:
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد «1»
وقال ابن عباس: المريج الامر المنكر. وقال عنه عمران بن أبي عطاء: (مَرِيجٍ) مختلط. وأنشد «2»:
فجالت فالتمست به حشاها ... فخر كأنه خوط مريج
الخوط الغصن. وقال عنه العوفي: في أمر ضلالة وهو قولهم ساحر شاعر مجنون كاهن. وقيل: متغير. واصل المرج الاضطراب والقلق، يقال: مرج أمر الناس ومرج أمر الدين ومرج الخاتم في إصبعي إذا قلق من الهزال. وفي الحديث: (كيف بك يا عبد الله «3» إذا كنت في قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا وهكذا) وشبك بين أصابعه. أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة).

[سورة ق (50): الآيات 6 الى 11]
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
__________
(1). الحارك الكاهل. والكتد مجمع الكتفين من الإنسان والفرس.
(2). البيت للداخل الهذلي، ويروى فرافت بدل فجالت والضمير للبقرة. وبه أي بالهم.
(3). هو عبد الله بن عمرو بن العاص كما في مسند أبى داود.

قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) نظر اعتبار وتفكر، وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة. (كَيْفَ بَنَيْناها) فرفعناها بلا عمد (وَزَيَّنَّاها) بالنجوم (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) جمع فرج وهو الشق، ومنه قول امرئ القيس:
تسد به فرجها من دبر «1»

وقال الكسائي: ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق. (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) تقدم في (الرعد) «2» بيانه. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي من كل نوع من النبات (بَهِيجٍ) أي حسن يسر الناظرين، وقد تقدم في (الحج) «3» بيانه. (تَبْصِرَةً) أي جعلنا ذلك تبصرة لندل به على كمال قدرتنا. وقال أبو حاتم: نصب على المصدر، يعني جعلنا ذلك تبصيرا وتنبيها على قدرتنا (وَذِكْرى ) معطوف عليه. (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) راجع إلى الله تعالى مفكر في قدرته. قوله تعالى: (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ) أي من السحاب (ماءً مُبارَكاً) أي كثير البركة. (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) التقدير: وحب النبت الحصيد وهو كل ما يحصد. هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، كما يقال: مسجد الجامع وربيع الأول وحق اليقين وحبل الوريد ونحوها، قاله الفراء. والأصل الحب الحصيد فحذفت الالف واللام وأضيف المنعوت إلى النعت. وقال الضحاك: حب الحصيد البر والشعير. وقيل: كل حب يحصد ويدخر ويقتات. (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) نصب على الحال «4» ردا على قوله: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) و(باسِقاتٍ) حال. والباسقات الطوال، قاله مجاهد وعكرمة. وقال قتادة وعبد الله بن شداد: بسوقها استقامتها في الطول. وقال سعيد بن جبير:
__________
(1). البيت في وصف فرنه، وصدره:
لها ذنب مثل ذيل العروس

(2). راجع ج 9 ص 280.
(3). راجع ج 12 ص 14. [.....]
(4). هكذا في الأصول، ولعل صواب العبارة أن تكون كما قال السمين: (وَالنَّخْلَ) منصوب على العطف أي وأنبتنا النخل، و(باسِقاتٍ) حال.

مستويات. وقال الحسن وعكرمة أيضا والفراء: مواقير حوامل، يقال للشاة بسقت إذا ولدت، قال الشاعر:
فلما تركنا الدار ظلت منيفة ... بقران فيه الباسقات المواقر
والأول في اللغة أكثر وأشهر، [يقال ] بسق النخل بسوقا إذا طال. قال:
لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة
ويقال: بسق فلان على أصحابه أي علاهم، وأبسقت الناقة إذا وقع في ضرعها اللبن «1» قبل النتاج فهي مبسق ونوق مباسيق. وقال قطبة بن مالك: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ (باصقات) بالصاد، ذكره الثعلبي. قلت: الذي في صحيح مسلم عن قطبة بن مالك قال: صليت وصلي بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) حتى قرأ (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) قال فجعلت أرددها ولا أدري ما قال، إلا أنه لا يجوز إبدال الصاد من السين لأجل القاف. (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل، يقال: طلع الطلع طلوعا وأطلعت النخلة، وطلعها كفراها قبل أن ينشق. (نَضِيدٌ) أي متراكب قد نضد بعضه على بعض. وفي البخاري (النضيد) الكفري ما دام في أكمامه ومعناه منضود بعضه على بعض، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد. (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي رزقناهم رزقا، أو على معنى أنبتناها رزقا، لان الإنبات في معنى الرزق، أو على أنه مفعول له أي أنبتناها لرزقهم، والرزق ما كان مهيأ للانتفاع به. وقد تقدم القول فيه»
. (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي من القبور أي كما أحيا الله هذه الأرض الميتة فكذلك يخرجكم أحياء بعد موتكم، فالكاف في محل رفع على الابتداء. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع «3». وقال (مَيْتاً) لان المقصود المكان ولو قال ميتة لجاز.
__________
(1). في ح، ز، ى: اللبأ وهو وزان عنب، أول اللبن عند الولادة.
(2). راجع ج 1 ص 177 وص 211
(3). راجع ج 1 ص 177 وص 211

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

[سورة ق (50): الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كما كذب هؤلاء فكذلك كذب أولئك فحل بهم العقاب، ذكرهم نبأ من كان قبلهم من المكذبين وخوفهم ما أخذهم. وقد ذكرنا قصصهم في غير موضع عند ذكرهم. (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) من هذه الأمم المكذبة. (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي فحق عليهم وعيدي وعقابي. قوله تعالى: (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي أفعيينا به فنعيا بالبعث. وهذا توبيخ لمنكري البعث وجواب قولهم: (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه. (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي في حيرة من البعث منهم مصدق ومنهم مكذب، يقال: لبس عليه الامر يلبسه لبسا.

[سورة ق (50): الآيات 16 الى 19]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني الناس، وقيل أدم. (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. ومن قال: إن المراد بالإنسان آدم، فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي. قال الأعشى:

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل «1»
وقد مضى في (الأعراف «2»). (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب، أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل: أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه. وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه، لأنه عرق يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب، روي معناه عن مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإنسان يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شي. قوله تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر، ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة، وتوكيدا للأمر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: (الْمُتَلَقِّيانِ) ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) «3» عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وقال مجاهد: وكل الله بالإنسان مع علمه بأحواله ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاما للحجة: أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ). وقال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب [العبد] قال
__________ (1). عشرق كز برج: شجر ينفرش على الأرض عريض الورق وليس له شوك، وثمرته قشرة إذا هبت الريح فلقت تلك القشرة فتخشخشت فسمعت للوادي الذي تكون به زجلا ولجة تفزع الإبل.
(2). راجع ج 7 ص (177)
(3). راجع ج 10 ص 230

لا تعجل لعله يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة، قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين علي كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر (. وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن مقعد ملكيك على ثنيتك) «1» (لسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما). وقال الضحاك: مجلسهما تحت الثغر. على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته. وإنما قال: (قَعِيدٌ) ولم يقل قعيدان وهما اثنان، لان المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. قاله سيبويه، ومنه قول الشاعر «2».
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
وقال الفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبى فكان وكنت غير غدور
ولم يقل راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرد: أن الذي في التلاوة أول أخرا تساعا، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه. ومذهب الأخفش والفراء: أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام. و(قَعِيدٌ) بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد. وقيل: (قَعِيدٌ) بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مواكل ومنادم. وقال الجوهري: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، كقوله تعالى:ِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)
«3» وقوله: (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ «4» ظَهِيرٌ). وقال الشاعر في الجمع، أنشده الثعلبي:
الكنى إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر «5»
__________
(1). في رواية أخرى عن على رضى الله عنه: (ان الملكين قاعدان على ناجذي العبد ... إلخ).
(2). هو قيس بن الخطيم.
(3). راجع ج 13 ص (39)
. (4). راجع ج 18 ص 5 (191)
(5). الكنى إليها: أرسلني إليها، والأصل في الكنى ألئكنى فحولت كسرة إلى اللام وحذفت الهمزة.

والمراد بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لا ضد القائم. قوله تعالى: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه، مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم. وفي الرقيب ثلاثة أوجه: أحدها أنه المتبع للأمور. الثاني أنه الحافظ، قاله السدي. الثالث أنه الشاهد، قاله الضحاك. وفي العتيد وجهان: أحدهما أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري: العتيد الشيء الحاضر المهيأ، وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم، ومنه قوله تعالى: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) «1» وفرس عتد وعتد بفتح التاء وكسرها المعد للجري. قلت وكله يرجع إلى معنى الحضور، ومنه قول الشاعر:
لئن كنت مني في العيان مغيبا ... فذ كرك عندي في الفؤاد عتيد
قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شي حتى الأنين في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتب إلا ما يو جربه أو يؤزر عليه. وقيل: يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر، والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة (. وقال علي رضي الله عنه:) إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أولها وفي أخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك (وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل ابن عبد الله قال: سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الامة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الامة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للآخر فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فإذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ
__________
(1). راجع ج 9 ص 178

إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ غريب من حديث الأعمش عن زيد، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني «1» واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة (. قوله تعالى:) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) أي غمرته وشدته، فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده. وقيل: الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلي دار الحق، فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما، لان السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين. وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى، أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت. وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت، ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث. قال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر «2»
__________
(1). في ا، ح، ن، هـ: (وإذ كرانى). [.....]
(2). صدر البيت:
لعمرك ما يغنى الثراء ولا الغنى

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

فقال أبو بكر: هلا قلت كما قال الله: (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وذكر الحديث. والسكرة واحدة السكرات. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت بين يديه ركوة- أو علبة- فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات) ثم نصب يده فجعل يقول: (في الرفيق الأعلى) حتى قبض ومالت يده. خرجه البخاري. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة (. وقال عيسى بن مريم:) يا معشر الحواريين أدعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة) يعني سكرات الموت. وروي: (إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض). (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه. يقال: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت، لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وتقول في الاخبار عن نفسك: حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه، قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت كما حاد البعير عن الدحض

[سورة ق (50): الآيات 20 الى 22]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هي النفخة الآخرة للبعث (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى «1» والحمد لله.
__________
(1). راجع ج 13 ص 239 وج 15 ص 279

قوله تعالى: (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أختلف في السائق والشهيد، فقال ابن عباس: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو هريرة: السائق الملك والشهيد العمل. وقال الحسن وقتادة: المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم: السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان. وعن عثمان ابن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) سائق: ملك يسوقها إلى أمر الله، وشهيد: يشهد عليها بعملها. قلت: هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا أخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك «1» الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أو دخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا «2» كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قال:) حالا بعد حال) ثم قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم) خرجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه: هذا حديث غريب من حديث جعفر، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل. ثم في الآية قولان: أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور. الثاني أنها خاصة في الكافر، قاله الضحاك.
__________
(1). كذا في جميع الأصول والدر المنثور، والظاهر أن يكون (ذانك).
(2). أنشط الكتاب: حل عقدته.

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)

قوله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) قال ابن زيد: المراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به البر والفاجر. وهو اختيار الطبري. وقيل: أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد، لان هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) أي عماك، وفية أربعة أوجه: أحدها إذ كان في بطن أمه فولد، قاله السدي. الثاني إذا كان في القبر فنشر. وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث وقت العرض في القيامة، قاله مجاهد. الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة. وهذا معنى قول ابن زيد. (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) قيل: يراد به بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه، فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الاشخاص والأجسام. وقيل: المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد، أي قوي نافذ يرى ما كان محجوبا عنك. قال مجاهد: (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك. وقاله الضحاك. وقيل: يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى. وقرى (لقد كنت) (عنك) (فبصرك) بالكسر على خطاب النفس.

[سورة ق (50): الآيات 23 الى 29]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)

قوله تعالى: (وَقالَ قَرِينُهُ) يعني الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك. (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ. وقال مجاهد: يقول هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وقيل: المعنى هذا ما عندي من العذاب حاضر. وعن مجاهد أيضا: قرينه الذي قيض له من الشياطين. وقال ابن زيد في رواية ابن وهب عنه: إنه قرينه من الانس، فيقول الله تعالى لقرينه: (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) قال الخليل والأخفش: هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول: ويلك ارحلاها وازجراها، وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء: تقول للواحد قوما عنا، واصل ذلك أن أدنى، أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره اثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي، ثم يقول: يا صاح. قال امرؤ القيس:
خليلي مرابي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب
وقال أيضا:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقال آخر:
فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر ... وإن [تدعاني «1»] أحم عرضا ممنعا
وقيل: جاء كذلك لان القرين يقع للجماعة والاثنين. وقال المازني: قوله (أَلْقِيا) يدل على ألق ألق. وقال المبرد: هي تثنية على التوكيد، المعنى ألق ألق فناب (أَلْقِيا) مناب التكرار. ويجوز أن يكون (أَلْقِيا) تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب به الملكين. وقيل: هو مخاطبة للسائق والحافظ. وقيل: إن الأصل ألقين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف. وقرا الحسن (ألقين) بالنون الخفيفة نحو قوله: (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) «2» وقوله: (لَنَسْفَعاً) «3». (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)
__________
(1). في الأصول: (تدعواني) وما أثبتناه هو ما عليه الرواية في تفسير الطبري والآلوسي والفراء وغيرها. لعل ما في الأصول رواية أخرى.
(2). راجع ج 9 ص (184)
(3). راجع ج 20 ص 125

أي معاند، قاله مجاهد وعكرمة. وقال بعضهم: العنيد المعرض عن الحق، يقال عند يعند بالكسر عنودا أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يعنى الزكاة المفروضة وكل حق واجب. (مُعْتَدٍ) في منطقه وسيرته وأمره، ظالم. (مُرِيبٍ) شاك في التوحيد، قاله الحسن وقتادة. يقال: أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة. وهو المشرك يدل عليه قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ). وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. وأراد بقوله: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أنه كان يمنع بني أخيه من الإسلام. (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) تأكيد للأمر الأول. (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه. (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق وكان طاغيا باختياره وإنما دعوته فاستجاب لي. وقرينه هنا هو شيطانه بغير اختلاف. حكاه المهدوي. وحكى الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل: قرينه الملك، وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته: رب إنه أعجلني، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته. وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة، فحينئذ يقول الله تعالى: (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) يعني الكافرين وقرناءهم من الشياطين. قال القشيري: وهذا يدل على أن القرين الشيطان. (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي أرسلت الرسل. وقيل: هذا خطاب لكل من اختصم. وقيل: هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع. (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) قيل هو قوله: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) «1» وقيل هو قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) «2». وقال الفراء: ما يكذب عندي أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي ما أنا بمعذب من لم يجرم، قاله ابن عباس. وقد مضى القول في معناه في (الحج) «3» وغيرها.
__________
(1). راجع ج 7 ص 150.
(2). راجع ج 14 ص 96.
(3). راجع ج 12 ص 16 وج 15 ص 370.

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

[سورة ق (50): الآيات 30 الى 35]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
قوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قرأ نافع وأبو بكر (يوم يقول) بالياء اعتبارا بقوله: (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ). الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة «1». وقرا الحسن (يوم أقول). وعن ابن مسعود وغيره (يوم يقال). وأنتصب (يَوْمَ) علي معنى ما يبدل القول لدي يوم. وقيل: بفعل مقدر معناه: وأنذرهم (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها. وهذا الاستفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده. (وَتَقُولُ) جهنم (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي ما بقي في موضع للزيادة، كقوله عليه السلام: (هل ترك لنا عقيل من ربع أو منزل) أي ما ترك، فمعنى الكلام الجحد. ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الاستزادة، أي هل من مزيد فأزداد؟. وإنما صلح هذا للوجهين، لان في الاستفهام ضربا من الجحد. وقيل: ليس ثم قول وإنما هو على طريق المثل، أي إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك، كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني
وهذا تفسير مجاهد وغيره. أي هل في من مسلك قد امتلأت. وقيل: ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح. وهذا أصح على ما بيناه في سورة (الفرقان) «2». وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
__________
(1). في ن، هـ: (التعظيم).
(2). راجع ج 13 ص 10.

(لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي «1» بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة) لفظ مسلم. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: (وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا (. قال علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار. وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم، يقال: رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد، قال الشاعر:
فمر بنا رجل من الناس وانزوى ... إليهم من الحي اليمانين أرجل
قبائل من لخم وعكل وحمير ... على آبني نزار بالعداوة أحفل
ويبين هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى [كل واحد منهم «2»] ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال الخزنة: قط قط حسبنا حسبنا أي اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم، ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث: (ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة) وقد زدنا هذا المعنى بيانا ومهدناه في كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شميل في معنى قوله عليه السلام: (حتى يضع الجبار فيها قدمه) أي من سبق في علمه أنه من أهل النار. قوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي فربت منهم. وقيل: هذا قبل الدخول في الدنيا، أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا المعاصي. وقيل: بعد الدخول
__________
(1). ينزوي بعضها إلى بعض: أي تنقبض على من فيها، وتشتغل بعذابهم، وتكف عن سؤال هل من مزيد. (هامش مسلم).
(2). الزيادة من ن. [.....]

قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي منهم وهذا تأكيد. (هذا ما تُوعَدُونَ) أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل. وقراءة العامة (تُوعَدُونَ) بالتاء على الخطاب. وقرا ابن كثير بالياء على الخبر، لأنه أتى بعد ذكر المتقين. (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) أَوَّابٍ أي رجاع إلى الله عن المعاصي، ثم يرجع يذنب ثم يرجع، هكذا قاله الضحاك وغيره. وقال ابن عباس وعطاء: الأواب المسبح من قوله: (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) «1». وقال الحكم بن عتيبة: هو الذاكر لله تعالى في الخلوة. وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وهو قول ابن مسعود. وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال: كنا نحدث أن الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. وفي الحديث: (من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس (. وهكذا كان النبي صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول. وقال بعض العلماء: أنا أحب أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة، ولا أحب أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته. قلت: هذا استحسان وأتباع الحديث أولى. وقال أبو بكر الوراق: هو المتوكل على الله في السراء والضراء. وقال القاسم: هو الذي لا يشتغل إلا بالله عز وجل. (حَفِيظٍ) قال ابن عباس: هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها. وقال قتادة: حفيظ لما أستودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه عليه. وعن ابن عباس أيضا: هو الحافظ لأمر الله. مجاهد: هو الحافظ لحق الله تعالى بالاعتراف ولنعمه بالشكر. قال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أوابا حفيظا) ذكره الماوردي. قوله تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (مَنْ) في محل خفض على البدل من قوله: (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) أوفي موضع الصفة ل (أَوَّابٍ). ويجوز الرفع على الاستئناف، والخبر
__________
(1). راجع ج 14 ص 264

(ادْخُلُوها) على تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم: (ادْخُلُوها). والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين لا يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) مقبل على الطاعة. وقيل: مخلص. وقال أبو بكر الوراق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه. قلت: ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم، كما قال تعالى: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) على ما تقدم «1»، والله أعلم. (ادْخُلُوها) أي يقال لأهل هذه الصفات: (ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي بسلامة من العذاب. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم. وقال: (ادْخُلُوها) وفي أول الكلام (مَنْ خَشِيَ)، لان (مَنْ) تكون بمعنى الجمع. قوله تعالى: (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) يعني ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) من النعم مما لم يخطر على بالهم. وقال أنس وجابر: المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ) «2» (وَزِيادَةٌ) قال: الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام، قالا: أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله ابن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب. قال ابن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد (فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك). قال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى: (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ).
__________
(1). راجع ج 13 ص 114.
(2). راجع ج 8 ص 330.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)

قلت: قوله (في كثيب) يريد أهل الجنة، أي وهم على كثب، كما في مرسل الحسن، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كثيب من كافور) الحديث. وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة). وقيل: إن المزيد ما يزوجون به من الحور العين، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا.

[سورة ق (50): الآيات 36 الى 38]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)
قوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوه. (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي ساروا فيها طلبا للمهرب. وقيل: أثروا في البلاد، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: ضربوا وطافوا. وقال النضر بن شميل: دوروا. وقال قتادة: طوفوا. وقال المؤرج تباعدوا، ومنه قول امرئ القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
ثم قيل: طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات، وهل وجدوا من الموت محيصا؟. وقيل: طوفوا في البلاد يلتمسون محيصا من الموت. قال الحرث بن حلزة: نقبوا في البلاد من حذر الموت وجالوا في الأرض كل مجال وقرا الحسن وأبو العالية (فنقبوا) بفتح القاف وتخفيفها. والنقب هو الخرق والدخول في الشيء. وقيل: النقب الطريق في الجبل، وكذلك المنقب والمنقبة، عن ابن السكيت. ونقب الجدار نقبا، واسم تلك النقبة نقب أيضا، وجمع النقب النقوب، أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها. وقيل: أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب. وقرا السلمي يحيى بن يعمر (فنقبوا) بكسر القاف والتشديد على الامر بالتهديد والوعيد، أي طوفوا البلاد وسيروا

فيها فانظروا (هَلْ مِنْ) الموت (مَحِيصٍ) ومهرب، ذكره الثعلبي. وحكى القشيري (فنقبوا) بكسر القاف مع التخفيف، أي أكثروا السير فيها حتى نقبت دوابهم الجوهري: ونقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه، وأنقب الرجل إذا نقب بعيره، ونقب الخف الملبوس أي تخرق. والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا، أي عدل وحاد. يقال: ما عنه محيص أي محيد ومهرب. والانحياص مثله، يقال للأولياء: حاصوا عن العدو وللأعداء انهزموا. قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى ) أي فيما ذكرناه في هذه السورة تذكرة وموعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي عقل يتدبر به، فكنى بالقلب عن العقل لأنه موضعه، قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: لمن كان له حياة ونفس مميزة، فعبر عن النفس الحية بالقلب، لأنه وطنها ومعدن حياتها، كما قال امرؤ القيس:
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وفي التنزيل: (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) «1». وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان، قلب محتش بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الأمور الآخرة لم يدر ما يصنع، وقلب قد احتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي أستمع القرآن. تقول العرب: ألق إلى سمعك أي أستمع. وقد مضى في (طه) «2» كيفية الاستماع وثمرته. (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي شاهد القلب، قال الزجاج: أي قلبه حاضر فيما يسمع. وقال سفيان: أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب. ثم قيل: الآية لأهل الكتاب، قاله مجاهد وقتادة. وقال الحسن: إنها في اليهود والنصارى خاصة. وقال محمد ابن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة. قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) تقدم في (الأعراف) «3» وغيرها. واللغوب التعب والإعياء، تقول منه: لغب
__________
(1). راجع ج 15 ص (55)
(2). راجع ج 11 ص (176)
(3). راجع ج 7 ص 218

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)

يلغب بالضم لغوبا، ولغب بالكسر يلغب لغوبا لغة ضعيفة فيه. وألغبته أنا أي أنصبته. قال قتادة والكلبي: هذه الآية نزلت في يهود المدينة، زعموا أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فجعلوه راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك.

[سورة ق (50): الآيات 39 الى 40]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمره بالصبر على ما يقوله المشركون، أي هون أمرهم عليك. ونزلت قبل الامر بالقتال فهي منسوخة. وقيل: هو ثابت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. وقيل معناه: فاصبر على ما يقوله اليهود من قولهم: إن الله استراح يوم السبت. الثانية- قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) قيل: إنه أراد»
به الصلوات الخمس. قال أبو صالح: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل الغروب صلاة العصر. ورواه جرير بن عبد الله مرفوعا، قال: كنا جلوسا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: (أما انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها- يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير- (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) «2» (متفق عليه واللفظ لمسلم. وقال ابن عباس: قَبْلَ الْغُرُوبِ) الظهر والعصر. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) يعني صلاة العشاءين. وقيل: المراد تسبيحه بالقول تنزيها قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، قاله عطاء الخراساني وأبو الأحوص. وقال بعض العلماء في قوله: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) قال ركعتي الفجر (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) الركعتين قبل المغرب، وقال ثمامة
__________
(1). في ح، هـ ن: (يراد).
(2). راجع ج 11 ص 261.

ابن عبد الله بن أنس: كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلون الركعتين قبل المغرب. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري «1» فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. وقال قتادة: ما أدركت أحدا يصلي الركعتين إلا أنسا وأبا برزة الأسلمي. الثالثة- قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) فيه أربعة أقوال: الأول- هو تسبيح الله تعالى في الليل، قال أبو الأحوص. الثاني- أنها صلاة الليل كله، قال مجاهد. الثالث- أنها ركعتا الفجر، قاله ابن عباس. الرابع- أنها صلاة العشاء الآخرة، قاله ابن زيد. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح في الليل فيعضده الصحيح (من تعار) «2» (من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم (. وأما من قال إنها الصلاة بالليل فإن الصلاة تسمى تسبيحا لما فيها من تسبيح الله، ومنه سبحة الضحى. وأما من قال إنها صلاة الفجر أو العشاء فلأنهما من صلاة الليل، والعشاء أوضحه. الرابعة- قوله تعالى: (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قال عمر وعلي وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي والزهري: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، ورواه العوفي عن ابن عباس، وقد رفعه ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ركعتان بعد المغرب أدبار السجود) ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي: وروي عن ابن عباس قال: بت ليلة عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال: (يا بن عباس ركعتان قبل الفجر أدبار النجوم وركعتان بعد المغرب أدبار السجود). وقال أنس: قال النبي صلى الله
__________
(1). ابتدروا السواري: أي سارعوا إليها، والسواري جمع السارية وهى العمود، أي يقف كل مصل خلف العمود لئلا يقع المرور بين يديه في صلاته منفردا.
(2). تعار: استيقظ.

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

عليه وسلم (من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين). قال أنس فقرأ في الركعة الاولى (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وفي الثانية (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) قال مقاتل: ووقتها ما لم يغرب الشفق الأحمر. وعن ابن عباس أيضا: هو الوتر. قال ابن زيد: هو النوافل بعد الصلوات، ركعتان بعد كل صلاة مكتوبة، قال النحاس: والظاهر يدل على هذا إلا أن الاولى اتباع الأكثر وهو صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال أبو الأحوص: هو التسبيح في أدبار السجود. قال ابن العربي وهو الأقوى في النظر. وفي صحيح الحديث: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد «1» (وقيل: إنه منسوخ بالفرائض فلا يجب على أحد إلا خمس صلوات، نقل ذلك الجماعة. الخامسة- قرأ نافع وابن كثير وحمزة (وإدبار السجود) بكسر الهمزة على المصدر من أدبر الشيء إدبارا إذا ولى. الباقون بفتحها جمع دبر. وهي قراءة علي وابن عباس، ومثالها طنب وأطناب، أو دبر كقفل وأقفال. وقد استعملوه ظرفا نحو جئتك في دبر الصلاة وفي أدبار الصلاة. ولا خلاف في آخر (وَالطُّورِ). (وإدبار النجوم) أنه بالكسر مصدر، وهو ذهاب ضوئها إذا طلع الفجر الثاني، وهو البياض المنشق من سواد الليل.

[سورة ق (50): الآيات 41 الى 45]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
__________
(1). (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي لا ينفع ذا الغنى منك غنا (هـ وانما ينفعه الايمان والطاعة.) النهاية لاين الأثير (.)

قوله تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) مفعول الاستماع محذوف، أي استمع النداء والصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة، وهي النفخة الثانية، والمنادي جبريل. وقيل: إسرافيل. الزمخشري: وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي، فينادي بالحشر ويقول: هلموا إلى الحساب فالنداء على هذا في المحشر. وقيل: واستمع نداء الكفار بالويل والثبور من مكان قريب، أي يسمع الجميع فلا يبعد أحد عن ذلك النداء. قال عكرمة: ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم. وقيل: المكان القريب صخرة بيت المقدس. ويقال: إنها وسط الأرض وأقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا. وقال كعب: بثمانية عشر ميلا، ذكر الأول القشيري والزمخشري، والثاني الماوردي. فيقف جبريل أو إسرافيل على الصخرة فينادي بالحشر: أيتها العظام البالية، والأوصال المقتطعة، ويا عظاما نخرة، ويا أكفانا فانية، ويا قلوبا خاوية، ويا أبدانا فاسدة، ويا عيونا سائلة، قوموا لعرض رب العالمين. قال قتادة: هو إسرافيل صاحب الصور. (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ) يعني صيحة البعث. ومعنى (الْخُرُوجِ) الاجتماع إلى الحساب. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي يوم الخروج من القبور. (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) نميت الأحياء ونحيي الموتى، أثبت هنا الحقيقة (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس. (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي هين سهل. وقرا الكوفيون (تشقق) بتخفيف الشين على حذف التاء الاولى. الباقون بإدغام التاء في الشين. وأثبت ابن محيصن وابن كثير ويعقوب ياء (المنادي) في الحالين على الأصل، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل لا غير، وحذف الباقون في الحالين. قلت: وقد زادت السنة هذه الآية بيانا، فروى الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ذكره، قال وأشار بيده إلى الشام فقال: (من ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه) في رواية أخرى (فخذه وكفه) وخرج علي بن معبد عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ذكره:

ثم يقول- يعني الله تعالى- لإسرافيل: (أنفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم وأنا أول من تنشق عنه الأرض فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية) وذكر الحديث، وقد ذكرنا جميع هذا وغيره في (التذكرة) مستوفى والحمد لله. قوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي من تكذيبك وشتمك. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بمسلط تجبرهم على الإسلام، فتكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال. والجبار من الجبرية والتسلط إذ لا يقال جبار بمعنى مجبر، كما لا يقال خراج بمعنى مخرج، حكاه القشيري. النحاس: وقيل معنى جبار لست تجبرهم، وهو خطأ لأنه لا يكون فعال من أفعل. وحكى الثعلبي: وقال ثعلب قد جاءت أحرف فعال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبار بمعنى مجبر، ودراك بمعنى مدرك، وسراع بمعنى مسرع، وبكاء بمعنى مبك، وعداء بمعنى معد. وقد قرئ (وما أهداكم إلا سبيل الرشاد) «1» بتشديد الشين بمعنى المرشد وهو موسى. وقيل: هو الله. وكذلك قرئ (أما السفينة فكانت لمساكين) «2» يعني ممسكين. وقال أبو حامد الخارزنجى «3»: تقول العرب: سيف سقاط بمعنى مسقط. وقيل: (بِجَبَّارٍ) بمسيطر كما في الغاشية «4» (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ). وقال الفراء: سمعت من العرب من يقول جبره على الامر أي قهره، فالجبار من هذه اللغة بمعنى القهر صحيح. قيل: الجبار من قولهم جبرته على الامر أي أجبرته وهي لغة كنانية وهما لغتان. الجوهري: وأجبرته على الامر أكرهته عليه، وأجبرته أيضا نسبته إلى [الجبر، كما تقول أكفرته إذا نسبته إلى الكفر «5»]. (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي ما أعددته لمن عصاني من العذاب، فالوعيد العذاب والوعد الثواب، قال الشاعر:
__________
(1). راجع ج 15 ص 310.
(2). راجع ج 11 ص 34.
(3). الخارزنجى: نسبة إلى خارزنج قرية بنواحي نيسابور. [.....]
(4). راجع ج 20 ص 37.
(5). الزيادة من الصحاح الجوهري.

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)

وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وأثبت الياء في (وعيدي) يعقوب في الحالين، وأثبتها ورش في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. والله أعلم. تم تفسير سورة (ق) والحمد لله.

[تفسير سورة والذاريات ]
سورة والذاريات مكية في قول الجميع، وهى ستون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)
قوله تعالى: (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) قال أبو بكر الأنباري: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن، عن يزيد ابن خصيفة، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن، فقال عمر: اللهم أمكني منه، فداخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين ما (الذَّارِياتِ ذَرْواً) فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده، ثم قال: ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه، ثم ليقم خطيبا فليقل: إن صبيغا «1» طلب العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم. وعن عامر بن واثلة أن أبن الكواء سأل عليا رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين ما (الذَّارِياتِ ذَرْواً) [قال ]: ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) الرياح (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) السحاب (فَالْجارِياتِ يُسْراً) السفن (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الملائكة. وروى الحرث عن علي رضي الله عنه (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً)
__________
(1). هو صبيغ- كأمير- بن عسل- بكسر العين- كان يعنت الناس بالغوامض والسؤالات من متشابه القرآن فنفاه عمر إلى البصرة بعد ضربه، وكتب إلى واليها الا يؤويه، ونهى عن مجالسته (التاج).

قال: الرياح (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) قال: السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر (فَالْجارِياتِ يُسْراً) قال: السفن موقرة (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) قال: الملائكة تأتي بأمر مختلف، جبريل بالغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت. وقال الفراء: وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث «1». ويقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا. ثم قيل: (وَالذَّارِياتِ) وما بعده أقسام، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا. وقيل: المعنى ورب الذاريات، والجواب (إِنَّما تُوعَدُونَ) أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب (لَصادِقٌ) لأكذب فيه، ومعنى (لَصادِقٌ) لصدق، وقع الاسم موقع المصدر. (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) يعنى الجزاء نازل «2» بكم. ثم ابتدا أقسما آخر فقال: (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) وقيل: إن الذاريات النساء الولدات لان في ذرايتهن ذرو الخلق، لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين. وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين: أحدهما لأنهن أوعية دون الرجال، فلاجتماع الذروين فيهن خصصن بالذكر. الثاني- أن الذرو فيهن أطول زمانا، وهن بالمباشرة أقرب عهدا. (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) السحاب. وقيل: الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل. والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن، يقال: جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره. واكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار، والوسق في حمل البعير. وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا. وأوقرت النخلة كثر حملها، يقال: نخلة موقرة وموقر وموقرة، وحكي موقر وهو على غير القياس، لان الفعل للنخلة. وإنما قيل: موقر بكسر القاف على [قياس «3»] قولك امرأة حامل، لان حمل الشجر مشبه بحمل النساء، فأما موقر بالفتح فشاذ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا:
عصب كوارع في خليج محلم ... حملت فمنها موقر مكموم
__________
(1). في ل، ن: (الخوارق).
(2). في ز، ل، ن: (النازل).
(3). الزيادة من كتب اللغة.

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

والجمع مواقر. فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الاذن، وقد وقرت أذنه توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في (الانعام «1» القول فيه.) فَالْجارِياتِ يُسْراً) السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت. وقيل: السحاب، وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان: أحدهما- إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع. الثاني- هو سهولة تسييرها، وذلك معروف عند العرب، كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة لا ريث ولا عجل

[سورة الذاريات (51): الآيات 7 الى 14]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11)
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
قوله تعالى: (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) قيل: المراد بالسماء ها هنا السحب التي تظل الأرض. وقيل: السماء المرفوعة. ابن عمر: هي السماء السابعة، ذكره المهدوي والثعلبي والماوردي وغيرهم. وفي (الْحُبُكِ) أقوال سبعة: الأول- قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: ذات الخلق الحسن المستوي. وقاله عكرمة، قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، يقال منه حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكا أي أجاد نسجه. قال ابن الاعرابي: كل شي أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته. والثاني- ذات الزينة، قاله الحسن وسعيد بن جبير، وعن الحسن أيضا: ذات النجوم وهو الثالث. الرابع- قال الضحاك: ذات الطرائق، يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. ونحوه قول الفراء، قال: الحبك تكسر كل شي كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم
__________
(1). راجع ج 6 ص 404.

إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حبك، والشعرة الجعدة تكسرها حبك. وفي حديث الدجال: أن شعره حبك. قال زهير:
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك «1»
ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها. الخامس- ذات الشدة، قاله ابن زيد، وقرا (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) «2». والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره، قال امرؤ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه ... لا حق الاطلين «3» محبوك ممر
وقال آخر:
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد «4»
وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة، أي تشد الإزار وتحكمه. السادس- ذات الصفاقة، قاله خصيف، ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بين الصفاقة. السابع: أن المراد بالطرق المجرة التي في السماء، سميت بذلك لأنها كاثر المجر. و(الْحُبُكِ) جمع حباك، قال الراجز:
كأنما جللها الحواك ... طنفسة في وشيها حباك
والحباك والحبيكة الطريقة في الرمل ونحوه. وجمع الحباك حبك وجمع الحبيكة حبائك، والحبكة مثل العبكة وهي الحبة من السويق، عن الجوهري. وروي عن الحسن في قوله: (ذاتِ الْحُبُكِ) (الحبك) و(الحبك) و(الحبك) والحبك والحبك [وقرا أيضا (الحبك)] كالجماعة. وروي عن عكرمة وأبي مجلز (الحبك). و(الْحُبُكِ) واحدتها حبيكة، (والحبك) مخفف منه. و(الحبك) واحدتها حبكه. ومن قرأ (الحبك) فالواحدة حبكه كبرقة وبرق أو حبكه كظلمة وظلم. ومن قرأ (الحبك) فهو كإبل وإطل «5» و(الحبك) مخففة منه.
__________
(1). النجم: كل شي من النبات ليس له ساق ينبت حول الماء كالا كليل. ريح خريق: شديدة. لضاحى مائه: ما ضحا للشمس من الماء أي برز. والبيت في وصف غدير.
(2). راجع ج 19 ص 3 (169)
(3). الاطل: الخاصرة كلها. وقيل: غير ذلك.
(4). البيت لابي دواد يصف فرسا. والكتد- بفتح التاء وكسرها-: مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس.
(5). الاطل: الخاصرة كلها. وقيل: غير ذلك.

ومن قرأ (الحبك) فهو شاذ إذ ليس في كلام العرب فعل، وهو محمول على تداخل اللغات، كأنه كسر الحاء ليكسر الباء ثم تصور (الْحُبُكِ) فضم الباء. وقال جميعه المهدوي. قوله تعالى: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) هذا جواب القسم الذي هو (وَالسَّماءِ) أي إنكم يا أهل مكة (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) في محمد والقرآن فمن مصدق ومكذب. وقيل: نزلت في المقتسمين. وقيل: اختلافهم قولهم ساحر بل شاعر بل افتراه بل هو مجنون بل هو كاهن بل هو أساطير الأولين. وقيل: اختلافهم أن منهم من نفى الحشر ومنهم من شك فيه. وقيل: المراد عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. قوله تعالى: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عن الايمان بمحمد والقرآن من صرف، عن الحسن وغيره. وقيل: المعنى يصرف عن الايمان من أراده بقولهم هو سحر وكهانة وأساطير الأولين. وقيل: المعنى يصرف عن ذلك الاختلاف من عصمه الله. أفكه يأفكه إفكا أي قلبه وصرفه عن الشيء، ومنه قوله تعالى: (أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) «1» وقال مجاهد: معنى (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يؤفن عنه من أفن، والأفن فساد العقل. الزمخشري: وقرى (يؤفن عنه من أفن) أي يحرمه من حرم، من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا. وقال قطرب: يخدع عنه من خدع. وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع. والمعنى واحد وكله راجع إلى معنى الصرف. قوله تعالى: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) في التفسير: لعن الكذابون. وقال ابن عباس: أي قتل المرتابون، يعني الكهنة. وقال الحسن: هم الذين يقولون لسنا نبعث. ومعنى (قُتِلَ) أي هؤلاء ممن يجب أن يدعى عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين. وقال الفراء: معنى (قُتِلَ) لعن، قال: و(الْخَرَّاصُونَ) الكذابون الذين يتخرصون بما لا يعلمون، فيقولون: إن محمدا مجنون كذاب ساحر شاعر، وهذا دعاء عليهم، لان من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال ابن الأنباري: علمنا الدعاء عليهم، أي قولوا: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) وهو جمع خارص والخرص الكذب والخراص الكذاب، وقد خرص يخرص بالضم خرصا أي كذب،
__________
(1). راجع ج 16 ص 205

يقال: خرص واخترص، وخلق واختلق، وبشك وابتشك، وسرج واسترج، ومان، بمعنى كذب، حكاه النحاس. والخرص أيضا حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وقد خرصت النخل والاسم الخرص بالكسر، يقال: كم خرص نخلك والخراص الذي يخرصها فهو مشترك. واصل الخرص القطع على ما تقدم بيانه في (الانعام) «1» ومنه الخريص للخليج، لأنه ينقطع إليه الماء، والخرص حبة القرط إذا كانت منفردة، لانقطاعها عن أخواتها، والخرص العود، لانقطاعه عن نظائره بطيب رائحته. والخرص الذي به جوع وبرد لأنه ينقطع به، يقال: خرص الرجل بالكسر فهو خرص، أي جائع مقرور، ولا يقال للجوع بلا برد خرص. ويقال للبرد بلا جوع خرص. والخرص بالضم والكسر الحلقة من الذهب أو الفضة والجمع الخرصان. ويدخل في الخرص قول المنجمين وكل من يدعي الحدس والتخمين. وقال ابن عباس: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة، واقتسموا القول في نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليصرفوا الناس عن الايمان به. قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) الغمرة ما ستر الشيء وغطاه. ومنه نهر غمر أي يغمر من دخله، ومنه غمرات الموت. (ساهُونَ) أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة. قوله تعالى: (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي متى يوم الحساب، يقولون ذلك استهزاء وشكا في القيامة. (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) نصب (يَوْمَ) على تقدير الجزاء أي هذا الجزاء (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب أي أحرقته لتختبره، واصل الفتنة الاختبار. وقيل: إنه مبني بني لاضافته إلى غير متمكن، وموضعه نصب على التقدير المتقدم، أو رفع على البدل من (يَوْمُ الدِّينِ). وقال الزجاج: يقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع، فإنما أنتصب هذا وهو في المعنى رفع. وقال ابن عباس: (يُفْتَنُونَ) يعذبون. ومنه قول الشاعر:
كل امرئ من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون
__________
(1). راجع ج 7 ص 71 [.....]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)

قوله تعالى: (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي يقال لهم ذوقوا عذابكم، قاله ابن زيد. مجاهد: حريقكم. ابن عباس: أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفراء: أي عذابكم (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) في الدنيا. وقال: (هذَا) ولم يقل هذه، لان الفتنة هنا بمعنى العذاب.

[سورة الذاريات (51): الآيات 15 الى 16]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لما ذكر مآل الكفار ذكر مآل المؤمنين أي هم في بساتين فيها عيون جارية على نهاية ما يتنزه به. (آخِذِينَ) نصب على الحال. (ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي ما أعطاهم من الثواب وأنواع الكرامات، قاله الضحاك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي عاملين بالفرائض. (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي قبل دخولهم الجنة في الدنيا (مُحْسِنِينَ) بالفرائض. وقال ابن عباس: المعنى كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين في أعمالهم.

