كتاب صفة الجنة للحافظ ضياء المقدسي

كتاب صفة الجنة -الحافظ ضياء الدين-أأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي

Translate

الاثنين، 16 يناير 2023

تفسير سورة المائدة من الاية 42 الي 45.

 

تفسير سورة المائدة من الاية 42 الي 45.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

المائدة - تفسير ابن كثير

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) }

{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 42 وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) }

نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله، عز وجل { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون. { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أعداء الإسلام وأهله. وهؤلاء كلهم { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي: يستجيبون (1) له، منفعلون عنه { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي: يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون (2) مجلسك يا محمد. وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام، ويُنْهُونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك، من أعدائك { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } (3) أي: يتأولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا }

قيل: نزلت في أقوام من اليهود، قتلوا قتيلا وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.

والصحيح أنها نزلت في اليهوديَّيْن (4) اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحْصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.

وقد وردت الأحاديث بذلك، فقال مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال: أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقالوا: نفضحهم ويُجْلَدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ (5) ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا (6) صدق (7) يا محمد، فيها

__________

(1) في د، أ: "مستجيبون".

(2) في أ: "لم يأتون" وهو خطأ؛ لأن الفعل مجزوم.

(3) في أ: "من بعض" وهو خطأ.

(4) في أ: "في اليهود".

(5) في ر: "فقال".

(6) في ر، أ: "قالوا".

(7) في أ: "صدقت".

آية الرجم! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما (1) فرأيت الرجل يَحْني على المرأة يقيها الحجارة.

وأخرجاه (2) وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ له: "فقال لليهود: ما تصنعون بهما؟" قالوا: نُسخّم وجوههما ونُخْزِيهما. قال: { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران:93] فجاءوا، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعورَ: اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال: ارفع يدك. فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما فَرُجما. (3)

وعند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يَهُود، فقال: "ما تجدون في التوراة على من زنى؟" قالوا: نُسَوّد وجوههما ونُحَمّلهما، ونخالف بين وجوههما ويُطَاف بهما، قال: { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال: فجاءوا بها، فقرأوها، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها. فقال له عبد الله بن سَلام -وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم-: مُرْه فلْيرفع يده. فرفع يده، فإذا تحتها آيةُ الرجم. فأمر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. (4)

وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهَمْداني، حدثنا ابن وَهْب، حدثنا هشام بن سعد؛ أن زيد بن أسلم حَدثه، عن ابن عمر قال: أتَى نفر من اليهود، فدعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفِّ فأتاهم في بيت المِدْارس، فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة، فاحكم قال: ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة، فجلس عليها، ثم قال: "ائتوني بالتوراة". فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، وقال: "آمنت بك وبمن أنزلك". ثم قال: "ائتوني بأعلمكم". فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع. (5)

وقال الزهري: سمعت رجلا من مُزَيْنَة، ممن يتبع العلم ويعيه، ونحن عند ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي، فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفُتْيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند الله، قلنا: فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مِدْارسهم، فقام على الباب فقال: "أنْشُدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحْصنَ؟ قالوا: يُحَمَّم، ويُجبَّه ويجلد. والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما. قال: وسكت شاب

(2) الموطأ (2/819) وصحيح البخاري برقم (3635، 6841) وصحيح مسلم برقم (1699).

(3) صحيح البخاري برقم (7543).

(4) صحيح مسلم برقم (1699).

(5) سنن أبي داود برقم (4449).

منهم، فلما رآه رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم سكت، ألَظَّ به رسول الله صلىالله عليه وسلم  النَّشْدة، فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟" قال: زنى ذُو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس، فأراد رجمه، فحال قومه دونه وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما. قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم.

رواه أحمد، وأبو داود -وهذا لفظه-وابن جرير (2)

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرّة، عن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمَّم مجلود، فدعاهم فقال: "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" فقالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم؟" فقال: لا والله، ولولا أنك نَشَدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريفَ تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئًا نقيمه على الشريف والوَضِيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه". قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله: { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } يقولون: ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، إلى قوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال: في اليهود إلى قوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قال: في اليهود (3) { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } قال: في الكفار كلها.

انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من غير وجه، عن الأعمش، به. (4)

وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن مُجالد بن (5) سعيد الهَمْدَاني، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: زنى رجل من أهل فَدَك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدًا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم

__________

(1) في أ: "النبي".

(2) المسند برقم (7747) ط (شاكر) وسنن أبي داود برقم (4450) وتفسير الطبري (10/305) وانظر: حاشية العلامة أحمد شاكر على المسند.

(3) في أ: "النصارى".

(4) صحيح مسلم برقم (1700) وسنن أبي داود برقم (4448) وسنن النسائي الكبرى برقم (7218) وسنن ابن ماجة برقم (2558).

(5) في ر: "عن".

بالرجم فلا تأخذوه عنه، تسألوه عن ذلك، قال: "أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم". فجاءوا برجل أعور -يقال له: ابن صوريا-وآخر، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتما أعلم من قبلكما؟" . فقالا قد دعانا قومنا لذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟" قالا بلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأنشدكم بالذي فَلَق البحر لبني إسرائيل، وظَلّل عليكم الغَمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المن والسَّلْوى على بني إسرائيل: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقال أحدهما للآخر: ما نُشدْتُ بمثله قط. قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية، والقبل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد، كما يدخل الميل في المُكْحُلة، فقد وجب الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو ذاك". فأمر به فَرُجمَ، فنزلت: { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1)

ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث مُجالد، به (2) نحوه. ولفظ أبي داود عن جابر قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: "ائتوني بأعلم رجلين منكم". فأتوا بابني صوريا، فنشدهما: "كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟" قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المُكْحُلة رجما، قال: "فما يمنعكم أن ترجموهما؟" قالا ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما.

ثم رواه أبو داود، عن الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي، مرسلا (3) ولم يذكر فيه: "فدعا بالشهود (4) فشهدوا".

فهذه أحاديث (5) دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله، عز وجل (6) إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم، مما تراضوا (7) على كتمانه وجحده، وعدم العمل (8) به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عَملهم (9) على خلافه، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به لهذا قالوا (10) { إِنْ } (11) أُوتِيتُمْ هَذَا والتحميم { فَخُذُوهُ } أي: اقبلوه { وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } أي: من قبوله واتباعه.

قال الله تعالى: { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ }

__________

(1) مسند الحميدي (2/541).

(2) سنن أبي داود برقم (4452) وسنن ابن ماجة برقم (2328).

(3) سنن أبي داود برقم (4453).

(4) في ر: "الشهود".

(5) في أ: "الأحاديث".

(6) في أ: "الله تعالى".

(7) في ر: "تواصوا".

(8) في ر: "العلم".

(9) في ر: "علمهم".

(10) في ر: "قال".

(11) في ر: "وإن".

أي: الباطل { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي: الحرام، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد (1) أي: ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه؟ وأنى يستجيب له.

ثم قال لنبيه: { فَإِنْ جَاءُوكَ } أي: يتحاكمون إليك { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا } أي: فلا عليك ألا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما وافق (2) هواهم.

قال ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمَة، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني: هي منسوخة بقوله: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } [المائدة:49]، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } أي: بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق (3) العدل { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }

ثم قال تعالى -منكرًا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم (4) الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدًا، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم -فقال: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }

ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ } أي: وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء، والأحبار وهم العلماء (5) { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } أي: لا تخافوا منهم وخافوني (6) { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فيه قولان سيأتي بيانهما. سبب آخر لنزول هذه الآيات الكريمة. (7)

قال (8) الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عُبيد الله (9) بن عبد الله، عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } و { فَأُولَئِكَ (10) هُمُ الظَّالِمُونَ } [المائدة:45]{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [المائدة:47] (11) قال: قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا أو اصطلحوا (12) على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون

__________

(1) في ر: "ذلك".

(2) في أ: "ما يوافق".

(3) في ر: "الطريق".

(4) في ر، أ: "وقصودهم".

(5) في أ: "أي: وكذلك الربانيون والأحبار، وهم العلماء والعباد".

(6) في ر، أ: "وخافوا مني".

(7) في أ: "الكريمات".

(8) في ر: "وقال".

(9) في ر: "عبد الله".

(10) في ر، أ، هـ: "وأولئك" والصواب ما أثبتناه.

(11) في ر، أ، هـ: "وأولئك" والصواب ما أثبتناه.

(12) في ر: " ارتضوا واصطلحوا".

وَسَقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما، لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويومئذ لم يظهر، ولم يوطئهما عليه، وهو (1) في الصلح، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة إلى الذليلة: أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد: دية بعضهم نصف دية بعض. إنما أعطيناكم هذا ضيمًا منكم لنا، وفَرقًا منكم، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ثم ذكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم (3) ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيمًا منا وقهرًا لهم، فدسّوا إلى محمد: من يَخْبُر لكم رأيه، إن أعطاكم ما تريدون حَكمتموه وإن لم يعطكم حُذّرتم فلم تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا من المنافقين ليَخْبُروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوا (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله، وما أرادوا، فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله: { الْفَاسِقُونَ } ففيهم -والله-أنزل، وإياهم عنى الله، عز وجل. (5)

ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد، عن أبيه، بنحوه.

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا هَنَّاد بن السري وأبو كُرَيْب (6) قالا حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن الآيات في "المائدة"، قوله: { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } إلى { الْمُقْسِطِينَ } إنما أنزلت (7) في الدية في بني النَّضير وبني قُرَيْظَة، وذلك أن قتلى (8) بني النضير، كان لهم شرف، تُؤدَى الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يُودَوْن نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء-والله أعلم أي ذلك كان.

ورواه أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن إسحاق. (9) (10)

ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبيد الله (11) بن موسى، عن علي بن صالح، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير (12) وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، ودي مائة وسق تمر. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا (13) فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت: { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ }

ورواه أبو داود والنسائي، وابن حِبَّان، والحاكم في المستدرك، من حديث عبيد الله بن موسى،

__________

(1) في أ: "وهم".

(2) في ر: "جعلوا".

(3) في أ: "والله يا محمد نعطيكم منهم ضعفا ما يعطيكم منكم".

(4) في ر، أ: "جاء".

(5) المسند (1/246).

(6) في أ: "وابن كريب".

(7) في ر: "نزلت".

(8) في ر: "قتل".

(9) في أ: "إسحاق به".

(10) تفسير الطبري (10/326) والمسند (1/363) وسنن أبي داود برقم (3591) وسنن النسائي (8/19).

(11) في ر: "عبد الله".

(12) في ر: "وللنضير".

(13) في ر: "إليه".

بنحوه. (1)

وهكذا قال قتادة، ومُقاتل بن حَيَّان، وابن زيد وغير واحد.

وقد روى العَوْفِيّ، وعلي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك. وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم.

ولهذا قال بعد ذلك: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } (2) إلى آخرها، وهذا يقوي أن (3) سبب النزول قضية القصاص، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال البراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مِجْلزٍ، وأبو رَجاء العُطارِدي، وعِكْرِمة، وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري، وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب -زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة.

وقال عبد الرزاق (4) عن سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي الله لهذه الأمة بها. رواه (5) ابن جرير.

وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كُهَيل، عن عَلْقَمَة ومسروق (6) أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال: من السُّحْت: قال: فقالا وفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر! ثم تلا { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }

وقال السُّدِّي: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } يقول: ومن لم يحكم بما أنزلتُ (7) فتركه عمدًا، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين [به] (8)

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. رواه ابن جرير.

ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب.

وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن زكريا، عن الشعبي: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } قال: للمسلمين.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال: هذا في المسلمين، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

__________

(1) تفسير الطبري (10/327) وسنن أبي داود برقم (4494) وسنن النسائي (8/18) والمستدرك (4/366)

(2) في أ: "بالعين والأنف".

(3) في ر، أ: "في".

(4) في ر: "عبد الوارث".

(5) في ر: "ورواه".

(6) في ر: "عن مسروق".

(7) في أ: "أنزل الله".

(8) زيادة من أ.

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

قال: هذا في اليهود، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } قال: هذا في النصارى.

وكذا رواه هُشَيْم والثوري، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي.

وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس (1) عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ [بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ] } (2) قال: هي به كفر -قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.

وقال الثوري، عن ابن جُرَيْج (3) عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. رواه ابن جرير.

وقال وَكِيع عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. (4)

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حُجَير، عن طاوس، عن ابن عباس في قوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال: ليس بالكفر الذي يذهبون إليه.

ورواه الحاكم في مستدركه، عن حديث سفيان بن عيينة، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (5)

{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) }

وهذا أيضًا مما وُبّخَتْ به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة: أن النفس بالنفس. وهم يخالفون ذلك عمدًا وعنادًا، ويُقيدون النضري من القرظي، ولا يُقيدون القرظي من النضري، بل يعدلون إلى الدية، كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار؛ ولهذا قال هناك: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } لأنهم جحدوا حكم الله قصدًا منهم وعنادًا وعمدًا، وقال هاهنا: { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا، وتعدى بعضهم على بعض. (6)

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن أبي علي

__________

(1) في أ: "عباس".

(2) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".

(3) في ر: "جرير".

(4) تفسير الطبري (10/355).

(5) المستدرك (2/313).

(6) في أ: "وتعدوا على بعض بعضا".

بن يزيد -أخى يونس بن يزيد-عن الزهري، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } نصب النفس ورفع العين.

وكذا رواه أبو داود، والترمذي والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن المبارك (1) وقال الترمذي: حسن غريب.

وقال البخاري: تفرد ابن المبارك بهذا الحديث. (2)

وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا حكي مقررًا ولم ينسخ، كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة.

وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم.

وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها: أن شرع إبراهيم حجة دون غيره، وصحح منها عدم الحجية، ونقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالا عن الشافعي ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا، فالله أعلم.

وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ، رحمه الله، في كتابه "الشامل" إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: "أن الرجل يقتل بالمرأة" وفي الحديث الآخر: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (3) وهذا قول جمهور العلماء.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية؛ لأن ديتها على النصف من دية الرجل، وإليه ذهب أحمد في روايته [عنه] (4) وحكي (5) [هذا] (6) عن الحسن [البصري] (7) وعطاء، وعثمان البتي، ورواية عن أحمد (8) [به] (9) أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل تجب (10) ديتها.

وهكذا احتج أبو حنيفة، رحمه الله تعالى، بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" (11) وأما العبد فعن السلف في (12) آثار

__________

(1) المسند (3/215) وسنن أبي داود برقم (3977) وسنن الترمذي برقم (2929).

(2) في أ: "تفرد به ابن المبارك".

(3) روي من حديث عبد الله بن عباس: أخرجه ابن ماجة في السنن برقم (2683) من طريق سليمان عن أبيه، عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقال البوصيري في الزوائد (2/353): "هذا إسناد ضعيف لضعف حنش واسمه حسين بن قيس". وروي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أخرجه أبو داود في السنن برقم (4531) من طريق يحيى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(4) زيادة من ر، أ.

(5) في ر: "ويحكى".

(6) زيادة من ر، أ.

(7) زيادة من ر، أ.

(8) في ر، أ: "وعن أحمد رواية".

(9) زيادة من أ.

(10) في ر: "وتجب"، وفي أ: "يجب".

(11) صحيح البخاري برقم (6903).

(12) في د: "فيه".

متعددة: أنهم لم يكونوا يُقيدون العبد من الحر، ولا يقتلون حرًا بعبد، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة.

ويؤيد ما قاله (1) ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ، حدثنا حُمَيْد، عن أنس بن مالك: أن الرُّبَيع عَمّة أنس كسرت ثَنيَّة جارية، فطلبوا إلى القوم العفو، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "القصاص". فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول الله تكسر ثنية فلانة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس، كتاب الله القصاص". قال: فقال: لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية فلانة. قال: فرضي القوم، فعفوا وتركوا القصاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَّره".

أخرجاه في الصحيحين (2) وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، في الجزء المشهور من حديثه، عن حميد، عن أنس بن مالك؛ أن الرُّبَيع بنت النضر عَمَّته لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا فطلبوا الأرش والعفو فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالقصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أنس كتاب الله القصاص". فعفا القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره". رواه البخاري عن الأنصاري. فأما الحديث الذي رواه أبو داود:

حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي نَضرة، عن عمران بن حصين، أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا أناس فقراء، فلم يجعل عليه شيئًا. وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، عن معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه عن قتادة، به (3) وهذا إسناد قوي رجاله كلهم ثقات فإنه حديث مشكل، اللهم إلا أن يقال: إن الجاني كان قبل البلوغ، فلا قصاص عليه، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء، أو استعفاهم عنه.

وقوله تعالى: { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح.

فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين [به] (4) فيما بينهم، رجالهم ونساؤهم، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدًا، في النفس وما دون النفس، رواه ابن جرير (5) وابن أبي حاتم.

__________

(1) في ر: "ما قال".

(2) المسند (3/128) وصحيح البخاري برقم (6894) وصحيح مسلم برقم (1675).

(3) سنن أبي داود برقم (4590) وسنن النسائي الكبرى برقم (6953).

(4) زيادة من أ.

(5) في د: "جريج".

قاعدة مهمة:

الجراح تارة تكون في مَفْصِل، فيجب فيه القصاص بالإجماع، كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك. وأما إذا لم تكن الجراح (1) في مفصل بل في عظم، فقال مالك، رحمه الله: فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها؛ لأنه مخوف خطر. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام (2) إلا في السن. وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقًا، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابن عباس. وبه يقول عطاء، والشعبي، والحسن البصري، والزهري، وإبراهيم النَّخَعِي، وعمر بن عبد العزيز. وإليه ذهب سفيان الثوري، والليث بن سعد. وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.

