كتاب صفة الجنة للحافظ ضياء المقدسي

كتاب صفة الجنة -الحافظ ضياء الدين-أأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي

Translate

الثلاثاء، 17 يناير 2023

ج9وج10.كتاب : الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي

 

ج9. كتاب : الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)
تحقيق : أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش
الناشر : دار الكتب المصرية - القاهرة
الطبعة : الثانية ، 1384هـ - 1964 م
عدد الأجزاء : 20 جزءا (في 10 مجلدات)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ، وهو مذيل بالحواشي ، وضمن خدمة مقارنة تفاسير]
__________
تنبيهات :
1 - الكتاب مرتبط بنسختين مصورتين ، إحداهما موافقة في ترقيم الصفحات (ط عالم الكتب) ، والأخرى هي ط الرسالة بتحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
2- ط دار الكتب المصرية (=الهيئة المصرية العامة للكتاب) ، التي أُخذت عنها هذه النسخة الإلكترونية : مقابلة على 24 نسخة مخطوطة ومُراجعة على كتب التفسير والقراءات، وكتب الحديث والإعراب التي رجع إليها المؤلف، وخاصة قراءة نافع التي جعلها المؤلف أصلاً لتفسيره.
ثم طبعتها كثير من دور النشر بعد ذلك بنفس أرقام أجزائها وصفحاتها وحواشيها ، منها : دار إحياء التراث العربي بيروت 1405 هـ - 1985 م ، ومنها دار عالم الكتب - الرياض 1423 هـ - 2003 م

] أيضا [مثله في الإسلام، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهوازن: (ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم). أخرجه البخاري. الثالثة- وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس. والتجسس: التبحث. وقد بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبسة عينا «1»، أخرجه مسلم. وسيأتي حكم الجاسوس في" الممتحنة" «2» إن شاء الله تعالى. وأما أسماء نقباء بني إسرائيل فقد ذكر أسماءهم محمد بن حبيب في" المحبر" «3» فقال: من سبط روبيل شموع بن ركوب، ومن سبط شمعون شوقوط بن حوري، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا، ومن سبط الساحر يوغول بن يوسف، ومن سبط أفراثيم ابن يوسف يوشع بن النون، ومن سبط بنيامين يلظى بن روقو، ومن سبط ربالون كرابيل ابن سودا ومن سبط منشا بن يوسف كدي بن سوشا، ومن سبط دان عمائيل بن كسل، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل، ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا، ومن سبط كاذكوال ابن موخى، فالمؤمنان منهم يوشع وكالب، ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطا عليهم، قاله الماوردي. وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن «4» إسحاق فلينظروا هناك. قوله تعالى: (وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) الآية. قال الربيع بن أنس: قال ذلك للنقباء. وقال غيره: قال ذلك لجميع بني إسرائيل. وكسرت" إن" لأنها مبتدأة." مَعَكُمْ" منصوب لأنه ظرف، أي بالنصر والعون. ثم ابتدأ فقال:" لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ" إلى أن قال" لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ" أي إن فعلتم ذلك (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ). واللام في" لَئِنْ" لام توكيد ومعناها القسم، وكذا" لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ"،" وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ". وقيل: المعنى
__________
(1). كان ذلك في غزوة بدر قيل: هو ابن عمرو الأنصاري أرسله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتقصى أنباء عير أبي سفيان.
(2). راجع ج 18 ص 53.
(3). قال أبو حيان في (البحر): ذكر محمد بن حبيب في (المحبر) أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة، بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا تنضبط أيضا. وفي هامش الطبري: وقع تحريف واختلاف بين كتب التاريخ في أسماء الأسباط والنقباء منهم فلتحرر.
(4). راجع سيرة ابن هشام ج 1 ص 297 طبع أوربا.

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

لئن أقمتم الصلاة لأكفرن عنكم سيئاتكم، وتضمن شرطا آخر لقوله:" لَأُكَفِّرَنَّ" أي إن فعلتم ذلك لأكفرن. وقيل: قوله" لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ" جزاء لقوله:" إِنِّي مَعَكُمْ" وشرط لقوله:" لَأُكَفِّرَنَّ" والتعزير: التعظيم والتوقير، وأنشد أبو عبيدة:
وكم من ماجد لهم كريم ... ومن ليث يعزر في الندي
أي يعظم ويوقر. والتعزير: الضرب دون الحد، والرد، تقول: عزرت فلانا إذا أدبته ورددته عن القبيح. فقوله:" عَزَّرْتُمُوهُمْ" أي رددتم عنهم أعداءهم. (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) يعني الصدقات، ولم يقل إقراضا، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) «1»، (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) وقد تقدم «2». ثم قيل: (حَسَناً) أي طيبة بها نفوسكم. وقيل: يبتغون بها وجه الله. وقيل: حلالا. وقيل: (قَرْضاً) اسم لا مصدر. (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ) أي بعد الميثاق. (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي أخطأ قصد الطريق. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قوله تعالى: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) أي فبنقضهم ميثاقهم،" فَبِما" زائدة للتوكيد، عن قتادة وسائر أهل العلم، وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد، كما قال:
لشيء ما يسود من يسود
__________
(1). راجع ج 18 ص 305.
(2). راجع ج 4 ص 69.

فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير. (لَعَنَّاهُمْ) قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية. وقال الحسن ومقاتل: بالمسخ. عطاء: أبعدناهم واللعن الابعاد والطرد من الرحمة. (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله، والقاسية والعاتية بمعنى واحد. وقرا الكسائي وحمزة:" قسية" بتشديد الياء من غير ألف، وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب. والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه. وقيل: هو من الدراهم القسيات أي الفاسدة الرديئة، فمعنى" قسية" على هذا ليست بخالصة الايمان، أي فيها نفاق. قال النحاس: وهذا قول حسن، لأنه يقال: درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره. يقال: درهم قسي (مخفف السين مشدد الياء) مثال شقي أي زائف، ذكر ذلك أبو عبيد وأنشد:
لها صواهل في صم السلام كما ... صاح القسيات في أيدي الصياريف «1»
يصف وقع المساحي «2» في الحجارة. وقال الأصمعي وأبو عبيد: درهم قسي كأنه معرب قاشي. قال القشيري: وهذا بعيد، لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا، لان ما قلت نقرته يقسو ويصلب. وقرا الأعمش:" قسية" بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية، من قسى يقسي لا من قسا يقسو. وقرا الباقون على وزن فاعلة، وهو اختيار أبي عبيد، وهما لغتان مثل العلية والعالية، والزكية والزاكية. قال أبو جعفر النحاس: أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة. فالمعنى: جعلنا قلوبهم غليظة نابيه عن الايمان والتوفيق لطاعتي، لان القوم لم يوصفوا بشيء من الايمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر، كالدراهم القسية التي خالطها غش. قال الراجز:
قد قسوت وقست لداتي

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام. وقيل: معناه يبدلون حروفه. و" يُحَرِّفُونَ" في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين.
__________ (1). البيت لابي زيد الطائي. والصواهل (جمع الصاهلة) مصدر على فاعلة بمعنى الصهيل وهو الصوت.
(2). المساحي (جمع مسحاة): وهي المجرفة من الحديد.

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

وقرأ السلمي والنخعي" الكلام" بالألف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآية الرجم. (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.، وبيان نعته." وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ" أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف" عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ" والخائنة الخيانة، قال قتادة. وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم: قائلة بمعنى قيلولة. وقيل: هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة. وقد تقع" خائِنَةٍ" للواحد كما يقال: رجل نسابة وعلامة، فخائنة على هذا للمبالغة، يقال: رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة. قال الشاعر»
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الإصبع
قال ابن عباس:" عَلى خائِنَةٍ" أي معصية. وقيل: كذب وفجور. وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومظاهرتهم المشركين على حرب ] رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ «2»، كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه. (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في" خائِنَةٍ مِنْهُمْ". (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) في معناه قولان: فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة. والقول الآخر أنه منسوخ بآية السيف. وقيل: بقوله عز وجل" وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً" «3»] الأنفال: 58].

[سورة المائدة (5): الآيات 14 الى 16]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
__________
(1). هو الكلابي يخاطب قرينا أخا عمير الحنفي وكان له عنده دم. وقبله:
أقرين إنك لو رأيت فوارسي ... نعما يبتن إلى جوانب صلقع
(اللسان).
(2). من ج وك.
(3). راجع ج 8 ص 31.

قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) أي في التوحيد والايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ هو مكتوب في الإنجيل. (فَنَسُوا حَظًّا) وهو الايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أي لم يعملوا بما أمروا به وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سببا للكفر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعنى" أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ" هو كقولك: أخذت من زيد ثوبه ودرهمه، قاله الأخفش. ورتبة" الَّذِينَ" أن تكون بعد" أَخَذْنا" وقبل الميثاق، فيكون التقدير: أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، لأنه في موضع المفعول الثاني لأخذنا. وتقديره عند الكوفيين: ومن الذين قالوا إنا نصارى من أخذنا ميثاقه، فالهاء والميم تعودان على" من" المحذوفة، وعلى القول الأول تعودان على" الَّذِينَ". ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى، ولا ألينها لبست من الثياب، لئلا يتقدم مضمر على ظاهر. وفي قولهم:" إِنَّا نَصارى " ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها، روي معناه عن الحسن. قوله تعالى: (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) أي هيجنا. وقيل: ألصقنا بهم، مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه. يقال: غري بالشيء يغرى غرا" بفتح الغين" مقصورا وغراء" بكسر الغين" ممدودا إذا أولع به كأنه التصق به. وحكى الرماني: الإغراء تسليط بعضهم على بعض. وقيل: الإغراء التحريش، وأصله اللصوق، يقال: غريت بالرجل غرا- مقصور وممدود مفتوح الأول- إذ لصقت به. وقال كثير: إذا قيل مهلا قالت العين بالبكا غراء ومدتها حوافل نهل «1»
__________
(1). كذا بالأصول والذي في (اللسان). إذا قلت أسلو غارت العين بالبكا غراء ومدتها مدامع حفل [.....]

وأغريت زيدا بكذا حتى غري به، ومنه الغراء الذي يغري به للصوقه، فالاغراء بالشيء الإلصاق به من جهة التسليط عليه. وأغريت الكلب أي أولعته بالصيد." بَيْنَهُمُ" ظرف للعداوة." وَالْبَغْضاءَ" البغض. أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما. عن السدي وقتادة: بعضهم لبعض عدو. وقيل: أشار إلى افتراق النصارى خاصة، قاله الربيع بن أنس، لأنهم أقرب مذكور، وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقبة والنسطورية والملكانية، أي كفر بعضهم بعضا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى" فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار. وقوله: (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ)
تهديد لهم، أي سيلقون جزاء نقض الميثاق. قوله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ) الكتاب اسم جنس بمعنى الكتب، فجميعهم مخاطبون. (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) أي من كتبكم، من الايمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة، فإنهم كانوا يخفونها. (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه. وقيل:" وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ" يعني يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به. وذكر أن رجلا من أحبارهم جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله فقال: يا هذا عفوت عنا؟ فأعرض عنه رسول الله عليه وسلم ولم يبين، وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه، فلما لم يبين له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام من عنده فذهب وقال لأصحابه: أرى أنه صادق فيما يقول: لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله عنه." قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ" أي ضياء، قيل: الإسلام. وقيل: محمد عليه السلام، عن الزجاج. (وَكِتابٌ مُبِينٌ) أي القرآن، فإنه يبين الأحكام، وقد تقدم «1». (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي ما رضيه الله. (سُبُلَ السَّلامِ) طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمنة من كل مخافة، وهي الجنة. وقال الحسن والسدي:" السَّلامِ" الله عز وجل، فالمعنى دين الله- وهو الإسلام- كما قال:
__________
(1). راجع ص 27 من هذا الجزء.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)

" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ" «1»] آل عمران: 19]. (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات. (بِإِذْنِهِ) أي بتوفيقه وإرادته.

[سورة المائدة (5): آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) تقدم في آخر" النساء" «2» بيانه والقول فيه. وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم على جهة الدينونة به، لأنهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا. (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي من أمر الله. و" يَمْلِكُ" بمعنى يقدر، من قولهم ملكت على فلان أمره أي اقتدرت عليه. أي فمن يقدر أن يمنع من ذلك شيئا؟ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها، فلو أهلكه هو أيضا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) والمسيح وأمه بينهما مخلوقان محدودان محصوران، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للإلهية. وقال" وَما بَيْنَهُما" ولم يقل وما بينهن، لأنه أراد النوعين والصنفين كما قال الراعي:
طرقا فتلك هماهمي «3» أقريهما ... قلصا «4» لواقح كالقسي وحولا «5»
فقال:" طرقا" ثم قال:" فتلك هماهمي". (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) عيسى من أم بلا أب آية لعباده.
__________
(1). راجع ج 4 ص 43.
(2). راجع ص 21 وما بعدها من هذا الجزء.
(3). الهماهم: بمعنى الهموم.
(4). قلص (جمع قلوص): وهي الفتية من الإبل.
(5). حول (جمع حائل): وهي التي حمل عليها فلم تلقح، وقيل هي الناقة التي تحمل سنة أو سنتين أو سنوات.

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)

[سورة المائدة (5): آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) قال ابن عباس: خوف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوما من اليهود العقاب فقالوا: لا نخاف فإنا أبناء الله وأحباؤه، فنزلت الآية. قال ابن إسحاق: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعمان بن أضا وبحري بن عمرو وشأس بن عدي فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟، نحن أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنزل الله عز وجل فيهم" وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ
" إلى آخر الآية. قال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع ابن حريملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا من بعده، فأنزل الله عز وجل:" يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ" إلى قوله:" وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". السدي: زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل عليه السلام أن ولدك بكري من الولد. قال غيره: والنصارى قالت نحن أبناء الله، لان في الإنجيل حكاية عن عيسى" أذهب إلى أبي وأبيكم". وقيل: المعنى: نحن أبناء رسل الله، فهو على حذف مضاف. وبالجملة. فإنهم رأوا لأنفسهم فضلا، فرد عليهم قولهم فقال (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين، إما أن يقولوا هو يعذبنا، فيقال لهم: فلستم إذا أبناءه وأحباءه، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرون بعذابه، فذلك دليل على كذبكم- وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف- أو يقولوا

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)

: لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم، وما جاءت به رسلهم، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم، ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم. وقيل: معنى" يُعَذِّبُكُمْ" عذبكم، فهو بمعنى المضي، أي فلم مسخكم قردة وخنازير؟ ولم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بأنواع العذاب وهم أمثالكم؟ لان الله سبحانه لا يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، لأنهم ربما يقولون لا نعذب غدا، بل يحتج عليهم بما عرفوه. ثم قال: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أي كسائر خلقه يحاسبكم على الطاعة والمعصية، ويجازي كلا بما عمل. (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أي لمن تاب من اليهود. (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) من مات عليها. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا شريك له يعارضه. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي يئول أمر العباد إليه في الآخرة.

[سورة المائدة (5): آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (يُبَيِّنُ لَكُمْ) انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا غدا ما جاءنا رسول. (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي سكون، يقال فتر الشيء سكن. وقيل:" عَلى فَتْرَةٍ" على انقطاع ما بين النبيين، عن أبي علي وجماعة أهل العلم، حكاه الرماني، قال: والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم: فتر عن عمله وفترته عنه. ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان من السخونة إلى البرد. وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر. وفتور البدن كفتور الماء. والفتر ما بين السبابة والإبهام إذا فتحتهما. والمعنى، أي مضت للرسل مدة قبله. واختلف في قدر مدة تلك الفترة، فذكر محمد بن سعد في كتاب" الطبقات" عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة «1» سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل
__________
(1). على المشهور. وفي الأصول: ألف سنة وتسعمائة.

سوى من أرسل من غيرهم. وكان بين ميلاد عيسى والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله تعالى:" إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ" «1» [يس: 14] والذي عزز به" شمعون" وكان من الحواريين. وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة. وذكر الكلبي أن بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة سنة وتسعا وستين، وبينهما أربعة أنبياء، واحد «2» من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان. قال القشيري: ومثل هذا مما لم لا يعلم إلا بخبر صدق. وقال قتادة: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة، وقاله مقاتل والضحاك ووهب ابن منبه، إلا أن وهبا زاد عشرين سنة. وعن الضحاك أيضا أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن سعد عن عكرمة قال: بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام. قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمرو بن واقد الأسلمي عن غير واحد قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة، فهذا ما بين آدم ومحمد عليهما السلام من القرون والسنين. والله أعلم. (أَنْ تَقُولُوا) أي لئلا أو كراهية أن تقولوا، فهو في موضع نصب." ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ" أي مبشر." وَلا نَذِيرٍ" أي منذر. ويجوز" مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ" على الموضع «3». قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود، يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أن محمدا رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته، فقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده من بشير ولا نذير، فنزلت الآية. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) على إرسال من شاء من خلقه. وقيل: قدير على إنجاز ما بشر به وأنذر منه.
__________
(1). راجع ج 15 ص 13.
(2). راجع هامش ص 16 من هذا الجزء.
(3). وزيادة (من) في الفاعل للمبالغة في نفى المجيء. (روح المعاني).

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)

[سورة المائدة (5): الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) تبيين من الله تعالى أن أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه، فكذلك هؤلاء على محمد عليه السلام، وهو تسلية له، أي يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا قصة موسى. وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ" يا قوم اذكروا" بضم الميم، وكذلك ما أشبهه، وتقديره يا أيها القوم. (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) لم ينصرف، لأنه فيه ألف التأنيث. (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) أي تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين، فأنقذكم منه بالغرق، فهم ملوك بهذا الوجه، وبنحوه فسر السدي والحسين وغيرهما. قال السدي: ملك

كل واحد منهم نفسه وأهله وماله. وقال قتادة: إنما قال:" وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً" لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدم من بني آدم. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لان القبط قد كانوا يستخدمون بني إسرائيل، وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا، وإنما اختلفت الأمم في معنى التمليك فقط. وقيل: جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم إلا بإذن، روي معناه عن جماعة من أهل العلم. قال ابن عباس: إن الرجل إذا لم يدخل أحد بيته إلا بإذنه فهو ملك. وعن الحسن أيضا وزيد بن أسلم أن من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك، وهو قول عبد الله بن عمرو كما في صحيح مسلم عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك منزل تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادما. قال: فأنت من الملوك. قال ابن العربي: وفائدة هذا أن الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك دارا وخادما باعهما في الكفارة ولم يجز له الصيام، لأنه قادر على الرقبة والملوك لا يكفرون بالصيام، ولا يوصفون بالعجز عن الإعتاق. وقال ابن عباس ومجاهد: جعلهم ملوكا بالمن والسلوى والحجر «1» والغمام، أي هم مخدومون كالملوك. وعن ابن عباس أيضا يعني الخادم والمنزل، وقاله مجاهد وعكرمة والحكم بن عيينة، وزادوا الزوجة، وكذا قال زيد بن أسلم إلا أنه قال فيما يعلم- عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من كان له بيت- أو قال منزل- يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك، ذكره النحاس. ويقال: من استغنى عن غيره فهو ملك، وهذا كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما جيزت له الدنيا بحذافيرها (. قوله تعالى:) وَآتاكُمْ) أي أعطاكم (ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ). والخطاب من موسى لقومه في قول جمهور المفسرين، وهو وجه الكلام. مجاهد: والمراد بالايتاء المن
__________
(1). هي إخراج المياه العذبة من الحجر بالتفجير.

والسلوى والحجر والغمام. وقيل: كثرة الأنبياء فيهم، والآيات التي جاءتهم. وقيل: قلوبا سليمة من الغل والغش. وقيل: إحلال الغنائم والانتفاع بها. قلت: وهذا القول مردود، فإن الغنائم لم تحل لاحد إلا لهذه الامة على ما ثبت في الصحيح، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى تعزز وتأخذ الامر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع من شأنه. ومعنى" مِنَ الْعالَمِينَ" أي عالمي زمانكم، عن الحسن. وقال ابن جبير وأبو مالك: الخطاب لامة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا عدول عن ظاهر الكلام بما لا يحسن مثله. وتظاهرت الاخبار أن دمشق قاعدة الجبارين. و" الْمُقَدَّسَةَ" معناه المطهرة. مجاهد: المباركة، والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه. قتادة: هي الشام. مجاهد: الطور وما حوله. ابن عباس والسدي وابن زيد: هي أريحاء. قال الزجاج: دمشق وفلسطين وبعض: الأردن. وقول قتادة يجمع هذا كله. (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي فرض دخولها عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم. ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا: لا علم لنا بتلك الديار، فبعث بأمر الله اثنى عشر نقيبا، من كل سبط رجل يتجسسون الاخبار على ما تقدم، فرأوا سكانها الجبارين من العمالقة، وهم ذوو أجسام هائلة، حتى قيل: إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يده وقال: إن هؤلاء يريدون قتالنا، فقال لهم الملك: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا، على ما تقدم. وقيل: إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الأرض عنقودا فقيل: حمله رجل واحد، وقيل: حمله النقباء الاثنا عشر. قلت: وهذا أشبه، فإنه يقال: إنهم لما وصلوا إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم، ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشية، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة «1».
__________ (1). قال الألوسي: هذه الاخبار عندي كأخبار (عوج بن عوق) وهي حديث خرافة.

قلت: ولا تعارض بين هذا والأول، فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه- ويقال: في حجره- هو عوج «1» بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا، على ما يأتي من ذكره إن شاء الله تعالى. وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصف في قول مقاتل. وقال الكلبي: كان طول كل رجل منهم ثمانين ذراعا، والله أعلم. فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب ابن يوقنا، وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة ونشأ أولادهم، فقاتلوا الجبارين وغلبوهم. قوله تعالى: (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أي لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال الجبارين. وقيل: لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته، والمعنى واحد. قوله تعالى: (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) أي عظام الأجسام طوال، وقد تقدم، يقال: نخلة جبارة أي طويلة. والجبار المتعظم الممتنع من الذل والفقر. وقال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد، فأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه، فإنه يجبر غيره على ما يريده، وأجبره أي أكرهه. وقيل: هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر لنفسه نفعا بحق أو باطل. وقيل: إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه. قال الفراء: لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين، جبار من أجبر ودراك من أدرك. ثم قيل: كان هؤلاء من بقايا عاد. وقيل: هم من ولد عيصو بن إسحاق، وكانوا من الروم، وكان معهم عوج الاعنق، وكان طوله ثلاثة آلاف «2» ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا، قاله ابن عمر، وكان يحتجن السحاب أي يجذبه بمحجنه ويشرب منه، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله. وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف
__________
(1). عوج بن عناق: هكذا في الأصول. والذي ذكر في القاموس مادة (عوق) (وعوق كنوح والد عوج الطويل ومن قال: عوج بن عنق فقد أخطأ) وقال في شرحه: (هذا الذي خطأه هو المشهور على الألسنة قال شيخنا: وزعم قوم من حفاظ التواريخ أن عنق هي أم عوج وعوق أبوه فلا خطأ ولا غلط، وفي شعر عرقلة الدمشقي المذكور في بدائع البداية المتوفى سنة 567 (أعور الرجال يمشي: خلف عوج بن عناق) وهو ثقة عارف. (عن القاموس وشرحه).
(2). في ج وهـ وك وز: ثلاثة آلاف وعشرون ألفا. إلخ. [.....]

وستمائة سنة، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته. وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله. وقيل: بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم «1» سنة. ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطبري ومكي وغيرهم. وقال الكلبي: عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت. والله أعلم. قوله تعالى (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) يعني البلدة إيلياء، ويقال: أريحاء (حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) أي حتى يسلموها لنا من غير قتال. وقيل: قالوا ذلك خوفا من الجبارين ولم يقصدوا العصيان، فإنهم قالوا:" فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ" قوله تعالى: (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) قال ابن عباس وغيره: هما يوشع وكالب ابن يوقنا ويقال ابن قانيا، وكانا من الاثني عشر نقيبا. و" يَخافُونَ" أي من الجبارين. قتادة: يخافون الله تعالى. وقال الضحاك: هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى، فمعنى" يَخافُونَ" على هذا أي من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله. وقيل: يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم. وقرا مجاهد وابن جبير" يخافون" بضم الياء، وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى. (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أي بالإسلام أو باليقين والصلاح. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب. ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله. ثم قالا: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين به، فإنه ينصركم. ثم قيل على القول الأول: لما قالا هذا أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة، وقالوا: نصدقكما وندع قول عشرة! ثم قالوا لموسى: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) وهذا عناد وحيد عن
__________
(1). أي صار لهم جسرا يعبرون عليه. كل ما ذكره المؤلف في هذا المقام من الإسرائيليات التي لا يعول عليها.

القتال، وإياس من النصر. ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا" فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ)" وصفوه بالذهاب والانتقال، والله متعال عن ذلك. وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة، وهو معنى قول الحسن، لأنه قال: هو كفر منهم بالله، وهو الأظهر في معنى الكلام. وقيل: أي إن نصرة ربك [لك ] «1» أحق من نصرتنا، وقتاله معك- إن كنت رسوله- أولى من قتالنا، فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر، لأنهم شكوا في رسالته. وقيل المعنى: اذهب أنت فقاتل وليعنك ربك. وقيل: أرادوا بالرب هرون، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه. وبالجملة فقد فسقوا بقولهم، لقوله تعالى:" فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ" أي لا تحزن عليهم. (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أي لا نبرح ولا نقاتل. ويجوز" قاعدين" على الحال، لان الكلام قد تم قبله. قوله تعالى: (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) لأنه كان يطيعه. وقيل المعنى: إني لا أملك إلا نفسي، ثم ابتدأ فقال:" وَأَخِي". أي واخى أيضا لا يملك إلا نفسه، فأخي على القول الأول في موضع نصب عطفا على نفسي، وعلى الثاني في موضع رفع، وإن شئت عطفت على اسم إن وهي الياء، أي إني واخى لا نملك إلا أنفسنا. وإن شئت عطفت على المضمر في أملك كأنه قال: لا أملك أنا واخى إلا أنفسنا. (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) يقال: بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم؟ ففيه أجوبة، الأول- بما يدل على بعدهم عن الحق، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان، ولذلك ألقوا في التيه. الثاني- بطلب التمييز أي ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب، وقيل المعنى: فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به، ومنه قول تعالى:" فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ" «2»] الدخان: 4] أي يقضي. وقد فعل لما أماتهم في التيه. وقيل: إنما أراد في الآخرة، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار، والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر:
يا رب فافرق بينه وبيني ... أشد ما فرقت بين اثنين
__________
(1). من ج.
(2). راجع ج 16 ص 126.

وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ:" فافرق" بكسر الراء. قوله تعالى:" قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ" استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة. واصل التيه في اللغة الحيرة، يقال منه: تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير. وتيهته وتوهته بالياء والواو، والياء أكثر. والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها، وأرض تيه وتيهاء ومنها قال «1»:
تيه أتاويه على السقاط

وقال آخر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة- قيل: في قدر ستة فراسخ- يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا، فكانوا سيارة لا قرار لهم. واختلف هل كان معهم موسى وهرون؟ فقيل: لا، لان التيه عقوبة، وكانت سنو «2» التيه بعدد أيام العجل، فقوبلوا على كل يوم سنة، وقد قال:" فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ". وقيل: كانا معهم لكن سهل الله الامر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم. ومعنى" مُحَرَّمَةٌ" أي أنهم ممنوعون من دخولها، كما يقال: حرم الله وجهك على النار، وحرمت عليك دخول الدار، فهو تحريم منع لا تحريم شرع، عن أكثر أهل التفسير، كما قال الشاعر:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي أنا فارس فلا يمكنك صرعى. وقال أبو علي: يجوز أن يكون تحريم تعبد. ويقال: كيف يجوز على جماعة كثيرة «3» من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها؟ فالجواب- قال أبو علي: قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا فيردهم
__________
(1). هو العجاج. يصف أرضا مجهولة ليس بها علامات يهتدي بها، وأتاويه أفاعيل من تيه. والسقاط كل من سقط عليه، وهم الذين لا يصبرون ولا يجدون الواحد ساقط: وصدر البيت:
وبسطه بسعة البساط

والبساط المكان الواسع من الأرض. وقيل هذا البيت:
وبلدة بعيدة النياط ... مجهولة تغتال خطو الخاطي

(2). في ج، سنون.
(3). في ج: كبيرة.

إلى المكان الذي ابتدءوا منه. وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة." أَرْبَعِينَ" ظرف زمان للتيه، في قول الحسن وقتادة، قالا: ولم يدخلها أحد منهم، فالوقف على هذا على" عَلَيْهِمْ". وقال الربيع ابن أنس وغيره: إن" أَرْبَعِينَ سَنَةً" ظرف للتحريم، فالوقف على هذا على" أَرْبَعِينَ سَنَةً"، فعلى الأول إنما دخلها أولادهم، قاله ابن عباس. ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب، فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها. وعلى الثاني- فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها. وروي عن ابن عباس أن موسى وهرون ماتا في التيه. قال غيره: ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده، وكانت تنزل من السماء إذا غنموا نار بيضاء فتأكل الغنائم، وكان ذلك دليلا على قبولها، فإن كان فيها غلول لم تأكله، وجاءت السباع والوحوش فأكلته، فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال: إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته، فلصقت يد رجل منهم بيده فقال: فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال: عند الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب «1»، فنزلت النار فأكلت الغنائم. وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون، فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن غور عاجز، عرف باسم الغال، وكان اسمه عاجزا. قلت: ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا، وقد تقدم حكمه «2» في ملتنا. وبيان ما أنبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (غزا نبي من الأنبياء) الحديث أخرجه مسلم وفية قال: (فغزا فأدنى للقرية «3» حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم أحبسها «4» على شيئا
__________
(1). كقدرة أو كصورته من ذهب كان غله وأخفاه.
(2). راجع ج 4 ص 254 وما بعدها.
(3). لفظ البخاري (فدنا من القرية) ولعل ما هنا على حذف المفعول أي قرب جيوشه وجموعه لها. النووي
. (4). أي أمنعها من السير زمانا حتى يتيسر لي الفتح نهارا.

فحبست عليه حتى فتح الله عليه- قال: فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال: فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه- قال- فلصقت ] يده [بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول) وذكر نحو ما تقدم. قال علماؤنا: والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم، فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة بخبر موسى عليه الصلاة والسلام، على ما يقال. والله أعلم. وفي هذا الحديث يقول عليه السلام: (فلم تحل الغنائم لاحد من قبلنا) ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا. وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى:" وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ" إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها. وممن قال إن موسى عليه [الصلاة] «1» والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الأودي، وزاد: وهرون، وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هرون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هرون؟ فقال: مات، قالوا: كذبت ولكنك قتلته لحبنا له، وكان محبا في بني إسرائيل، فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله، فانطلق بهم إلى قبره فنادى يا هرون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال: أنا قاتلك؟ قال: لا، ولكني مت، قال: فعد إلى مضجعك، وانصرف. وقال الحسن: إن موسى لم يمت بالتيه. وقال غيره: إن موسى فتح أريحاء، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق. قال الثعلبي: وهو أصح الأقاويل. قلت: قد روى مسلم عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه [الصلاة و] «2» السلام فلما جاءه صكة ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال:" أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت" قال: فرد الله إليه عينه وقال:" ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة" قال: أي رب ثم مه"، قال:" ثم الموت" قال:" فالآن"، فسأل الله أن
__________
(1). من ج.
(2). من ج.

يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر) فهذا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد علم قبره ووصف موضعه، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الاسراء، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم، ولعل ذلك لئلا يعبد، والله أعلم. ويعني بالطريق طريق بيت المقدس. ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق. واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقيها على أقوال، منها: أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة، وهذا باطل، لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له. ومنها: أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة، وهذا مجاز لا حقيقة. ومنها: أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها، وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن. وهذا وجه حسن، لأنه حقيقة في العين والصك، قاله الامام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث، وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال:" يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت" فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت، وأيضا قوله في الرواية الأخرى:" أجب ربك" يدل على تعريفه بنفسه. والله أعلم. ومنها: أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب، إذ غضب طلع الدخان من قلنسوته «1» ورفع شعر بدنه جبته، وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت. قال ابن العربي: وهذا كما ترى، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب. ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال: أن موسى عليه ] الصلاة و[ «2» السلام عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من (أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخبره) فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوه نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت، إذ لم يصرح له بالتخيير. ومما يدل على صحة هذا، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت
__________
(1). القلنسوة: ما يلبس على الرأس.
(2). من ج. [.....]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)

واستسلم. والله بغيبه أحكم وأعلم. هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها، وفي الصحيح غنية عنها. وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له: كيف وجدت الموت؟ فقال:" كشاة تسلخ وهي حية". وهذا صحيح معنى، قال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: (إن للموت سكرات) على ما بيناه في كتاب" التذكرة". وقوله:" فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ" أي لا تحزن. والأسى الحزن، أسى يأسى أسى أي حزن، قال «1»:
يقولون لا تهلك أسى وتحمل

[سورة المائدة (5): آية 27]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) الآية. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى على أن ظلم اليهود، ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه. المعنى: إن هم هؤلاء اليهود بالفتك بك يا محمد فقد قتلوا قبلك الأنبياء، وقتل قابيل هابيل، والشر قديم. أي ذكرهم هذه القصة فهي قصة صدق، لا كالاحاديث الموضوعة، وفي ذلك تبكيت لمن خالف الإسلام، وتسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واختلف في ابني آدم، فقال الحسن البصري: ليسا لصلبه، كانا رجلين من بني إسرائيل- ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود- وكان بينهما خصومة، فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل. قال ابن عطية: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب؟ والصحيح أنهما ابناه لصلبه، هذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ابن عباس وابن عمر وغيرهما، وهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل- لأنه كان
__________
(1). هو امرؤ القيس، وصدر البيت: (وقوفا بها صحبي على مطيهم).

صاحب زرع- واختارها من أردإ زرعه، ثم إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها. وكان قربان هابيل كبشا- لأنه كان صاحب غنم- أخذه من أجود غنمه." فَتُقُبِّلَ" فرفع إلى الجنة، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام، قاله سعيد بن جبير وغيره. فلما تقبل قربان هابيل لأنه كان مؤمنا- قال له قابيل حسدا: أنه كان كافرا- أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني!" لَأَقْتُلَنَّكَ" وقيل: سبب هذا القربان أن حواء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى- إلا شيثا عليه السلام فإنها ولدته منفردا عوضا من هابيل على ما يأتي، واسمه هبة الله، لان جبريل عليه السلام قال لحواء لما ولدته: هذا هبة الله لك بدل هابيل. وكان آدم يوم ولد شيث ابن ثلاثين «1» ومائة سنة- وكان يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته، فولدت مع قابيل أختا جميلة واسمها إقليمياء، ومع هابيل أختا ليست كذلك واسمها ليوذا، فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على التقريب، قال جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود. وروي أن آدم حضر ذلك. والله أعلم. وقد روي في هذا الباب عن جعفر الصادق: إن آدم لم يكن يزوج ابنته من ابنه، ولو فعل ذلك آدم لما رغب عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا كان دين آدم إلا يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الله تعالى لما أهبط آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء بنتا فسماها عناقا فبغت، وهي أول من بغى على وجه الأرض، فسلط الله عليها من قتلها، ثم ولدت لآدم قابيل، ثم ولدت له هابيل، فلما أدرك قابيل أظهر الله له جنية من ولد الجن، يقال لها: جمالة في صورة إنسية، وأوحى الله إلى آدم أن زوجها من قابيل فزوجها منه. فلما أدرك هابيل أهبط الله إلى آدم حورية «2» في صفة إنسية وخلق لها رحما، وكان اسمها بزلة، فلما نظر إليها هابيل أحبها، فأوحى الله إلى آدم أن زوج بزلة من هابيل ففعل. فقال قابيل: يا أبت الست أكبر من أخي؟ قال: نعم. قال: فكنت أحق بما فعلت به منه! فقال له آدم: يا بني إن الله قد أمرني بذلك، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فقال: لا والله، ولكنك آثرته علي. فقال آدم:" فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بالفضل".
__________
(1). في ج وى: ثمانين.
(2). في ج وى: حوراء.

قلت: هذه القضية عن جعفر ما أظنها تصح، وأن القول ما ذكرناه من أنه كان يزوج غلام هذا البطن لجارية تلك البطن. والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً" «1»] النساء: 1]. وهذا كالنص ثم نسخ ذلك، حسبما تقدم بيانه في سورة" البقرة" «2». وكان جميع ما ولدته حواء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطنا، أولهم قابيل وتوأمته إقليمياء، وآخرهم عبد المغيث. ثم بارك الله في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا. وما روي عن جعفر- من قوله: فولدت بنتا وأنها بغت- فيقال: مع من بغت؟ إمع جني تسول «3» لها! ومثل هذا يحتاج إلى نقل صحيح يقطع العذر، وذلك معدوم. والله أعلم. الثانية: وفي قول هابيل" قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" كلام قبله محذوف، لأنه لما قال له قابيل:" لَأَقْتُلَنَّكَ" قال له: ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا؟، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني، أما إني اتقيته وكنت على لاحب «4» الحق وإنما يتقبل الله من المتقين. قال ابن عطية: المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة، فمن اتقاه وهو موحد فإعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة] العليا [ «5» من القبول والختم بالرحمة، علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا. وقال عدي «6» بن ثابت وغيره: قربان متقي هذه الامة الصلاة. قلت: وهذا خاص في نوع من العبادات. وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولين سألني لأعطينه ولين استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شي أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته).
__________
(1). راجع ج 5 ص 2.
(2). راجع ج 2 ص 62 فما بعدها.
(3). في ى: نزل بها.
(4). لاحب: واضح.
(5). من ك وهـ وج وز وى.
(6). في ك: علي.

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)

[سورة المائدة (5): الآيات 28 الى 29]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) الآية. أي لئن قصدت قتلي فأنا لا أقصد قتلك، فهذا استسلام منه. وفي الخبر: (إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم). وروى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال قلت يا رسول: إن دخل علي بيتي وبسط يده ] إلي [ «1» ليقتلني؟ قال فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كن كخير ابني آدم) وتلا هذه الآية" لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي". قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفا، وألا يمتنع ممن يريد قتله. قال علماؤنا: وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا. وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر «2»، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة، على ما بيناه في كتاب" التذكرة". وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج. قال ابن عطية: وهذا هو الأظهر، ومن ها هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر، لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج هنا وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا، ويرضى بأن يظلم ليجازي في الآخرة، ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه. وقيل: المعنى لا أقصد قتلك بل أقصد الدفع عن نفسي، وعلى هذا قيل: كان نائما فجاء قابيل ورضخ رأسه بحجر على ما يأتي ومدافعة الإنسان عمن يريد ظلمه جائزة وإن أتى على نفس العادي. وقيل: لئن بدأت بقتلي فلا أبدأ بالقتل. وقيل: أراد لئن بسطت إلى يدك ظلما فما أنا بظالم، إني أخاف الله رب العالمين.
__________
(1). من ج وى وز ك.
(2). حديث أبي ذر: راجع أحكام الجصاص ج 1 ص 402 ط الاستانة. ففيه الحديث بتمامه.

الثانية قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) قيل: معناه معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه) وكان هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي. وقيل: المعنى" بِإِثْمِي" الذي يختص بي فيما فرطت «1»، أي يؤخذ من سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي، وتبوء بإثمك في قتلك، وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه (. أخرجه مسلم بمعناه، وقد تقدم، ويعضده قوله تعالى:) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «2» (. وهذا بين لا إشكال فيه. وقيل: المعنى إني أريد ألا تبوء بإثمي وإثمك كما قال تعالى:" وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ" «3»] النحل: 15] أي لئلا تميد بكم. وقول تعالى:" يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا" «4»] النساء: 176] أي لئلا تضلوا فحذف" لا". قلت: وهذا ضعيف، لقوله عليه السلام: (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل)، فثبت بهذا أن إثم القتل حاصل، ولهذا قال أكثر العلماء: إن المعنى، ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي. قال الثعلبي: هذا قول عامة أكثر المفسرين. وقيل: هو استفهام، أي أو إني أريد؟ على جهة الإنكار، كقوله تعالى:" وَتِلْكَ نِعْمَةٌ" «5» أي أو تلك نعمة؟ وهذا لان إرادة القتل معصية.] حكاه القشيري [ «6» وسيل أبو الحسن بن كيسان: كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار؟ فقال: إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل، والمعنى: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني لامتنعن من ذلك مريدا للثواب، فقيل له: فكيف قال: بإثمي وإثمك، وأى إثم له إذا قتل؟ فقال: فيه ثلاثة أجوبة، أحدها- أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من
__________
(1). في ج وى: فرط لي.
(2). راجع ج 13 ص 330.
(3). راجع ج 10 ص 90. [.....]
(4). راجع عن 29 من هذا الجزء.
(5). راجع ج 13 ص 93.
(6). من ج وى وك وز وهـ.

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)

أجله لم يتقبل قربانك، ويروى هذا القول عن مجاهد. والوجه الآخر- أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك علي، لأنه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل. والوجه الثالث- أنه لو بسط يده إليه أثم، فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك فإثمه يرجع على صاحبه. فصار هذا مثل قولك: المال بينه وبين زيد، أي المال بينهما، فالمعنى أن تبوء بإثمنا. واصل باء رجع إلى المباءة، وهي المنزل." وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ"] البقرة: 61] أي رجعوا. وقد مضى في" البقرة" «1» مستوفى. وقال الشاعر «2»:
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي ... محارمنا لا يبؤ «3» الدم بالدم
أي لا يرجع الدم بالدم في القود. (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد. وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل:" فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ" على أنه كان كافرا، لان لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن. وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى" مِنْ أَصْحابِ النَّارِ" مدة كونك فيها. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 30]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ". أي سولت وسهلت نفسه عليه الامر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل ] له [ «4» يقال: طاع الشيء يطوع أي سهل وانقاد. وطوعة فلان له أي سهله. قال الهروي: طوعت وأطاعت «5» واحد، يقال: طاع له كذا إذا أتاه طوعا. وقيل: طاوعته نفسه في قتل أخيه، فنزع الخافض فانتصب. وروي أنه
__________
(1). راجع ج 1 ص 430.
(2). هو جابر بن جبير التغلبي.
(3). هكذا روى في كتاب سيبويه، وساقه شاهدا على جزم (يبؤ) في جواب الاستفهام وقال في شواهده: التقدير انته عنا لا يبؤ الدم بالدم- أي- إن انتهت عنا ولم تقتل منا لم يقتل واحد بآخر. وروى في (اللسان) بغير هذا.
(4). من ج، و، ز، هـ.
(5). في ك: وطاوعت، وفي ز، و، هـ: وطاعت.

جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر- أو حيوان غيره- فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل، قال ابن جريج ومجاهد وغيرهما. وقال ابن عباس وابن مسعود: وجده نائما فشدخ رأسه بحجر وكان ذلك في ثور- جبل بمكة- قاله ابن عباس. وقيل: عند عقبة حراء، حكاه محمد بن جرير الطبري. وقال جعفر الصادق: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم. وكان لهابيل يوم قتله قابيل عشرون سنة. ويقال: إن قابيل كان يعرف القتل بطبعه، لان الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية ويمكن إتلافها، فأخذ حجرا فقتله بأرض الهند. والله أعلم. ولما قتله ندم فقعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه، ففعل القاتل بأخيه كذلك. والسوءة يراد بها العورة، وقيل: يراد بها جيفة المقتول، ثم إنه هرب إلى أرض عدن من اليمن، فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من عبد النار فيما قيل. والله أعلم. وروي عن ابن عباس أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر، وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبرت الأرض، فقال آدم عليه السلام: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل. وقيل: إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم، فلما وصل إليه قال له: أين هابيل؟ فقال: لا أدري كأنك وكلتني بحفظه. فقال له آدم: أفعلتها؟! والله إن دمه لينادي، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل. فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما. ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك، حتى جاءه ملك فقال له: حياك الله يا آدم وبياك. فقال: ما بياك؟ قال: أضحكك، قاله مجاهد «1» وسالم بن أبي الجعد. ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة- وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له شيثا، وتفسيره هبة الله، أي خلفا من هابيل. وقال مقاتل: كان قبل قتل قابيل هابيل السباع والطيور تستأنس بآدم «2»، فلما قتل قابيل هابيل هربوا «3»، فلحقت الطيور بالهواء، والوحوش بالبرية، و] لحقت [ «4» السباع بالغياض. وروي أن آدم لما تغيرت الحال قال:
__________
(1). مجاهد ساقط من ج، ز، و.
(2). في ك: بابن آدم.
(3). كذا في الأصول.
(4). من ك.

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقلّ بشاشة الوجه المليح
في أبيات كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره. قال ابن عطية: هكذا هو الشعر بنصب" بشاشة" وكف التنوين. قال القشيري وغيره قال ابن عباس: ما قال آدم الشعر، وإن محمدا والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء، لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، فهي مرثية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال: إنك وصيي فاحفظ مني هذا الكلام ليتوارث، فحفظت منه إلى زمان يعرب بن قحطان، فترجم عنه يعرب بالعربية «1» وجعله شعرا «2». الثانية- روي من حديث أنس قال: سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن يوم الثلاثاء فقال: (يوم الدم فيه حاضت حواء وفية قتل ابن آدم أخاه). وثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل). وهذا نص على التعليل، وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود، لأنه أول من عصى به، وكذلك كل من أحدث في دين الله ما لا يجوز من البدع والاهواء، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (. وهذا نص في الخير والشر. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون (. وهذا كله صريح، ونص صحيح في معنى الآية، وهذا ما لم يتب الفاعل من تلك المعصية، لان أدم عليه السلام كان أول من خالف في أكل ما نهى عنه، ولا يكون عليه شي من أوزار من عصى بأكل ما نهى عنه ولا شربه ممن بعده بالإجماع، لان آدم تاب من ذلك وتاب الله عليه،
__________
(1). في ج، ز، و، هـ: بالعبرانية وهو خطأ.
(2). قال الألوسي: ذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة، والاولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة. وقال أبو حيان في البحر: ويروى بنصب (بشاشة) من غير تنوين على التمييز ورفع (الوجه المليح) وليس بلحن. [.....]

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

فصار كمن لم يجن. ووجه آخر: فإنه أكل ناسيا على الصحيح من الأقوال، كما بيناه في" البقرة" «1» والناسي غير آثم ولا مؤاخذ. الثالثة- تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد، حتى أنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة، وأمسه به رحما، وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه. الرابعة- قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ممن خسر حسناته. وقال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال ابن عطية: فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى:" فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ" وإلا فالخسران يعم خسران الدنيا والآخرة. قلت: ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر، فيكون المعنى" فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ" أي في الدنيا. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 31]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه. وكان ابن أدم هذا أول من قتل. وقيل: إن الغراب بحث الأرض على طعمه «2» ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه، لأنه من عادة الغراب فعل ذلك، فتنبه قابيل ذلك على مواراة أخيه. وروي أن قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب، ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة، قاله مجاهد. وروى ابن القاسم عن مالك «3»
__________
(1). راجع ج 1 ص 306، وهذا هو اللائق بالعصمة النبوية.
(2). طعمه: أكله.
(3). في ك، ز: عن محمد.

أنه حمله سنة واحدة، وقاله ابن عباس. وقيل: حتى أروح «1» ولا يدري ما يصنع به إلى أن اقتدى بالغراب كما تقدم. وفي الخبر عن أنس قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث بالريح بعد الروح فلولا أن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما وبالدود في الجثة فلولا أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيرا لهم من الدراهم والدنانير وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أستر له (. وقال قوم: كان قابيل يعلم الدفن، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به، فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه، فقال عند ذلك:" يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ" حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه، ولم يكن ذلك ندم توبة، وقيل: إنما ندمه كان على فقده لا على قتله، وإن كان فلم يكن موفيا شروطه. أو ندم ولم يستمر ندمه، فقال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه. ويقال: إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه. ثم إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه. ويقال: دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض. ويقال: إن قابيل استوحش بعد قتل هابيل ولزم البرية، وكان لا يقدر على ما يأكله إلا من الوحش، فكان إذا ظفر به وقذه «2» حتى يموت ثم يأكله. قال ابن عباس: فكانت الموقوذة حراما من لدن قابيل بن آدم، وهو أول من يساق من الآدميين إلى النار، وذلك قوله تعالى:" رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ"] فصلت: 29] [الآية] «3» فإبليس رأس الكافرين من الجن، وقابيل رأس الخطيئة من الانس، على ما يأتي بيانه في" حم فصلت" «4» إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة، والله بكل ذلك أعلم وأحكم. وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم، ولذلك جهلت سنة المواراة، وكذلك حكى الطبري عن ] ابن [ «5» إسحاق عن بعض أهل العلم بما في كتب الأوائل. و] قوله [ «6»
__________
(1). أروح: أنتن.
(2). الوقذ: الضرب الشديد.
(3). من ج وك وهـ. راجع ج 15 ص 355.
(4). من ج وك وهـ. راجع ج 15 ص 355.
(5). من ج.
(6). من ك.