[سورة الذاريات (51): الآيات 17 الى 19]
كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) معنى (يَهْجَعُونَ) ينامون، والهجوع النوم ليلا، والتهجاع النومة الخفيفة، قال أبو قيس بن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع
وقال عمرو بن معدى كرب يتشوق أخته وكان أسرها الصمة أبو دريد بن الصمة:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
يقال: هجع يهجع هجوعا، وهبغ يهبغ هبوغا بالغين المعجمة إذا نام، قاله الجوهري. وأختلف في (ما) فقيل: صلة زائدة- قاله إبراهيم النخعي- والتقدير كانوا قليلا من الليل

يهجعون، أي ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. قال عطاء: وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذر «1» يحتجز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) «2». الآية. وقيل: ليس (ما) صلة بل الوقف عند قوله: (قَلِيلًا) ثم يبتدئ (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ف (ما) للنفي وهو نفى النوم عنهم البتة. قال الحسن: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فجدوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: اختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: (كانُوا قَلِيلًا) معناه كان عددهم يسيرا ثم ابتدأ فقال: (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) على معنى من الليل يهجعون، قال ابن الأنباري: وهذا فاسد، لان الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد فلو ابتدأنا (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم، لان الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون (ما) جحدا. قلت: وعلى ما تأوله بعض الناس- وهو قول الضحاك- من أن عددهم كان يسيرا يكون الكلام متصلا بما قبل من قوله: (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي كان المحسنون قليلا، ثم استأنف فقال: (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) وعلى التأويل الأول والثاني يكون (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ) خطابا مستأنفا بعد تمام ما تقدمه ويكون الوقف على (ما يَهْجَعُونَ)
، وكذلك إن جعلت (قَلِيلًا) خبر كان وترفع (ما) بقليل، كأنه قال: كانوا قليلا من الليل هجوعهم. ف (ما) يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا، ويجوز أن تكون رفعا على البدل من اسم كان، التقدير كان هجوعهم قليلا من الليل، وانتصاب قوله: (قَلِيلًا) إن قدرت (ما) زائدة مؤكدة ب (يَهْجَعُونَ) على تقدير كانوا وقتا قليلا أو هجوعا قليلا يهجعون، وإن لم تقدر (ما) زائدة كان قوله: (قَلِيلًا) خبر كان ولم يجز نصبه ب (يَهْجَعُونَ)، لأنه إذا قدر نصبه ب (يَهْجَعُونَ) مع تقدير (ما) مصدرا قدمت الصلة على الموصول. وقال أنس وقتادة في تأويل الآية: أي كانوا يصلون بين العشاءين: المغرب والعشاء. أبو العالية: كانوا لا ينامون بين العشاءين. وقاله ابن وهب. وقال مجاهد:
__________
(1). في ز، ل، ن: (أبو بكر).
(2). راجع ج 19 ص 32

نزلت في الأنصار كانوا يصلون العشاءين في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يمضون إلى قباء. وقال محمد بن علي بن الحسين: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة. قال الحسن: كأنه عد هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة. وقال ابن عباس ومطرف: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون لله فيها إما من أولها وإما من وسطها. الثانية- روي عن بعض المتهجدين أنه أتاه آت في منامه فأنشده:
وكيف تنام الليل عين قريرة ... ولم تدر في أي المجالس تنزل
وروي عن رجل من الأزد أنه قال: كنت لا أنام الليل فنمت في أخر الليل، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت ومعهما حلل، فوقفا على كل مصل وكسواه حلة، ثم انتهيا إلى النيام فلم يكسواهم، فقلت لهما: اكسواني من حللكما هذا، فقالا لي: إنها ليست حلة لباس إنما هي رضوان الله يحل على كل مصل. ويروى عن أبي خلاد أنه قال: حدثني صاحب لي قال: فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ مثلت لي القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم، وأشرقت ألوانهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة، ووجوههم مشرقة ووجوه الناس مغبرة! فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الأذان والإقامة، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر والتهجد، قال: ورأيت أقواما على نجائب فقلت: ما بال هؤلاء ركبانا والناس مشاة حفاة؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربا لله تعالى فأعطاهم الله بذلك خير الثواب، قال: فصحت في منامي: واها للعابدين، ما أشرف مقامهم! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف. الثالثة- قوله تعالى: (بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) مدح ثان، أي يستغفرون من ذنوبهم، قاله الحسن. والسحر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء. وقد مضى في (آل عمران) «1» القول فيه. وقال ابن عمرو مجاهد: أي يصلون وقت السحر فسموا الصلاة استغفارا. وقال الحسن في قوله تعالى: (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) مدوا الصلاة من أول الليل
__________
(1). راجع ج 4 ص 38

إلى السحر ثم استغفروا في السحر. ابن وهب: هي في الأنصار، يعني أنهم كانوا يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي حبيب قالوا: كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار ثم يهجعون قليلا، ثم يصلون آخر الليل. الضحاك: صلاة الفجر. قال الأحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا لا نبلغ أعمالهم (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، يكذبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت، فوجدنا خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. الرابعة- قوله تعالى: (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) مدح ثالث. قال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة. وقيل: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلا، أو يغني محروما. وقاله ابن عباس، لان السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. ابن العربي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة (سأل سائل): (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) «1» والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم، لأنه غير مقدر ولا مجنس ولا موقت. الخامسة- قولة تعالى: (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) السائل الذي يسأل الناس لفاقته، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما. (وَالْمَحْرُومِ) الذي حرم المال. واختلف في تعيينه، فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما: المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: المحروم المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه، يقال: رجل محارف بفتح الراء أي محدود محروم، وهو خلاف قولك مبارك. وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه. وقال قتادة والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يعلم بحاجته. وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية: المحروم الذي يجئ بعد الغنيمة وليس له فيها سهم. روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سرية فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعد ما فرغوا فنزلت هذه الآية (وَفِي أَمْوالِهِمْ). وقال
__________
(1). راجع ج 18 ص 291

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

عكرمة: المحروم الذي لا يبقى له مال. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته. وقال القرظي: المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ (إن لمغرمون. بل نحن محرومون) نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) وقال أبو قلابة: كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحابه: هذا المحروم فأقسموا له. وقيل: إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه. وهو يروى عن ابن عباس أيضا. وقال عبد الرحمن بن حميد: المحروم المملوك. وقيل: إنه الكلب، روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة، فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم. وقيل: إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الأنساب، لأنه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره. وروى ابن وهب عن مالك: أنه الذي يحرم الرزق، وهذا قول حسن، لأنه يعم جميع الأقوال. وقال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ. رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي. وأصله في اللغة الممنوع، من الحرمان وهو المنع. قال علقمة:
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم
وعن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لاقربنكم ولابعدنهم) ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ذكره الثعلبي.

[سورة الذاريات (51): الآيات 20 الى 23]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
قوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) لما ذكر أمر الفريقين بين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور، فمنها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه

قدرا لأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم، خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها. قوله تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) قيل: التقدير وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين. وقال قتادة: المعنى من سار في الأرض رأى آيات وعبرا، ومن تفكر في نفسه علم أنه خلق ليعبد الله. ابن الزبير ومجاهد: المراد سبيل الخلاء والبول. وقال السائب ابن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين، ولو شرب لبنا محضا لخرج منه الماء ومنه الغائط، فتلك الآية في النفس. وقال ابن زيد: المعنى أنه خلقكم من تراب، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ) «1» (تَنْتَشِرُونَ). السدي: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي في حياتكم وموتكم، وفيما يدخل ويخرج من طعامكم. الحسن: وفي الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، والشيب بعد السواد. وقيل: المعنى وفي خلق أنفسكم من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم إلى نفخ الروح، وفي اختلاف الألسنة والألوان والصور، إلى غير ذلك من الآيات الباطنة والظاهرة، وحسبك بالقلوب وما ركز «2» فيها من العقول، وما خصت به من أنواع المعاني والفنون، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف والأبصار والاطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، وأنه إذا جسا «3» شي منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ ألذ ل (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) «4». (أَفَلا تُبْصِرُونَ) يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته. وقيل: إنه نجح العاجز، وحرمان الحازم. قلت: كل ما ذكر مراد في الاعتبار. وقد قدمنا في آية التوحيد من سورة (البقرة) «5» (أن ما في بدن الإنسان الذي هو العالم الصغير شي إلا وله نظير في العالم الكبير، وذكرنا هناك من الاعتبار ما يكفي ويغني لمن تدبر.
__________
(1). راجع ج 14 ص (17)
(2). في الأصل المطبوع: (وما فيها من العقول).
(3). جست اليد تيبست عظامها وقل لحمها.
(4). راجع ج 12 ص (110)
(5). راجع ج 2 ص 202

قوله تعالى: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق. قال سعيد بن جبير: كل عين قائمة فإنها من الثلج. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم. وقال أهل المعاني: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) معناه وفي المطر رزقكم، سمي المطر سماء لأنه من السماء ينزل. قال الشاعر «1»:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم، نظيره: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) إلا على الله رزقها»
. وقال سفيان الثوري: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي عند الله في السماء رزقكم. وقيل: المعنى وفي السماء تقدير رزقكم، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب. وعن سفيان قال: قرأ واصل الأحدب (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض! فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا فإذا هو في الثالثة بدوخلة «3» رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الله بالموت بينهما. وقرا ابن محيصن ومجاهد (وفي السماء رازقكم) بالألف وكذلك في أخرها (إن الله هو الرازق.) وَما تُوعَدُونَ) قال مجاهد: يعني من خير وشر. وقال غيره: من خير خاصة. وقيل: الشر خاصة. وقيل: الجنة، عن سفيان بن عيينة. الضحاك: (وَما تُوعَدُونَ) من الجنة والنار. وقال ابن سيرين: (وَما تُوعَدُونَ) من أمر الساعة. وقاله الربيع. قوله تعالى: (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله: (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) وخص النطق من بين سائر الحواس، لان ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي
__________
(1). هو معود الحكماء معاوية بن مالك، وسمي معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة:
أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الحدثان نابا

(2). راجع ج 9 ص 3
(3). الدوخلة (بتشديد اللام وتخفيفها): سفيفة من خوص يوضع فيها التمر والرطب.

يرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدوى والطنين في الاذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به. وقال بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره. وقال الحسن: بلغني أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ (. وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتل علي منه شيئا، فقرأت (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) إلى قوله: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) فقال: يا أصمعي حسبك!! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) فمقت نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي واخذ بيدي وقال: أتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت (وَالذَّارِياتِ) حتى وصلت إلى قوله تعالى: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) فقال الاعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم، يقول الله تبارك وتعالى: (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) قال فصاج الاعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه. وقال يزيد بن مرثد: إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شي فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به، فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو أن أحدكم

فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت) أسنده الثعلبي. وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعالج شيئا فأعناه عليه، فقال: (لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر) «1» (ثم يرزقه الله). وروي أن قوما من الاعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رءوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول:
لو كان في صخرة في البحر راسية ... صما ململمة ملسا نواحيها
رزق لنفس براها الله لانفلقت ... حتى تؤدي إليها كل ما فيها
أو كان بين طباق السبع مسلكها ... لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى تنال الذي في اللوح خط لها ... إن لم تنله وإلا سوف يأتيها
قلت: وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسمع قوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) فرجع ولم يكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب، وقد ذكرناه في سورة (هود) «2». وقال لقمان: (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) الآية. وقد مضى في (لقمان) «3» وقد استوفينا هذا الباب في كتاب (قمع الحرص بالزهد والقناعة) والحمد لله. وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شي، وهو فراغ القلب مع الرب، رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه. قوله تعالى: (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) قراءة العامة (مِثْلَ) بالنصب أي كمثل (ما أَنَّكُمْ) فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و(ما) زائدة، قاله بعض الكوفيين. وقال الزجاج والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد، أي لحق حقا مثل
__________
(1). القشر هنا الثياب.
(2). راجع ج 9 ص 6 [.....]
(3). راجع ج 14 ص 66

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)

نطقك، فكأنه نعت لمصدر محذوف. وقول سيبويه: انه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و(ما) زائدة للتوكيد. المازني: (مِثْلَ) مع (ما) بمنزلة شي واحد فبني على الفتح لذلك. وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: ولان من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا، فتقول: قال لي رجل مثلك، ومررت برجل مثلك بنصب [مثل على معنى كمثل «1»]. وقرا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش (مثل) بالرفع على أنه صفة لحق، لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة، إذ لا يختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين. و(مِثْلَ) مضاف إلى (أَنَّكُمْ) و(ما) زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة المصدر إذ لا فعل معها تكون معه مصدرا. ويجوز أن تكون بدلا من (لَحَقٌّ).

[سورة الذاريات (51): الآيات 24 الى 28]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
قوله تعالى: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) ذكر قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته كما فعل بقوم لوط. (هَلْ أَتاكَ) أي ألم يأتك. وقيل: (هَلْ) بمعنى قد، كقوله تعالى: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) «2». وقد مضى الكلام في ضيف إبراهيم في (هود) «3» (والحجر) «4». (الْمُكْرَمِينَ) أي عند الله، دليله قوله تعالى: (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) «5» قال ابن عباس: يريد جبريل وميكائيل وإسرافيل- زاد عثمان بن حصين- ورفائيل عليهم الصلاة والسلام. وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه تسعة. وقال عطاء وجماعة: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر.
__________
(1). الزيادة من اعراب القرآن للنحاس.
(2). راجع ج 19 ص (116)
(3). راجع ج 9 ص (62)
(4). راجع ج 10 ص (35)
(5). راجع ج 11 ص 281

قال ابن عباس: سماهم مكرمين لأنهم غير مذعورين. وقال مجاهد: سماهم مكرمين لخدمة إبراهيم إياهم بنفسه. قال عبد الوهاب: قال لي علي بن عياض: عندي هريسة ما رأيك فيها؟ قلت: ما أحسن رأيي فيها، قال: امض بنا، فدخلت الدار فنادى الغلام فإذا هو غائب، فما راعني إلا به ومعه القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، لو علمت يا أبا الحسن أن الامر هكذا، قال: هون عليك فإنك عندنا مكرم، والمكرم إنما يخدم بالنفس، انظر إلى قوله تعالى: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ). قوله تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) تقدم في (الحجر) «1». (قالَ سَلامٌ) أي عليكم سلام. ويجوز بمعنى أمري سلام أو ردي لكم سلام. وقرا أهل الكوفة إلا عاصما (سلم) بكسر السين. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي أنتم قوم منكرون، أي غرباء لا نعرفكم. وقيل: لأنه رآهم على غير صورة البشر، وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم فنكرهم، فقال: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ). وقيل: أنكرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض. وقيل: خافهم، يقال: أنكرته إذا خفته، قال الشاعر «2»:
فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
قوله تعالى: (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) قال الزجاج: أي عدل إلى أهله. وقد مضى في (والصافات) «3». ويقال: أراغ وارتاغ بمعنى طلب، وماذا تريغ أي تريد وتطلب، وأراغ إلى كذا أي مال إليه سرا وحاد، فعلى هذا يكون راغ وأراغ لغتين بمعنى. (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي جاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في (هود): (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) «4». ويقال: إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي «5» من ضيفه، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام.
__________
(1). راجع ج 10 ص (34)
(2). هو الأعشى.
(3). راجع ج 15 ص (94)
(4). راجع ج 9 ص 63 و(68)
(5). في ن: (كالمستحي).

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

قوله تعالى: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) يعني العجل. ف (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر، وأختاره لهم سمينا زيادة في إكرامهم. وقيل: العجل في بعض اللغات الشاة. ذكره القشيري. وفي الصحاح: العجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة، عن أبي الجراح، وبقرة معجل ذات عجل، وعجل قبيلة من ربيعة. قوله تعالى: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي أحس منهم في نفسه خوفا. وقيل: أضمر لما لم يتحرموا بطعامه. ومن أخلاق الناس: أن من تحرم بطعام إنسان أمنه. وقال عمرو ابن دينار: قالت الملائكة لأنا كل إلا بالثمن. قال: كلوا وأدوا ثمنه. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم وتحمدونه إذا فرغتم. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لهذا اتخذك الله خليلا. وقد تقدم هذا في (هود). ولما رأوا ما بإبراهيم من الخوف (قالُوا لا تَخَفْ) وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله. (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي بولد يولد له من سارة زوجته. وقيل: لما أخبروه أنهم ملائكة لم يصدقهم، فدعوا الله فأحيا العجل الذي قربه إليهم. وروى عون بن أبي شداد: أن جبريل مسح العجل بجناحه، فقام يدرج حتى لحق بأمه وام العجل في الدار. ومعنى (عَلِيمٍ) أي يكون بعد بلوغه من أولي العلم بالله وبدينه. والجمهور على أن المبشر به هو إسحاق. وقال مجاهد وحده: هو إسماعيل وليس بشيء فإن الله تعالى يقول: (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ «1»). وهذا نص.

[سورة الذاريات (51): الآيات 29 الى 30]
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
قوله تعالى: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي في صيحة وضجة، عن ابن عباس وغيره. ومنه أخذ صرير الباب وهو صوته. وقال عكرمة وقتادة: إنها الرنة والتأوه ولم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان. قال الفراء: وإنما هو كقولك أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي. وقيل: أقبلت في صرة أي في جماعة من النساء «2» تسمع كلام الملائكة. قال
__________
(1). راجع ج 15 ص (99)
(2). في ن: (الناس).

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

الجوهري: الصرة الضجة والصيحة، والصرة الجماعة، والصرة الشدة من كرب وغيره، قال امرؤ القيس:
فألحقه بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرة لم تزيل «1»
يحتمل هذا البيت الوجوه الثلاثة. وصرة القيظ شدة حره. فلما سمعت سارة البشارة صكت وجهها، أي ضربت يدها على وجهها على عادة النسوان عند التعجب، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال ابن عباس: صكت وجهها لطمته. واصل الصك الضرب، صكة أي ضربه، قال الراجز «2»:
يا كروانا صك فاكبأنا

قال الأموي: كبن الظبي إذا لطأ بالأرض واكبأن انقبض. (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي أتلد عجوز عقيم. الزجاج: أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد، كما قالت: (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) «3». (قالُوا كَذلِكَ) أي كما قلنا لك وأخبرناك (قالَ رَبُّكِ) فلا تشكي فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة، وكانت سارة لم تلد قبل ذلك فولدت وهى بنت تسع وتسعين سنة، وابراهيم يومئذ ابن مائة سنة وقد مضى هذا. (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) حكيم فيما يفعله عليم بمصالح خلقه.

[سورة الذاريات (51): الآيات 31 الى 37]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
__________
(1). ويروى فألحقنا والبيت من معلقته، والهاديات أوائل بقر الوحش، وجواحرها متخلفاتها، ولم تزيل، أي لم تتفرق، يقول: لما لحق هذا الفرس أوائل بقر الوحش بقيت أواخرها لم تتفرق. [.....]
(2). هو مدرك بن حصن. وتمامه:
فشن بالسلح فلما شنا

(3). راجع ج 9 ص 69

قوله تعالى: (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) لما تيقن ابراهيم عليه السلام أنهم ملائكة بإحياء العجل والبشارة قال لهم: (فَما خَطْبُكُمْ) أي ما شأنكم وقصتكم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)
(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يريد قوم لوط. (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) أي لنرجمهم بها. (مُسَوَّمَةً) أي معلمة. قيل: كانت مخططة بسواد وبياض. وقيل: بسواد وحمرة. وقيل: (مُسَوَّمَةً) أي معروفة بأنها حجارة العذاب. وقيل: على كل حجر أسم من يهلك به. وقيل: عليها أمثال الخواتيم. وقد مضى هذا كله في (هود) 1. فجعلت الحجارة تتبع مسافريهم وشذاذهم فلم يفلت منهم مخبر. (عِنْدَ رَبِّكَ) أي عند الله وقد أعدها لرجم من قضى برجمه. ثم قيل: كانت مطبوخة طبخ الآجر، قاله ابن زيد، وهو معنى قوله تعالى: (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) على ما تقدم بيانه في (هود). وقيل: هي الحجارة التي نراها واصلها طين، وإنما تصير حجارة بإحراق الشمس إياها على مر الدهور. وإنما قال: (مِنْ طِينٍ) ليعلم أنها ليست حجارة الماء التي هي البرد. حكاه القشيري. قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قومه من المؤمنين، لئلا يهلك المؤمنون، وذلك قوله تعالى: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) 1. (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يعني لوطا وبنتيه وفية إضمار، أي فما وجدنا فيها غير أهل بيت. وقد يقال بيت شريف يراد به الأهل. وقوله: (فِيها) كناية عن القرية ولم يتقدم لها ذكر، لان المعنى مفهوم. وأيضا فقوله تعالى: (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يدل على القرية، لان القوم إنما يسكنون قرية. وقيل: الضمير فيها للجماعة. والمؤمنون والمسلمون ها هنا سواء فجنس اللفظ لئلا يتكرر، كما قال:ِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
«1». وقيل: الايمان تصديق القلب، والإسلام الانقياد بالظاهر، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. فسماهم في الآية الاولى مؤمنين، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وقد مضى الكلام في هذا المعنى في (البقرة) «2» وغيرها. وقوله: (قالَتِ الْأَعْرابُ)
__________
(1). راجع ج 9 ص 82 وص 79 وص 215.
(2). (راجع ج 1 ص 193

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)

آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) يدل على الفرق بين الايمان والإسلام وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره. وقد بيناه في غير موضع. قوله تعالى: (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) أي عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم، نظيره: (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) «1». ثم قيل: الآية المتروكة نفس القرية) الخربة. وقيل: الحجارة المنضودة التي رجموا بها هي الآية. (لِلَّذِينَ يَخافُونَ) لأنهم المنتفعون «2».

[سورة الذاريات (51): الآيات 38 الى 40]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
قوله تعالى: (وَفِي مُوسى ) أي وتركنا أيضا في قصة موسى آية. وقال الفراء: هو معطوف على قوله: (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) (وَفِي مُوسى ). (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة بينة وهي العصا. وقيل: أي بالمعجزات من العصا وغيرها. قوله تعالى: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي فرعون أعرض عن الايمان (بِرُكْنِهِ) أي بمجموعة وأجناده، قاله ابن زيد. وهو معنى قول مجاهد، ومنه قوله: (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ «3» شَدِيدٍ) يعني المنعة والعشيرة. وقال ابن عباس وقتادة: بقوته. ومنه قول عنترة:
فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني «4»
وقيل: بنفسه. وقال الأخفش: بجانبه، كقوله تعالى: (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) «5» (وقاله المؤرج. الجوهري: وركن الشيء جانبه الأقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعه. القشيري: والركن جانب البدن. وهذا عبارة عن المبالغة في الاعراض عن الشيء.
__________
(1). راجع ج 13 ص 343.
(2). في ح (المشفقون).
(3). راجع ج 9 ص 78.
(4). في رواية: ولا وصلت ال يد الزمان.
(5). راجع ج 10 ص 321.

وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

(وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (أَوْ) بمعنى الواو، لأنهم قالوهما جميعا. قاله المؤرج والفراء، وأنشد بيت جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهية والخشابا «1»
وقد توضع (أَوْ) بمعنى الواو، كقوله تعالى: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) «2» والواو بمعنى أو، كقوله تعالى: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) وقد تقدم جميع هذا «3».َأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ)
لكفرهم وتوليهم عن الايمان.َنَبَذْناهُمْ)
أي طرحناهمِ ي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)
يعني فرعون، لأنه أتى ما يلام عليه.

[سورة الذاريات (51): الآيات 41 الى 42]
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
قوله تعالى: (وَفِي عادٍ) أي وتركنا في عاد آية لمن تأمل. (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وهي التي لا تلقح سحابا ولا شجرا، ولا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة، ومنه امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد. ثم قيل: هي الجنوب. روى ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الرِّيحَ الْعَقِيمَ الجنوب وقال مقاتل: هي الدبور كما في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور). وقال ابن عباس: هي النكباء. وقال عبيد بن عمير: مسكنها الأرض الرابعة وما فتح على عاد منها إلا كقدر منخر الثور. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا أنها الصبا، فالله أعلم. قوله تعالى: (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي كالشيء الهشيم، يقال للنبت إذا يبس وتفتت: رميم وهشيم. قال ابن عباس: كالشيء الهالك البالي، وقاله مجاهد. ومنه قول الشاعر «4»:
__________
(1). طهية- كسمية-: حي من تميم نسبوا إلى أمهم، والخشاب: بطون من تميم أيضا.
(2). راجع ج 19 ص (147)
(3). راجع ج 5 ص (17)
(4). هو جرير يرثى ابنه.

وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)

تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرمة البالي
وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات. وقال أبو العالية والسدي: كالتراب المدقوق. قطرب: الرميم الرماد. وقال يمان: ما رمته الماشية من الكلا بمرمتها. ويقال للشفة المرمة والمقمة بالكسر، والمرمة بالفتح لغة فيه. واصل الكلمة من رم العظم إذا بلي، تقول منه: رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم، قال [الشاعر «1»]:
ورأى عواقب خلف ذاك مذمة ... تبقى عليه والعظام رميم
والرمة بالكسر العظام البالية والجمع رمم ورمام. ونظير هذه الآية: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) حسب ما»
تقدم.

[سورة الذاريات (51): الآيات 43 الى 45]
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
قوله تعالى: (وَفِي ثَمُودَ) أي وفيهم أيضا عبرة وآية حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا (حَتَّى حِينٍ) أي إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام كما في هود: «3» (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ). وقيل: معنى (تَمَتَّعُوا) أي أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم. (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي خالفوا أمر الله فعقروا الناقة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي الموت. وقيل: هي كل عذاب مهلك. قال الحسين بن واقد: كل صاعقة في القرآن فهو العذاب. وقرا عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي (الصعقة) يقال صعق الرجل صعقة وتصعاقا أي غشي عليه. وصعقتهم السماء «4» أي ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب وقد مضى في (البقرة) «5» وغيرها. (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها نهارا. (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) قيل: معناه
__________
(1). من ن. [.....]
(2). راجع ج 16 ص 206.
(3). راجع ج 9 ص 60.
(4). في ح، ز، ل، ن: (إذا ألقت).
(5). راجع ج 1 ص 219.

وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)

من نهوض. وقيل: ما أطاقوا أن يستقلوا بعذاب الله وأن يتحملوه ويقوموا به ويدفعوه عن أنفسهم، تقول: لا أقوم لهذا الامر أي لا أطيقه. وقال ابن عباس: أي ذهبت أجسامهم وبقيت أرواحهم في العذاب. (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ممتنعين من العذاب حين أهلكوا، أي ما كان لهم ناصر.

[سورة الذاريات (51): آية 46]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)
قوله تعالى: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو (وقوم نوح) بالخفض، أي وفي قوم نوح آية أيضا. الباقون بالنصب على معنى وأهلكنا قوم نوح، أو يكون معطوفا على الهاء والميم في (فَأَخَذَتْهُمُ) أو الهاء فيَ أَخَذْناهُ)
أي فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوح، أوَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ)
ونبذنا قوم نوح، أو يكون بمعنى اذكر.

[سورة الذاريات (51): الآيات 47 الى 49]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
قوله تعالى: (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) لما بين هذه الآيات قال: وفي السماء آيات وعبر تدل على أن الصانع قادر على الكمال، فعطف أمر السماء على قصة قوم نوح لأنهما آيتان. ومعنى (بِأَيْدٍ) أي بقوة وقدرة. عن ابن عباس وغيره. (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) قال ابن عباس: لقادرون. وقيل: أي وإنا لذو سعة، وبخلقها وخلق غيرها لا يضيق علينا شي نريده. وقيل: أي وإنا لموسعون الرزق على خلقنا. عن ابن عباس أيضا. الحسن: وإنا لمطيقون. وعنه أيضا: وإنا لموسعون الرزق بالمطر. وقال الضحاك: أغنيناكم، دليله: (عَلَى الْمُوسِعِ «1» قَدَرُهُ). وقال القتبي: ذو سعة على خلقنا. والمعنى متقارب. وقيل: جعلنا بينهما وبين الأرض سعة. الجوهري: وأوسع الرجل أي صار ذا سعة وغنى، ومنه قوله تعالى: (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي أغنياء قادرون. فشمل جميع الأقوال. (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها)
__________
(1). راجع ج 3 ص 203

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)

أي بسطناها كالفراش على وجه الماء ومددناها. (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي فنعم الماهدون نحن لهم «1». والمعنى في الجمع التعظيم، مهدت الفراش مهدا بسطته ووطأته، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها. قولع تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي صنفين ونوعين مختلفين. قال ابن زيد: أي ذكرا وأنثى وحلوا وحامضا ونحو ذلك. مجاهد: يعني الذكر والأنثى، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والنور والظلام، والسهل والجبل، والجن والانس، والخير والشر، والبكرة والعشي، وكالأشياء المختلفة الا لو ان من الطعوم والأراييح والأصوات. أي جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا، ومن قدر على هذا فليقدر على الإعادة. وقيل: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) لتعلموا أن خالق الأزواج فرد، فلا يقدر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء، إذ هو عز وجل وتر (لَيْسَ كَمِثْلِهِ «2» شَيْءٌ.) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

[سورة الذاريات (51): الآيات 50 الى 55]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
(قوله تعالى:) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم، لذلك قال الله تعالى: لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل لهم يا محمد، أي قل لقومك: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي فروا من معاصيه إلى طاعته. وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين
__________
(1). لفظة (لهم) ساقطة من ز.
(2). راجع ج 16 ص 8

ابن الفضل: احترزوا من كل شي دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم. وقال أيضا: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية. قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أمر محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول هذا للناس وهو النذير. وقيل: هو خطاب من الله للخلق. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي من محمد وسيوفه (نَذِيرٌ) أي أنذركم بأسه وسيفه إن أشركتم بي، قاله ابن عباس. قوله تعالى: (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ) هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من (كَذلِكَ) يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من تقدمني من الرسل الذين أنذروا قومهم، أو رفعا على تقدير الامر كذلك أي كالأول. والأول تخويف لمن عصاه من الموحدين، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله: (كَذلِكَ) عن يعقوب وغيره. قوله تعالى: (أَتَواصَوْا بِهِ) أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطئوا عليه، والألف للتوبيخ والتعجب. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. قوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم وأصفح عنهم (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وقيل: نسخ بآية السيف. والأول قول الضحاك، لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عنهم (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي ليس يلومك

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

ربك على تقصير كان منك (وَذَكِّرْ) أي بالعظة فإن العظة (تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). قتادة: (وَذَكِّرْ) بالقرآن (فَإِنَّ الذِّكْرى ) به (تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين، لأنهم المنتفعون بها.

[سورة الذاريات (51): الآيات 56 الى 60]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
قوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والانس إلا ليوحدون. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص على القطع، لان المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) «1» ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، فالآية محمولة على المؤمنين منهم، وهو كقوله تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) «2» وإنما قال فريق منهم. ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي. وفي قراءة عبد الله: (وما خلقت الجن والانس من المؤمنين إلا ليعبدون) وقال علي رضي الله عنه: أي وما خلقت الجن ولأنس إلا لآمرهم بالعبادة. واعتمد الزجاج على هذا القول، ويدل عليه قوله تعالى: (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) «3». فإن قيل: كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل: تذللوا لقضائه عليهم، لان قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه. وقيل: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها، رواه علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة. مجاهد: إلا ليعرفوني.
__________
(1). راجع ج 7 ص (324)
(2). راجع ج 16 ص (348)
(3). راجع ج 8 ص 119

الثعلبي: وهذا قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ «1» اللَّهُ) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) «2» وما أشبه هذا من الآيات. وعن مجاهد أيضا: إلا لآمرهم وأنهاهم. زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة، فخلق السعداء من الجن والانس للعبادة، وخلق الأشقياء منهم للمعصية. وعن الكلبي أيضا: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، يدل عليه قوله تعالى: (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) «3» الآية. وقال عكرمة: إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل: المعنى إلا لاستعبدهم. والمعنى متقارب، تقول: عبد بين العبودة والعبودية، واصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل، يقال: طريق معبد. قال «4»:
وظيفا وظيفا فوق مور معبد

والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة: الطاعة، والتعبد التنسك. فمعنى (لِيَعْبُدُونِ) ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا. (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) (مِنْ) صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) وقرا ابن محيصن وغيره (الرازق). (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي الشديد القوي. وقرا الأعمش ويحيى بن وثاب والنخعي (الْمَتِينُ) بالجر على النعت للقوة. الباقون بالرفع على النعت ل (الرَّزَّاقُ) أو (ذُو) من قوله: (ذُو الْقُوَّةِ) أو يكون خبر ابتداء محذوف، أو يكون نعتا لاسم إن على الموضع، أو خبرا بعد خبر. قال الفراء: كان
__________
(1). راجع ج 16 ص 123 وص (64)
(2). راجع ج 16 ص 123 وص (64)
(3). راجع ج 14 ص (80)
(4). هو طرفة بن العبد، والبيت من معطقته وصدره:
تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت

الوظيف عظم الساق. وقوله أتبعت وظيفا وظيفا أي أتبعت وظيف يدها وظيف رجلها، ويستحب من الناقة أن تجعل رجلها في موضع يدها إذا سارت. والمور: الطريق. [.....]

حقه المتينة فذكره لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل، يقال: حبل متين. وأنشد الفراء:
لكل دهر قد لبست أثوبا ... حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا

من ريطة واليمنة المعصبا

فذكر المعصب، لان اليمنة صنف من الثياب، ومن هذا الباب قوله تعالى: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) «1» أي وعظ (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) «2» أي الصياح والصوت. قوله تعالى: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي كفروا من أهل مكة (ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة. وقال ابن الاعرابي: يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي. واصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا، قال الراجز:
لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب
وقال علقمة:
وفي كل يوم قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
وقال آخر «3»:
لعمرك والمنايا طارقات ... لكل بني أب منها ذنوب
الجوهري: والذنوب الفرس الطويل الذنب، والذنوب النصيب، والذنوب لحم أسفل المتن، والذنوب الدلو الملأى ماء. وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من الملء يؤنث ويذكر، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، والجمع في أدنى العدد أذنبه والكثير ذنائب، مثل قلوص وقلائص. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم، لأنهم قالوا: يا محمد (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) «4» فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجل بهم انتقامه، ثم لهم في الآخرة العذاب الدائم، والخزي القائم، الذي لا انقطاع له
__________
(1). راجع ج 3 ص (359)
(2). راجع ج 9 ص (61)
(3). قائله أبو ذؤيب.
(4). راجع ج 7 ص 237 وج 9 ص 27

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)

[تفسير سورة والطور]
سورة (والطور) مكية كلها في قول الجميع، وهى تسع وأربعون آية روى الأئمة عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بالطور في المغرب. متفق عليه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الطور (52): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8)
قوله تعالى: قوله تعالى: (وَالطُّورِ) الطُّورِ اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى، أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسماعيل ابن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة) «1» قيل: فما الا جبل؟ قال: (جبل أحد يحبنا ونحبه والطُّورِ جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة [والجودي «2» جبل من جبال الجنة] (وذكر الحديث، وقد استوفيناه في كتاب (التذكرة). قال مجاهد: الطُّورِ هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدي. وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما طور سينا والآخر طور زيتا، لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل: هو جبل بمدين واسمه زبير. قال الجوهري: والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.
__________
(1). الملاحم: غزوة بدر واحد والخندق وخيبر.
(2). الزيادة من ن.

قلت: ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل: إن الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور، قاله ابن عباس. وقد مضى في (البقرة) «1» مستوفى. قوله تعالى: (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي مكتوب، يعني القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف، ويقرءوه الملائكة من اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) «2». وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رق ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم. وقال الفراء: هو صحائف الأعمال، فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله، نظيره: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) «3» وقوله: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) «4». وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرءون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين، بيانه: (أولئك كتب في قلوبهم الايمان) «5». قلت: وفي هذا القول تجوز، لأنه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد: الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء، والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها، ومنه قول المتلمس:
فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور «6»
وأما الرق بالكسر فهو الملك، يقال: عبد مرقوق. وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب. قوله تعالى: (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) قال علي وابن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال
__________
(1). راجع ج 1 ص 436.
(2). راجع ص 224 وص 308 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 10 ص 229.
(4). راجع ج 19 ص 232.
(5). راجع ص 224 وص 308 من هذا الجزء.
(6). لم تعثر على هذا البيت في ديوان المتلمس.

علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة. وقيل: في السماء الرابعة، روى أنس ابن مالك، عن مالك بن صعصعة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حيال الكعبة لو خر خر عليها يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه) ذكره الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا. وقال أبو بكر الأنباري: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه قال: فما البيت المعمور؟ قال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وكذا في (الصحاح): والضراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ابن عباس. وعمر أنه كثرة غاشيته من الملائكة. وقال المهدوي عنه: حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الاسراء: (ثم رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذ اخرجوا منه لم يعودوا إليه آخر «1» ما عليهم) وذكر الحديث. وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أتيت بالبراق) الحديث، وفية: (ثم عرج بنا إلى السابعة) «2» (فأستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه (. وعن ابن عباس أيضا قال: لله في السموات والأرضين خمسة عشر بيتا، سبعة في السموات وسبعة في الأرضين والكعبة، وكلها مقابلة للكعبة. وقال الحسن: الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو الكعبة، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، وهو أول بيت وضعه الله للعبادة في الأرض. وقال الربيع بن أنس: إن البيت المعمور كان
__________
(1). (آخر) برفع الراء ونصبها، فالنصب على الظرف والرفع على تقدير ذلك آخر ما عليهم، والرفع أوجه. (هامش مسلم).
(2). في ح، ز، ل، ن: (إلى السماء السابعة). [.....]

في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور، قال: فبوأ الله عز وجل لإبراهيم مكان البيت حيث كان، قال الله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ «1» وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء سماها سقفا، لأنها للأرض كالسقف للبيت، بيانه: (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) «2». وقال، ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة. (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قال مجاهد: الموقد، وقد جاء في الخبر: (إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا). وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب:
إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النبع والساسما «3»

يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحارُ «4» سُجِّرَتْ) أي أوقدت، سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته. وقال سعيد ابن المسيب: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراك إلا صادقا، وتلا: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ). (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) مخففة. وقال عبد الله ابن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. [وقال كعب: يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم، فهذا قول»
] وقال ابن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارغ، قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وقيل: المسجور أي المفجور، دليله: (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) «6» أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء.
__________
(1). راجع ج 13 ص (36)
(2). راجع ج 11 ص (285)
(3). الساسم غير مهموز: شجر يتخذ منه القصي والسهام، والنبع مثله.
(4). راجع ج 19 ص 228 وص (242)
(5). راجع ج 19 ص 228 وص (242)
(6). ما بين المربعين ساقط من هـ.

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين: سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش. وقال علي: تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الاولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح. قلت: وإليه يرجع معنى (فُجِّرَتْ) في أحد التأويلين، أي فجر عذبها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس. (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) هذا جواب القسم، أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب (وَالطُّورِ) إلى قوله: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ (وَالطُّورِ) حتى بلغ (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فبكى الحسن وبكى أصحابه، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول (وَالطُّورِ) إلى أن قاله له قل: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) إن كنت «1» كاذبا، فقالها فخرج فكسر من حينه.

[سورة الطور (52): الآيات 9 الى 16]
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
__________
(1). في ن (ان عذاب الله بى لواقع إلخ).

قوله تعالى: (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) العامل في يوم قوله: (لَواقِعٌ) أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور مورا، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة، أي الطويلة، والتمور مثله. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. مجاهد: تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش: تكفأ، وأنشد للأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل
وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل «1»
وقال ابن عباس: تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل: يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة:
... فوق مور معبد «2»

والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه، قال الشاعر:
على ظهر موار الملاط حصان

الملاط الجنب. وقولهم: لا أدري أغار أم مار، أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل: إن السماء ها هنا الفلك ومورة اضطراب نظمه واختلاف سيره، قاله ابن بحر. (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) قال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض. وقيل: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا، بيانه (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) «3». وقد مضى هذا المعنى في (الكهف) «4». (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)
__________
(1). الاشكل: ما فيه بياض وحمرة.
(2). البيت من معلقته وتمامه:
تبارى عتاقا ناجيات أتبعت ... وظيفا فوق مور معبد
تبارى: تعارض. والعتاق: النوق الكرام. والناجيات: السريعات. والوظيف: عظم الساق. والمعبد: المذلل.
(3). راجع ج 13 ص (242)
(4). راجع ج 10 ص 416

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

(فَوَيْلٌ) كلمة تقال للهالك، وإنما دخلت الفاء لان في الكلام معنى المجازاة. (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. وقيل: في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في (براءة) «1». قوله تعالى: (يَوْمَ يُدَعُّونَ) (يَوْمَ) بدل من يومئذ. و(يُدَعُّونَ) معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف، يقال: دععته أدعه دعا أي دفعته، ومنه قوله تعالى: (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) «2». وفي التفسير: إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرا أبو رجاء العطاردي وابن السميقع (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة: (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) في الدنيا. قوله تعالى: (أَفَسِحْرٌ هذا) استفهام معناه التوبيخ والتقريع، أي يقال لهم: (أَفَسِحْرٌ هذا) الذي ترون الآن بأعينكم (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ). وقيل: (أَمْ) بمعنى بل، أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. قوله تعالى: (اصْلَوْها) أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن ف (سَواءٌ) خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شي، كما أخبر عنهم أنهم يقولون: (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) «3». (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

[سورة الطور (52): الآيات 17 الى 20]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
__________
(1). راجع ج 8 ص (201)
(2). راجع ج 20 ص (211)
(3). راجع ج 9 ص 355 [.....]

قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا (فاكِهِينَ) أي ذوي فاكهة كثيرة، يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة، كما يقال: لابن وتامر، أي ذو لبن وتمر، قال «1»:
وغررتني وزعمت أن ... ك لابن بالصيف تامر
أي ذو لبن وتمر. وقرا الحسن وغيره: (فكهين) بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره، يقال: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا: والفكه أيضا الأشر البطر. وفد مضى في (الدخان) «2» القول في هذا. (بِما آتاهُمْ) أي أعطاهم (رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي يقال لهم ذلك. (هَنِيئاً) الهني ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه (هَنِيئاً). وقيل: أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا. وقيل: أي كلوا واشربوا هنئتم (هَنِيئاً) فهو صفة في موضع المصدر. وقيل: (هَنِيئاً) أي حلالا. وقيل: لا أذى فيه ولا غائلة. وقيل: (هَنِيئاً) أي لا تموتون، فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الإنسان معه منغص غير هنئ. قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ) سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. (مَصْفُوفَةٍ) قال ابن الاعرابي: أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا. وفي الاخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له، فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس: هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير ما بين مكة وأيلة. (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة، وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال: وقول الله عز وجل: (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي قرناهم بهن، من قول الله تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) «3» أي وقرناءهم. وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة. وقد مضى القول في معنى الحور العين «4».
__________
(1). هو الحطيئة.
(2). راجع ج 16 ص (139)
(3). راجع ج 15 ص (152)
(4). راجع ج 16 ص 152

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)

[سورة الطور (52): الآيات 21 الى 24]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) قرأ العامة (وأتبعتهم) بوصل الالف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرا عمرو (وأتبعناهم) بقطع الالف وإسكان التاء والعين ونون، اعتبارا بقوله: (أَلْحَقْنا بِهِمْ)، ليكون الكلام على نسق واحد. فأما قوله: (ذُرِّيَّتُهُمْ) الاولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرا الباقون (ذُرِّيَّتُهُمْ) على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون (ذريتهم) على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه، فقيل عن ابن عباس أربع روايات: الاولى أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في (الناسخ والمنسوخ) له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقر بهم عينه) ثم قرأ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) الآية. قال أبو جعفر: فصار الحديث مرفوعا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذا يجب أن يكون، لان ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه. الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الاخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم.