وقد احتج أبو حنيفة، رحمه الله، بحديث الرُّبَيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن. وحديثُ الربيع لا حجة فيه؛ لأنه ورد بلفظ: "كَسَرَتْ ثَنيَّة جارية" وجائز أن تكون (3) سقطت من غير كسر، فيجب القصاص -والحالة هذه-بالإجماع. وتمموا الدلالة. بما رواه ابن ماجه، من طريق أبي بكر بن عَيَّاش، عن دهْثَم (4) بن قُرَّان، عن نِمْرَان بن جارية، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي؛ أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل، فقطعها، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر له بالدية، فقال: يا رسول الله، أُريد القصاص. فقال: "خذ الدية، بارك الله لك فيها". ولم يقض له بالقصاص. (5)

وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد، وَدَهْثَم (6) بن قُرَّان العُكلي ضعيف أعرابي، ليس حديثه مما يحتج به، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضًا، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة. (7)

ثم قالوا: لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تَنْدَمِل جراحة المجني عليه، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه، فلا شيء له، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، فذكر حديثًا، قال ابن إسحاق: وذكر عَمْرو (8) بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل حتى يبرأ جرحك". قال: فأبى الرجل إلا أن يستقيد، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، قال: فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه، فأتى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، عرجت وبرأ صاحبي. فقال: "قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك". ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه. تفرد به أحمد. (9)

مسألة:

فلو اقتص المجني عليه من الجاني، فمات من القصاص، فلا شيء عليه عند مالك، والشافعي،

__________

(1) في ر: "يكن الجراحة".

(2) في أ: "العظام مطلقا".

(3) في ر: "يكون".

(4) في أ: "دهيم".

(5) سنن ابن ماجة برقم (2636).

(6) في أ: "دهيم".

(7) الاستذكار (25/287).

(8) في ر: "وذكر عن عمرو".

(9) المسند (2/217)

وأحمد بن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص. وقال عامر الشعبي، وعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، والحارث العُكْلِي، وابن أبي ليلى، وحماد بن أبي سليمان، والزهري، والثوري: تجب الدية على عاقلة المقتص له. وقال ابن مسعود، وإبراهيم النَّخعي، والحكم بن عتَيبة (1) وعثمان البَتِّيّ: يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله.

وقوله: { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } يقول: فمن عفا عنه، وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب، وأجر للطالب.

وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال: كفارة للجارح، وأجر المجروح (2) على الله، عز وجل. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن، ومجاهد، وإبراهيم -في أحد قوليه-وعامر الشعبي، وجابر بن زيد-نحو ذلك الوجه الثاني، ثم قال ابن أبي حاتم:

حدثنا حماد بن زاذان، حدثنا حرمي -يعني ابن عمارة-حدثنا شعبة، عن عمارة -يعني ابن أبي حفصة-عن رجل، عن جابر بن عبد الله، في قول الله، عز وجل (3) { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال: للمجروح. وروى عن الحسن البصري، وإبراهيم النخعي -في أحد قوليه-وأبي إسحاق الهمداني، نحو ذلك.

وروى ابن جرير، عن عامر الشعبي وقتادة، مثله.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة، عن قيس -يعني بن مسلم-قال: سمعت طارق بن شهاب يحدث، عن الهيثم أبي (4) العريان النخعي قال: رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيهًا بالموالي، فسألته عن قول الله [عز وجل] (5) { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تَصدق به.

وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم. وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة.

وقال ابن مَرْدُويَه: حدثني محمد بن علي، حدثنا عبد الرحيم بن محمد المُجَاشِعي، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري، حدثنا يحيى بن سليمان الجُعْفي، حدثنا مُعلَّى -يعني ابن هلال (6) -أنه سمع أبان بن تغلب، عن أبي العريان الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو -وعن أبان بن تغلب، عن الشعبي، عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال: هو الذي تكسر سنه، أو تقطع يده، أو يقطع الشيء (7) منه، أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك، وقال فَيُحَطّ عنه قدر خطاياه، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان الثلث فثلث خطاياه، وإن

__________

(1) في ر، أ: "عيينة".

(2) في ر: "للمجروح".

(3) في أ: "تعالى".

(4) في هـ، ر: "ابن". والمثبت من الطبري.

(5) زيادة من أ.

(6) في ر: "بلال".

(7) في أ: "اليمنى".

كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك. (1)

ثم قال (2) ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، حدثنا ابن فضيل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السَّفَر قال: دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار، فاندقت ثنيته، فرفعه الأنصاري إلى معاوية، فلما ألح عليه الرجل قال: شأنك وصاحبك. قال: وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيهبه، إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة". فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فخلى سبيل القرشي، فقال معاوية: مروا له بمال.

هكذا رواه ابن جرير (3) ورواه الإمام أحمد فقال: حدثنا وَكِيع، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السَّفر قال: كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال القرشيُّ: إن هذا دق سنّي؟ قال معاوية: إنا سنرضيه. فألح الأنصاري، فقال معاوية: شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء في (4) جسده، فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة أو حط عنه بها خطيئة". فقال الأنصاري: فإني، يعني: قد عفوت.

وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك، وابن ماجه من حديث وَكِيع، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق، به (5) ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السَّفَر سماعًا من أبي الدرداء.

وقال [أبو بكر] (6) بن مردويه: حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا محمد بن علي بن زيد، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن عدي بن ثابت؛ أن رجلا هَتَم فمه رجل، على عهد معاوية، رضي الله عنه، فأعْطِي دية، فأبى إلا أن يقتص، فأعطي ديتين، فأبى، فأعطي ثلاثًا، فأبى، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تصدق بدم فما دونه، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت". (8)

وقال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيج بن النعمان، حدثنا هُشَيْم، عن المغيرة، عن الشعبي؛ أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يجرح من (9) جسده جراحة، فيتصدق

__________

(1) ورواه الديلمي في مسند الفردوس (3/153) من طريق يحيى بن سلام، عن أبيه، عن المعلى، عن أبان بن تغلب، عن الشعبي، وعن العريان بن الهيثم عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا.

(2) في أ: "وقال".

(3) تفسير الطبري (10/364).

(4) في ر: "من".

(5) المسند (6/448) وسنن الترمذي برقم (1393) وسنن ابن ماجة برقم (2693).

(6) زيادة من ر.

(7) في ر: "عن".

(8) رواه سعيد بن منصور في السنن برقم (762) ورواه أبو يعلى في مسنده (12/284) والطبري في تفسيره (10/368) من طريق عمران بن ظبيان به. قال الهيثمي في المجمع (6/302): "رجاله رجال الصحيح غير عمران بن ظبيان وقد وثقه ابن حبان، وفيه ضعف".

(9) في ر: "في".

بها، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به.

ورواه النسائي، عن علي بن حُجْر، عن جرير بن عبد الحميد، ورواه ابن جرير، عن محمود بن خِدَاش، عن هُشَيْم، كلاهما عن المغيرة، به. (1)

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن مجالد، عن عامر، عن المحرَّر بن أبي هريرة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصيب بشيء من جسده، فتركه لله، كان كفارة له". (2)

وقوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا كُفْر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.

__________

(1) المسند (5/316) وسنن النسائي الكبرى برقم (11146) وتفسير الطبري (10/364).

(2) المسند (5/412)، وقال الهيثمي في المجمع (6/302): "فيه مجالد وقد اختلط".

 

 

المائدة - تفسير القرطبي

42- {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}

فيه مسألتان:

الأولى- قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} كرره تأكيدا وتفخيما، وقد تقدم.

الثانية- وقوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} على التكثير. والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة؛ قال الله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} . وقال الفرزدق:

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف

كذا الرواية. أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى؛ لأن معنى لم يدع لم يبق. ويقال للحالق: اسحت أي استأصل. وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. وقال الفراء: أصله كلب الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول؛ فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. وقيل: سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان.

قلت: والقول الأول أولى؛ لأن بذهاب الدين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن لا دين له. قال ابن مسعود وغيره: السحت الرشا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رشوة الحاكم من السحت. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به " قالوا: يا رسول الله ؛وما السحت؟ قال: "الرشوة في الحكم" . وعن ابن مسعود أيضا أنه قال: السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها. وقال ابن خويز منداد: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها. ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام. وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك.

قلت: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله؛ لأن أخذ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه. والله أعلم. وقال عليه الصلاة والسلام: "لعن اله الراشي والمرتشي" . وعن علي رضي الله عنه أنه قال: السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية. وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شيء؟ فقال: لا؛ إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك، أو تدفع حقا فد لزمك؛ فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك

فليس بحرام. قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ؛ لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة. وهذا كما روي عن عبدالله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع؛ قال المهدوي: ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه.

قلت: الصحيح في كسب الحجام أنه طيب، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته. وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه؛ قال ابن عبدالبر: هذا يدل على أن كسب الحجام طيب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا عوضا لشيء من الباطل. وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام. وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه. والسُحْت والسُحُت لغتان قرئ بهما؛ قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين، والباقون بضم السين وحدها. وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع "أكالون للسحت" بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته؛ يقال: أسحت وسحت بمعنى واحد. وقال الزجاج: سحته ذهب به قليلا قليلا.

قوله تعالى: {إِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} هذا تخيير من الله تعالى؛ ذكره القشيري؛ وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود. ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟ قولان للشافعي؛ وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم. قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي. واختلفوا في الذميين؛ فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير؛ روي، ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما، وهو مذهب مالك

والشافعي وغيرهما، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى؛ فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما؛ وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما. وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال: يجلدان ولا يرجمان. وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم: عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا. قال ابن خويز منداد: ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم. فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام. وأما إجبارهم على حكم المسلم فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم؛ لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم؛ ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا؛ ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات؛ لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين. وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات؛ لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد. والله أعلم. وفي الآية قول ثان: وهو ما روي عن عمر بن عبدالعزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وأن على الحاكم أن يحكم بينهم؛ وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم. وروي عن عكرمة أنه قال: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسختها آية أخرى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . وقال مجاهد: لم ينسخ من {المائدة} إلا آيتان؛ قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسختها {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ؛ وقوله: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقال الزهري: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله. قال

السمرقندي: وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا. وقال النحاس في "الناسخ والمنسوخ" له قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} منسوخ؛ لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبدالعزيز والسدي؛ وهو الصحيح من قول الشافعي؛ قال في كتاب الجزية: ولا خيار له إذا تحاكموا إليه؛ لقوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . قال النحاس: وهذا من أصح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أن تجرى عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم؛ فإذا وجب هذا فالآية منسوخة. وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهم بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم.

وقال الباقون: يحكم؛ فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس؛ ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه. قال النحاس: ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر؛ منهم من يقول: على الإمام إذا لم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} يحتمل أمرين: أحدهما: وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك. والآخر: وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا: فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا؛ فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال: "أهكذا حد الزاني عندكم" فقالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: "سألتك بالله أهكذا حد الزاني فيكم" فقال: لا. الحديث، وقد تقدم. قال النحاس: فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث. فإن قال قائل: ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ قيل له: ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج؛ لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} يقول: إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل على أنهم حكموه. وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره. فإن قال قائل: ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه. قيل له: حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته. ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر؛ فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله؛ فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} النفس بالنفس، ونزلت: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}

43- {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}

قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} قال الحسن: هو الرجم. وقال قتادة: هو القود. ويقال: هل يدل قوله تعالى: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} على أنه لم ينسخ؟ الجواب: قال أبو علي: نعم؛ لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت. وقوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي بحكمك أنه من عند الله. وقال أبو علي: إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرضى به فهو كافر؛ وهذه حالة اليهود.

44- {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}

قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} أي بيان وضياء وتعريف أن محمدا صلى الله عليه وسلم حق. {هُدىً} في موضع رفع بالابتداء {وَنُورٌ} عطف عليه. {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} قيل: المراد بالنبيين محمد صلى الله عليهوسلم ، وعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة، وأن اليهود قالت: إن الأنبياء كانوا يهودا. وقالت النصارى: كانوا نصارى؛ فبين الله عز وجل كذبهم. ومعنى {أَسْلَمُوا} صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي؛ ويقال: أربعة آلاف. ويقال: أكثر من ذلك، كانوا يحكمون بما في التوراة. وقيل: معنى {أَسْلَمُوا} خضعوا وانقادوا لأمر الله فيما بعثوا به. وقيل: أي يحكم بها النبيون الذين هم على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم والمعنى واحد. و {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} ههنا نعت فيه معنى المدح مثل

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . {هَادُوا} أي تابوا من الكفر. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار؛ أي يحكم بها الربانيون وهم الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره؛ عن ابن عباس وغيره. وقد تقدم في آل عمران. وقال أبو رزين: الربانيون العلماء الحكماء والأحبار. قال ابن عباس: هم الفقهاء: والحبر والحبر الرجل العالم وهو مأخوذ من الحبير وهو التحسين، فهم يحبرون العلم أي يبينونه ويزينونه، وهو محبر في صدورهم. قال مجاهد: الربانيون فوق العلماء. والألف واللام للمبالغة. قال الجوهري: والجبر والحبر واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح: لأنه يجمع على أفعال دون الفعول؛ قال الفراء: هو جبر بالكسر يقال ذلك للعالم. وقال الثوري: سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا؟ فقال: يقال للعالم حبر وحبر فالمعنى مداد حبر ثم حذف كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهل القرية. قال: فسألت الأصمعي يقال ليس هذا بشيء؛ إنما سمي حبرا لتأثيره، يقال: على أسنانه حبر أي صفرة أو سواد. وقال أبو العباس: سمي الحبر الذي يكتب به حبرا لأنه يحبر به أي يحقق به. وقال أبو عبيد: والذي عندي في واحد الأحبار الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه. قال: وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح، والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر. والحبر أيضا الأثر والجمع حبور، عن يعقوب. {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} أي استودعوا من علمه. والباء متعلقة "الربانيين والأحبار" كأنه قال: والعلماء بما استحفظوا. أو تكون متعلقة بـ "يحكم" أي يحكمون بما استحفظوا. {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أي على الكتاب بأنه من عند الله. ابن عباس: شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة. {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} أي في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وإظهار الرجم. {وَاخْشَوْنِ} أي في كتمان ذلك؛ فالخطاب لعلماء اليهود. وقد يدخل بالمعنى كل من كتم حقا وجب عليه ولم يظهره. وتقدم معنى {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} مستوفى.

قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} نزلت كلها في الكفار؛ ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم. وعلى هذا المعظم. فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار؛ أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر؛ قال ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له؛ فأنا من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار. وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر؛ فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول، إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس؛ قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء؛ منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله: {لِلَّذِينَ هَادُوا} ؛ فعاد الضمير عليهم، ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك؛ ألا ترى أن بعده {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} فهذا الضمير لليهود بإجماع؛ وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص. فإن قال قائل: {مِنْ} إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها؟ قيل له: {مِنْ} هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة؛ والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون؛ فهذا من أحسن ما قيل في هذا؛ ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل؟ قال: نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل. وقيل: {الْكَافِرُونَ} للمسلمين، و {الظَّالِمُونَ} لليهود، و {الْفَاسِقُونَ} للنصارى؛ وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: لأنه ظاهر الآيات. وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعب أيضا. قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر،

وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر؛ وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري: ومذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر، وعزي هذا إلى الحسن والسدي. وقال الحسن أيضا: أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.

45- {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}

فيه ثلاثون مسألة:

الأولى- قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} بين تعالى أنه سوى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك، فضلوا؛ فكانت دية النضيري أكثر، وكان النضيري لا يقتل بالقرظي، ويقتل به القرظي فلما جاء الإسلام راجع بنو قريظة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فحكم بالاستواء؛ فقالت بنو النضير: قد حططت منا؛ فنزلت هذه الآية. و"كتبنا" بمعنى فرضنا. وقد تقدم. وكان شرعهم القصاص أو العفو، وما كان فيهم الدية؛ كما تقدم في {البقرة} بيانه. وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال: يقتل المسلم بالذمي؛ لأنه نفس بنفس، وقد تقدم في {البقرة} بيان هذا. وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه سئل هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، إلا ما في هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه وإذا فيه "المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده " وأيضا فإن الآية إنما جاءت

للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل، وأخذهم من قبيلة رجلا برجل، ومن قبيلة أخرى رجلا برجلين. وقالت الشافعية: هذا خبر عن شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا؛ وقد مضى في {البقرة} في الرد عليهم ما يكفي فتأمله هناك. ووجه رابع: وهو أنه تعالى قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وكان ذلك مكتوبا على أهل التوراة وهم ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذمة؛ لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين، ولم يجعل الفيء لأحد قبل هذه الأمة، ولم يكن نبي فيما مضى مبعوثا إلا إلى قومه؛ فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ؛ فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس، إذ يشير إلى قوم معينين، ويقول: إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم بالنفس؛ فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم على - هذا الوجه -: النفس بالنفس، ولبس كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع اختلاف الملة.

الثانية- قال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة: إذا جرح أو قطع الأذن أو اليد ثم قتل فعل ذلك به؛ لأن الله تعالى قال: {كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} فيؤخذ منه ما أخذ، ويفعل به كما فعل. وقال علماؤنا: إن قصد به المثلة فعل به مثله، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قتل بالسيف؛ وإنما قالوا ذلك في المثلة يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين؛ حسبما تقدم بيانه في هذه السورة.