" يَبْحَثُ" معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره. ومن هذا سميت سورة" براءة" البحوث «1»، لأنها فتشت عن المنافقين، ومن ذلك قول الشاعر:
إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوني كان «2» فيهم مباحث
وفي المثل: لا تكن كالباحث على الشفرة، قال الشاعر:
فكانت كعنز السوء قامت برجلها ... إلى مدية مدفونة تستثيرها
الثانية- بعث الله الغراب حكمة، ليرى ابن آدم كيفية المواراة، وهو معنى قوله تعالى:" ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ" «3»] عبس: 21] فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق، فرضا على جميع الناس على الكفاية، من فعله منهم سقط فرضه عن الباقين. وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه، ثم الجيرة، ثم سائر المسلمين. وأما الكفار فقد روى أبو داود عن علي قال: قلت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: (أذهب فوار أباك التراب ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني) فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي. الثالثة- ويستحب في القبر سعته وإحسانه، لما رواه ابن ماجة عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (احفروا وأوسعوا وأحسنوا). وروي عن الأدرع السلمي قال: جئت ليلة أحرس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا رجل قراءته عالية، فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله: هذا مراء «4»، قال: فمات بالمدينة ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله). قال: وحضر حفرته فقال: (أوسعوا له وسع الله عليه) فقال بعض أصحابه:] يا رسول الله [ «5» لقد حزنت عليه؟ فقال: (أجل إنه كان يحب الله ورسوله)، أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي سعيد.
__________
(1). البحوث (بضم الباء) جمع بحث، وقال ابن الأثير: رأيت في (الفائق) سورة (البحوث) بفتح (الباء) فإن صحت فهي فعول من أبنية المبالغة، ويكون من باب إضافة الموصوف إلى الصفة.
(2). كذا في ابن عطية، والذي في الأصول: كنت فيهم مباحث.
(3). راجع ج 19 ص 215.
(4). من الرياء وكأنه عليه الصلاة والسلام أعرض عن كلامه تنبيها على أنه خطأ، ثم بين في وقت آخر أن الامر على خلاف ما زعم. (هامش ابن ماجة).
(5). الزيادة عن (ابن ماجة). [.....]

قال أبو عمر بن عبد البر: أدرع السلمي روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثا واحدا، وروى عنه سعيد بن أبي سعيد المقبري، و؟؟ هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بن عامر ابن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري، كان يسمى في الجاهلية شهابا فغير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمه فسماه هشاما، واستشهد أبوه عامر يوم أحد. سكن هشام البصرة ومات بها، ذكر هذا في كتاب الصحابة. الرابعة- ثم قيل: اللحد أفضل من الشق، فإنه الذي اختاره الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما توفي كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد «1» والآخر لا يلحد، فقالوا: أيهما جاء أول عمل عمله، فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما. والرجلان هما أبو طلحة وأبو عبيدة، وكان أبو طلحة يلحد وأبو عبيدة يشق. واللحد هو أن يحفر في جانب القبر إن كانت تربة صلبة، يوضع فيه الميت ثم يوضع عليه اللبن ثم يهال التراب، قال سعد بن أبي وقاص في مرضه الذي هلك فيه: ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى اله عليه وسلم. أخرجه مسلم. وروى ابن ماجة وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللحد لنا والشق لغيرنا). الخامسة- روى ابن ماجة عن سعيد بن المسيب قال: حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال: بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أخذ في تسوية [اللبن على ] «2» اللحد قال: اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر، اللهم جاف الأرض عن جنبيها، وصعد روحها ولقها منك رضوانا. قلت يا ابن عمر أشيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم قلته برأيك؟ قال: إني إذا لقادر على القول! بل شي سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله
__________
(1). يلحد كيمنع، أو من ألحد.
(2). الزيادة عن (ابن ماجة).

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثا. فهذا ما تعلق في معنى الآية من الأحكام. والأصل في" يا وَيْلَتى " يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألف. وقرا الحسن على الأصل بالياء، والأول أفصح، لان حذف الياء في النداء أكثر. وهي كلمة تدعو بها العرب عند الهلاك، قال سيبويه. وقال الأصمعي:" ويل" بعد. وقرا الحسن:" أعجزت" بكسر الجيم. قال النحاس: وهي لغة شاذة، إنما يقال عجزت المرأة إذا عظمت عجيزتها، وعجزت عن الشيء عجزا ومعجزة ومعجزة. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي من جراء ذلك القاتل وجريرته. وقال الزجاج: أي من جنايته، يقال: أجل الرجل على أهله شرا يأجل أجلا إذا جنى، مثل أخذ يأخذ أخذ. قال الخنوت «1»:
وأهل خباء صالح كنت بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله
أي جانيه، وقيل: أنا جاره عليهم. وقال عدي بن زيد:
أجل أن الله قد فضلكم ... فوق من أحكا «2» صلبا بإزار
وأصله الجر، ومنه الأجل لأنه وقت يجر إليه العقد الأول. ومنه الآجل نقيض العاجل، وهو بمعنى يجر إليه أمر متقدم. ومنه أجل بمعنى نعم. لأنه انقياد إلى ما جر إليه. ومنه الأجل «3» للقطيع من بقر الوحش، لان بعضه ينجر إلى بعض، قاله الرماني. وقرا يزيد بن
__________
(1). قال في البحر: نسبه ابن عطية لخوات بن جبير وكذا في اللسان. والبيت في ديوان زهير. وفي ج، ز، ك، هـ،: ذات بينهم.
(2). أحكأ العقدة: شدها وأحكمها. والمعنى: فضلكم الله على من ائتزر فشد صلبه بإزار، أي فوق الناس أجمعين.
(3). في الأصول: الآجال وهو جمع.

القعقاع أبو جعفر:" من أجل ذلك" بكسر النون وحذف الهمزة وهي لغة، والأصل" مِنْ أَجْلِ ذلِكَ" فألقيت كسرة الهمزة على النون وحذفت الهمزة. ثم قيل: يجوز أن يكون قوله:" مِنْ أَجْلِ ذلِكَ" متعلقا بقوله:" مِنَ النَّادِمِينَ"] المائدة: 31]، فالوقف على قوله:" مِنْ أَجْلِ ذلِكَ". ويجوز أن يكون متعلقا بما بعده وهو" كَتَبْنا". ف" مِنْ أَجْلِ" ابتداء كلام والتمام" مِنَ النَّادِمِينَ"، وعلى هذا أكثر الناس، أي من سبب هذه النازلة كتبنا. وخص بني إسرائيل بالذكر- وقد تقدمتهم أمم قبلهم كان قتل النفس فيهم محظورا- لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، فغلظ الامر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء. ومعنى" بِغَيْرِ نَفْسٍ" أي بغير أن يقتل نفسا فيستحق القتل. وقد حرم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس ظلما وتعديا." أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ" أي شرك، وقيل: قطع طريق. وقرا الحسن-" أو فسادا" بالنصب على تقدير حذف فعل يدل عليه أول الكلام تقديره، أو أحدث فسادا، والدليل عليه قوله:" مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ" لأنه من أعظم الفساد. وقرا العامة-" فَسادٍ" بالجر على معنى أو بغير فساد. (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه لأجل أن عقاب من قتل الناس جميعا أكثر من عقاب من قتل واحدا، فروي عن ابن عباس أنه قال: المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا أنه قال: المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا، ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفا من الله فهو كمن أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا. المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ. وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

جهنم وغضب عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما، يقول: لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك «1»، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه. وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا، قال: ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله، وقاله الحسن أيضا، أي هو العفو بعد المقدرة. وقيل: المعنى أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، أي يجب على الكل شكره. وقيل: جعل إثم قاتل الواحد إثم قاتل الجميع، وله أن يحكم بما يريد. وقيل: كان هذا مختصا ببني إسرائيل تغليظا عليهم. قال ابن عطية: وعلى الجملة فالتشبيه على ما قيل واقع كله، والمنتهك في واحد ملحوظ بعين منتهك الجميع، ومثاله رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئا، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته، وطعم الآخر ثمر شجرته كلها، فقد استويا في الحنث. وقيل: المعنى أن من استحل واحدا فقد استحل الجميع، لأنه أنكر الشرع. وفي قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْياها) تجوز، فإنه عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة، وإلا فالاحياء حقيقة- الذي هو الاختراع- إنما هو لله تعالى. وإنما هذا الأحياء بمنزلة قول نمروذ اللعين:" أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ" «2»] البقرة: 258] فسمى الترك إحياء. ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات، وأن أكثرهم مجاوزون الحد، وتاركون أمر الله.

[سورة المائدة (5): الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
__________
(1). أي لم يزد على ذلك من العذاب، كما في الطبري.
(2). راجع ج 3 ص 283.

فيه خمس عشرة مسألة الاولى: اختلف الناس في سبب ] نزول [ «1» هذه الآية، فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين، روى الأئمة واللفظ لابي داود عن أنس بن مالك: أن قوما من عكل «2»- أو قال من عرينة- قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاجتووا «3» المدينة، فأمر لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستاقوا النعم، فبلغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم، فلما ارتفع النهار حتى جئ بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر «4» أعينهم وألقوا في الحرة «5» يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وفي رواية: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم «6»، وفي رواية: فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طلبهم قافة «7» فأتي بهم قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك:" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً" الآية. وفي رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم «8» الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا. وفي البخاري قال جرير بن عبد الله في حديثه: فبعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا «9» على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال جرير: فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النار). وقد حكى أهل التواريخ والسير: أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا. وكان اسمه يسار وكان نوبيا. وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة. وفي بعض الروايات عن أنس: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحرقهم بالنار
__________
(1). من ك.
(2). عكل (بضم العين المهملة وسكون الكاف): قبيلة مشهورة.
(3). أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها. (النهاية) لابن الأثير.
(4). سمر عين فلان: سملها (فقأها).
(5). الحرة (بفتح الحاء وتشديد الراء): أرض خارج المدينة ذات حجارة سود.
(6). حسم العرق: قطعه ثم كواه لئلا يسيل دمه.
(7). القافة (جمع (قائف) وهو الذي يتبع الأثر. [.....]
(8). كدمه: عضه بأدنى فمه.
(9). في وو ا: وقد أشرفنا.

بعد ما قتلهم. وروي عن ابن عباس والضحاك: أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال:" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" إلى قوله:" غَفُورٌ رَحِيمٌ" نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ «1» منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وممن قال: إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى:" قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ" «2»] الأنفال: 38] وقوله عليه ] الصلاة و[ «3» السلام: (الإسلام يهدم ما قبله) أخرجه مسلم، والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك. وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، وقال أبو ثور محتجا لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله جل ثناؤه:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام. وحكى الطبري عن بعض أهل العلم: أن هذه الآية نسخت فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العرنيين، فوقف الامر على هذه الحدود. وروى محمد بن سيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني حديث أنس، ذكره أبو داود. وقال قوم منهم الليث بن سعد: ما فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوفد عرينة نسخ، «4» إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد. قال أبو الزناد: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك، فأنزل الله تعالى في ذلك" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا" الآية. أخرجه أبو داود. قال أبو الزناد: فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد. وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل، لان ذلك وقع في مرتدين،
__________
(1). في مصنف أبي داود: تاب، بدل: أخذ.
(2). راجع ج 7 ص 401.
(3). من ج.
(4). من ك وهو الصواب، وفي هـ وج وا وز ول: لم يجز.

لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال: إنما سمل ] النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ «1» أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة، فكان هذا قصاصا، وهذه الآية في المحارب المؤمن. قلت: وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي، ولذلك قال الله تعالى:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة. والمرتد يستحق القتل بنفس الردة- دون المحاربة- ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم، ولا يصلب أيضا، فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عنى به المرتد. وقال تعالى في حق الكفار:" قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ" [الأنفال: 38]. وقال في المحاربين:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا" الآية، وهذا بين. وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب، قال الله تعالى:" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ" «2» [البقرة: 194] فمثلوا فمثل بهم، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا، والله أعلم. وحكى الطبري عن السدي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك، فنزلت الآية ناهية عن ذلك، وهذا ضعيف جدا، فإن الاخبار الثابتة وردت بالسمل، وفي صحيح البخاري: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم. ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود. وفي قوله تعالى:" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" استعارة ومجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد. والمعنى: يحاربون أولياء الله، فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لاذايتهم، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله:" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً"] البقرة: 245] حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح السنة (استطعمتك فلم تطعمني). الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في" البقرة" «3».
__________
(1). من ج وك وهـ.
(2). راجع ج 2 ص 354.
(3). راجع ج 3 ص 240.

الثانية- واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة «1» ولا ذحل «2» ولا عداوة، قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة، وقالت طائفة: حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة، وهذا قول الشافعي وأبي ثور، قال ابن المنذر: كذلك هو لان كلا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لاحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة: لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر، هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان. والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا. الثالثة- واختلفوا في حكم المحارب، فقالت طائفة: يقام عليه بقدر فعله، فمن أخاف السبيل واخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي، قاله ابن عباس، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال أبو يوسف: إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة، قال الليث: بالحربة مصلوبا. وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه «3»، قال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شي. ونحوه قول الأوزاعي. وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي، لان هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام، قال: وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو
__________
(1). نارت نائرة في الناس: هاجت هائجة.
(2). الذحل: الثأر.
(3). في ك: لم يقطع وصلبه.

حبس. وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي. وقال قوم: لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب، وحكي عن الشافعي: أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المثلة. وقال أبو ثور: الامام مخير على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال: الامام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية، قال ابن عباس: ما كان في القرآن" أَوْ" فصاحبه بالخيار، وهذا القول أشعر «1» بظاهر الآية، فإن أهل القول الأول الذين قالوا إن" أو" للترتيب- وإن اختلفوا- فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون: يقتل ويصلب، ويقول بعضهم: يصلب ويقتل، ويقول بعضهم: تقطع يده ورجله وينفى، وليس كذلك الآية ولا معنى" أو" في اللغة، قال النحاس. واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال: سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال:" من أخاف السبيل واخذ المال فأقطع به للأخذ ورجله للاخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فأصلبه". قال ابن عطية: وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر] العذاب و[ «2» والعقاب استحسانا. الرابعة- قوله تعالى:" أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ" اختلف في معناه، فقال السدي: هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه، عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري. حكاه الرماني في كتابه، وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد، ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وقاله الليث بن سعد والزهري أيضا. وقال مالك أيضا: ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني. وقال ] مالك أيضا و[ «3» الكوفيون: نفيهم سجنهم فينفي من سعة الدنيا إلى
__________
(1). في ج وك: أسعد.
(2). من ك. [.....]
(3). من ك.

ضيقها، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحياء
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم، والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وقد تجنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب، ومنه الحديث «1» (الذي ناء بصدره ونحو الأرض المقدسة). وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب ] فظن أنه لا يعود إلى جناية [ «2» سرح، فال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا على الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الواضح «3»، لان نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإن تاب وفهمت حاله سرح. الخامسة- قوله تعالى:" أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ" النفي أصله الإهلاك، ومنه الإثبات والنفي، فالنفي الإهلاك بالاعدام، ومنه النفاية لردئ المتاع، ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو. قال الراجز «4»:
كأن متنيه «5» من النفي ... مواقع الطير على الصفي
السادسة- قال ابن خويز منداد: ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق. وقد قيل: يراعى في ذلك النصاب ربع دينار، قال ابن العربي قال الشافعي
__________
(1). هو حديث الذي قتل تسعا وتسعين نفسا. وناء بمعنى نهض، ويحتمل أنه بمعنى بعد (النهاية لابن الأثير).
(2). من ك.
(3). من ك. وفي ج، هه، ز: الراجح.
(4). هو الأخيل.
(5). جاء في (اللسان) مادة نفى أن الصحيح (كأن متني) لان بعده (من طول إشرافي على الطوى). ومتنا الظهر مكتنفا الصلب عن يمين وشمال من عصب ولحم. والصفي (بضم الصاد وكسرها) جمع صفا مقصور، وصفا جمع صفاة وهي الحجر؟ الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئا. وفسر بأنه شبه الماء وقد وقع على ظهر المستقى بذرق الطائر على الصفي.

وأصحاب الرأي: لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق، وقال مالك: يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح، فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يوقت في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة، ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس. وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب. قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين. قلت: اليفع «1» أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ، والحضيض الحفرة في أسفل الوادي، كذا قال أهل اللغة. السابعة- ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل، وللشافعي قولان: أحدهما- أنها تعتبر المكافأة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص، وهذا ضعيف، لان القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال، قال الله تعالى:" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا" فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفا من وضيع، ولا رفيعا من دنئ. الثامنة- وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع. وقال الشافعي: لا يقتل إلا من قتل، وهذا أيضا ضعيف، فإن من حضر
__________
(1). اليفع بمعنى اليفاع.

الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم، وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة، فالمحارب أولى. التاسعة- وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الامام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل واخذ مالا، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته، ولا يدفف «1» منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل، فإن أخذوا ووجد في أيديهم مال لاحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال، وما أتلفوه من مال لاحد غرموه، ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاءوا تائبين وهي: العاشرة- لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين، فاقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمه ما استهلكوا، لان ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الامام عنده حتى يعلم صاحبه. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده، وأما ما استهلكه فلا يطلب به، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا، قال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال، هل يتبع دينا بما أخذ، أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء.
__________
(1). دفف على الجريح أجهز عليه.

الحادية عشرة- وجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب، فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شي، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الامام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى. قلت: فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها، واجتلبنا دررها، ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي: الثانية عشرة- وتفسير مجاهد لها، قال مجاهد: المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة، وليس بصحيح، فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا محصنا. وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل في معنى قوله تعالى:" وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً". الثالثة عشرة- قال علماؤنا: ويناشد اللص بالله تعالى، فإن كف ترك وإن أبى قوتل، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر. روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: (فانشد بالله) قال: فإن أبوا علي. قال: (فانشد بالله) قال: فإن أبوا علي قال: (فانشد بالله) قال: فإن أبوا علي قال: (فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار) وأخرجه البخاري ومسلم- وليس فيه ذكر المناشدة- عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: (فلا تعطه مالك) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: (فقاتله) قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (فأنت شهيد) قال: فإن قتلته؟ قال: (هو في النار). قال ابن المنذر: وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم، هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم: إن

للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما، للاخبار التي جاءت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخص وقتا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان، فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه، للاخبار الدالة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي فيها الامر بالصبر على ما يكون منهم، من الجور والظلم، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة. قلت: وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون؟ وهذا الخلاف مبني على أصل، وهو هل الامر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر؟ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال. والله أعلم. الرابعة عشرة- قوله تعالى:" ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا" لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر، لان فيها سد سبيل الكسب على الناس، لان أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض، كما قال عز وجل:" وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ" «1»] المزمل: 20] فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو [له ] «2» (كفارة) والله أعلم. ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره. ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة
__________
(1). راجع ج 19 ص 50.
(2). الزيادة عن ابن عطية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)

كقوله تعالى:" وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" «1»] النساء: 116] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية «2». الخامسة عشرة- قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثنى عز وجل التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله:" فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ". أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط. ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدم. وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه. وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود، وهذا ضعيف، لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع. وقيل: إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم- والله أعلم- لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الامام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم، كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب، فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة" يونس" «3»، فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الامام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): الآيات 35 الى 36]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)
__________
(1). راجع ج 5 ص 385.
(2). كذا في الأصل وفي تفسير ابن عطية. والذي في البحر: (وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب ولكن في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد) وهو أوضح.
(3). راجع ج 8 ص 383.

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)

قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) الوسيلة هي القربة عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسدي وابن زيد وعبد الله بن كثير، وهي فعيلة من توسلت إليه أي تقربت، قال عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
والجمع الوسائل، قال:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل
ويقال: منه سلت أسأل أي طلبت، وهما يتساولان أي يطلب كل واحد من صاحبه، فالأصل الطلب، والوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها، والوسيلة درجة في الجنة، وهي التي جاء الحديث الصحيح بها في قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).

[سورة المائدة (5): آية 37]
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
قال يزيد الفقير: قيل لجابر بن عبد الله إنكم يا أصحاب محمد تقولون إن قوما يخرجون من النار والله تعالى يقول:" وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها" فقال جابر: إنكم تجعلون العام خاصا والخاص عاما، إنما هذا في الكفار خاصة، فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة. و" مُقِيمٌ" معناه دائم ثابت لا يزول ولا يحول، قال الشاعر:
فإن لكم بيوم الشعب مني ... عذابا دائما لكم مقيما

[سورة المائدة (5): آية 38]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
فيه سبع وعشرون «1» مسألة: الاولى- قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) الآية. لما ذكر تعالى أخذ الأموال بطريق السعي في الأرض والفساد ذكر حكم السارق من غير حراب على ما يأتي
__________
(1). كذا في كل الأصول، غير أنها ست وعشرون سقط المسألة الثالثة عشرة ما عدا: ل. سقط منها المسألة السادسة والعشرون. [.....]

بيانه أثناء الباب، وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس الزنى على ما نبينه آخر الباب. وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأمر الله بقطعه في الإسلام، فكان أول سارق قطعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بنى مخزوم، وقطع أبو بكر يد اليمنى «1» الذي سرق العقد، وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن ابن سمرة ولا خلاف فيه. وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك، لقوله عليه السلام (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا) فبين انه إنما أراد بقوله:" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ" بعض السراق دون بعض، فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، أو فيما قيمته ربع دينار، وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال عمر ابن عبد العزيز والليث والشافعي وأبو ثور، وقال مالك: تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما. والعروض لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر، فجعل مالك الذهب والورق كل واحد منهما أصلا بنفسه، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور. وقال أحمد وإسحاق: إن سرق ذهبا فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة كانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق. وهذا نحو ما صار إليه مالك في القول الآخر، والحجة للأول حديث ابن عمر أن رجلا سرق حجفة «2»، فأتي به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم. وجعل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلا رد إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه، وترك حديث ابن عمر لما رآه- والله أعلم- من اختلاف الصحابة في المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه عليه وسلم، فابن عمر يقول: ثلاثة دراهم، وابن عباس يقول: عشرة دراهم، وأنس يقول: خمسة دراهم،
__________ (1). هو رجل من أهل اليمن أقطع اليد والرجل سرق عقدا لأسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضى الله عنه فقطع يده اليسرى.
(2). الحجفة بالتحريك: الترس، وقيل: هي من الجلود خاصة كالدرقة.

وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه، ورفعه «1» من يجب العمل بقوله لحفظه وعدالته، قاله أبو عمر وغيره. وعلى هذا فإن بلغ العرض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه، وهو قول إسحاق، فقف على هذين الأصلين فهما عمدة الباب، وما أصح ما قيل فيه. وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري: لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا، أو دينارا ذهبا عينا أو وزنا، ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل، وحجتهم حديث ابن عباس، قال: قوم المجن الذي قطع فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعشرة دراهم. ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم، أخرجهما الدارقطني وغيره. وفي المسألة قول رابع، وهو ما رواه الدارقطني عن عمر قال: لا تقطع الخمس إلا في خمس، وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة، وقال أنس بن مالك: قطع أبو بكر- رحمه الله- في مجن قيمته خمسة دراهم. وقول خامس: وهو أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا، روي عن أبي هريرة وأبى سعيد الخدري. وقول سادس: وهو أن اليد تقطع في درهم فما فوقه، قاله عثمان البتي. وذكر الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم. وقول سابع: وهو أن اليد تقطع في كل ماله قيمة على ظاهر الآية، هذا قول الخوارج، وروي عن الحسن البصري، وهى إحدى الروايات الثلاث عنه، والثانية كما روي عن عمر، والثالثة حكاها قتادة عنه أنه قال: تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد؟ فاتفق رأينا على درهمين. وهذه أقوال متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك، فإن قيل: قد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل والكثير «2»، فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، كما جاء في معرض الترغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله عليه السلام: (من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص «3» قطاة بنى الله له بيتا في الجنة).
__________
(1). حديث عائشة صحيح عند الإباضية مرفوع كما في مسند الربيع. وحديث المجن أيضا فيه عن أبي سعيد الخدري الآتي بأربعة دراهم إلا أن العمل بحديث عائشة.
(2). من ع.
(3). مفحص القطاة حيث تفرخ فيه من الأرض.

وقيل: إن ذلك مجاز من وجه آخر، وذلك أنه إذا ضرى بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده. وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري في آخر الحديث كالتفسير قال: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم. قلت: كحبال السفينة وشبه ذلك. والله أعلم. الثانية- اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع. وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا جمع الثياب في البيت قطع. وقال الحسن بن أبي الحسن أيضا في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم فصار اتفاقا صحيحا. والحمد لله. الثالثة- الحزر هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل شي بحسب حاله على ما يأتي بيانه. قال ابن المنذر: ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم، وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم. وحكي عن الحسن واهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز. وفي الموطأ لمالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا قطع في ثمر معلق «1» ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن) قال أبو عمر: هذا حديث يتصل معناه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، وعبد الله هذا ثقة عند الجميع، وكان أحمد يثني عليه. وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: (من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة «2» فلا شي عليه ومن خرج بشيء منه فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة) وفي رواية (وجلدات نكال) بدل (والعقوبة). قال العلماء: ثم نسخ الجلد وجعل مكانه القطع. قال أبو عمر: قوله (غرامة مثليه) منسوخ لا أعلم أحد من الفقهاء قال به إلا ما جاء عن عمر في دقيق حاطب ابن أبي بلتعة، خرج مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل. والذي عليه الناس في الغرم بالمثل،
__________
(1). الثمر المعلق: الثمر في الأشجار. وحريسة الجبل: ما يحرس بالجبل. والجرين: البيدر موضع يداس فيه البر وقد يكون للتمر والعنب.
(2). الخبنة: الحجزة في السراويل، والوعاء يحمل فيه الشيء أيضا وما يحمل تحت الإبط.

لقوله تعالى:" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ" «1»] البقرة: 194]. وروى أبو داود عن صفوان بن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة «2» لي ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتى به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت أتقطع من أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال: (فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به)؟. ومن جهة النظر أن الأموال خلقت مهيأة للانتفاع بها للخلق أجمعين، ثم الحكمة الأولية حكمت فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعا، وبقيت الاطماع متعلقة بها، والآمال محومة عليها، فتكفها المروءة والديانة في أقل الخلق، ويكفها الصون والحرز عن أكثرهم، فإذا أحرزها مالكها فقد اجتمع فيها الصون والحرز الذي هو غاية الإمكان للإنسان، فإذا هتكا فحشت الجريمة فعظمت العقوبة، وإذا هتك أحد الصونين وهو الملك وجب الضمان والأدب. الرابعة- فإذا اجتمع جماعة فاشتركوا في إخراج نصاب من حرزه، فلا يخلو، إما أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه، أولا إلا بتعاونهم، فإذا كان الأول فاختلف فيه علماؤنا على قولين: أحدهما يقطع فيه، والثاني لا يقطع فيه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، قالا: لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من حصته نصاب، لقوله ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ «3»: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا) وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصابا فلا قطع عليهم. ووجه القطع في إحدى الروايتين أن الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالاشتراك في القتل، قال ابن العربي: وما أقرب ما بينهما فإنا إنما قتلنا الجماعة بالواحد صيانة للدماء، لئلا يتعاون على سفكها الاعداء، فكذلك في الأموال مثله، لا سيما وقد ساعدنا الشافعي على أن الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قطعوا ولا فرق بينهما. وإن كان الثاني وهو مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يقطع جميعهم بالاتفاق من العلماء، ذكره ابن العربي.
__________
(1). راجع ج 2 ص 354.
(2). الخميصة: ثوب خزا وصوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة.
(3). من ع وج.

الخامسة- فإن اشتركوا في السرقة بأن نقب واحد الحرز وأخرج آخر، فإن كانا متعاونين قطعا. وإن انفرد كل «1» منهما بفعله دون اتفاق بينهما، بأن يجئ آخر فيخرج فلا قطع على واحد منهما. وإن تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة، وقال الشافعي: لا قطع، لان هذا نقب ولم يسرق، والآخر سرق من حرز مهتوك الحرمة. وقال أبو حنيفة: إن شارك في النقب ودخل واخذ قطع. ولا يشترط في الاشتراك في النقب التحامل على آلة واحدة، بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة. السادسة- ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز فأدخل الآخر يده فأخذه فعليه القطع، ويعاقب الأول، وقال أشهب: يقطعان. وإن وضعه خارج الحرز فعليه القطع لا على الآخذ، وإن وضعه في وسط النقب فأخذه الآخر والتقت أيديهما في النقب قطعا جميعا. السابعة- والقبر والمسجد حرز، فيقطع النباش عند الأكثر، وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، لأنه سرق من غير حرز مالا معرضا للتلف لا مالك له، لان الميت لا يملك. ومنهم من ينكر السرقة، لأنه ليس فيه ساكن، وإنما تكون السرقة بحيث تتقى الأعين، ويتحفظ من الناس، وعلى نفي السرقة عول أهل ما وراء النهر. وقال الجمهور: هو سارق لأنه تدرع الليل لباسا وأتقى الأعين، وقصد وقتا لا ناظر فيه ولا ماز عليه، فكان بمنزلة ما لو سرق في وقت بروز الناس للعيد، وخلو البلد من جميعهم. وأما قولهم: إن القبر غير حرز فباطل، لان حرز كل شي بحسب حاله الممكنة فيه. وأما قولهم: إن الميت لا يملك فباطل أيضا، لأنه لا يجوز ترك الميت عاريا فصارت هذه الحاجة قاضية بأن القبر حرز. وقد نبه الله تعالى عليه بقوله:" أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً" «2»] المرسلات: 26- 25] ليسكن فيها حيا، ويدفن فيها ميتا. وأما قولهم:] إنه [ «3» عرضة للتلف، فكل ما يلبسه الحي أيضا معرض للتلف والأخلاق بلباسه، إلا أن أحد الأمرين أعجل من الثاني، وقد روى أبو داود عن أبي ذر قال: دعاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت «4» فيه بالوصيف)، يعني
__________
(1). في ج وهـ وز وك: كل واحد.
(2). راجع ج 19 ص 158.
(3). من ك وج وع.
(4). البيت هنا القبر. والوصيف الخادم غلاما كان أو جارية. والمعنى، أن الموت يكثر حتى يشترى موضع قبر بعبد. [.....]

القبر، قلت: الله ورسوله أعلم قال: (عليك بالصبر) قال حماد: فبهذا قال من قال تقطع يد السارق، لأنه دخل على الميت بيته. وأما المسجد، فمن سرق حصره قطع، رواه عيسى عن ابن القاسم، وإن لم يكن للمسجد باب، ورآها محرزة. وإن سرق الأبواب قطع أيضا، وروي عن ابن القاسم أيضا إن كانت سرقته للحصر نهارا لم يقطع، وإن كان تسور عليها ليلا قطع، وذكر عن سحنون إن كانت حصره خيط بعضها إلى بعض قطع، وإلا لم يقطع. قال أصبغ: يقطع سارق حصر المسجد وقناديله وبلاطه، كما لو سرق بابه مستسرا أو خشبة من سقفه أو من جوائزه «1». وقال أشهب في كتاب محمد: لا قطع في شي من حصر المسجد وقناديله وبلاطه. الثامنة- واختلف العلماء هل يكون غرم مع القطع أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجتمع الغرم مع القطع بحال، لان الله سبحانه قال:" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ" ولم يذكر غرما. وقال الشافعي: يغرم قيمة السرقة موسرا كان أو معسرا، وتكون دينا عليه إذا أيسر أداه، وهو قول أحمد وإسحاق. وأما علماؤنا مالك وأصحابه فقالوا: إن كانت العين قائمة ردها، وإن تلفت فإن كان موسرا غرم، وإن كان معسرا لم يتبع به دينا ولم يكن عليه شي، وروى مالك «2» مثل ذلك عن الزهري، قال الشيخ أبو إسحاق: وقد قيل إنه يتبع بها دينا مع القطع موسرا كان أو معسرا، قال: وهو قول غير واحد] من علمائنا [ «3» من أهل المدينة، واستدل على صحته بأنهما حقان لمستحقين فلا يسقط أحدهما الآخر كالدية والكفارة، ثم قال: وبهذا أقول. واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه) وأسنده في كتابه. وقال بعضهم: إن الاتباع بالغرم عقوبة، والقطع عقوبة، ولا تجتمع عقوبتان، وعليه عول القاضي عبد الوهاب. والصحيح قول الشافعي ومن وافقه، قال الشافعي: يغرم السارق ما سرق موسرا كان أو معسرا، قطع أو لم يقطع، وكذلك إذا قطع الطريق، قال: ولا يسقط
__________
(1). الجائز من البيت الخشبة التي تحمل خشب البيت، والجمع أجوزة وجوزان وجوائز.
(2). سقط (مالك) من ج وهـ وك وع.
(3). من ك.

الحد لله ما أتلف للعباد، وأما ما احتج به علماؤنا من الحديث (إذا كان معسرا) فيه احتج الكوفيون وهو قول الطبري، ولا حجة فيه، رواه النسائي والدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف. قال أبو عمر: هذا حديث ليس بالقوي ولا تقوم به حجة، وقال ابن العربي: وهذا حديث باطل. وقال الطبري: القياس أن عليه غرم ما استهلك. ولكن تركنا ذلك اتباعا للأثر في ذلك. قال أبو عمر: ترك القياس لضعيف الأثر غير جائز، لان الضعيف لا يوجب حكما. التاسعة- واختلف في قطع يد من سرق المال من الذي سرقه، فقال علماؤنا: يقطع. وقال الشافعي: لا يقطع، لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز. وقال علماؤنا: حرمة المالك عليه باقية لم تنقطع عنه، وئد السارق كلائد، كالغاصب لو سرق منه المال المغصوب قطع، فإن قيل: اجعلوا حرزه كلا حرز، قلنا: الحرز قائم والملك قائم ولم يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز. العاشرة- واختلفوا إذا كرر السرقة بعد القطع في العين المسروقة، فقال الأكثر: يقطع. وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه. وعموم القرآن يوجب عليه القطع، وهو يرد قوله. وقال أبو حنيفة أيضا في السارق يملك الشيء المسروق بشراء أو هبة قبل القطع: فإنه لا يقطع، والله تعالى يقول:" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما" فإذا وجب القطع حقا لله تعالى لم يسقطه شي. الحادية عشرة- قرأ الجمهور" وَالسَّارِقُ" بالرفع. قال سيبويه: المعنى وفيما فرض عليكم السارق والسارقة. وقيل: الرفع فيهما على الابتداء والخبر" فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما". وليس القصد إلى معين إذ لو قصد معينا لوجب النصب، تقول: زيدا اضربه، بل هو كقولك: من سرق فاقطع يده. قال الزجاج: وهذا القول هو المختار. وقرى" وَالسَّارِقُ" بالنصب فيهما على تقدير اقطعوا السارق والسارقة، وهو اختيار سيبويه، لان الفعل بالأمر أولى، قال سيبويه رحمه الله تعالى: الوجه في كلام العرب النصب، كما تقول: زيدا اضربه، ولكن

العامة أبت إلا الرفع، يعني عامة القراء وجلهم، فأنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين. وقرا ابن مسعود" والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم" وهو يقوي قراءة الجماعة. والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر من سرق يسرق سرقا بفتح الراء. قاله الجوهري. واصل هذا اللفظ إنما هو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع، وسارقه النظر. قال ابن عرفة: السارق عند العرب هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس «1»، فإن تمنع «2» بما في يده فهو غاصب. قلت: وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (واسوا السرقة الذي يسرق صلاته) قالوا: وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها) خرجه الموطأ وغيره، فسماه سارقا وإن كان ليس سارقا من حيث ] هو [ «3» موضع الاشتقاق، فإنه ليس قيه مسارقة الأعين غالبا. الثانية عشرة- قوله تعالى:" فَاقْطَعُوا" القطع معناه الإبانة والإزالة، ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته. فأما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف، وهي البلوغ والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولاية، فلا يقطع العبد إن سرق من مال سيده، وكذلك السيد إن أخذ مال عبده لا قطع بحال، لان العبد وماله لسيده. ولم يقطع أحد بأخذ مال عبده لأنه آخذ لماله، وسقط قطع العبد بإجماع الصحابة وبقول الخليفة «4»: غلامكم سرق متاعكم. وذكر الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ولا على الذمي) قال: لم يرفعه غير فهد بن سليمان، والصواب ] أنه [ «5» موقوف. وذكر ابن ماجة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا سرق
__________
(1). المحترس الذي يسرق حريسة الجبل.
(2). من ع.
(3). من ج.
(4). الخليفة عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- والسارق كان غلاما لعبد الله بن عمرو الحضرمي سرق مرآة لامرأته ثمنها ستون درهما.
(5). من ك.

العبد فبيعوه ولو بنش «1» (أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال ابن ماجة: وحدثنا جبارة بن المغلس حدثنا حجاج بن تميم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس، أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يقطعه. وقال: (مال الله سرق بعضه بعضا) وجبارة بن المغلس متروك، قاله أبو زرعة الرازي. ولا قطع على صبي ولا مجنون. ويجب على الذمي والمعاهد، والحربي إذا دخل بأمان. وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف، وهي النصاب وقد مضى القول فيه، وأن يكون مما يتمول ويتملك ويحل بيعه، وإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع فيه باتفاق حاشا الحر الصغير عند مالك، وابن القاسم، وقيل: لا قطع عليه، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، لأنه ليس بمال. وقال علماؤنا: هو من أعظم المال، ولم يقطع السارق في المال لعينه. وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد. وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا، ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب. قال ابن القاسم: ولا يقطع سارق الكلب، وقال أشهب: ذلك في المنهي عن اتخاذه، فأما المأذون في اتخاذه فيقطع سارقه. قال: ومن سرق لحم أضحية أو جلدها قطع إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم. وقال ابن حبيب قال أصبغ: إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع، وأما إن سرقها بعد الذبح فلا يقطع. وإن كان مما يجوز اتخاذ أصله وبيعه، فصنع منه ما لا يجوز استعماله كالطنبور والملاهي من المزمار والعود وشبهه من آلات اللهو فينظر، فإن كان يبقى منها بعد فساد صورها وإذهاب المنفعة المقصودة بها ربع دينار فأكثر قطع. وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها فإنما يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة. وكذلك الصليب من ذهب أو فضة، والزيت النجس إن كانت قيمته على نجاسته نصابا قطع فيه. الوصف الثالث، ألا يكون للسارق فيه ملك، كمن سرق ما رهنه
__________
(1). النش: (بفتح النون وتشديد الشين) عشرون درهما ويطلق على النصف من كل شي فالمراد البيع ولو بنصف القيمة.

أو ما استأجره، ولا شبهة ملك، على اختلاف بين علمائنا وغيرهم في مراعاة شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال لان له فيه نصيبا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه أتى برجل سرق «1» مغفرا من الخمس فلم ير عليه قطعا وقال: له فيه نصيب. وعلى هذا مذهب الجماعة في بيت المال. وقيل: يجب عليه القطع تعلقا بعموم لفظ آية «2» السرقة. وأن يكون مما تصح سرقته كالعبد الصغير والأعجمي الكبير، لان ما لا تصح سرقته كالعبد الفصيح فإنه لا يقطع فيه. وأما ما يعتبر في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق. وجملة القول فيه أن كل شي له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شي معه حافظ فحافظه حرزه، فالدور والمنازل والحوانيت حرز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئا، وإن كان قبل السرقة ممن يجوز أن يعطيه الامام وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية، ألا ترى أن الامام قد يجوز أن يصرف جميع المال إلى وجه من وجوه المصالح ولا يفرقه في الناس، أو يفرقه في بلد دون بلد آخر ويمنع منه قوما دون قوم، ففي التقدير أن هذا السارق ممن لا حق له فيه. وكذلك المغانم لا تخلو: أن تتعين بالقسمة، فهو ما ذكرناه في بيت المال، أو تتعين بنفس التناول لمن شهد الوقعة، فيجب أن يراعي قدر ما سرق، فإن كان فوق حقه قطع وإلا لم يقطع «3». الرابعة عشرة- وظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع وإن لم يكن هناك حانوت، كان معه أهله أم لا، سرقت بليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها محرزة، كان معها أهلها أم لا، فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ، ومن ربطها بفنائه أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه فإنه حرز لها. والسفينة حرز لما فيها وسواء كانت سائبة أو مربوطة، فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كان صاحبها ربطها في موضع وأرساها فيه فربطها حرز،
__________
(1). المغفر (بكسر الميم): زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
(2). من ع.
(3). كل الأصول لم تذكر الثالثة عشرة، إلا ك، ثم سقط منها التاسعة عشرة.

وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة، كالدابة بباب المسجد معها حافظ، إلا أن ينزلوا بالسفينة في سفرهم منزلا فيربطوها فهو حرز لها كان صاحبها معها أم لا. الخامسة عشرة- ولا خلاف أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار وإن لم يدخل بها بيته ولا خرج بها من الدار. ولا خلاف في أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئا وإن أدخله بيته أو أخرجه من الدار، لان قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء، إلا أن تكون دابة في مربطها أو ما يشبهها من المتاع. السادسة عشرة- ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما، لقوله عليه السلام: (أنت ومالك لأبيك). ويقطع في سرقة مالهما، لأنه لا شبهة له فيه. وقيل: لا يقطع، وهو قول ابن وهب وأشهب، لان الابن ينبسط في مال أبيه في العادة، ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال سيده فلان لا يقطع ابنه في ماله أولى. واختلفوا في الجد، فقال مالك وابن القاسم: لا يقطع. وقال أشهب: يقطع. وقول مالك أصح لأنه أب، قال مالك: أحب إلى ألا يقطع الأجداد من قبل الأب والام وإن لم تجب لهم نفقة. قال ابن القاسم وأشهب: ويقطع من سواهما من القرابات. قال ابن القاسم: ولا يقطع من سرق من جوع أصابه. وقال أبو حنيفة: لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم، وهو قول الثوري. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يقطع من سرق من هؤلاء. وقال أبو ثور: يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد، إلا أن يجمعوا على شي فيسلم للإجماع ] والله أعلم [ «1». السابعة عشرة- واختلفوا في سارق المصحف، فقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور: يقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد، وبه قال ابن القاسم. وقال النعمان: لا يقطع من سرق مصحفا. قال ابن المنذر: يقطع سارق المصحف. واختلفوا في الطرار «2» يطر النفقة من الكم، فقالت طائفة: يقطع من طر من داخل الكم أو من خارج، وهو قول مالك
__________
(1). في ك.
(2). الطرار: هو الذي يشق كم الرجل ويسل ما فيه، من الطر وهو القطع والشق. [.....]

والأوزاعي وأبي ثور ويعقوب. قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكم فأدخل يده فسرقها قطع. وقال الحسن: يقطع. قال ابن المنذر: يقطع على أي جهة طر. الثامنة عشرة- واختلفوا في قطع اليد في السفر، وإقامة الحدود في أرض الحرب، فقال مالك والليث بن سعد: تقام الحدود في أرض الحرب ولا فرق بين دار الحرب والإسلام. وقال الأوزاعي: يقيم من غزا على جيش- وإن لم يكن أمير مصر من الأمصار- الحدود في عسكره غير القطع. وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه فيقيم الحدود في عسكره. استدل الأوزاعي ومن قال بقوله بحديث جنادة بن أبي أمية قال: كنا مع بسر بن أرطأة في البحر، فأتى بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية «1»، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا تقطع الأيدي في الغزو) «2» ولولا ذلك لقطعته. يسر هذا] يقال [ «3» ولد في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت له أخبار سوء في جانب علي وأصحابه، وهو الذي ذبح طفلين «4» لعبد الله بن العباس ففقدت أمهما عقلها فهامت على وجهها، فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره ويذهب عقله، فكان كذلك. قال يحيى ابن معين: كان بسر بن أرطأة رجل سوء. استدل من قال بالقطع بعموم القرآن، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وأولى ما يحتج به لمن منع القطع في أرض الحرب والحدود: مخافة أن يلحق ذلك بالشرك. والله أعلم. التاسعة عشرة- فإذا قطعت اليد أو الرجل فإلى أين تقطع؟ فقال الكافة: تقطع من الرسغ والرجل من المفصل، ويحسم الساق إذا قطع. وقال بعضهم: يقطع إلى المرفق. وقيل: إلى المنكب، لان اسم اليد يتناول ذلك. وقال علي رضي الله عنه: تقطع الرجل من شطر القدم ويترك له العقب «5»، وبه قال أحمد وأبو ثور. قال ابن المنذر: وقد روينا
__________
(1). البختية: الأنثى من الجمال البخت وهي جمال طوال الأعناق واللفظة معربة.
(2). في التهذيب: وأسد الغابة (في السفر).
(3). من ج وع.
(4). كذا في الأصول. وفي التهذيب: وأسد الغابة: قتل عبد الرحمن وقثم ابني عبيد الله بن العباس.
(5). العقب: مؤخر المقدم.

عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمر بقطع يد رجل فقال: (أحسموها) وفي إسناده مقال، واستحب ذلك جماعة منهم الشافعي وأبو ثور وغيرهما، وهذا أحسن وهو أقرب إلى البرء وأبعد من التلف. الموفية عشرين- لا خلاف أن اليمنى هي التي تقطع أولا، ثم اختلفوا إن سرق ثانية، فقال مالك واهل المدينة والشافعي وأبو ثور وغيرهم: تقطع رجله اليسرى، ثم في الثالثة يده اليسرى، ثم في الرابعة رجله اليمنى، ثم إن سرق خامسة يعزر ويحبس. وقال أبو مصعب من علمائنا: يقتل بعد الرابعة، واحتج بحديث خرجه النسائي عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتي بلص فقال: (اقتلوه) فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، قال:] (اقتلوه) «1»، قالوا: يا رسول إنما سرق، قال [: (اقطعوا يده)، قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضا] الخامسة [ «2» فقال أبو بكر رضي الله عنه: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم بهذا حين قال: (اقتلوه) ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه، منهم عبد الله بن الزبير وكان يحب الامارة فقال: أمروني عليكم فأمروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه. وبحديث جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بسارق في الخامسة فقال: (اقتلوه). قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فرميناه في بئر ورمينا عليه الحجارة. رواه أبو داود وخرجه النسائي وقال: هذا حديث منكر واحد رواته «3» ليس بالقوي. ولا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا. قال ابن المنذر: ثبت عن أبي بكر وعمر] رضي الله عنهما [ «4» أنهما قطعا اليد بعد اليد والرجل بعد الرجل. وقيل: تقطع في الثانية رجله اليسرى ثم لا قطع في غيرها، ثم إذا عاد عزر وحبس، وروي عن علي بن أبي طالب، وبه قال الزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل. قال الزهري: لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل. وقال عطاء: تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع: ذكره ابن العربي وقال: أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافه.
__________
(1). من ك، هـ، ز.
(2). من ك، هـ، ز.
(3). هو مصعب بن ثابت. (النسائي).
(4). من ع.

الحادية والعشرون- واختلفوا في الحاكم يأمر بقطع يد السارق اليمنى فتقطع يساره، فقال قتادة: قد أقيم عليه الحد ولا يزاد عليه، وبه قال مالك: إذا أخطأ القاطع فقطع شماله، وبه قال أصحاب الرأي استحسانا. وقال أبو ثور: على الحزاز «1» الدية لأنه أخطأ وتقطع يمينه إلا أن يمنع بإجماع «2». قال ابن المنذر: ليس يخلو قطع يسار السارق من أحد معنيين، إما أن يكون القاطع عمد ذلك فعليه القود، أو يكون أخطأ فديته على عاقلة القاطع، وقطع يمين السارق يجب، ولا يجوز إزالة ما أوجب الله سبحانه بتعدي معتد أو خطأ مخطئ. وقال الثوري في الذي يقتص منه في يمينه فيقدم شماله فتقطع، قال: تقطع يمينه أيضا. قال ابن المنذر: وهذا صحيح. وقالت طائفة: تقطع يمينه إذا برئ، وذلك أنه هو أتلف يساره، ولا شي على القاطع في قول أصحاب الرأي، وقياس قول الشافعي. وتقطع يمينه إذا برئت. وقال قتادة والشعبي: لا شي على القاطع وحسبه ما قطع منه. الثانية والعشرون- وتعلق يد السارق في عنقه، قال عبد الله بن محيريز سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة هو؟ فقال: جئ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه، أخرجه الترمذي- وقال: حديث حسن غريب- وأبو داود والنسائي. الثالثة والعشرون- إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا، فقال مالك: يقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي: يقطع ] ويقتل [ «3»، لأنهما حقان لمستحقين فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وهو اختيار ابن العربي. الرابعة والعشرون- قوله تعالى:" أَيْدِيَهُما" لما قال" أَيْدِيَهُما" ولم يقل يديهما تكلم علماء اللسان «4» في ذلك- قال ابن العربي: وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن بهم «5»- فقال الخليل بن أحمد والفراء: كل شي يوجد من خلق الإنسان إذا أضيف إلى اثنين جمع تقول: هشمت رءوسهما وأشبعت بطونهما، و
__________
(1). في ك، ع: الجزار.
(2). في ج، ز، ك، هـ: إلا أن يمنع منه إجماع.
(3). من ع.
(4). في ج، ع: البيان.
(5). زاد ابن العربي (من غير تحقيق لكلامهم). [.....]

" إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما" «1»] التحريم: 4]، ولهذا قال:" فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما" ولم يقل يديهما. والمراد فاقطعوا يمينا من هذا ويمينا من هذا. ويجوز في اللغة، فاقطعوا يديهما وهو الأصل، وقد قال الشاعر «2» فجمع بين اللغتين:
ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين
وقيل: فعل هذا لأنه لا يشكل. وقال سيبويه: إذا كان مفردا قد يجمع إذا أردت به التثنية، وحكي عن العرب، وضعا رحالهما. ويريد] به [ «3» رحلي راحلتيهما، قال ابن العربي: وهذا بناء على أن اليمين وحدها هي التي تقطع وليس كذلك، بل تقطع الأيدي والأرجل، فيعود قوله" أَيْدِيَهُما" «4» إلى أربعة وهي جمع في الاثنين، وهما تثنية فيأتي الكلام على فصاحته، ولو قال: فاقطعوا أيديهم لكان وجها، لان السارق والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة، وإنما هما اسما جنس يعمان ما لا يحصى. الخامسة والعشرون- قوله تعالى: (جَزاءً بِما كَسَبا) مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا وكذا (نَكالًا مِنَ اللَّهِ) يقال: نكلت به إذا فعلت به ما يوجب أن ينكل به عن ذلك الفعل. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) لا يغالب (حَكِيمٌ) فيما يفعله، وقد تقدم. السادسة والعشرون- قوله تعالى:" فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ" شرط، وجوابه" فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ". ومعنى" مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ" من بعد السرقة، فإن الله يتجاوز عنه. والقطع لا يسقط بالتوبة. وقال عطاء وجماعة: يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق. وقاله بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي قولا. وتعلقوا بقول الله تعالى:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" وذلك استثناء من الوجوب، فوجب حمل جميع الحدود عليه. وقال علماؤنا: هذا بعينه دليلنا، لان الله سبحانه وتعالى لما ذكر حد المحارب قال:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" وعطف عليه حد السارق وقال فيه:" فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ" فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما. قال ابن العربي: ويا معشر
__________
(1). راجع ج 18 ص 188.
(2). راجع ج 5 ص 73.
(3). من ج.
(4). كذا في الأصول إلا ا، فيعود قول مالك إلى أربعة.

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

الشافعية سبحان الله! أين الدقائق الفقهية «1»، والحكم الشرعية، التي تستنبطونها من غوامض المسائل؟! ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه، المعتدى بسلاحه، الذي يفتقر الامام معه إلى الإيجاف بالخيل والركاب كيف أسقط جزاءه بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام، فأما السارق والزاني وهما في قبضة المسلمين وتحت حكم الامام، فما الذي يسقط عنهم حكم ما وجب عليهم؟! أو كيف يجوز أن يقال: يقاس على المحارب وقد فرقت بينهما الحكمة والحالة! هذا ما لا يليق بمثلكم يا معشر المحققين. وإذا ثبت أن الحد لا يسقط بالتوبة، فالتوبة مقبولة والقطع كفارة له." وَأَصْلَحَ" أي كما تاب عن السرقة تاب عن كل ذنب. وقيل:" وَأَصْلَحَ" أي ترك المعصية بالكلية، فأما من ترك السرقة بالزنى أو التهود بالتنصر فهذا ليس بتوبة، وتوبة الله على العبد أن يوفقه للتوبة. وقيل: أن تقبل منه التوبة. السابعة والعشرون- يقال: بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل السارقة، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ما الحكمة في ذلك؟ فالجواب أن يقال: لما كان حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضعين، هذا أحد الوجوه في المرأة على ما يأتي بيانه في سورة" النور" «2» من البداية بها على الزاني إن شاء الله. ثم جعل الله حد السرقة قطع اليد لتناول المال، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به لثلاثة معان: أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية «3»، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه. الثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر: وقطع الذكر في الزنى باطن. الثالث- أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل وليس في قطع اليد إبطاله. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 40]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
__________
(1). في ك: الفهمية.
(2). راجع ج 12 ص 159.
(3). في ك وج: الباقية.

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)

قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره، أي لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول قائل: نحن أبناء الله وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد. وقيل: أي له أن يحكم بما يريد، فلهذا فرق بين المحارب وبين السارق غير المحارب. وقد تقدم نظائر هذه الآية والكلام فيها فلا معنى لإعادتها والله الموفق. هذا ما يتعلق بآية السرقة من بعض أحكام السرقة. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 41]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
فيه ثمان مسائل الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ) الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال: قيل نزلت في بني قريظة والنضير، قتل قرظي نضيريا وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يقيدوهم، وإنما يعطونهم الدية على ما يأتي بيانه، فتحاكموا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري، فساءهم ذلك ولم يقبلوا. وقيل، إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بني قريضة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح «1». وقيل: إنها نزلت في زني اليهوديين وقصة الرجم، وهذا أصح الأقوال، رواه
__________
(1). كان ذلك يوم حصارهم، فسألوه ما الامر؟ وعلام ننزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح

الأئمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. قال أبو داود عن جابر بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم (ائتوني بأعلم رجلين منكم) فجاءوا بابني صوريا فنشدهما الله تعالى (كيف تجدان أمر هذين في التوراة)؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رجما. قال: (فما يمنعكما أن ترجموهما)، قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل. فدعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهود «1»، فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجمهما. وفي غير الصحيحين عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه، فسألوه فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم)، فقال ابن صوريا: فأما إذ ناشدتني الله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية، والاعتناق زنية، والقبلة زنية، فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هو ذاك). وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي محمما «2» مجلودا، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم) قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: (أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم) قال: لا- ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك- نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شي نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه) فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى:" يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ" إلى قوله:" إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ" يقول: ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم
__________
(1). في ج وع وك: باليهود.
(2). حممه تحميما: طلى وجهه بالفحم.

والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله عز وجل:" وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ"] المائدة 44]،" وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"] المائدة: 45]،" وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ"] المائدة: 47] في الكفار كلها. هكذا في هذه الرواية (مر على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وفي حديث ابن عمر: أتي بيهودي ويهودية فد زنيا فانطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جاء يهود، قل: (ما تجدون في التوراة على من زنى) الحديث. وفي رواية، أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجل وامرأة قد زنيا. وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود، فدعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى القف «1» فأتاهم في بيت المدراس «2» فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بيننا. ولا تعارض في شي من هذا كله، وهي كلها قصة واحدة، وفد ساقها أبو داود من حديث أبي هريرة سياقة حسنة فقال: زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فأنه نبي بعث بالتخفيفات، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، وقلنا فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب، فقال: (أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن (، فقالوا: يحمم وجهه ويجبه ويجلد، والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكت ألظ «3» به النشدة، فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم. وساق الحديث إلى أن قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فإني أحكم بما في التوراة) فأمر به فرجما.
__________
(1). القف: علم لواد من أودية المدينة عليه مال لأهلها.
(2). المدراس هو البيت الذي يدرسون فيه، ومفعال غريب في المكان. (اللسان). ومدراس أيضا صاحب دراسة كتبهم.
(3). ألظ به النشدة: ألح في سؤاله وألزمه إياها.

الثانية- والحاصل من هذه الروايات أن اليهود حكمت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة. واستند في ذلك إلى قول ابني صوريا، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان. فهذه مسائل أربع. فإذا ترافع أهل الذمة إلى الامام، فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم، ومنعهم منه بلا خلاف. وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي، غير أن مالكا رأى الاعراض [عنهم ] «1» أولى، فإن حكم حكم [بينهم ] «2» بحكم الإسلام. وقال الشافعي: لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم على كل حال، وهو قول الزهري وعمر بن عبد العزيز والحكم، وروي عن ابن عباس وهو أحد قولي الشافعي، لقوله تعالى:" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" [المائدة: 49] على ما يأتي بيانه [بعد] «3»، احتج مالك بقوله تعالى:" فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" [المائدة: 42] وهي نص في التخيير. قال ابن القاسم: إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخير، لان إنفاذ الحكم حق للأساقفة. والمخالف يقول: لا يلتفت إلى الأساقفة. قال ابن العربي: وهو الأصح، لان مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ، ولم يعتبر رضا الحاكم. فالكتابيون بذلك أولى. وقال عيسى عن ابن القاسم: لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا أهل حرب. قال ابن العربي: وهذا الذي قاله عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره: أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك، وكانوا حربا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واسم المرأة الزانية بسرة، وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم اسألوا محمدا عن هذا، فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه ] منه [ «4» واقبلوه، وإن أفتاكم به فاحذروه «5»، الحديث. قال ابن العربي: وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا، وإن لم يكن عهد وذمة ودار لكان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم، فلا حجة لرواية عيسى في هذا، وعنهم أخبر الله تعالى بقوله:" سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ" ولما حكموا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفذ الحكم عليهم ولم يكن لهم الرجوع، فكل من حكم رجلا في الدين وهي: الثالثة- فأصله هذه الآية. قال مالك: إذا حكم رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه، إلا أن يكون جورا بينا. وقال سحنون: يمضيه إن رآه ] صوابا [ «6». قال
__________
(1). من ج وهـ وع. [.....]
(2). من ع وك.
(3). من ك وع.
(4). من ج وك وهـ وع.
(5). من ك وع.
(6). من ع وك.

ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان، والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم فيه، وتحقيقه أن التحكيم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية، ومؤد إلى تهارج الناس كتهارج «1» الحمر، فلا بد من فاصل، فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج، وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدة. وقال الشافعي وغيره: التحكيم جائز وإنما هو فتوى. وقال بعض العلماء: إنما كان حكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على اليهود بالرجم إقامة لحكم كتابهم، لما حرفوه وأخفوه وتركوا العمل به، ألا ترى أنه قال: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه) وأن ذلك كان حين قدم المدينة، ولذلك استثبت ابني صوريا عن حكم التوراة واستحلفهما على ذلك. وأقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع، لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به. وقد يحتمل أن بكون حصول طريق العلم بذلك الوحي، أو ما ألقى الله في روعه من تصديق ابني صوريا فيما قالاه من ذلك لا قولهما مجردا، فبين له [النبي ] «2» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبر بمشروعية الرجم، ومبدؤه ذلك الوقت، فيكون أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة، وبين أن ذلك حكم شريعته، وأن التوراة حكم الله سبحانه، لقوله تعالى:" إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا" [المائدة: 44] «3» وهو من الأنبياء. وقد قال عنه أبو هريرة: (فإني أحكم بما في التوراة) والله أعلم. الرابعة- والجمهور على رد شهادة الذمي، لأنه ليس من أهلها فلا تقبل على مسلم ولا على كافر، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذا لم يوجد مسلم على ما يأتي بيانه آخر السورة. فإن قيل: فقد حكم بشهادتهم ورجم الزانيين «4»: فالجواب، أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزاما للحجة عليهم، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذا لا حاكما «5». وهذا على التأويل الأول، وعلى
__________
(1). من ع.
(2). من ك، ع.
(3). راجع ص 88، ص 349 من هذا الجزء،
(4). في ع: في رجم.
(5). في ك وع: منفذا لأحكامها.

ما ذكر من الاحتمال فيكون ذلك خاصا بتلك الواقعة، إذ لم يسمع في الصدر الأول من قبل شهادتهم في مثل ذلك. والله أعلم. الخامسة- قوله تعالى:" لا يَحْزُنْكَ" قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي. والحزن والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين، وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه، ومحزون بني عليه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. واحتزن وتحزن بمعنى. والمعنى في الآية تأنيس للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر، فإن الله قد وعدك النصر عليهم. السادسة- قوله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) وهم المنافقون (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي لم يضمروا في قلوبهم الايمان كما نطقت به ألسنتهم (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) يعنى يهود المدينة ويكون هذا تمام الكلام، ثم ابتدأ فقال" سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ" أي هم سماعون، ومثله" طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ" «1»] النور: 58]. وقيل الابتداء من قوله:" وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا" أي ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب، أي قابلون لكذب رؤسائهم من تحريف التوراة. وقيل: أي يسمعون كلامك يا محمد ليكذبوا عليك، فكان فيهم من يحضر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يكذب عليه عند عامتهم، ويقبح صورته في أعينهم، وهو معنى قوله (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) وكان في المنافقين من يفعل هذا. قال الفراء: ويجوز سماعين وطوافين، كما قال:" مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا" «2» وكما قال:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ" «3»] الطور: 17] ثم قال:" فاكِهِينَ"" آخِذِينَ" «4». وقال سفيان بن عيينة: إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله:" سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ" ولم يعرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم مع علمه بهم، لأنه لم يكن حينئذ تقررت الأحكام ولا تمكن الإسلام. وسيأتي حكم الجاسوس في" الممتحنة" «5» إن شاء الله تعالى. السابعة- قوله تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يتأولونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل، وبين أحكامه، فقالوا:
__________
(1). راجع ج 12 ص 306.
(2). راجع ج 14 ص 245.
(3). راجع ج 17 ص 64 وص 75.
(4). راجع ج 17 ص 64 وص 75. [.....]
(5). راجع ج 18 ص 53.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

شرعه ترك الرجم، وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرا لحكم الله عز وجل. و" يُحَرِّفُونَ" في موضع الصفة لقوله" سَمَّاعُونَ" وليس بحال من الضمير الذي في" يَأْتُوكَ" لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا، والتحريف إنما هو ممن يشهد ويسمع فيحرف. والمحرفون من اليهود بعضهم لا كلهم، ولذلك كان حمل المعنى على" مِنَ الَّذِينَ هادُوا" فريق سماعون أشبه. (يَقُولُونَ) في موضع الحال من المضمر في" يُحَرِّفُونَ". (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) أي إن أتاكم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجلد فأقبلوا وإلا فلا. الثامنة- قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة. (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي فلن تنفعه. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) بيان منه عز وجل أنه قضى عليهم بالكفر. ودلت الآية على أن الضلال بمشيئة الله تعالى ردا على من قال خلاف ذلك على ما تقدم، أي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) قيل: هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم، ثم أحضرت التوراة فوجد فيها الرجم. وقيل: خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 42]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) كرره تأكيدا وتفخيما، وقد تقدم «1». الثانية- قوله تعالى: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) على التكثير. والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة، قال الله تعالى:" فيسحتكم بعذاب" «2». وقال الفرزدق:
__________
(1). راجع ج 11 ص 211.
(2). في ج وز: وقد تقدم في البقرة.

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا «1» أو مجلف «2»
كذا الرواية. أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى، لان معنى لم يدع لم يبق. ويقال للحالق: أسحت أي استأصل. وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. وقال الفراء: أصله كلب الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. وقيل: سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان. قلت: والقول الأول أولى، لان بذهاب الدين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن لا دين له. قال ابن مسعود وغيره: السحت الرشا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رشوة الحاكم من السحت. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به) قالوا: يا رسول الله وما السحت؟ قال: (الرشوة في الحكم). وعن ابن مسعود أيضا أنه قال: السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها. وقال ابن خويز منداد: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها. ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام. وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك. قلت: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله، لان أخذ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه. والله أعلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن اله الراشي والمرتشي). وعن علي رضي الله عنه أنه قال: السحت الرشوة وحلوان «3» الكاهن والاستجعال في القضية «4». وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شي؟ فقال: لا، إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك، أو تدفع حقا فد لزمك، فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك
__________
(1). ويروى: (إلا مسحت) ومن رواه كذلك جعل (معنى لم يدع) لم يتقار. (اللسان) مادة سحت.
(2). المجلف: الذي بقيت منه بقية.
(3). هو ما يعطي على الكهانة.
(4). في ج، ك، ع، ز: الاستعجال في المعصية.

فليس بحرام. قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ، لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة. وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع، قال المهدوي: ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه. قلت: الصحيح في كسب الحجام أنه طيب، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته. وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال: احتج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حجمه أبو طيبة فأمر له ] رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ «1» بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه، قال ابن عبد البر: هذا يدل على أن كسب الحجام طيب، لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجعل ثمنا ولا جعلا [ولا] «2» عوضا لشيء من الباطل. وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثمن الدم، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام. وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه. والسحت والسحت لغتان قرئ بهما، قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين، والباقون بضم السين وحدها. وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع" أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ" بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته، يقال: أسحت وسحت بمعنى واحد. وقال الزجاج: سحته ذهب به قليلا قليلا. قوله تعالى: (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) هذا تخيير من الله تعالى، ذكره القشيري، وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة وادع اليهود. ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟ قولان للشافعي، وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم. قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي. واختلفوا في الذميين، فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير، روى ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما، وهو مذهب مالك
__________
(1). من ج وك وهـ وع.
(2). من ج وك وهـ وع.

والشافعي وغيرهما، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى، فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما. وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال: يجلدان ولا يرجمان. وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم: عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا. قال ابن خويز منداد: ولا يرسل الامام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم. فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام. وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم، لان في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم، ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا، ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات، لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين. وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم ] بذلك [ «1» إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات، لان فيها وجها من المظالم وقطع الفساد. والله أعلم. وفي الآية قول ثان: وهو ما روي عن عمر بن عبد العزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى:" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" وأن على الحاكم أن يحكم بينهم، وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم. وروي عن عكرمة أنه قال:" فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" نسختها آية أخرى" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ"] المائدة: 49]. وقال مجاهد: لم ينسخ من" المائدة" إلا آيتان، قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ"، وقوله:" لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ" «2»] المائدة: 2] نسختها" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «3»] التوبة: 5]. وقال الزهري: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله. قال
__________
(1). من ع.
(2). راجع ص 37 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 8 ص 72.

السمرقندي: وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا. وقال النحاس في" الناسخ والمنسوخ" له قول تعالى:" فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" منسوخ، لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ". وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر ابن عبد العزيز والسدي، وهو الصحيح من قول الشافعي، قال في كتاب الجزية: ولا خيار له إذا تحاكموا إليه، لقوله عز وجل:" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ" «1»] التوبة: 29]. قال النحاس: وهذا من أصح الاحتجاجات، لأنه إذا كان معنى قوله:" وَهُمْ صاغِرُونَ" أن تجرى عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة. وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الامام أنه ليس له أن يعرض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم. وقال الباقون: يحكم، فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس، ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة، لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الامام فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه. قال النحاس: ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر، منهم من يقول: على الامام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل:" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ" يحتمل أمرين: أحدهما- وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك. والآخر- وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك- إذا علمت ذلك منهم- قالوا: فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا، فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى:
__________
(1). راجع ج 8 ص 109.

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ" «1»] النساء: 135]. وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي قد جلد وحمم فقال: (أهكذا حد الزاني عندكم) فقالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: (سألت بالله أهكذا حد الزاني فيكم) فقال: لا. الحديث، وقد تقدم. قال النحاس: فاحتجوا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث. فإن قال قائل: ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قيل له: ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال أبو عمر بن عبد البر: لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج، لان في درج الحديث تفسير قوله عز وجل:" إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا"] المائدة: 41] يقول: إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل على أنهم حكموه. وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره. فإن قال قائل: ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا رضيا بحكمه. قيل له: حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته. ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والله أعلم. قوله تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق «2» من تمر، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت:" وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ" النفس بالنفس، ونزلت:" أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"] المائدة: 50].

[سورة المائدة (5): آية 43]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
__________
(1). راجع ج 5 ص 410. [.....]
(2). الوسق: ستون صاعا.

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

قوله تعالى: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ) قال الحسن: هو الرجم. وقال قتادة: هو القود. ويقال: هل يدل قوله تعالى:" فِيها حُكْمُ اللَّهِ" على أنه لم ينسخ؟ الجواب- وقال أبو علي: نعم، لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت وقوله: (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي بحكمك أنه من عند الله. وقال أبو علي: إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرضى به فهو كافر، وهذه حالة اليهود.

[سورة المائدة (5): آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ). أي بيان وضياء وتعريف أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق." هُدىً" في موضع رفع بالابتداء" وَنُورٌ" عطف عليه (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) قيل: المراد بالنبيين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة، وأن اليهود قالت: إن الأنبياء كانوا يهودا. وقالت النصارى: كانوا نصارى، فبين الله عز وجل كذبهم. وعمني (أَسْلَمُوا) صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى ] زمان [ «1» عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي، ويقال: أربعة آلاف. ويقال: أكثر من ذلك، كانوا يحكمون بما في التوراة. وقيل: معنى" أَسْلَمُوا" خضعوا وانقادوا لأمر الله فيما بعثوا به. وقيل: أي يحكم بها النبيون الذين هم على دين إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعنى واحد. ومعنى" (لِلَّذِينَ هادُوا)" على الذين هادوا فاللام بمعنى (على). وقيل: المعنى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وعليهم، فحذف (عليهم). و" الَّذِينَ أَسْلَمُوا" هاهنا نعت فيه معنى المدح مثل
__________
(1). من ع وك.

" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"." هادُوا" أي تابوا من الكفر. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار، أي ويحكم بها الربانيون وهم الذين يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كباره، عن ابن عباس وغيره. وقد تقدم في آل عمران «1». وقال أبو رزين: الربانيون العلماء الحكماء والأحبار. قال ابن عباس: هم الفقهاء: والحبر والحبر الرجل العالم وهو مأخوذ من الحبير وهو التحسين، فهم يحبرون العلم أي يبينونه ويزينونه، وهو محبر في صدورهم. قال مجاهد: الربانيون فوق العلماء. والألف واللام للمبالغة. قال الجوهري: والحبر والحبر واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح: لأنه يجمع على أفعال دون «2» الفعول، قال الفراء: هو حبر بالكسر يقال ذلك للعالم. وقال الثوري: سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا؟ فقال: يقال للعالم حبر وحبر فالمعنى مداد حبر ثم حذف كما قال:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «3» [يوسف: 82] أي أهل القرية. قال: فسألت الأصمعي فقال ليس هذا بشيء، إنما سمي حبرا لتأثيره، يقال: على أسنانه حبر «4» أي صفرة أو سواد. وقال أبو العباس: سمي الحبر الذي يكتب به حبرا لأنه يحبر به أي يحقق به. وقال أبو عبيد: والذي عندي في واحد الأحبار الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه. قال: وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح، والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر. والحبر أيضا الأثر والجمع حبور، عن يعقوب. (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ) أي استودعوا من علمه. والباء متعلقة ب" الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ" كأنه قال: والعلماء بما استحفظوا. أو تكون متعلقة ب"- يَحْكُمُ" أي يحكمون بما استحفظوا. (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي على الكتاب بأنه من عند الله. ابن عباس: شهداء على حكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه في التوراة (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) أي في إظهار صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإظهار الرجم (وَاخْشَوْنِ) أي في كتمان ذلك، فالخطاب لعلماء اليهود. وقد يدخل بالمعنى كل من كتم حقا وجب عليه ولم يظهره. وتقدم معنى" وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا" مستوفى «5».
__________
(1). راجع ج 4 ص 122.
(2). في القاموس: ج أحبار وحبور.
(3). راجع ج 9 ص 245.
(4). في ج وع وك: حبرة. في المصباح: الحبر بفتحتين صفرة أخ.
(5). راجع ج 1 ص 334.

قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) و(الظَّالِمُونَ) و(الْفاسِقُونَ) نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم. وعلى هذا المعظم. فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار، أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار. وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر، فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول، إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة، واختاره النحاس، قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء، منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله:" لِلَّذِينَ هادُوا"، فعاد الضمير عليهم، ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك، ألا ترى أن بعده" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ" فهذا الضمير لليهود بإجماع، وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص. فإن قال قائل:" من" إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها؟ قيل له:" فَمَنْ" هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الادلة، والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا من أحسن ما قيل في هذا، ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل؟ قال: نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل. وقيل:" الْكافِرُونَ" للمسلمين، و" الظَّالِمُونَ" لليهود، و" الَفاسِقُونَ" للنصارى، وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: لأنه ظاهر الآيات. وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعب أيضا. قال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر، «1»
__________
(1). قال في البحر: يعني أن كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر. قلت: هو كفر النعمة عند الإباضية.

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري: ومذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر، وعزي هذا إلى الحسن والسدي. وقال الحسن أيضا: أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.

[سورة المائدة (5): آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
فيه ثلاثون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) بين تعالى أنه سوى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك، فضلوا، فكانت دية النضيري أكثر، وكان النضيري لا يقتل بالقرظي، ويقتل به القرظي فلما جاء الإسلام راجع بنو قريظة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، فحكم بالاستواء، فقالت بنو النضير: قد حططت منا، فنزلت هذه الآية. و" كَتَبْنا" بمعنى فرضنا. وقد تقدم. وكان شرعهم القصاص أو العفو، وما كان فيهم الدية، كما تقدم في" البقرة" «1» بيانه. وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال: يقتل المسلم بالذمي، لأنه نفس بنفس، وقد تقدم في" البقرة" «2» بيان هذا. وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه سئل هل خصك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء؟ فقال: لا، إلا ما في هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه وإذا فيه (المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده) وأيضا فإن الآية إنما جاءت
__________
(1). راجع ج 2 ص 244، 246.
(2). راجع ج 2 ص 244، 246.

للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل، وأخذهم من قبيلة رجلا برجل، ومن قبيلة أخرى رجلا برجلين. وقالت الشافعية: هذا خبر عن شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا، وقد مضى في" البقرة" «1» في الرد عليهم ما يكفي فتأمله هناك. ووجه رابع: وهو أنه تعالى قال:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" وكان ذلك مكتوبا على أهل التوراة وهم ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذمة، لان الجزية في وغنيم أفاءها الله على المؤمنين، ولم يجعل الفيء لاحد قبل هذه الامة، ولم يكن نبي فيما مضى مبعوثا إلا إلى قومه، فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ، فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس، إذ يشير إلى قوم معينين، ويقول: إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم «2» بالنفس، فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم على هذا الوجه-: النفس بالنفس، وليس في كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع اختلاف الملة. الثانية- قال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة: إذا جرح أو قطع الاذن أو اليد ثم قتل فعل ذلك به، لان الله تعالى قال:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" فيؤخذ منه ما أخذ، ويفعل به كما فعل. وقال علماؤنا: إن قصد به المثلة فعل به مثله، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قتل بالسيف، وإنما قالوا ذلك في المثلة يجب، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمل أعين العرنيين، حسبما تقدم بيانه في هذه السورة «3». الثالثة- قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف، ويجوز تخفيف" أَنَّ" ورفع الكل بالابتداء والعطف. وقرا ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح. وكان الكسائي وأبو عبيد يقرءان" وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ" بالرفع فيها كلها. قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هرون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن
__________
(1). راجع ج 2 ص 244.
(2). في ع: أن النفس بالنفس بينهم.
(3). راجع ص 148 من هذا الجزء.

أنس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ «1» النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ". والرفع من ثلاث جهات، بالابتداء والخبر، وعلى المعنى على موضع" أَنَّ النَّفْسَ"، لان المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس. والوجه الثالث- قاله الزجاج- يكون عطفا على المضمر في النفس، لان الضمير في النفس في موضع رفع، لان التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام، حكم في المسلمين، «2» وهذا أصح القولين، وذلك أنها قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" وكذا ما بعده. والخطاب للمسلمين أمروا بهذا. ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستئناف بها، كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة وما قبله لم يواجهوا به. الرابعة-: هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله:" وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس، وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى، وقال: تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية، لعموم قوله تعالى:" وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ". والذين خالفوه وهم علماء الامة قالوا: العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى «3» مع الرضا، وذلك يبين لنا أن المراد بقوله:" وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" استيفاء ما يماثله من الجاني، فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها، وهذا لا ريب فيه. الخامسة- وأجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية، وفي العين الواحدة نصف الدية. وفى عين الأعور إذا فقئت الدية كاملة، روي ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال عبد الملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق. وقيل: نصف الدية، روي ] ذلك [ «4» عن عبد الله بن المغفل ومسروق والنخعي، وبه قال الثوري
__________
(1). في البحر: بتخفيف أن. إلخ، ثم قال: يحتمل أن وجهين أحدهما أن تكون مصدرية. إلخ. [.....]
(2). أي وبيان حكم جديد في المسلمين. كما في (روح المعاني).
(3). كذا في الأصول وصوابه: إلا مع الرضا. كما في البحر.
(4). من ع وك.

والشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: وبه نقول، لان في الحديث (في العينين الدية) ومعقول إذ كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية. قال ابن العربي: وهو القياس الظاهر، ولكن علماؤنا قالوا: إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك، فوجب عليه مثل ديته. السادسة- واختلفوا في الأعور يفقأ عين صحيح، فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه، وعليه الدية كاملة، وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل. وقال مالك: إن شاء اقتص فتركه أعمى، وإن شاء أخذ الدية كاملة (دية عين «1» الأعور). وقال النخعي: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: عليه القصاص، وروي ذلك عن علي أيضا، وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل، واختاره ابن المنذر وابن العربي، لان الله تعالى قال:" وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" وجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العينين الدية، ففي العين نصف الدية، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس. ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه وذلك ليس بمساواة، وبما روي عن عمر وعثمان وعلي في ذلك، ومتمسك مالك أن الادلة لما تعارضت خير المجني عليه. فال ابن العربي: والأخذ بعموم القرآن أولى، فإنه أسلم عند الله تعالى. السابعة- واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها، فروي عن زيد بن ثابت أنه قال: فيها مائة دينار. وعن عمر بن الخطاب أنه قال: فيها ثلث ديتها، وبه قال إسحاق. وقال مجاهد: فيها نصف ديتها. وقال مسروق والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان: فيها حكومة، قال ابن المنذر: وبه نقول لأنه الأقل مما قيل. الثامنة- وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية، ويستوي فيه الأعمش «2» والأخفش «3». وفي إبطاله من إحداهما مع بقائها النصف. قال ابن المنذر وأحسن
__________
(1). كذا في الأصول إلا ع: دية غير الأعور. وهو الوجه.
(2). العمش (محركة) ضعف البصر مع سيلان الدمع في أكثر الأوقات.
(3). الخفش (محركة): ضعف في البصر خلقة وضيق في العين أو فساد في الجفون بلا وجع، أو أن يبصر بالليل دون النهار وفي يوم غيم دون صحو.

ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب: أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره، ثم أمر بخط عند ذلك، ثم أمر بعينه الأخرى فغطيت وفتحت الصحيحة، وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم خط عند ذلك، ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء، فأعطي ما نقص من بصره من مال الآخر، وهذا على مذهب الشافعي، وهو قول علمائنا، وهي: التاسعة- ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر، إذ غير ممكن الوصول إليه. وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الأخرى قطنة، ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها، روي عن علي رضي الله عنه، ذكره المهدوي وابن العربي. واختلف في جفن العين، فقال زيد بن ثابت: فيه ربع الدية، وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي هاشم «1» والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وروي عن الشعبي أنه قال: في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية، وبه قال مالك. العشرة- قوله تعالى: (وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ)" جاء الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (وفي الأنف إذا أوعب «2» جدعا الدية). قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به، والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعالى. واختلفوا في كسر الأنف. فكان مالك يرى في العمد منه القود، وفي الخطأ الاجتهاد. وروى ابن نافع أنه لا دية للانف حتى يستأصله من أصله. قال أبو إسحاق التونسي: وهذا شاذ، والمعروف الأول. وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحساب من المارن. قال ابن المنذر: وما قطع من الأنف فبحسابه، روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي، وبه قال الشافعي. قال أبو عمر: واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف، فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة، ثم إن قطع منه شي بعد ذلك ففيه
__________
(1). سقط أبو هاشم من ك وع، وهو الرماني من أقران الثوري. وفي ج: ابن هاشم.
(2). أي استؤصل قطعه.

حكومة. قال مالك: الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارن، وهو دون العظم. قال ابن القاسم: وسواء قطع المارن من العظم أو استؤصل الأنف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية، كالحشفة فيها الدية: وفي استئصال الذكر الدية. الحادية عشرة- قال ابن القاسم: وإذا خرم الأنف أو كسر فبرئ على عثم «1» ففيه الاجتهاد، وليس فيه دية معلومة. وإن برئ على غير عثم فلا شي فيه. قال: وليس الأنف إذا خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة «2» تبرأ على غير عثم فيكون فيها ديتها، لان تلك جاءت بها السنة، وليس في خرم الأنف أثر. قال: والأنف عظم منفرد ليس فيه موضحة. واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف،. والمارن ما لان من الأنف، وكذلك قال الخليل وغيره. قال أبو عمر: وأظن روثته مارنه، وأرنبته طرفه. وقد قيل: الأرنبة والروثة والعرتمة طرف الأنف. والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم، في الشم إذا نقص أو فقد حكومة. الثانية عشرة- قوله تعالى: (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ) قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل: عليه حكومة، وإنما تكون عليه الدية في السمع، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر. وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة، على ما تقدم. وقال أشهب: إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة، يقاس ذلك، فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك. قال أشهب: ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجل مثله، فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شي. وقال عيسى بن دينار: إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه.
__________
(1). العثم، الجبر على غير استواء.
(2). الموضحة: هي التي بلغت العظم فأوضحت عنه. وقيل: هي التي تقشر الجلدة التي بين اللحم والعظم أو تشقها حتى تبدو وضح العظم.

الثالثة عشرة- قوله تعالى: (وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) قال ابن المنذر: وثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أقاد من سن وقال: (كتاب الله القصاص). وجاء الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (في السن خمس من الإبل). قال ابن المنذر: فبظاهر هذا الحديث نقول، لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات «1»، لدخولها كلها في ظاهر الحديث، وبه يقول الأكثر من أهل العلم. وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئا منها على شي عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وابن الحسن، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية. وفية قول ثان- رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض، وذلك خمسون دينارا، قيمة كل فريضة عشرة دنانير. وفي الأضراس ببعير بعير. وكان عطاء يقول: في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء، والأضراس سواء، قال أبو عمر: أما ما رواه مالك في موطئة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضرسا، والأسنان اثنا عشر سنا: أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب، فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيرا، في الأسنان خمسة خمسة، وفي الأضراس بعير بعير. وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة، تصير الدية ستين ومائة بعير. وعلى قول سعيد بن المسيب بعيرين بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرسا. يجب لها أربعون. وفي الأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة فذلك ستون، وهي تتمة المائة بعير، وهي الدية كاملة من الإبل. والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان. قال أبو عمر: واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدا، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري، بظاهر قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وفي السن خمس من الإبل)
__________
(1). الرباعية (كثمانية): والسن التي بين الثنية والناب.

والضرس سن من الأسنان. روى ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء) وهذا نص أخرجه أبو داود. وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس قال: جعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصابع اليدين والرجلين سواء. قال أبو عمر: على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدية كلها سواء، وأن الأسنان في الدية كلها سواء، الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضل شي منها على شي، على ما في كتاب عمرو بن حزم. ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال: اختصم إلى شريح رجلان ضرب أحدهما ثنية الآخر وأصاب الآخر ضرسه فقال شريح: الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن بسن قوما. قال أبو عمر: على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار. والله أعلم. الرابعة عشرة- فإن ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد، وبه قال أبو حنيفة، وروي عن زيد بن ثابت، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي وأبو ثور: فيها حكومة. قال ابن العربي: وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق، فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء، فلا خلاف في وجوب الدية، ثم إن كان بقي من منفعتها شي أو جميعه لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة، وما روي عن عمر] رضي الله عنه [ «1» فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سندا ولا فقها. الخامسة عشرة- واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر «2»، فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شي على القالع، إلا أن مالكا والشافعي قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها. وقالت طائفة: فيها حكومة، وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال النعمان. قال ابن المنذر:
__________
(1). من ع.
(2). اثغر الغلام: سقطت أسنانه الرواضع.

يستأني بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما، على ظاهر الحديث، وإن نبتت رد الأرش. وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون: يستأني بها سنة، روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبد العزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي. ولم يجعل الشافع لهذا «1» مدة معلومة. السادسة عشرة- إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت، فقال مالك لا يرد ما أخذ. وقال الكوفيون: يرد إذا نبتت. وللشافعي قولان: يرد ولا يرد، لان هذا نبات لم تجربه عادة، ولا يثبت الحكم بالنادر، هذا قول علمائنا. تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد، أصله سن الصغير. قال الشافعي: ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاما. قال ابن المنذر: هذا أصح القولين، لان كل واحد منهما قالع سن، وقد جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السن «2» خمسا من الإبل. السابعة عشرة- فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شي فيها عندنا. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة، وقاله ابن المسيب وعطاء. ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنها ميتة، وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزقت مثله. وقال عطاء: يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها. قال ابن العربي: وهذا غلط، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها، لان النجاسة كانت فيها للانفصال، وقد عادت متصلة، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها. قلت: ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه، قال ابن المنذر: واختلفوا في السن تقلع قودا ثم ترد مكانها فتنبت، فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح: لا بأس بذلك. وقال الثوري وأحمد وإسحاق: تقلع، لان القصاص للشين. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة، ويجبره السلطان على القلع.
__________
(1). في ع وك: لها. [.....]
(2). في ع: فيها.

الثامنة عشرة- فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة، وبه قال فقهاء الأمصار. وقال زيد بن ثابت: فيها ثلث الدية. قال ابن العربي: وليس في التقدير دليل، فالحكومة أعدل. قال ابن المنذر: ولا يصح ما روي عن زيد، وقد روي عن علي أنه قال: في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه، وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما. قلت: وهنا انتهى ما نص الله عز وجل عليه من الأعضاء، ولم يذكر الشفتين واللسان وهي: التاسعة عشرة- فقال الجمهور: وفي الشفتين الدية، وفي كل واحدة منهما نص الدية لا فضل للعليا منهما على السفلي. وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري: في الشفة العليا ثلث الدية، وفي الشفة السفلي ثلثا الدية. وقال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول، للحديث المرفوع عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (وفي الشفتين الدية) ولان في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة. وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك. وأما اللسان فجاء الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (في اللسان الدية). وأجمع أهل العلم من أهل المدينة واهل الكوفة وأصحاب الحديث واهل الرأي على القول به، قاله ابن المنذر. الموفية عشرين- واختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئا، ويذهب من الكلام بعضه، فقال أكثر أهل العلم: ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفا فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس في اللسان قود لعدم الإحاطة باستيفاء القود. فإن أمكن فالقود هو الأصل. الحادية والعشرون- واختلفوا في لسان الأخرس يقطع، فقال الشعبي ومالك واهل المدينة والثوري واهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه: فيه حكومة. قال ابن المنذر: وفية قولان شاذان: أحدهما- قول النخعي أن فيه الدية. والآخر- قول قتادة أن فيه ثلث الدية. فال ابن المنذر: والقول الأول أصح، لأنه الأقل مما قيل. قال

ابن العربي: نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها، فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت، وكذلك كل عضو بطلت «1» منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه، وفية الدية لعدم إمكان القود فيه. الثانية والعشرون- قوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي مقاصة، وقد تقدم في" البقرة" «2». ولا قصاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص. ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه. وهذا كله في العمد، فأما الخطأ فالدية، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح. وفي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع- أم حارثة- جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (القصاص القصاص)، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله) قالت:] لا [ «3» والله لا يقتص منها أبدا،] قال [ «4» فما زالت حتى قبلوا الدية، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). قلت: المجروح في هذا الحديث جارية، والجرح كسر ثنيتها، أخرجه النسائي عن أنس أيضا أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقصاص، فقال أخوها أنس بن النضر: أتكسر ثنية فلانة؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. قال: وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش، فلما حلف أخوها وهو عم أنس- وهو الشهيد يوم أحد- رضي القوم بالعفو، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). وخرجه أبو داود أيضا، وقال سمعت أحمد بن حنبل قيل له: كيف يقتص من السن؟ قال: تبرد.
__________
(1). في ع. ذهبت.
(2). راجع ج 2 ص 244 فما بعدها.
(3). الزيادة عن صحيح مسلم.
(4). من ج وع وك.

قلت: ولا تعارض بين الحديثين، فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر الله قسمهما. وفى هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر «1» إن شاء الله تعالى.] فنسأل الله التثبت على الايمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة [ «2». الثالثة والعشرون- أجمع العلماء على أن قوله تعالى:" وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ" أنه في العمد، فمن أصاب سن أحد عمدا ففيه القصاص على حديث أنس. واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدا، فقال مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفا مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمة، ففي ذلك الدية. وقال الكوفيون: لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن، لقوله تعالى:" وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ" وهو قول الليث والشافعي. قال الشافعي: لا يكون كسر ككسر أبدا، فهو ممنوع. قال الطحاوي: اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فكذلك في سائر العظام. والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم، فكذلك سائر العظام إلا عظما أجمعوا على أنه لا قصاص فيه، لخوف ذهاب النفس منه. قال ابن المنذر: ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث، والخروج إلى النظر غير جائز مع وجود الخبر. قلت: ويدل على هذا أيضا قوله تعالى:" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ" «3»] البقرة: 194]، وقوله:" وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ" «4»] النحل: 126] وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي. [والله «5» أعلم ] وبالله التوفيق. الرابعة والعشرون- قال أبو عبيد في حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الموضحة، وما جاء عن غيره في الشجاج. قال الأصمعي وغيره: دخل كلام بعضهم في بعض، أول الشجاج- الحارصة وهي: التي تحرص الجلد- يعني التي تشقه قليلا- ومنه قيل: حرص القصار الثوب إذا شقه، وقد يقال لها: الحرصة أيضا. ثم الباضعة- وهي: التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد. ثم المتلاحمة- وهي: التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق.
__________
(1). هي قصته المشهورة مع سيدنا موسى عليهما السلام وستأتي في سورة (الكهف) إن شاء الله. ج 11 ص 16 فما بعد.
(2). من ع.
(3). راجع ج 2 ص 354.
(4). راجع ج 10 ص 200
(5). من ع.

والسمحاق: جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم. وقال الواقدي: هي عندنا الملطي. وقال غيره: هي الملطاة، قال: وهي التي جاء فيها الحديث (يقضى في الملطاة بدمها). ثم الموضحة- وهي: التي تكشط عنها ذلك القشر أو تشق حتى يبدو وضح «1» العظم، فتلك الموضحة. قال أبو عبيد: وليس في شي من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة، لأنه ليس منها شي له حد ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها. ثم الهاشمة- وهي التي تهشم العظم. ثم المنقلة- بكسر القاف حكاه الجوهري- وهي التي تنقل العظم- أي تكسره- حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء. ثم الآمة- ويقال لها المأمومة- وهي التي تبلغ أم الرأس، يعني الدماغ. فال أبو عبيد ويقال في قوله: (ويقضى في الملطاة بدمها) أنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأني بها. قال: وسائر الشجاج ] عندنا [ «2» يستأني بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ. قال أبو عبيد: والامر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها؟ أنه؟ يستأني بها، حدثنا هشيم عن حصين قال: قال عمر بن عبد العزيز: ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح. وقال الحسن البصري: ليس فيما دون الموضحة قصاص. وقال مالك: القصاص فيما دون الموضحة الملطي والدامية والباضعة وما أشبه ذلك، وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق، حكاه ابن المنذر. وقال أبو عبيد: الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم. والدامعة: أن يسيل منها دم. وليس فيما دون الموضحة قصاص. وقال الجوهري: والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل. وقال علماؤنا: الدامية هي التي تسيل الدم. ولا قصاص فيما بعد الموضحة، من الهاشمة للعظم، والمنقلة- على خلاف فيها خاصة- والآمة هي البالغة إلى أم الرأس، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ. وفي هاشمة الجسد القصاص، إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه. وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم: لا قود فيها، لأنها لا بد تعود منقلة. وقال أشهب: فيها القصاص، إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها. وأما الاطراف فيجب
__________
(1). وضح العظم بياضه.
(2). من ع.

القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها. وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين، لأنها تقبل التقدير. وفي اللسان روايتان. والقصاص في كسر العظام، إلا ما كان متلفا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه. وفي كسر عظام العضد القصاص. وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يكسر فخذه، وفعل ذلك عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بمكة. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فعله، وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا، وقال: إنه الامر المجمع عليه عندهم «1»، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فكسرها يقاد منه. الخامسة والعشرون- قال العلماء: الشجاج في الرأس، والجراح في البدن. وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيا ذكر ابن المنذر، واختلفوا في ذلك الأرش. وما دون الموضحة شجاج خمس: الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق، فقال مالك والشافعي وأحمد] وإسحاق [ «2» وأصحاب الرأي في الدامية حكومة، وفي الباضعة حكومة، وفي المتلاحمة حكومة. وذكر عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل، وفي السمحاق أربع، وفي الموضحة خمس، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة، أو يضرب حتى يغن «3» ولا يفهم الدية كاملة، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة، وفي جفن العين ربع «4» الدية. وفي حلمة الثدي ربع الدية. قال ابن المنذر: وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد. وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا: فيها نصف الموضحة. وقال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والنخعي فيها حكومة، وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد. ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل، على ما في حديث عمرو بن حزم، وفية: وفي الموضحة خمس. وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه. واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس، فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء. وقال بقولهما
__________
(1). في ع: عندنا.
(2). من ج وك وهـ وع، ز. [.....]
(3). يغن أي يخرج صوته من خياشيمه. وفي ك، ع: يجن. وسقط من ج. أو يضرب إلخ.
(4). في ع: الدية كاملة.

جماعة من التابعين، وبه يقول الشافعي وإسحاق. وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس. وقال أحمد: موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها. وقال مالك: المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ، قال: والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة. قال مالك: والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة، وكذلك اللحى الأسفل ليس فيه موضحة. وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس والوجه، فقال أشهب وابن القاسم: ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد، وليس فيها أرش معلوم. قال ابن المنذر: هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه نقول. وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون دينارا. قال أبو عمر: واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن- وإن انخرقت فصارت واحدة- دية كاملة. وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة. قال ابن المنذر: ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد. وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا. وقال أبو ثور: إن اختلفوا فيه ففيها حكومة. قال ابن المنذر: النظر يدل على هذا، إذ لا سنة فيها ولا إجماع. وقال القاضي أبو الوليد الباجي: فيها ما في الموضحة، فإن صارت منقلة فخمسة عشر، وإن صارت مأمومة فثلث الدية. قال ابن المنذر: ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الإبل. وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت، وبه قال قتادة وعبيد الله بن الحسن والشافعي. وقال الثوري وأصحاب الرأي: فيها ألف درهم، ومرادهم عشر الدية. وأما المنقلة فقال ابن المنذر: جاء؟ الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (في المنقلة خمس عشرة من الإبل) وأجمع أهل العلم على القول به. قال ابن المنذر: وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المنقلة هي التي تنقل

منها العظام. وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي- وهو قول قتادة وابن شبرمة- أن المنقلة لا قود فيها، وروينا عن ابن الزبير- وليس بثابت عنه- أنه أقاد من المنقلة. قال ابن المنذر: والأول أولى، لاني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (في المأمومة ثلث الدية). وأجمع ] عوام [ «1» أهل العلم على القول به، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال: إذا كانت المأمومة عمدا ففيها ثلثا الدية، وإذا كانت خطأ ففيها ثلث الدية، وهذا قول شاذ، وبالقول الأول أقول؟؟ واختلفوا؟؟ في القود من المأمومة، فقال كثير من أهل العلم: لا قود فيها، وروي عن ابن؟؟ الزبير؟؟ أنه؟؟ أقص؟؟ من المأمومة، فأنكر ذلك الناس. وقال عطاء: ما علمنا أحدا أقاد منا قبل؟؟ ابن الزبير. وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على حديث عمرو بن حزم، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال: إذا كانت عمدا ففيها ثلثا الدية، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدية. والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة، فإن نفذت من جهتين عندهم جائفتان، وفيها من الدية الثلثان. قال أشهب: وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر. بدية جائفتين. وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون: لا قصاص في الجائفة. قال ابن المنذر: وبه نقول. السادسة والعشرون- واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها، فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن ] رضى الله عنهم [ «2» أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها. وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك، وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث. وقال الليث: إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها «3»، للخوف «4» على العين ويعاقبه السلطان. وإن كانت على الخد ففيها القود. و
- قالت طائفة: لا قصاص في اللطمة، روي هذا عن الحسن وقتادة. وهو قول مالك والكوفيين والشافعي، واحتج مالك في ذلك فقال: ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة، وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة.
__________
(1). من ع وك.
(2). من ع.
(3). في ج. ك. هـ: فلا قصاص.
(4). في ك: للخوف فيها.