وعن ابن عباس أيضا أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الايمان، قاله المهدوي. والذرية تقع على الصغار والكبار، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى: (بِإِيمانٍ) في موضع الحال من المفعولين، وكان التقدير (بِإِيمانٍ) من الآباء. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله: (بِإِيمانٍ) حالا من الفاعلين. القول الثالث عن ابن عباس: أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون. وفي رواية عنه: إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إلى الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء، فالآباء داخلون في اسم الذرية، كقوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ). وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به. (وقالت خديجة رضي الله عنها: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي:) هما في النار) فلما رأى الكراهية في وجهي قال: (لو رأيت مكانهما لابغضتهما) قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: (في الجنة) ثم قال: (إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار) «1» ثم قرأ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) الآية. (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا). وقال ابن زيد: المعنى (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل، فالهاء والميم على هذا القول للذرية. وقرا ابن كثير (وما ألتناهم) بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة (آلتناهم) بالمد، قال ابن الاعرابي: ألته يألته ألتا، وآلته يؤلته إيلاتا، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه.
__________
(1). هذا الحديث كان قبل قوله صلى الله وسلم: (سألت ربى فأعطاني أولاد المشركين خدما لأهل الجنة).

وفي الصحاح: ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى ب (الحجرات) «1». (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) قيل: يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم، ولهذا قال: (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) «2». وقيل: هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله. ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم. قوله تعالى: (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله، أمدهم بها غير الذي كان لهم. قوله تعالى: (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس: إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره، فإذا فرغ لم يسم كأسا. وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار «3»

نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وقال امرؤ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
وقد مضى هذا في (والصافات) «4». (لا لَغْوٌ فِيها) أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو
__________
(1). راجع ج 16 ص (348)
(2). راجع ج 19 ص (85)
(3). مربح: ينحر لضيفانه الربح وهى الفصلان، ويروى: مرتج وهو الذي كأسه ملأى بالخمر فيسكر ولا يتغير عن أخلاقه الحميدة. والحصور الضيق البخيل مثل الحصير. والسوار هو المعربد الوثاب، ويروى بسأآر وهو الذي إذا شرب ترك بقية في قعر الإناء. والدجاج هنا المراد به الديكة يريد وقت السحر، يقال هذا دجاج فيريدون الديوك. وهذه دجاج فيريدون الأنثى. ووقعة الساري- ويروى وقفة الساري- من وقعت الإبل إذا بركت. والساري هو السائر بالليل. وفى نسخ الأصل كلها: في الكأس نازعني. والتصحيح كما أثبتناه في صدر الكتاب من ديوان الأخطل طبع اليسوعيين.
(4). راجع ج 15 ص 77 ... ففيها الكلام على الكأس.

(وَلا تَأْثِيمٌ) ولا ما فيه إثم. والتأثيم تفعيل من الإثم، أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لأنه مباح لهم. وقيل: (لا لَغْوٌ فِيها) أي في الجنة. قال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن، وسقاتهم الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم وتحيتهم من عند الله، والقوم أضياف الله! (وَلا تَأْثِيمٌ) أي ولا كذب، قاله ابن عباس. الضحاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا. وقرا ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو: (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) بفتح آخره. الباقون بالرفع والتنوين. وقد مضى هذا في (البقرة) «1» عند قوله تعالى: (وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) والحمد لله. قوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ) أي بالفواكه والتحف والطعام والشراب، ودليله: (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) «2»، (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) «3». ثم قيل: هم الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم، فأقر الله تعالى بهم أعينهم. وقيل: إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم. وقيل: هم غلمان خلقوا في الجنة. قال الكلبي: لا يكبرون أبدا (كَأَنَّهُمْ) في الحسن والبياض (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) في الصدف، والمكنون المصون. وقوله تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) «4». قيل: هم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة. وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم على نهاية النعيم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف كلهم لبيك لبيك (. وعن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل غلام على عمل ليس عليه صاحبه (. وعن الحسن أنهم قالوا: يا رسول الله إذا كان الخادم كاللؤلؤ فكيف يكون المخدوم؟ فقال:) ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب (. قال الكسائي: كننت الشيء سترته وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي أسررته. وقال أبو زيد: كننته وأكننته بمعنى في الكن وفي النفس جميعا، تقول: كننت العلم وأكننته فهو مكنون ومكن. وكننت الجارية وأكننتها «5» فهي مكنونة ومكنة.
__________
(1). راجع ج 3 ص (267)
(2). راجع ج 16 ص (111)
(3). راجع ج 15 ص (77)
(4). راجع ص 202 من هذا الجزء.
(5). هذه الكلمة ساقطة من ل. [.....]

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

[سورة الطور (52): الآيات 25 الى 28]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
قوله تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) قال ابن عباس: إذا بعثوا من قبورهم سأل بعضهم بعضا. وقيل: في الجنة (يَتَساءَلُونَ) أي يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم. وقيل: يقول بعضهم لبعض بم صرت في هذه المنزلة الرفيعة؟ (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي قال كل مسئول منهم لسائله: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله. (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا) بالجنة والمغفرة. وقيل: بالتوفيق والهداية. (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) قال الحسن: (السَّمُومِ) اسم من أسماء النار وطبقة من طباق جهنم. وقيل: هو النار كما تقول جهنم. وقيل: نار عذاب السموم. والسموم الريح الحارة تؤنث، يقال منه: سم يومنا فهو مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار، وقد تستعمل السموم في لفح البرد [وهو في «1» لفح الحر] والشمس أكثر، قال الراجز:
اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا ألومه
قوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) أي في الدنيا بأن يمن علينا بالمغفرة عن تقصيرنا. وقيل: (نَدْعُوهُ) أي نعبده. (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) وقرا نافع والكسائي (أنه) بفتح الهمزة، أي لأنه. الباقون بالكسر على الابتداء. و(الْبَرُّ) اللطيف «2»، قاله ابن عباس. وعنه أيضا: أنه الصادق فيما وعد. وقاله ابن جريج.
__________
(1). الزيادة من ن.
(2). تفسير البر بالمحسن أولى كما في روح المعاني وغيره من التفسير.

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

[سورة الطور (52): الآيات 29 الى 34]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)
قوله تعالى: (فَذَكِّرْ) أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) يعني برسالة ربك (بِكاهِنٍ) تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي. (وَلا مَجْنُونٍ) وهذا رد لقولهم في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعقبة بن أبي معيط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن، فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم. ثم قيل: إن معنى (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) القسم، أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل: ليس قسما، وإنما هو كما تقول: ما أنت بحمد الله بجاهل، أي قد برأك الله من ذلك. قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح، يريد سيبويه أن (أم) في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث، كما قال «1»:
أتهجر غانية أم تلم

فتم الكلام ثم خرج إلى شي آخر فقال:
أم الحبل واه بها منجذم

فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث، والنحويون يمثلونها ببل. (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) قال قتادة: قال قوم من الكفار تربصوا
__________
(1). هو الأعشى.

بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر، أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش: نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيدا وقصدت إلى زيد. والمنون: الموت في قول ابن عباس. قال أبو الغول الطهوي:
هم منعوا حمى الوقبي بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون «1»
أي المنايا، يقول: إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لا تتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: (رَيْبَ) في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور (رَيْبَ الْمَنُونِ) يعني حوادث الأمور، وقال الشاعر «2»:
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال مجاهد: (رَيْبَ الْمَنُونِ) حوادث الدهر، والمنون هو الدهر، قال أبو ذؤيب:
أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال الأعشى:
أأن رأت رجلا أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر متبل خبل «3»
قال الأصمعي: المنون والليل والنهار، وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه: أنه قيل للدهر منون، لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية. أبو عبيدة: قيل للدهر منون، لأنه مضعف، من قولهم حبل منين أي ضعيف، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء: والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا. الأصمعي: المنون واحد لا جماعة له.
__________ (1). هو من بنى نهشل واسمه علباء بن جوشن. والوقبى. كجمزى ماء لنبي مالك بن مازن مشهور بوقائع عديدة وهو على طريق المدينة من البصرة.
(2). الذي في نسخ الأصل: قال ابن عباس وليس بشيء، وفى سائر كتب التفسير قال الشاعر كما أثبتناه.
(3). يروى: ودهر مفند. وهى الرواية المشهورة. متبل مسقم أو يذهب بالأهل والولد. وخبل ككتف ملتو على أهله لا يرون فيه سررا.

الأخفش: هو جماعة لا واحد له، والمنون يذكر ويؤنث، فمن ذكره جعله الدهر أو الموت ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية. قوله تعالى: (قُلْ تَرَبَّصُوا) أي قل لهم يا محمد تربصوا أي انتظروا. (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي من المنتظرين بكم العذاب، فعذبوا يوم بدر بالسيف. قوله تعالى: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) أي عقولهم (بِهذا) أي بالكذب عليك. (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي أم طغوا بغير عقول. وقيل: (أَمْ) بمعنى بل، أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله، أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل: (أَحْلامُهُمْ) أي أذهانهم، لان العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الامر والنهي. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أعقل فلانا النصراني! فقال: (مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى:) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. وفي حديث ابن عمر: فزجره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: (مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله) ذكره الترمذي الحكيم أبو عبد الله بإسناده. (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي افتعله وافتراه، يعني القرآن. والتقول تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الامر. ويقال قولتني ما لم أقل! وأقولتني ما لم أقل، أي ادعيته علي. وتقول عليه أي كذب عليه. واقتال عليه تحكم قال «1»:
ومنزلة في دار صدق وغبطة ... وما اقتال من حكم علي طبيب
فأم الاولى للإنكار والثانية للإيجاب أي ليس كما يقولون. (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) جحدا واستكبارا. (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في أن محمدا افتراه. وقرا الجحدري (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) بالإضافة. والهاء في (مِثْلِهِ) للنبي صلى الله
__________
(1). هو كعب بن سعد الغنوي.

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

عليه وسلم، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لأنه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن.

[سورة الطور (52): الآيات 35 الى 43]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) (أَمْ) صلة زائدة والتقدير أخلقوا من غير شي. قال ابن عباس «1»: من غير رب خلقهم وقدرهم. وقيل: من غير أم ولا أب، فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة، ليسوا كذلك! أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟ قاله ابن عطاء. وقال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا وتركوا سدى (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي لغير شي ف (مِنْ) بمعنى اللام. (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي أيقولون إنهم خلقوا أنفسهم فهم لا يأتمرون لأمر الله وهم لا يقولون ذلك، وإذا أقروا أن ثم خالقا غيرهم فما ألذ ى يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث. (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي ليس الامر كذلك فإنهم لم يخلقوا شيئا (بَلْ لا يُوقِنُونَ) بالحق (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أم عندهم ذلك فيستغنوا عن الله ويعرضوا عن أمره. وقال ابن عباس: خزائن ربك المطر والرزق. وقيل: مفاتيح الرحمة. وقال عكرمة: النبوة. أي أفبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة يضعونها حيث شاءوا. وضرب المثل بالخزائن، لان الخزانة بيت
__________
(1). في ل: (قال ابن الكميت).

يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر، ومقدورات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس فلا نهاية لها. (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) قال ابن عباس: المسلطون الجبارون. وعنه أيضا: المبطلون. وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أم هم المتولون. عطاء: أم هم أرباب قاهرون. قال عطاء: يقال تسيطرت علي أي اتخذتني خولا لك. وقاله أبو عبيدة. وفي الصحاح: المسيطر والمصيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب عمله، وأصله من السطر، لان الكتاب يسطر والذي يفعله مسطر ومسيطر. يقال سيطرت علينا. ابن بحر: (أم هم المسيطرون) أي هم الحفظة، مأخوذ من تسطير الكتاب الذي يحفظ ما كتب فيه، فصار المسيطر هاهنا حافظا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. وفية ثلاث لغات: الصاد وبها قرأت العامة، والسين وهي قراءة ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام وأبي حيوة، وبإشمام الصاد الزاي وهي قراءة حمزة كما تقدم في (الصِّراطَ)»
. قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) أي أيدعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي عليه الاخبار ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطريق الوحي. (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة بينة أن هذا الذي هم عليه حق. والسلم واحد السلالم التي يرتقى عليها. وربما سمي الغرز بذلك، قال أبو الرئيس الثعلبي يصف ناقته:
مطارة قلب إن ثنى الرجل ربها ... بسلم غرز في مناخ يعاجله
وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها «2» ... ولو رام أسباب السماء بسلم
وقال آخر:
تجنيت لي ذنبا وما إن جنيته ... لتتخذي عذرا إلى الهجر سلما
__________
(1). راجع ج 1 ص (147)
(2). ويروى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وهى الرواية المشهورة.

وقال ابن مقبل في الجمع:
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبنى له في السموات السلاليم
الاحجاء النواحي مثل الارجاء واحدها حجا ورجا مقصور. ويروى: أعناء البلاد، والاعناء أيضا الجوانب والنواحي واحدها عنو بالكسر. وقال ابن الاعرابي: واحدها عنا مقصور. وجاءنا أعناء من الناس واحدهم عنو بالكسر، وهم قوم من قبائل شتى. (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي عليه، كقوله تعالى: (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) «1» أي عليها، قاله الأخفش. وقال أبو عبيدة: يستمعون به. وقال الزجاج: أي ألهم كجبريل الذي يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي. قوله تعالى: (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) سفه أحلامهم توبيخا لهم وتقريعا. أي أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي على تبليغ الرسالة. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي فهم من المغرم الذي تطلبهم به (مُثْقَلُونَ) مجهدون لما كلفتهم به. (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيوب. وقيل: أي أم عندهم علم ما غاب عن الناس حتى علموا أن ما أخبرهم به الرسول من أمر القيامة والجنة والنار والبعث باطل. وقال قتادة: لما قالوا نتربص به ريب المنون قال الله تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) حتى علموا متى يموت محمدا أو إلى ما يئول إليه أمره. وقال ابن عباس: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس بما فيه. وقال القتبي: يكتبون يحكمون والكتاب الحكم، ومنه قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) «2» أي حكم، وقوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لأحكمن بينكم بكتاب الله) أي بحكم الله. قوله تعالى: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي مكرا بك في دار الندوة. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي الممكور بهم (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) «3» وذلك أنهم قتلوا ببدر. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ) يخلق ويرزق ويمنع. (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه نفسه أن يكون له شريك. قال الخليل: كل ما في سورة (والطور) من ذكر (أم) فكلمة استفهام وليس بعطف.
__________
(1). راجع ج 11 ص (224)
(2). راجع ج 6 ص (435)
(3). راجع ج 14 ص 358

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

[سورة الطور (52): الآيات 44 الى 46]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) قال ذلك جوابا لقولهم: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) «1»، وقولهم: (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) «2» فأعلم أنه لو فعل ذلك لقالوا: (سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي بعضه فوق بعض سقط علينا وليس سماء، وهذا فعل المعاند أو فعل من استولى عليه التقليد، وكان في المشركين القسمان. والكسف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء، يقال: أعطني كسفة من ثوبك، ويقال في جمعها أيضا: كسف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ (كِسْفاً) جعله واحدا، ومن قرأ (كِسْفاً) جعله جمعا. وقد تقدم القول في هذا في (سُبْحانَ) «3» وغيرها والحمد لله. قوله تعالى: (فَذَرْهُمْ) منسوخ بآية السيف. (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) بفتح الياء قراءة العامة، وقرا ابن عامر وعاصم بضمها. قال الفراء: هما لغتان صعق وصعق مثل سعد وسعد. قال قتادة: يوم يموتون. وقيل: هو يوم بدر. وقيل: يوم النفخة «4» الاولى. وقيل: يوم القيامة يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم. وقيل: (يُصْعَقُونَ) بضم الياء من أصعقه الله. قوله تعالى: (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي ما كادوا به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) من الله. و(يَوْمَ) منصوب على البدل من (يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ).

[سورة الطور (52): الآيات 47 الى 49]
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
__________
(1). راجع ح 13 ص (136) [.....]
(2). راجع ج 10 ص (33)
(3). راجع ج 10 ص (33)
(4). في ن: (وقال غيره عند النفخة الاولى).

قوله تعالى: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي كفروا (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) قيل: قبل موتهم. ابن زيد: مصائب الدنيا من الأوجاع والاسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد. مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين. ابن عباس: هو القتل. عنه: عذاب القبر. وقاله البراء بن عازب وعلي رضي الله عنهم. ف (دُونَ) بمعنى غير. وقيل: عذابا أخف من عذاب الآخرة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [أن «1» العذاب نازل بهم ] وقيل: (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما يصيرون إليه. قوله تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا). فيه مسألتان: الاولى- (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) قيل: لقضاء ربك فيما حملك من رسالته. وقيل: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك، ثم نسخ بآية السيف. الثانية- قوله تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قول تعالى لموسى عليه السلام: (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي بحفظي وحراستي وقد تقدم «2». قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) اختلف في تأويل قوله: (حِينَ تَقُومُ) فقال عون بن مالك وابن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه، فيقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فإن كان المجلس خيرا ازددت ثناء حسنا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له، ودليل هذا التأويل ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) قال: حديث
__________
(1). الزيادة من ز، ل، ن، هـ.
(2). راجع ج 11 ص 196.

حسن صحيح غريب. وفية عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور) قال حديث حسن صحيح غريب. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع: المعنى حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. قال الكيا الطبري: وهذا فيه بعد، فإن قوله: (حِينَ تَقُومُ) لا يدل على التسبيح بعد التكبير، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام، والتسبيح يكون وراء ذلك، فدل على أن المراد فيه حين تقوم من كل مكان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقال أبو الجوزاء وحسان بن عطية: المعنى حين تقوم من منامك. قال حسان: ليكون مفتتحا لعمله بذكر الله. وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر. وفى هذا روايات مختلفات صحاح، منها حديث عبادة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من تعارفي الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم أغفر لي أو دعا أستجيب له فإن توضأ وصلي قبلت صلاته) خرجه البخاري. تعار الرجل من الليل: إذا هب من نومه مع صوت، ومنه عار الظليم يعر عرارا وهو صوته، وبعضهم يقول: عر الظليم يعر عرارا، كما قالوا زمر النعام يزمر زمارا. وعن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك) متفق عليه. وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم عن وجهه، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة (آل عمران) «1».
__________
(1). من قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) آية. 19.

وقال زيد بن أسلم: المعنى حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر. قال ابن العربي: أما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو ملحق بنوم الليل. وقال الضحاك: إنه التسبيح في الصلاة إذا قام إليها. الماوردي: وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما وهو قوله سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود. الثاني أنه التوجه في الصلاة يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح للصلاة فهذا أفضله، والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) الحديث. وقد ذكرناه وغيره في آخر سورة (الانعام) «1». وفي البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). الثانية- قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) تقدم في (ق) «2» مستوفى عند قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ). وأما (إِدْبارَ النُّجُومِ) فقال علي وابن عباس وجابر وأنس: يعني ركعتي الفجر. فحمل بعض العلماء الآية على هذا القول على الندب وجعلها منسوخة بالصلوات الخمس. وعن الضحاك وابن زيد: أن قوله: (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) يريد به صلاة الصبح وهو اختيار الطبري. وعن أبن عباس: أنه التسبيح في آخر الصلوات. وبكسر الهمزة في (إِدْبارَ النُّجُومِ) قرأ السبعة على المصدر حسب ما بيناه في (ق). وقرا سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميقع (وإدبار) بالفتح، ومثله روي عن يعقوب وسلام وأيوب، وهو جمع دبر ودبر. ودبر الامر ودبره آخره. وروى الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِدْبارَ النُّجُومِ الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب)
__________
(1). راجع ج 7 ص (153)
(2). راجع ص 65 من هذا الجزء.

قال: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن فضيل عن رشدين بن كريب. وسألت محمد بن إسماعيل عن محمد بن فضيل ورشدين بن كريب أيهما أوثق؟ فقال: ما أقربهما، ومحمد عندي أرجح. قال: وسألت عبد الله بن عبد الرحمن عن هذا فقال: ما أقربهما، ورشدين بن كريب أرجحهما عندي. قال الترمذي: والقول ما قال أبو محمد ورشدين بن كريب عندي أرجح من محمد وأقدم، وقد أدرك رشدين ابن عباس ورآه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شي من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين «1» قبل الصبح. وعنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها). تم تفسير سورة (والطور) والحمد لله.

[تفسير سورة والنجم ]
سورة (والنجم) مكية، وهى احدى وستون آية مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) الآية. وقيل: اثنتان وستون آية. وقيل: إن السورة كلها مدنية. والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال: هي أول سورة أعلنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة. وفي (البخاري) عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس. وعن عبد الله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ سورة النجم فسجد لها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا، متفق عليه. الرجل يقال له «2» أمية بن خلف. وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت [رضي الله عنه «3»] أنه قرأ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) فلم يسجد. وقد مضى في آخر (الأعراف) «4» القول في هذا والحمد لله.
__________
(1). في ن: (أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر قبل الصبح).
(2). في ل: (هو).
(3). الزيادة: من ز، ل.
(4). راجع ج 7 ص 357

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النجم (53): الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)
قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) قال ابن عباس ومجاهد: معنى (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) والثريا إذا سقطت مع الفجر، والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما، يقال: إنها سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد «1» خفي يمتحن الناس به أبصارهم. وفي (الشفا) للقاضي عياض: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرى في الثريا أحد عشر نجما. وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل، لأنه كان ينزل نجوما. وقاله الفراء. وعنه أيضا: يعني نجوم السماء كلها حين تغرب. وهو قول الحسن قال: أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع، كقول الراعي:
فباتت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء
وقال الحسن أيضا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقال السدي: إن النجم هاهنا الزهرة لان قوما من العرب كانوا يعبدونها. وقيل: المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين، وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال: انظروا البروج الاثني عشر فإن انقض
__________
(1). في ز، ل: (وواحد منها) بزيادة كلمة: (منها).

منها شي فهو ذهاب الدنيا، فإن لم ينقض منها شي فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو الامر العظيم الذي استشعروه، فأنزل الله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت. وقيل: النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق، وهوى أي سقط على الأرض. وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: (وَالنَّجْمِ) يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذا هَوى ) إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة ابن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتين محمدا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد عليه ابنته وطلقها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك) وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله. وقال حسان:
من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع «1»
واصل النجم الطلوع، يقال: نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان. والهوي النزول والسقوط، يقال: هوى يهوي هويا مثل مضى يمضي مضيا، قال زهير:
فشج بها الاماعز «2» وهي تهوي ... هوي الدلو أسلمها الرشاء
__________
(1). في: ا (من يرجع ألان). [.....]
(2). شج: علا. والبيت في وصف عير وأثنه، أي لما وجد العير أن صنيبعات قد انقطع ماؤها انتقل عنها إلى عيرها فجعل يعلو بالاتن الاماعز وهى حزون الأرض الكثيرة الحصى.

وقال آخر «1»:
بينما نحن بالبلا كث فالقا ... ع سراعا والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيا
الأصمعي: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل. قال: وكذلك انهوى في السير إذا مضى فيه، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى، وقد جمعهما الشاعر في قوله:
وكم منزل لولاي طحت كما هوى ... بإجرامه من قلة النيق منهوي «2»
ويقال في الحب: هوي بالكسر يهوى هوى، أي أحب. قوله تعالى: (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) هذا جواب القسم، أي ما ضل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحق وما حاد عنه. (وَما غَوى ) الغي ضد الرشد أي ما صار غاويا. وقيل: أي ما تكلم بالباطل. وقيل: أي ما خاب مما طلب والغي الخيبة، قال الشاعر «3»:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أي من خاب في طلبه لامه الناس. ثم يجوز أن يكون هذا إخبارا عما بعد الوحي. ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم، أي كان أبدا موحدا لله. وهو الصحيح على ما بيناه في (الشورى) «4» عند قوله: (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ). قوله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ). فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) إليه. وقيل: (عَنِ الْهَوى ) أي بالهوى، قال أبو عبيدة،
__________
(1). قائله أبو بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن محرمة كان متوجها إلى الشام فلما كان بالبلا كث- بالمثلثة- تذكر زوجته وكان شغوفا بها فكر راجعا فقال الأبيات، وبعد البيتين:
قلت لبيك إذ دعاني لك الشو ... ق وللحاديين حثا المطيا

(2). قائله يزيد بن الحكم الثقفي. وقلة كل شي: أعلاه. والنيق- بكسر النون-: أرفع. وضع في الجبل. وقيل: الطويل منه.
(3). قائله المرقش.
(4). راجع ج 16 ص 55

كقوله تعالى: (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) «1» أي فاسأل عنه. النحاس: قول قتادة أولى، وتكون (عَنِ) على بابها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل، لان بعده: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ). الثانية- قد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاجتهاد في الحوادث. وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث المقدام بن معدى كرب «2» في ذلك والحمد لله. قال السجستاني: إن شئت أبدلت (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) من (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) قال ابن الأنباري: وهذا غلط، لان (إِنْ) الخفيفة لا تكون مبدلة من (ما) الدليل على هذا أنك لا تقول: والله ما قمت إن أنا لقاعد. قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين، سوى الحسن فإنه قال: هو الله عز وجل، ويكون قوله تعالى: (ذُو مِرَّةٍ) على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوة والقوة من صفات الله تعالى، وأصله من شدة فتل الحبل، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل. ثم قال: (فَاسْتَوى ) يعني الله عز وجل، أي استوى على العرش. روي معناه عن الحسن. وقال الربيع بن أنس والفراء: (فَاسْتَوى . وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ) أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع ب (هُوَ). وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه، فيقولون: استوى هو وفلان، وقلما يقولون استوى وفلان، وأنشد الفراء:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف «3»
أي لا يستوي هو والخروع، ونظير هذا: (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) «4» والمعنى أئذا كنا ترابا نحن وآباؤنا. ومعنى الآية: استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الاسراء بالأفق الأعلى.
__________
(1). راجع ج 13 ص 63 وص (228)
(2). راجع ج 1 ص (37)
(3). النبع: شجر في الجبال تؤخذ منه القسي. والخروع معروف. والمتقصف: المتكسر.
(4). راجع ج 13 ص 63 وص (228)

وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر. وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر. وقيل: المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوي جبريل فمعنى (ذُو مِرَّةٍ) في وصفه ذو منطق حسن، قاله ابن عباس. وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن. وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) «1». وقال امرؤ القيس:
كنت فيهم أبدا ذا حيلة ... محكم المرة مأمون العقد
وقد قيل: (ذُو مِرَّةٍ) ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدة جبريل عليه السلام: أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الأرض السفلى «2»، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها. وكان من شدته أيضا: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند. وكان من شدته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين. وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف. وقال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرة. قال الشاعر:
قد كنت قبل لقاكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله: أن الله ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله. قال الجوهري: والمرة إحدى الطبائع الأربع، والمرة القوة وشدة العقل أيضا. ورجل مرير أي قوي ذو مرة. قال:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وحشو ثيابه أسد مرير «3»
وقال لقيط:
حتى استمرت على شزر مريرته ... مر العزيمة لا رتا ولا» ضرعا
__________
(1). السوي: الصحيح الأعضاء.
(2). في ح، س: (من الماء الأسود).
(3). قائله العباس بن مرداس. وفى التاج: وفى أثوابه رجل مزير. بالزاي. ويروى: أسد مزير. والمزير كأمير الشديد القلب القوى النافذ في الأمور.
(4). كذا في الأصول (لارتا) والرتة ردة قبيحة في اللسان من العيب. والذي في ديوان لقيط بآخر كتاب منتهى الطلب: (لا قحما). والقحم: الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف. والضرع: اللبن الذليل.

وقال مجاهد وقتادة: (ذُو مِرَّةٍ) ذو قوة، ومنه قول خفاف بن ندبة:
إني امرؤ ذو مرة فاستبقني ... فيما ينوب من الخطوب صليب
فالقوة تكون من صفة الله عز وجل، ومن صفة المخلوق. (فَاسْتَوى ) يعني جبريل على ما بينا، أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله سعيد ابن المسيب وابن جبير. وقيل: (فَاسْتَوى ) أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، لأنه كان يأتي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب، فخر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغشيا عليه. فنزل إليه في صورة الآدميين وضمة إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، فلما أفاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة). فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: (إن هذا لعظيم) فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي، وانه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوصع. يعنى العصفور الصغير، دليله قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) «1» وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقول ثالث أن معنى (فَاسْتَوى ) أي استوى القرآن في صدره. وفية على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه. الثاني في صدر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى (فَاسْتَوى ) فاعتدل يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفية على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوته. الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي. قلت: وعلى الأول يكون تمام الكلام (ذُو مِرَّةٍ، وعلى الثاني (شَدِيدُ الْقُوى ). وقول خامس أن معناه فارتفع. وفية على هذا وجهان: أحدهما أنه جبريل عليه السلام
__________
(1). راجع ج 19 ص 239 [.....]

ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا آنفا. الثاني أنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتفع بالمعراج. وقول سادس (فَاسْتَوى ) يعني الله عز وجل، أي استوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في (الأعراف) «1». قوله تعالى: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ) جملة في موضع الحال، والمعنى فاستوى عاليا، أي استوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتى منه الشمس. وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال: أفق وافق مثل عسر وعسر. وقد مضى في (حم السجدة) «2». وفرس أفق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى، قال الشاعر:
أرجل لمتي واجر ذيلي ... وتحمل شكتي أفق كميت «3»
وقيل: (وَهُوَ) أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ) يعني ليلة الاسراء وهذا ضعيف، لأنه يقال: استوى هو وفلان، ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح استوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية، لأنه كان يتمثل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحب النبي صلى الله وسلم أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق. قوله تعالى: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض (فَتَدَلَّى) فنزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عظمته ما رأى، وهاله ذلك رده الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وذلك قوله تعالى: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ)
يعني أوحى الله إلى جبريل وكان جبريل (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن
__________
(1). راجع ج 7 ص 219 وج 1 ص (254)
(2). راجع ج 15 ص (374)
(3). قائله عمرو بن قنعاس المرادي. والشكة السلاح. وفى اللسان: وتحمل بزتي. والكميت من الخيل ما خلط حمرته سواد غير خالص.

ابن عباس أيضا في قوله تعالى: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أن معناه أن الله تبارك وتعالى (دَنا) من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَتَدَلَّى). وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. واصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب، قال لبيد «1»:
فتدليت عليه قافلا ... وعلى الأرض غيابات الطفل
وذهب الفراء إلى أن الفاء في (فَتَدَلَّى) بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني، لان الشتم والإساءة شي واحد. وكذلك قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) «2» المعنى والله أعلم: انشق القمر واقتربت الساعة. وقال الجرجاني: في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا، لان التدلي سبب الدنو. وقال ابن الأنباري: ثم تدلى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن عباس: تدلى الرفرف لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال: المعنى فاستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى أي هوى للسجود. وهذا قول الضحاك. قال القشيري: وقيل على هذا تدلى أي تدلل، كقولك تظني بمعنى تظنن، وهذا بعيد، لان الدلال غير مرضي في صفة العبودية. قوله تعالى: (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) أي (فَكانَ) محمد من ربه أو من جبريل (قابَ قَوْسَيْنِ) أي قدر قوسين عربيتين. قاله ابن عباس وعطاء والفراء. الزمخشري: فإن قلت كيف تقدير قوله: (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله «3»:
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا
__________
(1). البيت في وصف فرس. أراد أنه نزل من مربائه وهو على فرسه راكب.
(2). راجع ص 125 من هذا الجزء
(3). اختلف في القائل وصدر البيت:
فأدرك إبقاء العرادة ظلعها

وفى ز: (خزيمة) بالخاء المعجمة، وهو تحريف. وحزيمة (بالمهملة): اسم فارس من فرسان العرب. والعرادة: اسم فرس من خيل العرب في الجاهلية.

أي ذا مقدار مسافة إصبع (أَوْ أَدْنى ) أي على تقديركم، كقوله تعالى: (أَوْ يَزِيدُونَ) «1». وفي الصحاح: وتقول بينهما قاب قوس، وقيب قوس وقاد قوس، وقيد قوس، أي قدر قوس. وقرا زيد بن علي (قاد) وقرى (قيد) و(قدر). ذكره الزمخشري. والقاب ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان. وقال بعضهم في قوله تعالى: (قابَ قَوْسَيْنِ) أراد قابي قوس فقلبه. وفي الحديث: (ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها) والقد السوط. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها). وإنما ضرب المثل بالقوس، لأنها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عياض: اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى، وإنما دنو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه وقربه منه: إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومن الله تعالى له: مبرة وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأول في قوله عليه السلام: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) على أحد الوجوه: نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والاشراف على الحقيقة من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفي، وإنافة المنزلة والقرب من الله، ويتأول فيه ما يتأول في قوله عليه السلام: (من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) قرب بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: (ثُمَّ دَنا) جبريل من ربه (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) قاله مجاهد. ويدل عليه ما روي في الحديث: (إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام). وقيل: (أَوْ) بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى. وقيل: بمعنى بل أي بل أدنى. وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقرب قاب قوسين. وقال سعيد بن جبير وعطاء
__________
(1). راجع ج 15 ص 130

وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شي، وهى لغة بعض الحجازيين. وقيل: هي لغة أزد شنوءة أيضا. وقال الكسائي: قوله: (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) أراد قوسا واحدا، كقول الشاعر:
ومهمهين قذفين مرتين ... قطعته بالسمت لا بالسمتين «1»

أراد مهمها واحدا. والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس، وفي المثل هو من خير قويس سهما. والجمع قسي وقسي وأقواس وقياس، وأنشد أبو عبيدة:
ووتر الأساور القياسا «2»

والقوس أيضا بقية النمر في الجلة أي الوعاء. والقوس برج في السماء. فأما القوس بالضم فصومعة الراهب، قال الشاعر وذكر امرأة:
لاستفتنتني وذا المسحين في القوس «3»

قوله تعالى: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى )
تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوحاء «4» الوحاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أوحى. وقيل: المعنى [ (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ)
جبريل عليه السلام (ما أَوْحى )
«5»]. وقيل: المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. قال قتادة: أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل: هذا الوحي هل هو مبهم؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالايمان به
__________
(1). السمت: الطريق ومعناه قطعته على طريق واحد.
(2). قائله القلاخ بن حزن. وتمامه:
صغدية تنزع الانفاسا

والأساور: جمع أسوار وهو المقدم من أساورة الفرس. والصغد: جيل من العجم ويقال انه اسم بلد. (مادة قوس).
(3). قائله جرير. وصدره:
لا وصل إذ صرقت هند ولو وقفت

(4). يمد ويقصر فالمقصور الوحى كالوغى ومعناه البدار البدار. راجع ج 4 ص 85 وج 10 ص 133 في معنى الوحى والقول فيه.
(5). ما بين المربعين ساقط من ح، ز، ل، هـ.

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

على الجملة، أو هو معلوم مفسر؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير، قال: أوحى الله إلى محمد: ألم أجدك يتيما فآويتك! ألم أجدك ضالا فهديتك! ألم أجدك عائلا فأغنيتك! (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ). وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.

[سورة النجم (53): الآيات 11 الى 18]
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
قوله تعالى: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) أي لم يكذب قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج، وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية. وقيل: كانت رؤية حقيقة بالبصر. والأول مروي عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه. وهو قول أبي ذر وجماعة من الصحابة. والثاني قول أنس وجماعة. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أما نحن بني هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. وقد مضى القول في هذا في (الانعام) «1» عند قوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ). وروى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله صلى الله عليك رأيت ربك؟ قال: (رأيته بفؤادي مرتين) ثم قرأ: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ). وقول: ثالث أنه رأى جلاله وعظمته، قاله الحسن. وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل رأيت ربك؟ قال: (رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت
__________
(1). راجع ج 7 ص 54.

وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك (. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل رأيت ربك؟ قال:) نور أني أراه) المعنى غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته. ودل على هذا الرواية الأخرى (رأيت نورا). وقال ابن مسعود: رأى جبريل على صورته مرتين. وقرا هشام عن ابن عامر واهل الشام (ما كذب) بالتشديد أي ما كذب قلب محمد ما رأى بعينه تلك الليلة بل صدقه. ف (ما) مفعوله بغير حرف مقدر، لأنه يتعدى مشددا بغير حرف. ويجوز أن تكون (ما) بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. الباقون مخففا، أي ما كذب فؤاد محمد فيما رأى، فأسقط حرف الصفة. قال حسان رضي الله عنه:
لو كنت صادقة الذي حدثتني ... لنجوت منجى الحارث بن هشام

أي في الذي حدثتني. ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. ويجوز أن يكون بمعنى الذي، أي ما كذب فؤاد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي رأى. قوله تعالى: (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ) قرأ حمزة والكسائي (أفتمرونه) بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه. واختاره أبو عبيد، لأنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. يقال: مرأة حقه أي جحده ومريته أنا، قال الشاعر:
لئن هجرت «1» أخا صدق ومكرمة ... لقد مريت أخا ما كان يمريكا
أي جحدته. وقال المبرد: يقال مرأة عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه. قال: ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة: رضي الله عليك، أي رضي عنك. وقرا الأعرج ومجاهد (أفتمرونه) بضم التاء من غير ألف من أمريت، أي تريبونه وتشككونه. الباقون (أَفَتُمارُونَهُ) بألف، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله، والمعنيان متداخلان، لان مجادلتهم جحود. وقيل: إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد، قالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا التي في طريق الشام. على ما تقدم «2».
__________
(1). وروى: هجوت. [.....]
(2). راجع ج 10 ص 209.

قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) (نَزْلَةً) مصدر في موضع الحال كأنه قال: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى. قال ابن عباس: رأى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه مرة أخرى بقلبه. روى مسلم عن أبي العالية عنه قال: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) قال: رآه بفؤاده مرتين، فقوله: (نَزْلَةً أُخْرى ) يعود إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كان له صعود ونزول مرارا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عرجة نزلة وعلى هذا قوله تعالى: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) أي ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات. وقال ابن مسعود وأبو هريرة في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) أنه جبريل. ثبت هذا أيضا في صحيح مسلم. وقال ابن مسعود: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رأيت جبريل بالأفق الأعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدر والياقوت) ذكره المهدوي. قوله تعالى: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) (عِنْدَ) من صلة (رَآهُ) على ما بينا. والسدر شجر النبق وهي في السماء السادسة، وجاء في السماء السابعة. والحديث بهذا في صحيح مسلم، الأول ما رواه مرة عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، واليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ) قال: فراش «1» من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات «2». الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان قلت يا جبريل ما هذا قال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات) لفظ الدارقطني. والنبق بكسر الباء: ثمر السدر الواحد نبقة. ويقال: نبق بفتح النون وسكون
__________
(1). ويروى: (جراد من ذهب). والفراش: دويبة ذات جناحين تهافت في ضوء السراج واحدتها فراشه.
(2). المقحمات: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار، أي تلقيهم فيها.

الباء، ذكرهما يعقوب في الإصلاح وهي لغة المصريين، والاولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول- وقد ذكر له سدرة المنتهى- قال: (يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب- شك يحيى- فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. قلت: وكذا لفظ مسلم من حديث ثابت عن أنس (ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها (. واختلف لم سميت سدرة المنتهى على أقوال تسعة: الأول- ما تقدم عن أبن مسعود أنه ينتهي إليها كلما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. الثاني- أنه ينتهي علم الأنبياء إليها ويعزب علمهم عما وراءها، قاله ابن عباس. الثالث- أن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله الضحاك. الرابع- لانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها، قاله كعب. الخامس- سميت سدرة المنتهى لأنها ينتهي إليها أرواح الشهداء، قاله الربيع بن أنس. السادس- لأنه تنتهي «1» إليها أرواح المؤمنين، قاله قتادة. السابع- لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهاجه، قاله علي رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضا. الثامن- هي شجرة على رءوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق، قاله كعب أيضا. قلت: يريد- والله أعلم- أن ارتفاعها وأعالي أغصانها قد جاوزت رءوس حملة العرش، ودليله ما تقدم من أن أصلها في السماء السادسة وأعلاها في السماء السابعة، ثم علت فوق ذلك حتى جاوزت رءوس حملة العرش. والله أعلم. التاسع- سميت بذلك لان من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة. وعن أبي هريرة لما أسرى برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى به إلى سدرة المنتهى فقيل له هذه سدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه،
__________
(1). في ب، ح، ز، س، هـ: (لأنه تأوى إليها).

وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها، والورقة منها تغطي الامة كلها، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ) تعريف بموضع جنة المأوى وأنها عند سدرة المنتهى. وقرا علي وأبو هريرة وأنس وأبو سبرة الجهني وعبد الله بن الزبير ومجاهد (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ) يعني جنه المبيت. قال مجاهد: يريد أجنه. والهاء للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الأخفش: أدركه كما تقول جنه الليل أي ستره وأدركه. وقراءة العامة (جَنَّةُ الْمَأْوى ) قال الحسن: هي التي يصير إليها المتقون. وقيل: إنها الجنة التي يصير إليها أرواح الشهداء، قاله ابن عباس. وهى عن يمين العرش. وقيل: هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها وهي في السماء السابعة «1». وقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى. وإنما قيل لها: جنة المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها. وقيل: لان جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها. والله أعلم. قوله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ) قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب. ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد تقدم في صحيح مسلم عن ابن مسعود قوله. وقال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت. قال القشيري: وسيل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما غشيها؟ قال: (فراش من ذهب). وفي خبر آخر (غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها). وقال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة تقع عليها كما يقع الغربان على الشجرة. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح [الله تعالى) «2»] وذلك قوله: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ذكره
__________
(1). في ب، ح، ز، ل،: (الرابعة) وكذا هو في حاشية الجمل عن القرطبي.
(2). ساقطة من ز، ل، هـ.