الثالثة- قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف، ويجوز تخفيف {أَنَّ} ورفع الكل بالابتداء والعطف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح. وكان الكسائي وأبو عبيد يقرآن {وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفُ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنُ بِالْأُذُنِ وَالسِّنُ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحُ} بالرفع فيها كلها. قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن

أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفُ بِالأَنْفِ وَالأُذُنُ بِالأُذُنِ وَالسِّنُّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحُ قِصَاصٌ} . والرفع من ثلاث جهات؛ بالابتداء والخبر، وعلى المعنى على موضع {أَنَّ النَّفْسَ} ؛ لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس. والوجه الثالث: قاله الزجاج يكون عطفا على المضمر في النفس؛ لأن الضمير في النفس في موضع رفع؛ لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس؛ فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام، حكم في المسلمين؛ وهذا أصح القولين، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ} وكذا ما بعده. والخطاب للمسلمين أمروا بهذا. ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستئناف بها؛ كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة وما قبله لم يواجهوا به.

الرابعة- هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس، وأجر ذلك في اليد اليمنى واليسرى، وقال: تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية؛ لعموم قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} . والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا: العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا؛ وذلك يبين لنا أن المراد بقوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} استيفاء ما يماثله من الجاني؛ فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها، وهذا لا ريب فيه.

الخامسة- ذوجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية، وفي العين الواحدة نصف الدية. وفي عين الأعور إذا فقئت الدية كاملة؛ روي ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال عبدالملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق. وقيل: نصف الدية؛ روي ذلك عن عبدالله بن المغفل ومسروق والنخعي؛ وبه قال الثوري

والشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: وبه نقول؛ لأن في الحديث "في العينين الدية" ومعقول إذ كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية. قال ابن العربي: وهو القياس الظاهر، ولكن علماؤنا قالوا: إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك، فوجب عليه مثل ديته.

السادسة- واختلفوا في الأعور يفقأ عين صحيح؛ فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه، وعليه الدية كاملة؛ وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل. وقال مالك: إن شاء اقتص فتركه أعمى، وإن شاء أخذ الدية كاملة "دية عين الأعور". وقال النخعي: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: عليه القصاص.، وروي ذلك عن علي أيضا، وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل، واختاره ابن المنذر وابن العربي؛ لأن الله وتعالى قال: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية؛ ففي العين نصف الدية، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس. ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر بضمه وذلك ليس بمساواة، وبما روي عن عمر وعثمان وعلي في ذلك، ومتمسك مالك أن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه. قال ابن العربي: والأخذ بعموم القرآن أولى؛ فإنه أسلم عند الله تعالى

السابعة- واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها؛ فروي عن زيد بن ثابت أنه قال: فيها مائة دينار. وعن عمر بن الخطاب أنه قال: فيها ثلث ديتها؛ وبه قال إسحاق. وقال مجاهد: فيها نصف ديتها. وقال مسروق والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان: فيها حكومة؛ قال ابن المنذر: وبه نقول لأنه الأقل مما قيل.

الثامنة- وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية، ويستوي فيه الأعمش والأخفش. وفي إبطال من إحداهما مع بقائها النصف. قال ابن المنذر وأحسن

ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب: أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره، ثم أمر بخط عند ذلك، ثم أمر بعينه الأخرى فغطيت وفتحت الصحيحة، وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم خط عند ذلك، ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء؛ فأعطي ما نقص من بصره مال الآخر، وهذا على مذهب الشافعي؛ وهو قول علمائنا هي:

التاسعة- ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر، إذ غير ممكن الوصول إليه. وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الأخرى قطنة، ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها؛ روي عن علي رضي الله عنه؛ ذكره المهدوي وابن العربي. واختلف في جفن العين؛ فقال زيد بن ثابت: فيه ربع الدية، وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي، هاشم والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وروي عن الشعبي أنه قال: في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية، وبه قال مالك.

العاشرة- قوله تعالى: {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية" قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به؛ والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعاق. واختلفوا في كسر الأنف. فكان مالك يرى في العمد منه القود، وفي الخطأ الاجتهاد. وروى ابن نافع أنه لا دية للأنف حتى يستأصله من أصله. قال أبو إسحاق التونسي: وهذا شاذ، والمعروف الأول. وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحساب من المارن. قال ابن المنذر: وما قطع من الأنف فبحسابه؛ روي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز والشعبي، وبه قال الشافعي. قال أبو عمر: واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف؛ فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة، ثم إن قطع منه شيء بعد ذلك ففيه

حكومة. قال مالك: الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارن؛ وهو دون العظم. قال ابن القاسم: وسواء قطع المارن من العظم أو استؤصل الأنف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية؛ كالحشفة فيها الدية: وفي استئصال الذكر الدية.

الحادية عشرة- قال ابن القاسم: وإذا خرم الأنف أو كسر فبرئ على عثم ففيه الاجتهاد، وليس فيه دية معلومة. وإن برئ على غير عثم فلا شيء فيه. قال: وليس الأنف إذا خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة تبرأ على غير ثم فيكون فيها ديتها؛ لأن تلك جاءت بها السنة، وليس في خرم الأنف أثر. قال: والأنف عظم منفرد ليس فيه موضحة. واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف، والمارن ما لان من الأنف؛ وكذلك قال الخليل وغيره. قال أبو عمر: وأظن روثته مارنه، وأرنبته طرفه. وقد قيل: الأرنبة والروثة والعرتمة طرف الأنف. والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم، في الشم إذا نقص أو فقد حكومة

الثانية عشرة- قوله تعالى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل: عليه حكومة، وإنما تكون عليه الدية في السمع، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر. وفي إبطاله من إحداهما نص الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة؛ على ما تقدم. وقال أشهب: إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة، يقاس ذلك؛ فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك. قال أشهب: ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجل مثله؛ فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شيء. وقال عيسى بن دينار: إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه

الثالثة عشرة- قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} قال ابن المنذر: وثبت عن رسول الله صل الله عليه وسلم أنه أقاد من سن وقال: "كتاب الله القصاص" وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في السن خمس من الإبل" قال ابن المنذر: فبظاهر هذا الحديث نقول؛ لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات؛ لدخولها كلها في ظاهر الحديث؛ وبه يقول الأكثر من أهل العلم. وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئا منها على شيء عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وابن الحسن، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية. وفيه قول ثان - رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض، وذلك خمسون دينارا، قيمة كل فريضة عشرة دنانير. وفي الأضراس ببعير بعير. وكان عطاء يقول: في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء، والأضراس سواء؛ قال أبو عمر: أما ما رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضرسا، والأسنان اثنا عشر سنا: أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب؛ فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيرا؛ في الأسنان خمسة خمسة، وفي الأضراس بعير بعير. وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة؛ تصير الدية ستين ومائة بعير. وعلى قول سعيد بن المسيب، بعير بن بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرسا. يجب لها أربعون. وفي الأسنان خمسة أبعرة فذلك ستون، وهي تتمة لمائة بعير، وهي الدية كاملة من الإبل. والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان. قال أبو عمر: واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدا، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري؛ بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي السن خمس من الإبل"

والضرس سن من الأسنان. روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء" وهذا نص أخرجه أبو داود. وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء. قال أبو عمر: على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدية كلها سواء، وأن الأسنان في الدية كلها سواء، الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضل شيء منها على شيء؛ على ما في كتاب عمرو بن حزم. ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال: اختصم إلى شريح رجلان ضرب أحدهما ثنية الآخر وأصاب الآخر ضرسه فقال شريح: الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن بسن قوما. قال أبو عمر: على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار. والله أعلم.

الرابعة عشرة- فإن ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد، وبه قال أبو حنيفة، وروي عن زيد بن ثابت؛ وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها؛ وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي وأبو ثور: فيها حكومة. قال ابن العربي: وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق؛ فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء، فلا خلاف في وجوب الدية؛ ثم إن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعه لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة؛ وما روي عن عمر رضي الله عنه فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سندا ولا فقها.

الخامسة عشرة- واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر؛ فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شيء على القالع، إلا أن مالكا والشافعي قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها. وقالت طائفة: فيها حكومة، وروي ذلك عن الشعبي؛ وبه قال النعمان. قال ابن المنذر:

يستأتى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما؛ على ظاهر الحديث، وإن نبتت رد الأرش. وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون: يستأنى بها سنة؛ روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبدالعزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي. ولم يجعل الشافع لهذا مدة معلومة.

السادسة عشرة- إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت؛ فقال مالك لا يرد ما أخذ. وقال الكوفيون: يرد إذا نبتت. وللشافعي قولان: يرد ولا يرد؛ لأن هذا نبات لم تجر به عادة، ولا يثبت الحكم بالنادر؛ هذا قول علمائنا. تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد؛ أصله سن الصغير. قال الشافعي: ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاما. قال ابن المنذر: هذا أصح القولين؛ لأن كل واحد منهما قالع سن، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السن خمسا من الإبل.

السابعة عشرة- فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شيء فيها عندنا. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة؛ وقاله ابن المسيب وعطاء. ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنها ميتة؛ وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزقت مثله. وقال عطاء: يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها. قال ابن العربي: وهذا غلط، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها؛ لأن النجاسة كانت فيها للانفصال، وقد عادت متصلة، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها.

قلت: ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه؛ قال ابن المنذر: واختلفوا في السن تقلع قودا ثم ترد مكانها فتنبت؛ فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح: لا بأس بذلك. وقال الثوري وأحمد وإسحاق: تقلع؛ لأن القصاص للشين. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة، ويجبره السلطان على القلع.

الثامنة عشرة- فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة؛ وبه قال فقهاء الأمصار. وقال زيد بن ثابت: فيها ثلث الدية. قال ابن العربي: وليس في التقدير دليل، فالحكومة أعدل. قال ابن المنذر: ولا يصح ما روي عن زيد؛ وقد روي عن علي أنه قال: في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه؛ وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما.

قلت: وهنا انتهى ما نص الله عز وجل عليه من الأعضاء، ولم يذكر الشفتين واللسان

التاسعة عشرة- قال الجمهور: وفي الشفتين الدية، وفي كل واحدة منهما نص الدية لا فضل للعليا منهما على السفلي. وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري: في الشفة العليا ثلث الدية، وفي الشفة السفلي ثلثا الدية. وقال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول؛ للحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وفي الشفتين الدية" ولأن في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة. وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك. وأما اللسان فجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في اللسان الدية" وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به؛ قال ابن المنذر.

الموفيه عشرين- واختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئا، ويذهب من الكلام بعضه؛ فقال أكثر أهل العلم: ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفا فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية؛ هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس في اللسان قود لعدم الإحاطة باستيفاء القود. فإن أمكن فالقود هو الأصل.

الحادية والعشرون- واختلفوا في لسان الأخرس يقطع؛ فقال الشعبي ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه: فيه حكومة. قال ابن المنذر: وفيه قولان شاذان: أحدهما: قول النخعي أن فيه الدية. والآخر: قول قتادة أن فيه ثلث الدية. قال ابن المنذر: والقول الأول أصح؛ لأنه الأقل مما قيل. قال

ابن العربي: نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها؛ فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت، وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه.

الثانية والعشرون- قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي مقاصة، وقد تقدم في {البقرة}. ولا قصاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص. ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه. وهذا كله في العمد؛ فأما الخطأ فالدية، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح. وفي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع - أم حارثة - جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القصاص القصاص" ، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله" قالت: لا والله لا يقتص منها أبدا؛ قال فما زالت حتى قبلوا الدية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" .

قلت: المجروح في هذا الحديث جارية، والجرح كسر ثنيتها؛ أخرجه النسائي عن أنس أيضا أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص؛ فقال أخوها أنس بن النضر: أتكسر ثنية فلانة؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. قال: وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش، فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " . وخرجه أبو داود أيضا، وقال: سمعت أحمد بن حنبل قيل له: كيف يقتص من السن؟ قال: تبرد.

قلت: ولا تعارض بين الحديثين؛ فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر الله قسمهما. وفى هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر إن الله تعالى. فنسأل الله التثبت على الإيمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة.

الثالثة والعشرون- أجمع العلماء على أن قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} أنه في العمد؛ فمن أصاب سن أحد عمدا ففيه القصاص على حديث أنس. واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدا؛ فقال مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفا مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمة، ففي ذلك الدية. وقال الكوفيون: لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن؛ لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} وهو قول الليث والشافعي. قال الشافعي: لا يكون كسر ككسر أبدا؛ فهو ممنوع. قال الطحاوي: اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس؛ فكذلك في سائر العظام. والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم؛ فكذلك سائر العظام إلا عظما أجمعوا على أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه. قال ابن المنذر: ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث؛ والخروج إلى النظير غير جائز مع وجود الخبر.

قلت: ويدل على هذا أيضا قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي. والله أعلم وبالله التوفيق.

الرابعة والعشرون- قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة، وما جاء عن غيره في الشجاع. قال الأصمعي وغيره: دخل كلام بعضهم في بعض؛ أول الشجاج - الخاصة وهي: التي تحرص الجلد - يعني التي تشقه فليلا - ومنه قيل: حرص القصار الثوب إذا شقه؛ وقد يقال لها: الحرصة أيضا. ثم الباضعة - وهي: التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد. ثم المتلاحمة - وهي: التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق.

والسمحاق: جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم. وقال الواقدي: هي عندنا الملطى. وقال غيره: هي الملطاة، قال: وهي التي جاء فيها الحديث "يقضى في الملطاة بدمها" . ثم الموضحة - وهي: التي تكشط عنها ذلك القشر أو تشق حتى يبدو وضح العظم، فتلك الموضحة. قال أبو عبيد: وليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الوض- وهي التي تهشم العظم. ثم المنقلة - بكسر القاف حكاه الجوهري - وهي التي تنقل العظم - أي تكسره - حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء. ثم الآمة - ويقال لها المأمومة - وهي التي تبلغ أم الرأس، يعني الدماغحة خاصة؛ لأنه ليس منها شيء له حد ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها. ثم الهاشمة . قال أبو عبيد ويقال في قوله: "ويقضى في الملطاة بدمها" أنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأنى بها. قال: وسائر الشجاج عندنا يستأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ. قال أبو عبيد: والأمر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها أنه يستأنى بها؛ حدثنا هشيم عن حصين قال: قال عمر بن عبدالعزيز: ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح. وقال الحسن البصري: ليس فيما دون الموضحة قصاص. وقال مالك: القصاص فيما دون الموضحة الملطي والدامية والباضعة وما أشبه ذلك؛ وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق، حكاه ابن المنذر. وقال أبو عبيد: الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم. والدامعة: أن يسيل منها دم. وليس فيا دون الموضحة قصاص بن. وقال الجوهري: والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل. وقال علماؤنا: الدامية هي التي تسيل الدم. ولا قصاص فيما بعد الموضحة، من الهاشمة للعظم، والمنقلة - على خلاف فيها خاصة - والآمة هي البالغة إلى أم الرأس، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ. وفي هاشمة الجسد القصاص، إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه. وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم: لا قود فيها؛ لأنها لا بد تعود منقلة. وقال أشهب: فيها القصاص، إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها. وأما الأطراف فيجب

القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها. وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين؛ لأنها تقبل التقدير. وفي اللسان روايتان. والقصاص في كسر العظام، إلا ما كان متلفا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه. وفي كسر عظام العضد القصاص. وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يكسر فخذه؛ وفعل ذلك عبدالعزيز بن عبدالله بن خالد بن أسيد بمكة. وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه فعله؛ وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا، وقال: إنه الأمر المجمع عليه عندهم، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فكسرها يقاد منه.

الخامسة والعشرون- قال العلماء: الشجاج في الرأس، والجراح في البدن. وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيا ذكر ابن المنذر؛ واختلفوا في ذلك الأرش وما دون الموضحة شجاج خمس: الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي في الدامية حكومة، وفي الباضعة حكومة، وفي المتلاحمة حكومة. وذكر عبدالرزاق عن زيد بن ثابت قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل، وفي السمحاق أربع، وفي الموضحة خمس، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة، أو يضرب حتى يغن ولا يفهم الدية كاملة، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة، وفي جفن العبن ربع الدية. وفي حلمة الثدي ربع الدية. قال ابن المنذر: وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد. وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا: فيها نصف الموضحة. وقال الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز والنخعي فيها حكومة؛ وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد. ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل؛ على ما في حديث عمرو بن حزم، وفيه: وفي الموضحة خمس. وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه. واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس؛ فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء. وقال بقولهما

جماعة من التابعين؛ وبه يقول الشافعي وإسحاق. وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس. وقال أحمد: موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها. وقال مالك: المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ، قال: والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة. قال مالك: والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة، وكذلك اللحي الأسفل ليس فيه موضحة. وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس وليس فيه والوجه؛ فقال أشهب وابن القاسم: ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد، وليس فيها أرش معلوم. قال ابن المنذر: هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه نقول. وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون دينارا. قال أبو عمر: واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن - وإن انخرقت فصارت واحدة - دية كاملة. وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة. قال ابن المنذر: ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد. وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا. وقال أبو ثور: إن اختلفوا فيه ففيها حكومة. قال ابن المنذر: النظر يدل على هذا؛ إذ لا سنة فيها ولا إجماع. وقال القاضي أبو الوليد الباجي: فيها ما في الموضحة؛ فإن صارت منقلة فخمسة عشر، وإن صارت مأمومة فثلث الدية. قال ابن المنذر: ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الإبل. وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت؛ وبه قال قتادة وعبيدالله بن الحسن والشافعي. وقال الثوري وأصحاب الرأي: فيها ألف درهم، ومرادهم عشر الدية. وأما المنقلة فقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في المنقلة خمس عشرة من الإبل" وأجمع أهل العلم على القول به. قال ابن المنذر: وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المنقلة هي التي تنقل

منها العظام. وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي - وهو قول قتادة وابن شبرمة - أن المنقلة لا قود فيها؛ وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة. قال ابن المنذر: والأول أولى؛ لأني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في المأمومة ثلث الدية" . وأجمع عوام أهل العلم على القول به، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال: إذا كانت المأمومة عمدا ففيها ثلثا الدية، وإذا كانت خطأ ففي ثلث الدية؛ وهذا قول شاذ، وبالقول الأول أقول. واختلفوا في القود من المأمومة؛ فقال كثير من أهل العلم: لا قود فيها؛ وروي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة، فأنكر ذلك الناس. وقال عطاء: ما علمنا أحدا أقاد منا قبل ابن الزبير. وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على حديث عمرو بن حزم؛ ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال: إذا كانت عمدا ففي ثلثا الدية، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدبة. والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة؛ فإن نفذت من جهتين عندهم جائفتان، وفيها من الدية الثلثان. قال أشهب: وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر. بدية جائفتين. وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون: لا قصاص في الجائفة. قال ابن المنذر: وبه نقول.