السابعة والعشرون- واختلفوا في القود من ضرب السوط، فقال الليث ] والحسن [ «1»: يقاد منه، ويزاد عليه للتعدي «2». وقال ابن القاسم: يقاد منه. ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح، قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة. وقال ابن المنذر: وما أصيب «3» به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد، وفية القود، وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث. وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة «4»، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط. واقتص شريح من سوط وخموش. وقال ابن بطال: وحديث لد «5» النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح. الثامنة والعشرون- واختلفوا في عقل جراحات النساء، ففي" الموطأ" عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية] الرجل [ «6»، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه، وموضحتها كموضحته، ومنقلتها كمنقلته. قال ابن بكير قال مالك: فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل. قال ابن المنذر: روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير [والزهري ] «7» وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبد الملك ابن الماجشون. وقالت طائفة: دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر، روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب، وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه، واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله، وبه نقول. التاسعة والعشرون- قال القاضي عبد الوهاب: وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة، كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر؟؟ الرأس وثديي؟؟ الرجل واليته «8». وصفه
__________
(1). من ع وك.
(2). في ع: لأجل التعدي.
(3). في ع: أصبت.
(4). الدرة (بالكسر): التي يضرب بها.
(5). اللد: أن يؤخد بلسان الصبي؟؟؟؟؟؟ إلى أحد شقيه ويؤجر في الآخر الدواء في الصدف بين اللسان وبين الشدق. وحديث اللد أنه لد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مرضه فلما أفاق قال:" لا يبقى في البيت أحد إلا لد" فعل ذلك عقوبة لهم لأنهم لدوه بغير إذنه.
(6). من ك وع. يريد أن ما دون ثلث الدية عقلها فيه كعقل الرجل، حتى إذا بلغت في عقل ما جنى عليها ثلث الدية كان عقلها نصف عقل الرجل. وقوله: (إصبعها كإصبعه ... إلخ) يريد أن عقل هذه كلها دون الثلث فلذلك ساوت فيه الرجل (الموطأ).
(7). من ج وك وهـ وع.
(8). في ع وك: أليتيه. [.....]

وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)

الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما، ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم، قال: ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة. وقيل: بل يقبل قول عدل واحد. والله سبحانه أعلم. فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية] بمنه وكرمه [ «1». الموفية ثلاثين- قوله تعالى: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) شرط وجوابه، أي تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي لذلك المتصدق. وقيل: هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة، لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، واجر المتصدق عليه. وقد ذكر ابن عباس القولين، وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما، والأول أظهر لان العائد فيه يرجع إلى مذكور، وهو" من". وعن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة). قال ابن العربي: والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل، فلا معنى له.

[سورة المائدة (5): الآيات 46 الى 47]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
قوله تعالى: (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي جعلنا عيسى يقفو آثارهم، أي آثار النبيين الذين أسلموا. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني التوراة، فإنه رأى التوراة حقا، وراي وجوب العمل بها إلى أن يأتي ناسخ." مُصَدِّقاً" نصب على الحال من عيسى. (فِيهِ هُدىً) في موضع رفع بالابتداء. وَنُورٌ عطف عليه." وَمُصَدِّقاً" فيه وجهان، يجوز أن يكون
__________
(1). من ع وك.

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

لعيسى وتعطفه على مصدقا الأول، ويجوز أن يكون حالا من الإنجيل، ويكون التقدير: وآتيناه الإنجيل مستقرا فيه هدى ونور ومصدقا. (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً)
عطف على" مُصَدِّقاً" أي هاديا وواعظا." لِلْمُتَّقِينَ" وخصهم لأنهم المنتفعون بهما. ويجوز رفعهما على العطف على قوله:" فِيهِ هُدىً وَنُورٌ". قوله تعالى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) قرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل على أن تكون اللام لام كي. والباقون بالجزم على الامر، فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله:" وَآتَيْناهُ" فلا يجوز الوقف، أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه. ومن قرأه على الامر فهو كقوله:" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ"] المائدة: 49] فهو إلزام مستأنف يبتدأ به، أي ليحكم أهل الإنجيل أي في ذلك الوقت، فأما الآن فهو منسوخ. وقيل: هذا أمر للنصارى الآن بالايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن في الإنجيل وجوب الايمان به، والنسخ إنما يتصور في الفروع لا في الأصول. قال مكي: والاختيار الجزم، لان الجماعة عليه، ولان ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل. فال النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان، لان الله عز وجل لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه، وأمر «1» بالعمل بما فيه، فصحتا جميعا.

[سورة المائدة (5): آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) الخطاب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و" الْكِتابَ" القرآن (بِالْحَقِّ) أي ] هو [ «2» بالأمر الحق (مُصَدِّقاً) حال (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) أي من
__________
(1). من ع. وفي ك وج: أمر.
(2). من ج.

جنس الكتب. (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي عاليا عليها ومرتفعا. وهذا يدل على تأويل من يقول بالتفضيل أي في كثرة الثواب، على ما تقدمت إليه الإشارة في" الفاتحة" «1» وهو اختيار ابن الحصار في كتاب شرح السنة له. وقد ذكرنا ما ذكره في كتابنا في شرح الأسماء] الحسنى [ «2» والحمد لله. وقال قتادة: المهيمن معناه المشاهد. وقيل: الحافظ. وقال الحسن: المصدق، ومنه قول الشاعر:
إن الكتاب مهيمن لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب
وقال ابن عباس:" وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" أي مؤتمنا عليه. قال سعيد بن جبير: القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب، وعن ابن عباس والحسن أيضا: المهيمن الأمين. قال المبرد: أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء، كما قيل في أرقت الماء هرقت، وقاله الزجاج أيضا وأبو علي. وقد صرف فقيل: هيمن يهين هيمنة، وهو مهيمن بمعنى كان أمينا. الجوهري: هو من آمن غيره من الخوف، وأصله أأمن فهو مؤامن بهمزتين، قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤيمن، ثم صيرت الاولى هاء كما قالوا: هراق الماء وأراقه، يقال منه: هيمن على الشيء يهيمن إذا كان له حافظا، فهو مهيمن، عن أبى عبيد. وقرا مجاهد وابن محيصن:" وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" بفتح الميم. قال مجاهد: أي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤتمن على القرآن. قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) يوجب الحكم، فقيل: هذا نسخ للتخيير في قوله:" فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" وقيل: ليس هذا وجوبا، والمعنى: فاحكم بينهم إن شئت، إذ لا يجب علينا الحكم بينهم إذا لم يكونوا من أهل الذمة. وفي أهل الذمة تردد وقد مضى الكلام فيه. وقيل: أراد فاحكم بين الخلق، فهذا كان واجبا عليه. قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) فيه مسألتان «3»: الاولى- قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) يعني لا تعمل بأهوائهم ومرادهم على ما جاءك من الحق، يعني لا تترك الحكم بما بين الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان
__________
(1). راجع ج 1 ص 109.
(2). من ع.
(3). كذا في الأصول ولم يذكر المصنف الثانية ولعلها قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا) الآية.

الأحكام. والاهواء جمع هوى، ولا يجمع أهوية، وقد تقدم في" البقرة" «1». فنهاه عن أن يتبعهم فيما يريدونه، وهو يدل على بطلان قول من قال: تقوم الخمر على من أتلفها عليهم، لأنها ليست مالا لهم فتكون مضمونة على متلفها، لان إيجاب ضمانها على متلفها حكم بموجب أهواء اليهود، وقد أمرنا بخلاف ذلك. ومعنى (عَمَّا جاءَكَ) على ما جاءك. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) يدل على عدم التعلق بشرائع الأولين. والشرعة والشريعة الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة. والشريعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء. والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، وقد شرع لهم يشرع شرعا أي سن. والشارع الطريق الأعظم. والشرعة أيضا الوتر، والجمع شرع وشرع وشراع جمع الجمع، عن أبي عبيد، فهو مشترك. والمنهاج الطريق المستمر، وهو النهج والمنهج، أي البين، قال الراجز:
من يك ذا شك فهذا فلج ... ماء رواء «2» وطريق نهج
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: الشريعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر. وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما" شِرْعَةً وَمِنْهاجاً" سنة وسبيلا. ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا في الشرائع والعبادات، والأصل التوحيد لا اختلاف فيه، روي معنى ذلك عن قتادة. وقال مجاهد: الشرعة والمنهاج دين محمد عليه السلام، وقد نسخ به كل ما سواه. قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي لجعل شريعتكم واحدة فكنتم على الحق، فبين أنه أراد بالاختلاف إيمان قوم وكفر قوم. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) في الكلام حذف تتعلق به لام كي، أي ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم، والابتلاء الاختبار. قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي سارعوا إلى الطاعات، وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها إلا في الصلاة في أول
__________
(1). راجع ج 2 ص 24.
(2). (ما رواه) ممدود مفتوح الراء أي عذب؟؟؟؟

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)

الوقت فإن أبا حنيفة يرى أن الاولى تأخيرها، وعموم الآية دليل عليه، قاله الكيا «1». وفية دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر، وقد تقدم جميع هذا في" البقرة" «2». (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي بما اختلفتم فيه، وتزول الشكوك.

[سورة المائدة (5): آية 49]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) تقدم الكلام فيها، وأنها ناسخة للتخيير. قال ابن العربي: وهذه دعوى عريضة، فإن شروط النسخ أربعة: منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر، وهذا مجهول من هاتين الآيتين، فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الامر على حاله. قلت: قد ذكرنا عن أبي جعفر النحاس أن هذه الآية متأخرة في النزول، فتكون ناسخة إلا أن يقدر في الكلام" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" إن شئت، لأنه قد تقدم ذكر التخيير له، فآخر الكلام حذف التخيير منه لدلالة الأول عليه، لأنه معطوف عليه، فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه، فهما شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله، إذ لا معنى لذلك ولا يصح، فلا بد من أن يكون قوله:" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" معطوفا على ما قبله من قوله:" وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ" ومن قوله:" فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ" فمعنى" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" أي احكم بذلك إن حكمت واخترت الحكم، فهو كله محكم غير منسوخ، لان الناسخ لا يكون مرتبطا بالمنسوخ معطوفا عليه، فالتخيير للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك محكم غير منسوخ، قاله مكي رحمه اله." وَأَنِ احْكُمْ" في موضع نصب عطفا على الكتاب، أي وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل الله، أي بحكم الله الذي أنزله
__________
(1). في ع: الطبري. وهو الكيا الطبري.
(2). راجع ج 2 ص 280.

إليك في كتابه. (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ)" أَنِ" بدل من الهاء والميم في" وَاحْذَرْهُمْ" وهو بدل اشتمال. أو مفعول من أجله، أي من أجل أن يفتنوك. وعن ابن إسحاق قال ابن عباس: اجتمع قوم من الأحبار منهم ابن صوريا وكعب بن أسد وابن صلوبا وشأس ابن عدي وقالوا: اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فإنما هو بشر، فأتوه فقالوا: قد عرفت يا محمد أنا أحبار اليهود، وإن اتبعناك لم يخالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فتحاكمهم إليك، فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك، فأبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلت هذه الآية. واصل الفتنة الاختبار حسبما تقدم، ثم يختلف معناها، فقوله تعالى هنا" يَفْتِنُوكَ" معناه يصدوك ويردوك، وتكون الفتنة بمعنى الشرك، ومنه قوله:" وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «1»" وقوله:" وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ «2»". وتكون والفتنة بمعنى العبرة، كقوله:" لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا «3»". ولا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: 85] «4». وتكون الفتنة الصد عن السبيل كما في هذه الآية. وتكرير" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" للتأكيد، أو هي أحوال وأحكام أمره أن يحكم في كل واحد بما أنزل الله. وفي الآية دليل على جواز النسيان على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه قال:" أَنْ يَفْتِنُوكَ" وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد. وقيل: الخطاب له والمراد غيره. وسيأتي بيان هذا في" الانعام" إن شاء الله تعالى ومعنى (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) عن كل ما أنزل الله إليك. والبعض يستعمل بمعنى الكل قال الشاعر «5»:
أو يعتبط بعض النفوس حمامها

ويروى" أو يرتبط". أراد كل النفوس، وعليه حملوا قوله تعالى:" وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ" «6» [الزخرف: 63]. قال ابن العربي: والصحيح أن" بَعْضِ" على حالها في هذه الآية، وأن المراد به الرجم أو الحكم الذي كانوا أرادوه ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل. والله أعلم.
__________
(1). راجع 3 ص 40.
(2). راجع ج 7 ص 404 وص 351 ج 2.
(3). راجع ج 18 ص 56.
(4). راجع ج 8 ص 370. [.....]
(5). هو لبيد، وصدره: (تراك أمكنة إذا لم أرضها). وفي اللسان: (أو يتعلق) ابن سيده: (وليس هذا عندي على ما ذهب إليه أهل اللغة من أن البعض في معنى الكل، هذا نقض، ولا دليل في هذا البيت لأنه إنما عنى ببعض النفوس نفسه.
(6). راجع ج 16 ص 107.) (

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن أبوا حكمك وأعرضوا عنه (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي يعذبهم بالجلاء والجزية والقتل، وكذلك كان. وإنما قال:" بِبَعْضِ" لان المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) يعني اليهود.

[سورة المائدة (5): آية 50]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)" أَفَحُكْمَ" نصب ب"- يَبْغُونَ" والمعنى: أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع، كما تقدم في غير موضع، وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء، فضارعوا الجاهلية في هذا الفعل. الثانية- روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال: كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية" أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" فكان طاوس يقول: ليس لاحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ وفسخ، وبه قال أهل الظاهر. وروي عن أحمد بن حنبل مثله، وكرهه، الثوري وابن المبارك وإسحاق، فإن فعل ذلك أحد نفذ ولم يرد، وأجاز ذلك مالك والثوري والليث والشافعي وأصحاب الرأي، واستدلوا بفعل الصديق في نحله عائشة دون سائر ولده، وبقوله عليه السلام: (فارجعه) «1» وقوله: (فأشهد على هذا غيري). واحتج الأولون بقوله عليه السلام لبشير: (ألك ولد سوى هذا) قال نعم، فقال: (أكلهم وهبت له مثل هذا) فقال لا،
__________
(1). ذكر النسائي من حديث النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن سعد جاء بابنه النعمان فقال: يا رسول الله إنى نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أكل بنيك نحلت) قال: لا. قال:" فارجعه" قلت: هذا في جميع الأصول وهو كما يرى دليل للأولين كما سيأتي.

قال: (فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور) في رواية (وإني لا أشهد إلا على حق). قالوا: وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز. وقول: (أشهد على هذا غيري) ليس إذنا في الشهادة وإنما هو زجر عنها، لأنه عليه السلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه، فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه. وأما فعل أبي بكر فلا يعارض به قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعله قد كان نحل أولاده نحلا يعادل ذلك. فإن قيل: الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقا، قيل له: الأصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص. وفي الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص، ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر، وذلك محرم، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع، ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). قال النعمان: فرجع أبي فرد تلك الصدقة، والصدقة لا يعتصرها «1» الأب بالإنفاق وقوله: (فارجعه) محمول على معنى فاردده، والرد ظاهر في الفسخ، كما قال عليه السلام (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود مفسوخ. وهذا كله ظاهر قوي، وترجيح جلي في المنع. الثالثة- قرأ ابن وثاب والنخعي" أفحكم" بالرفع على معنى يبغونه، فحذف الهاء كما حذفها أبو النجم في قوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
فيمن روى" كله" بالرفع. ويجوز أن يكون التقدير: أفحكم الجاهلية حكم يبغونه، فحذف الموصوف. وقرا الحسن وقتادة والأعرج والأعمش" أفحكم" بنصب الحاء والكاف وفتح الميم، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة إذ ليس المراد نفس الحكم، وإنما المراد الحكم، فكأنه قال: أفحكم حكم الجاهلية يبغون. وقد يكون الحكم والحاكم في اللغة واحدا وكأنهم يريدون
__________
(1). يعتصر: يرتجع.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)

الكاهن وما أشبهه من حكام الجاهلية، فيكون المراد بالحكم الشيوع والجنس، إذ لا يراد به حاكم بعينه، وجاز وقوع المضاف جنسا كما جاز في قولهم: منعت مصر «1» إردبها، وشبهه. وقرا ابن عامر" تبغون" بالتاء، الباقون بالياء. وقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هذا استفهام على جهة الإنكار بمعنى: لا أحد أحسن، فهذا ابتداء وخبر. و" حُكْماً" نصب على البيان. [لقوله ] «2»" لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" أي عند قوم يوقنون.

[سورة المائدة (5): آية 51]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
فيه مسألتان: الاولى-" الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ" مفعولان ل [تَتَّخِذُوا] «3»، وهذا يدل على قطع الموالاة شرعا، وقد مضى في" آل عمران" «4» بيان ذلك. ثم قيل: المراد به المنافقون، المعنى يا أيها الذين آمنوا بظاهرهم، وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين. وقيل: نزلت في أبي لبابة، عن عكرمة. قال السدي: نزلت في قصة يوم أحد حين خاف المسلمون حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى. وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول، فتبرأ عبادة] رضي الله عنه [ «5» من موالاة اليهود، وتمسك بها ابن أبي وقال: إني أخاف أن تدور الدوائر. (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) مبتدأ وخبره، وهو يدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.
__________
(1). الإردب مكيال معروف لأهل مصر، وفي الحديث"؟؟؟؟ العراق درهمها وقفيزها ومنعت مصر إردبها وعدتم من حيث بدأتم". (اللسان).
(2). من ك وع.
(3). من ك وع.
(4). راجع ج 4 ص 188.
(5). من ع.

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)

الثانية- قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) أي يعضدهم على المسلمين (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) بين تعالى أن حكمه كحكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة، وقد قال تعالى:" وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" «1»] هود: 113] وقال تعالى في" آل عمران":" لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ" «2»] آل عمران: 28] وقال تعالى:" لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ" «3»] آل عمران: 118] وقد مضى القول فيه. وقيل: إن معنى" بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ" أي في النصرة" وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" شرط وجوابه، أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 52 الى 53]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
قوله تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ونفاق، وقد تقدم في" البقرة" «4» والمراد ابن أبي وأصحابه (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي في موالاتهم ومعاونتهم. (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميروننا ولا يفضلوا علينا، وإما أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الامر لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا القول أشبه بالمعنى، كأنه من دارت تدور، أي نخشى أن يدور الامر، ويدل عليه قوله عز وجل:" فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ"، وقال الشاعر:
يرد عنك القدر المقدورا ... ودائرات الدهر أن تدورا
__________
(1). راجع ج 9 ص 107.
(2). راجع ج 4 ص 57 و178.
(3). راجع ج 4 ص 57 و178.
(4). راجع ج 1 ص 197.

يعنى دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم. واختلف في معنى الفتح، فقيل: الفتح الفصل والحكم، عن قتادة وغيره. قال ابن عباس: أتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريظة وسبيت ذراريهم وأجلي بنو النضير. وقال أبو علي: هو فتح بلاد المشركين على المسلمين. وقال السدي: يعني بالفتح فتح مكة. (أو أمر من عنده) قال السدي: هو الجزية. الحسن: إظهار أمر المنافقين والاخبار بأسمائهم والامر بقتلهم. وقيل: الخصب والسعة للمسلمين (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) أي فيصبحوا نادمين على توليهم الكفار إذا رأوا نصر الله للمؤمنين، وإذا عاينوا عند الموت فبشروا بالعذاب. قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا). وقرا أهل المدينة واهل الشام:" يَقُولُ" بغير واو. وقرا أبو عمرو وابن أبي إسحاق:" ويقول" بالواو والنصب عطفا على" أَنْ يَأْتِيَ" عند أكثر النحويين، التقدير: فعسى الله أن يأتي بالفتح وأن يقول. وقيل: هو عطف على المعنى، لان معنى" فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ" وعسى ن يأتي الله بالفتح، إذ لا يجوز عسى زيد أن يأتي ويقوم عمرو، لأنه لا يصح المعنى إذا قلت: وعسى زيد أن يقوم عمرو، ولكن لو قلت: عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيدا. فإذا قدرت التقديم في أن يأتي إلى جنب عسى حسن، لأنه يصير التقدير: عسى أن يأتي وعسى أن يقوم، ويكون من باب قوله:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا «1»
وفيه قول ثالث- وهو أن تعطفه على الفتح، كما قال الشاعر:
للبس عباءة وتقر عيني «2»

ويجوز أن يجعل" أَنْ يَأْتِيَ" بدلا من اسم الله جل ذكره، فيصير التقدير: عسى أن يأتي الله ويقول الذين آمنوا. وقرا الكوفيون" وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا" بالرفع على القطع من الأول. (أَهؤُلاءِ) إشارة إلى المنافقين. (أَقْسَمُوا بِاللَّهِ) حلفوا واجتهدوا في الايمان. (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)
__________
(1). يروى هكذا في الأصول. وفي اللسان وشرح الشواهد لسيبويه: (يا ليت زوجك قد غدا). [.....]
(2). تمام البيت: (أحب إلى من لبس الشفوف).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)

أي قالوا إنهم، ويجوز" أنهم"] نصب [ «1» ب"- أَقْسَمُوا" أي قال المؤمنون لليهود على جهة التوبيخ: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أنهم يعينونكم على محمد. ويحتمل أن يكون من المؤمنين بعضهم لبعض، أي هؤلاء الذين كانوا يحلفون أنهم مؤمنون فقد هتك «2» الله اليوم سترهم. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) بطلت بنفاقهم. (فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) أي خاسرين الثواب. وقيل: خسروا في موالاة اليهود فلم تحصل لهم ثمرة بعد قتل اليهود وأجلائهم.

[سورة المائدة (5): آية 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ" شرط وجوابه" فَسَوْفَ". وقراءة أهل المدينة والشام" من يرتدد" بدالين. الباقون" مَنْ يَرْتَدَّ". وهذا من إعجاز القرآن والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبا، فكان على ما أخبر بعد مدة، واهل الردة كانوا بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد، مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثى «3»، وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها، قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي، فقاتل الصديق جميعهم، وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم «4» وسباهم، على ما هو مشهور من أخبارهم.
__________
(1). من ع وك.
(2). في ج وك وع: انهتك سترهم.
(3). جؤاثا مهموز: اسم حصن بالبحرين. وفي الحديث" أول جمعة جمعت بعد المدينة بجواثا. (النهاية).
(4). في ج وك وز وع: فقتلهم.

الثانية- قوله تعالى:" (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)" في موضع النعت. قال الحسن وقتادة وغيرهما: نزلت في أبي بكر الصديق وأصحابه. وقال السدي: نزلت في الأنصار. وقيل: هي إشارة إلى قوم لم يكونوا موجودين في ذلك «1» الوقت، وأن أبا بكر قاتل أهل الردة بقوم لم يكونوا وقت نزول الآية، وهم أحياء من اليمن من كندة وبجيلة، ومن أشجع. وقيل: إنها نزلت في الأشعريين، ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين، وقبائل اليمن من طريق البحر، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن، هذا أصح ما قيل في نزولها. والله أعلم. وروى الحاكم أبو عبد الله في" المستدرك" بإسناده: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشار إلى أبي موسى الأشعري لما نزلت هذه الآية فقال: (هم قوم هذا) قال القشيري: فاتباع أبي الحسن من قومه، لان كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الاتباع. الثالثة- قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)" أَذِلَّةٍ" نعت لقوم، وكذلك" (أَعِزَّةٍ)" أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم، من قولهم: دابة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذل في شي. ويغلظون على الكافرين ويعادونهم. قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته، قال الله تعالى:" أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
" «2»] الفتح: 29]. ويجوز" أذلة" بالنصب على الحال، أي يحبهم ويحبونه في هذا الحال، وقد تقدمت معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له «3». الرابعة- قوله تعالى: (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) في موضع الصفة أيضا. (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) بخلاف المنافقين يخافون الدوائر، فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي
__________
(1). في ك وع: وقت نزول الآية، وهم أحياء. إلخ.
(2). راجع ج 16 ص 292.
(3). راجع ج 4 ص 59 وما بعدها.

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)

لله تعالى. وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة. والله أعلم. (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ابتداء وخبر. (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي واسع الفضل، عليم بمصالح خلقه.

[سورة المائدة (5): آية 55]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" قال جابر بن عبد الله قال عبد الله ابن سلام للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء." وَالَّذِينَ" عام في جميع المؤمنين. وقد سئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين «1» بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن معنى" إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا" هل هو علي بن أبي طالب؟ فقال: علي من المؤمنين، يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين. قال النحاس: وهذا قول بين، لان" الَّذِينَ" لجماعة. وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه. وقال في رواية أخرى: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقاله مجاهد والسدي، وحملهم على ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) وهي: المسألة الثانية- وذلك أن سائلا سأل في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي في الصلاة في الركوع وفي يمينه خاتم، فأشار إلى السائل ] بيده [ «2» حتى أخذه. قال الكيا الطبري: وهذا يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، فإن التصدق بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة ولم تبطل به الصلاة. وقوله:" وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ" يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة.، فإن عليا تصدق بخاتمه في الركوع، وهو نظير قوله تعالى:" وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ" «3»] الروم: 39] وقد
__________
(1). من ع. كذا في التهذيب.
(2). من ز، وفي ج وا ول: به.
(3). راجع ج 14 ص 36.

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)

انتظم الفرض والنفل، فصار اسم الزكاة شاملا للفرض والنفل، كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين. قلت: فالمراد على هذا بالزكاة التصدق بالخاتم، وحمل لفظ الزكاة على التصدق بالخاتم فيه بعد، لان الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة المفروضة على ما تقدم بيانه في أول سورة" البقرة" «1». وأيضا فإن قبله" يُقِيمُونَ الصَّلاةَ" ومعنى يقيمون الصلاة يأتون بها في أوقاتها بجميع حقوقها، والمراد صلاة الفرض. ثم قال:" وَهُمْ راكِعُونَ" أي النفل. وقيل: أفرد الركوع بالذكر تشريفا. وقيل: المؤمنون وقت نزول الآية كانوا بين متمم للصلاة وبين راكع. وقال ابن خويز منداد قوله تعالى:" وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ" تضمنت جواز العمل اليسير في الصلاة، وذلك أن هذا خرج مخرج المدح، وأقل ما في باب المدح أن يكون مباحا، وقد روي أن [علي بن أبي طالب ] «2» رضي الله عنه أعطى السائل شيئا وهو في الصلاة، وقد يجوز أن يكون هذه صلاة تطوع، وذلك أنه مكروه في الفرض. ويحتمل أن يكون المدح متوجها على اجتماع حالتين، كأنه وصف من يعتقد وجوب الصلاة والزكاة، فعبر عن الصلاة بالركوع، وعن الاعتقاد للوجوب بالفعل، كما تقول: المسلمون هم المصلون، ولا تريد أنهم في تلك الحال مصلون ولا يوجه المدح حال الصلاة، فإنما يريد من يفعل هذا الفعل ويعتقده.

[سورة المائدة (5): آية 56]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله. وقيل: أي ومن يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين. (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ) قال الحسن: حزب الله جند الله. وقال غيره: أنصار الله قال الشاعر:
وكيف أضوى «3» وبلال حزبي
__________
(1). راجع ج 1 ص 179.
(2). من ج وك وع.
(3). أضوى: أي استضعف وأضام، من الشيء الضاوي. (الطبري). وفي ع: وكيف أخزى. [.....]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)

أي ناصري. والمؤمنون حزب الله، فلا جرم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والاجلاء وضرب الجزية. والحزب الصنف من الناس. وأصله من النائبة من قولهم: حزبه كذا أي نابه، فكأن المحتزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة عليها. وحزب الرجل أصحابه. والحزب الورد، ومنه الحديث (فمن فاته حزبه من الليل). وقد حزبت القرآن. والحزب الطائفة. وتحزبوا اجتمعوا. والأحزاب: الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء «1». وحزبه أمر أي أصابه.

[سورة المائدة (5): آية 57]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
فيه مسألتان: الاولى: روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً إلى آخر الآيات. وتقدم معنى الهزؤ في" البقرة" «2»." مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ" قرأه أبو عمرو والكسائي بالخفض بمعنى ومن الكفار. قال الكسائي: وفي حرف أبي رحمه الله" ومن الكفار"، و" من" هاهنا لبيان الجنس، والنصب أوضح «3» وأبين. قاله النحاس. وقيل: هو معطوف على أقرب العاملين منه وهو قوله:" مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" فنهاهم الله أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزوا ولعبا. ومن نصب عطف على" الَّذِينَ" الأول في قوله:" لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ" أي لا تتخذوا هؤلاء وهؤلاء أولياء، فالموصوف بالهزو واللعب في هذه القراءة اليهود لا غير. والمنهي عن اتخاذهم أولياء اليهود والمشركون، وكلاهما في القراءة بالخفض موصوف بالهزو واللعب. قال مكي: ولولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض، لقوته في الاعراب وفي المعنى والتفسير والقرب من المعطوف
__________
(1). في هـ ع: الاعداء.
(2). راجع ج 1 ص 446.
(3). في ج: أفصح.

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)

عليه. وقيل: المعنى لا تتخذوا المشركين والمنافقين أولياء، بدليل قولهم:" إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ" «1»] البقرة: 14] والمشركون كلهم كفار، لكن يطلق في الغالب لفظ الكفار على المشركين، فلهذا فصل ذكر أهل الكتاب من الكافرين. الثانية- قال ابن خويز منداد: هذه الآية مثل قوله تعالى:" لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ"] المائدة: 51]، و" لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ" «2»] آل عمران: 118] تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك. وروى جابر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد الخروج إلى أحد جاءه قوم من اليهود فقالوا: نسير معك، فقال ] عليه الصلاة والسلام [ «3»: (إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين) وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي. وأبو حنيفة جوز الانتصار بهم على المشركين للمسلمين، وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوه مع ما جاء من السنة ذلك. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 58]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
فيه أثنتا عشرة مسألة: الاولى- قال الكلبي: كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا، وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا وقالوا في حق الأذان: لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم، فمن أين لك صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر. وقيل: إنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون، تجهيلا لأهلها، وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها. وقيل: إنهم كانوا يرون المنادي إليها بمنزلة اللاعب الهازئ بفعلها، جهلا منهم بمنزلتها، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله سبحانه:" وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً" «4»] فصلت: 33] والنداء الدعاء برفع الصوت، وفد يضم مثل الدعاء والرغاء. وناداه مناداة ونداء أي صاح به. وتنادوا أي نادى
__________
(1). راجع ج 1 ص 206.
(2). راجع ج 4 ص 178.
(3). من ج وع.
(4). راجع ج 15 ص 359.

بعضهم بعضا. وتنادوا أي جلسوا في النادي، وناداه جالسه في النادي. وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية، أما أنه ذكر في الجمعة على الاختصاص. الثانية- قال العلماء: ولم يكن الأذان بمكة فبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون" الصلاة جامعة" فلم هاجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وبقي «1»" الصلاة جامعة" للأمر يعرض. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أهمه أمر الأذان حتى أريه عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع الأذان ليلة الاسراء في السماء، وأما رؤيا عبد الله بن زيد الخزرجي الأنصاري وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فمشهورة، وأن عبد الله بن زيد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك ليلا طرقه به، وأن عمر] رضي الله عنه [ «2» قال: إذا أصبحت أخبرت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالا فأذن بالصلاة أذان الناس اليوم. وزاد بلال في الصبح" الصلاة خير من النوم" فأقرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليست فيما أرى الأنصاري، ذكره ابن سعد عن ابن عمر. وذكر الدارقطني رحمه الله أن الصديق رضي الله عنه أري الأذان، وأنه أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بلالا بالأذان قبل أن يخبره الأنصاري، ذكره في كتاب" المدبج" له في حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبي بكر الصديق وحديث أبي بكر عنه. الثالثة- واختلف العلماء في وجوب الأذان والإقامة، فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما بجب في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس، وقد نص على ذلك مالك في موطئة. واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين: أحدهما: سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى مصر من القرى. وقال بعضهم: هو فرض على الكفاية. وكذلك اختلف أصحاب الشافعي، وحكى الطبري عن مالك قال: إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة، قال أبو عمر: ولا أعلم اختلافا في وجوب الأذان جملة على أهل المصر، لان الأذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر، وكان رسول الله صلى الله
__________
(1). في ز: بقيت.
(2). من ع.

عليه وسلم إذا بعث سرية قال لهم: (إذا سمعتم الأذان فأمسكوا وكفوا وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا- أو قال- فشنوا الغارة). وفي صحيح مسلم قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغير إذا طلع الفجر، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار الحديث وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود: الأذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية. قال الطبري: الأذان سنة وليس بواجب. وذكر عن أشهب عن مالك: إن ترك الأذان مسافر عمدا فعليه إعادة الصلاة. وكره الكوفيون أن يصلي المسافر بغير أذان ولا إقامة، قالوا: وأما] ساكن [ «1» المصر فيستحب له أن يؤذن ويقيم، فإن استجزأ «2» بأذان الناس وإقامتهم أجزأه. وقال الثوري: تجزئه الإقامة عن الأذان في السفر، وإن شئت أذنت وأقمت. وقال أحمد بن حنبل: يؤذن المسافر على حديث مالك بن الحويرث. وقال داود: الأذان واجب على كل مسافر في خاصته والإقامة، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمالك بن الحويرث ولصاحبه:" إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما) خرجه البخاري وهو قول أهل الظاهر. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمالك بن الحويرث ولابن عم له: (إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما). قال ابن المنذر: فالأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالأذان وأمره على الوجوب «3». قال أبو عمر: واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إذا ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته، وكذلك لو ترك الإقامة عندهم، وهم أشد كراهة لتركه «4» الإقامة. واحتج الشافعي في أن الأذان غير واجب ] وليس [ «5» فرضا من فروض الصلاة بسقوط الأذان للواحد عند الجمع بعرفة والمزدلفة، وتحصيل مذهب مالك في الأذان في السفر كالشافعي سواء. الرابعة- واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان مثنى والإقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول، وذلك محفوظ من روايات الثقات في حديث أبي محذورة «6»،
__________
(1). من ع.
(2). في ع: اجتزئ.
(3). في ج، ك، ع، ز، على الفرض.
(4). من ج، ع.
(5). من ك. [.....]
(6). هو: أبو محذورة سمرة بن معير: مؤذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أحسن الناس أذانا وأنداهم صوتا.

وفي حديث عبد الله بن زيد، قال: وهي زيادة يجب قبولها. وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره. قال أصحابه: وكذلك هو الآن عندهم، وما ذهب إليه مالك موجود أيضا في أحاديث صحاح في أذان أبي محذورة، وفي أذان عبد الله بن زيد، والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظي إلى زمانهم. واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان، وذلك رجوع المؤذن إذا قال:" أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين" رجع فمد من صوته جهده. ولا خلاف بين مالك والشافعي في الإقامة إلا قوله:" قد قامت الصلاة" فإن مالكا يقولها مرة، والشافعي مرتين، واكثر العلماء على ما قال الشافعي، وبه جاءت الآثار. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي: الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة" الله أكبر" أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الأذان، وحجتهم في ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عبد الله ابن زيد جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم «1» حائط فأذن مثنى وأقام مثنى وقعد بينهما قعدة، فسمع بلال بذلك فقام وأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى، رواه الأعمش وغيره عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى، وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق. قال أبو إسحاق السبيعي: كان أصحاب علي وعبد الله يشفعون الأذان والإقامة، فهذا أذان الكوفيين، متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا، كما يتوارث الحجازيون، فأذانهم تربيع التكبير مثل المكيين. ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة، وأشهد أن محمدا رسول الله مرة واحدة، ثم حي على الصلاة مرة، ثم حي على الفلاح مرة، ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله- الأذان كله- مرتين مرتين إلى آخره. قال أبو عمر: ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحملوه على الإباحة والتخيير، قالوا: كل ذلك جائز، لأنه قد ثبت عن رسول الله
__________
(1). الجذم (بكسر الجيم وسكون الذال): الأصل، أراد بقية حائط أو قطعة من حائط. وفي ع: حرم.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جميع ذلك، وعمل به أصحابه، فمن شاء قال: الله أكبر مرتين في أول الأذان، ومن شاء قال ذلك أربعا، ومن شاء رجع في أذانه، ومن شاء لم يرجع، ومن شاء ثنى الإقامة، ومن شاء أفردها «1»، إلا قوله:" قد قامت الصلاة" فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال!!. الخامسة- واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح- وهو قول المؤذن: الصلاة خير من النوم- فقال مالك والثوري والليث: يقول المؤذن في صلاة الصبح- بعد قوله: حي على الفلاح مرتين- الصلاة خير من النوم مرتين، وهو قول الشافعي بالعراق، وقال بمصر: لا يقول ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقوله بعد الفراغ من الأذان إن شاء، وقد روي عنهم أن ذلك في نفس الأذان، وعليه الناس في صلاة الفجر. قال أبو عمر: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أبي محذورة أنه أمره أن يقول في أذان الصبح (الصلاة خير من النوم). وروي عنه أيضا ذلك من حديث عبد الله بن زيد. وروى عن أنس أنه قال: من السنة أن يقال في الفجر" الصلاة خير من النوم". وروي عن ابن عمر أنه كان يقوله، وأما قول مالك في" الموطأ" أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائما فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره ] عمر [ «2» أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أن هذا روي عن عمر من جهة يحتج بها وتعلم صحتها، وإنما فيه حديث هشام ابن عروة عن رجل يقال له" إسماعيل" فأعرفه، ذكر ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن رجل يقال له" إسماعيل" قال: جاء المؤذن يؤذن عمر بصلاة الصبح فقال" الصلاة خير من النوم" فأعجب به عمر وقال للمؤذن:" أقرها في أذانك". قال أبو عمر: والمعنى فيه عندي أنه قال له: نداء الصبح موضع القول بها لا هاهنا، كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء بعد. قال أبو عمر: وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه، لان التثويب في صلاة الصبح أشهر عند العلماء، والعامة من أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه جهل ] شيئا [ «3» سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). كذا في الأصول.
(2). الزيادة عن موطأ مالك.
(3). من ع.

وأمر به مؤذنيه، بالمدينة بلالا، وبمكة أبا محذورة، فهو محفوظ معروف في تأذين بلال، وأذان أبي محذورة في صلاة «1» الصبح للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مشهور عند العلماء. روى وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة أنه أرسل إلى مؤذنه إذا بلغت" حي على الفلاح" فقل: الصلاة خير من النوم، فإنه أذان بلال، ومعلوم أن بلالا لم يؤذن قط لعمر، ولا سمعه بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مرة بالشام إذ دخلها. السادسة- وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وحجتهم قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم). وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد بن الحسن: لا يؤدن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمالك بن الحويرث وصاحبه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما) وقياسا على سائر الصلوات. وقالت طائفة من أهل الحديث: إذا كان للمسجد مؤذنان أذن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر. السابعة- واختلفوا في المؤذن يؤذن ويقيم غيره، فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أنه لا بأس بذلك، لحديث محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره إذ رأى النداء في النوم أن يلقيه على بلال، فأذن بلال، ثم أمر عبد الله ابن زيد فأقام. وقال الثوري والليث والشافعي: من أذن فهو يقيم، لحديث عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم عن ] زياد [ «2» بن الحرث الصدائي قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما كان أول الصبح أمرني فأذنت، ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم). قال أبو عمر:
__________
(1). كذا في ك وز وج وع. وفي ا، ل: أذان.
(2). بالأصل، (عبد الله بن الحرث الصدائي) وهو خطأ والتصويب عن كتب المصطلح والترمذي في سند هذا الحديث.

عبد الرحمن بن زياد هو الإفريقي، وأكثرهم يضعفونه، وليس يروي هذا الحديث غيره، والأول أحسن إسنادا إن شاء الله تعالى. وإن صح حديث الإفريقي فإن من أهل العلم من يوثقه ويثني عليه، فالقول به أولى لأنه نص في موضع الخلاف، وهو متأخر عن قصة عبد الله ابن زيد مع بلال، والآخر، فالآخر من أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى أن يتبع، ومع هذا فإني أستحب إذا كان المؤذن واحدا راتبا أن يتولى الإقامة، فإن أقامها غيره فالصلاة ماضية بإجماع، والحمد لله. الثامنة- وحكم المؤذن أن يترسل في أذانه، ولا يطرب «1» به كما يفعله اليوم كثير من الجهال، بل وقد أخرجه كثير من الطغام والعوام عن حد الاطراب، فيرجعون فيه الترجيعات، ويكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول، ولا بما به يصول. روى الدارقطني من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤذن يطرب فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن). ويستقبل في أذانه القبلة عند جماعة من «2» العلماء، ويلوي رأسه يمينا وشمالا في" حي على الصلاة حي على الفلاح" عند كثير من أهل العلم. قال أحمد: لا يدور إلا أن يكون في منارة يريد أن يسمع الناس، وبه قال إسحاق، والأفضل أن يكون متطهرا. التاسعة- ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين وإن أتمه جاز، لحديث أبي سعيد «3»، وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله، قال أشهد أن إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة (. وفية عن سعد بن أبي وقاص عن
__________
(1). التطريب مد الصوت وتحسينه.
(2). في ع وهـ: جماعة العلماء.
(3). الظاهر حديث ابن عمر لأنه صح عنه:) إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" الحديث في مسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وأحمد.

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ما تقدم من ذنبه (. العاشرة- وأما فضل الأذان والمؤذن فقد جاءت فيه أيضا آثار صحاح، منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين) الحديث. وحسبك أنه شعار الإسلام، وعلم على الايمان كما تقدم. وأما المؤذن فروى مسلم عن معاوية قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة). وهذه إشارة إلى الأمن من هول ذلك اليوم. والله أعلم. والعرب تكني بطول العنق عن أشراف القوم وساداتهم، كما قال قائلهم «1»:
طوال «2» أنضية الأعناق واللمم

وفي الموطأ عن أبي سعيد الخدري سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شي إلا شهد له يوم القيامة). وفي سنن ابن ماجة عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من أذن محتسبا سبع سنين كتبت له براءة من النار) وفية عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة ولكل إقامة ثلاثون حسنة (. قال أبو حاتم: هذا الاسناد منكر والحديث صحيح. وعن عثمان بن أبي العاص قال: كان آخر ما عهد إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ألا أتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا) حديث ثابت. الحادية عشرة- واختلفوا في أخذ الأجرة على الأذان، فكره ذلك القاسم «3» بن عبد الرحمن وأصحاب الرأي، ورخص فيه مالك، وقال: لا بأس به. وقال الأوزاعي: ذلك مكروه،
__________
(1). قيل: هو لليلى الأخيلية: ويروى للشمردل بن شريك اليربوعي، وهو عجز بيت وصدره: (يشبهون ملوكا في تجلتهم،- ويروى- يشبهون سيوفا في صرائمهم). والنضي ما بين الرأس والكاهل من العنق. واللمة (بالكسر): الشعر المجاوز شحمه الاذن، فإذا بلغت المنكبين فهي جمة. قال في (اللسان): والصحيح (والأمم) جمع أمة وهي القامة لان الكهول لا تمدح بطول اللمم إنما تمدح به النساء والأحداث.
(2). رواية اللسان: وطول أنضية.
(3). في ع وك: القاسم بن محمد.

ولا بأس بأخذ الرزق على ذلك من بيت المال. وقال الشافعي: لا يرزق المؤذن إلا من خمس الخمس سهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن المنذر: لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان. وقد استدل علماؤنا بأخذ الأجرة بحديث أبي محذورة، وفية نظر، أخرجه النسائي وابن ماجة وغيرهما قال: خرجت في نفر فكنا ببعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون «1» فصرخنا نحكيه نهزأ به، فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إلينا قوما فأقعدونا بين يديه فقال: (أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع) فأشار إلى القوم كلهم وصدقوا فأرسل كلهم وحبسني وقال لي: (قم فأذن) فقمت ولا شي أكره إلي من ] أمر [ «2» رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألقى علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التأذين هو بنفسه فقال: (قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله (، ثم قال لي:) ارفع فمد صوتك أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله (، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شي من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه، ثم على «3» ثدييه، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بارك الله لك وبارك عليك)، فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، قال: (قد أمرتك). فذهب كل شي كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لفظ ابن ماجة.
__________
(1). متنكبون: اسم فاعل من تنكب عنه أي عدل عنه، أي معرضون متجنبون. وفي ج: متنكرون. [.....]
(2). من ج وك وز وع.
(3). في ج وك وع: بين.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)

الثانية عشرة- قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح. روي أن رجلا من النصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول:" أشهد أن محمدا رسول الله" قال: حرق الكاذب، فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه، فكانت عبرة للخلق" والبلاء موكل بالمنطق" وقد كانوا يمهلون مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يستفتحوا، فلا يؤخروا بعد ذلك، ذكره ابن العربي.

[سورة المائدة (5): الآيات 59 الى 60]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
قوله تعالى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) قال ابن عباس رضي الله عنه: جاء نفر من اليهود- فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع- إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام، فقال: نؤمن بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ إلى قوله:" وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ")] البقرة: 133]، فلما ذكر عيسى عليه السلام. جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم، فنزلت هذه الآية وما بعدها، وهي متصلة بما سبقها من إنكارهم الأذان، فهو جامع للشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالنبوة، والمتناقض دين من فرق بين أنبياء الله لا دين من يؤمن بالكل. ويجوز إدغام اللام في التاء لقربها منها. و" تَنْقِمُونَ" معناه تسخطون، وقيل: تكرهون

وقيل: تنكرون، والمعنى متقارب، يقال: نقم من كذا ينقم ونقم ينقم، والأول أكثر، قال عبد الله بن قيس الرقيات:
ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا
وفي التنزيل" وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ" «1»] البروج: 8] ويقال: نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم إذا عتبت عليه، يقال: ما نقمت عليه الإحسان. قال الكسائي: نقمت بالكسر لغة، ونقمت الامر أيضا ونقمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النقمة، والجمع نقمات ونقم مثل كلمة وكلمات وكلم، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت: نقمة والجمع نقم، مثل نعمة ونعم، (إلا أن آمنا بالله) في موضع نصب ب"- تَنْقِمُونَ" و" تَنْقِمُونَ" بمعنى تعيبون، أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وقد علمتم أنا على الحق. (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أي في ترككم الايمان، وخروجكم عن امتثال أمر الله، فقيل هو مثل قول القائل: هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر. وقيل: أي لان أكثركم فاسقون تنقمون منا ذلك. قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) أي بشر من نقمكم علينا. وقيل: بشر ما تريدون لنا من المكروه، وهذا جواب قولهم: ما نعرف دينا شرا من دينكم." مَثُوبَةً" نصب على البيان واصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك، ومثله مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر، كما قال الشاعر «2»:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري
وقيل: مفعلة كقولك مكرمة ومعقلة. (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ)" مِنْ" في موضع رفع، كما قال:" بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ" «3»] الحج: 72] والتقدير: هو لعن من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله، ويجوز أن تكون في موضع خفض على
__________
(1). راجع ج 19 ص 292.
(2). هو: أبو جندب الهزلي. والمضوفة: الامر يشق منه ويخاف.
(3). راجع ج 12 ص 95.

البدل من شر والتقدير: هل أنبئكم بمن لعنه الله، والمراد اليهود. وقد تقدم القول في الطاغوت «1»، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، والموصول محذوف عند الفراء. وقال البصريون: لا يجوز حذف الموصول، والمعنى من لعنه الله وعبد الطاغوت. وقرا ابن وثاب النخعي" أنبئكم" بالتخفيف. وقرا حمزة:" عبد الطاغوت" بضم الباء وكسر التاء، جعله اسما على فعل كعضد فهو بناء للمبالغة والكثرة كيقظ وندس «2» وحذر، وأصله الصفة، ومنه قول النابغة «3»:
من وحش وجرة موشي أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
بضم الراء. ونصبه ب"- جَعَلَ"، أي جعل منم عبدا للطاغوت، وأضاف عبد إلى الطاغوت فخفضه. وجعل بمعنى خلق، والمعنى: وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت. وقرا الباقون بفتح الباء والتاء، وجعلوه فعلا ماضيا، وعطفوه على فعل ماضي وهو غضب ولعن، والمعنى عندهم من لعنه الله ومن عبد الطاغوت، أو منصوبا ب"- جَعَلَ"، أي جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. ووحد الضمير في عبد حملا على لفظ" مِنْ" دون معناها. وقرا أبي وابن مسعود" وعبدوا الطاغوت" على المعنى. ابن عباس:" وعبد الطاغوت"، فيجوز أن يكون جمع عبد كما يقال: رهن ورهن، وسقف وسقف، ويجوز أن يكون جمع عباد كما يقال: مثال ومثل، ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف، ويجوز أن يكون جمع عابد كبازل وبزل، والمعنى: وخدم الطاغوت. وعن ابن عباس أيضا" وعبد الطاغوت" «4» جعله جمع عابد كما يقال: شاهد وشهد وغائب وغيب. وعن أبي واقد: وعباد الطاغوت
__________
(1). راجع ج 3 ص 281 وما بعدها.
(2). الندس (بفتح فضم أو فتح فكسر): الفهم الكيس.
(3). هو الذبياني، ووجرة: موضع بين مكة والبصرة، قال الأصمعي: هي أربعون ميلا ليس فيها منزل، فهي مرت للوحش. والوشي في ألوان البهائم بياض في سواد في بياض- طاوي: ضامر. المصير: المصران. والصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها. والفرد والفرد (بفتح الراء وضمها): أي هو منقطع القرين لا مثيل له في جودته.
(4). قال ابن عطية: وهذه القراءة تتخرج على أنه أراد و(عبدا) منونا ثم حذف للالتقاء كما قال: (ولا ذاكر الله).

وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

للمبالغة، جمع عابد أيضا، كعامل وعمال، وضارب وضراب. وذكر محبوب أن البصريين قرءوا: (وعباد الطاغوت) جمع عابد أيضا، كقائم وقيام، ويجوز أن يكون جمع عبد. وقرا أبو جعفر الرؤاسي «1» (وعبد الطاغوت) على المفعول، والتقدير: وعبد الطاغوت فيهم. وقرا عون العقيلي وابن بريدة: «2» (وعابد الطاغوت) على التوحيد، وهو يؤدي عن جماعة. وقرا ابن مسعود أيضا (وعبد «3» الطاغوت) وعنه أيضا] وأبي [ «4» (وعبدت الطاغوت) على تأنيث الجماعة، كما قال تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ) «5»] الحجرات: 14] وقرا عبيد بن عمير: (وأعبد الطاغوت) مثل كلب وأكلب. فهذه اثنا عشر وجها. قوله تعالى:" أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً" لان مكانهم النار، وأما المؤمنون فلا شر في مكانهم. وقال الزجاج: أولئك شر مكانا على قولكم. النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر. وقيل: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا من الذين نقموا عليكم. وقيل: أولئك الذين نقموا عليكم شر مكانا من الذين لعنهم الله. ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افتضاحا، وفيهم يقول الشاعر:
فلعنة الله على اليهود ... إن اليهود إخوة القرود

[سورة المائدة (5): الآيات 61 الى 63]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
__________
(1). راجع هامش ج 4 ص 1 في ضبط (الرؤاسى).
(2). في ابن عطية والشواذ قراءة ابن بريدة (بفتح الدال) و(ضم الدال) قراءة العقيلي ولعله يقرأ كالعقيلي في رواية أخرى عنه.
(3). قال ابن عطية: (بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء) اسم مفرد يراد به الجمع كحطم ولبد.
(4). من ج وك وع وز.
(5). راجع ج 16 ص 348. [.....]

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

قوله تعالى: (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) الآية. هذه صفة المنافقين، والمعنى أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه، بل دخلوا كافرين وخرجوا كافرين." وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ
" أي من نفاقهم. وقيل: المراد اليهود الذين قالوا: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إذا دخلتم المدينة، واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم، يدل عليه ما قبله من ذكرهم وما يأتي. قوله تعالى: (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) يعني من اليهود." يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ" أي يسابقون في المعاصي والظلم" وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ" قوله تعالى: (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) (لَوْ لا) بمعنى أفلا. (يَنْهاهُمُ) يزجرهم. (الرَّبَّانِيُّونَ) علماء النصارى. (وَالْأَحْبارُ) علماء اليهود قاله الحسن. وقيل الكل في اليهود، لان هذه الآيات فيهم. ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله:" لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ" ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد مضى القول في هذا المعنى في (البقرة) «1» و(وآل عمران) «2». وروى سفيان ابن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال بلغني أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال: يا رب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه: (أن به فابدأ فإنه لم يتمعر «3» وجهه في ساعة قط). وفي صحيح الترمذي: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده). وسيأتي. والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة، يقال: سيف صنيع إذا جود عمله.

[سورة المائدة (5): آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
__________
(1). راجع ج 1 ص 365 وما بعدها.
(2). راجع ج 4 ص 47.
(3). تمعر وجهه: تغير.

قوله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ). قال عكرمة: إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء] لعنه الله [ «1»، وأصحابه، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل ما لهم، فقالوا: إن الله بخيل، وئد الله مقبوضة عنا في العطاء، فالآية خاصة في بعضهم. وقيل: لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا. وقال الحسن: المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا. وقيل: إنهم لما رأوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فقر وقلة مال وسمعوا (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) «2» ورأوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يستعين بهم في الديات قالوا: إن إله محمد فقير، وربما قالوا: بخيل، وهذا معنى قولهم: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) فهذا على التمثيل كقوله: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) «3»] الاسراء: 29]. ويقال للبخيل: جعد الأنامل، ومقبوض الكف، وكز الأصابع، ومغلول اليد، قال الشاعر:
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوح
فاستبدلت بعده جعدا أنامله ... كأنما وجهه بالخل منضوح
واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى:" وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً" «4»] ص: 44] هذا محال على الله تعالى. وتكون للنعمة، تقول العرب: كم يد لي عند فلان، أي كم من نعمة لي قد أسديتها له، وتكون للقوة، قال الله عز وجل:" وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ" «5»] ص: 17]، أي ذا القوة وتكون يد الملك والقدرة، قال الله تعالى:" قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ" «6»] آل عمران: 73]. وتكون بمعنى الصلة، قال الله تعالى:" مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً" «7»] يس: 71] أي مما عملنا نحن. وقال:" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ" «8»] البقرة: 237] أي الذي له عقدة النكاح. وتكون بمعنى التأييد والنصرة، ومن قوله عليه السلام: (يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم حتى يقسم). وتكون لاضافة الفعل إلى المخبر عند تشريفا له وتكريما، قال الله تعالى:" يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" «9»] ص: 75] فلا يجوز أن يحمل على الجارحة، لان الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض، ولا على القوة والملك
__________
(1). من ع.
(2). راجع ج 3 ص 237، 04 2.
(3). راجع ج 10 ص 249.
(4). راجع ج 15 ص 212، 158، 55، 228.
(5). راجع ج 15 ص 212، 158، 55، 228.
(6). راجع ج 4 ص 11 2.
(7). راجع ج 15 ص 212، 158، 55، 228.
(8). راجع ج 3 ص 237، 04 2.
(9). راجع ج 15 ص 212، 158، 55، 228.

والنعمة والصلة، لان الاشتراك يقع حينئذ بين وليه آدم وعدوه إبليس، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه، لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن تحمل «1» على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة، ومثله ما روى أنه ] عز اسمه وتعالى علاه وجد أنه [ «2» كتب التوراة بيده، وغرس دار الكرامة] بيده [ «3» لأهل الجنة، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها. قوله تعالى: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) حذفت الضمة من الياء لثقلها، أي غلت في الآخرة، ويجوز أن يكون دعاء عليهم، وكذا" وَلُعِنُوا بِما قالُوا" والمقصود تعليمنا كما قال:" لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ" «4»] الفتح: 27]، علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله:" تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ" «5»] المسد: 1] وقيل: المراد أنهم أبخل الخلق، فلا ترى يهوديا غير لئيم. وفي الكلام على هذا القول إضمار الواو، أي قالوا: يد الله مغلولة وغلت أيديهم. واللعن بالابعاد، وقد تقدم. قوله تعالى: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ابتداء وخبر، أي بل نعمته مبسوطة، فاليد بمعنى النعمة. قال بعضهم: هذا غلط، لقوله:" بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ" فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد، فيكون مثل قوله عليه السلام: (مثل المنافق كالشاة العائرة «6») 6 (بين الغنمين). فأحد الجنسين نعمة الدنيا، والثاني نعمة الآخرة. وقيل: نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، كما قال:" وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً" «7»] لقمان: 20]. وروى ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فيه: (النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك). وقيل: نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما. وقيل: إن النعمة «8» للمبالغة، كقول العرب: (لبيك وسعديك) وليس يريد الاقتصار على مرتين، وقد يقول القائل: ما لي بهذا الامر يد أو قوة. قال السدي، معنى قوله (يَداهُ) قوتاه بالثواب
__________
(1). كذا في الأصول إلا في ج، ز: تحملا. ولا وجه للتثنية هنا.
(2). من ز. [.....]
(3). من ع.
(4). راجع ج 16 ص 289.
(5). راجع ج 20 ص 234.
(6). العائرة بين الغنمين: أي المترددة بين قطيعين، لا تدرى أيهما تتبع.
(7). راجع ج 14 ص 73.
(8). تلك عبارة الأصول، أو صوابها ما في الجصاص: إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة كقولك إلخ. راجع ج 2 ص 448.

والعقاب، بخلاف ما قالت اليهود: إن يده مقبوضة عن عذابهم. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله تعالى قال لي أنفق أنفق عليك). وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يمين الله ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار «1» أرأيتم ما أنفق مذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه- قال- وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض «2» يرفع ويخفض (. السح الصب الكثير. وبغيض ينقص، ونظير هذا الحديث قوله جل ذكره:" وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ" «3»] البقرة: [. وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود" بل يداه بسطان" «4» [المائدة:] حكاه الأخفش، وقال يقال: يد بسطة، أي منطلقة منبسطة.) ينفق كيف يشاء) أي يرزق كما يريد. ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة، أي قدرته شاملة، فإن شاء وسع وإن شاء قتر. (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) لام قسم. (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي بالذي أنزل إليك. (طُغْياناً وَكُفْراً) أي إذا نزل شي من القرآن فكفروا ازداد كفرهم. (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) قال مجاهد: أي بين اليهود والنصارى، لأنه قال قبل هذا" لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ"] المائدة: 51]. وقيل: أي ألقينا بين طوائف اليهود، كما قال:" تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى" «5»] الحشر: 14] فهم متباغضون متفقين، فهم أبغض خلق الله إلى الناس. (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) يريد اليهود. و" كُلَّما" ظرف أي كلما جمعوا وأعدوا شتت الله جمعهم. وقيل: إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله- التوراة- أرسل الله عليهم بخت نصر، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين، فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما أوقدوا نارا أي أهاجوا شرا، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" أَطْفَأَهَا اللَّهُ" وقهرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار. قال قتادة: أذلهم الله عز وجل، فلقد بعث الله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم تحت أيدي
__________
(1)." الليل والنهار" قال النووي: هو بنصب الليل والنهار ورفعهما، النصب على الظرف، والرفع على الفاعل. قال في هامش مسلم: لكن على تقدير النصب ماذا يكون الفاعل في (لا يغيضها) لم يذكره، ولو كانت الرواية (لا يغيضها سح الليل والنهار) بالإضافة لبان الفاعل كما في رواية زهير بن حرب" لا يغيضها شي".
(2). الفيض: ضبطوه (بالفاء والياء) ومعناه الإحسان، و(بالقاف والباء) ومعناه الموت.
(3). راجع ج 3 ص 237.
(4). كذا في البحر وفي الشواذ لابن خالويه: بسطتان. بضم السين.
(5). راجع ج 18 ص 35.

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

المجوس، ثم قال عز وجل: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي يسعون في إبطال الإسلام، وذلك من أعظم الفساد، والله أعلم. وقيل: المراد بالنار هنا نار الغضب، أي كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا بأبدانهم وقوه النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يضعفوا وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة المائدة (5): الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) (أَنَّ) في موضع رفع، وكذا" وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ". (آمَنُوا) صدقوا. (وَاتَّقَوْا) أي الشرك والمعاصي. (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ) اللام جواب (لَوْ). وكفرنا غطينا، وقد تقدم. وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما، وقد تقدم هذا المعنى في (البقرة) «1» مستوفى. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) أي القرآن. وقيل: كتب أنبيائهم. (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) قال ابن عباس وغيره: يعنى المطر والنبات، وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب. وقيل: المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ولأكلوا أكلا متواصلا، وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا، ونظير هذه الآية" وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" «2»] الطلاق: 2]" وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً" «3»] الجن: 16]" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ" «4»] الأعراف: 96] فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" «5»] إبراهيم: 7] ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا- وهم المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام اقتصدوا فلم
__________
(1). راجع ج 1 ص 437 وما بعدها.
(2). راجع ج 18 ص 159.
(3). راجع ج 19 ص 16. [.....]
(4). راجع ج 7 ص 253.
(5). راجع ج 9 ص 342.

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)

يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام «1» إلا ما يليق بهما. وقد: أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين، والله أعلم. والاقتصاد الاعتدال في العمل، وهو من القصد، والقصد إتيان الشيء، تقول: قصدته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى. (ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي بئس شي عملوه، كذبوا الرسل، وحرفوا الكتب وأكلوا السحت.

[سورة المائدة (5): آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
قيل: معناه أظهر التبليغ، لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس. وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال: لا نعبد الله سرا، وفي ذلك نزلت:" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" «2» [الأنفال: 64] فدلت الآية على رد قول من قال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه، وهم الرافضة، ودلت على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين، لان المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فائدة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية] رضي الله عنها [ «3». وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم، قال ابن عباس: المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته، وهذا تأديب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه، وفي صحيح مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك
__________
(1). كذا في ج وك وع.
(2). راجع ج 8 ص 42.
(3). من ع.

أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئا من الوحى فقد كذب، والله تعالى يقول:" يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ" وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه. الثانية- قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) دليل على نبوته، لان الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. وسبب نزول هذه الآية أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط «1» سيفه وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يمنعك مني؟ فقال:" اللَّهُ"، فذعرت يد الاعرابي وسقط السيف من يده، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، ذكره المهدوي. وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال: وقد رويت هذه القصة في الصحيح، وأن غورث ابن الحارث صاحب القصة، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عفا عنه، فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله:" إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ" «2» [المائدة: 11] مستوفى، وفي" النساء" أيضا في ذكر صلاة الخوف. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في واد كثير العضاه «3» فنزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف مصلتا «4» في يده فقال لي من يمنعك مني- قال- قلت الله ثم قال في الثانية من يمنعك مني- قال- قلت الله قال فشام «5» السيف فها هو ذا جالس" ثم لم يعرض له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وقال ابن عباس قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني
__________
(1). اخترط سيفه: استله.
(2). راجع ص 111 من هذا الجزء. وج 5 ص 372.
(3). العضاه: شجر عظيم له شوك، وقيل: أعظم الشجر.
(4). صلتا: أي مجردا من غمده. وفي ك: صلت.
(5). شام السيف. أي غمده ورده في غمده، يقال: شام السيف إذا سله وإذا أغمده، فهو من الأضداد. والمراد هنا أغمده.

فأنزل الله هذه الآية) وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل:" وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يا عماه «1» إن الله قد عصمني من الجن والانس فلا احتاج إلى من يحرسني". قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع، ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: سهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدمه المدينة ليلة فقال:" ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة «2» سلاح، فقال:" من هذا"؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما جاء بك"؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم نام. وفي غير الصحيح قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح، فقال:" من هذا"؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سمعت غطيطه «3» ونزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من قبة آدم وقال:" انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله". وقرا أهل المدينة:" رسالاته" على الجمع. وأبو عمرو واهل الكوفة:" رِسالَتَهُ" على التوحيد، قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبين، لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والافراد يدل على الكثرة، فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها" «4» [إبراهيم: 34]. (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يرشدهم وقد تقدم. وقيل: أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا. نظيره" ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ" «5»] المائدة: 99] والله أعلم.
__________
(1). من ك وع وج.
(2). خشخشة سلاح: أي صوت سلاح صدم بعضه بعضا.
(3). الغطيط: هو صوت النائم المرتفع.
(4). راجع ج 9 ص 367. [.....]
(5). راجع ص 327 من هذا الجزء.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)

[سورة المائدة (5): آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: الست تقر أن التوراة حق من عند الله؟ قال:] بلى [. فقالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها، فنزلت الآية، أي لستم على شي من الدين حتى تعملوا بما في الكتابين من الايمان بمحمد عليه السلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما، وقال أبو علي: ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما. الثانية- قوله تعالى: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم. والطغيان تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه. وذلك أن الظلم منه صغيرة ومنه كبيرة، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى. ومنه قوله تعالى:" كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى " «1»] العلق: 6] أي يتجاوز الحد في الخروج عن الحق. الثالثة- قوله تعالى: (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي لا تحزن عليهم. أسي يأسى أسى إذا حزن. قال:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى

وهذه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس بنهي عن الحزن، لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن. وقد مضى هذا المعنى في آخر (آل عمران) «2» مستوفى.
__________
(1). راجع ج 20 ص 122.
(2). راجع ج 4 ص 284 وما بعدها.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

[سورة المائدة (5): آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
تقدم الكلام فلا معنى لإعادته." وَالَّذِينَ هادُوا" معطوف، وكذا" وَالصَّابِئُونَ" معطوف على المضمر في" هادُوا" في قول الكسائي والأخفش. قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي: هذا خطأ من جهتين، إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد. والجهة الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال. وقال الفراء: إنما جاز الرفع في" وَالصَّابِئُونَ" لان" إن" ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر، و" الَّذِينَ" هنا لا يتبين فيه الاعراب فجرى على جهة واحدة الأمران «1»، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام. قال الزجاج: وسبيل ما يتبين فيه الاعراب وما لا يتبين فيه الاعراب واحد. وقال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على التقديم والتأخير، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك. وأنشد «2» سيبويه وهو نظيره:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
وقال ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار «3» بها لغريب
وقيل:" إن" بمعنى" نعم" فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر. وقال قيس الرقيات:
__________
(1). في ع: فجرى على جهة واحدة، ألا ترى أن جاز رفع الصابئين إلخ.
(2). البيت لبشر بن أبي حازم. والبغاة: جمع باغ وهو الساعي بالفساد. والشقاق: الخلاف.
(3). قيار: قيل اسم جمل ضابئ، وقيل: اسم فرسه. يقول: من كان بالمدينة بيته ومنزله، فلست منها ولا لي بها منزل.

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)

بكر العواذل في الصبا ... ح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
قال الأخفش: (إنه) بمعنى (نعم)، وهذه (الهاء) أدخلت للسكت.

[سورة المائدة (5): آية 70]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
قوله تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا). قد تقدم في (البقرة) «1» معنى الميثاق وهو ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به. والمعنى في هذه ] الآية [ «2» لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود. وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله:" أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"] المائدة: 1]. (كُلَّما جاءَهُمْ) أي اليهود (رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) لا يوافق هواهم (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) أي كذبوا فريقا وقتلوا فريقا، فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الأنبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء. وإنما قال:" يَقْتُلُونَ" لمراعاة رأس الآية. وقيل: أراد فريقا كذبوا، وفريقا قتلوا، وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون، فهذا دأبهم وعادتهم فاختصر. وقيل: فريقا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا. و" يَقْتُلُونَ" نعت لفريق. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 71]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
قوله تعالى: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) المعنى، ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الامهال. وقرا أبو عمرو وحمزة والكسائي" تكون" بالرفع، ونصب)
__________
(1). راجع ج 1 ص 246 وما بعدها.
(2). من ج وع وك وهـ.

الباقون، فالرفع على أن حسب بمعنى علم وتيقن. و" أن" مخففة من الثقيلة ودخول" لا" عوض من التخفيف، وحذف الضمير لأنهم كرهوا أن يليها الفعل وليس من حكمها أن تدخل عليه، ففصلوا بينهما (بلا). ومن نصب جعل" أن" ناصبة للفعل، وبقي حسب على بابه من الشك وغيره. قال سيبويه: حسبت ألا يقول ذلك، أي حسبت أنه قال ذلك. وإن شئت نصبت، قال النحاس: والرفع عند النحويين في حسب وأخواتها أجود كما قال «1»:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وألا يشهد اللهو أمثالي
وإنما صار الرفع أجود، لان حسب وأخواتها بمنزلة العلم لأنه «2» شي ثابت. قوله تعالى: (فَعَمُوا) أي عن الهدى. (وَصَمُّوا) أي عن سماع الحق، لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه. (ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) في الكلام إضمار، أي أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب الله عليهم بكشف القحط، أو بإرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرهم بأن الله يتوب عليهم إن آمنوا، فهذا بيان" تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" أي يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا أنهم تابوا على الحقيقة. (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي عمي كثير منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، فارتفع" كَثِيرٌ" على البدل من الواو. وقال الأخفش سعيد: كما تقول رأيت قومك ثلثيهم. وإن شئت كان على إضمار مبتدإ أي العمي والصم كثير منهم. وإن شئت كان التقدير العمي والصم منهم كثير. وجواب رابع أن يكون على لغة من قال: (أكلوني البراغيث) وعليه قول الشاعر «3»:
ولكن ديافيّ أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
ومن هذا المعنى قوله:" وَأَسَرُّوا النَّجْوَى «4» الَّذِينَ ظَلَمُوا"] الأنبياء: 3]. ويجوز في غير القرآن (كثيرا) بالنصب يكون نعتا لمصدر محذوف.
__________
(1). البيت لامرئ القيس ويروى في ديوانه (ألا يحسن اللهو). وبسباسة امرأة من بني أسد.
(2). في ج وع: في أنه.
(3). البيت للفرزدق يهجو عمرو بن عفراء. ودياف قرية بالشام، وقيل: بالجزيرة، وأهلها نبط الشام. والسليط: الزيت.
(4). راجع ج 11 ص 268.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

[سورة المائدة (5): آية 72]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)
قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) هذا قول اليعقوبية فرد الله عليهم ذلك بحجة قاطعة مما يقرون به، فقال: (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي إذا كان المسيح يقول: يا رب ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها؟ هذا محال. (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) قيل: وهو من قول عيسى. وقيل: ابتداء كلام من الله تعالى. والاشراك أن يعتقد معه موجدا. وقد مضى في (آل عمران) «1» القول في اشتقاق المسيح فلا معنى لإعادته. (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

[سورة المائدة (5): الآيات 73 الى 74]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ). أي أحد ثلاثة. ولا يجوز فيه التنوين، عن الزجاج وغيره. وفية للعرب مذهب آخر، يقولون: رابع ثلاثة، فعلى هذا يجوز الجر والنصب، لان معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه منهم. وكذلك إذا قلت: ثالث اثنين، «2» جاز التنوين. وهذا قول فرق النصارى من الملكية «3» والنسطورية واليعقوبية، لأنهم يقولون أب وابن وروح القدس إله واحد، ولا يقولون ثلاثة آلهة وهو معنى مذهبهم، وإنما يمتنعون من العبارة وهي لازمة لهم. وما كان هكذا صح أن
__________ (1). راجع ج 4 ص 88 وما بعدها.
(2). في ع: ثالث اثنين بالتنوين. [.....]
(3). كذا في الأصول وتقدم أنهم الملكائية.

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

يحكى بالعبارة اللازمة، وذلك أنهم يقولون: إن الابن إله والأب إله وروح القدس إله. وقد تقدم القول في هذا في (النساء) «1» فأكفرهم الله بقولهم هذا، [وقال «2»]: (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي أن الاله لا يتعدد وهم يلزمهم القول بثلاثة آلهة كما تقدم، وإن لم يصرحوا بذلك لفظا، وقد مضى في (البقرة) «3» معنى الواحد. و(مِنْ) زائدة. ويجوز في غير القرآن (إلها واحدا) على الاستثناء. وأجاز الكسائي الخفض على البدل. قوله تعالى: (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا) أي يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. (أَفَلا يَتُوبُونَ) تقرير وتوبيخ، أي فليتوبوا إليه وليسألوه ستر ذنوبهم، والمراد الكفرة منهم. وإنما خص الكفرة بالذكر لأنهم القائلون بذلك دون المؤمنين.

[سورة المائدة (5): آية 75]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
قوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ابتداء وخبر، أي ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل، فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها، فهذا رد لقولهم واحتجاج عليهم، ثم بالغ في الحجة فقال:" وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ" ابتداء وخبر" كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ" أي أنه مولود مربوب، ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين، ولم يدفع هذا أحد منهم، فمتى يصلح المربوب لان يكون ربا؟! وقولهم: كان يأكل «4» بناسوته لا بلاهوته فهذا منهم مصير إلى الاختلاط، ولا يتصور اختلاط إله بغير إله، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث لجاز أن يصير القديم محدثا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره حتى يقال: اللاهوت مخالط لكل محدث. وقال بعض المفسرين في قوله:" كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ" إنه كناية عن الغائط والبول. وفى هذا دلالة
__________
(1). راجع ص 23 وما بعدها من هذا الجزء.
(2). من ج، ك، ع، هـ.
(3). راجع ج 2 ص 190.
(4). في ع: يأكل الطعام. إلخ.

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)

على أنهما بشران. وقد استدل من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى:" وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ". قلت: وفية نظر، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام، وقد مضى في" آل عمران" «1» ما يدل على هذا. والله أعلم. وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به، عن الحسن وغيره. والله أعلم. قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أي الدلالات. (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان، يقال: أفكه يأفكه إذا صرفه. وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة.

[سورة المائدة (5): آية 76]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قوله تعالى: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) زيادة في البيان وإقامة حجة] عليهم [ «2»، أي أنتم مقرون أن عيسى كان جنينا في بطن أمه، لا يملك لاحد ضرا ولا نفعا وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها؟. (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي لم يزل سميعا عليما يملك الضر والنفع. ومن كانت هذه صفته فهو الاله على الحقيقة. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
__________
(1). راجع ج 4 ص 82 وما بعدها
(2). من ع وك.

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)

قوله تعالى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) أي لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في عيسى، غلو اليهود قولهم في عيسى، ليس ولد رشدة «1»، وغلو النصارى قولهم: إنه إله. والغلو مجاوزة الحد، وقد تقدم في (النساء) «2» بيانه. قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) الاهواء جمع هوى وقد تقدم في (البقرة) «3»
. وسمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه في النار." قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ" قال مجاهد والحسن: يعني اليهود. (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) أي أضلوا كثيرا من الناس. (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي عن قصد طريق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتكرير ضلوا على معنى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد، والمراد الاسلاف الذين سنوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى.

[سورة المائدة (5): آية 78]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78)
قوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فيه مسألة واحدة: وهي جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء. وأن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقهم. ومعنى" عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ" أي لعنوا في الزبور والإنجيل، فإن الزبور لسان داود، والإنجيل لسان عيسى أي لعنهم الله في الكتابين. وقد تقدم اشتقاقهما. قال مجاهد وقتادة وغيرهما. لعنهم مسخهم قردة وخنازير. قال أبو مالك: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة. والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير. وقال ابن عباس: الذين لعنوا على لسان داود أصحاب السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة بعد نزولها. وروي نحوه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: لعن الاسلاف والأخلاف ممن كفر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على لسان داود وعيسى، لأنهما أعلما أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي مبعوث فلعنا من يكفر به.
__________
(1). ولد رشدة (بكسر الراء وقد تفتح): أي ولد نكاح.
(2). راجع ص 21 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 2 ص 24 وما بعدها.

كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)

قوله تعالى: (ذلِكَ بِما عَصَوْا). ذلك في موضع رفع بالابتداء أي ذلك اللعن بما عصوا، أي بعصيانهم. ويجوز أن يكون على إضمار مبتدإ، أي الامر ذلك. ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا ذلك بهم لعصيانهم واعتدائهم.

[سورة المائدة (5): آية 79]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
قوله تعالى: (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ). فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" كانُوا لا يَتَناهَوْنَ" أي لا ينهى بعضهم بعضا:" لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ" ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم. خرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيدة فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال:" لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ" إلى قوله:" فاسِقُونَ" ثم قال:] كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم [وخرجه الترمذي أيضا. ومعنى لتأطرنه لتردنه. الثانية: قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. وقال حذاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا. وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضا

تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)

واستدلوا بهذه الآية، قالوا: لان قوله:" كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ" يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بتركهم وهجرانهم. وأكد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود:" تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا" و" ما" من قوله:" ما كانُوا" يجوز أن تكون في موضع نصب وما بعدها نعت لها، التقدير لبئس شيئا كانوا يفعلونه. أو تكون في موضع رفع وهي بمعنى الذي.

[سورة المائدة (5): آية 80]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)
قوله تعالى: (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من اليهود، قيل: كعب بن الأشرف وأصحابه. وقال مجاهد: يعني المنافقين (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي المشركين، وليسوا على دينهم. (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي سولت وزينت. وقيل: المعنى لبئس ما قدموا لأنفسهم ومعادهم. (أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)" أَنْ" في موضع رفع على إضمار مبتدأ كقولك: بئس رجلا زيد. وقيل: بدل من" ما" في ] قوله [ «1»" لَبِئْسَ" على أن تكون" ما" نكرة فتكون رفعا أيضا. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى لان سخط الله عليهم:" وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ" ابتداء وخبر.

[سورة المائدة (5): آية 81]
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
قوله تعالى: (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) يدل بهذا على أن من اتخذ كافرا وليا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله. (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي خارجون عن الايمان بنبيهم لتحريفهم، أو عن الايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفاقهم.
__________
(1). من ع.

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

[سورة المائدة (5): آية 82]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
قوله تعالى" لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ" اللام لام قسم ودخلت النون على قول الخليل وسيبويه فرقا بين الحال والمستقبل." عَداوَةً" نصب على البيان وكذا" وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى " وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الاولى- حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره- خوفا من المشركين وفتنتهم، وكانوا ذوي عدد. ثم هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه، حالت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحرب. فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعه بهدايا، فسمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم. ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة (مريم) فقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم" وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى " وقرا إلى" الشَّاهِدِينَ" رواه أبو داود. قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، أن الهجرة الاولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة، وساق الحديث بطوله. وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال: قدم على النبي

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرون رجلا وهو بمكة أو قريب من ذلك، من النصارى حين ظهر خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد «1» فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما أرادوا، دعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تظهر «2» مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم- أو كما قال لهم- فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نالوا أنفسنا خيرا. فيقال: إن النفر النصارى من أهل نجران، ويقال: إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ" «3»] القصص: 52] إلى قوله:" لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ"] القصص: 55] وقيل: إن جعفرا وأصحابه قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام ] وهم [ «4» بحيراء «5» الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن «6»، فقرأ عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة" يس" إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم" لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى " يعني وفد النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع. وقال سعيد ابن جبير: وأنزل الله فيهم أيضا" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ"] القصص: 52] إلى قوله" أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ"] القصص: 54] إلى آخر الآية. وقال مقاتل والكلبي: كانوا أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية وستون من
__________
(1). في ج، ك، هـ، ع: في المجلس.
(2). في ع. تطل.
(3). راجع ج 13 ص 296. [.....]
(4). عن (البحر) (وروح المعاني).
(5). بحيراء الراهب: كأمير ممدودا وفي رواية بالألف المقصورة.
(6). الأصول محرفة في ذكر الأسماء وصوبت عن (البحر) و(روح المعاني). في ج، ك، ع: تمام: نشيم بدل أبرهة وقثم.

أهل الشام. وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى، فلما بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنوا به فأثنى الله عليهم. قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) واحد" القسيسين" قس وقسيس، قاله قطرب. والقسيس العالم، وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه، قال «1» الراجز:
يصبحن عن قس الأذى غوافلا

وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها. والقس النميمة. والقس أيضا رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير فالقسيسون هم الذين يتبعون العلماء والعباد. ويقال في جمع قسيس مكسرا: قساوسة «2» أبدل من إحدى السينين واوا وقساوسة أيضا كمهالبة. والأصل قساسسة فابدلوا إحدى السينات واوا لكثرتها. ولفظ القسيس إما أن يكون عربيا، وإما أن يكون بلغة الروم ولكن خلطته العرب بكلامهم فصار من لغتهم إذ ليس في الكتاب ما ليس من لغة العرب كما تقدم. وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد، قال: حدثت عن معاوية بن هشام عن نصير الطائي عن الصلت عن حامية بن رباب «3» قال: قلت لسلمان" بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً" فقال: دع القسيسين في الصوامع والمحراب أقرأنيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بأن منهم صديقين ورهبانا". وقال عروة بن الزبير: ضيعت النصارى الإنجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه، وكانوا أربعة نفر الذين غيروه، لوقاس ومرقوس ويحنس ومقبوس «4»، وبقي قسيس على الحق وعلى الاستقامة، فمن كان على دينه وهديه فهو قسيس. قوله تعالى: (وَرُهْباناً) الرهبان جمع راهب كركبان وراكب. قال النابغة:
__________
(1). الرجز لرؤية بن العجاج يصف نساء عفيفات لا يتبعن النمائم.
(2). كذا في الأصول وهو موافق لما في (القاموس) وبها يظهر قوله بعد: (أبدل من إحدى السينين واو)، وفي (اللسان): قساقسة على مثال مهالبة. ويؤخذ من شرح (القاموس) أن فيه الجمعين.
(3). كذا في الأصول، وفي ابن كثير: جاثمة بن رئاب.
(4). كذا في كل الأصول: ولعل الصواب: متيوس. وهو متى. لان أنا جيلهم المعتمدة أربعة لكل من لوقا ومرقص ويوحنا ومتى إنجيل.

وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)

لو أنها عرضت لاشمط راهب ... عبد الإله صرورة «1» متعبد
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد
والفعل منه رهب الله يرهبه أي خافه رهبا ورهبا ورهبة. والرهبانية والترهب التعبد في صومعة. قال أبو عبيد: وقد يكون (رهبان) للواحد والجمع، قال الفراء: ويجمع (رهبان) إذا كان للمفرد رهابنة ورهابين كقربان وقرابين، قال جرير في الجمع:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... والعصم من شعف العقول الفادر
الفادر المسن من الوعول. ويقال: العظيم، وكذلك الفدور والجمع فدر وفدور وموضعها المفدرة، قال الجوهري. وقال آخر في التوحيد:
لو أبصرت رهبان دير في الجبل ... لانحدر الرهبان يسعى ويصل
من الصلاة. والرهابة على وزن السحابة عظم في الصدر مشرف على البطن مثل اللسان. وهذا المدح لمن آمن منهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون من أصر على كفره ولهذا قال: (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي عن الانقياد إلى الحق.

[سورة المائدة (5): آية 83]
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
قوله تعالى: (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي بالدمع وهو في موضع الحال، وكذا" يَقُولُونَ". وقال امرؤ القيس:
ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بل دمعي محملي «2»
وخبر مستفيض إذا كثر وانتشر كفيض الماء عن الكثرة. وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتموتون، كما قال تعالى:
__________
(1). الصرورة: الذي لم يأت النساء كأنه أصر على تركهن وفي الحديث" لا صرورة في الإسلام" وهو التبتل.
(2). المحمل (كمرجل) علاقة السيف.

وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)

" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «1»"] الزمر: 23] وقال:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" وفي (الأنفال) «2» يأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى. وبين الله سبحانه في هذه الآيات أن أشد الكفار تمردا وعتوا وعداوة للمسلمين اليهود، ويضاهيهم المشركون، وبين أن أقربهم مودة النصارى. والله أعلم. قوله تعالى:" فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ" أي مع أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين يشهدون بالحق من قوله عز وجل:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ" «3»] البقرة: 143] عن ابن عباس وابن جريج. وقال الحسن: الذين يشهدون بالايمان. وقال أبو علي: الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك. ومعنى" فَاكْتُبْنا" اجعلنا، فيكون بمنزلة ما قد كتب ودون.

[سورة المائدة (5): آية 84]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
قوله تعالى: (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ) بين استبصارهم في الدين، أي يقولون وما لنا لا نؤمن، أي وما لنا تاركين الايمان. ف"- نُؤْمِنُ" في موضع نصب على الحال. (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) أي مع أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل قوله:" أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ" «4»] الأنبياء: 105] يريد أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي الكلام إضمار أي نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة. وقيل:" نَطْمَعُ" بمعنى (في) كما تذكر (في) بمعنى (مع) تقول: كنت فيمن لقي الأمير، أي مع من لقي الأمير. والطمع يكون مخففا وغير مخفف، يقال: طمع فيه طمعا وطماعة وطماعية مخفف فهو طمع.

[سورة المائدة (5): الآيات 85 الى 86]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
__________
(1). راجع ج 15 ص 248.
(2). راجع ج 7 ص 365.
(3). راجع ج 2 ص 153.
(4). راجع ج 11 ص 349.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)

قوله تعالى: (فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ) دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم، فأجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم- وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة. ثم قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) من اليهود والنصارى ومن المشركين (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) والجحيم النار الشديدة الاتقاد. يقال: جحم فلان النار إذا شدد إيقادها. ويقال أيضا لعين الأسد: جحمة، لشدة اتقادها. ويقال ذلك للحرب قال الشاعر:
والحرب لا يبقى لجا ... حمها التخيل والمراح «1»
إلا الفتى الصبار في ... النجدات والفرس الوقاح «2»

[سورة المائدة (5): آية 87]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا). فيه خمس مسائل: الاولى- أسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك «3» ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض، ويترهبوا ويجبوا المذاكير، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والاخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول وهي:
__________
(1). في ع: لا تبقى. المزاح. [.....]
(2). وقح الحافر صلب.
(3). الودك: الدسم.

الثانية- خرج مسلم عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألوا أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على الفراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال:" وما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وخرجه البخاري عن أنس أيضا ولفظه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها- فقالوا: وأين نحن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر. فقال أحدهم: [أما] «1» أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أما أنا فأصوم «2» الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" أنتم الذين «3» قلتم كذا وكذا أما والله إني لاخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". وخرجا عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وخرج الامام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا معان بن رفاعة، قال حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية من سراياه قال: فمر رجل بغار فيه شي من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا، قال: لو أني أتيت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت له ذلك، فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا، قال: فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة «4» أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة"،.
__________
(1). من ك وهـ وع.
(2). من ك وهـ وع.
(3). في ج وع وك: أنتم القائلون.
(4). الغدوة المرة من الغدو، وهو سير أول النهار، نقيض الرواح.

الثالثة- قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه، قال الطبري: لا يجوز لاحد من المسلمين تحريم شي مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقة، ولذلك رد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التبتل على ابن مظعون فثبت أنه لا فضل في ترك شي مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة لامته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء. قال الطبري: فإن ظن ظان أن الخير «1» في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ، وذلك أن الاولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شي أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لادواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته. وقد جاء رجل إلى الحسن البصري، فقال: إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال: ولم؟ قال: يقول لا يؤدي شكره، فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ فقال: نعم. فقال: إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج. قال ابن العربي قال علماؤنا: هذا إذا كان الدين قواما، ولم يكن المال حراما، فأما إذا فسد الدين عند الناس وعم الحرام فالتبتل أفضل، وترك اللذات أولى، وإذا وجد الحلال فحال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل وأعلى. قال المهلب: إنما نهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وأنه في الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال، فأراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكثر النسل.
__________
(1). في ج وك: الفضل.

وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

الرابعة: قوله تعالى:" وَلا تَعْتَدُوا" قيل: المعنى لا تعتدوا فتحلوا «1» ما حرم الله فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين، أي لا تشددوا فتحرموا حلالا، ولا تترخصوا فتحلوا حراما، قاله الحسن البصري. وقيل: معناه التأكيد لقوله:" تُحَرِّمُوا"، قاله السدي وعكرمة وغيرهما، أي لا تحرموا ما أحل الله وشرع. والأول أولى. والله أعلم. الخامسة- من حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له، أو شيئا مما أحل الله فلا شي عليه، ولا كفارة في شي من ذلك عند مالك، إلا أنه إن نوى بتحريم الامة عتقها صارت حرة وحرم عليه وطؤها إلا بنكاح جديد] بعد عتقها [ «2». وكذلك إذا قال لامرأته أنت علي حرام فإنه تطلق عليه ثلاثا، وذلك أن الله تعالى قد أباح له أن يحرم امرأته عليه بالطلاق صريحا وكناية، وحرام من كنايات الطلاق. وسيأتي ما للعلماء فيه في سورة (التحريم) «3» إن شاء الله تعالى. وقال أبو حنيفة: إن من حرم شيئا صار محرما عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة، وهذا بعيد والآية ترد عليه. وقال سعيد بن جبير. لغو اليمين تحريم الحلال. وهو معنى قول الشافعي على ما يأتي.

[سورة المائدة (5): آية 88]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قوله تعالى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً) فيه مسألة واحدة: الأكل في هذه الآية عبارة عن التمتع بالأكل والشرب واللباس والركوب ونحو ذلك. وخص الأكل بالذكر، لأنه أعظم المقصود وأخص الانتفاعات بالإنسان. وسيأتي بيان حكم الأكل والشرب واللباس في" الأعراف" «4»] إن شاء الله تعالى [ «5». وأما شهوة الأشياء الملذة، ومنازعة النفس إلى طلب الأنواع الشهية، فمذاهب الناس في تمكين النفس منها مختلفة، فمنهم من يرى صرف النفس عنها وقهرها عن اتباع شهواتها أحرى ليذل له قيادها، ويهون عليه
__________
(1). في ل: وتقتحموا.
(2). من ج وك وع.
(3). راجع ج 18 ص 177.
(4). راجع ج 7 ص 189.
(5). من ج وك وع.

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

عنادها، فإنه إذا أعطاها المراد يصير أسير شهواتها، ومنقادا بانقيادها. حكي أن أبا حازم كان يمر على الفاكهة فيشتهيها فيقول: موعدك الجنة. وقال آخرون: تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها ونشاطها بإدراك إرادتها. وقال آخرون: بل التوسط في ذلك أولى، لان في إعطائها ذلك مرة ومنعها أخرى جمع بين الأمرين، وذلك النصف من غير شين. وتقدم معنى الاعتداء والرزق في" البقرة" «1» والحمد لله.

[سورة المائدة (5): آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
فيه سبع وأربعون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) تقدم معنى اللغو في" البقرة" «2» ومعنى" فِي أَيْمانِكُمْ" أي من أيمانكم، والايمان جمع يمين. وقيل: ويمين فعيل من اليمن وهو البركة، سماها الله تعالى بذلك، لأنها تحفظ الحقوق. ويمين تذكر وتؤنث وتجمع أيمان وأيمن. قال زهير:
فتجمع أيمن منا ومنكم «3»

الثانية- واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس: سبب نزولها القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم، حلفوا على ذلك فلما نزلت" لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ" قالوا: كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية.
__________
(1). راجع ج 1 ص 177 في (الرزق) وص 432 (في الاعتداء) من الجزء نفسه.
(2). راجع ج 3 ص 99 وما بعدها. [.....]
(3). عجز البيت:
بمقسمة تمور بها الدماء
.

والمعنى على هذا القول، إذا أتيتم؟؟ باليمين ثم ألغيتموها- أي أسقطتم حكمها بالتكفير وكفرتم- فلا يؤاخذكم الله بذلك، وإنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه، أي فلم تكفروا، فبان بهذا أن الحلف لا يحرم شيئا. وهو دليل الشافعي على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو مثل قول القائل: استحللت شرب الخمر، فتقتضي الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لغوا في أنه لا يحرم، فقال:" لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ" أي بتحريم الحلال. وروي أن عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل. فقال: أعشيتم ضيفي؟ فقالوا: انتظرناك، فقال: لا والله لا آكله الليلة، فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل، وقال أيتامه: ونحن لا نأكل، فلما رأى ذلك أكل وأكلوا. ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال له:" أطعت الرحمن وعصيت الشيطان" فنزلت الآية. الثالثة- الايمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفارة فيهما. خرج الدارقطني في سننه، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا خلف بن هشام حدثنا عبثر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، قال: الايمان أربعة، يمينان يكفران ويمينان لا يكفران، فاليمينان اللذان يكفران فالرجل الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول والله لأفعلن كذا وكذا فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يكفران فالرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل، والرجل يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. قال ابن عبد البر: وذكر سفيان الثوري في (جامعه) وذكره المروزي عنه أيضا، قال سفيان: الايمان أربعة، يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل، أو يقول والله لأفعلن ثم لا يفعل، ويمينان لا يكفران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل، قال المروزي: أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان، وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما، فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقا يرى أنه على ما حلف عليه

فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال أحمد وأبو عبيد، وقال الشافعي لا إثم عليه وعليه الكفارة. قال المروزي: وليس قول الشافعي في هذا بالقوي. قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل هذا وكذا وقد فعل متعمدا للكذب فهو آثم ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء، مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد ابن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد. وكان الشافعي يقول يكفر، قال: وقد روي عن بعض التابعين مثل ] قول [ «1» الشافعي. قال المروزي: أميل إلى قول مالك وأحمد. قال: فأما يمين اللغو الذي اتفق عامة العلماء على أنها لغو فهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير منعقد لليمين ولا مريدها. قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة. الرابعة- قوله تعالى: (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) مخفف القاف من العقد، والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع، قال الشاعر «2»:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فاليمين المنعقدة منفعلة من العقد، وهي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل، أو ليفعلن فلا يفعل كما تقدم. فهذه التي يحلها الاستثناء والكفارة على ما يأتي. وقرى" عاقدتم" بألف بعد العين على وزن فاعل وذلك لا يكون إلا من اثنين في الأكثر، وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه، أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الايمان، لان عاقد قريب من معنى عاهد فعدي بحرف الجر، لما كان في معنى عاهد، وعاهد يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر، قال الله تعالى:" وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ" «3»] الفتح: 10] وهذا كما عديت" نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ" بإلى، وبابها أن تقول ناديت زيدا" وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ" «4»] مريم: 52] لكن لما كانت بمعنى دعوت عدي بإلى، قال الله تعالى:" وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ" «5»] فصلت: 33] ثم اتسع في قوله تعالى:" عاقدتم عليه الايمان" «6». فحذف حرف الجر، فوصل الفعل إلى المفعول فصار عاقدتموه،
__________
(1). في ج، ك، ع.
(2). البيت للحطيئة يمدح قوما عقدوا لجارهم عهدا فوفوا به ولم يخفروه. وقد تقدم شرحه بهامش ص 32 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 16 ص 277.
(4). راجع ج 11 ص 113.
(5). راجع ج 15 ص 359.
(6). كذا في الأصول إلا ز، ففيه: في قوله عاقدتم ... إلخ.

ثم حذفت الهاء كما حذفت من قوله تعالى:" فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «1»"] الحجر: 94]. أو يكون فاعل بمعنى فعل كما قال تعالى:" قاتَلَهُمُ اللَّهُ" «2»] التوبة: 30] أي قتلهم. وقد تأتي المفاعلة في كلام العرب من واحد بغير معنى (فاعلت) كقولهم: سافرت وظاهرت. وقرى عقدتم" بتشديد القاف. قال مجاهد: معناه تعمدتم أي قصدتم. وروي عن ابن عمر أن التشديد يقتضي التكرار فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر. وهذا يرده ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني [فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر. قال أبو عبيد: التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارا. وهذا قول خلاف الإجماع. روى نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين، فإذا وكد اليمين أعتق رقبة. قيل: لنافع ما معنى وكد اليمين؟ قال: أن يحلف على الشيء مرارا. الخامسة- اختلف في اليمين الغموس هل هي يمين منعقدة أم لا؟ فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها. وقال الشافعي: هي يمين منعقدة، لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى، وفيها الكفارة. والصحيح الأول. قال ابن المنذر: وهذا قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام، وهو قول الثوري واهل العراق، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة، قال أبو بكر: وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وقوله:" فليكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير" يدل على أن الكفارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله. وفي المسألة قول ثان وهو أن يكفر وإن أثم وعمد الحلف بالله كاذبا، هذا قول الشافعي. قال أبو بكر: ولا نعلم خبرا يدل على هذا القول،
__________
(1). راجع ج 10 ص 61.
(2). راجع ج 8 ص 116.

والكتاب والسنة دالان على القول الأول، قال الله تعالى:" وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ"»
] البقرة: 224] قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير، وأمره ألا يعتل بالله وليكفر عن يمينه. والاخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين. قال ابن العربي: الآية وردت بقسمين: لغو ومنعقدة، وخرجت على الغالب في أيمان الناس فدع ما بعدها يكون مائة قسم فإنه لم تعلق عليه كفارة. قلت: خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال:" الاشراك بالله" قال: ثم ماذا؟ قال:" عقوق الوالدين" قال: ثم ماذا؟ قال:] اليمين الغموس [قلت: وما اليمين الغموس؟ قال:] التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب [. وخرج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة [فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال:] وإن كان قضيبا من أراك [ومن حديث عبد الله بن مسعود، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] من حلف على يمين صبر «2» يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان [فنزلت" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا" «3»] آل عمران: 77] إلى آخر الآية ولم يذكر كفارة، فلو أوجبنا عليه كفارة لسقط جرمه، ولقى الله وهو عنه راض، ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه، وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب، واستحلال مال الغير، والاستخفاف باليمين بالله تعالى، والتهاون بها وتعظيم الدنيا؟ فأهان ما عظمه الله، وعظم ما حقره الله وحسبك. ولهذا قيل: إنما سميت اليمين الغموس غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار. السادسة- الحالف بألا يفعل على بر ما لم يفعل، فإن فعل حنث ولزمته الكفارة لوجود المخالفة منه، وكذلك إذا قال إن فعلت. وإذا حلف بأن ليفعلن فإنه في الحال على حنث لوجود المخالفة، فإن فعل بر، وكذلك إن قال إن لم أفعل.
__________
(1). راجع ج 3 ص 96.
(2). اليمين الصبر التي ألزم بها وأكره عليها. والصبر الإكراه، يقال: صبر الحاكم فلانا على يمين صبرا أي أكرهه.
(3). راجع ج 4 ص 119.