المهدوي والثعلبي «1». وقال أنس بن مالك: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ) قال جراد من ذهب وقد رواه مرفوعا. وقال مجاهد: إنه رفرف أخضر. وعنه عليه السلام: (يغشاها رفرف من طير خضر). وعن ابن عباس: يغشاها رب العزة، أي أمره كما في صحيح مسلم مرفوعا: (فلما غشيها من أمر الله ما غشي). وقيل: هو تعظيم الامر، كأنه قال: إذ يغشى السدرة ما أعلم الله به من دلائل ملكوته. وهكذا قوله تعالى: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى )
(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى . فَغَشَّاها ما غَشَّى) ومثله: (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) «2». وقال الماوردي في معاني القرآن له: فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الامر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لان السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الايمان الذي يجمع قولا وعملا ونية، فظلها من الايمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. وروى أبو داود في سننه قال: حدثنا نصر ابن علي قال حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد ابن جبير بن مطعم عن عبد الله بن حبشي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار) وسيل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار. قوله تعالى: (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ) قال ابن عباس: أي ما عدل يمينا ولا شمالا، ولا تجاوز الحد الذي رأى. وقيل: ما جاوز ما أمر به. وقيل: لم يمد بصره إلى غير ما رأى
__________
(1). بعد هذا نقل الجمل عن القرطبي في تفسيره ما يأتي: وقيل ملائكة تغشاها كأنهم طيور يرتقون إليها متشوقين متبركين زائرين كما يزور الناس الكعبة، وروى في حديث المعراج عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ذهب بى جبريل إلى سدرة المنتهى وأوراقها كأذان الفيلة وإذا ثمرها كقلان هجر) قال: (فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى قدر أن ينعتها من حسنها فأوحى إلى ما أوحى ففرض على خمسين صلاة في كل يوم وليلة) وقيل: يغشاها أنوار الله تعالى لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل دكا ولم تتحرك الشجرة، وخر موسى صعقا ولم يتزلزل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: أبهمه تعظيما له. والغشيان يكون بمعنى التغطية.
(2). راجع ج 18 ص 256

من الآيات. وهذا وصف أدب للنبي «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك المقام، إذ لم يلتفت يمينا ولا شمالا. قوله تعالى: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) قال ابن عباس: رأى رفرفا سد الأفق. وذكر البيهقي عن عبد الله قال: (رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) قال ابن عباس: رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء. وعنه قال: رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه السلام في حلة رفرف أخضر، قد ملا ما بين السماء والأرض. قال البيهقي: قوله في الحديث (رأى رفرفا) يريد جبريل عليه السلام في صورته في رفرف، والرفرف البساط. ويقال: فراش. ويقال: بل هو ثوب كان لباسا له، فقد روي أنه رآه في حلة رفرف. قلت: خرجه الترمذي عن عبد الله قال: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى )
قال: رأى وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه السلام في حلة من رفرف قد ملا ما بين السماء والأرض. قال: هذا حديث حسن صحيح. قلت: وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: (دَنا فَتَدَلَّى) أنه على التقديم والتأخير، أي تدلى الرفرف لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. قال: (فارقني جبريل وانقطعت) «2» (عني الأصوات وسمعت كلام ربي) فعلى هذا الرفرف ما يقعد ويجلس عليه كالبساط وغيره. وهو بالمعنى الأول جبريل. قال عبد الرحمن بن زيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل عليه السلام في صورته التي يكون فيها في السموات، وكذا في صحيح مسلم عن عبد الله قال: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. ولا يبعد مع هذا أن يكون في حلة رفرف وعلى رفرف. والله أعلم. وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى. وعن ابن مسعود: رأى ما غشي السدرة من فراش الذهب، حكاه الماوردي. وقيل: رأى المعراج. وقيل: هو ما رأى تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه، وهو أحسن، دليله: (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) «3» و(مِنْ) يجوز أن تكون للتبعيض، وتكون (الْكُبْرى ) مفعولة ل (رَأى ) وهي في الأصل صفة الآيات ووحدت لرءوس
__________
(1). في ب، ز، ح، س، ل، وهـ: (أدب للنبي).
(2). في ب، ح، س: (وارتفعت).
(3). راجع ج 10 ص 204

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)

الآيات. وأيضا يجوز نعت الجماعة بنعت الأنثى، كقوله تعالى: (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ «1» أُخْرى ). وقيل: (الْكُبْرى ) نعت لمحذوف، أي رأى من آيات ربه الكبرى. ويجوز أن تكون (مِنْ) زائدة، أي رأى آيات ربه الكبرى. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي رأى الكبرى من آيات ربه.

[سورة النجم (53): الآيات 19 الى 22]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) لما ذكر الوحي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر من آثار قدرته ما ذكر، حاج المشركين إذ عبدوا مالا يعقل وقال «2»: أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين إليكم شيئا كما أوحي إلى محمد. وكانت اللَّاتَ لثقيف، والْعُزَّى لقريش وبني كنانة، ومَناةَ لبني هلال «3». وقال هشام: فكانت مَناةَ لهذيل وخزاعة، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا رضى الله عنه فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بناء، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات. وكانت في موضع [منارة «4»] مسجد الطائف اليسرى، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا الْعُزَّى وهي أحدث من اللَّاتَ، اتخذها ظالم بن أسعد، وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق، فبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منها «5» الصوت. قال ابن هشام: وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كانت الْعُزَّى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال:
__________
(1). راجع ج 11 ص (187)
(2). في ب، ح، ز، س، ل، هـ: (وقيل).
(3). اتفقت نسخ الأصل على القول بأن مناة لبنى هلال ولم نره لغير المؤلف. [.....]
(4). الزيادة من كتاب الأصنام لابن الكلبي.
(5). في كتاب الأصنام (فيه) بدل (منها).

(ايت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الاولى) فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال: (هل رأيت شيئا) قال: لا. قال: (فاعضد الثانية) فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (هل رأيت شيئا) قال: لا. قال: (فاعضد الثالثة) فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها، وخلفها دبية»
السلمى وكان سادنها فقال:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن، ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال: (تلك الْعُزَّى [ولن تعبد أبدا] وقال ابن جبير: الْعُزَّى حجر أبيض كانوا يعبدونه. قتادة: نبت «2» كان ببطن نخلة. ومَناةَ: صنم لخزاعة. وقيل: إن اللَّاتَ فيما ذكر بعض المفسرين أخذه المشركون من لفظ «3» الله، والْعُزَّى من العزيز، ومَناةَ من منى الله الشيء إذا قدره. وقرا ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح (اللات) بتشديد التاء وقالوا: كان رجلا يلت السويق للحاج- ذكره البخاري عن ابن عباس- فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. ابن عباس: كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويصبه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق. أبو صالح: إنما كان رجلا بالطائف فكان يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق فلما مات عبدوه. مجاهد: كان رجل في رأس جبل له غنيمة يسلي «4» منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها، ثم يتخذ منها حيسا «5» فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقال الكلبي كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم. وقيل: إنه عامر بن ظرب العدواني. قال «6» الشاعر:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر
__________
(1). دبية بالدال المهملة بن حرمس ويروى ابن حرمي ثم السلمى.
(2). في ب، ز، هـ ول: (بيت).
(3). في ب، ح، ز، س، ل، هـ: (اسم الله).
(4). يسلى: يجمع. الأقط لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به. والرسل اللبن.
(5). الحيس: الطعام المتخذ من التمر والا قط والسمن.
(6). هو شداد بن عارض الجشمي قاله في أبيات حين هدمت اللات وحرقت، ينهى ثقيفا عن العود إليها والغصب لها.

والقراءة الصحيحة (اللَّاتَ) بالتخفيف اسم صنم والوقوف عليها بالتاء وهو اختيار الفراء. قال الفراء: وقد رأيت الكسائي سأل أبا فقعس الأسدي «1» فقال ذاه لذات [ولاه للات ] وقرا (أفرأيتم اللاة) وكذا قرأ الدوري عن الكسائي والبزي عن ابن كثير (اللاة) بالهاء في الوقف، ومن قال: إن (اللَّاتَ) من الله وقف بالهاء أيضا. وقيل: أصلها لاهة مثل شاة [أصلها شاهه ] وهي من لاهت أي اختفت، قال الشاعر:
لاهت فما عرفت يوما بخارجة ... يا ليتها خرجت حتى رأيناها
وفي الصحاح: اللات اسم صنم كان لثقيف وكان بالطائف، وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء، قال الأخفش: سمعنا من العرب من يقول اللات والعزى، ويقول هي اللات فيجعلها تاء في السكوت وهي اللات فأعلم أنه جر في موضع الرفع، فهذا مثل أمس مكسور على كل حال وهو أجود منه، لان الالف واللام اللتان في اللات لا تسقطان وإن كانتا زائدتين، وأما ما سمعنا من الأكثر في اللات والعزى في السكوت عليها فاللاه لأنها هاء فصارت تاء في الوصل وهي في تلك اللغة مثل كان من الامر كيت وكيت، وكذلك هيهات في لغة من كسرها، إلا أنه يجوز في هيهات أن تكون جماعة ولا يجوز ذلك في اللات، لان التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الالف، وإن جعلت الالف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد. قوله تعالى: (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمى والأعشى عن أبي بكر (ومناءة) بالمد والهمز. والباقون بترك الهمز لغتان. وقيل: سمي بذلك، لأنهم كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه. وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق فيها من الدماء. وكان الكسائي وابن كثير وابن محيصن يقفون بالهاء على الأصل.
__________
(1). الذي ذكره النحاس في اعراب قوله تعالى: (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أن الفراء قال عن الكسائي: أحسبه أنه سأل أبا السمال كيف يقرأ فيقف على (وَلاتَ) فوقف عليها بالها. وعبارة الفراء في هذه السورة من تفسيره: وكان الكسائي يقف عليها بالهاء وأنا أقف على التاء. اهـ. ولم يذكر أبا فقعس.

الباقون بالتاء أتباعا لخط المصحف. وفي الصحاح: ومناة اسم صنم كان [لهذيل وخزاعة «1»] بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء وهي لغة، والنسبة إليها منوي. وعبد مناة بن أد بن طابخة، وزيد مناة بن تميم بن مر يمد ويقصر، قال هوبر الحارثي:
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة ... على الشنء فيما بيننا ابن تميم
قوله تعالى: (الْأُخْرى ) العرب [لا «2»] تقول للثالثة أخرى وإنما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رءوس الآي، كقوله: (مَآرِبُ أُخْرى ) ولم يقل أخر. وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير مجازها أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة. وقيل: إنما قال (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى فالكلام على نسقه. وقد ذكرنا عن [ابن «3»] هشام: أن مناة كانت أولا في التقديم، فلذلك كانت مقدمة عندهم في التعظيم، والله أعلم. وفي الآية حذف دل عليه الكلام، أي أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله. ثم قال على جهة التقريع والتوبيخ: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ) ردا عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله. قوله تعالى: (تِلْكَ إِذاً) يعني هذه القسمة (قِسْمَةٌ ضِيزى ) أي جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق. يقال: ضاز في الحكم أي جار، وضاز حقه يضيزه ضيزا- عن الأخفش- أي نقصه وبخسه. قال: وقد يهمز فيقال ضأزه يضأزه ضأزا وأنشد:
فإن تنأ عنا ننتقصك وإن تقم «4» ... فقسمك مضئوز وأنفك راغم
وقال الكسائي: يقال ضاز يضيز ضيزا، وضاز يضوز ضوزا، وضأز يضأز ضأزا إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص، قال الشاعر «5»:
ضازت بنو أسد بحكمهم ... إذ يجعلون الرأس كالذنب
__________
(1). الزيادة من الصحاح واللسان.
(2). زيادة يقتضيها السياق.
(3). من ب، ح، ز، س، ل هـ.
(4). في الأصل (وان تغب) والتصويب عن اللسان. وروى فحظك بدل فقسمك.
(5). قائله امرؤ القيس. [.....]

إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)

قوله تعالى: (قِسْمَةٌ ضِيزى ) أي جائرة، وهي فعلى مثل طوبى وحبلى، وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء، لأنه ليس في الكلام فعلى صفة، وإنما هو من بناء الأسماء كالشعرى والدفلى. قال الفراء: وبعض العرب تقول ضوزى وضيزى بالهمز. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد: أنه سمع العرب تهمز (ضِيزى ). قال غيره: وبها قرأ ابن كثير، جعله مصدرا مثل ذكرى وليس بصفة، إذ ليس في الصفات فعلى ولا يكون أصلها فعلى، إذ ليس فيها ما يوجب القلب، وهي من قولهم ضأزته أي ظلمته. فالمعنى قسمة ذات ظلم. وقد قيل هما لغتان بمعنى. وحكى فيها أيضا سواهما ضيزى وضازى وضوزى وضؤزى. وقال المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع أبيض بيض والأصل بوض، مثل حمر وصفر وخضر. فأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.

[سورة النجم (53): الآيات 23 الى 26]
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)
قوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) أي ما هي يعني هذه الأوثان (إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) يعنى نحتموها وسميتموها آلهة. (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي قلدتموهم في ذلك. (ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) عاد من الخطاب إلى الخبر أي ما يتبع هؤلاء إلى الظن. (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي تميل إليه. وقراءة العامة (يَتَّبِعُونَ) بالياء. وقرا عيسى بن عمرو أيوب وابن السميقع

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)

(تتبعون) بالتاء على الخطاب. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى ) أي البيان من جهة الرسول أنها ليست بآلهة. (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) أي اشتهى أي ليس ذلك له. وقيل: (لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) من البنين، أي يكون له دون البنات. وقيل: (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) من غير جزاء! ليس الامر كذلك. وقيل: (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) من النبوة أن تكون فيه دون غيره. وقيل: (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) من شفاعة الأصنام، نزلت في النضر بن الحرث. وقيل: في الوليد بن المغيرة. وقيل: في سائر الكفار. (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ) يعطي من يشاء ويمنع من يشاء لا ما تمنى أحد. قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى ) هذا توبيخ من الله تعالى لمن عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن ذلك يقربه إلى الله تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له. قال الأخفش: الملك واحد ومعناه جمع، وهو كقوله تعالى: (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) «1». وقيل: إنما ذكر ملكا واحدا، لان كم تدل على الجمع.

[سورة النجم (53): الآيات 27 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هم الكفار الذين قالوا الملائكة بنات الله والأصنام بنات الله. (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ) أي كتسمية الأنثى، أي
__________
(1). راجع ج 18 ص 276.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله. (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي إنهم لم يشاهدوا خلقه الملائكة، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يروه في كتاب. (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبعون (إِلَّا الظَّنَّ) في أن الملائكة إناث. (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). قوله تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) يعني القرآن والايمان. وهذا منسوخ بآية السيف. (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) نزلت في النضر. وقيل: في الوليد. (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي إنما يبصرون أمر دنياهم ويجهلون أمر دينهم. قال الفراء: صغرهم وازدرى بهم، أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: أن جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي حاد عن دينه (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى ) فيجازي كلا بأعمالهم.

[سورة النجم (53): الآيات 31 الى 32]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) اللام متعلقة بالمعنى الذي دل عليه (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كأنه قال: هو مالك ذلك يهدي من يشاء ويضل من يشاء ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقيل: (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) معترض في الكلام، والمعنى: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ليجزي. وقيل: هي

لام العاقبة، أي ولله ما في السموات وما في الأرض، أي وعاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم مسي ومحسن، فللمسيء السوأى وهي جهنم، وللمحسن الحسنى وهي الجنة. قوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) هذا نعت للمحسنين، أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك، لأنه أكبر الآثام. وقرا الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي (كبير) على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك. (وَالْفَواحِشَ) الزنى: وقال مقاتل: (كَبائِرَ الْإِثْمِ) كل ذنب ختم بالنار. (وَالْفَواحِشَ) كل ذنب فيه الحد. وقد مضى في (النساء) «1» القول في هذا. ثم استثنى استثناء منقطعا وهي: المسألة الثانية- فقال: (إِلَّا اللَّمَمَ) وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه «2» الله وحفظه. وقد اختلف في معناها، فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي: (اللَّمَمَ) كل ما دون الزنى. وذكر مقاتل بن سليمان: أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار، كان له حانوت يبيع فيه تمرا، فجاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها: إن داخل الدكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! ما من شي يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع، فقال: (لعل) «3» (زوجها غاز) فنزلت هذه الآية، وقد مضى في آخر (هود) «4» وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطي من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: زنى العينين النظر، وزني اليدين البطش، وزني الرجلين المشي، وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج، فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله كتب
__________
(1). راجع ج 5 ص (158)
(2). في ب: (سلمه الله).
(3). راجع ج 9 ص 111، ففيه بيان الإجمال في هذا الحديث برواية أخرى.
(4). راجع ج 9 ص 111، ففيه بيان الإجمال في هذا الحديث برواية أخرى.

على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزني اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (. والمعنى: أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم. والله أعلم. وفي رواية أبي صالح [عن أبي «1» هريرة] عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه (. خرجه مسلم. وقد ذكر الثعلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر فيه الاذن واليد والرجل، وزاد فيه بعد العينين واللسان: (وزني الشفتين القبلة). فهذا قول. وقال ابن عباس أيضا: هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب. قال: ألم تسمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول:
إن يغفر الله يغفر جما ... وأى عبد لك لا ألما
رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس «2». قال النحاس: هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادا. وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل (إِلَّا اللَّمَمَ) قال: هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده، قال الشاعر «3»:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأى عبد لك لا ألما
وكذا قال مجاهد والحسن: هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده، ونحوه عن الزهري، قال: اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود، وأن يسرق أو يشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا «4» لِذُنُوبِهِمْ) الآية. ثم قال: (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ «5» رَبِّهِمْ) فضمن لهم المغفرة، كما قال عقيب اللمم:
__________
(1). من ب، ى.
(2). روى هذا الحديث الترمذي بهذا الاسناد وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(3). هو أمية بن الصلت قاله عند احتضار.
(4). راجع ج 4 ص 209 وص 215.
(5). راجع ج 4 ص 209 وص 215.

(إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فعلى هذا التأويل يكون (إِلَّا اللَّمَمَ) استثناء متصل. قال عبد الله ابن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك. وقيل: اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا، ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس. قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة. ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس. وقال الكلبي: اللمم على وجهين: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش. والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه. وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وزيد بن ثابت: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به. وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه «1»، وهو كقوله تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) «2». وقيل: اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة، قاله نفطويه. قال: والعرب تقول ما يأتينا إلا لماما، أي في الحين بعد الحين. قال: ولا يكون أن يلم ولا يفعل، لان العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا هم ولم يفعله. وفي الصحاح: وألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب، ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة. وأنشد غير الجوهري:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
أي اقرب. وقال عطاء بن أبي رباح: اللمم عادة النفس الحين بعد الحين. وقال سعيد ابن المسيب: هو ما ألم على القلب، أي خطر. وقال محمد بن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم. ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام: (إن للشيطان لمة وللملك لمة) الحديث. وقد مضى في (البقرة) «3» عند قوله تعالى: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ). وقال أبو إسحاق الزجاج: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه
__________
(1). في ا: (وأبوه) وما أثبتناه يوافق ما في تفسير أبى حيان والطبري
(2). راجع ج 5 ص 116.
(3). راجع ج 3 ص 329

ولا يقيم عليه، يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلا لمما وإلماما: أي الحين بعد الحين. وإنما زيارتك إلمام، ومنه إلمام الخيال، قال الأعشى:
ألم خيال من قتيلة بعد ما ... وهى حبلها من حبلنا فتصرما
وقيل: إلا بمعنى الواو. وأنكر هذا الفراء وقال: المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب. وقيل: اللمم النظرة التي تكون فجأة. قلت: هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به، لأنه يقع من غير قصد واختيار، وقد مضى في (النور) «1» بيانه. واللمم أيضا طرف من الجنون، ورجل ملموم أي به لمم. ويقال أيضا: أصابت فلانا لمة من الجن وهي المس والشيء القليل، قال الشاعر «2»:
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلا كلمة حالم بخيال
الثالثة- قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) لمن تاب من ذنبه واستغفر، قاله ابن عباس. وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود: رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة، فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذي الكلاع وحوشب، وكانا ممن قتل بعضهم بعضا، فقلت: وكيف ذلك؟ فقالوا: إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة. فقال أبو خالد: بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثني عشر ألف بنت. قوله تعالى: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) من أنفسكم (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع. قال الترمذي أبو عبد الله: وليس هو كذلك عندنا، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض، وكنا جميعا في تلك التربة وفي تلك الطينة، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذرو النفوس على اختلاف هيئتها، ثم استخرجها من صلبها على اختلاف الهيئات، منهم كالدر يتلألأ، وبعضهم أنور من بعض، وبعضهم أسود كالحممة، وبعضهم أشد سوادا من بعض، فكان الإنشاء واقعا علينا وعليه. حدثنا عيسى
__________
(1). راجع ج 12 ص 227. [.....]
(2). هو ابن مقبل. والواو في (وذلك) زائدة كقول أبى كبير الهذلي:
فإذا وذلك ليس الا حينه ... وإذا مضى شي كأن لم يفعل

ابن حماد العسقلاني قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة) فقال قائل: يا رسول الله! ومن مضى من الخلق؟ قال: (نعم عرض علي آدم فمن دونه فهل كان خلق) «1» (أحد) قالوا: ومن في أصلاب الرجال وبطون الأمهات؟ قال: (نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها). قلت: وقد تقدم في أول (الانعام) «2» أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها. (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن، سمي جنينا لاجتنانه واستتاره. قال عمرو بن كلثوم:
هجان اللون لم تقرأ جنينا «3»

وقال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقي، ثم صرنا رضعا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك، وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخا- لا أبالك!- فما بعد هذا ننتظر؟!. وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صديق، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد) فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) إلى آخرها. ونحوه عن عائشة: (كان اليهود). بمثله. (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله، عن الحسن وغيره. قال الحسن: قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة. وقد مضى في (النساء) الكلام في معنى هذه الآية عند قوله
__________
(1). كذا في ا، ز. وفى ح، هـ، س (فهل كان أحد). وفى ب: (فهل كان قبله أحد).
(2). راجع ج 6 ص 388.
(3). وصدره:
ذراعي حرة أدماء بكر

وهى رواية أبى عبيدة. أي لم تضم في رحمها ولدا قط.

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)

تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) «1» فتأمله هناك. وقال ابن عباس: ما من أحد من هذه الامة أزكيه غير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والله تعالى أعلم.

[سورة النجم (53): الآيات 33 الى 35]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35)
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى ) [الآيات «2»] لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على دينه فعيره بعض المشركين، وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم»
وزعمت أنهم في النار؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن [له «4»] ثم بخل ومنعه فانزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: كال الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل: (وَأَعْطى قَلِيلًا) أي من الخير بلسانه (وَأَكْدى ) أي قطع ذلك وأمسك عنه. وعنه أنه أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقد الايمان ثم تولى فنزلت: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) الآية. وقال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب ابن شريك: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع؟ يوشك ألا يبقى لك شي. فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه! فقال له عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن بعض ما كان يصنع [من الصدقة «5»] فأنزل الله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى ) فعاد عثمان إلى أحسن ذلك وأجمله. ذكر ذلك الواحدي والثعلبي. وقال السدي أيضا: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه
__________
(1). راجع ج 5 ص (246)
(2). من ب ول.
(3). في ب وس وهـ: (مللهم).
(4). الزيادة من أسباب النزول للواحدي.
(5). الزيادة من أسباب النزول للواحدي.

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)

كان ربما يوافق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل ابن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق، فذلك قوله تعالى: (وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى ). وقال الضحاك: هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه، وضمن له أن يتحمل عنه مأثم رجوعه. واصل (أَكْدى ) من الكدية يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. وقال الحطيئة:
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه ... ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
قال الكسائي وغيره: أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى إذا بلغ إلى الصلب. ويقال: كديت أصابعه إذا كلت «1» من الحفر. وكديت «2» يده إذا كلت فلم تعمل شيئا. وأكدى النبت إذا قل ريعه، وكدت الأرض تكدو كدوا [وكدوا] فهي كادية إذا أبطأ نباتها، عن أبى زيد. وأكديت الرجل عن الشيء رددته عنه. وأكدى الرجل إذا قل خيره. وقوله: (وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى ) أي قطع القليل. قوله تعالى: (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى ) أي أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟. (فَهُوَ يَرى ) أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة، وما يكون من أمره حتى يضمن حمل العذاب عن غيره، وكفى بهذا جهلا وحمقا. وهذه الرؤية هي المتعدية إلى مفعولين والمفعولان محذوفان، كأنه قال: فهو يرى الغيب مثل الشهادة.

[سورة النجم (53): الآيات 36 الى 42]
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40)
ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)
__________
(1). في ب، ح، ز، س، هـ: (إذا محلت).
(2). في النسخ السابقة: (وكدت يده).

قوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى . وَإِبْراهِيمَ) أي صحف (إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) كما في سورة (الأعلى) «1» (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) أي لا تؤخذ نفس بد لا عن أخرى، كما قال: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وخص صحف إبراهيم وموسى بالذكر، لأنه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة «2» أخيه وابنه وأبيه، قاله الهذيل بن شرحبيل. (وَأَنْ) هذه المخففة من الثقيلة وموضعها جر بدلا من (ما) أو يكون في موضع رفع على إضمار هو. وقرا سعيد بن جبير وقتادة (وفى) خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة (وفي) بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يخرم منه شيئا. وقد مضى في (البقرة) «3» عند قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) والتوفية الإتمام. وقال أبو بكر الوراق: قام بشرط ما ادعى، وذلك أن الله تعالى قال له: (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) «4» فطالبه الله بصحة دعواه، فابتلاه في ماله وولده ونفسه فوجده «5» وافيا بذلك، فذلك قوله: (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي ادعى الإسلام ثم صحح دعواه. وقيل: وفى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار، رواه الهيثم عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى سهل بن سعد الساعدي عن أبيه (ألا أخبركم لم سمى الله تعالى خليله إبراهيم (الَّذِي وَفَّى) لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) «6» (الآية. ورواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: (وَفَّى) أي وفى ما أرسل به، وهو قوله: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) قال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، ويأخذون الولي بالولي في القتل والجراحة، فيقتل الرجل بأبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه وقريبه وزوجته وزوجها وعبده، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ). وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى (وَفَّى): عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه. وهذا أحسن، لأنه عام. وكذا قال مجاهد: (وَفَّى) بما فرض عليه. وقال أبو مالك
__________
(1). راجع ج 20 ص 13.
(2). في ل: (بجريمة).
(3). راجع ج 2 ص 98 وص (134) [.....]
(4). راجع ج 2 ص 98 وص (134)
(5). في ز، ل: (فوجد وافيا).
(6). راجع ج 14 ص 14.

الغفاري قوله تعالى: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) إلى قوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) في صحف إبراهيم وموسى، وقد مضى في آخر (الانعام) «1» القول في (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) مستوفى. قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) «2» فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء، يدل على ذلك قوله تعالى: (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) «3». وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة ولا ينفع أحدا عمل أحد، وأجمعوا أنه لا يصلي أحد عن أحد. ولم يجز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت، إلا أنه قال: إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه. وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوع عن الميت. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه. وروى أن سعد بن عبادة قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمي توفيت أفأتصدق عنها؟ قال: (نعم) قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: (سقي الماء). وقد مضى جميع هذا مستوفى في (البقرة) «4» و(آل عمران) «5» (والأعراف) «6». وقد قيل: إن الله عز وجل إنما قال: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب «7» للإنسان إلا ما سعى، فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شي إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له، كما يتفضل على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل. وقال الربيع بن أنس: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره. قلت: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها، وليس في الصدقة اختلاف، كما في صدر
__________
(1). راجع ج 7 ص 157 وص 215.
(2). راجع ص 66 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 5 ص 74.
(4). راجع ج 3 ص 428.
(5). راجع ج 4 ص 151.
(6). هكذا في الأصول ولم نعثر على هذا المعنى في السورة المذكورة.
(7). في ب، ح، ز، س، ل وهـ: (فليس يجب).

كتاب مسلم عن عبد الله بن المبارك. وفي الصحيح: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث) وفية (أو ولد صالح يدعو له) وهذا كله تفضل من الله عز وجل، كما أن زيادة الاضعاف فضل منه، كتب لهم بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة، كما قيل لابي هريرة: أسمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة) فقال سمعته يقول: (إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة) فهذا تفضل. وطريق العدل (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ). قلت: ويحتمل أن يكون قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) خاص في السيئة، بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (قال الله عز وجل إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة (. وقال أبو بكر الوراق:) إِلَّا ما سَعى ) إلا ما نوى، بيانه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم). قوله تعالى: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) أي يريه الله تعالى جزاءه يوم القيامة (ثُمَّ يُجْزاهُ) أي يجزى به (الْجَزاءَ الْأَوْفى ). قال الأخفش: يقال جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما، قال الشاعر:
إن أجز علقمة بن سعد سعيه ... لم أجزه ببلاء يوم واحد
فجمع بين اللغتين. قوله تعالى: (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) أي المرجع والمراد والمصير فيعاقب ويثيب. وقيل: منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الأمان. وعن أبي بن كعب قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) قال: (لا فكرة في الرب). وعن أنس: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذ ذكر الله تعالى فانته).

وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)

قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته) وقد تقدم في آخر (الأعراف) «1». ولقد أحسن من قال:
ولا تفكرن «2» في ذي العلا عز وجهه ... فإنك تردى إن فعلت وتخذل
ودونك مصنوعاته فاعتبر بها ... وقل مثل ما قال الخليل المبجل

[سورة النجم (53): الآيات 43 الى 46]
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
قوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ) ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعال فلا فاعل إلا هو، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا والله ما قال رسول الله قط إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: (إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى وما تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ). وعنها قالت: مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قوم من أصحابه وهم يضحكون، فقال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) فنزل عليه جبريل فقال: يا محمد! إن الله يقول لك: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ). فرجع إليهم فقال: (ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ايت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول:) هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ) أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء ابن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن، لان الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحكون؟ قال: نعم! والايمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وقد تقدم هذا المعنى في (النمل) «3» و(براءة) «4». قال الحسن:
__________
(1). راجع ج 7 ص 348.
(2). من أفكر لغة في فكر بالتضعيف.
(3). راجع ج 13 ص 175.
(4). راجع ج 8 ص 217. [.....]

أضحك الله أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار. وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه. الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر. وقيل: أضحك الأشجار بالنوار، وأبكى السحاب بالأمطار. وقال ذو النون: أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته. وقال سهل بن عبد الله: أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط. وقال محمد ابن علي الترمذي: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبد الله: أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد:
السن تضحك والأحشاء تحترق ... وإنما ضحكها زور ومختلق
يا رب باك بعين لا دموع لها ... ورب ضاحك سن ما به رمق
وقيل: إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان. وقد قيل: إن القرد وحده يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم. (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خلق الموت والحياة كما قال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) «1» قاله ابن بحر. وقيل: أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالايمان، قال الله تعالى: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) «2» الآية. وقال: (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) على ما تقدم «3»، وإليه يرجع قول عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله. وقول من قال: أمات بالمنع والبخل وأحيا بالجود والبذل. وقيل: أمات النطفة وأحيا النسمة. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. وقيل: أنام وأيقظ. وقيل: أمات في الدنيا وأحيا للبعث. (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) أي من أولاد آدم ولم يرد آدم وحواء بأنهما خلقا من نطفة.
__________
(1). راجع ج 18 ص (206)
(2). راجع ج 7 ص 78 وج 6 ص 418
(3). راجع ج 7 ص 78 وج 6 ص 418

وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)

والنطفة الماء القليل، مشتق من نطف الماء إذا قطر. (تُمْنى ) تصب في الرحم وتراق، قاله الكلبي والضحاك وعطاء بن أبى رباح. يقال: منى الرجل وأمنى من المني، وسميت منى بهذا الاسم لما يمنى فيها من الدماء أي يراق. وقيل: (تُمْنى ) تقدر، قاله أبو عبيدة. يقال: منيت الشيء إذا قدرته، ومني له أي قدر له، قال الشاعر «1»:
حتى تلاقي ما يمني لك الماني

أي ما يقدر لك القادر.

[سورة النجم (53): الآيات 47 الى 55]
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55)
قوله تعالى: (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) أي إعادة الأرواح في الأشباح للبعث. وقرا ابن كثير وأبو عمرو (النشأة) بفتح الشين والمد، أي وعد ذلك ووعده صدق. (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ) قال ابن زيد: أغنى من شاء وأفقر من شاء، ثم قرأ (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) «2» وقرا (يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) «3» واختاره الطبري. وعن ابن زيد أيضا ومجاهد وقتادة والحسن: (أَغْنى ) مول (وَأَقْنى ) أخدم. وقيل: (أَقْنى ) جعل
__________
(1). قائله أبو قلابة الهذلي. وصدره:
ولا تقولن لشيء سوف أفعله
وقيل هو لسويد بن عامر المصطلقي. وقبله:
لا تأمن الموت في حل وفى حرم ... ان النمايا توافي كل انسان
واسلك طريقك فيها غير محتشم ... حتى إلخ ...............

(2). راجع ج 14 ص (307)
(3). راجع ج 3 ص 237

لكم قنية تقتنونها، وهو معنى أخدم أيضا. وقيل: معناه أرضى بما أعطى أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه، قاله ابن عباس. وقال الجوهري: قني الرجل يقنى قنى، مثل غني يغنى غنى، وأقناه الله أي أعطاه الله ما يقتنى من القنية والنشب. وأقناه [الله ] أيضا أي رضاه. والقنى الرضا، عن أبي زيد، قال وتقول العرب: من أعطي مائة من المعز فقد أعطي القنى، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطي الغنى، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطي المنى. ويقال: أغناه الله وأقناه أي أعطاه ما يسكن إليه. وقيل: (أَغْنى وَأَقْنى ) أي أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه، قاله سليمان التيمي. وقال سفيان: أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا. وقال الأخفش: أقنى أفقر. قال ابن كيسان: أولد. وهذا راجع لما تقدم. (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) (الشِّعْرى ) الكوكب المضي الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، وهما الشعريان العبور التي في الجوزاء والشعرى الغميصاء التي في الذراع، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان ربا لغيره، لان العرب كانت تعبده، فأعلمهم الله عز وجل أن الشعرى مربوب وليس برب. وأختلف فيمن كان يعبده، فقال السدي: كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره: أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله وخالف أديانهم، وقالوا: ما لقينا من ابن أبي كبشة! وقال أبو سفيان يوم الفتح وقد وقف في بعض المضايق وعساكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمر عليه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم، قال الشاعر:
مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأخبت نارها الشعرى العبور
وقيل: إن العرب تقول في خرافاتها: إن سهيلا والشعرى كانا زوجين، فانحدر سهيل فصار يمانيا، فاتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء فبكت

لفقد سهيل حتى غمصت عيناه، فسميت غميصاء لأنها أخفى من الأخرى. (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) سماها الاولى لأنهم كانوا من قبل ثمود. وقيل: إن ثمود من قبل «1» عاد. وقال ابن زيد: قيل لها عاد الاولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح عليه السلام. وقال ابن إسحاق: هما عادان فالأولى أهلكت بالريح الصرصر، ثم كانت الأخرى فأهلكت بالصيحة. وقيل: عاد الاولى هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، وعاد الثانية من ولد عاد الاولى، والمعنى متقارب. وقيل: إن عاد الآخرة الجبارون وهم قوم هود. وقراءة العامة (عاداً الْأُولى ) ببيان التنوين والهمز. وقرا نافع وابن محيصن وأبو عمرو (عاداً الْأُولى ) بنقل حركة الهمزة إلى اللام وإدغام التنوين فيها، إلا أن قالون والسوسي يظهران الهمزة الساكنة. وقلبها الباقون واوا على أصلها، والعرب تقلب هذا القلب فتقول: قم ألان عنا وضم لثنين أي قم الآن وضم الاثنين (وَثَمُودَ فَما أَبْقى ) ثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة. قرئ (ثمودا) (وَثَمُودَ) وقد تقدم «2». وانتصب على العطف على عاد. (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) وذلك لطول مدة نوح فيهم، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه فينطلق إلى نوح عليه السلام فيقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي مثل ما قلت لك، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه. وقيل: إن الكناية ترجع إلى كل من ذكر من عاد وثمود وقوم نوح، أي كانوا أكفر من مشركي العرب وأطغى. فيكون فيه تسلية وتعزية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكأنه يقول له: فاصبر أنت أيضا فالعاقبة الحميدة لك. (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ) يعني مدائن قوم لوط عليه السلام ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها. يقال: أفكته أي قلبته وصرفته. (أَهْوى ) أي خسف بهم بعد رفعها إلى السماء، رفعها جبريل ثم أهوى بها إلى الأرض. وقال المبرد: جعلها تهوي. ويقال: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط
__________
(1). في ب، ح س وهـ: (من نسل عاد).
(2). راجع ج 7 ص 238.

هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

و(أَهْوى ) أي أسقط. (فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة، قال الله تعالى: (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) «1» وقيل: إن الكناية ترجع إلى جميع هذه الأمم، أي غشاها من العذاب ما غشاهم، وأبهم لان كلا منهم أهلك بضرب غير ما أهلك به الآخر. وقيل: هذا تعظيم الامر. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) أي فبأي نعم ربك تشك. والمخاطبة للإنسان المكذب. والآلاء النعم واحدها ألى وإلى وإلي. وقرا يعقوب (تمارى) بإدغام إحدى التاءين في الأخرى والتشديد.

[سورة النجم (53): الآيات 56 الى 62]
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60)
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
قوله تعالى: (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) قال ابن جريج ومحمد بن كعب: يريد أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله، فإن أطعتموه أفلحتم، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة. وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الاولى. وقيل: أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الامة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر، والنذر في قول العرب بمعنى الإنذار كالنكر بمعنى الإنكار، أي هذا إنذار لكم. وقال أبو مالك: هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى. وقال السدي أخبرني أبو صالح قال: هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى . وَإِبْراهِيمَ) إلى قوله: (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.
__________
(1). راجع ج 10 ص 542

قوله تعالى: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت الساعة ودنت القيامة. وسماها آزفة لقرب قيامها عنده، كما قال: (يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) «1». وقيل: سماها آزفة لدنوها من الناس وقربها منهم ليستعدوا لها، لان كل ما هو آت قريب. قال:
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكان قد
وفي الصحاح: أزف الترحل يأزف أزفا أي دنا وافد، ومنه قوله تعالى: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) يعني القيامة، وأزف الرجل أي عجل فهو آزف على فاعل، والمتآزف القصير وهو المتداني. قال أبو زيد: قلت لأعرابي ما المحبنطئ؟ قال: المتكأكئ. قلت: ما المتكأكئ؟ قال: المتآزف. قلت: ما المتآزف؟ قال: أنت أحمق وتركني ومر. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ) أي ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدمها. وقيل: كاشفة أي انكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله، فالكاشفة اسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاء في العاقبة والعافية والداهية والباقية، كقولهم: ما لفلان من باقية أي من بقاء. وقيل: أي لا أحد يرد ذلك، أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى. وقد سميت القيامة غاشية، فإذا كانت غاشية كان ردها كشفا، فالكاشفة علي هذا نعت مؤنث محذوف، أي نقس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة. وقيل: إن (كاشِفَةٌ) بمعنى كاشف والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية. قوله تعالى: (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن. وهذا استفهام توبيخ (تَعْجَبُونَ) تكذيبا به (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء (وَلا تَبْكُونَ) انزجارا وخوفا من الوعيد. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما روى بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسما. وقال أبو هريرة: لما نزلت (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) قال أهل الصفة: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يلج النار من بكى من)
__________
(1). راجع ج 18 ص 284.

خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (. وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا؟ قال: هذا فلان، فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم. قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي لاهون معرضون. عن ابن عباس، رواه الوالبي والعوفي عنه. وقال عكرمة عنه: هو الغناء بلغة حمير، يقال: سمد لنا أي غن لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا. وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون. وفي الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد، قال»
:
سوامد الليل خفاف الأزواد

يقول: ليس في بطونها علف. وقال ابن الاعرابي: سمدت سمودا علوت. وسمدت الإبل في سيرها جدت. والسمود اللهو، والسامد اللاهي، يقال للقينه: أسمدينا، أي ألهينا بالغناء. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سراجين ورماد. وتسميد الرأس استئصال شعره، لغة في التسبيد. واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا أي ورم غضبا. وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى (سامِدُونَ) أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة. وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الامام، ومنه ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خرج الناس ينتظرونه قياما فقال: (مالي أراكم سامدين) حكاه الماوردي. وذكره المهدوي عن علي، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما [ينتظرونه ] فقال: (مالكم سامدون) قاله المهدوي. والمعروف في اللغة: سمد يسمد سمودا إذا لها وأعرض. وقال المبرد: سامدون خامدون، قال الشاعر:
أتى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدور سمدن له سمودا
__________
(1). قائله رؤبة بن العجاج يصف إبلا.

وقال صالح أبو الخليل: لما قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) لم ير ضاحكا إلا مبتسما حتى مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذكره النحاس. قوله تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) قيل: المراد به سجود تلاوة القرآن. وهو قول ابن مسعود. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقد تقدم أول السورة من حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد فيها وسجد معه المشركون. وقيل: إنما سجد معه المشركون لأنهم سمعوا أصوات الشياطين في أثناء قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) وأنه قال: تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى. كذا في رواية سعيد بن جبير ترتجى. وفي رواية أبي العالية وشفاعتهن ترتضي، ومثلهن لا ينسى. ففرح المشركون وظنوا أنه من قول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما تقدم بيانه في (الحج) «1». فلما بلغ الخبر بالحبشة من كان بها من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجعوا ظنا منهم أن أهل مكة آمنوا، فكان أهل مكة أشد عليهم وأخذوا في تعذيبهم إلى أن كشف الله عنهم. وقيل: المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ابن عمر، كان لا يراها من عزائم السجود. وبه قال مالك. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه: كان آخر فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك السجود في المفصل. والأول أصح وقد مضى القول فيه آخر (الأعراف) «2» مبينا والحمد لله رب العالمين. تم تفسير سورة (والنجم).
__________
(1). هذه الاخبار من المفتريات على المعصوم سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أن ينطق بما هو نقيض القرآن، ولا يمكن أن ينطق على لسانه الشيطان. وكل ما كان من هذا المعنى فهو باطل وضعته الملاحدة للدخول به إلى الطعن في سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوفى الوحى أو في القران وهو الذي لا ينطق عن الهوى. راجع ما كتبه المصنف عن هذا الحديث في ج 12 ص 80.
(2). راجع ج 7 ص 357.

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

[تفسير سورة القمر]
سورة القمر مكية كلها في قول الجمهور. وقال مقاتل: الا ثلاث آيات من قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إلى قوله: (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) ولا يصح على ما يأتي. وهى خمس وخمسون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القمر (54): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (اقْتَرَبَتِ) أي قربت مثل أزفت الآزفة «1» (على ما بيناه. فهي بالإضافة إلى ما مضى قريبة، لأنه قد مضى أكثر الدنيا كما روى قتادة عن أنس قال: خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كادت الشمس تغيب فقال: (ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى) وما نرى من الشمس إلا يسيرا. وقال كعب ووهب: الدنيا ستة ألاف سنة. قال وهب: قد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة سنة. ذكره النحاس. ثم قال تعالى: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي وقد انشق القمر. وكذا قرأ حذيفة (اقتربت الساعة وقد انشق القمر) بزيادة (قد) وعلى هذا الجمهور من العلماء، ثبت ذلك في صحيح
__________
(1). راجع ص 122 من هذا الجزء. [.....]

البخاري وغيره من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس وجبير بن مطعم وابن عباس رضي الله عنهم. وعن أنس قال: سأل أهل مكة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إلى قوله: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يقول ذاهب قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ البخاري عن أنسى قال: انشق القمر فرقتين. وقال قوم: لم يقع انشقاق القمر بعد وهو منتظر، أي اقترب قيام الساعة وانشقاق القمر، وأن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر وغيره. وكذا قال القشيري. وذكر الماوردي: أن هذا قول الجمهور، وقال: لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه، لأنه آية والناس في الآيات سواء. وقال الحسن: اقتربت الساعة فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية. وقيل: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي وضح الامر وظهر، والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح، قال:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى حي سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل
وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق «1» الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها، كما يسمى الصبح فلقا، لانفلاق الظلمة عنه. وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه كما قال النابغة:
فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داع
قلت: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها، لأنها كانت آية ليليه، وأنها كانت باستدعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الله تعالى عند التحدي. فروي أن حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضبا من سب أبي جهل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا في إيمانه. وقد تقدم في الصحيح أن أهل مكة هم الذين سألوا وطلبوا أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر فلقتين كما في حديث ابن مسعود وغيره. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد قيل: هو على
__________
(1). في تفسير الجمل نقلا عن القرطبي: (زوال الظلمة).