السادسة والعشرون- واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها؛ فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن رضى الله عنهم أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها. وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك؛ وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث. وقال الليث: إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها؛ للخوف على العين ويعاقبه السلطان. وإن كانت على الخد ففيها القود. وقالت طائفة: لا قصاص في اللطمة؛ روي هذا عن الحسن وقتادة، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي؛ واحتج مالك في ذلك فقال: ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة؛ وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة.

السابعة والعشرون- واختلفوا في القود من ضرب السوط؛ فقال الليث والحسن: يقاد منه، ويزاد عليه للتعدي. وقال ابن القاسم: يقاد منه. ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح؛ قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة. وقال ابن المنذر: وما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد، وفيه القود؛ وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث. وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط. واقتص شريح من سوط وخموش. وقال ابن بطال: وحديث لد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح.

الثامنة والعشرون- واختلفوا في عقل جراحات النساء؛ ففي {الموطأ} عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه، وموضحتها كموضحته، ومنقلتها كمنقلته. قال ابن بكير، قال مالك: فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل. قال ابن المنذر: روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبدالملك بن الماجشون. وقالت طائفة: دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر؛ روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب، وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه؛ واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله، وبه نقول.

التاسعة والعشرون- قال القاضي عبدالوهاب: وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة؛ كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته. وصفة

الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما، ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم؛ قال: ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة. وقيل: بل يقبل قول عدل واحد. والله سبحانه أعلم. فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية بمنه وكرمه.

الموفية ثلاثين- قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} شرط وجوابه؛ أي تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي لذلك المتصدق. وقيل: هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة؛ لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، وأجر المتصدق عليه. وقد ذكر ابن عباس القولين؛ وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما؛ والأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور، وهو {مِنْ} . وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة" . قال ابن العربي: والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل؛ فلا معنى له.

المائدة - تفسير الطبري

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

القول في تأويل قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء اليهود الذين وصفتُ لك، يا محمد، صفتَهم، سَمَّاعون لقِيل الباطل والكذب، ومن قيل بعضهم لبعض:"محمد كاذب، ليس بنبي"، وقيل بعضهم:"إن حكم الزاني المحصن في التوراة الجلد والتحميم"، وغير ذلك من الأباطيل والإفك= ويقبلون الرُّشَى فيأكلونها على كذبهم على الله وفريتهم عليه، (1) كما:-

11942 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل

__________

(1) في المخطوطة: "فيأكلوها" ، والصواب ما في المطبوعة.

قال، سمعت الحسن يقول في قوله:"سماعون للكذب أكَّالون للسحت"، قال: تلك الحكام، سمعوا كِذْبَةً وأكلوا رِشْوَةً.

11943 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"سماعون للكذب أكالون للسحت"، قال: كان هذا في حكّام اليهودِ بين أيديكم، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرُّشَى.

11944 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أكالون للسحت"، قال: الرشوة في الحكم، وهم يهود.

11945 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي وإسحاق الأزرق= وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله:"أكالون للسحت"، قال:"السُّحت"، الرشوةُ.

11946 - حدثنا سفيان بن وكيع وواصل بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لعبد الله: ما السحت؟ قال: الرشوة. قالوا: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.

11947 - حدثنا سفيان قال، حدثنا غندر ووهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله قال:"السحت"، الرشوة.

11948 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن حريث، عن عامر، عن مسروق قال: قلنا لعبد الله: ما كنا نرى"السحت" إلا الرشوة في الحكم! قال عبد الله: ذاك الكُفْر.

11949 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله قال:

"السحت"، الرُّشَى؟ قال: نعم. (1)

11950 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمار الدُّهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت عبد الله عن"السحت"، فقال: الرجل يطلب الحاجةَ للرجل فيقضيها، فيهدي إليه فيقبلُها.

11951 - حدثنا سوّار قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن منصور وسليمان الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله أنه قال:"السحت"، الرشى.

11952 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله:"السحت"، قال: الرشوة في الدِّين.

11953 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن خيثمة قال، قال عمر: [ما كان] من"السحت"، الرشى ومهر الزانية. (2)

11954 - حدثني سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال:"السحت"، الرشوة.

11955 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"أكالون للسحت"، قال: الرشى.

11956 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي= عن طلحة، عن أبي هريرة قال: مهر البغي سُحْت، وعَسْبُ الفحل سحت، (3) وكسْبُ الحجَّام سحت، وثمن الكلب سُحْت.

__________

(1) لعل الصواب"قيل: السحت ، الرشى "أو"سئل".

(2) ما بين القوسين ثابت في المخطوطة والمطبوعة ، وأنا في شك منه ، ولذلك وضعته بين قوسين ، فإن الكلام بغيره مستقيم. وأخشى أن يكون تحريفًا لشيء لم أستطع أن أستظهر صوابه. أو لعله سقط من الخبر شيء. بعد قوله: [ما كان]. وانظر الآثار رقم: 11956 ، 11964 ، 11965 ، فربما كان ما سقط هنا: "ما كان يعطي الكهان في الجاهلية" ، كما في رقم: 11964.

(3) "عسب الفحل": طرق الفحل وضرابه. يقال: "عسب الفحل الناقة يعسبها عسبًا" ، و"فحل شديد العسب". و"العسب" بعد ذلك هو: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل. وقد جاء في الحديث النهي عن عسب الفحل ، وهو كراء عسب الفحل. أما إعارة الفحل للضراب ، فأمر مندوب إليه.

11957 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"السحت"، الرشوة في الحكم.

11958 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن"السحت"، قال: الرشى. فقلت: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.

11959 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أكالون للسحت"، يقول: للرشى.

11960 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن مسروق، وعلقمة: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: هي السحت. قالا في الحكم؟ قال: ذاك الكفر! تم تلا هذه الآية:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (1) [سورة المائدة: 44].

11961 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المسعودي، عن بكير بن أبي بكير، عن مسلم بن صبيح قال: شفع مسروق لرجل في حاجة، فأهدى له جارية، فغضب غضبًا شديدًا وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلَّمت في حاجتك، ولا أكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول:"من شفع شفاعة ليردّ بها حقًّا، أو يرفع بها ظلمًا، فأهدِيَ له

__________

(1) الأثر: 11960-"علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي" ، صاحب ابن مسعود ، وكان أعلم الناس بحديث ابن مسعود. مترجم في التهذيب.

و"مسروق" هو: "مسروق بن الأجدع" ، مضى برقم: 4242 ، 7216 ، وغيرهما. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن مسروق ، عن علقمة" ، والصواب ما أثبت ، فإن مسروقًا وعلقمة ، من كبار أصحاب عبد الله بن مسعود. والسياق يدل على صواب ما أثبت.

فقبل، فهو سحت"، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم! قال: الأخذُ على الحكم كفر. (1)

11962 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"سماعون للكذب أكالون للسحت"، وذلك أنهم أخذوا الرشوة في الحكم، وقضوا بالكذب.

11963 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة، عن عمار، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن"السحت"، أهو الرشى في الحكم؟ فقال: لا من لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق. ولكن"السحت"، يستعينك الرجل على المظلمة فتعينه عليها، فيهدي لك الهدية فتقبلُها.

11964 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن هبيرة السَّبائي قال: من السحت ثلاثة: مهرُ البغي، والرشوة في الحكم، وما كان يُعطى الكُهان في الجاهلية. (2)

11965 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن مطيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن ضمرة، عن علي بن أبي طالب: أنه قال في كسب الحجام،

__________

(1) الأثر: 11961-"بكير بن أبي بكير" ، لم أجد له ذكرًا في كتب التراجم التي بين يدي. وأخشى أن يكون تحريفًا كالذي يليه.

وأما "مسلم بن صبيح الهمداني" ، فهو: "أبو الضحى" ، وقد سلفت ترجمته مرارًا ، منها: 5424 ، 7216 ، 8206. ثقة كثير الحديث ، يروي عن مسروق بن الأجدع. وانظر الأثر التالي: 11963.

وكان في المخطوطة: "هشام بن صبيح" ، وفي المطبوعة: "هاشم بن صبيح" ، وكلاهما خطأ محض ، والذي في المخطوطة تحريف"مسلم".

(2) الأثر: 11964-"يحيى بن سعيد" ، أظنه"يحيى بن سعيد بن حيان التيمي" ، "أبو حيان" ، روى عنه ابن فضيل. مضى برقم: 5382 ، 5383.

و"عبد الله بن هبيرة السبائي" ، ثقة. مضى برقم 1914 ، 5493 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"عبيد الله بن هبيرة" ، وهو خطأ محض.

ومهر البغيّ، وثمن الكلب، والاستجْعَال في القضية، (1) وحلوان الكاهن، (2) وعسب الفحل، (3) والرشوة في الحكم، وثمن الخمر، وثمن الميتة: من السحت. (4)

11966 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أكالون للسحت"، قال: الرشوة في الحكم.

11967 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموال، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كُلُّ لحم أنبَته السُّحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم. (5)

11968 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الجبار بن عمر، عن الحكم بن عبد الله قال: قال لي أنس بن مالك: إذا انقلبت إلى أبيك فقل له: إياك والرشوة، فإنها سحت= وكان أبوه على شُرَط المدينة. (6)

11969 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم،

__________

(1) "الاستجعال" ، يعني: أخذ الجعل (بضم فسكون) ، وهو الأجر ، واشتراطه لقضاء الحاجة. ولم يذكر هذا الحرف من الاشتقاق في معاجم اللغة. وإنما قالوا: "اجتعل" فهو"مجتعل" أي: أخذ جعلا. و"فلان يجاعل فلانًا" ، أي: يصانعه برشوة.

(2) "الحلوان": ما يعطاه الكاهن عن كهانته أجرة.

(3) "عسب الفحل" ، مضى تفسيره ص: 320 ، تعليق: 3 ، وفي المطبوعة: "عسيب الفحل" ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة.

(4) الأثر: 11965-"ضمرة" الذي يروي هنا عن علي بن أبي طالب ، لم أعرف من يكون. وأخشى أن يكون فيه تحريف.

(5) الأثر: 11967-"عبد الرحمن بن أبي الموال" ، ويقال: "عبد الرحمن بن زيد بن أبي الموال" ، ويقال" بن أبي الموالي" ، ثقة. مترجم في التهذيب.

و"عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب" ، ثقة. مضى توثيقه برقم: 7819. وهذا خبر مرسل ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 284 ، ونسبه لعبد بن حميد ، وابن مردويه مرفوعًا من حديث ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(6) الأثر: 11968-"عبد الحبار بن عمر الأيلي" ، ضعيف الحديث ، ليس محله الكذب. ووثقه ابن سعد. مضى برقم: 4608 ، 9057.

أما "الحكم بن عبد الله" ، وأبوه"عبد الله" الذي كان على شرط المدينة ، فلم أعلم من يكونان؟

عن مسروق، عن عبد الله قال: الرشوة سُحت. قال مسروق: فقلنا لعبد الله: أفي الحكم؟ قال: لا ثم قرأ:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [سورة المائدة: 44]،( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [سورة المائدة: 45]،( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [سورة المائدة: 47].

* * *

وأصل"السحت": كَلَبُ الجوع، يقال منه:"فلان مسحُوت المَعِدَة"، إذا كان أكولا لا يُلْفَى أبدًا إلا جائعًا، وإنما قيل للرشوة:"السحت"، تشبيهًا بذلك، كأن بالمسترشي من الشَّره إلى أخذ ما يُعطاه من ذلك، مثل الذي بالمسحوت المعدة من الشَّرَه إلى الطعام. يقالُ منه:"سحته وأسحته"، لغتان محكيتان عن العرب، ومنه قول الفرزدق بن غالب:

وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَع... مِنَ الْمَالِ إلا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ (1)

يعني بِ"المسحت"، الذي قد استأصله هلاكًا بأكله إياه وإفساده، ومنه قوله تعالى:( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) [سورة طه: 61]. وتقول العرب للحالق:"اسحت الشعر"، أي: استأصله.

* * *

__________

(1) ديوانه: 556 ، والنقائض: 556 ، وطبقات فحول الشعراء: 19 ، والخزانة 2: 347 ، واللسان (سحت) (جلف) ، وسيأتي في التفسير 16: 135 ، وفي غيرها كثير. والبيت من قصيدته المشهورة ، وقبل البيت: إِلَيْكَ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَمَتْ بِنَا ... هُمُومُ الْمُنَى والْهَوْجَلُ الْمُتَعَسَّفُ

"الهوجل": البطن الواسع من الأرض. و"المتعسف": المسلوك بلا علم ولا دليل ، فهو يسير فيها بالتعسف. ويروى: "أو مجرف" ، وهو الذي جرفه الدهر ، أي: اجتاح ماله وأفقره. ويروى في"إلا مسحت أو مجلف" بالرفع فيهما (كما سيأتي في 16: 135 ، من التفسير). وقد تجرف النحاة هذا البيت إعرابًا وتأويلا.

القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرضْ عنهم"، إن جاء هؤلاء القوم الآخرون الذين لم يأتوك بعد =وهم قومُ المرأة البغيّة= محتكمين إليك، فاحكم بينهم إن شئت بالحقِّ الذي جعله الله حُكمًا له فيمن فعل فِعْل المرأة البغيَّة منهم= أو أعرض عنهم فدع الحكم بينهم إن شئت، والخيار إليك في ذلك.

* * *

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

11970 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو أعرض عنهم"، يهودُ، زنى رجل منهم له نسبٌ حقير فرجموه، ثم زنى منهم شريف فحمَّمُوه، ثم طافوا به، ثم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقهم. قال: فأفتاهم فيه بالرجم، فأنكروه، فأمرهم أن يدعوا أحبارهم ورهبانهم، فناشدهم بالله: أتجدونه في التوراة؟ فكتموه، إلا رجلا من أصغرهم أعْوَرَ، فقال: كذبوك يا رسول الله، إنه لفي التوراة!

11971 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن ابن شهاب: أنّ الآية التي في"سورة المائدة"،"فإن جاءوك فاحكم بينهم"، كانت في شأن الرجم.

11972 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إنهم أتوه =يعني اليهود=

في امرأة منهم زنت، يسألونه عن عقوبتها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة؟ فقالوا: نؤمر برجم الزانية! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت، وقد قال الله تبارك وتعالى:"وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين".

11973 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: كانوا يحدُّون في الزنا، إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف، (1) فقال بعضهم لبعض: لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه ومثِّلوا به! فجلدوه وحملوه على حمارِ إكافٍ، (2) وجعلوا وجهه مستقبِلَ ذنب الحمار= إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف، فقالوا: ارجموه! ثم قالوا: فكيف لم ترجموا الذى قبله؟ ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا! فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: سلوه، لعلكم تجدون عنده رخصة! فنزلت:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" إلى قوله:"إنّ الله يحب المقسطين".

* * *

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قتيل قُتل في يهودَ منهم، قتله بعضهم.

ذكر من قال ذلك:

11974 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن الآيات في"المائدة"، قوله:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، إلى قوله:"المقسطين"، إنما نزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف، (3) تؤدِّي الدية كاملة، وإن قريظة كانوا يؤدون

__________

(1) في المخطوطة: "إلى أن زنى الشاب منهم" ، والذي في المطبوعة أرجح.

(2) "الإكاف" مركب من المراكب ، مثل الرحال والأقتاب.

(3) في المطبوعة والمخطوطة: "كان لهم شرف" ، بغير واو ، فأثبتها من سيرة ابن هشام.

نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقّ في ذلك، فجعل الدية في ذاك سواءً= والله أعلم أيُّ ذلك كان. (1)

11975 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضيرُ أشرفَ من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير، قُتِل به. وإذا قتل رجلٌ من النضير رجلا من قريظة، أدَّى مئة وَسْقَ تمرٍ. (2) فلما بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَتَل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا! فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنزلت"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط". (3)

11976 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان في حكم حيي بن أخطب: للنّضِيريِّ ديتان، (4) والقرظيّ دية= لأنه كان من النضير. قال: وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما في التوراة، (5) قال:( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) [سورة المائدة: 45]، إلى آخر الآية. قال: فلما رأت ذلك قريظة، لم يرضوا بحكم ابن أخطب، فقالوا: نتحاكم

__________

(1) الأثر: 11974- سيرة ابن هشام 2: 215 ، 216 ، وفي سيرة ابن هشام بين أن قوله"والله أعلم أي ذلك كان" ، من كلام ابن إسحق.