السابعة- قول الحالف: لأفعلن، وإن لم أفعل، بمنزلة الامر وقوله: لا أفعل، وإن فعلت، بمنزلة النهي. ففي الأول لا يبر حتى يفعل جميع المحلوف عليه: مثاله لآكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبر حتى يأكل جميعه: لان كل جزء منه محلوف عليه. فإن قال: والله لآكلن- مطلقا- فإنه يبر بأقل جزء مما يقع عليه الاسم، لإدخال ماهية الأكل في الوجود. وأما في النهي فإنه يحنث بأقل ما ينطلق عليه الاسم، لان مقتضاه ألا يدخل فرد من أفراد المنهي عنه في الوجود، فإن حلف ألا يدخل دارا فأدخل إحدى رجليه حنث، والدليل عليه أنا وجدنا الشارع غلظ جهة التحريم بأول الاسم في قوله تعالى:" وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ" «1»] النساء: 22]، فمن عقد على امرأة ولم يدخل بها حرمت على أبيه وابنه، ولم يكتف في جهة التحليل بأول الاسم فقال:] لا حتى تذوقي عسيلته [. الثامنة- المحلوف به هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى، كالرحمن والرحيم والسميع والعليم والحليم، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا، كعزته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته، لأنها يمين بقديم غير مخلوق، فكان الحالف بها كالحالف بالذات. روى الترمذي والنسائي وغيرهما أن جبريل عليه السلام لما نظر إلى الجنة ورجع إلى الله تعالى قال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، وكذلك قال في النار: وعزتك لا يسمع بها أحدا فيدخلها. وخرجا أيضا وغيرهما عن ابن عمر قال: كانت يمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] لا ومقلب القلوب [وفى رواية] لا ومصرف القلوب [وأجمع أهل العلم على أن من حلف فقال: والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة. قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق وأصحاب الرأي يقولون: من حلف باسم من أسماء الله وحنث فعليه الكفارة، وبه نقول ولا أعلم في ذلك خلافا. قلت: قد نقل (في باب ذكر الحلف بالقرآن)، وقال يعقوب: من حلف بالرحمن فحنث فلا كفارة عليه. قلت: والرحمن من أسمائه سبحانه مجمع عليه ولا خلاف فيه.
__________
(1). راجع ج 5 ص 103.

التاسعة- واختلفوا في وحق الله وعظمة الله وقدرة الله وعلم الله ولعمر الله وايم الله، فقال مالك: كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال الشافعي: في وحق الله وجلال الله وعظمة الله وقدرة الله، يمين إن نوى بها اليمين، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين، لأنه يحتمل وحق الله واجب وقدرته ماضية. وقال في أمانة الله: ليست بيمين، ولعمر الله وايم الله إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين. وقال أصحاب الرأي إذا قال: وعظمة الله وعزة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله فحنث فعليه الكفارة. وقال الحسن في وحق الله: ليست بيمين ولا كفارة فيها، وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه الرازي. وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست بيمين. وقال بعض أصحابه: هي يمين. وقال الطحاوي: ليست بيمين، وكذا إذا قال: وعلم الله لم يكن يمينا في قول أبي حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف فقال: يكون يمينا. قال ابن العربي: والذي أوقعه في ذلك أن العلم قد ينطلق على المعلوم وهو المحدث فلا يكون يمينا. وذهل عن أن القدرة تنطلق على المقدور، فكل كلام له في المقدور فهو حجتنا في المعلوم. قال ابن المنذر: وثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] وايم الله أن كان لخليقا للامارة [في قصة زيد وابنه أسامة. وكان ابن عباس يقول: وايم الله، وكذلك قال ابن عمر. وقال إسحاق: إذا أراد بايم الله يمينا كانت يمينا بالإرادة وعقد القلب. العاشرة- واختلفوا في الحلف بالقرآن، فقال ابن مسعود: عليه بكل آية يمين، وبه قال الحسن البصري وابن المبارك. وقال أحمد: ما أعلم شيئا يدفعه. وقال أبو عبيد: يكون يمينا واحدة. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه. وكان قتادة يحلف بالمصحف. وقال أحمد وإسحاق لا نكره ذلك. الحادية عشرة- لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد بن حنبل: إذا حلف بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انعقدت يمينه، لأنه حلف بما لا يتم الايمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله. وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله

عليه وسلم:] ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت [وهذا حصر في عدم الحلف بكل شي سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا. ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون [ثم ينتقض عليه بمن قال: وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه، وقد حلف بما لا يتم الايمان إلا به. الثانية عشرة- روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق [. وخرج النسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: كنا نذكر بعض الامر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى، فقال لي بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بئس ما قلت: وفي رواية قلت هجرا، فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له فقال:] قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد [. قال العلماء: فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيرا لتلك اللفظة، وتذكيرا من الغفلة، وإتماما للنعمة. وخص اللات بالذكر لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينها، وكذا من قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق فالقول فيه كالقول في اللات، لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة وهي من أكل المال بالباطل. الثالثة عشرة- قال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو
نصراني أو برئ من الإسلام أو من النبي أو من القرآن أو أشرك بالله أو أكفر بالله: إنها يمين تلزم فيها الكفارة، ولا تلزم فيما إذا قال: واليهودية والنصرانية والنبي والكعبة وإن كانت على صيغة الايمان. ومتمسكة ما رواه الدارقطني عن أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت: هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، وكل مال لها

في سبيل الله، وعليها مشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس وام سلمة فكلهم قال لها: أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما. وخرج أيضا عنه قال: قالت مولاتي لأفرقن بينك وبين امرأتك، وكل مال لها في رتاج الكعبة وهي يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية إن لم أفرق بينك وبين امرأتك، قال: فانطلقت إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت: إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي، فقالت انطلق إلى مولاتك فقل لها: إن هذا لا يحل لك، قال: فرجعت إليها، قال ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب فقال: ها هنا هاروت وماروت، فقالت: إني جعلت كل مال لي في رتاج الكعبة. قال: فمم تأكلين؟ قالت: وقلت أنا يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية، فقال: إن تهودت قتلت وإن تنصرت قتلت وإن تمجست قتلت، قالت: فما تأمرني؟ قال: تكفري عن يمينك، وتجمعين بين فتاك وفتاتك. وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال: أقسم بالله أنها يمين. واختلفوا إذا قال أقسم أو أشهد ليكون كذا وكذا ولم يقل بالله فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله، وإن لم يرد بالله لم تكن أيمانا تكفر. وقال أبو حنيفة والأوزاعي والحسن والنخعي: هي أيمان في الموضعين. وقال الشافعي: لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى، هذه رواية المزني عنه. وروى عنه الربيع مثل قول مالك. الرابعة عشرة- إذا قال: أقسمت عليك لتفعلن، فإن أراد سؤاله فلا كفارة فيه وليست بيمين، وإن أراد اليمين كان ما ذكرناه آنفا. الخامشة عشرة- من حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة كقوله: وخلق الله ورزقه وبيته لا شي عليه، لأنها أيمان غير جائزة، وحلف بغير الله تعالى. السادسة عشرة- إذا انعقدت اليمين حلتها الكفارة أو الاستثناء. وقال ابن الماجشون: الاستثناء بدل عن الكفارة وليست حلا لليمين. قال ابن القاسم: هي حل لليمين، وقال ابن العربي: وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح، وشرطه أن يكون متصلا منطوقا

به لفظا، لما رواه النسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك عن غير حنث [فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه. وقال محمد بن المواز: يكون الاستثناء مقترنا باليمين اعتقادا ولو بآخر حرف، قال: فإن فرغ منها واستثنى لم ينفعه ذلك، لان اليمين فرغت عارية من الاستثناء، فورودها بعده لا يؤثر كالتراخي، وهذا يرده الحديث ] من حلف فاستثنى [والفاء، للتعقيب وعليه جمهور أهل العلم. وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى ألا تنحل يمين ابتدئ عقدها وذلك باطل. وقال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا متى استثنى في نفسه تخصيص ما حلف عليه، فقال بعض أصحابنا: يصح استثناؤه وقد ظلم المحلوف له. وقال بعضهم: لا يصح حتى يسمع المحلوف له. وقال بعضهم: يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه وإن لم يسمع المحلوف له. قال ابن خويز منداد: وإنما قلنا يصح استثناؤه في نفسه، فلان الايمان تعتبر بالنيات، وإنما قلنا لا يصح ذلك حتى يحرك به لسانه وشفتيه، فإن من لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلما، والاستثناء من الكلام يقع بالكلام دون غيره، وإنما قلنا لا يصح بحال فلان ذلك حق للمحلوف له، وإنما يقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف بل كانت مستوفاة منه، وجب ألا يكون له فيها حكم. وقال ابن عباس: يدرك الاستثناء اليمين بعد سنة، وتابعه على ذلك أبو العالية والحسن وتعلق بقوله تعالى:" وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ" «1»] الفرقان: 68] الآية، فلما كان بعد
عام نزل" إِلَّا مَنْ تابَ"] مريم: 60]. وقال مجاهد: من قال بعد سنتين إن شاء الله أجزأه. وقال سعيد بن جبير: إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه. وقال طاوس: له أن يستثني ما دام في مجلسه. وقال قتادة: إن استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: يستثني ما دام في ذلك الامر. وقال عطاء: له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة. السابعة عشرة- قال ابن العربي: أما ما تعلق به ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها، لان الآيتين كانتا متصلتين في علم الله تعالى وفي لوحه، وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله
__________
(1). راجع ج 13 ص 75. [.....]

ذلك فيها، أما أنه يتركب عليها فرع حسن، وهو أن الحالف إذا قال والله لا دخلت الدار، وأنت طالق إن دخلت الدار، واستثنى في يمينه الأول إن شاء الله في قلبه، واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة أو سبب أو مشيئة أحد، ولم يظهر شيئا من الاستثناء إرهابا على المحلوف ] له [ «1»، فإن ذلك ينفعه ولا تنعقد اليمينان عليه، وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة «2»، فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء، وإنما يكون ذلك نافعا له إذا جاء مستفتيا. قلت: وجه الاستثناء أن الله تعالى أظهر الآية الاولى وأخفى الثانية، فكذلك الحالف إذا حلف إرهابا وأخفى الاستثناء. والله أعلم. قال ابن العربي: وكان أبو الفضل المراغي «3» يقرأ بمدينة السلام «4»، وكانت الكتب تأتي إليه من بلده، فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه، فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضا من الطلب وعزم على الرحيل، شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل، فقرأ فيها ما لو أن واحدا منها يقرؤه بعد وصوله ما تمكن بعده من تحصيل حرف من العلم، فحمد الله ورحل على دابة قماشه «5» وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان، وتقدمه الكري «6» بالدابة وأقام هو على فامي «7» يبتاع منه سفرته «8»، فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر: أما سمعت العالم يقول- يعني الواعظ- أن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة، لقد اشتغل بذلك بالي منذ سمعته فظللت فيه متفكرا، ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب:" وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ" «9»] ص: 44] وما الذي يمنعه من أن يقول: قل إن شاء الله! فلما سمعه يقول ذلك قال: بلد يكون فيه الفاميون بهذا الحظ من العلم وهذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة؟ لا أفعله أبدا، واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وأقام بها حتى مات.
__________
(1). الزيادة عن ابن العربي.
(2). في ع: النية فإن حضرته نية. إلخ.
(3). نسبة إلى المراغة، وهي بلدة مشهورة من بلاد أذربيجان.
(4). مدينة السلام بغداد وقيل: سميت بذلك لان دجلة يقال لها وادي السلام وقيل: سماها المنصور بذلك تفاؤلا بالسلامة. وتسمى أيضا بدار السلام على التشبيه بالجنة. (معجم البلدان).
(5). القماش: متاع البيت.
(6). الكرى: المستأجر.
(7). الفامي هاهنا الخباز.
(8). السفرة: طعام يتخذه المسافر.
(9). راجع ج 15 ص 212.

الثامنة عشرة- الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى، ولا خلاف في هذا. واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله، فقال الشافعي وأبو حنيفة: الاستثناء يقع في كل يمين كالطلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى- قال أبو عمر: ما أجمعوا عليه فهو الحق، وإنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله عز وجل لا في غير ذلك. التاسعة عشرة- قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ) اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث هل تجزئ أم لا؟- بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن وهو عندهم أولى- على ثلاثة أقوال: أحدها: يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزئ بوجه، وهي رواية أشهب عن مالك، وجه الجواز ما رواه أبو موسى الأشعري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) خرجه أبو داود، ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة، لقوله تعالى:" ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ" فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها، وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث. ووجه المنع ما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:] من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير) زاد النسائي (وليكفر عن يمينه [ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها، وكان معنى قوله تعالى:" إِذا حَلَفْتُمْ" أي إذا حلفتم وحنثتم. وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات. وقال الشافعي: تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة، ولا تجزئ بالصوم، لان عمل البدن لا يقوم قبل وقته. ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة، وهو القول الثالث. الموفية عشرين- ذكر الله سبحانه في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها، وعقب عند عدمها بالصيام، وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم،

ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير، قال ابن العربي: والذي عندي أنها تكون بحسب الحال، فإن علمت محتاجا فالطعام أفضل، لأنك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم، وكذلك الكسوة تليه، ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم المهم. الحادية والعشرون- قوله تعالى: (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) لا بد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج لهم، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه، لقوله تعالى:" وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ" «1»] الانعام: 14] وفي الحديث (أطعم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجد السدس)، ولأنه أحد نوعي الكفارة فلم يجز فيها إلا التمليك، أصله الكسوة. وقال أبو حنيفة: لو غداهم وعشاهم جاز، وهو اختيار ابن الماجشون من علمائنا، قال ابن الماجشون: إن التمكين من الطعام إطعام، قال الله تعالى:" وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً" «2»] الإنسان: 8] فبأي وجه أطعمه دخل في الآية. الثانية والعشرون- قوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قد تقدم في (البقرة) «3» أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين. ومنه الحديث ] خير الأمور أوسطها [. وخرج ابن ماجة، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة، فنزلت:" مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ". وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين. الثالثة والعشرون- الإطعام عند مالك مد لكل واحد من المساكين العشرة، إن كان بمدينة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبه قال الشافعي واهل المدينة. قال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر، ورأوا ذلك مجزئا عنهم، وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وبه قال عطاء بن أبي رباح. واختلف
__________
(1). راجع ص 396 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 19 ص 125.
(3). راجع ج 2 ص 153 وما بعدها.

إذا كان بغيرها، فقال ابن القاسم: يجزئه المد بكل مكان. وقال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف. وأشهب بمد وثلث، قال: وإن مدا وثلثا لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء. وقال أبو حنيفة: يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعا، على حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه قال: قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر، أو صاع من شعير عن كل رأس، أو صاع بر بين اثنين. وبه أخذ سفيان وابن المبارك، وروي عن علي وعمر وابن عمر وعائشة،] رضي الله عنهم [ «1» وبه قال سعيد بن المسيب، وهو قول عامة فقهاء العراق، لما رواه ابن عباس قال: كفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف صاع من بر] من أوسط ما تطعمون «2» أهليكم [، خرجه ابن ماجة في سننه. الرابعة والعشرون- لا يجوز أن يطعم غنيا ولا ذا رحم تلزمه نفقته، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته فقد قال مالك: لا يعجبني أن يطعمه، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه، فإن أطعم غنيا جاهلا بغناه ففي (المدونة) وغير كتاب لا يجزئ، وفي (الأسدية) أنه يجزئ. الخامسة والعشرون- ويخرج الرجل مما يأكل، قال ابن العربي: وقد زلت هنا جماعة من العلماء فقالوا: إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس، وهذا سهو بين، فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] صاعا من طعام صاعا من شعير [ففصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل، وهذا مما لا خفاء فيه. السادسة والعشرون- قال مالك: إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه. وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة، لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مسكين مدا. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة، يعني غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء، حتى يغديهم ويعشيهم، قال أبو عمر: وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار.
__________
(1). من ع.
(2). هذه الزيادة غير موجودة في ابن ماجة في هذا الحديث. [.....]

السابعة والعشرون- قال ابن حبيب: ولا يجزئ الخبز قفارا «1» بل يعطي معه إدامه زيتا أو كشكا أو كامخا «2» أو ما تيسر، قال ابن العربي: هذه زيادة ما أراها واجبة أما أنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر- نعم- واللحم، وأما تعيين الإدام للطعام فلا سبيل إليه، لان اللفظ لا يتضمنه. قلت: نزول الآية في الوسط يقتضي الخبز والزيت أو الخل، وما كان في معناه من الجبن والكشك كما قال ابن حبيب. والله أعلم. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [نعم الإدام الخل ] وقال الحسن البصري: إن أطعمهم خبزا ولحما، أو خبزا وزيتا مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه، وهو قول ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول، وروى ذلك عن انس ابن مالك. الثامنة والعشرون- لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد، وبه قال الشافعي. وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة، فمنهم من أجاز ذلك، وأنه إذا تعدد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يمنع من الذي دفعت إليه أولا، فإن اسم المسكين يتناوله. وقال آخرون: يجوز دفع ذلك إليه في أيام، وإن تعدد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين. وقال أبو حنيفة: يجزئه ذلك، لان المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم «3»، فلو دفع ذلك القدر. لواحد أجزأه. ودليلنا نص الله تعالى على العشرة فلا يجوز العدول عنهم، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا، فيتفرغون فيه لعبادة الله تبارك وتعالى ولدعائه، فيغفر للمكفر بسبب ذلك. والله أعلم. التاسعة والعشرون- قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ) الضمير على الصناعة النحوية عائد على (بِما) ويحتمل في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون مصدرية. أو يعود على أثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه.
__________
(1). خبز قفار: غير مأدوم مأخوذ من البلد الذي لا شي فيه.
(2). الكامخ: نوع من الأدم، معرب.
(3). في ع وك: يطعمهم.

الموفية ثلاثين- قوله تعالى:" أَهْلِيكُمْ" هو جمع أهل على السلامة. وقرا جعفر ابن محمد الصادق: (أهاليكم) وهذا جمع مكسر، قال أبو الفتح: أهال بمنزلة ليال واحدها أهلات وليلات، والعرب تقول: أهل وأهلة. قال الشاعر «1»:
وأهلة ود قد تبريت ودهم ... وأبليتهم في الجهد حمدي ونائلي
يقول: تعرضت لودهم، قاله ابن السكيت. الحادية والثلاثون- قوله تعالى: (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة واسوه. وقرا سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني: (أو كإسوتهم) يعني كإسوة أهلك. والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد، فأما في حق النساء فأقل ما يجزئهن فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار، وهكذا حكم الصغار. قال ابن القاسم في (العتبية): تكسى الصغيرة كسوة كبيرة، والصغير كسوة كبير، قياسا على الطعام. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي: أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد، وفي رواية أبي الفرج عن مالك، وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة: ما يستر جميع البدن، بناء على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك. وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: نعم الثوب التبان «2»، أسنده الطبري. وقال الحكم بن عتيبة تجزئ عمامة يلف بها رأسه، وهو قول الثوري. قال ابن العربي: وما كان أحرصني على أن يقال: إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد كما أن عليه طعاما يشبعه من الجوع فأقول به، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه، والله يفتح لي ولكم في المعرفة بعونه. قلت: قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة، فقال بعضهم: لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيا «3» به كالكساء والملحفة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء.
__________
(1). هو أبو الطمحان القيني: يقول: رب من هو أهل للود قد تعرضت له، وبذلت له في ذلك طاقتي من نائل. في التاج: بذلي ونائلي. وفي اللسان: في الحمد جهدي ونائلي.
(2). التبان (بالضم والتشديد): سراويل صغير مقدار شبر، يستر العورة المغلظة.
(3). في ج: يتردى به، وفي ع: يؤتزر به.

وروي عن أبى موسى الأشعري أنه أمر أن يكسى عنه ثوبين ثوبين «1»، وبه قال الحسن وابن سيرين وهذا معنى ما اختاره ابن العربي والله أعلم. الثانية والثلاثون- لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجزئ، وهو يقول: تجزئ القيمة في الزكاة فكيف في الكفارة! قال ابن العربي: وعمدته أن الغرض سد الخلة، ورفع الحاجة، فالقيمة تجزئ فيه. قلنا: إن نظرتم إلى سد الخلة فأين العبادة؟] وأين [ «2» نص القرآن على الأعيان الثلاثة، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع؟! الثالثة والعشرون- إذا دفع الكسوة إلى ذمي أو إلى عبد لم يجزه. وقال أبو حنيفة: يجزئه، لأنه مسكين يتناوله لفظ المسكنة، ويشتمل عليه عموم الآية. قلنا: هذا يخصه بأن يقول جزء من المال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز دفعه للكافر، أصله الزكاة، وقد اتفقنا على أنه لا يجوز دفعه للمرتد، فكل دليل خص به المرتد فهو دليلنا في الذمي. والعبد ليس بمسكين لاستغنائه بنفقة سيده فلا تدفع إليه كالغني. الرابعة والثلاثون- قوله تعالى: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) التحرير الإخراج من الرق، ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها. ومنه قول أم مريم:" إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً «3»"] آل عمران: 35] أي من شغوب الدنيا ونحوها. ومن ذلك قول الفرزدق بن غالب:
أبني غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال
أي حررتكم من الهجاء. وخص الرقبة من الإنسان، إذ هو العضو الذي يكون فيه الغل والتوثق غالبا من الحيوان، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها. الخامسة والثلاثون- لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك لغيره، ولا عتاقة بعضها، ولا عتق إلى أجل، ولا كتابة ولا تدبير، ولا تكون أم ولد ولا من يعتق عليه إذا ملكه، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضر بها في الاكتساب، سليمة غير معيبة،
__________
(1). أي ثوبان لكل مسكين.
(2). الزيادة عن ابن العربي.
(3). راجع ج 4 ص 65

خلافا لداود في تجويزه إعتاق المعيبة. وقال أبو حنيفة: يجوز عتق الكافرة، لان مطلق اللفظ يقتضيها. ودليلنا أنها قربة واجبة فلا يكون الكافر محلا لها كالزكاة، وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ. وإنما قلنا: لا يكون فيها شرك، لقوله تعالى:" فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ"] النساء: 92] وبعض الرقبة ليس برقبة. وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق، لان التحرير يقتضي ابتداء عتق دون تنجيز عتق مقدم. وإنما قلنا: سليمة، لقوله تعالى:" فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ" والإطلاق يقتضي تحرير رقبة كاملة والعمياء ناقصة. وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] ما من مسلم يعتق امرأ مسلما إلا كان فكاكه من النار كل عضو منه بعضو منها حتى الفرج بالفرج [وهذا نص. وقد روي في الأعور قولان في المذهب، كذلك في الأصم والخصي. السادسة والثلاثون- من أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف كانت الكفارة باقية عليه، بخلاف مخرج المال في الزكاة ليدفعه إلى الفقراء، أو ليشتري به رقبة فتلف، لم يكن عليه غيره لامتثال الامر. السابعة والثلاثون- اختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف، فقال الشافعي وأبو ثور: كفارات الايمان تخرج من رأس مال الميت. وقال أبو حنيفة: تكون في الثلث، وكذلك قال مالك إن أوصى بها. الثامنة والثلاثون- من حلف وهو موسر فلم يكفر حتى أعسر، أو حنث وهو معسر فلم يكفر حتى أيسر، أو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق، فالمراعاة في ذلك كله بوقت التكفير لا وقت الحنث. التاسعة والثلاثون- روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والله لان يلج أحدكم بيمينه في أهله «1» آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله) اللجاج في اليمين هو المضي على مقتضاه، وإن لزم من ذلك حرج ومشقة، وترك ما فيه منفعة عاجلة
__________
(1). (في أهله) أي في قطيعتهم كالحلف على ألا يكلمهم وذكر الأهل في هذا المقام للمبالغة. راجع شرح الحديث في هامش ص مسلم ط الآستانة ج 5 ص 88.

أو آجلة، فإن كان شي من ذلك فالأولى به تحنيث نفسه وفعل الكفارة، ولا يعتل باليمين كما ذكرناه في قوله تعالى:" وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ" «1»] البقرة: 224] وقال عليه السلام:] من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير [أي الذي هو أكثر خيرا. الموفية أربعين- روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] اليمين على نية المستحلف [قال العلماء: معناه أن من وجبت عليه يمين في حق وجب عليه فحلف وهو ينوي غيره لم تنفعه نيته، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين، وهو معنى قوله في الحديث الآخر:] يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك [. وروي ] يصدقك به صاحبك [خرجه مسلم أيضا. قال مالك: من حلف لطالبه في حق له عليه، واستثنى في يمينه، أو حرك لسانه أو شفتيه، أو تكلم به، لم ينفعه استثناؤه ذلك، لان النية نية المحلوف له، لان اليمين حق له، وإنما تقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم لا على اختيار الحالف، لأنها مستوفاة منه. هذا تحصيل مذهبه وقوله. الحادية والأربعون- قوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة، من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة بإجماع، فإذا عدم هذه الثلاثة الأشياء صام. والعدم يكون بوجهين أما بمغيب المال ] عنه [ «2» أو عدمه، فالأول أن يكون في بلد غير بلده فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه، فقيل: ينتظر إلى بلده، قال ابن العربي: وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام، لان الوجوب قد تقرر في الذمة] والشرط من [ «3» العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الامر، فليكفر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة، لقوله تعالى:" فَمَنْ لَمْ يَجِدْ". وقيل: من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد. وقيل: هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته، وليس عنده فضل يطعمه، وبه قال الشافعي واختاره الطبري، وهو مذهب مالك وأصحابه. وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم، قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إنه إن كان للحانث
__________
(1). راجع ج 3 ص 96.
(2). من ج وهـ وع وك.
(3). الزيادة عن ابن العربي.

فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه. وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد. وقال أحمد وإسحاق: إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه. وقال أبو عبيد: إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعياله وكسوة تكون لكفايتهم، ثم يكون بعد ذلك مالكا لقدر الكفارة فهو عندنا واجد. قال ابن المنذر: قول أبي عبيد حسن. الثانية والأربعون- قوله تعالى: قرأها ابن مسعود (متتابعات) فيقيد بها المطلق، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي واختاره المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار، واعتبارا بقراءة عبد الله. وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: يجزئه التفريق، لان التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما. الثالثة والأربعون- من أفطر في يوم من أيام الصيام ناسيا فقال مالك: عليه القضاء، وقال الشافعي: لا قضاء عليه، على ما تقدم بيانه في الصيام في (البقرة)»
. الرابعة والأربعون- هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق. واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حنث، فكان سفيان الثوري والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: ليس عليه إلا الصوم، لا يجزئه غير ذلك، واختلف فيه قول مالك، فحكى عنه ابن نافع أنه قال: لا يكفر العبد بالعتق، لأنه لا يكون له الولاء، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده، وأصوب ذلك أن يصوم. وحكى ابن القاسم عنه أن قال: إن أطعم أو كسا بإذن السيد فما هو بالبين، وفي قلبي منه شي. الخامسة والأربعون- قوله تعالى: (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) أي تغطية أيمانكم، وكفرت الشيء غطيته وسترته وقد تقدم. ولا خلاف أن هذه الكفارة في اليمين بالله تعالى، وقد ذهب بعض التابعين إلى أن كفارة اليمين فعل الخير الذي حلف في تركه.
__________
(1). راجع ج 2 ص 322، وما بعدها. [.....]

وترجم ابن ماجة في سننه (من قال كفارتها تركها) حدثنا علي بن محمد حدثنا عبد الله بن نمير عن حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من حلف في قطيعة رحم أو فيما لا يصلح فبره ألا يتم على ذلك [ «1» وأسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها [. قلت: ويعتضد هذا بقصة الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا يطعم الطعام، وحلفت امرأته ألا تطعمه حتى يطعمه، وحلف الضيف- أو الأضياف- ألا يطعمه أو لا يطعموه حتى يطعمه، فقال أبو بكر: كان هذا من الشيطان، فدعا بالطعام فأكل وأكلوا. خرجه البخاري، وزاد مسلم قال: فلما أصبح غدا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال يا رسول الله، بروا وحنثت، قال: فأخبره، قال:] بل أنت أبرهم وأخيرهم [قال: ولم تبلغني كفارة. السادسة والأربعون- واختلفوا في كفارة غير اليمين بالله عز وجل، فقال مالك: من حلف بصدقة ماله أخرج ثلثه. وقال الشافعي: عليه كفارة يمين، وبه قال إسحاق وأبو ثور، وروى عن عمر وعائشة رضي الله عنهما. وقال الشعبي وعطاء وطاوس: لا شي عليه. وأما اليمين بالمشي إلى مكة فعليه أن يفي به عند مالك وأبي حنيفة. وتجزئه كفارة يمين عند الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور. وقال ابن المسيب والقاسم بن محمد: لا شي عليه، قال ابن عبد البر: أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها يوجبون في اليمين بالمشي إلى مكة كفارة مثل كفارة اليمين بالله عز وجل، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء المسلمين. وقد أفتى به ابن القاسم ابنه عبد الصمد، وذكر له أنه قول الليث بن سعد. والمشهور عن ابن القاسم أنه لا كفارة عنده في المشي إلى مكة إلا بالمشي لمن قدر عليه، وهو قول مالك. وأما الحالف بالعتق فعليه عتق من حلف عليه بعتقه في قول مالك والشافعي وغيرهما. وروي
__________
(1). ظاهره أنه البر شرعا فلا حاجة معه إلى كفارة أخرى لكن الأحاديث المشهورة تدل على وجوب الكفارة، فالحديث إن صح يحمل على إنه بمنزلة البر في كونه مطلوبا شرعا. (هامش ابن ماجة).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)

عن ابن عمر وابن عباس وعائشة أنه يكفر كفارة يمين ولا يلزمه العتق- وقال عطاء: يتصدق بشيء. قال المهدوي: وأجمع من يعتمد على قوله من العلماء على أن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث. السابعة والأربعون- قوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أي بالبدار إلى ما لزمكم من الكفارة إذا حنثتم. وقيل: أي بترك الحلف، فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تقدم معنى (الشكر) و(لعل) في (البقرة) «1» والحمد لله.

[سورة المائدة (5): الآيات 90 الى 92]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
فيه سبع عشرة مسألة: الاولى: قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء، إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس، فكان نفى «2» منها في نفوس كثير من المؤمنين. قال ابن عطية: ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير، واخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم. وأما الخمر فكانت لم تحرم بعد، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد، وكانت وقعة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة.
__________
(1). راجع ج 1 ص 226 وما بعدها في (لعل) وص 397 وما بعدها في (الشكر).
(2). نفى: بقية.

وتقدم اشتقاقها «1». وأما" الْمَيْسِرُ" فقد مضى في" البقرة" «2» القول فيه. وأما الأنصاب فقيل: هي الأصنام. وقيل: هي النرد والشطرنج، ويأتي بيانهما في سورة" يونس" عند قوله تعالى:" فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ" [يونس: 32] «3». وأما الأزلام فهي القداح، وقد مضى في أول السورة القول فيها. ويقال كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام، يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئا، فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره. الثانية- تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة، فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ" «4»] البقرة: 219] أي في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية" لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى " [النساء: 43] «5» فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ" الآية- فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئا أشد من الخمر. وقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب، فإنه ذكر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها وقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآيات، فقال عمر: انتهينا انتهينا. وقد مضى في" البقرة" «6» و" النساء" «7». وروى أبو داود عن ابن عباس قال:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى "] النساء: 43]، و" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ"] البقرة: 219] نسختها التي في المائدة" إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ". وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت في آيات من القرآن، وفية قال: وأتيت على نفر من الأنصار، فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرا،
__________
(1). راجع ج 3 ص 52- 51.
(2). راجع ج 3 ص 52- 51.
(3). راجع ج 8 ص 335.
(4). راجع ج 3 ص 52- 51.
(5). راجع ج 5 ص 191.
(6). راجع ج 3 ص 52- 51.
(7). راجع ج 5 ص 191.

وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حش- والحش البستان- فإذا رأس جزور مشوي [عندهم ] «1» وزق من خمر، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فجرح أنفي- وفى رواية ففزره «2» وكان أنف سعد مفزورا- فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فأنزل الله تعالى في- يعني نفسه شأن الخمر-" إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ". الثالثة- هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقر عليه، وهذا ما لا خلاف فيه، يدل عليه آية النساء" لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى "] النساء: 43] على ما تقدم. وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر؟ حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما وجب أسنمتهما، فأخبر علي بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوقيره وتعزيره، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر، ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ثمل، ثم إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر على حمزة ولا عنفه، لا في حال سكره ولا بعد ذلك، بل رجع لما قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لابي على عقبيه القهقري وخرج عنه. وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه فإنهم قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة، لان الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، واصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه. والله أعلم. الرابعة- قوله تعالى:" رِجْسٌ" قال ابن عباس في هذه الآية: (رِجْسٌ) سخط وقد يقال للنتن والعذرة والأقذار رجس. والرجز بالزاي العذاب لا غير، والركس العذرة
__________
(1). الزيادة عن (صحيح مسلم).
(2). فزره: شقه.

لا غير. والرجس يقال للأمرين. ومعنى" مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ" أي بحمله عليه وتزيينه. وقيل: هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه حتى اقتدى به فيها. الخامسة- قوله تعالى:" فَاجْتَنِبُوهُ" يريد أبعدوه واجعلوه ناحية، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الامر مع نصوص الأحاديث وإجماع الامة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة" المائدة" نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى:" قُلْ لا أَجِدُ" «1» وغيرها من الآي خبرا، وفي الخمر نهيا وزجرا، وهو أقوى التحريم وأوكده. روى ابن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم إلى بعض، وقالوا حرمت الخمر، وجعلت عدلا «2» للشرك، يعني أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شرك. ثم علق" لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب. والله أعلم. السادسة- فهم الجمهور من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والامر باجتنابها، الحكم بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها. وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة، قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه كما نهى عن التخلي في الطرق. والجواب، أن الصحابة فعلت ذلك، لأنه لم يكن لهم سروب «3» ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور. وأيضا فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا
__________
(1). راجع ج 7 ص 115.
(2). عدل: مثل ونظير. [.....]
(3). السرب: حفيرة تحت الأرض.

يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها- هذا- مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق «1» المدينة، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك. والله أعلم. فإن قيل: التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس، قلنا: قوله تعالى:" رِجْسٌ" يدل على نجاستها، فإن الرجس في اللسان النجاسة، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليلة، فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة. وسيأتي في سورة" الحج" «2» ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى. السابعة- قوله:" فَاجْتَنِبُوهُ" يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك. وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب. وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» راوية خمر، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هل علمت أن الله حرمها [قال: لا، قال: فسار رجلا «4» فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] بم ساررته [قال: أمرته ببيعها، فقال:] إن الذي حرم شربها حرم بيعها [، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها، فهذا حديث يدل على ما ذكرناه، إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبينه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال في الشاة الميتة.] هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به [الحديث. الثامنة- أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله، ولذلك- والله أعلم- كره مالك بيع زبل الدواب، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة، والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك.
__________
(1). في ج وع وك. وفي ا: طريق.
(2). راجع ج 12 ص 53.
(3). الرواية: القربة التي فيها الخمر سماها مرة برواية ومرة بمزادة وهما بمعنى. وربما قالوا مزاد بغير (هاء) كما وقع في بعض النسخ.
(4). في ج وع وك: إنسانا.

التاسعة- ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لاحد، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدع الرجل أن يفتح المزادة «1» حتى يذهب ما فيها، لان الخل مال وقد نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا على مسلم أنه أتلف له مالا. وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم، واستؤذن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تخليلها فقال:] لا [ونهى عن ذلك. ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي، وإليه مال سحنون بن سعيد. وقال آخرون: لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي «2» أو غيرها وهو قول الثوري والأوزاعي والليث بن سعد والكوفيين. وقال أبو حنيفة: إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى وتحولت عن حال الخمر جاز. وخالفه محمد بن الحسن في المربى وقال: لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده. قال أبو عمر: احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء، وهو يروي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي أنه كان يأكل المربى منه، ويقول: دبغته الشمس والملح. وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر، وليس في رأي أحد حجة مع السنة. وبالله التوفيق. وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام عند نزول تحريمها، لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك. وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والامر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خللت. وروى أشهب عن مالك قال: إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله، وهذه الرواية ذكرها ابن عبد الحكم في كتابه. والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلا ولا يبيعها، ولكن ليهريقها. العاشرة- لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال. وهو قول عمر بن الخطاب وقبيصة وابن شهاب وربيعة واحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه.
__________
(1). في ب: المزادتين، ما فيهما.
(2). أي بممارسة آدمي وعمله.

الحادية عشرة- ذكر ابن خويز منداد أنها تملك، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغصص، ويطفأ بها حريق، وهذا نقل لا يعرف لمالك، بل يخرج هذا على قول من يرى أنها طاهرة. ولو جاز ملكها لما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإراقتها. وأيضا فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها. والحمد لله. الثانية عشرة- هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قمارا أو غير قمار، لان الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ" الآية. ثم قال:" إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" الآية. فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله. فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى، قيل له: قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس. ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني. وأيضا فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر ثم كان حراما مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر وإن كان لا يسكر. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر «1»، فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر فتصد بالاسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة. والله أعلم. الثالثة عشرة- مهدي الراوية «2» يدل على أنه كان لم يبلغه الناسخ، وكان متمسكا بالإباحة المتقدمة، فكان ذلك دليلا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ- كما يقوله بعض الأصوليين- بل ببلوغه كما دل عليه هذا الحديث، وهو الصحيح، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يوبخه،
__________
(1). في ج وع وك: مقام.
(2). كذا في ج وع وى وا وهـ وفي ك: هذه الرواية تدل. إلخ. ولعل أصل العبارة: حديث مهدي الراوية ... إلخ.

بل بين له الحكم، ولأنه مخاطب بالعمل بالأول بحيث لو تركه عصى بلا خلاف، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود، وذلك كما وقع لأهل قباء «1»، إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة. وقد تقدم في سورة (البقرة) «2» والحمد لله، وتقدم فيها ذكر الخمر واشتقاقها والميسر «3». وقد مضى في صدر هذه السورة القول في الأنصاب «4» والأزلام. والحمد لله. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ). الآية. أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء «5» بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منها، ونهانا عنها. روي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل بعضهم «6» يقول: لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا، فحدثت بينهم الضغائن، فأنزل الله:" إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" الآية. الخامسة عشرة- قوله تعالى: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) يقول: إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلط عليكم كما فعل بعلي، وروي: بعبد الرحمن كما تقدم في" النساء" «7». وقال عبيد الله بن عمر: سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر؟ وعن النرد أهو ميسر؟ فقال: كل ما صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. قال أبو عبيد: تأول قوله تعالى:" وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ". السادسة عشرة- قوله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال: انتهينا. وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألا إن الخمر قد حرمت، فكسرت الدنان، وأريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة.
__________
(1). قباء قرية على بعد ميلين من المدينة.
(2). راجع ج 2 ص 148 وما بعدها.
(3). راجع ج ص 51 وما بعدها.
(4). راجع ص 57 وما بعدها من هذا الجزء.
(5). في ج وك: بيننا. [.....]
(6). في ج وع: الرجل.
(7). راجع ج 5 ص 200.

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

السابعة عشرة- قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال للأمر، وكف عن المنهي عنه، وحسن عطف" وَأَطِيعُوا اللَّهَ" لما كان في الكلام المتقدم معنى انتهوا. وكرر" وَأَطِيعُوا" في ذكر الرسول تأكيدا. ثم حذر في مخالفة الامر، وتوعد من تولى بعذاب الآخرة، فقال:" فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ" أي خالفتم (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) في تحريم ما أمر بتحريمه وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع.

[سورة المائدة (5): آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
فيه تسع مسائل: الاولى- قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك إنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر؟ ونحو هذا- فنزلت الآية. روى البخاري عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر «1» مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت! قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت، فقال: اذهب فأهرقها- وكان الخمر من الفضيخ»
- قال: فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله عز وجل:" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الآية. الثانية- هذه الآية وهذا الحديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الاولى فنزلت" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" «3»] البقرة: 143]. ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه
__________
(1). أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2). الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار، والمفضوخ هو المشدوخ.
(3). راجع ج 2 ص 157.

شي، لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح، لان المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع، وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم، فرفع الله ذلك التوهم بقوله:" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الآية. الثالثة- هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر، وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه، لان الصحابة] رحمهم «1» الله [هم أهل اللسان، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره، وقد قال الحكمي:
لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة
ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النسائي: أخبرنا القاسم بن زكريا، أخبرنا عبيد الله عن شيبان عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: [الزبيب والتمر هو الخمر]. وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه- وحسبك به عالما باللسان والشرع- خطب على منبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا أيها الناس، ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر، يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة، وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه. وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يسمى نبيذا، وقال الشاعر:
تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وصرت حليفا لمن عابه
شراب يدنس عرض الفتى ... ويفتح للشر أبوابه
__________
(1). من ب وج وك.

الرابعة- قال الامام أبو عبد الله المازري: ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا نيئا، كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأن من شرب شيئا من ذلك حد، فأما المستخرج من العنب المسكر الني فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره ولو نقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه. وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الإسكار، وفي المطبوخ المستخرج من العنب، فذهب قوم من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب، ونقيع الزبيب الني، فأما المطبوخ منهما، والني والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الإسكار. وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل، فيرى أن سلافة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها، وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسته النار مسا قليلا من غير اعتبار بحد، وأما الني منه فحرام، ولكنه مع تحريمه إياه لا يوجب الحد فيه، وهذا كله ما لم يقع الإسكار، فإن وقع الإسكار استوى الجميع. قال شيخنا الفقيه الامام أبو العباس ] أحمد [ «1» رضي الله عنه: العجب من المخالفين في هذه المسألة، فإنهم قالوا: إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره، وهو مجمع عليه، فإذا قيل لهم: فلم حرم القليل من الخمر وليس مذهبا للعقل؟ فلا بد أن يقال: لأنه داعية إلى الكثير، أو للتعبد، فحينئذ يقال لهم: كل ما قدرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ فيحرم أيضا، إذ لا فارق بينهما إلا مجرد الاسم إذا سلم ذلك. وهذا القياس هو أرفع أنواع القياس، لان الفرع فيه مساو للأصل في جميع أوصافه، وهذا كما يقوله في قياس الامة على العبد في سراية العتق. ثم العجب من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله! فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة وإجماع صدور الامة، لأحاديث لا يصح شي منها على ما قد بين عللها المحدثون في كتبهم، وليس في الصحيح شي منها. وسيأتي في سورة" النحل" «2» تمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
__________
(1). من ك.
(2). راجع ج 10 ص 127.

الخامسة: قوله تعالى:" طَعِمُوا" أصل هذه اللفظة في الأكل، يقال: طعم الطعام وشرب الشراب، لكن قد تجوز في ذلك فيقال: لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما، قال الشاعر:
نعاما بوجرة «1» صفر الخدو ... د لا تطعم النوم إلا صياما
وقد تقدم القول في" البقرة" «2» في قوله تعالى:" وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ"] البقرة: 249] بما فيه الكفاية. السادسة- قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تناول المباح والشهوات، والانتفاع بكل لذيذ من مطعم ومشرب ومنكح وإن بولغ فيه وتنوهي في ثمنه. وهذه الآية نظير قوله تعالى:" لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ"] المائدة: 87] ونظير قوله:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ" «3»] الأعراف: 32]. السابعة- قوله تعالى: (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. فيه أربعة أقوال: الأول: أنه ليس في ذكر التقوى تكرار، والمعنى اتقوا شربها، وآمنوا بتحريمها، والمعنى الثاني دام اتقاؤهم وإيمانهم، والثالث على معنى الإحسان إلى الاتقاء. والثاني: اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم «4»، وأحسنوا العمل. الثالث- اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، ومعنى الثالث ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تنفلوا. وقال محمد بن جرير: الاتقاء «5» الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول، والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني، الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان، والتقرب بالنوافل.
__________
(1). وجرة: موضع بين مكة والبصرة، يقول الشاعر: هي صائمة منه لا تطعمه، وروى في اللسان (لا تطعم الماء) وقال: وذلك لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه. وقبله:
فأما بنو عامر بالنار ... غداة لقونا فكانوا نعاما

(2). راجع ج 3 ص 252.
(3). راجع ج 7 ص 195.
(4). في ع: أعمارهم.
(5). لعل قول ابن جرير هو الرابع.

الثامنة- قوله تعالى: (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات، فضله بأجر الإحسان. التاسعة- قد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضى الله عنهم، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمر «1». وكان ختن «2» عمر بن الخطاب، خال عبد الله وحفصة، وولاه عمر بن الخطاب على البحرين، ثم عزله بشهادة الجارود- سيد عبد القيس- عليه بشرب الخمر. روى الدارقطني قال حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المصري حدثنا يحيى بن أيوب العلاف حدثني سعيد ابن عفير، حدثني يحيى بن فليح بن سليمان، قال حدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس: أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين حتى أتى برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد، فقال لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله! فقال عمر: وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟ فقال له: إن الله تعالى يقول في كتابه:" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الآية. فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدرا واحدا والخندق والمشاهد] كلها [ «3»، فقال عمر: ألا تردون عليه ما يقول، فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا لمن غبر وحجة على الناس، لان الله تعالى يقول:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ" الآية، ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الآية، فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر، فقال عمر: صدقت ماذا ترون؟ فقال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا
__________
(1). عمر: عاش زمانا طويلا. [.....]
(2). الختن (بالتحريك): الصهر، أو كل ما كان من قبل المرأة كالأب والأخ.
(3). من ع.

هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة. وذكر الحميدي عن أبي بكر البرقاني «1» عن ابن عباس قال: لما قدم الجارود من البحرين قال: يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا، وإني إذا رأيت حقا من حقوق الله حق علي أن أرفعه إليك، فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ فقال: أبو هريرة، فدعا عمر أبا هريرة فقال: علام تشهد يا أبا هريرة؟ فقال: لم أره حين شرب، ورأيته سكران يقي، فقال عمر: لقد تنطعت «2» في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر، فقال: أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر للجارود: أشهيد أنت أم خصم؟ فقال الجارود: أنا شهيد، قال: قد كنت أديت الشهادة، ثم قال لعمر: إني أنشدك الله! فقال عمر: أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك، فقال الجارود: أما والله ما ذلك بالحق، أن يشرب ابن عمك وتسوءني! فأوعده عمر، فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير المؤمنين إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله، فأقامت هند على زوجها الشهادة، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك، فقال قدامة: والله لو شربت- كما يقولون- ما كان لك أن تجلدني يا عمر. قال: ولم يا قدامة؟ قال: لان الله سبحانه يقول:" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الآية إلى" الْمُحْسِنِينَ". فقال عمر: أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على القوم فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا «3»، فسكت عمر عن جلده ثم أصبح يوما فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعا، فقال عمر: إنه والله لان يلقى الله تحت السوط، أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي! والله لأجلدنه، ائتوني بسوط، فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم: أخذتك دقرارة «4» أهلك، ائتوني بسوط غير هذا. قال: فجاءه أسلم بسوط تام، فأمر عمر بقدامة فجلد،
__________
(1). البرقاني (بفتح الموحدة وسكون الراء): هذه النسبة إلى قرية كانت بنواحي خوارزم وخربت، وصارت مزرعة. (الأنساب) للسمعاني.
(2). تنطع في الكلام: تعمق وغالى.
(3). وجع: مريض.
(4). الدقرارة (واحدة الدقارير): وهي الأباطيل وعادات السوء، أراد أن عادة السوء التي هي عادة قومك، وهي العدول عن الحق والعميل بالباطل (؟؟؟؟) وعرضت لك فعملت بها، وكان أسلم عبدا بجاويا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

فغاضب قدامة عمر وهجره، فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا عن حجهم ونزل عمر بالسقيا «1» ونام بها فلما استيقظ عمر قال: عجلوا علي بقدامة، انطلقوا فأتوني به، فوالله لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال: سالم قدامة فإنه أخوك، فلما جاءوا قدامة أبى أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له، فكان أول صلحهما. قال أيوب ابن أبي تميمة: لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره. قال ابن العربي: فهذا يدلك على تأويل الآية، وما ذكر فيه عن ابن عباس من حديث الدارقطني، وعمر في حديث البرقاني وهو صحيح، وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره ما حد على الخمر أحد، فكان هذا من أفسد تأويل، وقد خفي على قدامة، وعرفه من وفقه الله كعمر وابن عباس رضي الله عنهما، قال الشاعر:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه «2» إلا بكيت على عمر
وروي عن علي ] رضي الله «3» عنه [أن قوما شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية، فأجمع علي وعمر على أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا، ذكره الكيا الطبري.