التقديم والتأخير، وتقديره انشق القمر واقتربت الساعة، قاله ابن كيسان. وقد مر عن الفراء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر عند قوله تعالى: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) «1». قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) هذا يدل على أنهم رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن فعلت تؤمنون) قالوا: نعم؟ وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينادي المشركين: (يا فلان يا فلان اشهدوا). وفي حديث ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت قريش: هذا من سحر ابن أبي كبشة، سحركم فاسألوا السفار، فسألوهم فقالوا: قد رأينا القمر انشق فنزلت: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) أي إن يروا آية تدل على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرضوا عن الايمان (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي ذاهب، من قولهم: مر الشيء واستمر إذا ذهب، قاله أنس وقتادة ومجاهد والفراء والكسائي وأبو عبيدة، واختاره النحاس. وقال أبو العالية والضحاك: محكم قوي شديد، وهو من المرة وهي القوة، كما قال لقيط:
حتى استمرت على شزر مريرته ... مر العزيمة لا [قحما «2»] ولا ضرعا
وقال الأخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله. وقيل: معناه مر من المرارة. يقال: أمر الشيء صار مرا، وكذلك مر الشيء [يمر] بالفتح مرارة فهو مر، وأمره غيره ومره. وقال الربيع: مستمر نافذ. يمان: ماض. أبو عبيدة: باطل. وقيل: دائم. قال «3»:
وليس على شي قويم بمستمر
__________
(1). راجع ص 89 من هذا الجزء.
(2). راجع هامش ص 86 من هذا الجزء في شرح البيت.
(3). البيت لامرى القيس وصدره:
الا انما الدنيا ليال وأعصر

أي بدائم. وقيل: يشبه بعضه بعضا، أي قد استمرت أفعال محمد على هذا الوجه فلا يأتي بشيء له حقيقة بل الجميع تخييلات. وقيل: معناه قد مر من الأرض إلى السماء. (وَكَذَّبُوا) نبينا (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي ضلالاتهم واختياراتهم. (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار. وقرا شيبة (مستقر) بفتح القاف، أي لكل شي وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقد روي عن أبي جعفر بن القعقاع (وكل أمر مستقر) بكسر القاف والراء جعله نعتا لأمر و(كل) على هذا يجوز أن يرتفع بالابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: وكل أمر مستقر في أم الكتاب كائن. ويجوز أن يرتفع بالعطف على الساعة، المعنى: اقتربت الساعة وكل أمر مستقر، أي اقترب استقرار الأمور يوم القيامة. ومن رفعه جعله خبرا عن (كل). قوله تعالى: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي من بعض الانباء، فذكر سبحانه من ذلك ما علم أنهم يحتاجون إليه، وأن لهم فيه شفاء. وقد كان هناك أمور أكثر من ذلك، وإنما اقتص علينا ما علم أن بنا إليه حاجة وسكت عما سوى ذلك، وذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي جاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه. وأصله مزتجر فقلبت التاء دالا، لان التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور، فأبدل من التاء دالا توافقها في المخرج وتوافق الزاي في الجهر. و(مُزْدَجَرٌ) من الزجر وهو الانتهاء، يقال: زجره وازدجره فانزجر وازدجر، وزجرته أنا فانزجر أي كففته فكف، كما قال:
فأصبح ما يطلب الغانيا ... ت مزدجرا عن هواه ازدجارا
وقرى (مزجر) بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاي فيها، حكاه الزمخشري. (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) يعني القران وهو بدل من (ما) من قوله: (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ). ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، أي هو حكمة. (فَما تُغْنِ النُّذُرُ)

إذا كذبوا وخالفوا كما قال الله تعالى: (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) «1» ف (فَما) نفي أي ليست تغني عنهم النذر. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ، أي فأي شي تغني النذر عنهم وهم معرضون عنها. و(النُّذُرُ) يجوز أن تكون بمعنى الإنذار، ويجوز أن تكون جمع نذير. قوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم. قيل: هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو تمام الكلام. ثم قال: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) العامل في (يَوْمَ) (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أو (خُشَّعاً) أو فعل مضمر تقديره واذكر يوم. وقيل: على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الامر، تقديره: فتول عنهم فإن لهم يوم يدعو الداعي. وقيل: تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة وأبصرهم يوم يدعو الداعي. وقيل: أي أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، فإنهم يدعون (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) وينالهم عذاب شديد. وهو كما تقول: لا تسأل عما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم. وقيل: أي وكل أمر مستقر يوم يدعوا الداعي. وقرا ابن كثير (نكر) بإسكان الكاف، وضمها الباقون وهما لغتان كعسر وعسر وشغل وشغل، ومعناه الامر الفظيع العظيم وهو يوم القيامة. والداعي هو إسرافيل عليه السلام. وقد روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرءا (إلى شيء نكر) بكسر الكاف وفتح الراء على الفعل المجهول. (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) الخشوع في البصر الخضوع والذلة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لان أثر العز والذل يتبين في ناظر الإنسان، قال الله تعالى: (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) «2» وقال تعالى: (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) «3». ويقال: خشع واختشع إذا ذل. وخشع ببصره أي غضه. وقرا حمزة والكسائي وأبو عمرو (خاشعا) بالألف ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، نحو: (خاشعا أبصارهم) والتأنيث نحو: (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) «4» ويجوز الجمع نحو: (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) قال «5»:
وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد
__________
(1). راجع ج 8 ص (386)
(2). راجع ج 19 ص (194)
(3). راجع ج 15 ص 45.
(4). راجع ج 18 ص (248)
(5). هو الحرث بن دوس الايادي، ويروى لابي دواد الايادي.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

و(خُشَّعاً) جمع خاشع والنصب فيه على الحال من الهاء والميم في (عَنْهُمْ) فيقبح الوقف على هذا التقدير على (عَنْهُمْ). ويجوز أن يكون حالا من المضمر في (يَخْرُجُونَ) فيوقف على (عَنْهُمْ). وقرى (خشع أبصارهم) على الابتداء والخبر، ومحل الجملة النصب على الحال، كقوله: [
وجدته «1» [حاضراه الجود والكرم

(يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور واحدها جدث. (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ). وقال في موضع آخر: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) «2» فهما صفتان في وقتين مختلفين، أحدهما- عند الخروج من القبور، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها] الثاني «3» [- فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر، لان الجراد له جهة يقصدها. و(مُهْطِعِينَ) معناه مسرعين، قاله أبو عبيدة. ومنه قول الشاعر:
بدجلة دارهم «4» ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع
الضحاك: مقبلين. قتادة: عامدين. ابن عباس: ناظرين. عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت. والمعنى متقارب. يقال: هطع الرجل يهطع هطوعا إذا أقبل على الشيء ببصره لا يقلع عنه، وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه. قال الشاعر «5»:
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ... وونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وبعير مهطع: في عنقه تصويب خلقة. وأهطع في عدوه أي أسرع. (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) يعني يوم القيامة لما ينالهم فيه من الشدة.

[سورة القمر (54): الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
__________
(1). الزيادة من اعراب القرآن للسمين.
(2). راجع ج 20 ص 165.
(3). الزيادة من مفصل اعراب القرآن وغيره.
(4). في اللسان: (أهلها).
(5). قائله تبع. [.....]

قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) ذكر جملا من وقائع الأمم الماضية تأنيسا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزية له. (قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك. (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) يعني نوحا. الزمخشري: فإن قلت ما معنى قوله: (فَكَذَّبُوا) بعد قوله: (كَذَّبَتْ)؟ قلت: معناه كذبوا فكذبوا عبدنا، أي كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل. (وَقالُوا مَجْنُونٌ) أي هو مجنون (وَازْدُجِرَ) أي زجر عن دعوى النبوة بالسب والوعيد بالقتل. وقيل إنما قال: (وَازْدُجِرَ) بلفظ ما لم يسم فاعله لأنه رأس آية. (فَدَعا رَبَّهُ) أي دعا عليهم حينئذ نوح وقال: رب (أَنِّي مَغْلُوبٌ) أي غلبوني بتمردهم (فَانْتَصِرْ) أي فانتصر لي. وقيل: إن الأنبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عز وجل لهم فيه. (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي كثير، قاله السدي. قال الشاعر:
أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر
وقيل: إنه المنصب المتدفق، ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا:

راح تمريه الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر «1»
الهمر الصب، وقد همر الماء والدمع يهمر همرا. وهمر أيضا إذا أكثر الكلام وأسرع. وهمر له من ماله أي أعطاه. قال ابن عباس: ففتحنا أبواب السماء بماء [منهمر «2»] من غير سحاب لم يقلع أربعين يوما. وقرا ابن عامر ويعقوب: (فَفَتَحْنا) مشددة على التكثير. الباقون (فَفَتَحْنا) مخففا. ثم قيل: إنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. وقيل: إنه المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر، قاله علي رضي الله عنه. (فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) قال عبيد ابن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون، وإن عينا تأخرت فغضب عليها فجعل ماءها مرا أجاجا إلى يوم القيامة. (فَالْتَقَى الْماءُ) أي ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر، حكاه ابن قتيبة. أي كان ماء السماء والأرض سواء. وقيل: (قُدِرَ) بمعنى قضي عليهم. قال قتادة: قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. وقال محمد بن كعب: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء، وتلا هذه الآية. وقال: (فَالْتَقَى الْماءُ) والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدا، لان الماء يكون جمعا وواحدا. وقيل: لأنهما لما اجتمعا صارا ماء واحدا. وقرا الجحدري: (فالتقى الماءان). وقرا الحسن: (فالتقى الماوان) وهما خلاف المرسوم. القشيري: وفي بعض المصاحف (فالتقى الماوان) وهي لغة طيئ. وقيل: كان ماء السماء باردا مثل الثلج وماء الأرض حارا مثل الحميم. (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) أي على سفينة ذات ألواح. (وَدُسُرٍ) قال قتادة: يعني المسامير التي دسرت بها السفينة أي شدت، وقاله القرظي وابن زيد وابن جبير، ورواه الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة: هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج سميت بذلك لأنها تدسر الماء أي تدفعه، والدسر الدفع والمخر، ورواه العوفي عن ابن عباس قال: الدسر كلكل «3» السفينة.
__________
(1). راح: أي عاد في الرواح، كأن المطر كان في أول النهار ثم عاد في آخره. وتمريه: تستدره، وأصله من مرى الضرع وهو مسحه ليدر. والشؤبوب: الدفعة من المطر. وخص الصبا لأنهم يمطرون بها.
(2). الزيادة من ط.
(3). الكلكل: الصدر.

وقال الليث: الدسار خيط من ليف تشد به ألواح السفينة. وفي الصحاح: الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة، ويقال: هي المسامير، وقال تعالى: (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ). ودسر أيضا مثل عسر وعسر. والدسر الدفع، قال ابن عباس في العنبر: إنما هو شي يدسره البحر دسرا أي يدفعه. ودسره بالرمح. ورجل مدسر. (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منا. وقيل: بأمرنا. وقيل: بحفظ منا وكلاءه: وقد مضى في (هود) «1». ومنه قول الناس للمودع: عين الله عليك، أي حفظه وكلاءته. وقيل: بوحينا. وقيل: أي بالأعين النابعة من الأرض. وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه. وقيل: أي تجري بأوليائنا، كما في الخبر: مرض عين من عيوننا فلم تعده. (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي جعلنا ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به، فاللام في (لِمَنْ) لام المفعول له، وقيل: (كُفِرَ) أي جحد، ف (لِمَنْ) كناية عن نوح. وقيل: كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب، أي عقابا لكفرهم بالله تعالى. وقرا يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) بفتح الكاف والفاء بمعنى: كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق «2»، كان الماء إلى حجزته. وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك، ونجاه من الغرق. (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) يريد هذه الفعلة عبرة. وقيل: أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل. قال قتادة: أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الامة، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ خائف، وأصله مذتكر مفتعل من الذكر، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي إنذاري،
__________
(1). راجع ج 9 ص 30.
(2). عوج بن عنق هو المشهور والذي صوبه صاحب القاموس هو ابن عوق لا عنق.

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

قال الفراء: الإنذار والنذر مصدران. وقيل: (نُذُرِ) جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر [مأخوذ «1»] من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه، قال:
وقمت إليه باللجام ميسرا ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن، وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرءون التوراة إلا نظرا، غير موسى وهرون ويوشع ابن نون وعزير صلوات الله عليهم، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت، على ما تقدم بيانه في سورة (براءة) «2» فيسر الله تعالى على هذه الامة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه، أي يفتعلوا الذكر، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب. فيهم. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قارئ يقرؤه. وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه، وكرر في هذه السورة للتنبيه والافهام. وقيل: إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الامة أنباء الأمم وقصص المرسلين، وما عاملتهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين «3»، فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادكر، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) لان (فَهَلْ) كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم، فاللام من (فَهَلْ) للاستعراض «4» والهاء للاستخراج.

[سورة القمر (54): الآيات 18 الى 22]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
__________
(1). الزيادة من حاشية الجمل عن القرطبي.
(2). راجع ج 8 ص 117.
(3). في ط، ل: المسلمين، وما أثبتناه في اوب وج وهـ.
(4). في ى: (للاستغراق).

قوله تعالى: (كَذَّبَتْ عادٌ) هم قوم هود. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وقعت (نُذُرِ) في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف، وقرأها يعقوب مثبته في الحالين، وورش في الوصل لا غير، وحذف الباقون. ولا خلاف في حذف الياء من قوله: (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) والواو من قوله: (يَدْعُ) فأما الياء من (الدَّاعِ) الأول فأثبتها في الحالين ابن محيصن ويعقوب وحميد والبزي، وأثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل، وحذفها الباقون. وأما الدَّاعِ) الثانية فأثبتها يعقوب وابن محيصن وابن كثير في الحالين، وأثبتها أبو عمرو ونافع في الوصل، وحذفها الباقون. (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي شديدة البرد، قاله قتادة والضحاك. وقيل: شديدة الصوت. وقد مضى في (حم السجدة) «1». (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي في يوم كان مشئوما عليهم. وقال ابن عباس: أي في يوم كانوا يتشاءمون به. الزجاج: قيل في يوم أربعاء. ابن عباس: كان آخر أربعاء في الشهر أفنى صغيرهم وكبيرهم. وقرا هرون الأعور (نَحْسٍ) بكسر الحاء وقد مضى القول فيه في حم السجدة (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ). و(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه، واستمر عليهم فيه العذاب إلى الهلاك. وقيل: استمر بهم إلى نار جهنم. وقال الضحاك: كان مرا عليهم. وكذا حكى الكسائي أن قوما قالوا هو من المرارة، يقال: مر الشيء وأمر أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس. وقد قال: (فَذُوقُوا) والذي يذاق قد يكون مرا. وقد قيل: هو من المرة بمعنى القوة. أي في يوم نحس مستمر مستحكم الشؤم كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه. فإن قيل: فإذا كان يوم الأربعاء يوم نحس مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء؟ وقد جاء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر. وقد مضى في (البقرة) «2» حديث جابر بذلك. فالجواب- والله أعلم- ما جاء في خبر يرويه مسروق عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (أتاني جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقضي باليمين مع الشاهد وقال يوم الأربعاء يوم نحس مستمر (
__________
(1). راجع ج 15 ص 347.
(2). راجع ج 2 ص 313.

ومعلوم أنه لم يرد بذلك أنه نحس على الصالحين «1»، بل أراد أنه نحس على الفجار والمفسدين، كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القرآن، نحسات على الكفار من قوم عاد لا على نبيهم والمؤمنين به منهم، وإذا كان كذلك لم يبعد أن يمهل الظالم من أول يوم الأربعاء إلى أن تزول الشمس، فإذا أدبر النهار ولم يحدث رجعة استجيب دعاء المظلوم عليه، فكان اليوم نحسا على الظالم، ودعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان على الكفار، وقول جابر في حديثه (لم ينزل بي أمر غليظ) إشارة إلى هذا. والله أعلم. قوله تعالى: (تَنْزِعُ النَّاسَ) في موضع الصفة للريح أي تقلعهم من مواضعهم. قيل: قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. وقال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم فتندق أعناقهم وتبين رؤوسهم عن أجسادهم. وقيل: تنزع الناس من البيوت. وقال محمد بن كعب عن أبيه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انتزعت الريح الناس من قبورهم). وقيل: حفروا حفرا ودخلوها فكانت الريح تنزعهم منها وتكسرهم، وتبقى تلك الحفر كأنها أصول نخل [قد «2»] هلك ما كان فيها فتبقى مواضعها منقعرة. يروى أن سبعة منهم حفروا حفرا وقاموا فيها ليردوا الريح. قال ابن إسحاق: لما هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد سمي لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم عمرو بن الحلي والحرث بن شداد والهلقام وابنا تقن وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال، فجعلت الريح تجعفهم «3» رجلا رجلا، فقالت امرأة من عاد:
ذهب الدهر بعمرو ب ... ن حلي والهنيات
ثم بالحرث والهل ... قام طلاع الثنيات
والذي سد مهب الر ... يح أيام البليات
__________
(1). في ى: (المصلحين).
(2). زيادة من ى.
(3). جعفة: صرعه وضرب به الأرض. [.....]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)

الطبري: في الكلام حذف، والمعنى تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر، فالكاف في موضع نصب بالمحذوف. الزجاج: الكاف في موضع نصب على الحال، والمعنى تنزع الناس مشبهين بأعجاز نخل. والتشبيه قيل إنه للحفر التي كانوا فيها. والاعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء، وكانت عاد موصوفين بطول القامة، فشبهوا بالنخل انكبت لوجوهها. وقال: (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) للفظ النخل وهو من الجمع الذي يذكر ويؤنث. والمنقعر: المنقلع من أصله، قعرت الشجرة قعرا قلعتها من أصلها فانقعرت. الكسائي: قعرت البئر أي نزلت حتى انتهيت إلى قعرها، وكذلك الإناء إذا شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره. وأقعرت البئر جعلت لها قعرا. وقال أبو بكر بن الأنباري: سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها، فقيل له: ما الفرق بين قوله تعالى: (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً)»
و(جاءَتْها رِيحٌ «2» عاصِفٌ)، وقوله: (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) «3» و(أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)؟ فقال: كلما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا، أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل: إن النخل والنخيل بمعنى يذكر ويؤنث كما ذكرنا. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [تقدم «4»].

[سورة القمر (54): الآيات 23 الى 26]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
قوله تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) هم قوم صالح كذبوا الرسل ونبيهم، أو كذبوا بالآيات التي هي النذر (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) وندع جماعة. وقرا أبو الأشهب وابن السميقع وأبو السمال العدوي (أبشر) بالرفع (واحد) كذلك رفع بالابتداء والخبر (نَتَّبِعُهُ). الباقون بالنصب على معنى أنتبع بشرا منا واحدا نتبعه. وقرا أبو السمال «5»:
__________
(1). راجع ج 11 ص 321.
(2). راجع ج 8 ص 325.
(3). راجع ج 18 ص 261.
(4). من ب، ى.
(5). هذه رواية أخرى عن أبى السمال كما في (روح المعاني) وغيره وفى ب، ز، ول (أبو السماك) بالكاف وليس بصحيح.

(أبشر) بالرفع (منا واحدا) بالنصب، رفع (أبشر) بإضمار فعل يدل عليه (أَأُلْقِيَ) كأنه قال: أينبأ بشر منا، وقوله: (واحِداً) يجوز أن يكون حالا من المضمر في (مِنَّا) والناصب له الظرف، والتقدير أينبأ بشر كائن منا منفردا، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في (نَتَّبِعُهُ) منفردا لا ناصر له. (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ) أي ذهاب عن الصواب (وَسُعُرٍ) أي جنون، من قولهم: ناقة مسعورة، أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة، ذكره ابن عباس. قال الشاعر يصف ناقته:
تخال بها سعرا إذا السفر هزها ... ذميل وإيقاع من السير متعب
[الذميل «1» ضرب من سير الإبل. قال أبو عبيد: إذا ارتفع السير عن العنق قليلا فهو التزيد، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذميل، ثم الرسيم، يقال: ذمل يذمل ويذمل ذميلا. قال الأصمعي: ولا يذمل بعير يوما وليلة إلا مهري قاله ج ]. وقال ابن عباس أيضا: السعر العذاب، وقاله الفراء. مجاهد: بعد الحق. السدي: في احتراق. قال «2»:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر
أي متقد ومحترق. أبو عبيدة: هو جمع سعير وهو لهيب النار. والبعير «3» المجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدة. ومعنى الآية: إنا إذا لفي شقاء وعناء مما يلزمنا. قوله تعالى: (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي خصص بالرسالة من بين آل ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا؟! وهو استفهام معناه الإنكار. (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي ليس كما يدعيه، وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق. والأشر المرح والتجبر والنشاط. يقال: فرس أشر إذا كان مرحا نشيطا، قال امرؤ القيس يصف كلبا:
فيدركنا فغم داجن ... سميع بصير طلوب نكر «4»
ألص «5» الضروس حني الضلوع ... تبوع أريب نشيط أشر
__________
(1). زيادة من ب، هـ.
(2). هو طرفة.
(3). في ا، ز، ل: السعير.
(4). الفغم: المولع بالصيد الحريص عليه. داجن: ألوف للصيد. وفكر أي منكر عالم. وقيل نكر أي كريه الصورة.
(5). الالص الذي التصقت أسنانه بعضها إلى بعض.

وقيل: (أَشِرٌ) بطر. والأشر البطر، قال الشاعر:
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل ما تدرون من فتح القرى
وقد أشر بالكسر يأشر أشرا فهو أشر وأشران، وقوم أشارى مثل سكران وسكارى، قال الشاعر «1»:
وخلت وعولا أشارى بها ... وقد أزهف الطعن أبطالها
وقيل: إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها، والمعنى واحد. وقال ابن زيد وعبد الرحمن ابن حماد: الأشر الذي لا يبالي ما قال. وقرا أبو جعفر وأبو قلابة (أشر) بفتح الشين وتشديد الراء يعني به أشرنا وأخبثنا. (سَيَعْلَمُونَ غَداً) أي سيرون العذاب يوم القيامة، أو في حال نزول العذاب بهم في الدنيا. وقرا ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه من قول صالح لهم على الخطاب. الباقون بالياء إخبار من الله تعالى لصالح عنهم. وقوله: (رَغَداً) على التقريب على عادة الناس في قولهم للعواقب: إن مع اليوم غدا، قال:
للموت فيها سهام غير مخطئة ... من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا
وقال الطرماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
وإنما أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) وقرا أبو قلابة (الأشر) بفتح الشين وتشديد الراء جاء به على الأصل. قال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم بالأشر والأخير إلا في ضرورة الشعر، كقول رؤبة:
بلال خير الناس وابن الأخير
__________
(1). هي مية بنت ضرار الضبي ترثى أخاها. وأزهف الطعن أبطالها أي صرعها. وقبل البيت:
تراه على الخيل ذا قدمة ... إذا سربل الدم أكفالها

إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

وإنما يقولون هو خير قومه، وهو شر الناس، قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) «1» وقال: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) «2». وعن أبي حيوة بفتح الشين وتخفيف الراء. وعن مجاهد وسعيد بن جبير ضم الشين والراء والتخفيف، قال النحاس: وهو معنى (الْأَشِرُ) ومثله رجل حذر وحذر.

[سورة القمر (54): الآيات 27 الى 32]
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
قوله تعالى: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها، فروي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عشراء [وبراء «3»]. (فِتْنَةً لَهُمْ) أي اختبارا وهو مفعول له. (فَارْتَقِبْهُمْ) أي انتظر ما يصنعون. (وَاصْطَبِرْ) أي اصبر على أذاهم، واصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الاطباق. (وَنَبِّئْهُمْ): أي أخبرهم (أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي بين آل ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، كما قال تعالى: (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) «4». قال ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء وتسقيهم لبنا وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا. وإنما قال: (بَيْنَهُمْ) لان العرب إذا أخبروا عن بني آدم مع البهائم غلبوا بني آدم. وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوك، قال: (أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عز وجل
__________
(1). راجع ج 4 ص 170.
(2). راجع ج 11 ص 144.
(3). في الأصول جرداء والذي في قصص الأنبياء للثعلبي وغيره من كتب التفسير (وبراء) فلذا أثبتناه. [.....]
(4). راجع ج 13 ص 127.

إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها) وهو معنى قوله تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ). (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) الشرب- بالكسر- الحظ من الماء، وفي المثل: (آخرها أقلها شربا) وأصله في سقي الإبل، لان آخرها يرد وقد نزف الحوض. ومعنى (مُحْتَضَرٌ) أي يحضره من هو له، فالناقة تحضر الماء يوم وردها، وتغيب عنهم يوم وردهم، قاله مقاتل. وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون. قوله تعالى: (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) يعني بالحض على عقرها (فَعَقَرَ) ها ومعنى تعاطى تناول الفعل، من قولهم: عطوت أي تناولت، ومنه قول حسان:
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
قال محمد بن إسحاق: فكمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاءه واحدة تحدر سقبها من بطنها ثم نحرها، وانطلق سقبها حتى أتى صخرة في رأس جبل فرغا ثم لاذ بها، فأتاهم صالح عليه السلام، فلما رأى الناقة قد عقرت بكى وقال: قد انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله. وقد مضى في (الأعراف) «1» بيان هذا المعنى. قال ابن عباس: وكان الذي عقرها أحمر أزرق أشقر أكشف أقفي. ويقال في اسمه قدار بن سالف. وقال الأفوه الأودي:
أو قبله «2» كقدار حين تابعه ... على الغواية أقوام فقد بادوا
والعرب تسمي الجزار قدارا تشبيها بمقدار بن سالف مشئوم آل ثمود، قال مهلهل:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام «3»
__________
(1). راجع ج 7 ص 241.
(2). الذي في شعراء النصرانية: (أو بعده).
(3). القدار: الجزار. والنقيعة: ما ينحر للضيافة. والقدام: القادمون من سفر جمع قادم. وقيل: القدام الملك. ويروى:
انا لنضرب بالصوارم هامهم

وذكره زهير فقال:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم «1»
يريد الحرب، فكنى عن ثمود بعاد. قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) يريد صيحة جبريل عليه السلام، وقد مضى في (هود) «2». (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) وقرا الحسن وقتادة وأبو العالية (المحتظر) بفتح الظاء أرادوا الحظيرة. الباقون بالكسر أرادوا صاحب الحظيرة. وفي الصحاح: والمحتظر الذي يعمل الحظيرة. وقرى (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) فمن كسره جعله الفاعل ومن فتحة جعله المفعول به. ويقال للرجل القليل الخير: إنه لنكد الحظيرة. قال أبو عبيد: أراه سمى أمواله حظيرة لأنه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. المهدوي: من فتح الظاء من (المحتظر) فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون (الْمُحْتَظِرِ) هو الشجر المتخذ منه الحظيرة. قال ابن عباس: (الْمُحْتَظِرِ) هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك، فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. قال:
أثرن عجاجة كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم
وعنه: كحشيش تأكله الغنم. وعنه أيضا: كالعظام النخرة المحترقة، وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري: هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصا، وهو فعيل بمعنى مفعول. وقال ابن زيد: العرب تسمي كل شي كان رطبا فيبس هشيما. والحظر المنع، والمحتظر المفتعل يقال منه: احتظر على إبله وحظر أي جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض ليمنع برد الريح والسباع عن إبله، قال الشاعر:
ترى جيف المطي بجانبيه ... كأن عظامها خشب الهشيم
__________
(1). تنتج لكم يعنى الحرب. (غلمان أشأم) في معنى غلمان شؤم أو كلهم في الشؤم كأحمر عاد. (ثم ترضع فتفطم) يريد أنه يتم أمر الحرب، كالمرأة إذا أرضعت ثم فطمت فقد تممت.
(2). راجع ج 9 ص 61.

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

وعن ابن عباس: أنهم كانوا مثل القمح الذي ديس وهشم، فالمحتظر على هذا الذي يتخذ حظيرة على زرعه، والهشيم فتات السنبلة والتبن. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

[سورة القمر (54): الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) أخبر عن قوم لوط أيضا لما كذبوا لوطا. (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى، قال النضر: الحاصب الحصباء في الريح. وقال أبو عبيدة: الحاصب الحجارة. وفي الصحاح: والحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء وكذلك الحصبة، قال لبيد:
جرت عليها أن خوت من أهلها ... أذيالها كل عصوف حصبه عصفت الريح
أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وقال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
(إِلَّا آلَ لُوطٍ) يعني من تبعه على دينه ولم يكن إلا بنتاه (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) قال الأخفش: إنما أجراه لأنه نكرة، ولو أراد سحر يوم بعينه لما أجراه، ونظيره: (اهْبِطُوا مِصْراً) «1» لما نكره، فلما عرفه في قوله: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ «2» اللَّهُ) لم يجره، وكذا قال الزجاج: (بِسَحَرٍ) إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف، تقول أتيته سحرا، فإذا أردت سحر يومك
__________
(1). راجع ج 1 ص 429.
(2). راجع ج 9 ص 263.

وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)

لم تصرفه، تقول: أتيته سحر يا هذا، واتيته بسحر. والسحر: هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أول النهار، لان في هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار. (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) إنعاما منا على لوط وابنتيه، فهو نصب لأنه مفعول به. (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي من آمن بالله وأطاعه. (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) يعني لوطا خوفهم (بَطْشَتَنا) عقوبتنا وأخذنا إياهم بالعذاب (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي شكوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه، وهو تفاعل من المرية. (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي أرادوا منه تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الأضياف طلبا للفاحشة على ما تقدم «1». يقال: راودته على، كذا مراودة وروادا أي أردته. وراد الكلا يروده رودا وريادا، وارتاده ارتيادا بمعنى أي طلبه، وفي الحديث: (إذا بال أحدكم فليرتد لبوله) أي يطلب مكانا لينا أو منحدرا. (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) يروى أن جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه فعموا. وقيل: صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شق، كما تطمس الريح الاعلام بما تسفي عليها من التراب. وقيل: لا، بل أعماهم الله مع صحة أبصارهم فلم يروهم. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل، فقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا؟ فرجعوا ولم يروهم. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقلنا لهم ذوقوا، والمراد من هذا الامر الخبر، أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط. (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي دائم عام استقر فيهم حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم وجعل أعلاها أسفلها. و(بُكْرَةً) هنا نكرة فلذلك صرفت. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) العذاب الذي نزل بهم من طمس الأعين غير العذاب الذي أهلكوا به فلذلك حسن التكرير. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [تقدم «2»
]

[سورة القمر (54): الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
__________
(1). راجع ج 9 ص 73.
(2). زيادة من ى.

أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

قوله تعالى: (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) يعني القبط و(النُّذُرُ) موسى وهرون. وقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين. (كَذَّبُوا بِآياتِنا) معجزاتنا الدالة على توحيدنا ونبوة أنبيائنا، وهى العصا، واليد، والسنون، والطمسة، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وقيل: (النُّذُرُ) الرسل، فقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى. وقيل: (النُّذُرُ) الإنذار. (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) أي غالب في انتقامه (مُقْتَدِرٍ) أي قادر على ما أراد.

[سورة القمر (54): الآيات 43 الى 46]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
قوله تعالى: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) خاطب العرب. وقيل: أراد كفار أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: استفهام، وهو استفهام إنكار ومعناه النفي، أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم. (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي في الكتب المنزلة على الأنبياء بالسلامة من العقوبة. وقال ابن عباس: أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب. (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي جماعة لا تطاق لكثرة عددهم وقوتهم، ولم يقل منتصرين اتباعا لرءوس الآي، فرد الله عليهم فقال: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أي جمع كفار مكة، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وقراءة العامة (سَيُهْزَمُ) بالياء على ما لم يسم فاعله (الْجَمْعُ) بالرفع. وقرا رويس عن يعقوب (وسنهزم) بالنون وكسر الزاي (الجمع) نصبا. (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قراءة العامة بالياء على الخبر عنهم. وقرا عيسى وابن إسحاق ورويس عن يعقوب (وتولون) بالتاء على الخطاب. و(الدُّبُرَ) اسم جنس كالدرهم

والدينار فوحد والمراد الجمع لأجل رءوس الآي. وقال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فأنزل الله تعالى: (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). وقال سعيد بن جبير قال سعد بن أبي وقاص: لما نزل قوله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) كنت لا أدرى أي الجمع ينهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يثب في الدرع ويقول: اللهم إن قريشا جاءتك تحادك وتحاد رسولك بفخرها و[خيلائها «1»] فأخنهم الغداة- ثم قال- (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فعرفت تأويلها. وهذا من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر. أخنى عليه الدهر: أي أتى عليه وأهلكه، ومنه قول النابغة:
أخنى عليه الذي أخنى على لبد

وأخنيت عليه: أفسدت. قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين، فالآية على هذا مكية. وفى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة وإني لجارية ألعب: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو في قبة له يوم بدر: (أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا) فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك، وهو في الدرع فخرج وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) يريد القيامة. (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي أدهى وأمر مما لحقهم يوم بدر. و(أَدْهى ) من الداهية وهي الامر العظيم، يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهوا ودهيا. وقال ابن السكيت: دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها.
__________
(1). في الأصول: (نجيلها) وهو تحريف والتصويب من سيرة ابن هشام.

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)

[سورة القمر (54): الآيات 47 الى 49]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي في حيدة عن الحق و(سُعُرٍ) أي احتراق. وقيل: جنون على ما تقدم في هذا لسورة. (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القدر فنزلت: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: كل شي بقدر. قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كل شي بقدر حتى العجز والكيس- أوالكيس والعجز وهذا إبطال لمذهب القدرية.) ذُوقُوا) أي يقال لهم ذوقوا، ومسها ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها. و(سَقَرَ) اسم من أسماء جهنم لا ينصرف، لأنه اسم مؤنث معرفة، وكذا لظى وجهنم. وقال عطاء: (سَقَرَ) الطبق السادس من جهنم. وقال قطرب: (سَقَرَ) من سقرته الشمس وصقرته لوحته. ويوم مسمقر ومصمقر: شديد الحر. الثانية- قوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ) قراءة العامة (كُلَّ) بالنصب. وقرا أبو السمال (كل) بالرفع على الابتداء. ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين، لان إن تطلب الفعل فهي به أولى، والنصب أدل على العموم في المخلوقات لله تعالى، لأنك لو حذفت (خَلَقْناهُ) المفسر وأظهرت الأول لصار إنا خلقنا كل شي بقدر. ولا يصح كون خلقناه صفة لشيء، لان الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله.

الثالثة- الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه قدر الأشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، كما نص عليه القرآن والسنة، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا. قال أبو ذر رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال: (أنتم خصماء الله يوم القيامة). الرابعة- روى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن مجوس هذه الامة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم). خرجه ابن ماجة في سننه. وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الارجاء والقدر). وأسند النحاس: وحدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدثنا عقبة بن مكرم الضبي قال حدثنا يونس بن بكير عن سعيد بن ميسرة عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني) وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر، ثم أكد هذا بقوله: والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين: (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) «1» وهذا واضح. وقال أبو هريرة: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الايمان بالقدر يذهب الهم والحزن).
__________
(1). راجع ج 8 ص 163.

وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

[سورة القمر (54): الآيات 50 الى 55]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
قوله تعالى: (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) أي إلا مرة واحدة. (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح النظر بالعجلة، يقال: لمح البرق ببصره. وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة، ولمح البرق والنجم لمحا أي لمع. قوله تعالى: (لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية. وقيل: أتباعكم وأعوانكم. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي من يتذكر. أي جميع ما فعلته الأمم قبلهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم، وهذا بيان قوله: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). (فِي الزُّبُرِ) أي في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتب الحفظة. وقيل: في أم الكتاب. (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله «1» ليجازى به، ومكتوب إذا فعله، سطر يسطر سطرا كتب، واستطر مثله. قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضا. (وَنَهَرٍ) يعني أنهار الماء والخمر والعسل واللبن، قاله ابن جريج. ووحد لأنه رأس الآية، ثم الواحد قد ينبئ عن الجميع. وقيل: في (نَهَرٍ) في ضياء وسعة، ومنه النهار لضيائه، ومنه أنهرت الجرح، قال الشاعر «2»:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
__________
(1). في ب، ح، س، هـ: (قبل أن يفعلوه ليجازوا ومكتوب إذا فعلوه).
(2). هو قيس بن الخطيم يصف طعنة. وملكت أي شددت وقويت. [.....]

وقرا أبو مجلز وأبو نهيك والأعرج وطلحة بن مصرف وقتادة (ونهر) بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل لهم، كسحاب وسحب. قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
إن تلك ليليا فإني نهر ... متى أرى الصبح فلا أنتظر
أي صاحب النهار. وقال آخر:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر
(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي يقدر على ما يشاء. و(عِنْدَ) هاهنا عندية القربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال الصادق: مدح الله المكان الصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. وقرا عثمان البتي (في مقاعد صدق) بالجمع، والمقاعد مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها. قال عبد الله بن بريدة: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى، فيقرءون القران على ربهم تبارك وتعالى، وقد جلس كل إنسان مجلسه الذي هو مجلسه، على منابر من الدر والياقوت والزبرجد والذهب والفضة بقدر أعمالهم، فلا تقر أعينهم بشيء قط كما تقر بذلك، ولم يسمعوا شيئا أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى منازلهم، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد. وقال ثور بن يزيد عن خالد بن معدان: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله انطلقوا، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقول المؤمنون: إنكم تذهبون بنا إلى غير بغيتنا. فيقولون: فما بغيتكم؟ فيقولون: مقعد صدق عند مليك مقتدر. وقد روي هذا الخبر على الخصوص بهذا المعنى، ففي الخبر: أن طائفة من العقلاء بالله عز وجل تزفها الملائكة إلى الجنة والناس في الحساب، فيقولون للملائكة: إلى أين تحملوننا؟ فيقولون إلى الجنة. فيقولون: إنكم لتحملوننا إلى غير بغيتنا، فيقولون: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) والله أعلم. تم تفسير سورة (القمر) والحمد لله.

[تفسير سورة الرحمن ]
سورة الرحمن [عز وجل «1»] مكية كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا آية منها هي قوله تعالى: (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. وهي ست وسبعون آية. وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها. والقول الأول أصح لما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه. وصح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام يصلي الصبح بنخلة، فقرأ سورة (الرحمن) ومر النفر من الجن فآمنوا به. وفي الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلي آخرها فسكتوا، فقال: (لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله:) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) قال: هذا حديث غريب. وفي هذا دليل على أنها مكية والله أعلم. وروي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتل علي مما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة (الرحمن) فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: والله إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وأسفله لمغدق، وأعلاه مثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لكل شي عروس وعروس القرآن سورة الرحمن).
__________
(1). في ز.

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
قوله تعالى: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي: (الرَّحْمنُ) فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى (الر) و(حم) و(ن) فيكون مجموع هذه (الرَّحْمنُ). (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي علمه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أداه إلى جميع الناس. وأنزلت حين قالوا: وما الرحمن؟ وقيل: نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمان اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ). وقال الزجاج: معنى (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي سهله لان يذكر ويقرأ كما قال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ). وقيل: جعله علامة لما تعبد الناس به. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) قال ابن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام. (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أسماء كل شي. وقيل: علمه اللغات كلها. وعن ابن عباس أيضا وابن كيسان: الإنسان هاهنا يراد به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والبيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلال. وقيل: ما كان وما يكون، لأنه بين عن الأولين والآخرين ويوم الدين. وقال الضحاك: (الْبَيانَ) الخير والشر. وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه وما يضره، وقاله قتادة. وقيل: (الْإِنْسانَ) يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس و(الْبَيانَ) على هذا الكلام والفهم، وهو مما فضل به الإنسان على

سائر الحيوان. وقال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقال يمان: الكتابة والخط بالقلم. نظيره: (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما «1» لَمْ يَعْلَمْ). (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ابن زيد وابن كيسان: يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال الأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر كله أو نهارا. وقال السدي: (بِحُسْبانٍ) تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا، نظيره: (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) «2». وقال الضحاك: بقدر. مجاهد: (بِحُسْبانٍ) كحسبان الرحى يعني قطبها يدوران في مثل القطب. والحسبان قد يكون مصدر حسبته أحسبته بالضم حسبا وحسبانا، مثل الغفران والكفران والرجحان، وحسابه أيضا أي عددته. وقال الأخفش: ويكون جماعة الحساب مثل شهاب وشهبان. والحسبان أيضا بالضم العذاب والسهام القصار، وقد مضى في (الكهف) «3» الواحدة حسبانه، والحسبانة أيضا الوسادة الصغيرة، تقول منه: حسبته إذا وسدته، قال»
:
... لثويت غير محسب

أي غير موسد يعني غير مكرم ولا مكفن (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) قال ابن عباس وغيره: النجم مالا ساق له والشجر ماله ساق، وأنشد ابن عباس قول صفوان بن أسد التميمي:
لقد أنجم القاع الكبير عضاهه ... وتم به حيا تميم ووائل
وقال زهير بن أبي سلمى:
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
__________
(1). راجع ج 20 ص 120.
(2). راجع ج 9 ص 279.
(3). راجع ج 10 ص 408.
(4). هو نهيك الفزاري يخاطب عامر بن الطفيل، والبيت بتمامه:
لتقيت بالوجعاء طعنة مرهف ... مران أو لثويت غير محسب
الوجعاء الاست. يقول: لو طعنتك لوليتني دبرك واتقيت طعنتي بوجعائك، ولثويت هالكا غير مكرم.

واشتقاق النجم من نجم الشيء ينجم بالضم نجوما ظهر وطلع، وسجودهما بسجود ظلا لهما «1»، قاله الضحاك. وقال الفراء: سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) «2». وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله، وهو اختيار الطبري، حكاه المهدوي. وقيل: سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها، حكاه الماوردي. وقيل: إن جميع ذلك مسخر لله، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم، وعبد كثير من العجم الشجر. والسجود الخضوع، والمعني به آثار الحدوث، حكاه القشيري. النحاس: أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل، فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال «3»:
فباتت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
(وَالسَّماءَ رَفَعَها) وقرا أبو السمال (وَالسَّماءَ) بالرفع على الابتداء واختار ذلك لما عطف على الجملة التي هي: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) فجعل المعطوف مركبا من مبتدإ وخبر كالمعطوف عليه. الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده. (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي العدل، عن مجاهد وقتادة والسدي، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به، يقال: وضع الله الشريعة. ووضع فلان كذا أي ألقاه، وقيل: على هذا الميزان القرآن، لان فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل. وقال الحسن وقتادة- أيضا- والضحاك: هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض، وهو خبر بمعنى الامر بالعدل، يدل عليه قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) والقسط العدل. وقيل: هو الحكم. وقيل: أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. واصل ميزان موزان وقد مضى في (الأعراف) «4» القول فيه. (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) موضع (أن) يجوز أن يكون نصبا
__________
(1). في ب، ح، س، هـ: (وسجودهما سجود ..).
(2). راجع ج 10 ص 111.
(3). قائله الراعي.
(4). راجع ج 7 ص 166.