ورواه أحمد في المسند رقم: 3434 ، مختصرًا.

(2) "الوسق" (بفتح الواو وكسرها ، وسكون السين): هو حمل بعير ، وهو ستون صاعًا بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3) الأثر: 11975-"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي" ، مضى مرارا. انظر رقم: 2092 ، 2219 ، وغيرها إلى: 9456. وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله بن موسى" ، وهو خطأ محض.

و"علي بن صالح بن صالح بن حي الهمداني" ، ثقة. مضى برقم: 178. وانظر خبرًا بمعنى بعضه فيما سلف رقم: 9896 ، ومسند أحمد رقم: 3212 ، 3434.

(4) في المطبوعة : "للنضري" ، والصواب من المخطوطة.

(5) في المخطوطة: "وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في التوراة" ، وما في المطبوعة أصح.

إلى محمد! فقال الله تبارك وتعالى:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، فخيرّه="وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، الآية كلها. وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي، وحمَّموا وجهَ الشريف، وحملوه على البعير، وجَعلوا وجهه من قِبَل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه، وفعلوا بها هي ذلك. فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجمها. قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: من أعلمكم بالتوراة؟ قالوا: فلان الأعور! فأرسل إليه فأتاه، فقال: أنت أعلمهم بالتوراة؟ قال: كذاك تزعم يهودُ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْنَاء، ما تجد في التوراة في الزانيين؟ فقال: يا أبا القاسم، يرجمون الدنيئة، ويحملون الشريف على بعير، ويحمِّمون وجهه، ويجعلون وجهه من قبل ذنَبِ البعير، ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة، ويفعلون بها هي ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْناء، ما تجد في التوراة؟ فجعل يروغ، والنبي صلى الله عليه وسلم يَنْشُده بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء، حتى قال: يا أبا القاسم،"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو ذاك، اذهبوا بهما فارجموهما. قال عبد الله: (1) فكنت فيمن رجمهما فما زال يُجْنِئُ عليها، (2) ويقيها الحجارة بنفسه حتّى مات. (3)

* * *

__________

(1) كأنه يعني"عبد الله بن عمر" ، وإن لم يذكر في الخبر ، كما سيأتي في التخريج.

(2) "جنأ عليه" و"أجنأ عليه" و"جانأ عليه" و"تجانأ عليه": أكب عليها ومال ليقيها. وهي في المطبوعة"يجني عليها" ، وهي صواب أيضًا ، والمخطوطة غير منقوطة."جنا عليه يجني" انثنى ، وحنى ظهره. وجاء الحديث باللفظين.

(3) الأثر: 11976- خبر عبد الله بن عمر في رجم اليهودي اليهودية ، رواه مسلم في صحيحه 11: 208 ، 209 والبخاري ، في صحيحه (الفتح 12: 148- 152) وشرحه الحافظ شرحًا وافيًا ، وفي سنن أبي داود 4: 214 ، رقم: 4446.

ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو ثابت اليوم؟ وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمّة والعهد إذا احتكموا إليهم، مثلُ الذي جعَل لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، أم ذلك منسوخ؟

فقال بعضهم: ذلك ثابتٌ اليوم، لم ينسخه شيء، وللحكام من الخيار في كلّ دهر بهذه الآية، مثلُ ما جعَله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

11977 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن عمرو بن أبي قيس، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: إنْ رفع إليك أحد من المشركين في قَضَاءٍ، فإن شئت فاحكم بينهم بما أنزل الله، وإن شئت أعرضت عنهم. (1)

11978 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي وإبراهيم قالا إذا أتاك المشركون فحكَّموك، فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن حكمت فاحكم بحكم المسلمين، ولا تعدُهُ إلى غيره.

11979 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم.

11980 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم.

11981 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن محمد بن سالم، عن الشعبي قال: إذا أتاك أهل الكتاب بينهم أمر، فاحكم بينهم بحكم المسلمين، أو خَلِّ عنهم وأهلَ دينهم يحكمون فيهم، إلا في سرقة أو قتل.

11982 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق عن ابن

__________

(1) في المطبوعة: "أعرض عنهم" ، وأثبت ما في المخطوطة.

جريج قال، قال لي عطاء، نحن مخيَّرون، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب، وإن شئنا أعرضنا فلم نحكم بينهم. وإن حكمنا بينهم حكمنا بحكمنا بيننا، أو نتركهم وحكمهم بينهم= قال ابن جريج: وقال مثل ذلك عمرو بن شعيب. وذلك قوله:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم".

11983 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة= وحدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة= عن إبراهيم والشعبي في قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قالا إذا جاءوا إلى حاكم المسلمين، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. وإن حكم بينهم، حكم بينهم بما في كتاب الله.

11984 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم"، يقول: إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله، أو أعرض عنهم. فجعل الله له في ذلك رُخْصة، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم.

11985 - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا إذا أتاك المشركون فحكَّموك فيما بينهم، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تعدُه إلى غيره، أو أعرض عنهم وخلِّهم وأهلَ دينهم.

* * *

وقال آخرون: بل التخيير منسوخٌ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكُم بينهم بالحق، وليس له ترك النظر بينهم.

ذكر من قال ذلك:

11986 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسخت بقوله:( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ). [سورة المائدة: 49].

11987 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن السدي قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ).

11988 - حدثنا ابن وكيع ومحمد بن بشار قالا حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها:( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ).

11989 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد: لم ينسخ من"المائدة" إلا هاتان الآيتان:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسختها:( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) [سورة المائدة: 49]، وقوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ ) [سورة المائدة: 2]، نسختها:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) [سورة التوبة: 5]. (1)

11990 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد قال: نسختها:( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ).

11991 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن منهال قال، حدثنا همام، عن قتادة قوله:"فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، يعني اليهود، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم، ورخَّص له أن يُعْرض عنهم إن شاء، ثم أنزل الله تعالى ذكره الآية التي بعدها:( وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ) إلى قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) [سورة المائدة: 48]. فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله بعد ما رخَّص له، إن شاء، أن يُعْرض عنهم.

__________

(1) الأثر: 11989- انظر الأثر التالي رقم: 11996 ، والتعليق عليه.

11992 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزريّ: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عديّ بن عديّ:"إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم".

11993 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن السدي، عن عكرمة قال: نسخت بقوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) [سورة المائدة: 48].

11994 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: مضت السنة أن يُرَدُّوا قي حقوقهم ومواريثهم إلى أهلِ دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حدٍّ، يحكم بينهم فيه بكتاب الله.

11995 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما نزلت:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، كان النبي صلى الله عليه وسلم: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخها فقال:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ )، وكان مجبورًا على أن يحكم بينهم.

11996 - حدثنا محمد بن عمار قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا عباد بن العوّام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد قال: آيتان نسختا من هذه السورة= يعني"المائدة"، آية القلائد، وقوله:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مخَّيرًا، إن شاء حكم، وإن شاء أعرض عنهم، فردّهم إلى احتكامهم، (1) أن يحكم بينهم بما في كتابنا. (2)

* * *

__________

(1) في المطبوعة: "فردهم إلى أن يحكم بينهم" ، حذف ما كان في المخطوطة: "فردهم إلى أحكامهم أن يحكم بينهم" ، وصواب قراءته ما أثبت.

(2) الأثر: 11996-"سعيد بن سليمان الضبي" ، هو"سعدويه" ، ثقة مأمون من شيوخ البخاري ، مضى برقم: 611 ، 2168.

و"عباد بن العوام الواسطي" ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، مضى برقم: 2853 ، 5433.

و"سفيان بن حسين الواسطي" ، ثقة ، تكلموا في روايته عن الزهري. مضى برقم: 3471 ، 6462 ، 10723.

و"الحكم" ، هو"الحكم بن عتيبة" ، تابعي ثقة فقيه مشهور ، مضى مرارًا كثيرة.

وهذا الخبر رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ، من طريق سعيد بن سليمان بمثله ، مرفوعًا إلى ابن عباس ، ثم قال: "وهذا إسناد مستقيم ، وأهل الحديث يدخلونه في المسند".

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ، وأن للحكَّام من الخِيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وتركِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية.

وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ، زَعموا أنه نسخ بقوله:( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) [سورة المائدة: 49] وقد دللنا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام": أن النسخ لا يكون نسخًا، إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه= بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)

وإذْ كان ذلك كذلك= وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، ومعناه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم، باختيارك الحكم بينهم، إذا اخترت ذلك، ولم تختر الإعراض عنهم، إذ كان قد تقدَّم إعلام المقول له ذلك من قائِله: إنّ له الخيار في الحكم وترك الحكم= (2) كان معلومًا بذلك أن لا دلالة في قوله:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، أنه ناسخٌ قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، لما وصفنا من احتمال ذلك ما بَيَّنَّا، بل هو

__________

(1) انظر قوله في"النسخ" فيما سلف 8: 12 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك.

(2) السياق: و"إذ كان ذلك كذلك ، وكان غير مستحيل... كان معلوما".

دليل على مثل الذي دلَّ عليه قوله:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط".

وإذْ لم يكن في ظاهر التنزيل دليلٌ على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر= ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبٌر يصحُّ بأن أحدهما ناسخ صاحبَه= ولا من المسلمين على ذلك إجماعٌ= (1) صحَّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيِّد أحدهما صاحبه، ويوافق حكمُه حكمَه، ولا نسخ في أحدهما للآخر.

* * *

وأما قوله:"وإن تُعْرِض عنهم فلن يضروك شيئًا"، فإن معناه: وإن تعرض يا محمد، عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب، فتدَع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك، فلا تحكم فيه بينهم (2) ="فلن يضروك شيئًا"، يقول: فلن يقدِرُوا لك على ضُرَّ في دين ولا دنيا، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم. (3)

* * *

وأما قوله:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، فإن معناه: وإن اخترت الحكم والنَظَر، يا محمد، بين أهل العهدِ إذا أتوك="فاحكم بينهم بالقسط"، وهو العدل، (4) وذلك هو الحكم بما جعله الله حكمًا في مثله على جميع خلقِه من أمة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.

* * *

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

11997 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة،

__________

(1) السياق: "وإذ لم يكن في ظاهر التنزيل دليل... صح ما قلنا" ، وما بينهما عطف على صدر الكلام.

(2) انظر تفسير" الإعراض". فيما سلف 9: 310 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(3) انظر تفسير" الضر" فيما سلف 7: 157.

(4) انظر تفسير"القسط" فيما سلف ص: 95 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.

عن إبراهيم والشعبي:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قالا إن حكم بينهم، حكم بما في كتاب الله.

11998 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوَّام بن حوشب، عن إبراهيم:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قال: أمر أن يحكم فيهم بالرجم.

11999 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوّام، عن إبراهيم التيمي في قوله:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قال: بالرجم.

21000 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بالقسط" بالعدل.

12001 - حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي في قوله:"فاحكم بينهم بالقسط"، قال: أمر أن يحكم بينهم بالرجم.

* * *

وأما قوله:"إن الله يحب المقسطين"، فمعناه: إن الله يحب العادلين في حكمهم بين الناس، (1) القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه وأمْرِه أنبياءَه صلوات الله عليهم. (2)

* * *

يقال منه:"أقسط الحاكم في حكمه"، (3) إذا عدل وقضى بالحق،"يُقْسِط

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "العاملين في حكمه بين الناس" ، وهو كلام فارغ المعنى. وصواب قراءته ما أثبت ، إنما حرفه الناسخ بلا ريب.

(2) في المطبوعة: "وأمر أنبياءه" ، وهو اختلال في السياق ، صوابه من المخطوطة ، وصواب ضبطه ما رسمت ، "وأمره" مصدر معطوف على قوله: "في كتابه".

(3) انظر تفسير" أقسط" و"قسط" فيما سلف 6: 77 ، 270/7: 541/9: 301/10: 95 ، 325

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

إقساطًا"= وأما"قسط"، فمعناه: الجور، (1) ومنه قول الله تعالى ذكره:( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) [سورة الجن: 15]، يعني بذلك: الجائرين عن الحق.

* * *

القول في تأويل قوله : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وكيف يحكمك هؤلاء اليهود، يا محمد، بينهم، فيرضون بك حكمًا بينهم="وعندهم التوراة" التي أنزلتها على موسى، التي يقرُّون بها أنها حق، وأنها كتابي الذي أنزلته إلى نبيي، (2) وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه، ولا يتدافعونه، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع عملهم بذلك="يتولون"، يقول: يتركون الحكم به، بعد العلم بحكمي فيه، جراءة عليّ وعصيانًا لي. (3)

وهذا، وإن كان من الله تعالى ذكره خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه تقريعٌ منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية. يقول لهم تعالى ذكره: كيف تقرّون، أيها اليهود، بحكم نبيّي محمد صلى الله عليه وسلم، مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إياه، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجبٌ، جاءكم به موسى من عند الله؟ يقول: فإذْ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرّون

__________

(1) قوله: "وأما "قسط" ، فمعناه"الجور" ، هذه الجملة ليست في المخطوطة ، ولكن لا غنى عنها ، فلذلك رجحت إثباتها كما هي في المطبوعة. وفي المطبوعة"وإقساطا به" ، بزيادة"به" ، ولا معنى لها ، وليست في المخطوطة.

(2) في المطبوعة: على"نبيي" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(3) انظر تفسير" تولى" فيما سلف 9: 18 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك.

بنبوّته في كتابي، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيِّي محمد أنه حكمي- أحْرَى، مع جحودكم نبوَّته.

* * *

ثم قال تعالى ذكره مخبرًا عن حال هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده، وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمه، الزائلين عن محجّة الحق="وما أولئك بالمؤمنين"، يقول: ليس من فعل هذا الفعل- أي: من تولّى عن حكم الله، الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه، في خلقه (1) = بالذي صدَّق الله ورسوله فأقرّ بتوحيده ونبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك ليس من فِعل أهل الإيمان.

* * *

وأصل"التولى عن الشيء"، الانصرافُ عنه، كما:-

12002 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"ثم يتولون من بعد ذلك"، قال:"توليهم"، ما تركوا من كتاب الله.

12003 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، يعني: حدود الله، فأخبر الله بحكمه في التوراة.

12004 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وعندهم التوراة فيها حكم الله"، أي: بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم="ثم يتولون من بعد ذلك"، الآية.

12005 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، قال= يعني الرب تعالى ذكره= يعيِّرهم:"وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، يقول: الرجم.

* * *

__________

(1) السياق: "... الذي حكم به في كتابه... في خلقه".

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

القول في تأويل قوله عز ذكره : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا التوراة فيها بيانُ ما سألك هؤلاء اليهود عنه من حكم الزانيين المحصنين (1)

="ونور"، يقول: فيها جلاء ما أظلم عليهم، وضياءُ ما التبس من الحكم (2) ="يحكم" بها النبيون الذين أسلموا"، يقول: يحكم بحكم التوراة في ذلك، أي: فيما احتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه من أمر الزانيين="النبيون الذين أسلموا"، وهم الذين أذعنوا لحكم الله وأقرُّوا به. (3)

* * *

وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك نبيّنا محمدا صلى الله عليه وسلم، في حكمه على الزانيين المحصنين من اليهود بالرجم، وفي تسويته بين دم قتلى النّضير وقريظة في القِصاص والدِّية، ومَنْ قبل محمد من الأنبياء يحكم بما فيها من حكم الله، كما:-

12006 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

12007 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية: نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان.

12008 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، قال، حدثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب،

__________

(1) انظر تفسير" الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة.

(2) انظر تفسير"نور" فيما سلف 5: 424/9: 428/10: 145

(3) انظر تفسير" الإسلام" فيما سلف من فهارس اللغة.

عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود وامرأة، (1) فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بُعِث بتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا:"فُتْيَا نبي من أنبيائك"!! قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة، حتى أتى بيت مِدْراسهم، (2) فقام على الباب فقال: أنشدُكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمّم ويجبَّه ويجلد="والتجبيه"، أن يحمل الزانيان على حمار، تُقَابل أقفيتهما، ويطاف بهما= وسكت شابٌّ [منهم]، (3) فلما رآه سكت، ألظَّ به النِّشْدَةَ، (4) فقال: اللهم إذ نشدتَنا، فإنا نجد في التوراة الرجْمَ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أوّل ما ارْتَخَصْتم أمر الله؟ (5) قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم. (6) ثم زنى رجل في أسْوة من الناس، (7) فأراد رَجْمَه، فحال قومه دونه وقالوا: لا ترجمْ صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة! فأمر بهما فرجما= قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، فكان النبيُّ منهم. (8)

12009 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ قبله من الأنبياء، يحكمون بما فيها من الحق.

__________

(1) في المطبوعة: "بامرأة" ، وأثبت ما كان هنا في المخطوطة ، وهو مطابق لما في تفسير عبد الرزاق. انظر التخريج.

(2) في المطبوعة"بيت المدراس" ، وفي المخطوطة: "بيت مدراس" ، وفوق"مدراس" حرف"ط" ، دلالة على الخطأ ، وما أثبته هو الصواب ، من تفسير عبد الرزاق. وقد مضى تفسير"بيت المدراس" فيما سلف ص: 303 ، تعليق: 1.

(3) ما بين القوسين زيادة من تفسير عبد الرزاق.