[سورة المائدة (5): آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
فيه ثمان مسائل الاولى: قوله تعالى:" لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ" أي ليختبرنكم، والابتلاء الاختبار. وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم، مستعملا جدا، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام والحرم، كما ابتلى بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت. وقيل: إنها نزلت عام الحديبية، أحرم بعض الناس مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض
__________
(1). السقيا (بالضم): موضع بين المدينة ووادي الصفراء.
(2). الشجو: الهم والحزن.
(3). من ع.

صيد اختلف فيه أحوالهم وأفعالهم، واشتبهت أحكامه عليهم، فأنزل الله هذه الآية بيانا لأحكام أحوالهم وأفعالهم، ومحظورات حجهم وعمرتهم. الثانية- اختلف العلماء من المخاطب بهذه الآية على قولين: أحدهما- أنهم المحلون، قاله مالك. الثاني: أنهم المحرمون قاله ابن عباس، وتعلق بقوله تعالى:" لَيَبْلُوَنَّكُمُ" فإن تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم، فإن التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد، وما شرع له من وصفه في كيفية الاصطياد. والصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس محلهم ومحرمهم، لقوله تعالى:" لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ" أي: ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة. الثالثة- قوله تعالى:" بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ" يريد ببعض الصيد، فمن للتبعيض، وهو صيد البر خاصة، ولم يعم الصيد كله لان للبحر صيدا، قال الطبري وغيره. وأراد بالصيد المصيد، لقوله:" تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ". الرابعة- قوله تعالى:" تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" بيان لحكم صغار الصيد وكباره. وقرا ابن وثاب والنخعي:" يناله" بالياء منقوطة من تحت. قال مجاهد: الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر، والرماح تنال كبار الصيد. وقال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" وكل شي يناله الإنسان بيده أو برمحه أو بشيء من سلاحه فقتله فهو صيد كما قال الله تعالى. الخامسة- خص الله تعالى الأيدي بالذكر لأنها عظم «1» التصرف في الاصطياد، وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه، وقد مضى القول فيما يصاد به من الجوارح والسهام في أول السورة «2» بما فيه الكفاية والحمد لله.
__________
(1). أي معظمه.
(2). راجع ص 65 فما بعد من هذا الجزء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

السادسة- ما وقع في الفخ والحبالة فلربها، فإن ألجأ الصيد إليها أحد ولولاها لم يتهيأ له أخذه فربها فيه شريكه. وما وقع في الجبح «1» المنصوب في الجبل من ذباب النحل فهو كالحبالة والفخ، وحمام الابرجة ترد على أربابها إن أستطيع ذلك، وكذلك نحل الجباح، وقد روي عن مالك. وقال بعض أصحابه: إنه ليس على من حصل الحمام أو النحل عنده أن يرده. ولو ألجأت الكلاب صيدا فدخل في بيت أحد أو داره فهو للصائد مرسل الكلاب دون صاحب البيت، ولو دخل في البيت من غير اضطرار الكلاب له فهو لرب البيت. السابعة- احتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية، لان المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا، وهو قول أبي حنيفة. الثامنة- كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه، لقوله تعالى:" تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" يعني أهل الايمان، لقوله تعالى في صدر الآية:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فخرج عنهم أهل الكتاب. وخالفه جمهور أهل العلم، لقوله تعالى:" وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ"] المائدة: 94] وهو عندهم مثل ذبائحهم. وأجاب علماؤنا بأن الآية إنما تضمنت أكل طعامهم، والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه. قلت: هذا بناء على أن الصيد ليس مشروعا عندهم فلا يكون من طعامهم، فيسقط عنا هذا الإلزام، فأما إن كان مشروعا عندهم في دينهم فيلزمنا أكله لتناول اللفظ له، فإنه من طعامهم. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 95]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)
__________
(1). الجبح (بجيم مثلثة وموحدة ساكنة): خلية العسل ويجمع على (أجبح وجبوح وجباح).

فيه ثلاثون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ" الآية. وروي أن أبا اليسر واسمه عمرو بن مالك الأنصاري «1»- كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه" لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ". الثانية- قوله تعالى: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) القتل هو كل فعل يفيت الروح، وهو أنواع: منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه، فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مفيتا للروح. الثالثة- من قتل صيدا أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: عليه جزاء ما أكل، يعني قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شي عليه سوى الاستغفار، لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتة أخرى، ولهذا لو أكلها محرم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار. وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه، لان قتله كان من محظورات الإحرام، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود- محظور إحرامه- موجبا عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى. الرابعة- لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد ذكاة، وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الانعام، فأفاد مقصوده من حل الأكل، أصله ذبح الحلال. قلنا: قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد، إذ الأهلية لا تستفاد
__________
(1). كذا بالأصل، واسمه في (التهذيب) وغيره: كعب بن عمرو ... إلخ.

عقلا، وإنما يفيدها الشرع، وذلك بإذنه في الذبح، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح، والمحرم منهي عن ذبح الصيد، لقوله:" لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ" فقد انتفت الأهلية بالنهي. وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله، وإنما يأكل منه غيره عندكم، فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره، لان الفرع تبع للأصل في أحكامه، فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله. الخامسة- قوله تعالى:" الصَّيْدَ" مصدر عومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً"] المائدة: 96] فأباح صيد البحر إباحة مطلقة، على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى. السادسة- اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه، فقال مالك: كل شي لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه. قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها، وهي مثل فراخ الغربان. ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الأغلب، مثل الأسد والذئب والنمر والفهد، وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة. قال إسماعيل: إنما ذلك لقوله عليه السلام:] خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم [الحديث، فسماهن فساقا، ووصفهن بأفعالهن، لان الفاسق فاعل [للفسق ] «1»، والصغار لا فعل لهن، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقر، فلا تدخل في هذا النعت. قال [القاضي ] «2» إسماعيل: الكلب العقور مما يعظم ضرره على الناس. قال: ومن ذلك الحية والعقرب، لأنه يخاف منهما، وكذلك الحدأة والغراب، لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس. قال ابن بكير: إنما أذن في قتل العقرب لأنها ذات حمة «3»، وفي الفأرة لقرضها السقاء «4» والحذاء اللذين بهما قوام المسافر. وفي الغراب
__________
(1). من ك. [.....]
(2). من ك.
(3). الحمة: السم أو الإبرة تضرب بها العقرب والزنبور ونحو ذلك.
(4). السقاء: القربة.

لوقوعه على الظهر «1» ونقبه عن لحومها، وقد روي عن مالك أنه قال: لا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا. قال ] القاضي [ «2» إسماعيل: واختلف في الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال: ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب، وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي. قال: فإذا عرض الزنبور لاحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شي في قتله، وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور. وقال مالك: يطعم قاتله شيئا، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه. وقال أصحاب الرأي: لا شي على قاتل هذه كلها. وقال أبو حنيفة: لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب العقور والذئب خاصة، سواء ابتدأه أو ابتدأهما، وإن قتل غيره من السباع فداه. قال: فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شي عليه، قال: ولا شي عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحدأة، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر، وبه قال الأوزاعي والثوري والحسن، واحتجوا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خص دواب بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها، فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شي فيدخل في معناها. قلت: العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله! وقال زفر ابن الهذيل: لا يقتل إلا الذئب وحده، ومن قتل غيره وهو محرم فعليه الفدية، سواء ابتدأه أو لم يبتدئه، لأنه عجماء فكان فعله هدرا، وهذا رد للحديث ومخالفة له. وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله، وصغار ذلك وكباره سواء، إلا السمع وهو المتولد بين الذئب والضبع، قال: وليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم «3» وما لا يؤكل لحمه شي، لان هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً"] المائدة: 96] فدل أن الصيد
__________
(1). الظهر: الإبل الذاتي يحمل عليها ويركب.
(2). من ك.
(3). الحلم- بالتحريك- يجمع (الحلمة) وهي الصغيرة من القردان. وقيل: الضخم منها.

الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا، حكى عنه هذه الجملة المزني والربيع، فإن قيل: فلم تفدى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل؟ قيل له: ليس تفدى إلا على ما يفدى به الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه، لان في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته، فكأنه أماط بعض شعره، فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي، قاله أبو عمر. السابعة- روى الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور). اللفظ للبخاري، وبه قال أحمد وإسحاق. وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:] خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا [. وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا: لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة، لأنه تقييد مطلق. وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ويرمي الغراب ولا يقتله [. وبه قال مجاهد. وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر، والله أعلم. وعند أبي داود والترمذي: والسبع العادي، وهذا تنبيه على العلة. الثامنة- قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عام في النوعين من الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، يقال: رجل حرام وامرأة حرام، وجمع ذلك حرم، كقولهم: قذال وقذل. وأحرم الرجل دخل في الحرم، كما يقال: أسهل دخل في السهل. وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالاشتراك لا بالعموم. يقال: رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحرم أو في الحرم، أو تلبس بالإحرام، إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف، قاله ابن العربي. التاسعة- حرم المكان حرمان، حرم المدينة وحرم مكة- وزاد الشافعي الطائف، فلا يجوز عنده قطع شجره، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه فأما حرم

المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لاحد ولا قطع الشجر كحرم مكة، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما. وقال ابن أبي ذئب: عليه الجزاء. وقال سعد: جزاؤه أخذ سلبه، وروي عن الشافعي. وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرم، وكذلك قطع شجرها. واحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:] من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سلبه [. واخذ سعد سلب من فعل ذلك. قال: وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ. واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس- ما فعل النفير، فلم ينكر صيده وإمساكه- وهذا كله لا حجة فيه. أما الحديث الأول فليس بالقوي، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرم ليس عليه عقوبة في الدنيا. وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم. وكذلك حديث عائشة، أنه كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربض، فلم يترمرم «1» كراهية أن يؤذيه. ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] ما بين لابتيها «2» حرام [فقول أبي هريرة ما ذعرتها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة. وكذلك نزع زيد بن ثابت النهس- وهو طائر- من يد شرحبيل بن سعد كان صاده بالمدينة، دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تحريم صيد المدينة، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملك ما يصطاد. ومتعلق ابن أبي ذئب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح:] اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى «3» خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها [ولأنه
حرم منع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة. قال القاضي عبد الوهاب: وهذا قول أقيس عندي
__________
(1). أي سكن ولم يتحرك.
(2). لابتا المدينة هما حرتان يكتنفانها.
(3). الخلي: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع.

على أصولنا، لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام. ومن حجة مالك والشافعي في ألا يحكم عليه بجزاء ولا أخذ سلب- في المشهور من قول الشافعي- عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح:] المدينة حرم ما بين عير إلى ثور «1» فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا [ «2» فأرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوعيد الشديد ولم يذكر كفارة. وأما ما ذكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به، لما روى عنه في الصحيح أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا- أو يخبطه- فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى أن يرد عليهم، فقوله: (نفلنيه) ظاهره الخصوص. والله أعلم. العاشرة- قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ والناسي، والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام. والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: الأول- ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا. الثاني: أن قوله:" مُتَعَمِّداً" خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة. الثالث- أنه لا شي على المخطئ والناسي، وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، وروي عن ابن عباس وسعيد ابن جبير، وبه قال طاوس وأبو ثور، وهو قول داود. وتعلق أحمد بأن قال: لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر، دل على أن غيره بخلافه. وزاد بأن قال: الأصل براءة الذمة فمن
__________
(1). عير جبل بناحية المدينة، أما ثور فيرى بعض أهل الحديث أن ذكره هنا وهم من الراوي، وإنما هو جبل بمكة، والصحيح (من عير إلى أحد) وهي رواية قليلة. وقدر بعض: حرم المدينة مقدار ما بين عير وثور. وفي (النووي) قال القاضي: أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا لأنهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ.
(2). لا يقبل منه صرف ولا عدل: الصرف التوبة والعدل الفدية. وقيل: الصرف النافلة والعدل الفريضة. وقيل: غير ذلك.

ادعى شغلها فعليه الدليل. الرابع- أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان، قاله ابن عباس وروي عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم. قال الزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة، قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي، وما أحسنها أسوة. الخامس- أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه- وهو قول مجاهد- لقوله تعالى بعد ذلك:" وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ". قال: ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة، قال: فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه، قال مجاهد: فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها، قال: ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه. ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان، وقد روي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمدا، ويستغفر الله، وحجه تام، وبه قال ابن زيد. ودليلنا على داود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الضبع فقال:] هي صيد [وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ. وقال ابن بكير من علمائنا: قوله سبحانه:" مُتَعَمِّداً" لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وإنما أراد" مُتَعَمِّداً" ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمدا كفارة، وأن الصيد فيه كفارة، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ. والله أعلم. الحادية عشرة- فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حكم عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، لقول الله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرما فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له. وروي عن ابن عباس قال: لا يحكم عليه مرتين في الإسلام، ولا يحكم عليه إلا مرة واحدة، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك، لقوله تعالى:" وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ". وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد

وشريح. ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تمادي التحريم في الإحرام، وتوجه الخطاب عليه في دين الإسلام. الثانية عشرة- قوله تعالى: (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فيه أربع قراءات،" فَجَزاءٌ مِثْلُ" برفع جزاء وتنوينه، و" مِثْلُ" على الصفة، والخبر مضمر، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النعم. وهذه القراءة تقتضي أن يكون المثل هو الجزاء بعينه. و" جزاء" بالرفع غير منون و" مثل" بالإضافة أي فعليه جزاء مثل ما قتل، و" مِثْلُ" مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك، وأنت تقصد أنا أكرمك. ونظير هذا قوله تعالى:" أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ" «1»] الانعام: 122] التقدير كمن هو في الظلمات، وقوله" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" «2»] الشورى: 11] أي ليس كهو شي «3». وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل، إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه. وقال أبو علي: إنما يجب عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثل المقتول، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول. وهو قول الشافعي على ما يأتي. وقوله:" مِنَ النَّعَمِ" صفة لجزاء على القراءتين جميعا. وقرا الحسن" من النعم" بإسكان العين وهي لغة. وقرا عبد الرحمن" فَجَزاءٌ" بالرفع والتنوين" مثل" بالنصب، قال أبو الفتح:" مثل" منصوبة بنفس الجزاء، والمعنى أن يجزى مثل ما قتل. وقرا ابن مسعود والأعمش" فجزاؤه مثل" بإظهار (هاء)، ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل. الثالثة عشرة- الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى. وفي (المدونة): من اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال: لا جزاء عليه.] قال [ «4» وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شي عليه. وقيل: عليه من الجزاء بقدر ما نقصه. ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه. ولو زمن الصيد ولم يلحق الصيد، أو تركه محوفا «5» عليه
فعليه جزاؤه كاملا.
__________
(1). راجع ج 7 ص 78.
(2). راجع ج 16 ص 7.
(3). من ب، ى وسقطت الجملة مع الآية من ج، ك، هـ، ع، ز، وفي أ، و، ل: ليس هو كشيء. [.....]
(4). من ك.
(5). من ع، ك. في ج، أ: مخوفا.

الرابعة عشرة- ما يجزي من الصيد شيئان: دواب وطير، فيجزى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة، وفي الظبي شاة، وبه قال الشافعي. وأقل ما يجزي عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية، وذلك كالجذع من الضأن والثني مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام. وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة، فإن في الحمامة منه شاة اتباعا للسلف في ذلك. والدبسي «1» والفواخت والقمري وذوات الأطواق كله حمام. وحكى ابن عبد الحكم عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة، قال: وكذلك حمام الحرم، قال: وفي حمام الحل حكومة. وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة، فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله، فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر. وأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ثم يقوم المثل كما في المتلفات يقوم المثل، وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء، فإن المثل هو الأصل في الوجوب، وهذا بين وعليه تخرج قراءة الإضافة (فجزاء مثل). احتج أبو حنيفة فقال: لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا، في النعامة بدنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عدلين يحكمان به، لان ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر، وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه، ويضطرب وجه النظر عليه. ودليلنا عليه قول الله تعالى:" فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" الآية. فالمثل يقتضى بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنى، ثم قال:" مِنَ النَّعَمِ" فبين جنس المثل، ثم قال:" يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ" وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم، لأنه لم يتقدم ذكر لسواه يرجع الضمير عليه، ثم قال:" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية، فصح ما ذكرناه. والحمد لله. وقولهم: لو كان الشبه معتبرا لما أوقفه على عدلين، فالجواب أن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص.
__________
(1). الدبسي: نوع من الفواخت.

الخامسة عشرة- من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة. قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كباره، وهو قول عطاء. ولا يفدى عند مالك شي بعناق «1» ولا جفرة، قال مالك: وذلك مثل الدية، الصغير والكبير فيها سواء. وفي الضب عنده واليربوع «2» قيمتهما طعاما. ومن أهل المدينة من يخالفه في صغار الصيد، وفي اعتبار الجذع والثني، ويقول بقول عمر: في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة، رواه مالك موقوفا. وروى أبو الزبير عن جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة [قال: والجفرة التي قد ارتعت. وفي طريق آخر قلت لابي الزبير: وما الجفرة؟ قال: التي قد فطمت ورعت. خرجه الدارقطني. وقال الشافعي: في النعامة بدنة، وفي فرخها فصيل، وفي حمار الوحش بقرة، وفي سخلة «3» عجل، لان الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة، والصغر والكبر متفاوتان فيجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات. قال ابن العربي: وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا، قالوا: ولو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسيرا لكان المثل على صفته لتتحقق المثلية، فلا يلزم المتلف فوق ما أتلف. ودليلنا قوله تعالى:" فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" ولم يفصل بين صغير وكبير. وقوله:" هَدْياً" يقتضي ما يتناوله اسم الهدي لحق الإطلاق. وذلك يقتضي الهدي التام. والله أعلم. السادسة عشرة- في بيض النعامة عشر ثمن البدنة عند مالك. وفي بيض الحمامة المكية عنده عشر ثمن الشاة. قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر، فان استهل فعليه الجزاء كاملا كجزاء الكبير من ذلك الطير. قال ابن المواز: بحكومة عدلين. وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة. روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه، خرجه الدارقطني. وروي عن أبي هريرة «4» قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين [.
__________
(1). العناق: الأنثى من أولاد المعز.
(2). اليربوع: دويبة فوق الفأر.
(3). في كل الأصول: سخلة. والسخل ولد الضأن والمعز. أما ولد حمار الوحش فهو الجحش والهنبر والدوبل والقلو واللكع.
(4). كذا في ب، ج، ع.

السابعة عشرة- وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة فقيمة لحمه أو عدله من الطعام، دون ما يراد له من الأغراض «1»، لان المراعى فيما له مثل وجوب مثله، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره. ولان الناس قائلان- أي على مذهبين- معتبر للقيمة في جميع الصيد، ومقتصر بها على ما لا مثل له من النعم، فقد تضمن ذلك الإجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له. وأما الفيل فقيل: فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان، وهي بيض خراسانية، فإذا لم يوجد شي من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاما، فيكون عليه ذلك، والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام. وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر. الثامنة عشرة- قوله تعالى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) روى مالك عن عبد الملك ابن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية «2»، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت، فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا يحكم معه، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله، هل تقرأ سورة" المائدة"؟ فقال: لا، قال: هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا، فقال عمر رضي الله عنه: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة" المائدة" لأوجعتك ضربا، ثم قال: إن الله سبحانه يقول في كتابه:" يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" وهذا عبد الرحمن بن عوف. التاسعة عشرة- إذا اتفق الحكمان لزم الحكم، وبه قال الحسن والشافعي. وإن اختلفا نظر في غيرهما. وقال محمد بن المواز: لا يأخذ بأرفع من قوليهما، لأنه عمل بغير تحكيم. وكذلك
__________
(1). في ى: الأغراض. بمعجمة. وباقي الأصول بمهملة.
(2). الثنية: كل عقبة مسلوكة في الجبل.

لا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام، لأنه أمر قد لزم، قال ابن شعبان. وقال ابن القاسم: إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز. وقال ابن وهب رحمه الله في (العتبية): من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد، كما خيره الله في أن يخرج" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً" فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير في أن يطعمه، أو يصوم مكان كل مد يوما، وكذلك قال مالك في (المدونة). الموفية عشرين- ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض، ولو اجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسنا. وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة لا بد فيه من الحكومة، ويجتزأ في هذه الاربعة بحكومة من مضى من السلف رضي الله عنهم. الحادية والعشرون- لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي في أحد قوليه: يكون الجاني أحد الحكمين، وهذا تسامح منه، فإن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر، وإفساد للمعنى، لان حكم المرء لنفسه لا يجوز، ولو كان ذلك جائزا لاستغنى بنفسه عن غيره، لأنه حكم بينه وبين الله تعالى فزيادة ثان إليه دليل على استئناف الحكم برجلين. الثانية والعشرون- إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد جزاء كامل. وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبد الرحمن. وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها «1» بعصيهم فأصابوها، فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال: عليكم كلكم كبش، قالوا: أو على كل واحد منا كبش، قال: إنكم لمعزز بكم «2»، عليكم كلكم كبش. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد
__________
(1). الحذف: الرمي.
(2). كان الموالي قد سألوا قبل ابن عمر- رضى الله عنه- صحابها فأمر لكل واحد منهم بكفارة، ثم سألوا ابن عمر، وأخبروه بفتيا الذي أفناهم، فقال: إنكم لمعزز بكم ... إلخ.

عليكم. وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعا قال: عليهم كبش يتخارجونه «1» بينهم. ودليلنا قول الله سبحانه:" وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ" وهذا خطاب لكل قاتل. وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفسا على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص، وقد قلنا بوجوبه إجماعا منا ومنهم، فثبت ما قلناه. الثالثة والعشرون- قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وكلهم «2» محلون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم، فإن ذلك لا يختلف. وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد اكسبه صفة تعلق بها نهي، فهو هاتك لها في الحالتين. وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي قال: السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة، وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه. وإذا قتل المحلون ] صيدا [ «3» في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة، فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة. قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا. الرابعة والعشرون- قوله تعالى: (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الاشعار والتقليد، ويرسل من الحل إلى مكة، وينحر ويتصدق به فيها، لقوله:" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا. وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحل بناء على أن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد، فإنه يبتاع في الحرم ويهدى فيه.
__________
(1). يتخارج بمعنى يخرج كل واحد منهم نصيبه من ثمنه.
(2). من ع.
(3). الزيادة عن ابن العربي. [.....]

الخامسة والعشرون- قوله تعالى:" (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ)" الكفارة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي. قال ابن وهب قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه، أنه يقوم الصيد الذي أصاب، فينظر كم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما. وقال ابن القاسم عنه: إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه، والصواب الأول. وقال عبد الله بن عبد الحكم مثله، قال عنه: وهو في هذه الثلاثة بالخيار، أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا. وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء، لان" أو" للتخيير. قال مالك: كل شي في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا فصاحبه مخير في ذلك، أي ذلك أحب أن يفعل فعل. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا قتل المحرم ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام، وإن قتل إيلا «1» أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما، وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة «2»، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما. والطعام مد مد لشبعهم. وقال إبراهيم النخعي وحماد بن سلمة، قالوا: والمعنى" أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ" إن لم يجد الهدي. وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه، فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدق به، وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه بدراهم، ثم قومت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما، وقال: إنما أريد بالطعام تبيين أمر الصيام، فمن لم يجد طعاما، فإنه يجد جزاءه. وأسنده أيضا عن السدي. ويعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره. السادسة والعشرون- اختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلف، فقال قوم: يوم الإتلاف. وقال آخرون: يوم القضاء. وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين، من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم. قال ابن العربي: واختلف علماؤنا كاختلافهم، والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الإتلاف، والدليل على ذلك أن الوجود كان حقا للمتلف عليه، فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله، وذلك في وقت العدم.
__________ (1). الإبل قيل: هو (مثلث الهمزة) والوجه الكسر، وهو الذكر من الأوعال.
(2). في ع وك وى: فعليه بدله من الطعام ثلاثين مسكينا.

السابعة والعشرون- أما الهدي فلا خلاف أنه لا بد له من مكة، لقوله تعالى:" هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ". وأما الإطعام فاختلف فيه قول مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة، وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي. وقال عطاء: ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء، وهو قول مالك في الصوم، ولا خلاف فيه. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ولا يجوز إخراج شي من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام. وقال حماد وأبو حنيفة: يكفر بموضع الإصابة مطلقا. وقال الطبري: يكفر حيث شاء مطلقا، فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر، ولا أثر فيه. وأما من قال يصوم حيث شاء، فلان الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها. وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة، فلانه بدل عن الهدي أو نظير له، والهدي حق لمساكين مكة، فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره. وأما من قال إنه يكون بكل موضع، فاعتبار بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع. والله أعلم. الثامنة والعشرون- قوله تعالى: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) العدل والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل، قاله الكسائي. وقال الفراء: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، ويؤثر هذا القول عن الكسائي، تقول: عندي عدل دراهمك من الدراهم، وعندي عدل دراهمك من الثياب، والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان، وهو قول البصريين. ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من العدد. قال مالك: يصوم عن كل مد يوما، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة، وبه قال الشافعي. وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد، فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده. وهذا قول حسن احتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة، فبهذا النظر يكثر الإطعام. ومن أهله العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين، قالوا: لأنها أعلى الكفارات. واختاره ابن العربي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يصوم عن كل مدين يوما اعتبارا بفدية الأذى.

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

التاسعة والعشرون- قوله تعالى: (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) الذوق هنا مستعار كقوله تعالى:" ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ" «1»] الدخان: 49]. وقال:" فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ" «2»] النحل: 112]. وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان، وهي في هذا كله مستعارة. ومنه الحديث (ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا). الحديث والوبال سوء العاقبة. والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله. وطعام وبيل إذا كان ثقيلا، ومنه قوله «3»:
عقيلة شيخ كالوبيل يلندد «4»

وعبر بأمره عن جميع حاله. الموفية ثلاثين- قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) يعني في جاهليتكم من قتلكم الصيد، قاله عطاء بن أبي رباح وجماعة معه. وقيل: قبل نزول الكفارة. (وَمَنْ عادَ) يعني للمنهي «5» (فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) أي بالكفارة. وقيل: المعنى" فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ" يعني في الآخرة إن كان مستحلا، ويكفر في ظاهر الحكم. وقال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه، وقيل له: اذهب ينتقم الله منك، أي ذنبك أعظم من أن يكفر، كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهله العلم لعظم إثمها. والمتورعون يتقون النقمة بالتكفير. وقد روي عن ابن عباس: يملأ ظهره سوطا حتى يموت. وروي عن زيد ابن أبي المعلى: أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز عنه، ثم عاد فأنزل الله عز وجل نارا من السماء فأحرقته، وهذه عبرة للامة وكف للمعتدين عن المعصية. قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)" عَزِيزٌ" أي منيع في ملكه، ولا يمتنع عليه ما يريده." ذُو انْتِقامٍ" ممن عصاه إن شاء.

[سورة المائدة (5): آية 96]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
فيه ثلاث عشرة مسألة:
__________
(1). راجع ج 16 ص 151.
(2). راجع ج 10 ص 193.
(3). الشعر لطرفة، وصدر البيت:
فمرت كهاة ذات خيف جلالة

(4). اليلندد: الشديد الخصومة.
(5). كذا في هـ، ع: وفي ج، ى: للنهي.

الاولى- قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) هذا حكم بتحليل صيد البحر، وهو كل ما صيد من حيتانه والصيد هنا يراد به المصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب. وقد مضى القول في البحر في" البقرة" «1» والحمد لله. و" مَتاعاً" نصب على المصدر أي متعتم به متاعا. الثانية- قوله تعالى: (وَطَعامُهُ) الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يطعم، ويطلق على مطعوم خاص كالماء وحده، والبر وحده، والتمر وحده، واللبن وحده، وقد يطلق على النوم كما تقدم، وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطفا عليه، أسند الدارقطني عن ابن عباس في قول الله عز وجل:" أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ"- الآية- صيده ما صيد وطعامه ما لفظ] البحر [ «2». وروي عن أبي هريرة مثله، وهو قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين. وروي عن ابن عباس طعامه ميتته، وهو في ذلك المعنى. وروي عنه أنه قال: طعامه ما ملح منه وبقي، وقاله معه جماعة. وقال قوم: طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره. الثالثة- قال أبو حنيفة: لا يؤكل السمك الطافي ويؤكل ما سواه من السمك، ولا يؤكل شي من حيوان البحر إلا السمك وهو قول الثوري في رواية أبي إسحاق الفزاري عنه. وكره الحسن أكل الطافي من السمك. وروي عن علي بن أبي طالب ] رضي الله عنه [ «3» أنه كرهه، وروي عنه أيضا أنه كره أكل الجري «4»، وروي عنه أكل ذلك كله وهو أصح، ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن جعفر بن محمد عن علي قال: الجراد والحيتان ذكي، فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ولم يختلف عن جابر «5» أنه كرهه، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد، واحتجوا بعموم قوله تعالى:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ"] المائدة: 3]. وبما رواه
__________
(1). راجع ج 1 ص 388.
(2). الزيادة عن (الدارقطني) في رواية ابن عباس.
(3). من ع.
(4). الجري: ضرب من السمك في ظهره طول وفي فمه سعة وليس له عظم إلا عظم اللحيين والسلسلة.
(5). في ج: ابن زيد.

أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] كلوا ما حسر «1» عنه البحر وما ألقاه وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه [. قال الدارقطني: تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله عن وهب بن كيسان عن جابر، وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به. وروى سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه، قال الدارقطني: لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد الزبيري وخالفه وكيع والعدنيان «2» وعبد الرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم، رووه عن الثوري موقوفا وهو الصواب. وكذلك رواه أيوب السختياني، وعبيد الله بن عمر وابن جريج، وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفا قال أبو داود: وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الدارقطني: وروي عن إسماعيل بن أمية وابن أبي ذئب عن أبي الزبير مرفوعا، ولا يصح رفعه، رفعه يحيى بن سليم عن إسماعيل ابن أمية ووقفه غيره. وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري في رواية الأشجعي: يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، وسواء اصطيد أو وجد ميتا، واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة والسلام في البحر:] هو الطهور ماؤه الحل ميتته [. وأصح ما في هذا الباب من جهة الاسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له:] العنبر [وهو من أثبت الأحاديث خرجه الصحيحان. وفية: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرنا ذلك له فقال:] هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شي فتطعمونا [فأرسلنا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه فأكله، لفظ مسلم. وأسند الدارقطني عن ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها. وأسند عنه أيضا أنه قال: أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء. وأسند عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه، فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه عنها فقال: أطيبه هي لم تتغير؟
__________
(1). حسر ونضب وجزر بمعنى.
(2). كذا في الأصول عدا: ل. فقد سقط منها. [.....]

قالوا: نعم قال: فكلوها وارفعوا نصيبي منها، وكان صائما. وأسند عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا عنها أبا طلحة فقال: اهدوها إلي. وقال عمر بن الخطاب: الحوت ذكي والجراد ذكي كله، رواه عنه الدارقطني فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية، وهو حجة للجمهور، إلا أن مالكا كان يكره خنزير الماء من جهة اسمه ولم يحرمه وقال: أنتم تقولون خنزيرا! وقال الشافعي: لا بأس بخنزير الماء وقال الليث: ليس بميتة البحر بأس. قال: وكذلك كلب الماء وفرس الماء. قال: ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء. الرابعة- اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم أم لا؟ فقال مالك وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم: كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو صيد البر، إن قتله المحرم وداه، وزاد أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان. الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة ولا خلاف عن الشافعي في أنه لا يجوز أكل الضفدع، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير ذلك. والصحيح أكل ذلك كله، لأنه نص على الخنزير في جواز أكله، وهو له شبه في البر مما لا يؤكل. ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش «1» والدلفين، وكل ما له ناب لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب. قال ابن عطية: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في" المدونة" فإنه قال: الضفادع من صيد البحر. وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه يراعي أكثر عيش الحيوان، سئل عن ابن الماء أصيد بر هو أم صيد بحر؟ فقال: حيث يكون أكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه، وهو قول أبي حنيفة. والصواب في ابن الماء أنه صيد بر يرعى ويأكل الحب. قال ابن العربي: الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه، لأنه تعارض فيه دليلان، دليله تحليل ودليل تحريم، فيغلب دليل التحريم احتياطا. والله أعلم.
__________
(1). القرش: دابة مفترسة من دواب البحر الملح. والدلفين بالضم دابة بحرية تنجي الغريق، والعامة تقول: الدرفيل.

الخامسة- قوله تعالى: (وَلِلسَّيَّارَةِ) فيه قولان: أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون واكل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مقيم، فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام، كما أحله لمن سافر. الثاني- أن السيارة هم الذين يركبونه، كما جاء في حديث مالك والنسائي: أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هو الطهور ماؤه الحل ميتته [قال ابن العربي قاله علماؤنا: فلو قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] نعم [لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش، لان الجواب مرتبط بالسؤال، فكان يكون محالا عليه، ولكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتدأ تأسيس القاعدة، وبيان الشرع فقال:] هو الطهور ماؤه الحل ميتته [. قلت: وكان يكون الجواب مقصورا عليهم لا يتعدى لغيرهم، لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع، إلا ما نص بالتخصيص عليه، كقوله لابي بردة في العناق:] ضح بها ولن تجزئ عن أحد غيرك [. السادسة- قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) التحريم ليس صفة للأعيان، إنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ" أي فعل الصيد، وهو المنع من الاصطياد، أو يكون الصيد بمعنى المصيد، على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدم، وهو الأظهر لإجماع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك، لعموم قوله تعالى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً" ولحديث الصعب بن جثامة على ما يأتي. السابعة- اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق، وهو الصحيح عن عثمان بن عفان: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله، لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني

عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم [قال أبو عيسى: هذا أحسن حديث في الباب، وقال النسائي: عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك. فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه. وبه قال الحسن بن صالح والأوزاعي، واختلف قول مالك فيما صيد لمحرم بعينه. والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صيد لمحرم معين أو غير معين ولم يأخذ بقول عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم: كلوا فلستم مثلي لأنه صيد من أجلي وبه قالت طائفة من أهل المدينة، وروي عن مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى:" لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ" فحرم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم. واحتجوا بحديث البهزي- واسمه زيد بن كعب- عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرفاق، من حديث مالك وغيره. وبحديث أبي قتادة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفية] إنما هي طعمة أطعمكموها الله [. وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه، وأبي هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال، سواء صيد من أجله أو لم يصد، لعموم قوله تعالى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً". قال ابن عباس: هي مبهمة وبه قال طاوس وجابر ابن زيد أبو الشعثاء وروي ذلك عن الثوري وبه قال إسحاق. واحتجوا بحديث الصعب ابن جثامة الليثي، أنه أهدى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمارا وحشيا، وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فلما أن رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما في وجهي قال:] إنا لم نرده عليك إلا إنا حرم [خرجه الأئمة واللفظ لمالك. قال أبو عمر: وروى
ابن عباس من حديث سعيد بن جبير ومقسم وعطاء وطاوس عنه، أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحم حمار وحش، وقال سعيد بن جبير

في حديثه: عجز حمار وحش فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت، وقال مقسم في حديثه رجل حمار وحش. وقال عطاء في حديثه: أهدى له عضد صيد فلم يقبله وقال: [إنا حرم ]. وقال طاوس في حديثه: عضدا من لحم صيد، حدث به إسماعيل عن علي بن المديني «1»، عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، إلا أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن زيد بن أرقم. قال إسماعيل: سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولا ذلك لكان أكله جائزا، قال سليمان: ومما يدل على أنه صيد من أجل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولهم في الحديث: فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت. قال إسماعيل: إنما تأول سليمان هذا الحديث لأنه يحتاج إلى تأويل، فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل، لان المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ولا يذكيه، قال إسماعيل: وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث المرفوعة كلها غير مختلفة [فيها] «2» إن شاء الله تعالى. الثامنة- إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند أهله فقال مالك: إن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله. وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي في أحد قوليه: سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله. وبه قال أبو ثور، [وروي «3»] عن مجاهد وعبد الله بن الحرث مثله وروي عن مالك. وقال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي في القول الآخر: عليه أن يرسله، سواء كان في بيته أو في يده فإن لم يرسله ضمن. وجه القول بإرساله قوله تعالى:" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً" وهذا عام في الملك والتصرف كله. ووجه القول بإمساكه: أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام فلا يمنع من استدامة ملكه، أصله النكاح. التاسعة- فإن صاده الحلال في الحل فأدخله الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه، واكل لحمه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز. ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد فجاز في الحرم للحلال، كالامساك والشراء ولا خلاف فيها.
__________
(1). هذه النسبة إلى مدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أصله منها ونزل على البصرة. (الأنساب).
(2). من ى.
(3). من ع.

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

العاشرة- إذا دل المحرم حلا على صيد فقتله الحلال اختلف فيه، فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شي عليه، وهو قول ابن الماجشون. وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين: عليه الجزاء، لان المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض، فيضمن بالدلالة كالمودع إذا دل سارقا على سرقة. الحادية عشرة- واختلفوا في المحرم إذا دل محرما آخر، فذهب الكوفيون وأشهب من أصحابنا إلى أن على كل واحد منهما جزاء. وقال مالك والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم القاتل، لقوله تعالى:" وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً" فعلق وجوب الجزاء بالقتل، فدل على انتفائه بغيره، ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم. وتعلق الكوفيون وأشهب بقوله عليه السلام في حديث أبي قتادة: [هل أشرتم أو أعنتم ]؟ وهذا يدل على وجوب الجزاء. والأول أصح. والله أعلم. الثانية عشرة- إذا كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد ففيه الجزاء، لأنه أخذ في الحرم وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أخذ عليه على قولين: الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظرا إلى الفرع. الثالثة عشرة- قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير. والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 97]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ) جعل هنا بمعنى خلق وقد تقدم. وقد سميت الكعبة كعبة لأنها مربعة وأكثر بيوت العرب مدورة وقيل: إنما سميت كعبة لنتوئها

وبروزها، فكل ناتئ بارز كعب، مستديرا كان أو غير مستدير. ومنه كعب القدم وكعوب القناة. وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها. والبيت سمي بذلك لأنها ذات سقف وجدار، وهي حقيقة البيتية وإن لم يكن بها ساكن. وسماه سبحانه حراما بتحريمه إياه، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس [وقد تقدم أكثر هذا مستوفى والحمد لله. الثانية- قوله تعالى: (قِياماً لِلنَّاسِ) أي صلاحا ومعاشا، لأمن الناس بها، وعلى هذا يكون" قِياماً" بمعنى يقومون بها. وقيل:" قِياماً" أي يقومون بشرائعها. وقرا ابن عامر وعاصم" قيما" وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقد قيل:" قوام". قال العلماء: والحكمة في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس، أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتنافس والتقاطع والتدابر، والسلب والغارة والقتل والثأر، فلم يكن بد في الحكمة الإلهية، والمشيئة الأولية من كاف يدوم معه «1» الحال ووازع يحمد معه المآل. قال الله تعالى:" إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" «2»] البقرة: 30] فأمرهم الله سبحانه بالخلافة، وجعل أمورهم إلى واحد يزعهم «3» عن التنازع، ويحملهم على التآلف من التقاطع، ويرد الظالم عن المظلوم، ويقرر كل يد على ما تستولي عليه. روى ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: ما يزع الامام أكثر مما يزع القرآن، ذكره أبو عمر رحمه الله. وجور السلطان عاما واحدا أقل أذائه من كون الناس فوضى لحظة واحدة، فأنشأ الله سبحانه الخليفة لهذه الفائدة، لتجري على رأيه الأمور، ويكف الله به عادية الجمهور «4»، فعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، وعظم بينهم حرمته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه. قال الله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ" «5»] العنكبوت: 67]. قال العلماء: فلما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كل مظلوم، ولا يناله كل خائف جعله الله الشهر الحرام ملجأ آخر وهي:
__________
(1). في ج، ك، ب وع: مع.
(2). راجع ج 1 ص 271.
(3). في ك: يزجرهم.
(4). في الأصول: الأمور. والتصويب من ابن العربي.
(5). راجع ج 13 ص 363.

الثالثة- وهو اسم جنس، والمراد الأشهر الثلاثة «1» بإجماع من العرب، فقرر الله في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا- أي نفسا- ولا يطلبون فيها دما ولا يتوقعون فيها ثأرا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه. واقتطعوا فيها ثلث الزمان. ووصلوا منها ثلاثة متوالية، فسحة وراحة ومجالا للسياحة في الأمن والاستراحة، وجعلوا منها واحدا منفردا في نصف العام دركا للاحترام، وهو شهر رجب الأصم ويسمى مضر، وإنما قيل له:] رجب [ «2» الأصم، لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، ويسمى منصل الاسنة، لأنهم كانوا ينزعون فيه الاسنة من الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف ابن الأحوص:
وشهر بني أمية والهدايا ... إذا سيقت مضرجها الدماء
وسماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهر الله، أي شهر آل الله، وكان يقال لأهله الحرم: آل الله. ويحتمل أن يريد شهر الله، لان الله متنه «3» وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه. وسيأتي في" براءة" «4» أسماء الشهور إن شاء الله. ثم يسر لهم الإلهام، وشرع «5» على ألسنة الرسل الكرام الهدي والقلائد، وهي: الرابعة- فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما، أو علقوا عليه نعلا، أو فعل ذلك الرجل بنفسه من التقليد- على ما تقدم بيانه أول السورة- لم يروعه أحد حيث لقيه، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه أو ظلمه حتى جاء الله بالإسلام وبين الحق بمحمد عليه السلام، فانتظم الدين في سلكه، وعاد الحق إلى نصابه، فأسندت الامامة إليه، وانبنى وجوبها على الخلق عليه وهو قوله سبحانه:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ" «6»] النور: 55] الآية. وقد مضى في" البقرة" «7» أحكام الامامة فلا معنى لإعادتها. الخامسة- قوله تعالى: (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا)" ذلِكَ" إشارة إلى جعل الله هذه الأمور قياما، والمعنى فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات والأرض، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم.
__________
(1). كذا في الأصول وصوابه: الاربعة.
(2). من ب وج وك وهـ وع.
(3). في ب وج وك وهـ وز: سنه.
(4). راجع ج 8 ص 132 فما بعدها.
(5). في ب وج وك وهـ وز: أو شرعا. أي يسر إلهاما أو شرعا. إلخ. [.....]
(6). راجع ج 12 ص 297.
(7). راجع ج 1 ص 263 فما بعدها.

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)

[سورة المائدة (5): آية 98]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تخويف (وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ترجية. وقد تقدم هذا المعنى.

[سورة المائدة (5): آية 99]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)
قوله تعالى: (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أي ليس له الهداية والتوفيق ولا الثواب، وإنما عليه البلاغ وفي هذا رد على القدرية كما تقدم. وأصله البلاغ البلوغ، وهو الوصول. بلغ يبلغ بلوغا، وأبلغه إبلاغا، وتبلغ تبلغا، وبالغه مبالغة، وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة، لأنها إيصال المعنى إلى النفس في حسن صورة من اللفظ. وتبالغ الرجل إذا تعاطى البلاغة وليس ببليغ، وفي هذا بلاغ أي كفاية، لأنه يبلغ مقدار الحاجة. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي تظهرونه، يقال: بدا السر وأبداه صاحبه يبديه. (وَما تَكْتُمُونَ) أي ما تسرونه وتخفونه في قلوبكم من الكفر والنفاق.

[سورة المائدة (5): آية 100]
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قوله تعالى: (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ). فيه ثلاث مسائل: الاولى: قال الحسن:" الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ" الحلال والحرام. وقال السدي: المؤمن والكافر. وقيل: المطيع والعاصي. وقيل: الرديء والجيد، وهذا على ضرب المثال. والصحيح أن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصور في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع «1» جميل العاقبة. قال الله تعالى:" وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ
__________
(1). في ج: نافع حميد جميل. إلخ.

وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً" «1»] الأعراف: 58]. ونظير هذه الآية قوله تعالى:" أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" «2»] ص: 28] وقوله" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
" «3»] الجاثية: 21]، فالخبيث لا يساوي الطيب مقدارا ولا إنفاقا، ولا مكانا ولا ذهابا، فالطيب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ جهة الشمال، والطيب في الجنة، والخبيث في النار وهذا بين. وحقيقة الاستواء الاستمرار في جهة «4» واحدة، ومثله الاستقامة وضدها الاعوجاج. ولما كان هذا وهي: الثانية- قال بعض علمائنا: إن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق، ولا بتغير بدن، فيستوي في إمضائه مع البيع الصحيح، بل يفسخ أبدا، ويرد الثمن على المبتاع إن كان قبضه، وإن تلف في يده ضمنه، لأنه لم يقبضه على الأمانة، وإنما قبضه بشبهة عقد. وقيل: لا يفسخ نظرا إلى أن البيع إذا فسخ ورد بعد الفوت يكون فيه ضرر وغبن على البائع، فتكون السلعة تساوي مائة وترد عليه وهي تساوي عشرين، ولا عقوبة في الأموال. والأول أصح لعموم الآية، ولقوله عليه السلام:] من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد [. قلت: وإذا تتبع هذا المعنى في عدم الاستواء في مسائل الفقه تعددت وكثرت، فمن ذلك الغاصب وهي: الثالثة- إذا بنى في البقعة المغصوبة أو غرس إنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس، لأنه خبيث، وردها، خلافا لابي حنيفة في قوله: لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة. وهذا يرده قوله عليه السلام:] ليس لعرق ظالم «5» حق [. قال هشام: العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره ليستحقها بذلك. قال مالك: العرق الظالم كل ما أخذ واحتفر وغرس في غير حق. قال مالك: من غصب أرضا فزرعها، أو إكراها، أو دارا فسكنها
__________
(1). راجع ج 7 ص 231.
(2). راجع ج 15 ص 191.
(3). راجع ج 16 ص 165.
(4). في ب وج وك وهـ وع: حرمة.
(5). الرواية (لعرق) بالتنوين، وهو على حذف مضاف أي لذي عرق ظالم، فجعل العرق نفسه ظالما والحق لصاحبه، أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق. وإن روى (عرق) بالإضافة فيكون الظالم صاحب العرق والحق للعرق وهو أحد عروق الشجرة. (غاية النهاية).

أو إكراها، ثم استحقها ربها أن على الغاصب كراء ما سكن ورد ما أخذ في الكراء. واختلف قوله إذا لم يسكنها أو لم يزرع الأرض وعطلها، فالمشهور من مذهبه أنه ليس عليه فيه شي، وقد روى عنه أنه عليه كراء ذلك كله. واختاره الوقار «1»، وهو مذهب الشافعي، لقوله عليه السلام:] ليس لعرق ظالم حق [وروى أبو داود عن أبي الزبير أن رجلين اختصما إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها، وأنها لتضرب أصولها بالفؤوس حتى أخرجت منها وإنها لنخل عم «2». وهذا نص. قال ابن حبيب: والحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيرا على الظالم، إن شاء حبس ذلك في أرضه بقيمته مقلوعا، وإن شاء نزعه من أرضه، واجر النزع على الغاصب. وروى الدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من بنى في رباع «3» قوم بإذنهم فله القيمة ومن بنى بغير إذنهم فله النقض [قال علماؤنا: إنما تكون له القيمة، لأنه بنى في موضع يملك منفعته. وذلك كمن بنى أو غرس بشبهة فله حق، إن شاء رب المال أن يدفع إليه قيمته قائما، وإن أبى قيل للذي بنى أو غرس: ادفع إليه قيمة أرضه براحا «4»، فإن أبى كانا شريكين. قال ابن الماجشون: وتفسير اشتراكهما أن تقوم الأرض براحا، ثم تقوم بعمارتها فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحا كان العامل شريكا لرب الأرض فيها، إن أحبا قسما أو حبسا. قال ابن الجهم «5»: فإذا دفع رب الأرض قيمة العمارة واخذ أرضه كان له كراؤها فيما مضى من السنين. وقد روي عن ابن القاسم وغيره أنه إذا بنى رجل في أرض رجل بإذنه ثم وجب له إخراجه، فإنه يعطيه قيمة بنائه مقلوعا. والأول أصح لقوله عليه السلام: (فله القيمة) وعليه أكثر الفقهاء. الرابعة- قوله تعالى: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) قيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعجبه الخبيث. وقيل: المراد به النبي
__________
(1). هو زكريا بن يحيى المصري.
(2). عم: أي تامة. في طولها والتفافها، واحدتها عميمة واصلها عمم فسكن وأدغم.
(3). رباع (جمع ربع): وهو المنزل.
(4). البراح: (بالفتح): المتسع من الأرض لا زرع فيه ولا شجر.
(5). في ك: أبو الجهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه، وإعجابه له أنه صار عنده عجبا مما يشاهده من كثرة الكفار والمال الحرام، وقلة المؤمنين والمال الحلال. (فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تقدم معناه.