على تقدير حذف حرف الجر كأنه قال: لئلا تطغوا، كقوله تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) «1». ويجوز ألا يكون ل (أن) موضع من الاعراب فتكون بمعنى أي و(تَطْغَوْا) على هذا التقدير مجزوما، كقوله تعالى: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ «2» امْشُوا) [أي امشوا «3»]. والطغيان مجاوزة الحد. فمن قال: الميزان العدل قال طغيانه الجور. ومن قال: إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس. قال ابن عباس: أي لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال: يا معشر الموالي! وليتم أمرين بهما هلك الناس: المكيال والميزان. ومن قال إنه الحكم قال: طغيانه التحريف. وقيل: فيه إضمار، أي وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه. (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي افعلوه مستقيما بالعدل. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل. وقال ابن «4» عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب. وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية. وقيل: هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها، وأقام الناس أسواقهم أي أتوها لوقتها. أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل. (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن، وهذا كقوله: (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) «5». وقال قتادة في هذه الآية: اعدل يا بن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس. وقيل: المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم. وكرر الميزان لحال رءوس الآي. وقيل: التكرير للأمر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه. وقراءة العامة (تُخْسِرُوا) بضم التاء وكسر السين. وقرا بلال بن أبي بردة وأبان عن عثمان (تخسروا) بفتح التاء والسين وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان وخسرته كأجبرته وجبرته. وقيل: (تخسروا) بفتح التاء والسين محمول على تقدير حذف حرف الجر، والمعنى ولا تخسروا في الميزان. (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) الأنام الناس، عن ابن عباس. الحسن: الجن والانس. الضحاك: كل ما دب على وجه الأرض، وهذا عام. (فِيها فاكِهَةٌ) أي كل
__________
(1). راجع ج 6 ص 29.
(2). راجع ج 15 ص 151.
(3). الزيادة من ب، ح، س، هـ.
(4). في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي (أبو عبيدة) بدل ابن عيينة.
(5). راجع ج 9 ص 85. [.....]

ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار. (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) الا كمام جمع كم بالكسر. قال الجوهري: والكمة بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام والأكاميم أيضا. وكم الفصيل إذا أشفق عليه فستر حتى يقوى، قال العجاج:
بل لو شهدت الناس إذ تكموا ... بغمة لو لم تفرج غموا
وتكموا أي أغمي عليهم وغطوا. وأكمت [النخلة «1»] وكممت أي أخرجت أكمامها. والكمام بالكسر والكمامة أيضا ما يكم به فم البعير لئلا يعض، تقول منه: بعير مكموم أي محجوم. وكممت الشيء غطيته. والكم ما ستر شيئا وغطاه، ومنه كم القميص بالضم والجمع أكمام وكممة، مثل حب وحببه. والكمة القلنسوة المدورة، لأنها تغطي الرأس. قال:
فقلت لهم كيلو بكمه بعضكم ... دراهمكم إني كذلك أكيل
قال الحسن: (ذاتُ الْأَكْمامِ) أي ذات الليف فإن النخلة قد تكمم بالليف، وكمامها ليفها الذي في أعناقها. ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة: ذات الأحمال. (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) الحب الحنطة والشعير ونحوهما، والعصف التبن، عن الحسن وغيره. مجاهد: ورق الشجر والزرع. ابن عباس: تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح. سعيد بن جبير: بقل الزرع أي أول ما ينبت منه، وقاله الفراء. والعرب تقول: خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك. وكذا في الصحاح: وعصفت الزرع أي جززته قبل أن يدرك. وعن ابن عباس أيضا: العصف ورق الزرع الأخضر إذا قطع رءوسه ويبس، نظيره: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ «2» مَأْكُولٍ). الجوهري، وقد أعصف الزرع، ومكان معصف أي كثير الزرع. قال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري:
إذا جمادى منعت قطرها ... زان جنابي عطن معصف
__________
(1). الزيادة من الصحاح للجوهري.
(2). راجع ج 20 ص.

والعصف أيضا الكسب، ومنه قول الراجز «1»:
بغير ما عصف ولا اصطراف

وكذلك الاعتصاف. والعصيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. وقال الهروي: والعصف والعصيفة ورق السنبل. وحكى الثعلبي: وقال ابن السكيت تقول العرب لورق الزرع العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم. قال علقمة بن عبدة:
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتى الماء مطموم
وفي الصحاح: والجل بالكسر قصب الزرع إذا حصد. والريحان الرزق، عن ابن عباس ومجاهد. الضحاك: هي لغة حمير. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشم، وقاله ابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: أنه خضرة الزرع. وقال سعيد ابن جبير: هو ما قام على ساق. وقال الفراء: العصف المأكول من الزرع، والريحان ما لا يؤكل. وقال الكلبي: إن العصف الورق الذي لا يؤكل، والريحان هو الحب المأكول. وقيل: الريحان كل بقلة طيبة الريح سميت ريحانا، لان الإنسان يراح لها رائحة طيبة. أي يشم فهو فعلان روحان من الرائحة، واصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شي له روح. قال ابن الاعرابي: يقال شي روحاني وريحاني أي له روح. ويجوز أن يكون على وزن فيعلان فأصله ريوحان فأبدل من الواو ياء وأدغم كهين ولين، ثم ألزم التخفيف لطوله ولحاق الزائدتين الالف والنون، والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء الاهتزاز والحركة. وفي الصحاح: والريحان نبت معروف، والريحان الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله، قال النمر بن تولب:
سلام الاله وريحانه ... ورحمته وسماء درر
وفي الحديث: (الولد من ريحان الله). وقولهم: سبحان الله وريحانه، نصبوهما على المصدر يريدون تنزيها له واسترزاقا. وأما قوله: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) فالعصف
__________
(1). قائله العجاج. وصدر البيت:
قد يكسب المال الهدان الجافي

والهدان الأحمق.

ساق الزرع، والريحان ورقه، عن الفراء. وقراءة العامة (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) بالرفع فيها كلها على العطف على الفاكهة. ونصبها كلها ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة عطفا على الأرض. وقيل: بإضمار فعل، أي وخلق الحب ذا العصف والريحان، فمن هذا الوجه يحسن الوقف على (ذاتُ الْأَكْمامِ). وجر حمزة والكسائي (الريحان) عطفا على العصف، أي فيها الحب ذو العصف والريحان، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان الرزق، فيكون كأنه قال: والحب ذو الرزق. والرزق من حيث كان العصف رزقا، لان العصف رزق للبهائم، والريحان رزق للناس، ولا شبهة فيه في قول من قال إنه الريحان المشموم. قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) خطاب للانس والجن، لان الأنام واقع عليهما. وهذا قول الجمهور، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة، وخرجه الترمذي وفية (للجن أحسن منكم «1» ردا). وقيل: لما قال: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) (وَخَلَقَ الْجَانَّ) دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما. وأيضا قال: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) وهو خطاب للانس والجن وقد قال في هذه السورة: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). وقال الجرجاني: خاطب الجن مع الانس وإن لم يتقدم للجن ذكر، كقوله تعالى: (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «2»). وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن، والقرآن كالسورة الواحدة، فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات. وقيل: الخطاب للانس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية، حسب ما تقدم من القول في (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) «3». وكذلك قوله:
قفا نبك «4» ...

وخليلي مرابي «5» ...
__________
(1). رواية الترمذي المتقدمة تخالف هذه الرواية في اللفظ وهذه رواية الحاكم.
(2). راجع ج 15 ص 195.
(3). راجع ص 16 من هذا الجزء.
(4). البيت مطلع معلقة امرى القيس وتمامه:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل

(5). البيت مطلع قصيدة لامرى القيس أيضا والبيت بتمامه:
خليلي مرابى على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب

فأما ما بعد (خَلَقَ الْإِنْسانَ) و(خَلَقَ الْجَانَّ) فإنه خطاب للانس والجن، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) والآلاء النعم، وهو قول جميع المفسرين، واحدها إلى وألي مثل معى وعصا، وإلي وألي أربع لغات حكاها النحاس قال: وفي واحد (آناءَ اللَّيْلِ) ثلاث تسقط منها المفتوحة الالف المسكنة اللام، وقد مضى في (الأعراف) «1» و(النجم) «2». وقال ابن زيد: إنها القدرة، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان، وقاله الكلبي واختاره الترمذي محمد بن علي، وقال: هذه السورة من بين السور علم القرآن، والعلم إمام الجند والجند تتبعه، وإنما صارت علما لأنها سورة صفة الملك والقدرة، فقال: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثم ذكر الإنسان فقال: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نجم وشجر، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل، ووضع الأرض للأنام، فخاطب هذين الثقلين الجن والانس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك، فأشركوا به الأوثان وكل معبود اتخذوه من دونه، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم، فقال سائلا لهم: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه يقدر معه، فذلك تكذيبهم. ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال، وذكر خلق الجان من مارج من نار، ثم سألهم فقال: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق خلق. وقال القتبي: إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع
__________
(1). راجع ج 7 ص 237.
(2). راجع ص 121 من هذا الجزء.

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)

كل خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره ومنكره: ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن صرورة «1» فحججت بك أفتنكر هذا!؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا؟! والتكرير حسن في مثل هذا. قال:
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم

وقال آخر:
لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك
وقال آخر:
لا تقطعن الصديق ما طرفت ... عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملن من زيارته زره ... وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل: التكرير طردا للغفلة، وتأكيدا للحجة.

[سورة الرحمن (55): الآيات 14 الى 18]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) باتفاق من أهل التأويل يعنى آدم. (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) الصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، شبهه بالفخار الذي طبخ. وقيل: هو طين خلط برمل. وقيل: هو الطين المنتن من صل اللحم واصل إذا أنتن، وقد مضى في (الحجر) «2». وقال هنا: (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) وقال هناك: (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). وقال:
__________
(1). الصرورة: الذي لم يحج قط.
(2). راجع ج 10 ص 21.

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ «1». وقال: (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ «2» مِنْ تُرابٍ) وذلك متفق المعنى، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض فعجنه فصار طينا، ثم انتقل فصار كالحما المسنون، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار. (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) قال الحسن: الجان إبليس وهو أبو الجن. وقيل: الجان واحد الجن، والمارج اللهب، عن ابن عباس، وقال: خلق الله الجان من خالص النار. وعنه أيضا من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر، ونحوه عن مجاهد، وكله متقارب المعنى. وقيل: المارج كل أمر مرسل غير ممنوع، ونحوه قول المبرد، قال المبرد: المارج النار المرسلة التي لا تمنع. وقال أبو عبيدة والحسن: المارج خلط النار، وأصله من مرج إذا أضطرب واختلط، ويروى أن الله تعالى خلق نارين فمرج إحداهما بالأخرى، فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم فخلق منها إبليس. قال القشيري: والمارج في اللغة المرسل أو المختلط وهو فاعل بمعنى مفعول، كقوله: (ماءٍ دافِقٍ) «3» و(عِيشَةٍ راضِيَةٍ) «4» والمعنى ذو مرج، قال الجوهري في الصحاح: و(مارِجٍ مِنْ نارٍ) نار لا دخان لها خلق منها الجان. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (. قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي هو رب المشرقين. وفي الصافات (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) وقد مضى الكلام في ذلك هنالك «5»

[سورة الرحمن (55): الآيات 19 الى 23]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
__________
(1). راجع ج 15 ص 63 وص 68.
(2). راجع ج 4 ص 102. [.....]
(3). راجع ج 20 ص 4.
(4). راجع ج 18 ص 270.
(5). راجع ج 15 ص 63 وص 68.

قوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (مَرَجَ) أي خلى وأرسل وأهمل، يقال: مرج السلطان الناس إذا أهملهم. واصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى. ويقال: مرج خلط. وقال الأخفش: ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج، فعل وأفعل بمعنى. (الْبَحْرَيْنِ) قال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض، وقاله مجاهد وسعيد بن جبير. (يَلْتَقِيانِ) في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما. وقال الحسن وقتادة: بحر فارس والروم. وقال ابن جريج: إنه البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل: بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهم. وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان. (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي حاجز فعلى القول الأول ما بين السماء والأرض، قاله الضحاك. وعلى القول الثاني الأرض التي بينهما وهي الحجاز، قاله الحسن وقتادة. وعلى غيرهما من الأقوال القدرة الإلهية على ما تقدم في (الفرقان) «1». وفي الخبر عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أن الله تعالى كلم الناحية الغربية فقال: إني جاعل فيك عبادا لي يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم؟ فقالت: أغرقهم يا رب. قال: إني أحملهم على يدي، وأجعل بأسك في نواحيك. ثم كلم الناحية الشرقية فقال: إني جاعل فيك عبادا يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم؟ قالت: أسبحك معهم إذا سبحوك، وأكبرك معهم إذا كبروك، وأهللك معهم إذا هللوك، وأمجدك معهم إذا مجدوك، فأثابها الله الحلية وجعل بينهما برزخا، وتحول أحدهما ملحا أجاجا، وبقي الآخر على حالته عذبا فراتا) ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم أبو عبد الله قال: حدثنا صالح بن محمد، حدثنا القاسم العمري عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة: (لا يَبْغِيانِ) قال قتادة: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم، جعل بينهما وبين الناس يبسا «2». وعنه أيضا ومجاهد: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. ابن زيد: المعنى (لا يَبْغِيانِ) أن يلتقيا، وتقدير الكلام: مرج البحرين يلتقيان، لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا. وقيل: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، أي بينهما مدة قدرها الله وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان، فإذا أذن الله في انقضاء الدنيا صار البحران
__________
(1). راجع ج 13 ص 58.
(2). في ب، ح، ز، س، ل، هـ: (اليبس).

شيئا واحدا، وهو كقوله وتعالى: (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) «1». وقال سهل بن عبد الله: البحران طريق الخير والشر، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة. قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [أي يخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان «2»]، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان. وقرا نافع وأبو عمر (يخرج) بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. الباقون (يَخْرُجُ) بفتح الياء وضم الراء على أن اللؤلؤ هو الفاعل. وقال: (مِنْهُمَا) وإنما يخرج من الملح لا العذب لان العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما، كقوله تعالى:امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
«3»نْكُمْ) وإنما الرسل من الانس دون الجن، قاله الكلبي وغيره. قال الزجاج: قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شي فقد خرج منهما، وهو كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ»
نُوراً) والقمر في سماء الدنيا ولكن أجمل ذكر السبع فكأن ما في إحداهن فيهن. وقال أبو علي الفارسي: هذا من باب حذف المضاف، أي من أحداهما، كقوله: (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ «5» عَظِيمٍ) أي من إحدى القريتين. وقال الأخفش سعيد: زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب. وقيل: هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان. ابن عباس: هما بحرا السماء والأرض. فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خارجا منهما، وقاله الطبري. قال الثعلبي: ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدفة، فأصابت القطرة بعض النواة ولم تصب البعض، فكان حيث أصاب القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة. وقيل: إن العذب والملح قد يلتقيان، فيكون العذب كاللقاح للملح، فنسب إليهما كما ينسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى، لذلك قيل: إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من موضع يلتقي فيه العذب والملح. وقيل: المرجان عظام اللؤلؤ وكباره، قاله علي وابن عباس رضي الله عنهما. واللؤلؤ صغاره. وعنهما أيضا بالعكس: إن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره، وقاله الضحاك وقتادة. وقال ابن مسعود وأبو مالك: المرجان الخرز الأحمر.
__________
(1). راجع ج 19 ص (242)
(2). ما بين المربعين ساقط من ز، ل.
(3). راجع ج 7 ص (85)
(4). راجع ج 18 ص (304)
(5). راجع ج 16 ص 82

وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)

[سورة الرحمن (55): الآيات 24 الى 25]
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
قوله تعالى: (وَلَهُ الْجَوارِ) يعنى السفن. (الْمُنْشَآتُ) قراءة العامة (الْمُنْشَآتُ) بفتح الشين، قال قتادة: أي المخلوقات للجري مأخوذ من الإنشاء. وقال مجاهد: هي السفن التي رفع قلعها، قال: وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشئات. وقال الأخفش: إنها المجريات. وفي الحديث: أن عليا رضي الله عنه رأى سفنا مقلعة، فقال: ورب هذه الجواري المنشئات ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله. وقرا حمزة وأبو بكر عن عاصم باختلاف عنه (الْمُنْشَآتُ) بكسر الشين أي المنشئات السير، أضيف الفعل إليها على التجوز والاتساع. وقيل: الرافعات الشرع أي القلع. ومن فتح الشين قال: المرفوعات الشرع. (كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال، والعلم الجبل الطويل، قال «1»:
إذا قطعن علما بدا علم

فالسفن في البحر كالجبال في البر، وقد مضى في (الشورى) بيانه «2». وقرا يعقوب (الجواري) بياء في الوقف، وحذف الباقون.

[سورة الرحمن (55): الآيات 26 الى 28]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) الضمير في (عَلَيْها) للأرض، وقد جرى ذكرها في أول السورة في قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) وقد يقال: هو أكرم من عليها،
__________
(1). قائله جرير، وتمام البيت:
حتى تناهين بنا إلى الحكم

وبعده:
خليفة الحجاج غير المتهم ... في ضئضئ المجد وبؤبؤ الكرم

(2). راجع ج 16 ص 23

يعنون الأرض وإن لم يجر لها ذكر. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض فنزلت: (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) «1» فأيقنت الملائكة بالهلاك، وقاله مقاتل. ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الاقدام. وقيل: وجه النعمة أن الموت سبب النقل إلى دار الجزاء والثواب. (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أي ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه، قال الشاعر:
قضى على خلقه المنايا ... فكل شي سواه فاني
وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا: ابن فورك وأبو المعالي وغيرهم. وقال ابن عباس: الوجه عبارة عنه كما قال: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وقال أبو المعالي: وأما الوجه فالمراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى، وهو الذي ارتضاه شيخنا. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) والموصف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء وجود الباري تعالى. وقد مضى في (البقرة) «2» القول في هذا عند قوله تعالى: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى مستوفى. قال القشيري: قال قوم هو صفة زائدة على الذات لا تكيف، يحصل بها الإقبال على من أراد الرب تخصيصه بالإكرام. والصحيح أن يقال: وجهه وجوده وذاته، يقال: هذا وجه الامر ووجه الصواب وعين الصواب. وقيل: أي يبقى الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه. وقيل: وتبقى الجهة التي يتقرب بها إلى الله. (ذُو الْجَلالِ) الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح، يقال: جل الشيء أي عظم وأجللته أي عظمته، والجلال اسم من جل. (وَالْإِكْرامِ) أي هو أهل لان يكرم عمالا يليق به من الشرك، كما تقول: أنا أكرمك عن هذا، ومنه إكرام الأنبياء والأولياء. وقد أتينا على هذين، الاسمين لغة ومعنى في الكتاب الأسنى مستوفى. وروى أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام). وروي أنه من قول ابن مسعود، ومعناه: الزموا ذلك في الدعاء. قال أبو عبيد:
__________ (1). راجع ج 13 ص 322.
(2). راجع ج 2 ص 83. [.....]

يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

الالظاظ لزوم الشيء والمثابرة عليه. ويقال: الالظاظ الإلحاح. وعن سعيد المقبري. أن رجلا ألح فجعل يقول: اللهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! فنودي: إني قد سمعت فما حاجتك؟

[سورة الرحمن (55): الآيات 29 الى 30]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
قوله تعالى: (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قيل: المعنى يسأله من في السموات الرحمة، ومن في الأرض الرزق. وقال ابن عباس وأبو صالح: أهل السموات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق، واهل الأرض يسألونهما جميعا. وقال ابن جريج: وتسأل الملائكة الرزق لأهل الأرض، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء واهل الأرض لأهل الأرض. وفي الحديث: (إن من الملائكة ملكا له أربعة أوجه [وجه «1»] كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرزق للسباع ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله الرزق للطير (. وقال ابن عطاء: إنهم سألوه القوة على العبادة.) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) هذا كلام مبتدأ. وانتصب (كُلَّ يَوْمٍ) ظرفا، لقوله: (فِي شَأْنٍ) أو ظرفا للسؤال، ثم يبتدئ (هُوَ فِي شَأْنٍ). وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: (من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما «2» ويضع آخرين). وعن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله عز وجل: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: (يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا). وقيل: من شأنه أن يحيى ويميت، ويعز ويذل، ويرزق ويمنع. وقيل: أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة. قال ابن بحر: الدهر كله يومان، أحدهما مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهى والأحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب،
__________
(1). الزيادة من ب، ح ز، س، ل، هـ.
(2). في ب، ح، ز، س، ل، هـ: (أقواما).

والثواب والعقاب. وقيل: المراد بذلك الاخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر. والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع الشئون والمراد بالشأن ها هنا الجمع كقوله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ «1» طِفْلًا). وقال الكلبي: شانه سوق المقادير إلى المواقيت. وقال عمرو ابن ميمون في قوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) من شأنه أن يميت حيا، ويقر في الأرحام ما شاء، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبا إلى منزله فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره. فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه فقال: أيها الأمير! شأنه أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافى مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا، فقال له: فرجت عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام، فقال: يا مولاي! هذا من شأن الله تعالى. وعن عبد الله ابن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) «2» وقد صح أن الندم توبة. وقوله: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) «3» فما بال الاضعاف؟ فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الامة، ويكون توبة في هذه الامة، لان الله تعالى خص هذه الامة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وأما قوله: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فإنها شئون يبديها لا شئون يبتديها. وأما قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. فقام عبد الله وقبل رأسه وسوغ خراجه.
__________
(1). راجع ج 15 ص (330)
(2). راجع ج 6 ص (143)
(3). راجع ج 17 ص

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

[سورة الرحمن (55): الآيات 31 الى 36]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) يقال: فرغت من الشغل أفرغ فروغا وفراغا وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يريد تهديده: إذا أتفرغ لك أي أقصدك. وفرغ بمعنى قصد، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا لجرير:
ألان وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذابا
يريد وقد قصدت. وقال أيضا «1» وأنشده النحاس:
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل

وفى الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بايع الأنصار ليلة العقبة، صاح الشيطان: يأهل الجباجب «2»! هذا مذمم يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هذا أزب العقبة «3» أما والله يا عدو الله لا تفرغن لك) أي أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما. وقيل: إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور، ثم قال: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه، أي أقسم ذلك وأتفرغ منه. قاله الحسن ومقاتل وابن زيد. وقرا عبد الله وأبي (سنفرغ إليكم) وقرا الأعمش وإبراهيم
__________
(1). أي جرير.
(2). الجباجب: منازل منى
(3). الأزب: ضبطه الحلبي في سيرته بكسر الهمزة واسكان الزاي، وهو هنا اسم شيطان.

(سيفرغ لكم) بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله. وقرا ابن شهاب والأعرج (سنفرغ لكم) بفتح النون والراء، قال الكسائي: هي لغة تميم يقولون فرغ يفرغ، وحكى أيضا فرغ يفرغ ورواهما هبيرة عن حفص عن عاصم. وروى الجعفي عن أبي عمرو (سيفرغ) بفتح الياء والراء، ورويت عن ابن هرمز. وروي عن عيسى الثقفي (سنفرغ لكم) بكسر النون وفتح الراء، وقرا حمزة والكسائي (سيفرغ لكم) بالياء. الباقون بالنون وهي لغة تهامة. والثقلان الجن والانس، سميا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف. وقيل: سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا، قال الله تعالى: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) «1» ومنه قولهم: أعطه ثقله أي وزنه. وقال بعض أهل المعاني: كل شي له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل. ومنه قيل لبيض النعام ثقل، لان واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به. وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين، لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) فجمع، ثم قال: (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) لأنهما فريقان وكل فريق جمع، وكذا قوله تعالى: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) ولم يقل إن استطعتما، لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى: (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) «2» و(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «3» فِي رَبِّهِمْ) ولو قال: سنفرغ لكما «4»، وقال: إن استطعتما لجاز. وقرا أهل الشام (أية الثقلان) بضم الهاء. الباقون بفتحها وقد تقدم «5». مسألة- هذه السورة و(الأحقاف) و(قل أوحي) دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شي من ذلك. قوله تعالى: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الآية. ذكر ابن المبارك: وأخبرنا جويبر عن الضحاك قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمر الله السماء التي تليها
__________
(1). راجع ج 20 ص 147.
(2). راجع ج 13 ص 214.
(3). راجع ج 12 ص 25 وص 238 وج 16 ص (97)
(4). أي في غير القرآن.
(5). راجع ج 12 ص 25 وص 238 وج 16 ص (97)

كذلك فينزلون فيكونون صفا من خلف «1» ذلك الصف، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة، فينزل الملك الأعلى في بهائه وملكه ومجنبته اليسرى جهنم، فيسمعون زفيرها وشهيقها، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة، فذلك قوله تعالى: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) والسلطان العذر. وقال الضحاك أيضا: بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء، ونزلت الملائكة، فتهرب الجن والانس، فتحدق بهم الملائكة، فذلك قوله تعالى: (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) ذكره النحاس. قلت. فعلى هذا يكون في الدنيا، وعلى ما ذكر ابن المبارك يكون في الآخرة. وعن الضحاك أيضا: إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا. وقال ابن عباس: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض فأعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله تعالى. وعنه أيضا أن معنى: (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم. قتادة: لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك. وقيل: لا تنفذون إلا إلى سلطان «2»، الباء بمعنى إلى، كقوله تعالى: (وَقَدْ أَحْسَنَ «3» بِي) أي إلى. قال الشاعر «4»:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله: (فَانْفُذُوا) أمر تعجيز. قوله تعالى: (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) أي لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ. وقيل: ليس هذا متعلقا بالنفوذ بل أخبر أنه يعاقب العصاة عذابا بالنار. وقيل: أي بآلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس عقوبة على ذلك التكذيب. وقيل: يحاط على الخلائق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)، فتلك النار قوله: (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ)
__________
(1). في ب، ز، ح، س، د: (في جوف ذلك الصف). [.....]
(2). في ب: (إلى سلطاني).
(3). راجع ج 9 ص 267.
(4). هو كثير عزة.

والشواظ في قول ابن عباس وغيره اللهب الذي لا دخان له. والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت رضي الله عنه، كذا وقع في تفسير الثعلبي والماوردي بن أبي الصلت، وفي (الصحاح) و(الوقف والابتداء) لابن الباري: أمية بن خلف قال:
ألا من مبلغ حسان عني ... مغلغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان فينا ... لدى القينات فسلا في الحفاظ
يمانيا يظل يشد كيرا ... وينفخ دائبا لهب الشواظ
فأجابه حسان رضي الله عنه فقال:
هجوتك فاختضعت لها بذل ... بقافية تأجج كالشواظ «1»
وقال رؤبة:
إن لهم من وقعنا أقياظا ... ونار حرب تسعر الشواظا
وقال مجاهد: الشواظ اللهب الأخضر المنقطع من النار. الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب. وقاله سعيد بن جبير. وقد قيل: إن الشواظ النار والدخان جميعا، قاله أبو عمرو وحكاه الأخفش عن بعض العرب. وقرا ابن كثير (شُواظٌ) بكسر الشين. الباقون بالضم وهما لغتان، مثل صوار وصوار لقطيع البقر. (وَنُحاسٌ) قراءة العامة (وَنُحاسٌ) بالرفع عطف على (شُواظٌ). وقرا ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو (ونحاس) بالخفض عطفا على النار. قال المهدوي: من قال إن الشواظ النار والدخان جميعا فالجر في (نحاس) على هذا بين. فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال: (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ)
__________
(1). وفى التاج بدل هذا البيت:
مجللة تعممه شنارا ... مضرمة تأجج كالشواظ
والفسل من الرجال: الرذل الذي لا مروءة له ولا جلد. والمفسول مثله.

وشئ من نحاس، فشى معطوف على شواظ، ومن نحاس جملة هي صفة لشيء، وحذف شي، وحذفت من لتقدم ذكرها في (مِنْ نارٍ) كما حذفت على من قولهم: على من تنزل أنزل [أي «1»] عليه. فيكون (نحاس) على هذا مجرورا بمن المحذوفة. وعن مجاهد وحميد وعكرمة وأبي العالية (ونحاس) بكسر النون لغتان كالشواظ والشواظ. والنحاس بالكسر أيضا الطبيعة والأصل، يقال: فلان كريم النحاس والنحاس أيضا بالضم أي كريم النجار «2». وعن مسلم بن جندب (ونحس) بالرفع. وعن حنظلة بن مرة بن النعمان الأنصاري (ونحس) بالجر عطف على نار. ويجوز أن يكون (وَنُحاسٌ) بالكسر جمع نحس كصعب وصعاب (ونحس) بالرفع عطف على (شُواظٌ) وعن الحسن (ونحس) بالضم [فيهما «3»] جمع نحس. ويجوز أن يكون أصله ونحوس فقصر بحذف واوه حسب ما تقدم عند قوله: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) «4». وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة (ونحس) بفتح النون وضم الحاء وتشديد السين من حس يحس حسا إذا استأصل، ومنه قوله تعالى: (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) «5» والمعنى ونقتل بالعذاب. وعلى القراءة الاولى (وَنُحاسٌ) فهو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، قاله مجاهد وقتادة، وروي عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا وسعيد ابن جبير أن النحاس الدخان الذي لا لهب فيه، وهو معنى قول الخليل، وهو معروف في كلام العرب بهذا المعنى، قال نابغة بني جعدة:
يضئ كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاسا
قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول السليط دهن السمسم بالشام ولا دخان فيه. وقال مقاتل: هي خمسة أنهار من صفر مذاب، تجري من تحت العرش على رءوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار. وقال ابن مسعود: النحاس المهل. وقال الضحاك: هو دردي الزيت المغلي. وقال الكسائي: هو النار التي لها ريح شديدة. (فَلا تَنْتَصِرانِ) أي لا ينصر بعضكم بعضا يعني الجن والانس.
__________
(1). زيادة يقتضيها السياق.
(2). النجار- بكسر النون وضمها- الأصل والحسب.
(3). الذي في الأصول: (بالضم فيهن) وما أثبتناه هو ما عليه كتب التفسير أي بضمتين وكسر السين.
(4). راجع ج 10 ص 91.
(5). راجع ج 4 ص 233.

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)

[سورة الرحمن (55): الآيات 37 الى 40]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)
قوله تعالى: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أي انصدعت يوم القيامة (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) الدهان الدهن، عن مجاهد والضحاك وغيرهما. والمعنى أنها صارت في صفاء الدهن، والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى فكانت حمراء. وقيل: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذؤبانها. وقيل: الدهان الجلد الأحمر الصرف، ذكره أبو عبيد والفراء. أي تصير السماء حمراء كالأديم لشدة حر النار. ابن عباس: المعنى فكانت كالفرس الورد، يقال للكميت: ورد إذا كان يتلون بألوان مختلفة. قال ابن عباس: الفرس الورد، في الربيع كميت أصفر، وفي أول الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد الشتاء كان كميتا أغبر. وقال الفراء: أراد الفرس الوردية، تكون في الربيع وردة إلى الصفرة، فإذا أشتد البرد كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل. وقال الحسن: (كَالدِّهانِ) أي كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألوانا. وقال زيد ابن أسلم: المعنى أنها تصير كعكر الزيت، وقيل: المعنى أنها تمر وتجيء. قال الزجاج: أصل الواو والراء والدال للمجيء والإتيان. وهذا قريب مما قدمناه من أن الفرس الوردة تتغير ألوانها. وقال قتادة: إنها اليوم خضراء وسيكون لها لون أحمر، حكاه الثعلبي. وقال الماوردي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن، وهي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحا فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء، لأنه أصل لونها. والله أعلم.

هذا مثل قوله تعالى: (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) «1» وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض، وهذا قول عكرمة. وقيل: المعنى لا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم، لان الله حفظها عليهم، وكتبتها عليهم الملائكة. رواه العوفي عن ابن عباس. وعن الحسن ومجاهد أيضا: المعنى لا تسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم، دليله ما بعده. وقاله مجاهد عن ابن عباس. وعنه أيضا في قوله تعالى: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) «2» وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) وقال: لا يسألهم ليعرف ذلك منهم، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ. وقال أبو العالية: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم. وقال قتادة: كانت المسألة قبل، ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت الجوارح شاهدة عليهم. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفية قال: (فيلقي العبد فيقول أي فل «3» ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقي الثاني فيقول له مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول ها هنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك فيتفكر في نفسه من هذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه) وقد مضى هذا الحديث في (حم السجدة) وغيرها».
__________
(1). راجع ج 13 ص (316)
(2). راجع ج 10 ص (59)
(3). أي فل: معناه يا فلان وليس ترخيما له، وانما هي صيغة ارتجلت في النداء، ولا تقال الا بسكون اللام. وقال قوم: انه ترخيم فلان.
(4). راجع ج 15 ص 48 وص 350

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

[سورة الرحمن (55): الآيات 41 الى 45]
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
قوله تعالى: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الأعين، قال الله تعالى: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) «1» وقال تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) «2». (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي تأخذ الملائكة بنواصيهم، أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار. والنواصي جمع ناصية. وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره. وعنه: يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصية حتى يندق ظهره ثم يلقى في النار. وقيل: يفعل ذلك به ليكون أشد لعذابه وأكثر لتشويهه. وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النار، تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه، وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على رأسه. قوله تعالى: (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) أي يقال لهم هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم. (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم ومرة بين الجحيم، والجحيم النار، والحميم الشراب. وفي قوله تعالى: (آنٍ) ثلاثة أوجه، أحدها أنه الذي انتهى حره وحميمه. قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني:
وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن «3»
قال قتادة: (آنٍ) طبخ منذ خلق الله السموات والأرض، يقول: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك. وقال كعب: (آنٍ) واد من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل
__________
(1). راجع ج 11 ص 244. [.....]
(2). راجع ج 4 ص 166.
(3). نجيع الجوف: يعنى الدم الخالص. وقبل البيت:
فان يقدر عليك أبو قبيس ... تمط بك المعيشة في هوان

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)

النار فيغمسون بأغلالهم فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منها وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى: (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ). وعن كعب أيضا: أنه الحاضر. وقال مجاهد: إنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته. والنعمة فيما وصف من هول القيامة وعقاب المجرمين ما في ذلك من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أتى على شاب في الليل يقرأ (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول: ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ويحك يا فتى مثلها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء لبكائك) «1».

[سورة الرحمن (55): الآيات 46 الى 47]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47)
قوله تعالى: (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فيه مسألتان: الاولى- لما ذكر أحوال أهل النار ذكر ما أعد للأبرار. والمعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية. ف (مَقامَ) مصدر بمعنى القيام. وقيل: خاف قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه، بيانه قوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) «2». وقال مجاهد وإبراهيم النخعي: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه. الثانية- هذه الآية دليل على أن من قال لزوجه: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله وحياء منه. وقال به سفيان الثوري وأفتى به. وقال محمد بن علي الترمذي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته. وقال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض. وقيل: المقام الموضع، أي خاف مقامه بين يدي ربه للحساب كما تقدم. ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله، وهو كالاجل في قوله: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) «3» وقوله في موضع آخر:
__________
(1). في ب، ح، ز، س، ل، هـ: (من بكائك).
(2). راجع ج 9 ص 322.
(3). راجع ج 7 ص 202.

ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51)

(إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا «1» جاءَ لا يُؤَخَّرُ). (جَنَّتانِ) أي لمن خاف جنتان على حدة، فلكل خائف جنتان. وقيل: جنتان لجميع الخائفين، والأول أظهر. وروي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (الجنتان بستانان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور «2» وليس منها شي إلا يهتز نغمة وخضرة، قرارها ثابت وشجرها ثابت) ذكره المهدوي والثعلبي أيضا من حديث أبي هريرة. وقيل: إن الجنتين جنته التي خلقت له وجنة ورثها. وقيل: إحدى الجنتين منزله والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا. وقيل: إن إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه. وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها. وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم. وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، فثنى لرءوس الآي. وأنكر القتبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون إنما قال تسعة عشر لمراعاة رءوس الآي. وأيضا قال: (ذَواتا أَفْنانٍ). وقال أبو جعفر النحاس: قال الفراء قد تكون جنة فتثنى في الشعر، وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله عز وجل، يقول الله عز وجل: (جَنَّتانِ) ويصفهما بقوله: (فِيهِما) فيدع الظاهر ويقول: يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر! وقيل: إنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين برزت، قاله عطاء وابن شوذب. وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبنا على ظمإ فأعجبه، فسأل عنه فأخبر أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إليه، فقال: (رحمك الله لقد أنزلت فيك آية) وتلا عليه هذه الآية.

[سورة الرحمن (55): الآيات 48 الى 51]
ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51)
__________
(1). راجع ج 18 ص (299)
(2). في ز، ل: (نُورٌ عَلى نُورٍ).

قوله تعالى: (ذَواتا أَفْنانٍ) قال ابن عباس وغيره: أي ذواتا ألوان من الفاكهة الواحد فن. وقال مجاهد: الأفنان الأغصان واحدها فنن، قال النابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلا ... مفجعة على فنن تغني «1»
وقال آخر يصف طائرين:
باتا على غصن بان في ذرى فنن ... يرددان لحونا ذات ألوان
أراد باللحون اللغات. وقال آخر:
ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما
تدعو أبا فرخين صادف ضاريا ... ذا مخلبين من الصقور قطاما
والفنن جمعه أفنان ثم الأفانين، وقال يصف رحى:
لها زمام من أفانين الشجر

وشجرة فناء أي ذات أفنان وفنواء أيضا على غير قياس. وفي الحديث: (أن أهل الجنة مرد مكحلون أولو أفانين) يريد أولو فنن وهو جمع أفنان، وأفنان جمع فنن [وهو الخصلة «2»] من الشعر شبه بالغصن. ذكره الهروي. وقيل: (ذَواتا أَفْنانٍ) أي ذواتا سعة وفضل على ما سواهما، قاله قتادة. وعن مجاهد أيضا وعكرمة: إن الأفنان ظل الأغصان على الحيطان. قوله تعالى: (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) أي في كل واحدة منهما عين جارية. قال ابن عباس: تجريان ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة. وعن ابن عباس أيضا والحسن: تجريان بالماء الزلال، إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل. وعنه أيضا:
__________
(1). قبل هذا البيت:
أسائلها وقد سفحت دموعي ... كأن مفيضهن غروب شن

(2). الزيادة من النهاية لابن الأثير.

فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)

عينان مثل الدنيا أضعافا مضاعفة، حصباؤهما الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وترابهما الكافور، وحمأتهما المسك الأذفر، وحافتاهما الزعفران. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين. وقيل: تجريان من جبل من مسك. وقال أبو بكر الوراق: فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل.

[سورة الرحمن (55): الآيات 52 الى 55]
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
قوله تعالى: (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي صنفان وكلاهما حلو يستلذ به. قال ابن عباس: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. وقيل: ضربان رطب ويابس لا يقصر هذا عن ذلك في الفضل والطيب. وقيل: أراد تفضيل هاتين الجنتين على الجنتين اللتين دونهما، فإنه ذكر هاهنا عينين جاريتين، وذكر ثم عينين تنضخان بالماء والنضخ دون الجري، فكأنه قال: في تينك الجنتين من كل فاكهة نوع، وفي هذه الجنة من كل فاكهة نوعان. قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ) هو نصب على الحال. والفرش جمع فراش. وقرا أبو حيوة (فرش) بإسكان الراء. (بَطائِنُها) جمع بطانة وهي التي تحت الظهارة. والإستبرق ما غلظ من الديباج وخشن، أي إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة، قاله ابن مسعود وأبو هريرة. وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ «1» أَعْيُنٍ). وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. وفي الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ظواهرها نور يتلألأ). وعن الحسن: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور جامد. وعن الحسن أيضا: البطائن هي الظواهر،
__________ (1). راجع ج 14 ص 103

فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)

وهو قول الفراء، وروي عن قتادة. والعرب تقول للظهر بطنا، فيقولون: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء، لظاهرها الذي نراه. وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوما، كالحائط بينك وبين قوم، وعلى ذلك أمر السماء. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) الجنى ما يجتنى من الشجر، يقال: أتانا بجناة طيبة لكل ما يجتنى. وثمر جني على فعيل حين جني، وقال «1»:
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه
وقرى (جنى) بكسر الجيم. (دانٍ) قريب. قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا، لا يرد يده بعد ولا شوك.

[سورة الرحمن (55): الآيات 56 الى 57]
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قيل: في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج: وانما قال: (فِيهِنَّ) ولم يقل فيهما، لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما من النعيم. وقيل: (فِيهِنَّ) يعود على الفرش التي بطائنها من إستبرق، أي في هذه الفرش (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي نساء قاصرات الطرف، قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم. وقد مضى في (والصافات) «2» ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع لأنه في معنى المصدر، من طرفت عينه تطرف طرفا، ثم سميت العين بذلك فأدى عن الواحد والجمع، كقولهم: قوم عدل وصوم.
__________
(1). هو عمرو بن عدى اللخمي ابن أخت جذيمة الأبرش، وهو مثل يضرب للرجل يؤثر صاحبه بخيار ما عنده.
(2). راجع ج 15 ص 80

الثانية- قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد. الفراء: والطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية، طمثها يطمثها ويطمثها طمثا إذا افتضها. ومنه قيل: امرأة طامث أي حائض. وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول: طمثها بمعنى وطئها على أي الوجوه كان. إلا أن قول الفراء أعرف وأشهر. وقرا الكسائي (لم يطمثهن) بضم الميم، يقال: طمثت المرأة تطمث بالضم حاضت. وطمثت بالكسر لغة فهي طامث، وقال الفرزدق:
وقعن «1» إلي لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام
وقيل: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) لم يمسهن، قال أبو عمرو: والطمث المس وذلك في كل شي يمس. ويقال للمرتع: ما طمث ذلك المرتع قبلنا أحد، وما طمث هذه الناقة حبل، أي ما مسها عقال. وقال المبرد: أي لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث التذليل. وقرا الحسن (جان) بالهمزة. الثالثة- في هذه الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس، وتدخل الجنة ويكون لهم فيها جنيات. قال ضمرة: للمؤمنين منهم أزواج من الحور العين، فالإنسيات للانس، والجنيات للجن. وقيل: أي لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجن في الجنة من الحور العين من الجنيات جن، ولم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الانس في الجنة من الحور العين من الانسيات إنس، وذلك لان الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا. ذكره القشيري. قلت: قد مضى في (النمل) «2» القول في هذا وفي (سبحان) «3» أيضا، وأنه جائز أن تطأ بنات آدم. وقد قال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) وذلك بأن الله تبارك وتعالى وصف الحور العين بأنه لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، وأن الحور العين قد برين من هذا العيب ونزهن، والطمث الجماع. ذكره بكماله الترمذي الحكيم، وذكره المهدوي أيضا والثعلبي وغيرهما والله أعلم.
__________
(1). في ب: (دفعن).
(2). راجع ج 13 ص (211) [.....]
(3). راجع ج 10 ص 289

كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

[سورة الرحمن (55): الآيات 58 الى 61]
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
قوله تعالى: (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها) وذلك بأن الله تعالى يقول: (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لأريته [من ورائه «1»] ويروى موقوفا. وقال عمرو بن ميمون: إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء ذلك، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. وقال الحسن: هن في صفاء الياقوت، وبياض «2» المرجان. قوله تعالى: (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (هَلْ) في الكلام على أربعة أوجه: تكون بمعنى قد كقوله تعالى: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) «3»، وبمعنى الاستفهام كقوله تعالى: (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ «4» حَقًّا)، وبمعنى الامر كقوله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) «5»، وبمعنى ما في الجحد كقوله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ) «6»، و(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ). قال عكرمة: أي هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. ابن عباس: ما جزاء من قال لا إله إلا اله وعمل بما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الجنة. وقيل: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، قاله ابن زيد. وروى أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ثم قال: (هل تدرون ماذا قال ربكم) قالوا الله ورسوله أعلم، قال: (يقول ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة). وروى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ
__________
(1). الزيادة من صحيح الترمذي.
(2). كذا في الأصول، والعهود أن المرجان أحمر.
(3). راجع ج 19 ص (306)
(4). راجع ج 7 ص (209)
(5). راجع ج 6 ص (292)
(6). راجع ج 10 ص 103

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65)

هذه الآية فقال: (يقول الله هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي) وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت عليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد. وقال محمد ابن الحنفية والحسن: هي مسجلة للبر والفاجر، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة.