(4) "ألظ به" ، ألح عليه ، وقد مضى تفسيرها في ص: 304 : تعليق: 2. و"النشدة": الاستحلاف بالله. يقال: "نشدتك الله نشدة ونشدة" (بفتح النون وكسرها) و"نشدانًا" (بكسر النون): استحلفتك بالله.

وفيما نقله أخي السيد أحمد من تفسير عبد الرزاق (المخطوط): "النشيد"؛ وقال أخي: "في أبي داود: النشدة" ، وفي رواية أبي جعفر عن عبد الرزاق ، اختلاف آخر عنه. و"النشيد": رفع الصوت ، هكذا قالوا. وعندي أنه مصدر"نشدتك الله" ، يزاد على مصادره.

(5) في المطبوعة: "ما ارتخص أمر الله" ، وفي المخطوطة: ما يحصص" [محذوفة النقط]، وهو خطأ لاشك فيه ، وأثبت ما في تفسير عبد الرزاق.

(6) قوله: "فأخر عنه الرجم"؛ أي: أسقط عنه الحد ، كأنه أبعده عنه وصرفه أن يلحقه. وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "أخر عني يا عمر" ، قالوا في معناه: "معناه: أخر عني رأيك أو نفسك ، فاختصر إيجازا وبلاغة". فقصروا في شرحه ، وإنما أراد معنى صرفه وإبعاده. وهو في هذا الخبر بالمعنى الذي فسرته. وهو مما يزاد على كتب اللغة ، أو على بيانها على الأصح.

(7) في المطبوعة: "في أسرة من الناس" ، وهي بمثل ذلك في مخطوطة تفسير عبد الرزاق ، ثم هي كذلك في سنن أبي داود وغيره. وفسروها فقالوا"الأسرة: عشيرة الرجل وأهل بيته ، لأنه يتقوى بهم".

بيد أني أثبت ما هو واضح في المخطوطة: "في أسوة" بالواو ، والواو هناك واضحة جدا ، كبيرة الرأس ، وما أظن الناسخ وضعها كذلك من عند نفسه ، بل أرجح أنه وجد"الواو" ظاهرة في نسخة التفسير العتيقة التي نقل عنها ، فأثبتها واضحة لذلك. فلو صح ما في المخطوطة ، فهو عندي أرجح من رواية"في أسرة". وبيانها أنهم يقولون: "القوم أسوة في هذا الأمر" ، أي: حالهم فيه واحدة. فأراد بقوله: "في أسوة من الناس" ، أي: حاله حال سائر الناس ، ليس من أشرافهم ، أو من أهل بيت المملكة منهم ، فهو يعامل كما يعامل سائر العامة. وقد جاء في أخبار رجم اليهوديين: "كنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد" (انظر ما سلف رقم: 11922). فهو يعني بقوله: "في أسوة من الناس" ، أنه من ضعفائهم وعامتهم. وهذا أرجح عندي من"في أسرة من الناس" ، فإنه يوشك أن يكون"في أسرة من الناس" ، مما يوحي بأن له عشيرة يحمونه ويدفعون عنه ويتقوى بهم ، وهو خلاف ما يدل عليه سياق هذا الخبر.

ولولا أني لا أجد في يدي البرهان القاطع ، لقلت إن الذي في المخطوطة هو الصواب. وذلك أني أذكر أني قرأت مثل هذا التعبير في غير هذا الموضع ، وجهدت أن أجده ، فلم أظفر بطائل. فإذا وجدته في مكان آخر أثبته إن شاء الله ، وكان حجة في المعنى الذي فسرته ، وفوق كل ذي علم عليم.

(8) الأثر: 12008- انظر تخريج هذا الخبر فيما سلف في التعليق على الأثرين ، رقم: 11923 ، 11924.

وقد نقله أخي السيد أحمد في مسند أحمد في التعليق على الخبر رقم: 7747 ، من مخطوطة تفسير عبد الرزاق ، ولم يشر إلى موضعه هنا من تفسير الطبري. وقد بينت الاختلاف بين الروايتين فيما سلف من التعليقات.

12010 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله:"يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم="للذين هادوا"، يعني اليهود، (1) فاحكم بينهم ولا تخشهم.

* * *

القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويحكم بالتوراة وأحكامها التي أنزل الله فيها في كل زمان -على ما أمر بالحكم به فيها- مع النبيين الذين أسلموا="الربانيون والأحبار".

* * *

و"الربانيون" جمع"رَبَّانيّ"، وهم العُلماء الحكماء البُصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم= و"الأحبار"، هم العلماء.

* * *

وقد بينا معنى"الربانيين" فيما مضى بشواهده، وأقوالَ أهل التأويل فيه. (2)

* * *

وأما"الأحبار"، فإنهم جمع"حَبْر"، وهو العالم المحكم للشيء، ومنه قيل لكعْب:"كعب الأحبار".

وكان الفراء يقول: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد"الأحبار"،"حِبْر" بكسر"الحاء". (3)

* * *

__________

(1) انظر تفسير"هاد" فيما سلف ص: 309 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(2) انظر تفسير"الربانيون" فيما سلف 6: 540 ، 544 ، وفيه بيان لا يستغني عن معرفته بصير باللغة.

(3) انظر تفسير"الأحبار" فيما سلف 6: 541 ، 542 (الأثر: 7312) ، ثم ص: 544.

وكان بعض أهل التأويل يقول: عُنِي بـ"الربانيين والأحبار" في هذا الموضع: ابنا صوريا اللذان أقرَّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله تعالى ذكره في التوراة على الزانيين المحصنين.

ذكر من قال ذلك:

12011 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان رجلان من اليهود أخوان، يقال لهما ابنا صُوريا، وقد اتبعا النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يسلما، وأعطياه عهدًا أن لا يسألهما عن شيء في التوراة إلا أخبراه به. وكان أحدُهما رِبِّيًّا، والآخر حَبْرًا. وإنما اتَّبعا النبى صلى الله عليه وسلم يتعلمان منه. فدعاهما، فسألهما، فأخبراه الأمر كيف كان حين زَنَى الشريف وزنى المسكين، وكيف غيَّروه، فأنزل الله:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم="والربانيون والأحبار"، هما ابنا صوريا، للذين هادوا. ثم ذكر ابني صوريا فقال:"والربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء".

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء لليهود، والربانيون من خلقه والأحبار. وقد يجوز أن يكون عُني بذلك ابنا صوريا وغيرهما، غير أنه قد دخل في ظاهر التتزيل مسلمو الأنبياء وكل رَبَّاني وحبر. ولا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه معنيٌّ به خاص من الربانيين والأحبار، ولا قامت بذلك حجة يجب التسليم لها. فكل رباني وحبر داخلٌ في الآية بظاهر التنزيل.

* * *

وبمثل الذي قلنا في تأويل"الأحبار"، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

12012 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك:"الربانيون" و"الأحبار"، قُرّاؤهم وفقهاؤهم.

12013 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الحسن:"الربانيون والأحبار"، الفقهاء والعلماء.

12014 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الربانيون"، العلماء الفقهاء، وهم فوق"الأحبار". (1)

12015 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الربانيون"، فقهاء اليهود="والأحبار"، علماؤهم.

12016 - حدثنا القاسم قال، حدثنا سنيد بن داود قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"والربانيون والأحبار"، كلهم يحكم بما فيها من الحق.

12017 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد"الربانيون"، الولاة،="والأحبار"، العلماء.

* * *

وأما قوله:"بما استحفظوا من كتاب الله"، فإن معناه: يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة، والربانيون والأحبار = يعني العلماء= بما استُودعوا علمه من كتاب الله الذي هو التوراة.

* * *

و"الباء" في قوله:"بما استحفظوا"، من صلة"الأحبار".

* * *

وأما قوله:"وكانوا عليه شهداء"، فإنه يعني: أن الربانيين والأحبار بما استودعوا من كتاب الله، يحكمون بالتوراة مع النبيين الذين أسلموا للذين هادوا، وكانوا على حكم النبيين الذين أسلموا للذين هادوا شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله الذي أنزله على نبيه موسى وقضائه عليهم، (2) كما:-

__________

(1) الأثر: 12014- انظر قوله مجاهد بإسناد آخر رقم: 7312.

(2) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد).

12018 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكانوا عليه شهداء"، يعني الربانيين والأحبار، هم الشهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم بما قال، أنه حق جاء من عند الله، فهو نبي الله محمد، أتته اليهود. فقضى بينهم بالحق.

* * *

القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعلماء اليهود وأحبارهم: لا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي الذي حكمت به على عبادي، وإمضائه عليهم على ما أمرت، فإنهم لا يقدرون لكم على ضر ولا نفع إلا بإذني، ولا تكتموا الرجمَ الذي جعلته حُكمًا في التوراة على الزانيين المحصنين، ولكن اخشوني دون كل أحدٍ من خلقي، فإن النفع والضر بيدي، وخافوا عقابي في كتمانكم ما استُحفِظتم من كتابي. (1) كما:-

12019 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تخشوا الناس واخشون"، يقول: لا تخشوا الناس فتكتموا ما أنزلت.

* * *

وأما قوله:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا" يقول: ولا تأخذوا بترك الحكم بآيات كتابي الذي أنزلته على موسى، أيها الأحبار، عوضًا خسِيسًا= وذلك هو"الثمن القليل". (2)

__________

(1) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف 9: 517 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.

(2) انظر تفسير"الاشتراء" فيما سلف 8: 542 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك= وتفسير"الثمن القليل" فيما سلف 7: 500 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.

وإنما أراد تعالى ذكره، نهيَهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله، وتغييرهم حكمه عما حكم به في الزانيين المحصنين، وغير ذلك من الأحكام التي بدَّلوها طلبًا منهم للرشَى، كما:-

12020 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا"، قال: لا تأكلوا السحت على كتابي= وقال مرة أخرى، قال قال ابن زيد في قوله:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا" قال: لا تأخذوا به رشوة. (1)

12021 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا"، ولا تأخذوا طَمَعًا قليلا على أن تكتموا ما أنزلت. (2)

* * *

القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون (44) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كتم حُكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكمًا يين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، (3) وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقِصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوَّى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة="فأولئك هم الكافرون"، يقول:

__________

(1) في المخطوطة: "في قوله: لا تشتر ثمنًا ، قال: لا تأخذ به رشوة" ، وتركت ما في المطبوعة على حاله.

(2) في المطبوعة: "طعمًا قليلا" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الموافق لما في الآثار السالفة. انظر ما سلف الآثار رقم: 821 ، 2498 ، 8333.

(3) "التجبيه" ، و"التحميم" ، مضى تفسيره في الآثار والتعليقات السالفة.

هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه، ولكن بدَّلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحقَّ الذي أنزله في كتابه="هم الكافرون"، يقول: هم الذين سَتَروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينُه، وغطَّوه عن الناس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحتٍ أخذوه منهم عليه. (1)

* * *

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل"الكفر" في هذا الموضع.

فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك، من أنه عنى به اليهود الذين حَرَّفوا كتاب الله وبدَّلوا حكمه.

ذكر من قال ذلك:

12022 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [سورة المائدة: 45]،( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [سورة المائدة: 47]، في الكافرين كلها. (2)

12023 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن القاسم قال، حدثنا أبو حيان، عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في"المائدة"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"=( فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )،( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )، ليس في أهل الإسلام منها شيءٌ، هي في الكفار. (3)

__________

(1) انظر تفسير"الكافر" فيما سلف من فهارس اللغة (كفر).

(2) الأثر: 12022- مضى تخريج هذا الأثر ، مطولا فيما سلف رقم: 11922 ، وتتمته برقم: 11939 ، ورواه أبو جعفر هناك مختصرًا ، وهذا تمامه هنا.

(3) الأثر: 12023-"أبو حيان" هو: "يحيى بن سعيد بن حيان التيمي" ، سلف برقم: 5382 ، 5383 ، 6318 ، 8155. وكان في المخطوطة هنا: "أبو حباب" ، وفي الأثر التالي ، أيضا وكأن الراجح هو ما أثبت في المطبوعة. وانظر التعليق على الأثر التالي.

12024 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون" و"الفاسقون"، قال: نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. (1)

12025 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حدير قال، أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، أحق هو؟ قال: نعم! قالوا:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )، أحق هو؟ قال: نعم! قالوا:( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )، أحق هو؟ قال: نعم! قال فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدْعون، فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا! فقالوا: لا والله، ولكنك تَفْرَقُ! (2) قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرَّجُون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك= أو نحوًا من هذا.

12026 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير قال: قعد إلى أبي مجلز نفرٌ من الإبَاضيَّة، قال فقالوا له: يقول الله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"فأولئك هم الظالمون"،"فأولئك هم الفاسقون"! قال أبو مجلز: إنهم يعملون بما يعلمون = يعني الأمراء = ويعلمون أنه ذنب! (3) قال: وإنما أنزلت هذه الآية في اليهود! والنصارى قالوا:

__________

(1) الأثر: 12024-"أبو حبان" ، "يحيى بن سعيد بن حيان التيمي" ، انظر التعليق على الأثر السالف ، و"أبو حيان التيمي" ، يروي عن الضحاك. وكان في المطبوعة هنا أيضا"أبي حباب". وانظر التعليق على الأثر السالف.

(2) في المطبوعة: "ولكنك تعرف" ، وهو خطأ صرف ، صوابه في المخطوطة."فرق يفرق فرقًا": فرغ وجزع.

(3) في المطبوعة: "إنهم يعملون ما يعملون" ، وفي المخطوطة: "إنه يعملون بما يعملون" ، وصواب القراءة ما أثبت.

أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم، ولكنك تخشاهم! قال: أنتم أحق بذلك منّا! أمّا نحن فلا نعرف ما تعرفون! [قالوا]: (1) ولكنكم تعرفونه، ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم! (2)

12027 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان= عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لكم كل حُلْوة، ولهم كل مُرَّة!! ولتسلُكُنَّ طريقَهم قِدَى الشِّراك. (3)

__________

(1) ظاهر السياق يقتضي زيادة ما زدت بين القوسين ، فهو منهم تقريع لأبي مجلز وسائر من يقول بقوله ، ويخالف الإباضية.

(2) الأثران: 12025 ، 12026- اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة. وبعد ، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا ، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله ، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه ، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين ، اتخذهما رأيًا يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله ، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها ، والعامل عليها.

والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول ، فأبو مجلز (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة ، وكان يحب عليا رضي الله عنه. وكان قوم أبي مجلز ، وهم بنو شيبان ، من شيعة علي يوم الجمل وصفين. فلما كان أمر الحكمين يوم صفين ، واعتزلت الخوارج ، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه ، طائفة من بني شيبان ، ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل. وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ، ناس من بني عمرو بن سدوس (كما في الأثر: 12025) ، وهم نفر من الإباضية (كما في الأثر: 12026) ، والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية ، هم أصحاب عبد الله بن إباض التيمي (انظر هذا التفسير 7: 152-153 ، تعليق: 1) ، وهم يقولون بمقالة سائر الخوارج في التحكيم ، وفي تكفير علي رضي الله عنه إذ حكم الحكمين ، وأن عليًا لم يحكم بما أنزل الله ، في أمر التحكيم. ثم إن عبد الله بن إباض قال" إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك ، فخالف أصحابه ، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم.

ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقًا لا ندري معه -في أمر هذين الخبرين- من أي الفرق كان هؤلاء السائلون ، بيد أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد ، إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر عندهم. ثم قالوا أيضًا: إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان ، وأن كل كبيرة فهي كفر نعمة ، لا كفر شرك ، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها.

ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية ، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء ، لأنهم في معسكر السلطان ، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول (رقم: 12025): "فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا" ، وقال لهم في الخبر الثاني"إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب".

وإذن ، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا ، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام ، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام ، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ، ورغبة عن دينه ، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.

والذي نحن فيه اليوم ، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء ، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه ، وتعطيل لكل ما في شريعة الله ، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع ، على أحكام الله المنزلة ، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا ، ولعلل وأسباب انقضت ، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها. فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز ، والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!!

ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز ، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة. فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكما وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها. هذه واحدة. وأخرى ، أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها ، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل ، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية ، فهذا ذنب تناوله التوبة ، وتلحقه المغفرة. وإما أن يكون حكم به متأولا حكمًا خالف به سائر العلماء ، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب ، وسنة رسول الله.

وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر ، جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة ، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام ، فذلك لم يكن قط. فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها ، وصرفها إلى غير معناها ، رغبة في نصرة سلطان ، أو احتيالا على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده ، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله: أن يستتاب ، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ، ورضى بتبديل الأحكام= فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. واقرأ كلمة أبي جعفر بعد ص: 358 ، من أول قوله: "فإن قال قائل". ففيه قول فصل. وتفصيل القول في خطأ المستدلين بمثل هذين الخبرين ، وما جاء من الآثار هنا في تفسير هذه الآية ، يحتاج إلى إفاضة ، اجتزأت فيها بما كتبت الآن ، وكتبه محمود محمد شاكر.

(3) الأثر: 12027-"حبيب بن أبي ثابت الأسدي" ، ثقة صدوق. مضى برقم: 9012 ، 9035 ، 10423.

و"أبو البختري" ، هو"سعيد بن فيروز الطائي" ، تابعي ثقة ، يرسل الحديث عن عمر وحذيفة وسلمان وابن مسعود. قال ابن سعد في الطبقات 6: 204 : "وكان أبو البختري كثير الحديث ، يرسل حديثه ، ويروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يسمع من كبير أحد. فما كان من حديثه سماعًا فهو حسن ، وما كان"عن" ، فهو ضعيف". ومضى برقم: 175 ، 1497 ، فهو حديث منقطع ، لأن أبا البختري لم يسمع من حذيفة.