[سورة الرحمن (55): الآيات 62 الى 65]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65)
قوله تعالى: (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان. قال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج. ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين النخل والشجر، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط. الماوردي: ويحتمل أن يكون (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) لاتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته، إحداهما للحور العين، والأخرى للولدان المخلدين، ليتميز بهما الذكور عن الإناث. وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقربين (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) و(عَيْنانِ تَجْرِيانِ)، وجنتان لأصحاب اليمين (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)
. وقال ابن زيد: إن الأوليين من ذهب للمقربين، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين. قلت: إلى هذا ذهب الحليمي أبو عبد الله الحسن بن الحسين في كتاب (منهاج الدين له)، واحتج بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) إلى قوله: (مُدْهامَّتانِ) قال: تانك للمقربين، وهاتان لأصحاب اليمين. وعن أبي موسى الأشعري نحوه. ولما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما فقال في الأوليين: (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ)، وفي الأخريين:ِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)
أي فوارتان ولكنهما ليستا كالجاريتين لان النضخ دون الجري. وقال في الأوليين: (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) فعم ولم يخص. وفي الأخريين: (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ولم يقل كل فاكهة، وقال

في الأوليين: (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وهو الديباج، وفي الأخريين (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) والعبقري الوشي، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخباء، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء. وقال في الأوليين في صفة الحور: (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ)، وفي الأخريين (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان. وقال في الأوليين: (ذَواتا أَفْنانٍ) وفي الأخريين (مُدْهامَّتانِ) أي خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، ووصف الأوليين بكثرة الأغصان، والأخريين بالخضرة وحدها، وفي هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدنا بقوله (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) ولعل ما لم يذكر من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر. فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟ قيل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه إلا أن الخائفين لهم مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى، والجنتان الأخريان لمن قصرت حاله في الخوف من الله تعالى. ومذهب الضحاك أن الجنتين الأوليين من ذهب وفضة، والأخريين من ياقوت وزمرد وهما أفضل من الأوليين، وقوله: (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي ومن أمامهما ومن قبلهما. وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) فقال: ومعنى (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي دون هذا إلى العرش، أي أقرب وأدنى إلى العرش، واخذ يفضلهما على الأوليين بما سنذكره عنه. وقال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى. قوله تعالى: (مُدْهامَّتانِ) أي خضروان من الري، قاله ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: مسودتان. والدهمة في اللغة السواد، يقال: فرس أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء أي اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه، فإن زاد على ذلك حتى اشتد السواد فهو جون. وادهم الفرس ادهماما أي صار أدهم. وادهام الشيء ادهيماما أي اسواد، قال الله

فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)

تعالى: (مُدْهامَّتانِ) أي سوداوان من شدة الخضرة من الري، والعرب تقول لكل أخضر أسود. وقال لبيد يرثي قتلى هوازن:
وجاءوا «1» به في هودج ووراءه ... كتائب خضر في نسيج السنور
السنور لبوس من قد كالدرع. وسميت قرى العراق سوادا لكثرة خضرتها. ويقال لليل المظلم: أخضر. ويقال: أباد الله خضراءهم أي سوادهم.

[سورة الرحمن (55): الآيات 66 الى 69]
فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)
قوله تعالى:ِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)
أي فوارتان بالماء، عن ابن عباس. والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء. وعنه أن المعنى نضاختان بالخير والبركة، وقاله الحسن ومجاهد. ابن مسعود وابن عباس أيضا وأنس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر. وقال سعيد بن جبير: بأنواع الفواكه والماء. الترمذي: قالوا بأنواع الفواكه والنعم «2» والجواري المزينات والدواب المسرجات والثياب الملونات. قال الترمذي: وهذا يدل على أن النضخ أكثر من الجري. وقيل: تنبعان ثم تجريان. قوله تعالى: (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) فيه مسألتان. الاولى- قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لان الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره. وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى:
__________
(1). وجاءوا به: يعنى قتادة بن مسلمة الحنفي.
(2). في ب. (النعيم).

فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ «1» وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) وقوله: (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) «2» وقد تقدم. وقيل: إنما كررهما لان النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لان النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات «3»، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما وكثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن، فأخرجهما في الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر لان النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله، وهى المسألة: الثانية- إذا حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه والناس. قال ابن عباس: الرمانة في الجنة مثل البعير المقتب. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر، وكرانيفها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، والين من الزبد، ليس فيه عجم «4». قال: وحدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعا.

[سورة الرحمن (55): الآيات 70 الى 71]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) يعني النساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير. وقيل: (خَيْراتٌ) بمعنى خيرات فخفف، كهين ولين. ابن المبارك: حدثنا
__________
(1). راجع ج 3 ص (208)
(2). راجع ج 2 ص (36)
(3). في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي: والرمان كالشراب إلخ.
(4). العجم- بالتحريك-: النوى

الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن عامر قال: لو أن خيرة من (خَيْراتٌ حِسانٌ) اطلعت من السماء لأضاءت لها، ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولنصيف «1» تكساه خيرة خير من الدنيا وما فيها. (حِسانٌ) أي حسان الخلق، وإذا قال الله تعالى: (حِسانٌ) فمن ذا الذي يقدر أن يصف حسنهن! وقال الزهري وقتادة: (خَيْراتٌ) الأخلاق (حِسانٌ) الوجوه. وروي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أم سلمة. وقال أبو صالح: لأنهن عذارى أبكار. وقرا قتادة وابن السميقع وأبو رجاء العطاردي وبكر بن حبيب السهمي (خيرات) بالتشديد على الأصل. وقد قيل: أن خيرات جمع خير والمعنى ذوات خير. وقيل: مختارات. قال الترمذي: فالخيرات ما اختارهن الله فأبدع خلقهن باختياره، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين. ثم قال: (حِسانٌ) فوصفهن بالحسن فإذا وصف خالق الحسن شيئا بالحسن فانظر ما هناك. وفي الأوليين ذكر بأنهن (قاصِراتُ الطَّرْفِ) و(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) فانظر كم بين الخيرة وهي مختارة الله، وبين قاصرات الطرف. وفي الحديث: (إن الحور العين يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بأحسن منها ولا بمثلها نحن الراضيات فلا نسخط أبدا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ونحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا ونحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام (. خرجه الترمذي بمعناه من حديث علي رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابهن المؤمنات من نساء أهل الدنيا: نحن المصليات وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضيات وما توضأتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن. فقالت عائشة رضي الله، عنها: فغلبنهن والله. الثانية- وأختلف أيهما أكثر حسنا وأبهر جمالا الحور أو الآدميات؟ فقيل: الحور لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة، ولقوله عليه الصلاة والسلام في دعائه على الميت
__________
(1). هو الخمار وقيل المعجر النهاية. [.....]

حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75)

في الجنازة: (وأبدله زوجا خيرا من زوجه). وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، وروي مرفوعا. وذكر ابن المبارك: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم «1» عن حيان ابن أبي جبلة، قال: إن نساء الدنيا من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وقد قيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن البصري. والمشهور أن الحور العين لسن، من نساء أهل الدنيا وإنما هن مخلوقات في الجنة، لان الله تعالى قال: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات، ولان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن أقل ساكني الجنة النساء) فلا يصيب كل واحد منهم امرأة، ووعد الحور العين لجماعتهم، فثبت أنهن من غير نساء الدنيا.

[سورة الرحمن (55): الآيات 72 الى 75]
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75)
قوله تعالى: (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) (حُورٌ) جمع حوراء، وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها وقد تقدم «2». (مَقْصُوراتٌ) محبوسات مستورات (فِي الْخِيامِ) في الحجال لسن بالطوافات في الطرق، قاله ابن عباس. وقال عمر رضي الله عنه: الخيمة درة مجوفة. وقاله ابن عباس. وقال: هي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وقال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في قوله تعالى (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ): بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش فخلقت الحور من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطئ الأنهار سعتها أربعون ميلا وليس لها باب، حتى إذا دخل»
ولي الله الجنة
__________
(1). هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم (بفتح أوله وسكون النون وضم المهملة).
(2). راجع ج 15 ص (80)
(3). في ب: (حتى إذا أحل ولى الله بالخيمة).

انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين. والله أعلم. وقال في الأوليين: (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قصرن طرفهن على الأزواج ولم يذكر أنهن مقصورات، فدل على أن المقصورات أعلى وأفضل. وقال مجاهد: (مَقْصُوراتٌ) قد قصرن على أزواجهن فلا يردن بذلا منهم. وفي الصحاح: وقصرت الشيء أقصره قصرا حبسته، ومنه مقصورة الجامع، وقصرت الشيء على كذا إذا لم تجاوز إلى غيره، وامرأة قصيرة وقصوره أي مقصورة في البيت لا تترك أن تخرج، قال كثير:
وأنت التي حببت كل قصيرة ... إلي وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء البحاتر «1»
وأنشده الفراء قصوره، ذكره ابن السكيت. وروى أنس قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مررت ليلة أسري بي في الجنة بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه السلام عليك يا رسول الله فقلت: يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء جوار من الحور العين استأذن ربهن في أن يسلمن عليك فأذن لهن فقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا أزواج رجال كرام) ثم قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) أي محبوسات حبس صيانة وتكرمة. وروي عن أسماء بنت يزيد «2» الأشهلية أنها أتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله! إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نعم إذا أحسنتن «3» تبعل أزواجكن وطلبتن مرضاتهم). قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) أي لم يمسسهن على ما تقدم قبل. وقراءة العامة (يطمثهن) بكسر الميم. وقرا أبو حيوة الشامي وطلحة بن مصرف والأعرج والشيرازي عن الكسائي
__________
(1). البحاتر: جمع بحترة بضم الباء القصيرة المجتمعة الخلق.
(2). في نسخ الأصل بنت عبيد والتصحيح من التهذيب.
(3). مصاحبتهم في الزوجية والعشرة

مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

بضم الميم في الحرفين. وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى ويخير في ذلك، فإذا رفع الاولى كسر الثانية وإذا كسر الاولى رفع الثانية. وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي. قال أبو إسحاق: كنت أصلي خلف أصحاب علي فيرفعون الميم، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله فيكسرونها، فاستعمل الكسائي الأثرين. وهما لغتان طمث وطمث مثل يعرشون ويعكفون، فمن ضم فللجمع بين اللغتين، ومن كسر فلأنها اللغة السائرة. وإنما أعاد قوله: (لم يطمثهن، ليبين أن صفة الحور المقصورات في الخيام كصفة الحور القاصرات الطرف. يقول: إذا [قصرن «1»] كانت لهن الخيام في تلك الحال.

[سورة الرحمن (55): الآيات 76 الى 78]
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
قوله تعالى:) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) الرفرف المحابس «2». وقال ابن عباس: الرفرف فضول الفرش والبسط. وعنه أيضا: الرفرف المحابس يتكئون على فضولها، وقاله قتادة. وقال الحسن والقرظي: هي البسط. وقال ابن عيينة: هي الزرابي. وقال ابن كيسان: هي المرافق، وقاله الحسن أيضا. وقال أبو عبيدة: هي حاشية الثوب. وقال الليث: ضرب من الثياب الخضر تبسط. وقيل: الفرش المرتفعة. وقيل: كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف. قال ابن مقبل:
وإنا لنزالون تغشى نعالنا ... سواقط من أصناف ريط ورفرف
وهذه أقوال متقاربة. وفي الصحاح: والرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس، الواحدة رفرفة. وقال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا: الرفرف رياض الجنة، واشتقاق الرفرف
__________
(1). في الأصول كلها: إذا ضجرن إلخ والضجر لا يجوز في الجنة ولذا أثبثنا بدل ضجرن قصرن.
(2). المحابس: جمع محبس كمقعد ثوب يطرح على ظهر الفراش النوم عليه. وفى ل: المجالس وكلا المغيين صحيح كما في اللغة.

من رف يرف إذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر لتحريكه جناحيه في الهواء. وربما سموا الظليم رفرافا بذلك، لأنه يرفرف بجناحيه ثم يعدو. ورفرف الطائر أيضا إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه. والرفرف أيضا كسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها، الواحدة رفرفة. وفي الخبر في وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنه ورقة [تخشخش «1»] أي رفع طرف الفسطاط. وقيل: اصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضا نضيرا، حكاه الثعلبي. وقال القتبي: يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى كاد يهتز: رف يرف رفيفا، حكاه الهروي. وقد قيل: إن الرفرف شي إذا استوى عليه صاحبه رفرف به وأهوى به كالمرجاح يمينا وشمالا ورفعا وخفضا يتلذذ به مع أنيسته، قاله الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) وقد ذكرناه في (التذكرة). قال الترمذي: فالرفرف أعظم خطرا من الفرش فذكره في الأوليين (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وقال هنا: (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) فالرفرف هو شي إذا استوى عليه الولي رفرف به، أي طار به هكذا وهكذا حيث ما يريد كالمرجاح، وأصله من رفرف بين يدي الله عز وجل، روي لنا في حديث المعراج أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى مسند العرش، فذكر أنه قال: (طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي بين يدي ربي) ثم لما حان الانصراف تناوله فطار به خفضا ورفعا يهوي به حتى أداه إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه وجبريل يبكي ويرفع صوته بالتحميد، فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره الله لأهل الجنتين الدانيتين هو متكأهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان. ثم قال: (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) فالعبقري ثياب منقوشة تبسط، فإذا قال خالق النقوش إنها حسان فما ظنك بتلك العباقر!. وقرا عثمان رضي الله عنه والجحدري والحسن وغيرهم (متكئين على رفارف) بالجمع غير مصروف كذلك
__________
(1). زيادة من كتب اللغة.

(وعباقرى حسان) جمع رفرف وعبقري. و(رَفْرَفٍ) اسم للجمع و(عَبْقَرِيٍّ) واحد يدل على الجمع المنسوب إلى عبقر. وقد قيل: إن واحد رفرف وعبقري رفرفة وعبقرية، والرفارف والعباقر جمع الجمع. والعبقري الطنافس الثخان منها، قاله الفراء. وقيل: الزرابي، عن ابن عباس وغيره. الحسن: هي البسط. مجاهد: الديباج. القتبي: كل ثوب وشئ عند العرب عبقري. قال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي فينسب إليها كل وشي حبك. قال ذو الرمة:
حتى كأن رياض القف ألبسها ... من وشي عبقر تجليل وتنجيد
ويقال: عبقر قرية بناحية اليمن تنسج فيها بسط منقوشة. وقال ابن الأنباري: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل. وقال الخليل: كل جليل نافس فاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري. ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمر رضي الله عنه: فلم أر عبقريا من الناس يفري فرية) وقال أبو عمرو بن العلاء وقد سئل عن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فلم أر عبقريا يفري فرية) فقال: رئيس قوم وجليلهم. وقال زهير:
بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
وقال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد:
كهول وشبان كجنة عبقر «1»

ثم نسبوا إليه كل شي يعجبون من حذقه وجودة صنعته وقوته فقالوا: عبقري وهو واحد وجمع. وفي الحديث: (إنه كان يسجد على عبقري) وهو هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش حتى قالوا: ظلم عبقري وهذا عبقري قوم للرجل القوي. وفي الحديث: (فلم أر عبقريا يفري فرية) ثم خاطبهم الله بما تعارفوه فقال: (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) وقرأه بعضهم
__________
(1). صدر البيت:
ومن فاد من إخوانهم وبنيهم

(عباقري) وهو خطأ لان المنسوب لا يجمع على نسبته، وقال قطرب: ليس بمنسوب وهو مثل كرسي وكراسي وبختي وبخاتي. وروى أبو بكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ (متكئين على رفارف خضر وعباقر حسان) ذكره الثعلبي. وضم الضاد من (خضر) قليل. قوله تعالى: (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (تَبارَكَ) تفاعل من البركة وقد تقدم «1». (ذِي الْجَلالِ) أي العظمة. وقد تقدم (وَالْإِكْرامِ) «2». وقرا عامر (ذو الجلال) بالواو وجعله وصفا للاسم، وذلك تقوية لكون الاسم هو المسمى. الباقون (ذِي الْجَلالِ) جعلوا (ذِي) صفة ل (رَبِّكَ). وكأنه يريد الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: (الرَّحْمنُ) فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجن «3»، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها، وصفه النار ثم ختمها بصفة الجنان. ثم قال في آخر السورة: (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه ثم قال: (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) جليل في ذاته، كريم في أفعاله. ولم يختلف القراء في إجراء النعت على الوجه بالرفع في أول السورة، وهو يدل على أن المراد به وجه الله الذي يلقى المؤمنون عند ما ينظرون إليه، فيستبشرون بحسن الجزاء، وجميل اللقاء، وحسن العطاء. والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 13 ص 2
(2). راجع ص 165 من هذا الجزء.
(3). في ب: (والشياطين).

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)

[تفسير سورة الواقعة]
سورة الواقعة مكية، وهى سبع وتسعون آية مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ). وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات، منها آيتان (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) نزلتا في سفره إلى مكة، وقوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) نزلتا في سفره إلى المدينة. وقال مسروق: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة. وذكر أبو عمر ابن عبد البر في (التمهيد) و(التعليق) والثعلبي أيضا: أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر لك بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه، حبسته عني في حياتي، وتدفعه لي عند مماتي؟ قال: يكون لبناتك من بعدك. قال: أتخشى على بناتي الفاقة من بعدي؟ إنى أمرتهن أن يقرأن سورة (الواقعة) كل ليلة، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
قوله تعالى: (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي قامت القيامة، والمراد النفخة الأخيرة. وسميت واقعة لأنها تقع عن قرب. وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. وفية إضمار، أي اذكروا

إذا وقعت الواقعة. وقال الجرجاني: (إِذا) صلة، أي وقعت الواقعة، كقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) «1» و(أَتى أَمْرُ اللَّهِ) «2» وهو كما يقال: قد جاء الصوم أي دنا واقترب. وعلى الأول (إِذا) للوقت، والجواب قوله: (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ). (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) الكاذبة مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر، كقوله تعالى: (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً «3») أي لغو، والمعنى لا يسمع «4» لها كذب، قاله الكسائي. ومنه قول العامة: عائذا بالله أي معاذ الله، وقم قائما أي قم قياما. ولبعض نساء العرب ترقص ابنها:
قم قائما قم قائما ... أصبت عبدا نائما
وقيل: الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أي ليس لوقعتها حال كاذبة، أو نفس كاذبة، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق. وقال الزجاج: (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي لا يردها شي. ونحوه قول الحسن وقتادة. وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي «5» أيضا: ليس لها تكذيب، أي ينبغي ألا يكذب بها أحد. وقيل: إن قيامها جد لا هزل فيه. قوله تعالى: (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) قال عكرمة ومقاتل والسدي: خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفعت من نأى، يعني أسمعت القريب والبعيد. وقال السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين. وقال قتادة: خفضت أقواما في عذاب الله، ورفعت أقواما إلى طاعة الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة. وقال محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقواما كانوا في الدنيا مخفوضين. وقال ابن عطاء: خفضت أقواما بالعدل، ورفعت آخرين بالفضل. والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة، والعز والمهانة. ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة
__________
(1). راجع ج 10 ص (65) [.....]
(2). راجع ص 125 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 20 ص (33)
(4). في ب: (ليس لها كذب).
(5). في ب: (الحسن).

توسعا ومجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يكن منه الفعل، يقولون: ليل نائم ونهار صائم. وفي التنزيل: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) «1» والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله وحده، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات، وخفض أعداءه في أسفل الدركات. وقرا الحسن وعيسى الثقفي (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) بالنصب. الباقون بالرفع على إضمار مبتدإ، ومن نصب فعلى الحال. وهو عند الفراء على إضمار فعل، والمعنى: إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة- وقعت: خافضة رافعة. والقيامة لا شك في وقوعها، وأنها ترفع أقواما وتضع آخرين على ما بيناه. قوله تعالى: (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي زلزلت وحركت عن مجاهد وغيره، يقال: رجة يرجه رجا أي حركه وزلزلة. وناقة رجاء أي عظيمة السنام. وفي ب الحديث: (من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له) يعنى إذا اضطربت أمواجه. قال الكلبي: وذلك أن الله تعالى إذا أوحى إليها اضطربت فرقا من الله تعالى. قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شي عليها من الجبال وغيرها. وعن ابن عباس الرجة الحركة الشديدة يسمع لها صوت. وموضع (إِذا) نصب على البدل من (إِذا وَقَعَتِ). ويجوز أن ينتصب ب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لان عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض. وقيل: أي وقعت الواقعة إذا رجت الأرض، قاله الزجاج والجرجاني. وقيل: أي اذكر (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) مصدر وهو دليل على تكرير الزلزلة قوله تعالى: (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتتت، عن أبن عباس. مجاهد: كما يبس الدقيق أي يلت. والبسيسة السويق أو الدقيق يلت بالسمن أو بالزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زادا. قال الراجز:
لا تخبزا خبزا وبسابسا ... ولا تطيلا بمناخ حبسا
__________
(1). راجع ج 14 ص 302

وذكر أبو عبيدة: أنه لص من غطفان أراد أن يخبز فخاف أن يعجل عن ذلك فأكله عجينا. والمعنى أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت بشيء من الماء. أي تصير الجبال ترابا فيختلط البعض بالبعض. وقال الحسن: وبست قلعت من أصلها فذهبت، نظيره: (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) «1». وقال عطية: بسطت كالرمل والتراب. وقيل: البس السوق أي سيقت الجبال. قال أبو زيد: البس السوق، وقد بسست الإبل أبسها بالضم بسا. وقال أبو عبيد: بسست الإبل وأبسست لغتان إذا زجرتها وقلت لها بس بس. وفي الحديث: (يخرج قوم من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) ومنه الحديث الآخر: (جاءكم أهل اليمن يبسون عيالهم) «2» والعرب تقول: جئ به من حسك وبسك. ورواهما أبو زيد بالكسر، فمعنى من حسك من حيث أحسسته، وبسك من حيث بلغه مسيرك. وقال مجاهد: سألت سيلا. عكرمة: هدت هدا. محمد بن كعب: سيرت سيرا، ومنه قول الأغلب العجلي «3»: وقال الحسن: قطعت قطعا. والمعنى متقارب. قوله تعالى: (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) قال علي رضي الله عنه: الهباء المنبث الرهج «4» الذي يسطع من حوافر الدواب ثم يذهب، فجعل الله أعمالهم كذلك. وقال مجاهد: الهباء هو الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار. وروي نحوه عن ابن عباس. وعنه أيضا: هو ما تطاير من النار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئا. وقال عطية. وقد مضى في (الفرقان) عند قوله تعالى: (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) «5» وقراءة العامة (مُنْبَثًّا) بالثاء المثلثة أي متفرقا من قوله تعالى: (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) «6» أي فرق ونشر. وقرا مسروق والنخعي وأبو حيوة (منبتا) بالتاء المثناة أي منقطعا من قولهم: بته الله أي قطعه، ومنه البتات.
__________
(1). راجع ج 11 ص (245)
(2). أي يسوقون عيالهم.
(3). بياض بالأصول في موضع الشاهد من قول الأغلب العجلى الراجز ولم نعثر عليه.
(4). الرهج بالفتح وبالإسكان الغبار.
(5). راجع 13 ص (22)
(6). راجع ج 2 ص 196

وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

[سورة الواقعة (56): الآيات 7 الى 12]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي أصنافا ثلاثة كل، صنف يشاكل ما هو منه، كما يشاكل الزوج الزوجة، ثم بين من هم فقال: (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) و(السَّابِقُونَ)، فأصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قاله السدي. والمشأمة الميسرة وكذلك الشأمة. يقال: قعد فلان شأمة. ويقال: يا فلان شائم بأصحابك، أي خذ بهم شأمة أي ذات الشمال. والعرب تقول لليد الشمال الشؤمى، وللجانب الشمال الأشأم. وكذلك يقال لما جاء عن اليمين اليمن، ولما جاء عن الشمال الشؤم. وقال ابن عباس والسدي: أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه فقال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر. وقال عطاء ومحمد بن كعب: أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله. وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة المشائيم علي أنفسهم بالأعمال السيئة القبيحة. وفي صحيح مسلم من حديث الاسراء عن أبي ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة- قال- فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى- قال- فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح- قال- قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم عليه السلام وهذه الاسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار) وذكر الحديث. وقال المبرد: وأصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة

أصحاب التأخر. والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي اجعلني من المتقدمين ولا تجعلنا من المتأخرين. والتكرير في (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ). و(ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) للتفخيم والتعجيب، كقوله: (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) و(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) كما يقال: زيد ما زيد! وفي حديث أم زرع رضي الله «1» عنها: مالك وما مالك! والمقصود تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ولأصحاب المشأمة من العقاب. وقيل: (فَأَصْحابُ) رفع بالابتداء والخبر (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) كأنه قال: (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) ما هم، المعنى: أي شي هم. وقيل: يجوز أن تكون (ما) تأكيدا، والمعنى فالذين يعطون «2» كتابهم بأيمانهم هم أصحاب التقدم وعلو المنزلة. قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم) ذكره المهدوي. وقال محمد بن كعب القرظي: إنهم الأنبياء. الحسن وقتادة: السابقون إلى الايمان من كل أمة. ونحوه عن عكرمة. محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين، دليله قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) «3». وقال مجاهد وغيره: هم السابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحا إلى الصلاة. وقال علي رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس. الضحاك: إلى الجهاد. سعيد بن جبير: إلى التوبة وأعمال البر، قال الله تعالى: (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ «4» رَبِّكُمْ) ثم أثنى عليهم فقال: (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها «5» سابِقُونَ). وقيل: إنهم أربعة، منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قاله ابن عباس، حكاه الماوردي. وقال شميط بن العجلان: الناس ثلاثة، فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه
__________
(1). حديث أم زرع رواه مسلم في فضائل الصحابة عن عائشة رضى الله عنها أنه: جلس احدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا، فقالت إحداهن: زوجي مالك وما مالك! مالك خير من ذلك ...... إلخ. الحديث.
(2). في ب، ز، ح، س، ل، هـ: (يؤتون كتابهم).
(3). راجع ج 8 ص (235) [.....]
(4). راجع ج 4 ص (203)
(5). راجع ج 12 ص 133

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وقيل: هم كل من سبق إلى شي من أشياء الصلاح. ثم قيل: (السَّابِقُونَ) رفع بالابتداء والثاني توكيد له والخبر (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ). وقال الزجاج: (السَّابِقُونَ) رفع بالابتداء والثاني خبره، والمعنى السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) من صفتهم. وقيل: إذا خرج رجل من السابقين المقربين من منزله في الجنة كان له ضوء يعرفه به من دونه.

[سورة الواقعة (56): الآيات 13 الى 16]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)
قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي جماعة من الأمم الماضية. (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي ممن آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الحسن: ثلة ممن قد مضى قبل هذه الامة، وقليل من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللهم اجعلنا منهم بكرمك. وسموا قليلا بالإضافة إلى من كان قبلهم، لان الأنبياء المتقدمين كثروا فكثر السابقون إلى الايمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا. وقيل: لما نزل هذا شق على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلث أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني) رواه أبو هريرة، ذكره الماوردي وغيره. ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. وكأنه أراد أنها منسوخة والأشبه أنها محكمة لأنها خبر، ولان ذلك في جماعتين مختلفتين. قال الحسن: سابقو من مضي أكثر من سابقينا، فلذلك قال: (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقال في أصحاب اليمين وهم سوى السابقين: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إني لأرجو

أن تكون أمتي شطر أهل الجنة) ثم تلا قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [قال مجاهد: كل من هذه الامة. وروى سفيان عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الثلتان جميعا من أمتي) يعني (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ). وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو بكر رضي الله «1»] عنه: كلا الثلتين من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) «2». وقيل: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي من أول هذه الامة. (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) يسارع في الطاعات حتى يلحق درجة الأولين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم قرني) ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين. والثلة من ثللت الشيء أي قطعته، فمعنى ثلة كمعنى فرقة، قاله الزجاج. قوله تعالى: (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي السابقون في الجنة (عَلى سُرُرٍ)، أي مجالسهم على سرر جمع سرير. (مَوْضُونَةٍ) قال ابن عباس: منسوجة بالذهب. وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت. وعن ابن عباس أيضا: (مَوْضُونَةٍ) مصفوفة، كما قال في موضع آخر: (عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) «3». وعنه أيضا وعن مجاهد: مرمولة «4» بالذهب. وفي التفاسير: (مَوْضُونَةٍ أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد. والوضن النسج المضاعف والنضد، يقال: وضن فلان الحجر والآجر بعضه فوق بعض فهو موضون، ودرع موضونة أي محكمة في النسج مثل مصفوفة، قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة ... تساق مع الحي عيرا فعيرا
وقال أيضا:
وبيضاء كالنهي موضونة ... لها قونس فوق جيب البدن
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ح، ز، س، ل، هـ.
(2). راجع ج 14 آية (32)
(3). راجع ص 56 من هذا الجزء.
(4). مرمولة: منسوجة.

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

والسرير الموضون: الذي سطحه بمنزلة المنسوج، ومنه الوضين: بطان من سيور ينسج فيدخل بعضه في بعض، ومنه قوله:
إليك تعدو قلقا وضينها»

(مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) أي على السرر (مُتَقابِلِينَ) أي لا يرى بعضهم قفا بعض، بل تدور بهم الأسرة، وهذا في المؤمن وزوجته واهلة، أي يتكئون متقابلين. قاله مجاهد وغيره. وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت.

[سورة الواقعة (56): الآيات 17 الى 26]
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
قوله تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي غلمان لا يموتون، قاله مجاهد. الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس:
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرطون، يقال للقرط الخلدة ولجماعة الحلي الخلدة. وقيل: مسورون ونحوه عن الفراء، قال الشاعر:
ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز «2» الكثبان
__________
(1). الضمير يعود على الناقة، أراد أنها قد هزلت ودقت للسير عليها.
(2). الاقاوز جمع قوز وهو كثيب من الرمل صغير، شبه به أرداف النساء، فالإضافة البيان.

وقيل: مقرطون يعني ممنطقون من المناطق. وقال عكرمة: (مُخَلَّدُونَ) منعمون. وقيل: على سن واحدة أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم كما شاء من غير ولادة. وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري: الولدان ها هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة. وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع. والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم والولدان بالإنسان. (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) أكواب جمع كوب وقد مضى في (الزخرف) «1» وهي الآنية التي لا عرى لها ولا خراطيم، والأباريق التي لها عرى وخراطيم واحدها إبريق، سمي بذلك لأنه يبرق لونه من صفائه. (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) مضى في (والصافات) «2» القول فيه. والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون. وقيل: الظاهرة للعيون فيكون (مَعِينٍ) مفعولا من المعاينة. وقيل: هو فعيل من المعن وهو الكثرة. وبين أنها ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصر وتكلف ومعالجة. قوله تعالى: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي لا تنصدع رؤوسهم من شربها، أي إنها لذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا. (وَلا يُنْزِفُونَ) تقدم في (والصافات) أي لا يسكرون فتذهب عقولهم. وقرا مجاهد: (لا يُصَدَّعُونَ) بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون، كقوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ «3» يَصَّدَّعُونَ). وقرا أهل الكوفة (يُنْزِفُونَ) بكسر الزاي، أي لا ينفد شرابهم ولا تقنى خمرهم، ومنه قول الشاعر «4»:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
__________
(1). راجع ج 16 ص (112)
(2). راجع ج 15 ص (77)
(3). راجع ج 14 ص (42)
(4). هو الحطيئة وقد تقدم البيت في ج 15 ص 79

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، وقد ذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. قوله تعالى: (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي يتخيرون ما شاءوا لكثرتها. وقيل: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير الاختيار. (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما الكوثر؟ قال: (ذاك نهر أعطانيه الله تعالى- يعني في الجنة- أشد بياضا من اللبن أحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزر) قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أكلتها أحسن منها) «1» قال: حديث حسن. وخرجه الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها يا ولي الله رعيت في مروج تحت العرش وشربت من عيون التسنيم فكل مني فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فتخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطائر فطار يرعى في الجنة حيث شاء) فقال عمر: يا نبي الله إنها لنا عمة. فقال: (آكلها أنعم منها). وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن في الجنة لطيرا في الطائر منها سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لون طعام أبيض من الثلج وأبرد والين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه فيأكل منه ما أراد ثم يذهب فيطير (. قوله تعالى:) وَحُورٌ عِينٌ) قرئ بالرفع والنصب والجر، فمن جر وهو حمزة والكسائي وغيرهما جاز أن يكون معطوفا على (بِأَكْوابٍ) وهو محمول على المعنى، لان المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور، قاله الزجاج. وجاز أن يكون معطوفا على (جَنَّاتِ) أي هم في (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وفي حُورٌ على تقدير حذف المضاف، كأنه قال: وفي معاشرة
__________
(1). في نسخ الأصل: أكلتها أنعم منها. وما أثبتناه هو في صحيح الترمذي.

حور. الفراء: الجر على الاتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لان الحور لا يطاف بهن، قال الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا
والعين لا تزجج وإنما تكحل. وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
وقال قطرب: هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى. قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ويكون لهم في ذلك لذة. ومن نصب وهو الأشهب العقيلي والنخعي وعيسى بن عمر الثقفي وكذلك هو في مصحف أبي، فهو على تقدير إضمار فعل، كأنه قال: ويزوجون حورا عينا. والحمل في النصب على المعنى أيضا حسن، لان معنى يطاف عليهم به يعطونه. ومن رفع وهم الجمهور- وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم- فعلى معنى وعندهم حور عين، لأنه لا يطاف عليهم بالحور. وقال الكسائي: ومن قال: (وَحُورٌ عِينٌ) بالرفع وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في فاكهة ولحم، لان ذلك لا يطاف به وليس يطاف إلا بالخمر وحدها. وقال الأخفش: يجوز أن يكون محمولا على المعنى، لان المعنى لهم أكواب ولهم حور عين. وجاز أن يكون معطوفا على (ثُلَّةٌ) و(ثُلَّةٌ) ابتداء وخبره (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) وكذلك (وَحُورٌ عِينٌ) وابتدأ بالنكرة لتخصيصها بالصفة. (كَأَمْثالِ) أي مثل أمثال (اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي الذي لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه الغبار فهو أشد ما يكون صفاء وتلألؤا، أي هن في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن كما قال الشاعر:
كأنما خلقت في قشر لؤلؤة ... فكل أكنافها وجه لمرصاد
(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ثوابا ونصبه على المفعول له. ويجوز أن يكون على المصدر، لان معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) يجازون. وقد مضى الكلام في الحور العين في (والطور) «1» وغيرها. وقال أنس: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خلق الله الحور العين
__________
(1). راجع ص 65 من هذا الجزء وج 16 ص 152 [.....]

من الزعفران) وقال خالد بن الوليد: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن الرجل من أهل الجنة ليمسك التفاحة من تفاح الجنة فتنفلق في يده فتخرج منها حوراء لو نظرت للشمس لاخجلت الشمس من حسنها من غير أن ينقص من التفاحة) فقال له رجل: يا أبا سليمان إن هذا لعجب ولا ينقص من التفاحة؟ قال: نعم كالسراج الذي يوقد منه سراج آخر وسرج ولا ينقص، والله على ما يشاء قدير. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق «1» النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أدبرت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الأولياء (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). قوله تعالى: (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) قال ابن عباس: باطلا ولا كذبا. واللغو ما يلغى من الكلام، والتأثيم مصدر أثمته أي قلت له أثمت. محمد بن كعب: (وَلا تَأْثِيماً) أي لا يؤثم بعضهم بعضا. مجاهد: (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) شتما ولا مأثما. (إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) (قِيلًا) منصوب ب (يَسْمَعُونَ) أو استثناء منقطع أي لكن يقولون قيلا أو يسمعون. و(سَلاماً سَلاماً) منصوبان بالقول، أي إلا أنهم يقولون الخير. أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاما. أو يكون وصفا ل (قِيلًا)، والسلام الثاني بدل من الأول، والمعنى إلا قيلا يسلم فيه من اللغو. ويجوز الرفع على تقدير سلام عليكم. قال ابن عباس: أي يحيي بعضهم بعضا. وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل.
__________
(1). شقائق النعمان: نبات أحمر الزهر. الواحدة شقيقة النعمان.

وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

[سورة الواقعة (56): الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قوله تعالى: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة وهم السابقون على ما تقدم، والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه. (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أي في نبق قد خضد شوكه أي قطع، قاله ابن عباس وغيره. وذكر ابن المبارك: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: إنه لينفعنا الاعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوما، فقال: يا رسول الله! لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وما هي) قال: السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أو ليس يقول (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر (. وقال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى وج (وهو «1» واد بالطائف مخصب) فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة:
إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) وهو الموقر حملا. وهو قريب مما ذكرنا في الخبر. سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال. وقد مضى هذا في سورة
__________
(1). الذي في اللسان: وج موضع بالبادية. وقيل: بلد بالطائف، وقيل هي الطائف.

(النجم) «1» عند قوله تعالى: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) وأن ثمرها مثل قلال هجر من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله تعالى: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطلح شجر الموز واحده طلحة. قاله أكثر المفسرين علي وابن عباس وغيرهم. وقال الحسن: ليس هو موز ولكنه شجر له ظل بارد رطب. وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك، قال بعض الحداة «2» وهو الجعدي:
بشرها دليلها وقالا ... غدا ترين الطلح والاحبالا «3»
فالطلح كل شجر عظيم كثير الشوك. الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه. وقال الزجاج أيضا: كشجر أم غيلان [له «4»] نور طيب جدا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل. وقرا علي بن أبي طالب رضي عنه الله: (وطلع منضود) بالعين وتلا هذه الآية (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) «5» وهو خلاف المصحف. في رواية أنه قرئ بين يديه (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) ثم قال: (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) فقيل له: أفلا نحولها؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن ولا يحول. فقد اختار هذه القراءة ولم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه. قاله القشيري. وأسنده أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عباد قال: قرأت عند علي أو قرئت عند علي- شك مجالد- (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) فقال علي رضي الله عنه: ما بال الطلح؟ أما تقرأ (وَطَلْحٍ) ثم قال: (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) فقال له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟
__________
(1). راجع ص 94 وص 5 من هذا الجزء.
(2). كذا في الأصول (الحداة) بالحاء المهملة والذي في تفسير الطبري (الجداة) بالجيم.
(3). الاحبال جمع حبلة بالضم: ثمر السلم والبال والسمر أو ثمر العضاه عامة.
(4). زيادة يقتضيها السياق.
(5). راجع ج 13 ص 127

فقال: [لا «1» [لا يهاج القرآن اليوم. قال أبو بكر: ومعنى هذا أنه رجع إلى ما في المصحف وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الذي كان فرط من قوله. والمنضود المتراكب الذي ] قد «2» نضد أوله وآخره بالحمل، ليست له سوق بارزة بل هو مرصوص، والنضد هو الرص والمنضد المرصوص، قال النابغة:
خلت سبيل أتى كان يحبسه ... ورفعته إلى السجفين فالنضد
وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله، كلما أكل ثمرة عاد مكانها أحسن منها. قوله تعالى: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) وذلك بالغداة وهي ما بين الاسفار إلى طلوع الشمس حسب ما تقدم بيانه هناك «3». والجنة كلها ظل لا شمس معه. قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش. وقال عمرو بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة. وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود، وقال لبيد:
غلب العزاء وكنت غير مغلب ... دهر طويل دائم ممدود
وفي صحيح الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)
. (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) أي جار لا ينقطع واصل السكب الصب، يقال: سكبه سكبا، والسكوب انصبابه، يقال: سكب سكوبا، وانسكب انسكابا، أي وماء مصبوب يجرى الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار واطرادها.
__________
(1). زيادة من ب.
(2). زيادة من ب.
(3). راجع ج 13 ص 37.

قوله تعالى: (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم (لا مَقْطُوعَةٍ) أي في وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشاء (وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي لا يحظر عليها كثمار الدنيا. وقيل: (وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي لا يمنع من أرادها بشوك ولا بعد [ولا «1»] حائط، بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال الله تعالى: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) «2». وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. والله أعلم. قوله تعالى: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) روى الترمذي [عن أبي سعيد «3»] عن النبي صلى الله وسلم في قوله تعالى: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال: (ارتفاعها لكما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة) قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفرش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض. وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ولم يتقدم لهن ذكر، ولكن قوله عز وجل: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) دال، لأنها محل النساء، فالمعنى ونساء مرتفعات الاقدار في حسنهن وكمالهن، دليله قوله تعالى: (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) «4». ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني آدم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولان الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال: (منهن البكر والثيب). وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى: (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً) فقال: (يا أم سلمة هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطاء عمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء) أسنده النحاس عن أنس قال: حدثنا أحمد بن عمرو قال: حدثنا عمرو بن على قال: حدثنا أبو عاصم عن
__________
(1). زيادة من ب.
(2). راجع ج 19 ص 137.
(3). زيادة من ب.
(4). راجع ج 2 ص 316. [.....]

موسى بن عبيدة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رفعه (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال: (هن العجائز العمش الرمص كن في الدنيا عمشا رمصا). وقال المسيب بن شريك: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) [الآية «1»] قال: (هن عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا) فلما سمعت عائشة ذلك قالت: وأوجعاه! فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليس هناك وجع). (عُرُباً) جمع عروب. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: العرب العواشق لأزواجهن. وعن ابن عباس أيضا: إنها العروب الملقة. عكرمة: الغنجة. ابن زيد: بلغة أهل المدينة. ومنه قول لبيد:
وفى الخباء «2» عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر
وهي الشكلة «3» بلغة أهل مكة. وعن زيد بن أسلم أيضا: الحسنة الكلام. وعن عكرمة أيضا وقتادة: العرب المتحببات إلى أزواجهن، واشتقاقه من أعرب إذا بين، فالعروب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن كلام. وقيل: إنها الحسنة التبعل «4» لتكون ألذ استمتاعا. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عُرُباً) قال: (كلامهن عربي). وقرا حمزة وأبو بكر عن عاصم (عربا) بإسكان الراء. وضم الباقون وهما جائزان في جمع فعول. (أَتْراباً) على ميلاد واحد في الاستواء وسن واحدة ثلاث وثلاثين سنة. يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران. وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حد الصبا من النساء وانحطت عن الكبر. وقيل: (أَتْراباً) أمثالا وأشكالا، قاله مجاهد. السدي: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. قيل: الحور العين للسابقين، والأتراب العرب لأصحاب اليمين. قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) رجع الكلام إلى قوله تعالى: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي هم (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقد مضى الكلام في معناه. وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك:
__________ (1). زيادة من ب.
(2). في الديوان: (وفى الخروج) جمع الحرج، وهو الهودج.
(3). الشكلة (بفتح الشين وكسر الكاف): ذات الدل.
(4). أي مطاوعة لزوجها محبة له.

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) يعني من سابقي هذه الامة (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) من هذه الامة من آخرها، يدل عليه ما روي عن ابن عباس في هذه الآية (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هم جميعا من أمتي). وقال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان نصف من الأمم الماضية ونصف من هذه الامة. وهذا يرده ما رواه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن بريدة بن خصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الامة وأربعون من سائر الأمم). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. و(ثُلَّةٌ) رفع على الابتداء، أو على حذف خبر حرف الصفة، ومجازه: لأصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء. والأولون الأمم الماضية، والآخرون هذه الامة على القول الثاني.

[سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

قوله تعالى: (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) ذكر منازل أهل النار وسماهم أصحاب الشمال، لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاد والعذاب فقال: (ما أَصْحابُ الشِّمالِ. فِي سَمُومٍ) والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. والمراد هنا حر النار ولفحها. (وَحَمِيمٍ) أي ماء حار قد انتهى حره، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر فيجده حميما حارا في نهاية الحرارة والغليان. وقد مضى في (القتال) «1» (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وكذلك اليحموم في اللغة: الشديد السواد وهو يفعول من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار. وقيل: هو مأخوذ من الحمم وهو الفحم. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود. وعن ابن عباس أيضا: النار سوداء. وقال ابن زيد: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. (لا بارِدٍ) بل حار لأنه من دخان شفير جهنم. (وَلا كَرِيمٍ) عذب، عن الضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره، وكل مالا خير فيه فليس بكريم. وقيل: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي من النار يعذبون بها، كقوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ «2» ظُلَلٌ). (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) أي إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام. والمترف المنعم، عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: (مُتْرَفِينَ) أي مشركين. (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي يقيمون على الشرك، عن الحسن والضحاك وابن زيد. وقال قتادة ومجاهد: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه. الشعبي: هو اليمين الغموس وهى من الكبائر، يقال: حنث في يمينه أي لم يبرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لأبعث، وأن الأصنام أنداد الله فذلك حنثهم، قال الله تعالى مخبرا عنهم: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) «3». وفي الخبر:
__________
(1). راجع ج 16 ص 237.
(2). راجع ج 15 ص 243.
(3). راجع ج 10 ص 15.

كان يتحنث في حراء، أي يفعل ما يسقط عن نفسه الحنث وهو الذنب. (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا) هذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له، فقال الله تعالى: (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّ الْأَوَّلِينَ) من آبائكم (وَالْآخِرِينَ) منكم (لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يريد يوم القيامة. ومعنى الكلام القسم ودخول اللام في قول تعالى: (لَمَجْمُوعُونَ) هو دليل القسم في المعنى، أي إنكم لمجموعون قسما حقا خلاف قسمكم الباطل (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) بالبعث (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، وهي التي ذكرت في سورة (والصافات) «1». (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي من الشجرة، لان المقصود من الشجر شجرة. ويجوز أن تكون (مِنْ) الاولى زائدة، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا كأنه قال: (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) طعاما. وقوله: (مِنْ زَقُّومٍ) صفة لشجر، والصفة إذا قدرت الجار زائدا نصبت على المعنى، أو جررت على اللفظ، فإن قدرت المفعول محذوفا لم تكن الصفة إلا في موضع جر. قوله تعالى: (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) أي على الزقوم أو على الأكل أو على الشجر، لأنه يذكر ومؤنث. (مِنَ الْحَمِيمِ) وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار. أي يورثهم حرما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميما مغلي. قوله تعالى: (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قراءة نافع وعاصم وحمزة (شُرْبَ) بضم الشين. الباقون بفتحها لغتان جيدتان، تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا وشربا بضمتين. قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين وفتحها وكسرها، والفتح هو المصدر الصحيح، لان كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فعل، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة، فتقول: فعلة نحو شربة وبالضم الاسم. وقيل: إن المفتوح والاسم مصدران، فالشرب كالأكل، والشرب كالذكر، والشرب بالكسر المشروب كالطحن المطحون. والهيم الإبل العطاش التي
__________
(1). راجع ج 15 ص 85.

لا تروى لداء يصيبها، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم، وقال عكرمة أيضا: هي الإبل المراض. الضحاك: الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا، واحدها أهيم والأنثى هيماء. ويقال لذلك الداء الهيام، قال قيس بن الملوح:
يقال به داء الهيام أصابه ... وقد علمت نفسي مكان شفائها
وقوم هيم أيضا أي عطاش، وقد هاموا هياما. ومن العرب من يقول في الإبل: هائم وهائمة والجمع هيم، قال لبيد:
أجزت إلى معارفها بشعث «1» ... وأطلاح من العيدي هيم «2»
وقال الضحاك والأخفش وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. وروي أيضا عن ابن عباس: فيشربون شرب الرمال التي لا تروى بالماء. المهدوي: ويقال لكل مالا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء. وفي الصحاح: والهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق. والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى. يقال: ناقة هيماء. والهيماء أيضا المفازة لا ماء بها. والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه والجمع هيم مثل قذال وقذل. والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى. قوله تعالى: (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي رزقهم الذي يعد لهم، كالنزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم، وفية تهكم، كما في قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ»
أَلِيمٍ) وكقول أبي السعد الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وقرا يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو (هذا نُزُلُهُمْ) بإسكان الزاي، وقد مضى في آخر (آل عمران) «4» القول فيه. (يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء، يعني في جهنم
__________
(1). شعث: رجال ساءت حالهم من الجهد والسفر. وأطلاح: ابل مهازيل والواحد طليح. والعيدي: ابل منسوبة إلى فحل، ويقال منسوبة إلى قوم يقال لهم العيد.
(2). أي خففت وكسرت الهاء لأجل الياء.
(3). راجع ج 8 ص (128)
(4). راجع ج 4 ص 321

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)

[سورة الواقعة (56): الآيات 57 الى 62]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62)
قوله تعالى: (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي فهلا تصدقون بالبعث؟ لان الإعادة كالابتداء. وقيل: المعنى نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا؟ قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) أي ما تصبونه من المني في أرحام النساء. (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أي تصورون منه الإنسان (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) المقدرون المصورون. وهذا احتجاج عليهم وبيان للآية الاولى، أي إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث. وقرا أبو السمال ومحمد بن السميقع وأشهب العقيلي: (تمنون) بفتح التاء وهما لغتان أمنى ومنى، وأمذى ومذي، يمني ويمني ويمذي ويمذي. الماوردي: ويحتمل أن يختلف معناها عندي، فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل عن الاحتلام. وفي تسمية المني منيا وجهان: أحدهما لأمنائه وهو إراقته. الثاني لتقديره، ومنه المنا الذي يوزن به لأنه مقدار لذلك، كذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة. قوله تعالى: (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) احتجاج أيضا، أي الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث. وقرا مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير (قدرنا) بتخفيف الدال. الباقون بالتشديد، قال الضحاك: أي سوينا بين أهل السماء واهل الأرض. وقيل: قضينا. وقيل: كتبنا، والمعنى متقارب، فلا أحد يبقى غيره عز وجل. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أي إن أردنا أن نبدل أمثالكم لم يسبقنا أحد، أي لم يغلبنا. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) معناه بمغلوبين. وقال الطبري: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)

في آجالكم، أي لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم. (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ)
من الصور والهيئات. قال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم. وقيل: المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، فيجمل المؤمن ببياض وجهه، ويقبح الكافر بسواد وجهه. سعيد بن جبير «1»: قوله تعالى: (فِي ما لا تَعْلَمُونَ)
يعني في حواصل طير سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف، وبرهوت واد في اليمن. وقال مجاهد: (فِي ما لا تَعْلَمُونَ)
في أي خلق شئنا. وقيل: المعنى ننشئكم في عالم لا تعلمون، وفي مكان لا تعلمون. قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ) أي إذ خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم تكونوا شيئا، عن مجاهد وغيره. قتادة والضحاك: يعني خلق آدم عليه السلام. (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي فهلا تذكرون. وفى الخبر: عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الاولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار. وقراءة العامة (النشأة) بالقصر. وقرا مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو: (النشاءة) بالمد، وقد مضى في (العنكبوت) «2» بيانه.

[سورة الواقعة (56): الآيات 63 الى 67]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) هذه حجة أخرى، أي أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر، أنتم تنبتونه وتحصلونه زرعا فيكون فيه السنبل والحب أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشق الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟! وأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى، لان الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى
__________
(1). في ب: (سعيد بن المسيب).
(2). راجع ج 13 ص 337 [.....]

وينبت على اختياره لا على اختيارهم. وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو الله) قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله تعالى: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ). والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صلي على محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا رب العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك، سمعناه من ثقة وجرب فوجد كذلك. ومعنى (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي تجعلونه [زرعا «1»]. وقد يقال: فلان زراع كما يقال حراث، أي يفعل ما يئول إلى أن يكون زرعا يعجب الزراع. وقد يطلق لفظ الزرع على بذر الأرض وتكريبها تجوزا. قلت: فهو نهي إرشاد [وأدب «2»] لا نهي حظر وإيجاب، ومنه قوله عليه السلام: (لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتأتي) وقد مضى في (يوسف) «3» القول فيه. وقد بالغ بعض العلماء فقال: لا يقل حرثت فأصبت، بل يقل: أعانني الله فحرثت، وأعطاني بفضله ما أصبت. قال الماوردي: وتتضمن هذه الآية أمرين، أحدهما- الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم. الثاني- البرهان الموجب للاعتبار، لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره، وانتقاله إلى استواء حاله من العفن والتتريب حتى صار زرعا أخضر، ثم جعله قويا مشتدا أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من أمات أخف عليه وأقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة. ثم قال (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي متكسرا يعني الزرع. والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبه بذلك أيضا على أمرين: أحدهما- ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاما ليشكروه. الثاني- ليعتبروا بذلك في أنفسهم، كما أنه يجعل
__________
(1). زيادة يقتضيها السياق.
(2). الزيادة: من ب، ز، ح، س، ل، هـ.
(3). راجع ج 9 ص 194

الزرع حطاما إذا شاء، وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا. (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي تعجبون بذهابها وتندمون مما حل بكم، قاله الحسن وقتادة وغيرهما. وفي الصحاح: وتفكه أي تعجب، ويقال: تندم، قال الله تعالى: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي تندمون. وتفكهت بالشيء تمتعت به. وقال يمان: تندمون على نفقاتكم، دليله: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ «1» فِيها). وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم حتى نالتكم في زرعكم. ابن كيسان: تحزنون، والمعنى متقارب. وفية لغتان: تفكهون وتفكنون: قال الفراء: والنون لغة عكل. وفي الصحاح: التفكن التندم على ما فات. وقيل: التفكه التكلم فيما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاج فكاهة بالضم، فأما الفكاهة بالفتح فمصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. وقراءة العامة (فَظَلْتُمْ) بفتح الظاء. وقرا عبد الله (فظلتم) بكسر الظاء ورواها هرون عن حسين عن أبي بكر. فمن فتح فعلى الأصل، والأصل ظللتم فحذف اللام الاولى تخفيفا، ومن كسر نقل كسرة اللام الاولى إلى الظاء ثم حذفها. (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) وقرا أبو بكر والمفضل (أينا) بهمزتين على الاستفهام، ورواه عاصم عن زر بن حبيش. الباقون بهمزة واحدة على الخبر، أي يقولون (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي معذبون، عن ابن عباس وقتادة قالا: والغرام العذاب، ومنه قول ابن المحلم:
وثقت بأن الحفظ مني سجية ... وأن فؤادي متبل بك مغرم
وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا، ومنه قول النمر بن تولب:
سلا عن تذكره تكتما «2» ... وكان رهينا بها مغرما
يقال: أغرم فلان بفلانة، أي أولع بها ومنه الغرام وهو الشر اللازم. وقال مجاهد أيضا: لملقون شرا. وقال مقاتل بن حيان: مهلكون. النحاس: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) مأخوذ من الغرام وهو الهلاك، كما قال «3»:
يوم النسار ويوم الجفا ... ر كانا عذابا وكانا غراما
__________
(1). راجع ج 10 ص (409)
(2). تكتم: اسم من يشبب بها.
(3). قائله بشر بن أبى خازم. النسار موضع وقيل: هو ماء لبنى عامر. والجفار: موضع وقيل: هو ماء لبنى تميم. ويوم النسار ويوم الجفار: يومان من أيام العرب مشهوران.

أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

الضحاك وابن كيسان: هو من الغرم، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، أي غرمنا الحب الذي بذرناه. وقال مرة الهمداني: محاسبون. (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي حرمنا ما طلبنا من الريع. والمحروم الممنوع من الرزق. والمحروم ضد المرزوق وهو المحارف في قول قتادة. وعن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بأرض الأنصار فقال: (ما يمنعكم من الحرث) قالوا: الجدوبة، فقال: (لا تفعلوا فإن الله تعالى يقول أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر) ثم تلا (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ). قلت: وفي هذا الخبر والحديث الذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزارع في أسماء الله سبحانه، وأباه الجمهور من العلماء، وقد ذكرنا ذلك في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى).

[سورة الواقعة (56): الآيات 68 الى 74]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم، لان الشراب إنما يكون تبعا للمطعوم، ولهذا جاء الطعام مقدما في الآية قبل، ألا ترى أنك تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. الزمخشري: ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:
إذا سقيت ضيوف الناس محضا ... سقوا أضيافهم شبما زلالا «1»
وسقي بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة. (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) أي السحاب، الواحدة مزنة، فقال الشاعر:
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل «2»
__________
(1). المحض: اللبن الخالص: والماء الشبم: البارد.
(2). نصاب كل شي: أصله. ورجل كهام وكهيم: ثقيل، لا غناء عنده.

وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المزن السحاب. وعن ابن عباس أيضا والثوري: المزن السماء والسحاب. وفي الصحاح: أبو زيد: المزنة السحابة البيضاء والجمع مزن، والمزنة المطرة، قال:
ألم تر أن الله أنزل مزنة ... وعفر الظباء في الكناس تقمع «1»
(أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) أي فإذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي؟ ولم تنكرون قدرتي على الإعادة؟. (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) أي ملحا شديد الملوحة، قاله ابن عباس. الحسن: مرا قعاعا «2» لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما. (فَلَوْ لا) أي فهلا تشكرون الذي صنع ذلك بكم. قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) يعني التي تكون منها الزناد وهى المرخ والعفار، ومنه قولهم: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، أي استكثر منها، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما. ويقال: لأنهما يسرعان الوري. يقال: أوريت النار إذا قدحتها. ووري الزند يري إذا انقدح منه النار. وفية لغة أخرى: ووري الزند يري بالكسر فيهما. (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي المخترعون الخالقون، أي فإذا عرفتم قدرتي فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث. قوله تعالى: (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى، قال قتادة. ومجاهد: تبصرة للناس من الظلام. وصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم) فقالوا يا رسول الله: أن كانت لكافية، قال: (فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها). (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) قال الضحاك: أي منفعة للمسافرين، سموا بذلك لنزولهم القوى وهو القفر. الفراء: إنما يقال
__________
(1). البيت لأوس بن حجر. وتقمع: تحرك رءوسها لتطرد القمعة وهى ذباب أزرق يدخل في أنوف الدواب.
(2). في ل: (زعاقا) ومعنا هما واحد، وهو الماء الشديد المرارة والملوحة.

للمسافرين: مقوين إذا نزلوا القي وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. وكذلك القوى والقواء بالمد والقصر، ومنزل قواء لا أنيس به، يقال: أقوت الدار وقويت أيضا أي خلت من سكانها، قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
ويقال: أقوى أي قوي وقوى أصحابه، وأقوى إذا سافر أي نزل القواء والقي. وقال مجاهد: (لِلْمُقْوِينَ) المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها. وقال ابن زيد: للجائعين في، إصلاح طعامهم. يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئا، وبات فلان القواء وبات القفر إذا بات جائعا على غير طعم، قال الشاعر «1»:
وإني لاختار القوى طاوي الحشى ... محافظة من أن يقال لئيم
وقال الربيع والسدي: (المقوين) المنزلين [الذين «2»] لا زناد معهم، يعني نارا يوقدون فيختبزون بها؟ ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال قطرب: المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني، يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. المهدوي: والآية تصلح للجميع، لان النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير. وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الأول. القشيري: وخص المسافر بالانتفاع بها لان انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم، لان أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلا لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم. قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.
__________
(1). هو حاتم طى.
(2). زيادة من ب.

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)

[سورة الواقعة (56): الآيات 75 الى 80]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ) (فَلا) صلة في قول أكثر المفسرين، والمعنى فأقسم، بدليل قوله: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ). وقال الفراء: هي نفي، والمعنى ليس الامر كما تقولون، ثم أستأنف (أُقْسِمُ). وقد يقول الرجل: لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدم. أي ليس الامر كما ذكرت، بل هو كذا. وقيل: (فَلا) بمعنى إلا للتنبيه كما قال «1»:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي

ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا. وقرا الحسن وحميد وعيسى بن عمر (فلأقسم) بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حال ويقدر مبتدأ محذوف، التقدير: فلانا أقسم بذلك. ولو أريد به الاستقبال للزمت النون، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ. الثانية- قوله تعالى: (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) مواقع النجوم مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره. عطاء بن أبي رباح: منازلها. الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة. الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا. الماوردي: ويكون قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ) مستعملا على حقيقته من نفي القسم. القشيري: هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة.
__________
(1). قائله امرؤ القيس، وتمامة:
وهل ينعمن من كان في العصر الخالي

قلت: يدل على هذا قراءة الحسن (فلأقسم) وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه. وقال ابن عباس: المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة، فهو ينزله على الأحداث من أمته، حكاه الماوردي عن ابن عباس والسدي. وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل ابن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا همام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل إلى الأرضي نجوما، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر، فذلك قول الله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن. وقرا حمزة والكسائي (بموقع) على التوحيد، وهي قراءة عبد الله ابن مسعود والنخعي والأعمش وابن محيصن ورويس عن يعقوب. الباقون على الجمع، فمن أفرد فلانه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع، ومن جمع فلاختلاف أنواعه. الثالثة- قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) قيل: إن الهاء تعود على القرآن، أي إن القرآن لقسم عظيم، قال ابن عباس وغيره. وقيل: ما أقسم الله به عظيم (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ذكر المقسم عليه، أي أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربهم، وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء، لأنه تنزيل ربهم ووحيه. وقيل: (كَرِيمٌ) أي غير مخلوق. وقيل: (كَرِيمٌ) لما فيه من كريم الأخلاق ومعاني الأمور. وقيل: لأنه يكرم حافظه، ويعظم قارئه. الرابعة- قوله تعالى: (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) مصون عند الله تعالى. وقيل: مكنون محفوظ عن الباطل. والكتاب هنا كتاب في السماء، قاله ابن عباس. وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضا: هو اللوح المحفوظ. عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر

القرآن ومن ينزل عليه. السدي: الزبور. مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا. الخامسة- قوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) اختلف في معنى (لا يَمَسُّهُ) هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في (الْمُطَهَّرُونَ) من هم؟ فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أنها بمنزلة الآية التي في (عبس وتولى)َمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ)
«1» يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة (عبس). وقيل: معنى (لا يَمَسُّهُ) لا ينزل به (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري. ابن العربي: وهذا باطل لان الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال. وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل، وهو اختيار مالك. وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونسخته: (من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد) وكان في كتابه: ألا يمس القرآن إلا طاهر. وقال ابن عمر: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر). وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
__________
(1). راجع ج 19 ص 213 [.....]

فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة (طه) «1». وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من الأحداث والأنجاس. الكلبي: من الشرك. الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا. وقيل: معنى (لا يَمَسُّهُ) لا يقرؤه (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) إلا الموحدون، قاله محمد بن فضيل وعبدة. قال عكرمة: كان ابن عباس ينهى أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن. وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن. ابن العربي: وهو اختيار البخاري، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا). وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع، أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي. وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الامر. وقد مضى هذا المعنى في سورة (البقرة) «2». المهدوي: يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب. ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة السين ضمة بناء والفعل مجزوم. السادسة- واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم. وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد ابن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. أبن العربي: وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه، لان حريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمرو
__________
(1). راجع ج 11 ص (163)
(2). راجع ج 3 ص 91

أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)

ابن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بملاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن، لان تعلمه «1» حال الصغر، ولان الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لان النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا. السابعة- قوله تعالى: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي منزل، كقولهم: ضرب الأمير ونسج اليمن. وقيل: (تَنْزِيلٌ) صفة لقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). وقيل: أي هو تنزيل.

[سورة الواقعة (56): الآيات 81 الى 87]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)
فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)
قوله تعالى: (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي مكذبون، قاله ابن عباس وعطاء وغيرهما. والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبه بالدهن في سهولة ظاهره. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مدهنون كافرون، نظيره: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) «2». وقال المؤرج: المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره،
__________
(1). في ب، ح، ز، س، هـ: (لان حال تعلمه حال الصغر).
(2). راجع ج 18 ص 230

والادهان والمداهنة التكذيب والكفر والنفاق، وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر، وقال أبو قيس بن الأسلت:
الحزم والقوة خير من ... الا دهان والفهة والهاع «1»
وأدهن وداهن واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى وأريت وأدهنت بمعنى غششت. وقال الضحاك: (مُدْهِنُونَ) معرضون. مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر به. ابن كيسان: المدهن الذي لا يعقل ما حق الله عليه ويدفعه بالعلل. وقال بعض اللغويين: مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن. قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال ابن عباس: تجعلون شكركم التكذيب. وذكر الهيثم بن عدي: أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان؟ أي ما شكره. وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان شكره، لان شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقا على هذا المعنى. فقيل: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقا لكم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) بالرزق أن تضعون الكذب مكان الشكر، كقوله تعالى: (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) «2» أي لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة. ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسبابا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذللا. وروي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) حقيقة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مطرنا بنوء كذا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا
__________
(1). الفهة: العي. والهاع هنا: سوء الحرص مع ضعف.
(2). راجع ج 7 ص 400

هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ- حتى بلغ-) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ. وعنه أيضا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج في سفر فعطشوا فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أرأيتم أن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون هذا المطر بنوء كذا) فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي شكركم لله على رزقه إياكم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) بالنعمة وتقولون سقينا بنوء كذا، كقولك: جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي، وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوا. وفي الموطأ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر «1» سماء كانت من الليل، فلما أنصرف أقبل على الناس وقال: (أتدرون ماذا قال ربكم) قالوا: الله ورسول أعلم، قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك مؤمن بالكوكب كافر بي (. قال الشافعي رحمه الله: لا أحب أحدا أن يقول مطرنا بنوء كذا وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما تقول مطرنا شهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عني بعض أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب. وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن الله سبحانه: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) فمعناه عندي على وجهين: أما أحدهما فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرا صريحا «2» يجب استتابته عليه وقتله [إن «3» أبى ] لنبذه الإسلام ورده القرآن. والوجه الآخر أن
__________
(1). على اثر سماء: أي بعد مطر. وفى (اثر) لغتان: كسر الهمزة وسكون الثاء وفتحهما.
(2). في ب: (صراحا).
(3). زيادة يقتضيها السياق.

يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجها مباحا، فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عز وجل، وجهلا بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة بنوء كذا، وكثيرا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شي من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النوء. وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو: (ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) «1» قال أبو عمر: وهذا عندي نحو قول وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مطرنا بفضل الله ورحمته). ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبد المطلب حين استسقى به: يا عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد سقوطها. فما مضت سابعة حتى مطروا، فقال عمر: الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته. وكان عمر رحمه الله قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل فسأله عنه أخرج أم بقيت منه بقية؟. وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلا في بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كذبت بل هو سقيا الله عز وجل) قال سفيان: عثانين الأسد الذراع والجبهة. وقراءة العامة (تكذبون) من التكذيب. وقرا المفضل عن عاصم ويحيي بن وثاب (تكذبون) بفتح التاء مخففا. ومعناه ما قدمناه من قول من قال: مطرنا بنوء كذا. وثبت من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر في الأحساب والنياحة والأنواء) ولفظ مسلم في هذا (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة). قوله تعالى: (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الحلقوم. ولم يتقدم لها ذكر، لان المعنى معروف، قال حاتم.
أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
__________
(1). راجع ج 14 ص 321

وفي حديث: (إن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق يجمعون الروح شيئا فشيئا حتى ينتهى بها إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت). (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) أمرى وسلطاني. وقيل: تنظرون إلى الميت لا تقدرون له على شي. وقال ابن عباس: يريد من حضر من أهل الميت ينتظرون متى تخرج نفسه. ثم قيل: هو رد عليهم في قولهم لإخوانهم (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) «1» أي فهل ردوا روح الواحد منهم إذا بلغت الحلقوم. وقيل: المعنى فهلا إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده، مع حرصكم على امتداد عمره، وحبكم لبقائه. وهذا ردا لقولهم: (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) «2». وقيل: هو خطاب لمن هو في النزع، أي إن لم يك ما بك من الله فهلا حفظت على نفسك الروح. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي بالقدرة والعلم والرؤية. قال عامر بن عبد القيس: ما نظر إلى شي إلا رأيت الله تعالى أقرب إلى منه. وقيل: أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي لا ترونهم. قوله تعالى: (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم، ومنه قوله تعالى: (إِنَّا لَمَدِينُونَ) أي مجزيون محاسبون. وقد تقدم «3». وقيل: غير مملوكين ولا مقهورين. قال الفراء وغيره: دنته ملكته، وأنشد للحطيئة:
لقد دنيت «4» أمر بنيك حتى ... تركتهم أدق من الطحين
يعنى ملكت. ودانه أي أذله واستعبده، يقال: دنته فدان. وقد مضى في (الفاتحة)»
القول في هذا عند قوله تعالى: (يَوْمِ الدِّينِ). (تَرْجِعُونَها) ترجعون الروح إلى الجسد. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ولن ترجعوها فبطل زعمكم أنكم غير مملوكين ولا محاسبين. و(تَرْجِعُونَها) جواب لقوله تعالى: (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ولقوله: (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ)
__________
(1). راجع ج 4 ص (246)
(2). راجع ج 16 ص (170)
(3). راجع ج 15 ص (82)
(4). ويروى سوست، يخاطب أمه. [.....]
(5). راجع ج 1 ص 143.

فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

أجيبا بجواب واحد، قاله الفراء. وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) «1» أجيبا بجواب واحد وهما شرطان. وقيل: حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقيل: فيها تقديم وتأخير، مجازها: فلولا وهلا إن كنتم غير مدينين ترجعونها، تردون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم.

[سورة الواقعة (56): الآيات 88 الى 96]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
قوله تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ذكر طبقات الخلق عند الموت وعند البعث، وبين درجاتهم فقال: (فَأَمَّا إِنْ كانَ) هذا المتوفى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وهم السابقون. (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) وقراءة العامة (فَرَوْحٌ) بفتح الراء ومعناه عند ابن عباس وغيره: فراحة من الدنيا. وقال الحسن: الروح الرحمة. الضحاك: الروح الاستراحة. القتبي: المعنى له في القبر طيب نسيم. وقال أبو العباس بن عطاء: الروح النظر إلى وجه الله، والريحان الاستماع لكلامه ووحيه، (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) هو ألا يحجب فيها عن الله عز وجل. وقرا الحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري ورويس وزيد عن يعقوب (فروح) بضم الراء، ورويت عن ابن عباس. قال الحسن: الروح الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقالت عائشة رضي الله عنها: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فروح) بضم الراء ومعناه فبقاء له وحياة
__________
(1). راجع ج 1 ص 327

في الجنة وهذا هو الرحمة. (وَرَيْحانٌ) قال مجاهد وسعيد بن جبير: أي رزق. قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه، قال النمر بن تولب:
سلام الاله وريحانه ... ورحمته وسماء درر
وقال قتادة: إنه الجنة. الضحاك: الرحمة. وقيل هو الريحان المعروف الذي يشم. قاله الحسن وقتادة أيضا. الربيع بن خيثم: هذا عند الموت والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث. أبو الجوزاء: هذا عند قبض روحه يتلقى بضبائر الريحان. أبو العالية: لا يفارق أحد روحه من المقربين في الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان فيشمهما ثم يقبض روحه فيهما، واصل ريحان واشتقاقه تقدم في أول سورة (الرحمن) «1» فتأمله. وقد سرد الثعلبي في الروح والريحان أقوالا كثيرة سوى ما ذكرنا من أرادها وجدها هناك. قوله تعالى: (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي (إِنْ كانَ) هذا المتوفى (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي لست ترى منهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم لهم، فإنهم يسلمون من عذاب الله. وقيل: المعنى سلام لك منهم، أي أنت سالم من الاغتمام لهم. والمعنى واحد. وقيل: أي إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم. وقيل: المعنى إنهم يسلمون عليك يا محمد. وقيل: معناه سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين، فحذف إنك. وقيل: إنه يحيا بالسلام إكراما، فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت، قاله الضحاك. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقد مضى هذا في سورة (النحل) «2» عند قوله تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ). الثاني عند مساءلته في القبر يسلم عليه منكر ونكير. الثالث عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها.
__________
(1). راجع ص 157 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 10 ص 101

قلت: وقد يحتمل أن تسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراما بعد إكرام. والله أعلم. وجواب (إِنْ) عند المبرد محذوف التقدير مهما يكن من شي (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) إن كان من أصحاب اليمين (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) فحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه، كما حذف الجواب في نحو قولك أنت ظالم إن فعلت، لدلالة ما تقدم عليه. ومذهب الأخفش أن الفاء جواب (أَمَّا) و(إِنْ)، ومعنى ذلك أن الفاء جواب (أَمَّا) وقد سدت مسد جواب (إِنْ) على التقدير المتقدم، والفاء جواب لهما على هذا الحد. ومعنى (أَمَّا) عند الزجاج: الخروج من شي إلى شي، أي دع ما كنا فيه وخذ في غيره. قوله تعالى: (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) بالبعث (الضَّالِّينَ) عن الهدى وطريق الحق (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي فلهم رزق من حميم، كما قال: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ) وكما قال: (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ «1» حَمِيمٍ) (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) إدخال في النار. وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه، أي جعله يصلاها والمصدر هاهنا أضيف إلى المفعول، كما يقال: لفلان إعطاء مال أي يعطى المال. وقرى (وتصلية) بكسر التاء أي ونزل من تصلية جحيم. ثم أدغم أبو عمرو التاء في الجيم وهو بعيد. (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي هذا الذي قصصناه محض اليقين وخالصه. وجاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما. قال المبرد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين، فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين. وعند البصريين حق الامر اليقين أو الخبر اليقين. وقيل: هو توكيد. وقيل: أصل اليقين أن يكون نعتا للحق فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز، كقوله: (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) «2» وقال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزه الله تعالى عن السوء. والباء زائدة أي سبح اسم ربك، والاسم المسمى. وقيل:
__________
(1). راجع ج 15 ص (87)
(2). راجع ج 9 ص 275

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)

(فَسَبِّحْ) أي فصل بذكر ربك وبأمره. وقيل: فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجعلوها في ركوعكم) ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجعلوها في سجودكم) خرجه أبو داود. والله أعلم.

[تفسير سورة الحديد]
سورة الحديد مدنية في قول الجميع، وهى تسع وعشرون آية عن العرباض بن سارية أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: (إن فيهن آية أفضل من ألف آية) يعني بالمسبحات (الحديد) و(الحشر) و(الصف) و(الجمعة) و(التغابن).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مجد الله ونزهه عن السوء. وقال ابن عباس: صلى لله (ما فِي السَّماواتِ) ممن خلق من الملائكة (وَالْأَرْضِ) من شي فيه روح أولا رو فيه. وقيل: هو تسبيح الدلالة. وأنكر الزجاج هذا وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) «1» وإنما هو تسبيح مقال. واستدل بقوله تعالى: (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) «2» فلو كان هذا تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود؟!
__________
(1). راجع ج 10 ص (266)
(2). راجع ج 11 ص 307

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

قلت: وما ذكره هو الصحيح، وقد مضى بيانه والقول فيه في (سبحان) «1» عند قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). قوله تعالى: أي أنفرد بذلك. والملك عبارة عن الملك ونفوذ الامر فهو سبحانه الملك القادر القاهر. وقيل: أراد خزائن المطر والنبات وسائر الرزق. (يُحْيِي وَيُمِيتُ) يميت الأحياء في الدنيا ويحيى الأموات للبعث. وقيل: يحيي النطف وهي موات ويميت الأحياء. وموضع (يُحْيِي وَيُمِيتُ) رفع على معنى وهو يحيى ويميت. ويجوز أن يكون نصبا بمعنى (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) محييا ومميتا على الحال من المجرور في (لَهُ) والجار عاملا فيها. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي الله لا يعجزه شي. قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أختلف في معاني هذه الأسماء وقد بيناها في الكتاب الأسنى. وقد شرحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرحا يغني عن قول كل قائل، فقال في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شي وأنت الآخر فليس بعدك شي وأنت الظاهر فليس فوقك شي وأنت الباطن فليس دونك شي اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) عنى بالظاهر الغالب، وبالباطن العالم، والله أعلم. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بما كان أو يكون فلا يخفى عليه شي.

[سورة الحديد (57): الآيات 4 الى 6]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
__________
(1). راجع ج 10 ص 266 فما بعد.

قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم في (الأعراف) «1» مستوفى. قوله تعالى: (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي يدخل فيها من مطر وغيره (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من نبات وغيره (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من رزق ومطر وملك (وَما يَعْرُجُ فِيها) يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد (وَهُوَ مَعَكُمْ) يعني بقدرته وسلطانه وعلمه (أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يبصر أعمالكم ويراها ولا يخفى عليه شي منها. وقد جمع في هذه الآية بين (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وبين (وَهُوَ مَعَكُمْ) والأخذ بالظاهرين تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل، والاعراض عن التأويل اعتراف بالتناقض. وقد قال الامام أبو المعالي: إن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الاسراء لم يكن بأقرب إلى الله عز وجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت. وقد تقدم. قوله تعالى: (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا التكرير للتأكيد أي هو المعبود على الحقيقة (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي أمور الخلائق في الآخرة. وقرا الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة والكسائي وخلف (ترجع) بفتح التاء وكسر الجيم. الباقون (تُرْجَعُ). قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) تقدم في (آل عمران) «2». (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي لا تخفى عليه الضمائر، ومن كان بهذه الصفة فلا يجوز أن يعبد من سواه.
__________
(1). راجع ج 7 ص 218.
(2). راجع ج 4 ص 56.

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)

[سورة الحديد (57): الآيات 7 الى 9]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
قوله تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي صدقوا أن الله واحد وأن محمدا رسوله (وَأَنْفِقُوا) تصدقوا. وقيل أنفقوا في سبيل الله. وقيل: المراد الزكاة المفروضة. وقيل: المراد غيرها من وجوه الطاعات وما يقرب منه (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة. فمن أنفق منها في حقوق الله وهان عليه الإنفاق منها، كما يهون عل الرجل، النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم. وقال الحسن: (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم. وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم. (فَالَّذِينَ آمَنُوا) وعملوا الصالحات (مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) في سبيل الله (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو الجنة. قوله تعالى: (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) استفهام يراد به التوبيخ. أي أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل؟! (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) بين بهذا أنه لا حكم قبل ورود الشرائع. وقرا أبو عمرو: (وقد أخذ ميثاقكم) على غير مسمى الفاعل. والباقون على مسمى الفاعل، أي أخذ الله ميثاقكم. قال مجاهد: هو الميثاق الأول الذي كان وهم في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه. وقيل: أخذ ميثاقكم بأن ركب فيكم العقول، وأقام عليكم الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إذ كنتم. وقيل:

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

أي إن كنتم مؤمنين بالحجج والدلائل. وقيل: أي إن كنتم مؤمنين بحق يوما من الأيام، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والاعلام ببعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد صحت براهينه. وقيل: إن كنتم مؤمنين بالله خالقكم. وكانوا يعترفون بهذا. وقيل: هو خطاب لقوم آمنوا واخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميثاقهم فارتدوا. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم تقرون بشرائط الايمان. قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ) يريد القرآن. وقيل: المعجزات، أي لزمكم الايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما معه من المعجزات، والقرآن أكبرها وأعظمها. (لِيُخْرِجَكُمْ) أي بالقرآن. وقيل: بالرسول. وقيل: بالدعوة. (مِنَ الظُّلُماتِ) وهو الشرك والكفر (إِلَى النُّورِ) وهو الايمان. (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

[سورة الحديد (57): آية 10]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي شي يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم وهي صائرة إلى الله تعالى. فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق. (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنهما راجعتان إليه بانقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له. الثانية- قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح مكة. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة:

كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك. وفي الكلام حذف، أي (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لان حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والأجر على قدر النصب. والله أعلم. الثالثة- روى أشهب عن مالك قال: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم، وقد قال الله تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) وقال الكلبي: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ففيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه، لأنه أول من أسلم. وعن ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أبن عمر قال: كنت عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده أبو بكر وعليه عبادة قد خللها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال: يا نبي الله! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ فقال: (قد أنفق علي ماله قبل الفتح) قال: فإن الله يقول لك اقرأ على أبي بكر السلام وقل له أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط)؟ فقال أبو بكر: أأسخط على ربي؟ إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! قال: (فإن الله يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راض) فبكى أبو بكر فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك يا محمد بالحق، لقد تخللت حملة العرش بالعبي منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة، ولهذا قدمته الصحابة عل أنفسهم، وأقروا له بالتقدم والسبق. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سبق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلي «1» أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة. فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ.
__________
(1). السابق: الأول. والمصلى: الثاني.

الرابعة- التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننزل الناس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) الحديث. وقال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) وقال: (وليؤمكما أكبركما) من حديث مالك بن الحويرث وقد تقدم. وفهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الولاء للكبر) ولم يعن كبر السن. وقد قال مالك وغيره: إن للسن حقا. وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة، لأنه إذا أجتمع العلم والسن في خيرين قدم العلم، وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا. وفي الآثار: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه). ومن الحديث الثابت في الافراد: (ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه). وأنشدوا «1»:
يا عائبا للشيوخ من أشر ... داخله في الصبا ومن بذخ
اذكر إذا شئت أن تعيرهم ... جدك واذكر أباك يا بن أخ
وأعلم بأن الشباب منسلخ ... عنك وما وزره بمنسلخ
من لا يعز الشيوخ لا بلغت ... يوما به سنه إلى الشيخ
الخامسة- قوله تعالى: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ) أي المتقدمون المتناهون السابقون، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرا ابن عامر (وكل) بالرفع، وكذلك هو بالرفع في مصاحف أهل الشام. الباقون (وَكُلًّا) بالنصب على ما في مصافحهم، فمن نصب فعلى إيقاع الفعل عليه أي وعد الله كلا الحسنى. ومن رفع فلان المفعول إذا تقدم ضعف عمل الفعل، والهاء محذوفة من وعده.
__________
(1). هو لابن عبد الصمد السرقسطي كما في (أحكام القرآن) لابن العربي.

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

[سورة الحديد (57): الآيات 11 الى 12]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) ندب إلى الإنفاق في سبيل الله. وقد مضى في (البقرة) «1» القول فيه. والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا: قد أقرض، كما قال «2»:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل
وسمي قرضا، لان القرض أخرج لاسترداد البدل. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة. قال الكلبي: (قَرْضاً) أي صدقة (حَسَناً) أي محتسبا من قلبه بلا من ولا أذى. (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الاضعاف. وقيل: القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، رواه سفيان عن أبي «3» حيان. وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل. الحسن: التطوع بالعبادات. وقيل: إنه عمل الخير، والعرب تقول: لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء. القشيري: والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة، وأن يكون من الحلال. ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه، لقوله تعالى: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) «4»
__________
(1). راجع ج 3 ص (237) [.....]
(2). قائله لبيد، ومعنى البيت: إذا أسدى إليك معروف فكافى عليه.
(3). كل نسخ الأصل بلفظ أبى حيان والظاهر أن صوابه: ابن حيان.
(4). راجع ج 3 ص 325

وأن يتصدق في حال يأمل الحياة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن أفضل الصدقة فقال: (أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا) وأن يخفي صدقته، لقوله تعالى: (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) «1» وألا يمن، لقوله تعالى: و(لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) «2» وأن يستحقر كثير ما يعطي، لان الدنيا كلها قليلة، وأن يكون من أحب أمواله، لقوله تعالى: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا «3» تُحِبُّونَ) وأن يكون كثيرا، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها). (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) وقرا ابن كثير وابن عامر (فيضعفه) بإسقاط الالف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرا نافع واهل الكوفة والبصرة (فيضاعفه) بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفناء. ورفع الباقون عطفا على (يُقْرِضُ). وبالنصب جوابا على الاستفهام. وقد مضى في (البقرة) «4» القول في هذا مستوفى. (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يعني الجنة. قوله تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) العامل في (يَوْمَ) (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)، وفي الكلام حذف أي (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) في (يَوْمَ تَرَى) فيه (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ) أي يمضى على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي قدامهم. (وَبِأَيْمانِهِمْ) قال الفراء: الباء بمعنى في، أي في أيمانهم. أو بمعنى عن أي عن أيمانهم. وقال الضحاك: (نُورُهُمْ) هداهم (وَبِأَيْمانِهِمْ) كتبهم، واختاره الطبري. أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم. فالباء على هذا بمعنى في. ويجوز على هذا أن يوقف على (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ولا يوقف إذا كانت بمعنى عن. وقرا سهل ابن سعد الساعدي وأبو حيوة (وَبِأَيْمانِهِمْ) بكسر الالف، أراد الايمان الذي هو ضد الكفر.
__________
(1). راجع ج 3 ص 332 وص (311)
(2). راجع ج 3 ص 332 وص (311)
(3). راجع ج 4 ص 132
(4). راجع ج 3 ص 332 وص (311)==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام لمحمد رشيد رضا

  حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح  المحمدي العام لمحمد رشيد رضا تعليق: محمد ناصر الدين الألباني  ( صحيح ) عن عائشة رضي الله ...