وقوله: "قدى" (بكسر القاف وفتح الدال). يقال: "هو مني قيد رمح" (بكسر القاف) و"قاد رمح" و"قدى رمح" بمعنى ، واحد: أي: قدر رمح ، قال هدبة بن الخشرم: وَإِنِّي إِذَا مَا المَوْتُ لَمْ يَكُ دُونَهُ ... قِدَى الشِّبْرِ، أَحْمِي الأنْفَ أَنْ أَتَأَخَّرَا

و"الشراك": سير النعل ، ويضرب به المثل في الصغر والقصر. يريده تشبونهم: لا يكاد أمركم يختلف إلا قدر كذا وكذا.

وكان في المطبوعة هنا: "قدر الشراك" ، وأثبت ما في المخطوطة ، في هذا الأثر ، وفي رقم: 12030.

وخبر حذيفة ، رواه الحاكم في المستدرك 2: 312 ، 313 ، من طريق جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام ، قال: "كنا عند حذيفة ، فذكروا: "ومن لم يحكم لما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ، فقال رجل من القوم: إن هذه في بني إسرائيل! فقال حذيفة: نعم الإخوة بنو إسرائيل ، إن كان لكم الحلو ، ولهم المر! كلا ، والذي نفسي بيده ، حتى تحذوا السنة بالسنة حذو القذة بالقذة". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي."السنة": الطريقة المتبعة. و"القذة": ريش السهم ، يقدر الريش بعضه على بعض ليخرج متساويا.

12028 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون" و"الفاسقون"، قال: نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب.

12029 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار، عن عبد الرحمن.

12030 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"فأولئك هم الظالمون""فأولئك هم الفاسقون"، قال فقيل: ذلك في بني إسرائيل؟ قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مُرَّة، ولكم كل حلوة! كلا والله، لتسلكن طريقَهم قِدَى الشراك. (1)

__________

(1) الأثران: 12029 ، 12030- طريقان أخريان للأثر السالف رقم: 12027 ، وكان في الأثر الأخير هنا في المطبوعة: "قدر الشراك" ، وأثبت ما في المخطوطة. انظر التعليق السالف.

(10/350)

________________________________________

12031 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة قال: هؤلاء الآيات في أهل الكتاب.

12032 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في قتيل اليهود الذي كان منهم. (1)

12033 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون"، و"الفاسقون"، لأهل الكتاب كلّهم، لما تركوا من كتاب الله.

12034 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديّ محمَّم مجلود، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حدَّ من زنى؟ قالوا: نعم! فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا ولولا أنك أنشَدتني بهذا لم أخبرك، نجد حدَّه في كتابنا الرجم، ولكنه كثُر في أشرافنا، فكُنا إذا أخذنا الشّريف تركناه، وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالوا فلنجتمع جميعًا على التحميم والجلد مكانَ الرجْم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنّي أول من أحيَى أمرك إذْ أماتوه! فأمر به فرجم، فأنزل الله:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، يعني اليهود:"فأولئك هم الظالمون"، يعني اليهود:"فأولئك هم الفاسقون"، للكفار كلها. (2)

__________

(1) في المطبوعة: "في قيل اليهود" ، وفي المخطوطة: "في قبيل اليهود" ، والصواب ما أثبت. وقد مضى خبر هذا القتيل مرارًا ، وسيأتي قريبًا برقم: 12037.

(2) الأثر: 12034- مضى تخريج هذا الأثر برقم: 11922 ، من طرق أخرى وسيأتي برقم: 12036.

12035 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: من حكم بكتابه الذي كتب بيده، وترك كتاب الله، وزعم أن كتابه هذا من عند الله، فقد كفر.

12036 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث القاسم، عن الحسن= غير أن هنادًا قال في حديثه: فقلنا: تعالوا فلنجتمع في شيء نقيمه على الشريف والضعيف، فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم- وسائر الحديث نحو حديث القاسم. (1)

12037 - حدثنا الربيع قال، حدثنا ابن وهب قال، حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: كنا عند عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فذكر رجل عنده:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"،"ومن ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، فقال عبيد الله: أمَا والله إن كثيرًا من الناس يتأوَّلون هؤلاء الآيات على ما لم ينزلنَ عليه، وما أُنزلن إلا في حيين من يهود. ثم قال: هم قريظة والنضير، وذلك أنّ إحدى الطائفتين كانت قد غزت الأخرى وقهرتها قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزةُ من الذليلة، فديته خمسون وَسْقًا، (2) وكل قتيل قتلته الذَّليلة من العزيزة، فدِيَته مئة وَسْق. فأعطوهم فَرَقًا وضيمًا. (3) فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فذلَّت الطائفتان بمقدَم النبي صلى الله عليه وسلم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يظهر عليهما. فبيْنا هما على

__________

(1) الأثر: 12034- مضى تخريجه برقم: 11922 ، ورقم: 12034.

(2) "الوثق" (بفتح الواو كسرها): حمل بعير ، أو ستون صاعًا ، وهو مكيال لهم.

(3) "الفرق" (بفتحتين) الفزع ، والجزع. و"الضيم": الظلم. يقول: فقبلوا ذلك خوفًا من بطشهم وجزعًا ، ورضى بالظلم منهم.

ذلك، أصابت الذليلة من العزيزة قتيلا فقالت العزيزة: أعطونا مائة وسق! فقالت الذليلة: وهل كان هذا قط في حَيَّين دينهما واحد، وبلدهما واحد، ديةُ بعضهم ضعفُ دية بعض! إنما أعطيناكم هذا فَرَقًا منكم وضيمًا، فاجعلوا بيننا وبينكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. فتراضيا على أن يجعلوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بينهم. ثم إن العزيزة تذاكرت بينها، (1) فخشيت أن لا يعطيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أصحابها ضعف ما تعطِي أصحابها منها، فدسُّوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إخوانهم من المنافقين، فقالوا لهم: اخبرُوا لنا رأيَ محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أعطانا ما نريد حكَّمناه، وإن لم يعطنا حذرناه ولم نحكمه! فذهب المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلم الله تعالى ذكره النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما أرادوا من ذلك الأمر كله= قال عبيد الله: فأنزل الله تعالى ذكره فيهم:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يُسَارعون في الكفر"، هؤلاء الآيات كلهن، حتى بلغ:"وليحكُم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" إلى"الفاسقون"= قرأ عبيد الله ذلك آيةً آيةً، وفسَّرها على ما أُنزل، حتى فرَغ [من] تفسير ذلك لهم في الآيات. (2) ثم قال: إنما عنى بذلك يهود، وفيهم أنزلت هذه الصفة.

* * *

وقال بعضهم: عنى بـ"الكافرين"، أهل الإسلام، وب"الظالمين" اليهود، وب"الفاسقين" النصارى.

ذكر من قال ذلك:

12038 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن عامر قال: نزلت"الكافرون" في المسلمين، و"الظالمون" في اليهود، و"الفاسقون" في النصارى.

__________

(1) في المخطوطة: *"نكرت" غير منقوطة ، والذي في المطبوعة موافق للمعنى ، ولم أعرف لقراءة ما في المخطوطة وجهًا إلا"فكرت بينها" ، وهي سقيمة.

(2) الذي بين القوسين ، زيادة لا بد منها فيما أرى.

12039 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، قال:"الكافرون"، في المسلمين، و"الظالمون" في اليهود، و"الفاسقون"، في النصارى.

12040 - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب وواصل بن عبد الأعلى قالوا، حدثنا ابن فضيل، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: آيةٌ فينا، وآيتان في أهل الكتاب:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، فينا، وفيهم:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، و"الفاسقون" في أهل الكتاب.

12041 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، مثل حديث زكريَّا عنه. (1)

12042 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: هذا في المسلمين"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: النصارى.

12043 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي قال، في هؤلاء الآيات التي في"المائدة":"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: فينا أهلَ الإسلام="ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، قال: في اليهود="ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: في النصارى.

12044 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى.

__________

(1) يعني رقم: 12038.

12045 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن زكريا، عن الشعبي، بنحوه.

12046 - حدثنا هناد قال، حدثنا يعلى، عن زكريا، عن عامر، بنحوه.

* * *

وقال آخرون: بل عنى بذلك: كفرٌ دون كفر، وظلمٍ دون ظلم، وفسقٌ دون فسق.

ذكر من قال ذلك:

12047 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم.

12048 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عطاء، مثله.

12049 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عطاء بن أبي رباح، بنحوه.

12050 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه.

12051 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه.

12052 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة.

12053 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن معمر بن راشد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن

عباس:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافررن"، قال: هي به كفر، وليس كفرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله. (1)

12054 - حدثني الحسن قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قال رجل لابن عباس في هذه الآيات:"ومن لم يحكم بما أنزل الله"، فمن فعل هذا فقد كفر؟ قال ابن عباس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وبكذا وكذا.

12055 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال هي به كفر= قال: ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكُتُبه ورسله.

12056 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن طاوس:"فأولئك هم الكافرون"، قال: كفر لا ينقل عن الملة= قال وقال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.

* * *

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب، وهى مرادٌ بها جميعُ الناس، مسلموهم وكفارهم.

ذكر من قال ذلك:

12057 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورَضي لهذه الأمّة بها.

__________

(1) الأثر: 12053- خبر طاوس عن ابن عباس ، رواه الحاكم في المستدرك (2: 313) من طريق سفيان بن عيينة ، عن هشام بن ججير ، عن طاوس ، عن ابن عباس: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه ، إنه ليس كفرًا ينقل عنه الملة ="ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ، كفر دون الكفر" ، هذا لفظه ، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، وقال الذهبي: "صحيح".

12058 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت في بني إسرائيل، ورضى لكم بها.

12059 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت في بني إسرائيل، ثم رضى بها لهؤلاء.

12060 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت في اليهود، وهي علينا واجبةٌ.

12061 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت. قال فقالا أفي الحكم؟ قال: ذاك الكُفْر! ثم تلا هذه الآية:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".

12062 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن لم يحكم بما أنزل الله"، يقول: ومن لم يحكم بما أنزلتُ، فتركه عمدًا وجار وهو يعلم، فهو من الكافرين.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به. فأما"الظلم" و"الفسق"، فهو للمقرِّ به.

ذكر من قال ذلك:

12063 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم، فهو ظالم فاسقٌ.

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيُّون بها. وهذه الآيات سياقُ الخبر عنهم، فكونُها خبرًا عنهم أولى.

* * *

فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع منْ لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصًّا؟

قيل: إن الله تعالى عَمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكمَ، على سبيل ما تركوه، كافرون. وكذلك القولُ في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعدَ علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوّة نبيّه بعد علمه أنه نبيٌّ.

* * *

القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك، يا محمد، وعندهم التوراة فيها حكم الله.

ويعني بقوله:"وكتبنا"، وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النَّفس إذا قتلت نفسًا بغير حق (1) ="بالنفس"، يعني: أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة،

__________

(1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: 232 تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

(10/358)

________________________________________

="والعين بالعين"، يقول: وفرضنا عليهم فيها أن يفقأوا العين التي فقأ صاحبها مثلَها من نفس أخرَى بالعين المفقوءة= ويجدع الأنف بالأنف= وتقطع الأذن بالأذن= وتقلع السنّ بالسنّ= ويُقْتَصَّ من الجارِح غيره ظلمًا للمجروح. (1)

وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود= وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته، وإدباره عنه بعد إقباله= وتعريفٌ منه له جراءتهم قديمًا وحديثًا على ربِّهم وعلى رسل ربِّهم، وتقدُّمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل.

يقول تعالى ذكره له: وكيف يرضى هؤلاء اليهود، يا محمد، بحكمك، إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرُّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم، فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين، وقضائي بينهم أن من قتَل نفسًا ظلمًا فهو بها قَوَدٌ، ومن فقأ عينًا بغير حق فعينه بها مفقوءة قِصَاصًا، ومن جدع أنفًا فأنفه به مجدوع، ومن قلع سنًّا فسنّه بها مقلوعة، ومن جرح غيره جرحًا فهو مقتصٌّ منه مثل الجرح الذي جرحه؟= ثم هم مع الحكم الذي عندهم في التوراة من أحكامي، يتولون عنه ويتركون العمل به، يقول: فهم بترك حكمك، وبسخط قضائك بينهم، أحرَى وأولَى.

* * *

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

12064 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما رأت قريظة النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم، وكانوا يخفونه في كتابهم، نهضت قريظة فقالوا: يا محمد، اقضِ بيننا وبين إخواننا

__________

(1) انظر تفسير"القصاص" فيما سلف 3: 357- 366/ثم 3: 579 تعليق: 1.

بني النضير= وكان بينهم دمٌ قبلَ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت النضير يتعزَّزون على بني قريظة، ودياتهم على أنصاف ديات النضير، وكانت الدِّية من وُسُوق التمر: أربعين ومئة وسق لبني النضير، وسبعين وسقًا لبني قريظة= فقال: دمُ القرظيّ وفاءٌ من دم النضيريّ! (1) فغضب بنو النضير وقالوا: لا نطيعك في الرَّجم، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنَّا عليها! فنزلت:( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) [سورة المائدة: 50] ونزل:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"، الآية.

12065 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"، قال: فما بالهم يخالفون، يقتلون النفسين بالنفس، ويفقأون العينين بالعين؟

12066 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خلاد الكوفي قال، حدثنا الثوري، عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ، فكان بينهم قتلى، وكان لأحد الحيين على الآخر طَوْلٌ، (2) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يجعَلُ الحرَّ بالحرِّ، والعبدَ بالعبد، والمرأة بالمرأة، فنزلت:( الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) [سورة البقرة: 178]= قال سفيان: وبلغني عن ابن عباس أنه قال: نسختها:"النفس بالنفس". (3)

12067 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"= فيها

__________

(1) قوله: "وفاء من دم النضيري" ، أي يعادله ويساويه. يقال: "وفى الدرهم المثقال" أي: عادله.

(2) "الطول" (بفتح فسكون): العلو والفضل والعزة.

(3) الأثر: 12066- مضى خبر السدي عن أبي مالك بإسناد آخر رقم: 2564.

في التوراة-"والعين بالعين" حتى:"والجروح قصاص"، قال مجاهد عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل القصاصُ في القتلى، ليس بينهم دية في نفسٍ ولا جُرْحٍ. قال: وذلك قول الله تعالى ذكره:"وكتبنا عليهم فيها" في التوراة، فخفف الله عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل عليهم الدية في النَّفس والجِراح، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة="فمن تصدَّق به فهو كفارة له".

12068 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسن والجروح قصاص"، قال: إن بني إسرائيل لم تُجعل لهم ديةٌ فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت، أو جرح، أو سنّ، أو عين، أو أنف. إنما هو القصاصُ، أو العفو.

12069 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكتبنا عليهم فيها"، أي في التوراة="أن النفس بالنفس".

12070 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكتبنا عليهم فيها"، أي في التوراة، بأن النفس بالنفس.

12071 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" حتى بلغ"والجروح قصاص"، بعضها ببعض.

12072 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أن النفس بالنفس"، قال يقول: تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السنّ بالسن، وتقتصّ الجراح بالجراح.

* * *

قال أبو جعفر: فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم، رجالهم ونساؤهم، إذا كان في النفس وما دون النفس= ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس. (1)

* * *

القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ }

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ به:"فمن تصدق به فهو كفارة له".

فقال بعضهم: عنى بذلك المجروحَ ووليَّ القتيل.

ذكر من قال ذلك:

12073 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: يُهْدَم عنه = يعني المجروح = مثلُ ذلك من ذنوبه.

12074 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو، بنحوه.

12075 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود أبي العُرْيان قال: رأيت معاوية قاعدًا على السرير، وإلى جنبه رجلٌ أحمر كأنه مَوْلىً= وهو

__________

(1) من أول قوله: "فهذا يستوي ..." إلى آخر الكلام ، يشبه عندي أن يكون من كلام أبي جعفر ، فلذلك ، فصلته عن خبر ابن عباس ، وكتبت قبله: "قال أبو جعفر".

عبد الله بن عمرو= فقال في هذه الآية:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: يُهْدَم عنه من ذنوبه مثل ما تصدّق به. (1)

12076 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: للمجروح.

12077 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن أبي عقبة، عن جابر بن زيد:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قا ل: للمجروح. (2)

12078 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني حَرِميّ بن عمارة قال، حدثنا

__________

(1) الآثار: 12073- 12075- ثم يأتي أيضًا من طريق أخرى برقم: 12085.

"سفيان" ، هو الثوري.

و"قيس بن مسلم الجدلي العدواني" ، ثقة ، مضى برقم: 9744.

و"طارق بن شهاب الأحمسي" ، ثقة ، مضى برقم: 9744 ، 11682.

و"الهيثم بن الأسود النخعي" ، "أبو العريان" ، أدرك عليًا ، وروى عن معاوية وعبد الله بن عمرو. ثقة من خيار التابعين ، كان خطيبًا شاعرًا. مترجم في التهذيب.

وهذا الخبر رواه في السنن 8: 54 ، بمثله. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 167 ، من تفسير ابن أبي حاتم ، من طريق أبي داود الطيالسي ، عن شعبة. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 288 ، وزاد نسبته للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

وقوله: "وإلى جنبه رجل أحمر كأنه مولى" ، "الأحمر" عندهم: الأبيض ، لأن بياض الناس تشوبه الحمرة ، ولذلك سموا العجم"الحمراء" ، لبياضهم ، ولغلبة الشقرة عليهم. وقد ذكر ابن سعد (4/2/11) صفة عبد الله بن عمرو ، عن"العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي" قال: "وفدت مع أبي إلى يزيد بن معاوية ، فجاء رجل طوال أحمر ، عظيم البطن ، فسلم وجلس. فقال أبي: من هذا؟ فقيل: عبد الله بن عمرو". وروي أيضا عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، أنه وصف عبد الله بن عمرو فقال: "رجل أحمر عظيم البطن طوال". وعنى بقوله: "كأنه مولى" ، كأنه من العجم أو الفرس.

وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وإلى جنبه رجل آخر" ، وهو خطأ صرف كما ترى.

(2) الأثر: 12077-"عمارة بن أبي حفصة العتكي" ، ثقة ، مضى برقم: 8513.

و"أبو عقبة" ، لم أجد له ذكرا ، ولم أعرف من هو.

و"جابر بن زيد الأزدي اليحمدي" ، "أبو الشعثاء" ، ثقة ، كان من أعلم الناس بكتاب الله. مضى برقم: 5136 ، 5472.

شعبة قال، أخبرني عمارة، عن رجل= قال حرميّ: نسيت اسمه= عن جابر بن زيد، بمثله. (1)

12079 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: للمجروح.

12080 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن فضيل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: دفع رجلٌ من قريش رجلا من الأنصار فاندقَّتْ ثنيَّتُه، فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألحَّ عليه الرجل قال معاوية: شأنَكَ وصاحبَك! قال: وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يُصَاب بشيء من جسده فيَهبُه، إلا رفعه الله به درجةً وحطّ عنه به خطيئة. فقال له الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته أذناي ووَعاه قلبي! فخلَّى سبيلَ القرشيّ، فقال معاوية: مروا له بمالٍ. (2)

12081 - حدثنا محمود بن خداش قال، حدثنا هشيم بن بشير قال،

__________

(1) الأثر: 12078-"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي" ، مضى هو وأبوه"عمارة بن أبي حفصة" فيما سلف رقم: 5813.

والرجل الذي نسيه"حرمي" ، هو"أبو عقبة" المذكور في الأثر السالف.

(2) الأثر: 12080-"يونس بن أبي إسحق السبيعي" ، ثقة. مضى برقم: 3018.

و"أبو السفر" ، هو: "سعيد بن يحمد الثوري" تابعي ثقة ، يروي عن متوسطي الصحابة كابن عباس وابن عمر. مضى برقم: 3010.

وهذا الإسناد منقطع ، لأن أبا السفر لم يسمع أبا الدرداء.

وروى الخبر أحمد في مسنده 6: 448 ، من طريق وكيع عن يونس بن أبي إسحق ، بمثله.

ورواه البيهقي في السنن 8: 55 ، من طريق شيبان بن عبد الرحمن ، عن يونس بن أبي إسحق ، بمثله. ورواه ابن ماجه في سننه ص: 898 ، رقم: 2693.

ورواه الترمذي في"أبواب الديات" ، "باب ما جاء في العفو" ، من طريق عبد الله بن المبارك ، عن يونس بن أبي إسحق. ثم قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولا أعرف لأبي السفر سماعًا من أبي الدرداء".

وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 168 ، وزاد نسبته لابن ماجه.

أخبرنا مغيرة، عن الشعبي قال، قال ابن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جُرِح في جسده جراحةً فتصدَّق بها، كُفّر عنه ذنوبه بمثل ما تصدّق به. (1)

12082 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: كفارة للمجروح.

12083 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا قال: سمعت عامرًا يقول: كفارة لمن تصدَّق به.

12084 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول: لوليّ القتيل الذي عفا.

12085 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم، عن الهيثم أبي العريان قال: كنت بالشأم، وإذا برجل مع معاوية قاعدٍ على السرير كأنه مولًى، قال:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: فمن تصدق به هدَم الله عنه مثلَه من ذنوبه= فإذا هو عبد الله بن عمرو. (2)

__________

(1) الأثر: 12081-"ابن الصامت" ، هو"عبادة بن الصامت" ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الخبر ، إسناد صحيح إلى الشعبي ، رواه أحمد في مسنده 5: 316 ، من طريق سريج بن النعمان ، عن هشيم ، بمثله ، ثم رواه ابنه عبد الله في 5: 329 ، من طريق شجاع بن محمد ، عن هشيم ، بمثله ثم رواه عبد الله أيضا 5: 330 ، من طريق إسمعيل بن أبي معمر الهذلي ، عن جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن ابن الصامت بلفظ: "من تصدق عن جسده بشيء ، كفر الله تعالى عنه بقدر ذنوبه".

ورواه البيهقي بغير هذا اللفظ من طريق أبي داود ، عن محمد بن أبان ، عن علقمة بن مرثه ، عن الشعبي" ، وقال: "هو منقطع" ، وذلك أن الشعبي ، لم يسمع من عبادة بن الصامت.

وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 168 ، وزاد نسبته للنسائي ، عن علي بن حجر ، عن جرير بن عبد الحميد.

(2) الأثر: 12085-"شبيب بن سعيد التميمي الحبطي" ، ثقة ، مضى برقم: 6613.

وهذا الأثر مضى قبل ذلك بالأسانيد رقم 12073 - 12075 ، ولا أدري أسقط من الناسخ هنا"عن طارق بن شهاب" ، كما في سائر الأسانيد ، أم هكذا رواه ابن وهب عن شبيب بن سعيد. ولذلك تركته على حاله ، ولكن لا شك أن الراوي عن الهيثم ، هو طارق بن شهاب.

وأما قوله"الهيثم أبي العريان" فقد كان في المخطوطة والمطبوعة: "الهيثم بن العريان" ، وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه ما أثبت. وقد مضى ذكره في الأسانيد السالفة ، انظر التعليق هناك.

وقال آخرون: عنى بذلك الجارحَ. وقالوا: معنى الآية: فمن تصدق بما وجب له من قَود أو قصاصٍ على من وجب ذلك له عليه، فعفا عنه، فعفوه ذلك عن الجاني كفّارة لذنب الجاني المجرم، كما القِصاص منه كفَّارة له. قالوا: فأما أجْر العافِي المتصدِّق، فعلى الله.

ذكر من قال ذلك:

12086 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: كفارة للجارح، وأجر الذي أُصِيب على الله.

12087 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، قال سمعت مجاهدًا يقول لأبي إسحاق:"فمن تصدّق به فهو كفارة له"، يا أبا إسحاق، [لمن]؟ (1) قال أبو إسحاق: للمتصدق= فقال مجاهد: للمذنب الجارح.

12088 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، قال مغيرة، قال مجاهد: للجارح.

12089 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، مثله.

12090 - حدثنا هناد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قالا للذي تُصُدِّق عليه،

__________

(1) ما زدته بين القوسين ، لا بد من زيادته أو ما بشبهه.

وأجرُ الذي أصيب على الله= قال هناد في حديثه، قالا كفارة للذي تُصُدِّق به عليه.

12091 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، بنحوه.

12092 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر قال: كفارة لمن تُصُدِّق به عليه.

12093 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم قالا كفارة للجارح، وأجر الذي أصيب على الله.

12094 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: إن عفا عنه، أو اقتص منه، أو قبل منه الدية، فهو كفّارة له.

12095 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: كفارة للجارح، وأجرٌ للعافي، لقوله: (1) ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) [سورة الشورى: 40].

12096 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فمن تصدّق به فهو كفارة له"، قال: كفارة للمتصدَّقِ عليه.

12097 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، حدثنا حصين، عن ابن عباس:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: هي كفارة للجارح.

12098 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن

__________

(1) في المخطوطة: "إلى قوله: فمن عفا..." ، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ ، والذي في المطبوعة هو الصواب.

عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: فالكفارة للجارح، وأجر المتصدِّق على الله.

12099 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقول:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول: للقاتل، وأجرٌ للعافي.

12100 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عمران بن ظبيان، عن عديّ بن ثابت قال، هُتِم رجل على عهد معاوية، (1) فأعطي دية فلم يقبل، ثم أعطي ديتين فلم يقبل، ثم أعطي ثلاثًا فلم يقبل. فحدَّث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فمن تصدّق بدمٍ فما دونه، كان كفّارة له من يوم تَصدَّق إلى يوم وُلد". قال: فتصدَّق الرجل. (2)

12101 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول: من جرح فتصدَّق بالذي جُرِح به على الجارح،

__________

(1) "هتم الرجل" (بالبناء للمجهول): انكسر مقدم أسنانه."هتم فاه يهتمه هتمًا" متعديا = و"هتم هتما" (على وزن سكر) فهو"أهتم" ، و"تهتمت ثناياه".

(2) الأثر: 12100-"عمران بن ظبيان الحنفي". قال البخاري: "فيه نظر" ، وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه" ، ثم اختلف في أمره ابن حبان ، فذكره في الثقات ، ثم عاد فذكره في الضعفاء ، وقال"فحش خطؤه ، حتى بطل الاحتجاج" ، وضعفه العقيلي وابن عدي. وكان يميل إلى التشيع.

وأما "عدي بن ثابت الأنصاري" ، فهو ثقة صدوق ، كان إمام مسجد الشيعة وقاصهم. وروى له الأئمة ، مضى برقم: 11726.

وهذا الخبر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 288 ، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور ، وابن مردويه. ولفظ الخبر عن رسول الله: "من تصدق بدم فما دونه ، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت". وساقه بلفظه هذا ابن كثير في تفسيره 3: 168 ، عن ابن مردويه ، قال"حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا محمد بن علي بن زيد ، عن سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن عمران بن ظبيان". وكأن الصواب هو هذا اللفظ ، وما في التفسير أنا في شك من صحة لفظه ، ولكني تركته على حاله ، ولو كان: "من يوم ولد إلى يوم تصدق" ، لكان أقوم لفظًا ومعنى.

فليس على الجارح سبيلٌ ولا قَوَدٌ ولا عَقْلٌ، ولا حَرَج عليه، (1) من أجل أنه تصدق عليه الذي جُرِح، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظَلَم.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: عني به:"فمن تصدّق به فهو كفارة له"، المجروحَ (2) = فلأن تكون"الهاء" في قوله:"له" عائدةً على"مَنْ"، أولى من أن تكون مِنْ ذِكْر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح، وأحرَى، إذ الصدقة هي المكفِّرة ذنبَ صاحبها دون المتصدَّق عليه في سائر الصدقات غير هذه، فالواجب أن يكون سبيلُ هذه سبيلَ غيرها من الصدَّقات.

* * *

فإن ظنّ ظانّ أن القِصاصَ= إذْ كان يكفّر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلمًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ أخذ البيعة على أصحابه (3) "أن لا تقتلوا ولا تزنُوا ولا تسرقوا" ثم قال:"فمن فَعَل من ذلك شيئًا فأقيم عليه حدُّه فهو كفارته" (4) فالواجب أن يكونَ عفوُ العافي المجنيِّ عليه، أو ولي المقتول عنه نظيرَه، (5) في أن ذلك له كفارة. فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك، لوجب أن يكون عفوُ المقذوفِ عن قاذفه بالزنا، وتركِه أخذه

__________

(1) في المطبوعة: "ولا جرح عليه" ، والصواب ما أثبت ، والمخطوطة غير منقوطة.

(2) في المطبوعة والمخطوطة: "عنى به فمن تصدق..." ، والسياق يقتضي ما أثبت.

(3) في المطبوعة: "كقول النبي صلى الله عليه وسلم" ، والصواب ما أثبت.

(4) هذا الخبر رواه أبو جعفر مختصرًا غير مسند ، وهو خبر صحيح. انظر صحيح مسلم 11: 222 - 224.

(5) السياق: "فإن ظن ظان أن القصاص ، إذ كان يكفر ذنب صاحبه... فالواجب أن يكون عفو العافي... نظيره.

بالواجب له من الحدِّ، وقد قذفه قاذِفُه وهو عفيفٌ مسلم مُحْصَن، كفَّارةً للقاذف من ذنبه الذى ركبه، ومعصيته التي أتاها. وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله.

فإذْ كان غير جائز أن يكون تركُ المقذوف =الذي وصفنا أمره= أخذَ قاذفه بالواجب له من الحدّ= كفارةً للقاذف من ذنبه الذي ركبه، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذَ الجارح بحقِّه من القصاص، كفَّارةً للجارح من ذنبه الذي ركبه.

* * *

فإن قال قائل: أو ليس للمجروح عندك أخْذُ جارحه بدية جرحه مكانَ القِصاص؟

قيل له: بلى!

فإن قال: أفرأيت لو اختار الدّية ثم عفا عنها، أكانت له قِبَله في الآخرة تَبِعةٌ؟

قيل له: هذا كلام عندنا محالٌ. وذلك أنه لا يكون عندنا مختارًا لديةٍ إلا وهو لها آخذٌ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم= وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غيرِ هذا، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع (1) = إلا أن يكون مرادًا بذلك هِبتُها لمن أخذت منه بعد الأخذ. مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صَحَّ، لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوُّ له عنها بريئًا من عقوبة ذنبه عند الله; لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتلَ المؤمن بما أوعده به إن لم يتُبْ من ذنبه، والدية مأخوذة منه، أحبَّ أم سخط. والتوبة من التَائب إنما تكون توبةً إذا اختارها وأرادَها وآثرها على الإصرار.

* * *

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك، فقد يجب أن يكون له كفارةً، كما كان القصاص له كفارة، (2) فإنَّا إنما جعلنا القِصاص له كفارة= مع ندمه وبَذْله نفسَه لأخذ الحق منها= تنصُّلا من ذنبه، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

__________

(1) انظر ما سلف 3: 371 ، وما قبلها.

(2) في المطبوعة: "كما جاز القصاص" ، وفي المخطوطة"كان" إلا أنه كتب جيما ثم وضع عليها شرطة الكاف ، وأما الحرف الأخير فهو"نون" ، فصحيح قراءته ما أثبت ، وهو حق السياق أيضًا.

فأما الدية إذا اختارها المجروحُ ثم عفا عنها، فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه، فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله:"فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته". ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك، الأخبارُ التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:"فمن تصدّق بدمٍ"، (1) وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل.

* * *

وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارحَ، أرادوا المعنى الذي ذُكر عن عروة بن الزبير الذي:-

12102- حدثني به الحارث بن محمد قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، (2) حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المُصاب من أصابه، فاعترف له المصيب، فهو كفارة للمُصيب. قال: وكان مجاهد يقول عند هذا: أصاب عروة ابن الزبير عينَ إنسان عند الركن فيما يستلمون، (3) فقال له: يا هذا، أنا عروة بن الزبير، فإن كان بعينك بأس فأنَا بها!

* * *

وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعلٍ على غير عمدٍ، ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه، فعفا له المصاب بذلك عن حقِّه قبله، فلا تبعة له حينئذٍ قَبِل المُصيب في الدنيا ولا في الآخرة. لأن الذى كان وجب له قبله مالٌ لا قِصاص، وقد أبرأه منه: فإبراؤه منه، كفَّارة للمبرَّأ من حقه==

  (1) في المطبوعة والمخطوطة."فمن تصدق به" ، والصواب ما أثبته ، وهو نص الأثر السالف رقم: 12100.

(2) في المطبوعة: "قال حدثنا ابن سلام" ، وفي المخطوطة: "قال حدثنا القاسم الحارث بن سلام" ثم ضرب على"القاسم" و"الحارث" ثم وضع بجوار"القاسم" علامة التصحيح وهي (صح).

(3) في المخطوطة: "فيما يسلمون" ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، وهو قريب الاستقامة. وفي تفسير أبي حيان 3: 497 ، "وهم يستلمون" ، وهي أجود.

=الذي كان له أخذه به، (1) فلا طَلِبة له بسبب ذلك قِبَله في الدنيا ولا في الآخرة، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه إلى من أصابه، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به، فيكون بفعله آثمًا يستحق به العقوبة من ربه، (2) لأن الله عز وجل قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطأوا فيه ولم يتعمّدوه من أفعالهم، فقال في كتابه:( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ). (3) [سورة الأحزاب: 5]

* * *

و"التصدق"، في هذا الموضع، بالدم، العفو عنه. (4)

* * *

القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوارة من قَوَدِ النفس القاتلة قِصاصًا بالنفس المقتولة ظلمًا. ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوء ظلمًا، قِصاصًا ممن أمره الله به بذلك في كتابه، ولكن أقاد من بعضٍ ولم يُقِدْ من

__________

(1) في المطبوعة: "كفارة له من حقه" ، وفي المخطوطة"كفارة *لمتزامر[محذوفة النقط] من حقه" ، والذي أثبته هو صواب قراءتها.

(2) في المطبوعة: "فيكون بفعله إنما يستحق العقوبة" ، وهو كلام فارغ المعنى ، و *"انما" هكذا في المخطوطة غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.

(3) في المخطوطة والمطبوعة ، كتب الآية هكذا: "ولا جناح عليكم فيما أخطأتم..." ، وليس فيما نتلو آية كهذه ، وإنما هي آية الأحزاب كما أثبتها.

(4) في المطبوعة: "وقد يراد في هذا الموضع بالدم العفو عنه" ، وهو كلام لا معنى له ولا ضابط. وفي المخطوطة: "وا * في هذا الموضع بالدم ، العفو عنه" ، بين الكلامين بياض وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ ، فاستظهرت صواب الكلام من سياق تفسير هذه الآية.

بعض، أو قتل في بعض اثنين بواحد، فإنّ من يفعل ذلك من"الظالمين" (1) = يعني: ممن جارَ عن حكم الله، (2) ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعًا. (3)

* * *

__________

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن من يفعل ذلك" ، والسياق يقتضي ما أثبت.

(2) في المطبوعة: "جار على حكم الله" ، والصواب من المخطوطة.

(3) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام لمحمد رشيد رضا

  حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح  المحمدي العام لمحمد رشيد رضا تعليق: محمد ناصر الدين الألباني  ( صحيح ) عن عائشة رضي الله ...