[سورة المائدة (5): الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
فيه عشر مسائل: الاولى: روى البخاري ومسلم وغيرهما- واللفظ للبخاري- عن أنس قال قال رجل: يا نبي الله، من أبي؟ قال:" أبوك فلان"] قال [ «1» فنزلت" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" «2» الآية. وخرج أيضا عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفية:] فوالله لا تسألوني عن شي إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا [فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال:] النار [. فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله فقال:] أبوك حذافة [وذكر الحديث قال ابن عبد البر: عبد الله بن حذافة أسلم قديما، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرا وكانت فيه دعابة «3»، وكان رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه سلم، ولما قال من أبي يا رسول الله، قال:] أبوك حذافة [قالت له أمه: ما سمعت بابن أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس! فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به. وروى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" «4»] آل عمران: 97]. قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ قال:] لا ولو قلت نعم لوجبت [، فأنزل الله تعالى:
__________
(1). من ج وب وهـ وع. [.....]
(2). من ب وج وهـ وع.
(3). الدعابة: المزاح.
(4). راجع ج 4 ص 137.

" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" إلى آخر الآية. واللفظ للدارقطني سئل البخاري عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن إلا أنه مرسل، أبو البختري لم يدرك عليا، واسمه سعيد. وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] يا أيها الناس كتب عليكم الحج [فقام رجل فقال: في كل عام يا رسول الله؟ «1» فأعرض عنه، ثم عاد فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فقال: (ومن القائل)؟ قالوا: فلان، قال:] والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم تطيقوها لكفرتم [فأنزل الله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" الآية. وقال الحسن البصري في هذه الآية: سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه. وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وهو قول سعيد بن جبير، وقال: ألا ترى أن بعده:" ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ"] المائدة: 103]. قلت: وفي الصحيح والمسند كفاية. ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض. والله أعلم. و" أَشْياءَ" وزنه أفعال، ولم يصرف لأنه مشبه بحمراء، قاله الكسائي. وقيل: وزنه أفعلاء، كقولك: هين وأهوناء، عن الفراء والأخفش ويصغر فيقال: أشياء، قال المازني: يجب أن يصغر شييات كما يصغر أصدقاء، في المؤنث صديقات وفي المذكر صديقون. الثانية- قال ابن عون: سألت نافعا عن قوله تعالى" لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" فقال: لم تزل المسائل منذ قط تكره. روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات وواد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال [. قال كثير «2» من العلماء: المراد
__________
(1). بحذف همزة الاستفهام في هذه الرواية كما في الدارقطني.
(2). في ك: جماعة.

بقوله ] وكثرة السؤال [التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا، وتكلفا فيما لم ينزل، والاغلوطات وتشقيق المولدات، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف «1»، ويقولون: إذا نزلت النازلة وفق المسئول لها. قال مالك: أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: المراد بكثرة المسائل كثرة سؤال الناس الأموال والحوائج إلحاحا واستكثارا، وقاله أيضا مالك وقيل: المراد بكثرة المسائل السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم. وهذا مثل قوله تعالى:" وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً" «2»] الحجرات: 12]. قال ابن خويز منداد: ولذلك قال ] بعض [ «3» أصحابنا متى قدم إليه طعام لم يسأل عنه من أين هذا أو عرض عليه شي يشتريه لم يسأل من أين هو، وحمل أمور المسلمين على السلامة والصحة. قلت: والوجه حمل الحديث على عمومه فيتناول جميع تلك الوجوه كلها. والله أعلم «4». الثالثة- قال ابن العربي: اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك، لان هذه الآية مصرحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه، ولا مساءة في جواب نوازل الوقت فافترقا. قلت قوله: اعتقد قوم من الغافلين فيه قبح، وإنما كان الاولى به أن يقول: ذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل، لكنه جرى على عادته، وإنما قلنا كان أولى به، لأنه قد كان قوم من السلف يكرهها. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن، ذكره الدارمي في مسنده، وذكر عن الزهري قال: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الامر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان حدث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا: لم يكن قال فذروه حتى يكون. وأسند عن عمار بن ياسر وقد سئل عن مسألة فقال:
__________
(1). أي لا يجب إلا ببيان، قال ابن العربي قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يشهد لكونها من باب التكليف الذي لا يبينه إلا نزول القرآن وجعل نزول القرآن سببا لوجوب الجواب.
(2). راجع ج 16 ص 330.
(3). من ع.
(4). وجد في ى سند عن الشيخة شهده بنت أبي نصر الدينوري لحادثة تركناه لوروده في ج 10 ص 5.

هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قال: دعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناها لكم. قال الدارمي: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، قال حدثنا ابن فضيل عن عطاء عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ" «1»] البقرة: 217]،" وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ"] البقرة: 222]] وشبهه [ «2» ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. الرابعة- قال ابن عبد البر: السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي «3» السؤال، ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره، قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الادلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد، فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها، ونشدت في مظانها، والله يفتح في صوابها. الخامسة- قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فيه غموض، وذلك أن في أول الآية النهي عن السؤال ثم قال:" وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ" فأباحه لهم، فقيل: المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف، ولا يصح حمله على غير الحذف. قال الجرجاني: الكناية في" عَنْها" ترجع إلى أشياء أخر، كقوله تعالى:" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ"] المؤمنون: 12] يعني آدم، ثم قال:" ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً" «4»] المؤمنون: 13] أي ابن آدم، لان آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال، فالمعنى وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم، فقد أباح هذا النوع من السؤال: ومثاله أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل،
__________
(1). راجع ج 3 ص 40 وص 80.
(2). من ك.
(3). العي: الجهل.
(4). راجع ج 12 ص 108.

ولم يجر ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل، فسألوا عنها فنزل" وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ" «1»] الطلاق: 4]. فالنهي إذا في شي لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه، فأما ما مست الحاجة إليه فلا. السادسة- قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْها) أي عن المسألة التي سلفت منهم. وقيل: عن الأشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية وما جرى مجراها. وقيل: العفو بمعنى الترك، أي تركها ولم يعرف بها في حلال ولا حرام فهو معفو عنها فلا تبحثوا عنه فلعله إن ظهر لكم حكمه ساءكم. وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه، وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله، ثم يتلو هذه الآية. وخرج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها [والكلام على هذا التقدير فيه تقديم وتأخير، أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، أي أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكما. وقيل: ليس فيه تقديم ولا تأخير، بل المعنى قد عفا الله عن مسألتكم التي سلفت وإن كرهها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تعودوا لأمثالها. فقوله:" عَنْها" أي عن المسألة، أو عن السؤالات كما ذكرناه. السابعة- قوله تعالى: (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها، فلما أعطوها وفرضت «2» عليهم كفروا بها، وقالوا: ليست من عند الله، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة، وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم. والله أعلم. الثامنة- إن قال قائل: ما ذكرتم من كراهية السؤال والنهى عنه، يعارضه قوله تعالى:" فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" «3»] النحل: 43] فالجواب، أن هذا الذي أمر الله به عباده
__________
(1). راجع ج 18 ص 162. [.....]
(2). في ك: وقد فرضا.
(3). راجع ج 10.

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

هو ما تقرر وثبت وجوبه مما يجب عليهم العمل به، والذي جاء فيه النهي هو ما لم يتعبد الله عباده به، ولم يذكره في كتابه. والله أعلم. التاسعة- روى مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شي لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته [. قال القشيري أبو نصر: ولو لم يسأل العجلاني عن الزنى لما ثبت اللعان. قال أبو الفرج الجوزي: هذا محمول على من سأل عن الشيء عنتا وعبثا فعوقب بسوء قصده بتحريم ما سأل عنه، والتحريم يعم. العاشرة- قال علماؤنا: لا تعلق للقدرية بهذا الحديث في أن الله تعالى يفعل شيئا من أجل شي وبسببه، تعالى الله عن ذلك، فإن الله على كله شي قدير، وهو بكل شي عليم، بل السبب والداعي فعل من أفعاله، لكن سبق القضاء والقدر أن يحرم الشيء المسئول عنه إذا وقع السؤال فيه، لا أن السؤال موجب للتحريم، وعلة له، ومثله كثير" لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ" [الأنبياء: 23] «1»

[سورة المائدة (5): آية 103]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (ما جَعَلَ اللَّهُ). جعل هنا بمعنى سمى، كما قال تعالى:" إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا" «2»] الزخرف: 3] أي سميناه. والمعنى في هذه الآية ما سمى الله، ولا سن ذلك حكما، ولا تعبد به شرعا، بيد أنه قضى به علما، وأوجده بقدرته وإرادته خلقا، فإن الله خالق كل شي من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية. الثانية- قوله تعالى:" مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ"" مِنْ" زائدة. والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي على وزن النطيحة والذبيحة. وفي الصحيح عن سعيد بن المسيب: البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس. وأما السائبة فهي التي كانوا
__________
(1). راجع ج 11 ص 278.
(2). راجع ج 16 ص 61.

يسيبونها لآلهتهم. وقيل: البحيرة لغة هي الناقة المشقوقة الأذن، يقال بحرت أذن الناقة أي شققتها شقا واسعا، والناقة بحيرة ومبحورة، وكان البحر علامة التخلية. قال ابن سيده: يقال البجيرة هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة «1» بحيرة. قال ابن إسحاق: البحيرة هي ابنة السائبة، والسائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخلي سبيلها مع أمها، فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهي البحيرة ابنة السائبة. وقال الشافعي: إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت، قال:
محرمة لا يطعم الناس لحمها ... ولا نحن في شيء كذاك البحائر
وقال ابن عزيز «2»: البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها- أي شقوه «3»- وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها- وقاله عكرمة- فإذا ماتت حلت للنساء. والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تجس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد، وقال به أبو عبيد، قال الشاعر:
وسائبة لله تنمي «4» تشكرا ... إن الله عافى عامرا أو مجاشعا
وقد يسيبون غير الناقة، وكانوا إذا سيبوا العبد لم يكن عليه ولاء. وقيل: السائبة هي المخلاة لا قيد عليها، ولا راعي لها، فاعل بمعنى مفعول، نحو" عِيشَةٍ راضِيَةٍ" أي مرضية. من سابت الحية وانسابت، قال الشاعر:
عقرتم ناقة كانت لربي ... وسائبة فقوموا للعقاب
وأما الوصيلة والحام، فقال ابن وهب قال مالك: كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها، فأما الحام فمن الإبل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس
__________
(1). قال ابن عطية: أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر.
(2). كذا في ج وا وك. ولعله أبو بكر محمد بن عزيز- كزبير- السجستاني صاحب غريب القرآن وصحح بأنه عزير بزاء وراء مهملة، كما في ى وب وز، والتاج مادة عزز وفية عزا هذا التعريف لابن عرفة عن الأزهري.
(3). كذا في الأصول. والاذن مؤنثة.
(4). نمت الناقة سمنت.

وسيبوه، وأما الوصيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها. وقال ابن عزيز: الوصيلة في الغنم، قال: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكرا ذبح واكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منهما شي فيأكله الرجال والنساء. والحامي الفحل إذا ركب ولد ولده. قال:
حماها أبو قابوس في عز ملكه ... كما قد حمى أولاد أولاده الفحل
ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهر فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء. وقال ابن إسحاق: الوصيلة الشاة إذا أتامت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا: وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شي منها فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم. الثالثة- روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه «1» في النار وكان أول من سيب السوائب [وفي رواية] عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار [. وروى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأكثم بن الجون:] رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك [فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال:] لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي [وفي رواية:] رأيته رجلا قصيرا أشعر له وفرة «2» يجر قضبه في النار [. وفي رواية ابن القاسم وغيره عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إنه يؤذي أهله النار بريحه [. مرسل ذكره ابن العربي وقيل: إن أول من ابتدع ذلك جنادة بن عوف. والله أعلم. وفي الصحيح كفاية. وروى ابن إسحاق: أن سبب نصب الأوثان «3»، وتغيير دين إبراهيم عليه السلام
__________
(1). القصب: المعى.
(2). الوفرة- شعر الرأس إذا وصل شحمة الاذن.
(3). في ك: الأصنام.

عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم مآب «1» من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق أولاد عمليق- ويقال عملاق- بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نستمطر بها فنمطر، ونستنصر بها فننصر، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له: (هبل) فقدم به مكة فنصبه، واخذ الناس بعبادته وتعظيمه، فلما بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل الله عليه" ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ"." وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا" يعني من قريش وخزاعة ومشركي العرب" يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ" بقولهم: إن الله أمر بتحريمها، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لرضا ربهم في طاعة الله، وطاعة الله إنما تعلم من قوله، ولم يكن عندهم من الله بذلك قول، فكان ذلك مما يفترونه على الله. وقالوا:" ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا"] الانعام: 139] يعني من الولد والألبان" وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً"] الانعام: 139] يعني إن وضعته ميتا اشترك فيه الرجال والنساء، فذلك قوله عز وجل:" فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ"] الانعام: 139] أي بكذبهم العذاب في الآخرة" إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ" «2»] الانعام: 139] أي بالتحريم والتحليل. وأنزل عليه:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ" «3»] يونس: 59] وأنزل عليه:" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ" «4»] الانعام: 143] وأنزل عليه:" وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ" «5»] الانعام: 138] الآية. الرابعة- تعلق أبو حنيفة رضي الله عنه في منعه الأحباس ورده الأوقاف، بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعله من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها، وقاس على البحيرة والسائبة والفرق بين. ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال: هذه تكون حبسا، لا يجتنى ثمرها، ولا تزرع أرضها، ولا ينتفع منها بنفع، لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة. وقد قال علقمة لمن سأله عن هذه الأشياء: ما تريد إلى شي كان من عمل أهله الجاهلية وقد ذهب. وقال نحوه ابن زيد. وجمهور العلماء على القول بجواز الأحباس والأوقاف ما عدا أبا حنيفة
__________
(1). مآب (بهمزة مفتوحة بعدها ألف): مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء. (معجم ياقوت).
(2). راجع ج 7 ص 95.
(3). راجع ج 8 ص 354. [.....]
(4). راجع ج 7 ص 95.
(5). راجع ج 7 ص 95.

وأبا يوسف وزفر، وهو قول شريح إلا أن أبا يوسف رجع عن قول أبى حنيفة في ذلك لما حدثه ابن علية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر أنه استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن يتصدق بسهمه بخيبر فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] احبس الأصل وسبل الثمرة [ «1». وبه يحتج كل من أجاز الأحباس، وهو حديث صحيح قاله أبو عمر. وأيضا فإن المسألة إجماع من الصحابة وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. وروى أن أبا يوسف قال لمالك بحضرة الرشيد: إن الحبس لا يجوز، فقال له مالك: هذه الأحباس أحباس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر وفدك وأحباس أصحابه. وأما ما احتج به أبو حنيفة من الآية فلا حجة فيه، لان الله سبحانه إنما عاب عليهم أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، أو تكليف فرض عليهم في قطع طريق الانتفاع، وإذهاب نعمة الله تعالى، وإزالة المصلحة التي للعباد في تلك الإبل. وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف. ومما احتج به أبو حنيفة وزفر ما رواه عطاء عن ابن المسيب قال: سألت شريحا عن رجل جعل داره حبسا على الآخر «2» من ولده فقال: لا حبس عن فرائض الله، قالوا: فهذا شريح قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين حكم بذلك. واحتج أيضا بما رواه ابن لهيعة عن أخيه عيسى، عن عكرمة عن ابن عباس، قال سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول بعد ما أنزلت سورة" النساء" وأنزل الله فيها الفرائض: ينهى عن الحبس. قال الطبري: الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته على ما أذن الله به على لسان نبيه وعمل به الأئمة الراشدون رضي الله عنهم ليس من الحبس عن فرائض الله، ولا حجة في قول شريح ولا في قول أحد يخالف السنة، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق، وأما حديث ابن عباس فرواه ابن لهيعة، وهو رجل اختلط عقله في آخر عمره، وأخوه غير معروف فلا حجة فيه، قاله ابن القصار. فإن قيل: كيف يجوز أن تخرج الأرض بالوقف عن ملك أربابها لا إلى ملك مالك؟ قال الطحاوي يقال لهم: وما ينكر من هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها
__________
(1). أي اجعلها وقفا: وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه.
(2). في ك: الآخرين.

صاحبها مسجدا للمسلمين، ويخلي بينهم وبينها، وقد خرجت بذلك من ملك إلى غير مالك، ولكن إلى الله تعالى، وكذلك السقايات والجسور والقناطر، فما ألزمت مخالفك في حجتك عليه يلزمك في هذا كله. والله أعلم. الخامسة- اختلف المجيزون للحبس فيما للمحبس من التصرف، فقال الشافعي: ويحرم على الموقف ملكه كما يحرم عليه ملك رقبة العبد، إلا أنه جائز له أن يتولى صدقته، وتكون بيده ليفرقها ويسلبها فيما أخرجها فيه، لان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لم يزل يلي صدقته- فيما بلغنا- حتى قبضه الله عز وجل قال: وكذلك علي وفاطمة رضي الله عنهما كانا يليان صدقاتهما، وبه قال أبو يوسف وقال مالك: من حبس أرضا أو نخلا أو دارا على المساكين وكانت بيده يقوم بها ويكريها ويقسمها في المساكين حتى مات والحبس في يديه، أنه ليس بحبس ما لم يجزه غيره وهو ميراث، والربع «1» عنده والحوائط والأرض لا ينفذ حبسها، ولا يتم حوزها، حتى يتولاه غير من حبسه، بخلاف الخيل والسلاح، هذا محصل مذهبه عند جماعة أصحابه «2»، وبه قال ابن أبي ليلى. السادسة- لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه، لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته، وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف، أو أن يفتقر المحبس «3»، أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه. ذكر ابن حبيب عن مالك قال: من حبس أصلا تجري غلته على المساكين فإن ولده يعطون منه إذا افتقروا- كانوا يوم حبس أغنياء أو فقراء- غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس ولكن يبقى منه سهم للمساكين ليبقى عليه اسم الحبس، ويكتب على الولد كتاب أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على سبيل المسكنة، وليس على حق لهم دون المساكين. السابعة- عتق السائبة جائز، وهو أن يقول السيد لعبده أنت حر وينوي العتق، أو يقول: أعتقتك سائبة، فالمشهور من مذهب مالك عند جماعة أصحابه أن ولاءه لجماعة المسلمين، وعتقه نافذ، هكذا روى عنه ابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب وغيرهم، وبه
__________
(1). الربع: محلة القوم ومنزلهم.
(2). في ك: عند جماعة من .. إلخ.
(3). في ج: للحبس.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)

قال ابن وهب، وروى ابن وهب عن مالك قال: لا يعتق أحد سائبة، لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الولاء وعن هبته، قال ابن عبد البر: وهذا عند كل من ذهب مذهبه، إنما هو محمول على كراهة عتق السائبة لا غير، فإن وقع نفذ وكان الحكم فيه ما ذكرناه. وروى ابن وهب أيضا وابن القاسم عن مالك أنه قال: أنا أكره عتق السائبة وأنهى عنه، فإن وقع نفذ وكان ميراثا لجماعة المسلمين، وعقله عليهم. وقال أصبغ: لا بأس بعتق السائبة ابتداء، ذهب إلى المشهور من مذهب مالك، وله احتج إسماعيل ] القاضي [ «1» ابن إسحاق وإياه تقلد. ومن حجته في ذلك أن عتق السائبة مستفيض بالمدينة لا ينكره عالم، وأن عبد الله بن عمر وغيره من السلف أعتقوا سائبة. وروي ابن شهاب وربيعة وأبي الزناد وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبي العالية وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم. قلت: أبو العالية الرياحي البصري التميمي «2»- رضى الله عنه- ممن أعتق سائبة، أعتقته مولاة له من بني رياح سائبة لوجه الله تعالى، وطافت به على حلق المسجد، واسمه رفيع بن مهران، وقال ابن نافع: لا سائبة اليوم في الإسلام، ومن أعتق سائبة كان ولاؤه له، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن الماجشون، ومال إليه ابن العربي، واحتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] من أعتق سائبة فولاؤه له [وبقوله:] إنما الولاء لمن أعتق [. فنفى أن يكون الولاء لغير معتق، واحتجوا بقوله تعالى:" ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ
" وبالحديث ] لا سائبة في الإسلام [وبما رواه أبو قيس عن هزيل بن شرحبيل قال: قال رجل لعبد الله: إني أعتقت غلاما لي سائبة فماذا ترى فيه؟ فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، إنما كانت تسيب الجاهلية، أنت وارثه وولي نعمته.

[سورة المائدة (5): آية 104]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
__________
(1). من ك.
(2). في الأصول: التيمي. والصواب ما أثبت.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) الآية تقدم معناها والكلام عليها في" البقرة" «1» فلا معنى لإعادتها.

[سورة المائدة (5): آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
فيه أربع مسائل: الاولى- قال علماؤنا: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى. الثانية: قوله تعالى:" عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ" معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي، تقول عليك زيدا بمعنى الزم زيدا، ولا يجوز عليه زيدا، بل إنما يجرى هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ عليك زيدا أي خذ زيدا، وعندك عمرا «2» أي حضرك، ودونك «3» زيدا أي قرب منك، وأنشد:
يا أيها المائح «4» دلوي دونكا

وأما قوله: عليه رجلا ليسني، فشاذ. الثالثة- روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
__________
(1). راجع ج 2 ص 210 وما بعدها.
(2). كذا في الأصول. والمتبادر أن هذا إغراء، أي خذه.
(3). كذا في الأصول. والمتبادر أن هذا إغراء، أي خذه.
(4). المانح: هو الذي ينزل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلو. وتمامه:
إني رأيت الناس يحمدونكا

] إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده [. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، قال إسحاق بن إبراهيم «1» سمعت عمرو بن علي يقول سمعت وكيعا يقول: لا يصح عن أبي بكر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا حديث واحد، قلت: ولا إسماعيل عن قيس، قال: إن إسماعيل روى عن قيس موقوفا. قال النقاش: وهذا إفراط من وكيع، رواه شعبة عن سفيان وإسحاق عن إسماعيل مرفوعا، وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: [بل ] «2» ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم [. وفي رواية قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال:] بل أجر خمسين منكم [. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قال ابن عبد البر قوله:] بل منكم [هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها، وقد تقدم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:] إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا [قال: هذا حديث غريب. وروى عن ابن مسعود أنه قال: ليس هذا بزمان هذه الآية، قولوا الحق ما قبل منكم، فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم. وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه؟ فقال إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لنا:] ليبلغ الشاهد الغائب [ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل. في رواية عن ابن عمر بعد قوله:] ليبلغ الشاهد الغائب [فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية
__________ (1). في ك: ابن راهويه. وهو ابن إبراهيم. [.....]
(2). الزيادة عن الترمذي.

لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا، لم يقبل منهم. وقال ابن المبارك قوله تعالى:" عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ" خطاب لجميع المؤمنين، أي عليكم أهله دينكم، كقوله تعالى:" وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" فكأنه قال: ليأمر بعضكم بعضا، ولينه بعضكم بعضا، فهو دليل على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين واهل الكتاب، وهذا لان الامر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان كما تقدم، وروي معنى هذا عن سعيد بن جبير. وقال سعيد بن المسيب: معنى الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال ابن خويز منداد: تضمنت الآية اشتغال الإنسان بخاصة نفسه، وتركه التعرض لمعايب الناس، والبحث عن أحوالهم فإنهم لا يسألون عن حاله فلا يسأل عن حالهم وهذا كقوله تعالى:" كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" «1»] المدثر: 38]،" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى " «2»] الانعام: 461]. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] كن جليس «3» بيتك وعليك بخاصة نفسك [. ويجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فينكر بقلبه، ويشتغل بإصلاح نفسه. قلت: قد جاء حديث غريب رواه ابن لهيعة: قال حدثنا بكر بن سوادة الجذامي عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك [. قال علماؤنا: إنما قال عليه السلام ذلك لتغير الزمان، وفساد الأحوال، وقلة المعينين. وقال جابر بن زيد: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب، عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين، لا يضركم ضلال الاسلاف إذا اهتديتم، قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت، فأنزل الله الآية بسبب ذلك. وقيل: الآية في أهل الاهواء الذين لا ينفعهم الوعظ، فإذا علمت من قوم أنهم لا يقبلون، بل يستخفون ويظهرون فاسكت عنهم. وقيل: نزلت في الأسارى الذين عذبهم المشركون حتى ارتد بعضهم، فقيل لمن بقي على الإسلام: عليكم أنفسكم لا يضركم ارتداد أصحابكم. وقال: سعيد بن جبير: هي
__________
(1). راجع ج 19 ص 85.
(2). راجع ج 7 ص 157.
(3). في ب، ع، هـ: حلس بالمهملة: وهو بساط في البيت، وحلس بيته إذا لم يبرح مكانه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

في أهل الكتاب- وقال مجاهد: في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم، يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية. وقيل: هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قاله المهدوي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف ولا يعلم قائله. قلت: قد جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: ليس في كتاب الله تعالى آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية. قال غيره: الناسخ منها قوله:" إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" والهدى هنا هو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم. الرابعة- الامر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول، أو رجي رد الظالم ولو بعنف، ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس، فإذا خيف هذا ف" عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ" محكم «1» واجب أن يوقف عنده. ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم، وعلى هذا جماعة أهل «2» العلم فاعلمه.

[سورة المائدة (5): الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
__________
(1). في ج، ك: حكم.
(2). في ك: من أهل العلم.

فيه سبع وعشرون مسألة: الاولى- قال مكي- رحمه الله-: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما، قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له الثلج «1» في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله. قلت: ما ذكره مكي- رحمه الله- ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا، ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء. روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي ] بن بداء [ «2» يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما، فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما «3» من فضة مخوصا بالذهب،؟؟ فاستحلفهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما كتمتما ولا اطلعتما) ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا، قال: فأخذوا الجام، وفيهم نزلت هذه الآية. لفظ الدارقطني. وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه الآية" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ" برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء- وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام بتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل ابن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم
__________
(1). ثلجت النفس بالشيء ثلجا اشتقت به واطمأنت إليه، وقيل: عرفته وسرت به.
(2). من ع.
(3). الجام إناء من فضة، وجام مخوص أي عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل.

اقتسمناها أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره، قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع «1» به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله عز وجل:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ" إلى قوله" بَعْدَ أَيْمانِهِمْ" فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي بن بداء. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في تميم وأخيه عدي، وكانا نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج مع تميم وأخيه عدي، وذكر الحديث. وذكر النقاش قال: نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي، كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي، ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميما وكان من لخم وعدي بن بداء، فمات بديل وهم في السفينة فرمي به في البحر، وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال: أبلغا هذا المتاع أهلي، فلما مات بديل قبضا المال، فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال، منقوشا «2» مموها بالذهب، وذكر الحديث. وذكره سنيد وقال: فلما قدموا الشام مرض بديل وكان مسلما، الحديث. الثانية- وقوله تعالى:" شَهادَةُ بَيْنِكُمْ" ورد" شهد" في كتاب الله تعالى بأنواع «3» مختلفة: منها قوله تعالى:" وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ"] البقرة: 282] قيل: معناه أحضروا. ومنها" شهد" بمعنى قضى أي أعلم، قاله أبو عبيدة كقوله تعالى:" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ" «4»] آل عمران: 18]. ومنها" شهد" بمعنى أقر، كقوله تعالى:" وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ" «5»] النساء: 166]. ومنها" شهد" بمعنى حكم، قال الله تعالى:" وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها" «6»] يوسف: 26]. ومنها" شهد" بمعنى حلف، كما في اللعان." وشهد"
__________
(1). يقطع: يعظم.
(2). في ع: موشا بالذهب.
(3). أراد بمعان.
(4). راجع ج 4 ص 40.
(5). راجع ج 6 ص 19. [.....]
(6). راجع ج 9 ص 172.

بمعنى وصى، كقوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ". وقيل: معناها هنا الحضور للوصية، يقال: شهدت وصية فلان أي حضرتها. وذهب الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين، فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدى للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. واختار هذا القول القفال. وسميت اليمين شهادة، لأنه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة. واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ فتؤدي، وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين. الثالثة- قوله تعالى:" بَيْنِكُمْ" قيل: معناه ما بينكم فحذفت" ما" وأضيفت الشهادة إلى الظرف، واستعمل اسما على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة، كما قال:
يوما شهدناه سليما وعامرا «1»

أراد شهدنا فيه. وقال تعالى:" بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ" «2»] سبأ: 33] أي مكركم فيهما. وأنشد:
تصافح من لاقيت لي ذا عداوة ... صفاحا وعني بين عينيك منزوي
أراد ما بين عينيك فحذف، ومنه قوله تعالى:" هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ" «3»] الكهف: 78] أي ما بيني وبينك. الرابعة- قوله تعالى:" (إِذا حَضَرَ)" معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت «4». وهذا كقوله تعالى:" فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ" «5»] النحل: 98]. وكقوله:" إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ" «6»] الطلاق: 1] ومثله كثير. والعامل في" إِذا" المصدر الذي هو" شَهادَةُ". الخامسة- قوله تعالى: (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ)" حِينَ" ظرف زمان والعامل فيه" حَضَرَ" وقوله:" اثْنانِ" يقتضي بمطلقه شخصين، ويحتمل رجلين، إلا أنه لما قال بعد ذلك:" ذَوا عَدْلٍ" بين أنه أراد رجلين، لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن" ذواتا" «7»] الرحمن: 48] لا يصلح إلا للمؤنث. وارتفع" اثْنانِ" على أنه خبر المبتدأ الذي هو" شَهادَةُ"
__________
(1). هذا صدر بيت لرجل من بني عامر، وتمامه:
قليل سواي الطعن النهال نوافله

وسلم عامر قبيلتان من قيس عيلان.
(2). راجع ج 14 ص 302.
(3). راجع ج 11 ص 42.
(4). في ك: لميت.
(5). راجع ج 10 ص 174.
(6). راجع ج 18 ص 148.
(7). راجع ج 17 ص 178.

قال أبو علي" شَهادَةُ" رفع بالابتداء والخبر في قوله:" اثْنانِ" التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقام المضاف «1» إليه مقامه، كما قال تعالى:" وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ" «2»] الأحزاب: 6] أي مثل أمهاتهم. ويجوز أن يرتفع" اثْنانِ" ب"- شَهادَةُ"، التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان، أو ليقم الشهادة اثنان. السادسة- قوله تعالى: (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)" ذَوا عَدْلٍ" صفة لقوله:" اثْنانِ" و" مِنْكُمْ" صفة بعد صفة. وقوله:" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" أي أو شهادة آخرين من غيركم، فمن غيركم صفة لآخرين. وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال: الأول- أن الكاف والميم في قوله:" مِنْكُمْ" ضمير للمسلمين" أَوْ- آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية، وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الأحاديث. وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، أبو موسى الأشعري وعبد الله بن قيس «3»، وعبد الله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما واديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة «4» أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق، ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما. هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر، وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني، وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم. وقال به من الفقهاء سفيان الثوري، ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به. واختاره أحمد بن حنبل وقال: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر
__________
(1). ينبغي بناء الفعل للمجهول.
(2). راجع ج 14 ص 121.
(3). كذا في الأصول. وابن قيس هو أبو موسى. ولعل الصواب عبد الله بن مسعود كما يستفاد من أحكام الجصاص.
(4). كذا في ب، ج، ع، ك، هـ، ز وفي ا: الشهادة.

عند عدم المسلمين كلهم يقولون" مِنْكُمْ" من المؤمنين ومعنى" مِنْ غَيْرِكُمْ" يعني الكفار. قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت «1» ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة. والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما. القول الثاني- أن قوله سبحانه:" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" منسوخ، هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك، والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء، إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض، ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى:" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ" «2»] البقرة: 282] وقوله:" وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ" «3»] الطلاق: 2]، فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل، وأن فيها" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ" فهو ناسخ لذلك، ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة، فجازت شهادة أهله الكتاب، وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز، والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم. قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه، وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم، وأما مع وجود مسلم فلا، ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل، وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره، ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم. ويقوي هذا أن سورة" المائدة" من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها. وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ، فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا، فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات، ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عند الضرورة، فليس فيما قالوه ناسخ. القول الثالث- أن الآية لا نسخ فيها، قاله الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله:" مِنْكُمْ" أي من عشيرتكم وقرابتكم، لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان «4».
__________
(1). المتبادر أن العبارة: إن الآية نزلت في حادثة ولا مؤمن إلخ.
(2). راجع ج 3 ص 395، وص 157 ج 18. [.....]
(3). راجع ج 3 ص 395، وص 157 ج 18.
(4). في ك: عن الشنآن.

ومعنى قوله: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من غير القرابة والعشيرة، قال النحاس: وهذا ينبني على معنى غامض في العربية، وذلك أن معنى" آخر" في العربية من جنس الأول، تقول: مررت بكريم وكريم آخر، فقوله" آخر" يدل على أنه من جنس الأول، ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر، ولا مررت برجل وحمار آخر، فوجب من هذا أن يكون معنى قوله:" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" أي عدلان، والكفار لا يكونون عدولا فيصح على هذا قول من قال" مِنْ غَيْرِكُمْ" من غير عشيرتكم من المسلمين. وهذا معنى حسن من جهة اللسان، وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله، لان المعنى عندهم" مِنْ غَيْرِكُمْ" من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فخوطب الجماعة من المؤمنين. السابعة- استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم، قال: ومعنى" أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" أي من غير أهل دينكم، فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض، فيقال له: أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية، لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها فلا يصح احتجاجك بها. فإن قيل: هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق، ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه، وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلان تقبل على أهل الذمة أولى، ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين، فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه، وهذا ليس بشيء، لان قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين، فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلان تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى. والله أعلم. الثامنة- قوله تعالى: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم، وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض" فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ" فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم، ودفعتم إليهما ما معكم من المال، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما،

وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة، أي تستوثقوا منهما، وسمي الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة، قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمي، ورزية كبرى، فأعظم منه الغفلة عنه، والاعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أنه قال:] «1» (لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا). ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له، فخر الجمل ميتا فنزل الاعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: ما لك لا تقوم؟! ما لك لا تنبعث؟! هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة، ما شأنك؟! ما الذي كان يحملك؟! ما الذي كان يبعثك؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك؟! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه، متعجبا من أمره. التاسعة- قوله تعالى: (تَحْبِسُونَهُما) قال أبو علي:" تَحْبِسُونَهُما" صفة ل" آخَرانِ" واعترض بين الصفة والموصوف بقوله:" إِنْ أَنْتُمْ". وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق، والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجلا، ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا، فإن خلي من عليه [الحق ] «2» غاب واختفى وبطل الحق وتوي «3» فلم يكن بد من التوثق منه «4» فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا، وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل «5»، وهو دون الأول، لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره، ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق، أو تبين عسرته. العاشرة- فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق «6» استيفاؤه معجلا، لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه، ولأجل هذه الحكمة شرع السجن، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبس رجلا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). من ع.
(2). من ع.
(3). توى المال: ذهب فلم يرج.
(4). في ع وك: به.
(5). الحميل: الكفيل.
(6). في ك: لم يمكن.

قال:] لي الواجد يحل عرضه وعقوبته [. قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له. قال الخطابي: الحبس على ضربين، حبس عقوبة، وحبس استظهار، فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه، وقد روي أنه حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه. وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن. الحادية عشرة- قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) يريد صلاة العصر، قاله الأكثر من العلماء، لان أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. وقال الحسن: صلاة الظهر. وقيل: أي صلاة كانت. وقيل: من بعد صلاتهما على أنهما كافران «1»، قاله السدي. وقيل: إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا به، لشهود الملائكة ذلك الوقت، وفي الصحيح ] من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقى الله وهو عليه غضبان [. الثانية عشرة- وهذه الآية أصل في التغليظ في الايمان، والتغليظ يكون بأربعة أشياء: أحدها- الزمان كما ذكرنا. الثاني- المكان كالمسجد والمنبر، خلافا لابي حنيفة وأصحابه حيث يقولون: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في «2» كثيرها، وإلى هذا القول ذهب البخاري- رحمه الله- حيث ترجم (باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره). وقال مالك والشافعي: ويجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها، فيحلف بين الركن والمقام، ويجلب إلى المدينة من كان من أعمالها فيحلف عند المنبر. الثالث- الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائما مستقبل القبلة، لان ذلك أبلغ في الردع والزجر. وقال ابن كنانة: يحلف جالسا، قال ابن العربي: والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان «3» قائما فقائما وإن جالسا فجالسا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس.
__________
(1). في ع: كانا كافرين.
(2). من ى.
(3). من ى.

قلت: قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن أبيه: [فانطلق ليحلف ] القيام- والله أعلم- أخرجه مسلم. الرابع- التغليظ باللفظ، فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه، لقوله تعالى:" فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ" وقوله:" قُلْ إِي وَرَبِّي" «1»] يونس: 53] وقال:" وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ" «2»] الأنبياء: 57] وقوله عليه السلام: [من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ]. وقول الرجل: والله لا أزيد عليهن. وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق، وما ادعاه علي باطل، والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال- يعني لرجل حلفه [احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شي ] يعني للمدعي، قال أبو داود: أبو يحيى اسمه زياد «3» كوفي ثقة ثبت. وقال الكوفيون: يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين، فيحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف. قال ابن العربي: وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة. وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك ] ويرويه [ «4» عن ابن عباس، ولم يصح. قلت: وفي كتاب (المهذب) وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف «5» على المصحف، قال الشافعي: وهو حسن. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف «6». قلت: قد تقدم في الايمان: وكان قتادة يحلف بالمصحف. وقال أحمد وإسحاق: لا يكره ذلك، حكاه عنهما ابن المنذر.
__________
(1). راجع ج 8 ص 351.
(2). راجع ج 11 ص 296.
(3). هو أبو يحيى زياد الأعرج مولى الأنصار. [.....]
(4). من الأصول. وفي ابن العربي: ويأثر أصحابه ذلك عن ابن عباس.
(5). وفي ب وج وع وى وهـ: يستحلف.
(6). في ب وع وهـ وى: أو المصحف.

الثالثة عشرة- اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق، فقال مالك: لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع، وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم. وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ) الفاء في" فَيُقْسِمانِ" عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء، لان" تَحْبِسُونَهُما" معناه احبسوهما، أي لليمين، فهو جواب الامر الذي دل عليه الكلام كأنه قال: إذا حبستموهما أقسما، قال ذو الرمة:
وإنسان عيني يحسر الماء مرة ... فيبدو وتارات يجم «1» فيغرق
تقديره عندهم: إذا حسر بدا. الخامسة عشرة- واختلف من المراد بقوله:" فَيُقْسِمانِ"؟ فقيل: الوصيان إذا ارتيب في قولهما وقيل: الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما. قال ابن العربي مبطلا لهذا القول: والذي سمعت- وهو بدعة- عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق، وحينئذ يقضى له بالحق، وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه، هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف؟! هذا ما لا يلتفت إليه. قلت: وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. وقد قيل: إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال. السادسة عشرة- قوله تعالى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين. قال ابن عطية: أما أنه يظهر من حكم أبي موسى
__________
(1). يجم: يكثر فيه الماء.

في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها روى أبو داود عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء «1» هذه «2»، ولم يجد أحدا من المسلمين [حضره ] «3» يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأحلفهما بعد العصر:] بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته [فأمضى شهادتهما. قال ابن عطية: وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض، وتقع مع ذلك اليمين عنده، وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي، فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة. قال ابن العربي: يمين الريبة والتهمة على قسمين: أحدهما- ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين. الثاني- التهمة المطلقة في الحقوق والحدود، وله تفصيل بيانه في كتب الفروع، وقد تحققت ها هنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات. السابعة عشرة- الشرط في قوله:" إِنِ ارْتَبْتُمْ" يتعلق بقوله:" تَحْبِسُونَهُما" لا بقوله" فَيُقْسِمانِ" لان هذا الحبس سبب القسم. الثامنة عشرة- قوله تعالى: (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا. وإضمار القول كثير، كقوله:" وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ" «4»] الرعد: 24- 23] أي يقولون سلام عليكم. والاشتراء ها هنا ليس بمعنى البيع، بل هو التحصيل.
__________
(1). دقوقاء (بفتح أوله وضم ثانيه وبعد الواو قاف أخرى وألف ممدودة وتقصر): مدينة بين إربل وبغداد معروفة، لها ذكر في الاخبار والفتوح، كما بها وقعة للخوارج. (معجم البلدان).
(2). كذا في الأصول. ويبدو أن فيه سقطا فليتأمل.
(3). في ب وج وك وى وع وهـ.
(4). راجع ج 9 ص 310

التاسعة عشرة- اللام في قوله:" لا نَشْتَرِي" جواب لقوله:" فَيُقْسِمانِ" لان أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم، وهو" لا" و" ما" في النفي،" وإن" واللام في الإيجاب. والهاء في" به" عائد على اسم الله تعالى، وهو أقرب مذكور، المعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض. ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ] فأعاد [الضمير] «1» على معنى الدعوة الذي هو الدعاء، وقد تقدم في سورة" النساء" «2». الموفية عشرين- قوله تعالى:" ثَمَناً" قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو ويكون السلعة، فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى، فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد، أو على عرضين، أو على نقدين، وعلى هذا الأصل تنبني مسألة: إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به؟ قال أبو حنيفة: لا يكون أولى به، وبناه على هذا الأصل، وقال: يكون صاحبها أسوة الغرماء. وقال مالك: هو أحق بها في الفلس دون الموت. وقال الشافعي: صاحبها أحق بها في الفلس والموت. تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء، فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رءوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها. وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره. الحادية والعشرون- قوله تعالى: (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ) أي ما أعلمنا الله من الشهادة. وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في (التحصيل) «3» وغيره.
__________
(1). من ك.
(2). راجع ج 5 ص 50 ففيها: (فإنه ليس بينه) وهو الشاهد. والأصول جميعا: (بينها) فلا شاهد.
(3). وهو تحصيل المنافع على كتاب الدرر اللوامع. في قراءة نافع.

الثانية والعشرون- قوله تعالى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) قال عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام. وقال الزجاج: أصعب ما في القرآن من الاعراب قوله:" مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ". عثر على كذا أي اطلع عليه، يقال: عثرت منه على خيانة أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى:" وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ" «1»] الكهف: 21]. لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفى عليهم موضعهم، واصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء، ومنه قولهم: عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقعت إصبعه بشيء صدمته، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه. وعثر الفرس عثارا قال الأعشى:
بذات «2» لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
والعثير الغبار الساطع، لأنه يقع على الوجه، والعثير الأثر الخفي لأنه يوقع عليه من خفاء. والضمير في" أَنَّهُمَا" يعود على الوصيين اللذين ذكرا في قوله عز وجل:" اثْنانِ" عن سعيد ابن جبير. وقيل: على الشاهدين، عن ابن عباس. و" اسْتَحَقَّا" أي استوجبا" إِثْماً" يعني بالخيانة، وأخذهما ما ليس لهما، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة. وقال أبو علي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ، لان آخذه بأخذه آثم، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة. وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك، فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام. الثالثة والعشرون- قوله تعالى: (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) يعني في الايمان أو في الشهادة، وقال" آخَرانِ" بحسب أن الورثة كانا اثنين. وارتفع" آخَرانِ" بفعل مضمر." يَقُومانِ" في موضع نعت." مَقامَهُما" مصدر، وتقديره: مقاما مثل مقامهما، ثم أقيم النعت مقام المنعوت، المضاف مقام المضاف إليه الرابعة والعشرون- قوله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ «3» الْأَوْلَيانِ) قال ابن السري: المعنى استحق عليهم الإيصاء، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه، لأنه لا يجعل
__________
(1). راجع ج 10 ص 378.
(2). ناقة ذات لوث أي قوة، وكذا عفرناة، والمعنى أنها لا تعثر لقوتها، فلو عثرت لقلت تعست. وقوله: (بذات لوث) متعلق ب (- كلفت) في بيت قبله وهو:
كلفت مجهولها نفسي وشايعني ... همى عليها إذا ما آلها لمعا
(اللسان)
(3). قراءة نافع بالبناء للمفعول، وهي قراءة الجمهور. [.....]

حرف بدلا من حرف، واختاره ابن العربي، وأيضا فإن التفسير عليه، لان المعنى عند أهل التفسير: من الذين استحقت عليهم الوصية. و" الْأَوْلَيانِ" بدل من قوله: فَآخَرانِ قاله ابن السري، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز. وقيل: النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة، كقوله تعالى:" كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ" «1»] النور: 35] ثم قال:" الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ"] النور: 35] ثم قال:" الزُّجاجَةُ"] النور: 35]. وقيل: وهو بدل من الضمير في" يَقُومانِ" كأنه قال: فيقوم الأوليان أو خبر ابتداء محذوف، التقدير: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان. وقال ابن عيسى:" الْأَوْلَيانِ" مفعول" اسْتَحَقَّ" على حذف المضاف، أي استحق فيهم وبسببهم إثم الأوليين فعليهم بمعنى فيهم مثل" عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ" «2»] البقرة: 102] أي في ملك سليمان. وقال الشاعر:
متى ما تنكروها تعرفوها ... على أقطارها علق نفيث «3»
أي في أقطارها. وقرا يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة" الأولين" جمع أول على أنه بدل من" الَّذِينَ" أو من الهاء والميم في" عَلَيْهِمُ" وقرا حفص:" اسْتَحَقَّ" بفتح التاء والحاء، وروي عن أبي بن كعب، وفاعله" الْأَوْلَيانِ" والمفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها. وقيل: استحق عليهم الأوليان رد الايمان. وروي عن الحسن:" الأولان" وعن ابن سيرين:" الأولين" «4» قال النحاس: والقراءتان لحن، لا يقال في مثنى، مثنان، غير أنه قد روي عن الحسن" الأولان". الخامسة والعشرون- قوله تعالى: (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ)" أي يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين (أن الذي قال صاحبنا في وصيته حق، وأن المال الذي وصى به إليكما كان أكثر مما أتيتمانا به وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما) فذلك قوله: (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي يميننا أحق من يمينهما،
__________
(1). راجع ج 12 ص 255.
(2). راجع ج 2 ص 41.
(3). نفث الجرح الدم إذا أظهره، والبيت لصخر الغى. (اللسان).
(4). قال ابن عطية: على تثنية أول، والنصب على تقدير الأولين فالاولين في الرتبة.

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

فصح أن الشهادة قد تكون بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى:" فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ" «1»] النور: 6]. وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: قام رجلان من أولياء الميت فحلفا." لَشَهادَتُنا أَحَقُّ" ابتداء وخبر. وقوله: (وَمَا اعْتَدَيْنا) أي تجاوزنا الحق في قسمنا. (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إن كنا حلفنا على باطل، وأخذنا ما ليس لنا. السادسة والعشرون- قوله تعالى:" ذلِكَ أَدْنى " ابتداء وخبر." أَنْ" في موضع نصب." يَأْتُوا" نصب ب"- أن"." أَوْ يَخافُوا" عطف عليه." أَنْ تُرَدَّ" في موضع نصب ب"- يَخافُوا"." أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ" قيل: الضمير في" يَأْتُوا" و" يَخافُوا" راجع إلى الموصى إليهما، وهو الأليق بمساق الآية. وقيل: المراد به الناس، أي أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي، والله أعلم. السابعة والعشرون- قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) أمر، ولذلك حذفت منه النون، أي اسمعوا ما يقال لكم، قابلين له، متبعين أمر الله فيه. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) فسق يفسق ويفسق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية، وقد تقدم «2»، والله أعلم.

[سورة المائدة (5): آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) يقال: ما وجه اتصال هذه الآية بما قبلها؟ فالجواب- أنه اتصال الزجر عن الإظهار خلاف الإبطان في وصية أو غيرها مما ينبئ أن المجازي عليه عالم به. و" يَوْمَ" ظرف زمان والعامل فيه" وَاسْمَعُوا" أي واسمعوا خبر يوم. وقيل: التقدير واتقوا يوم يجمع الله الرسل، عن الزجاج. وقيل: التقدير اذكروا أو احذروا يوم القيامة حين يجمع الله الرسل، والمعنى متقارب، والمراد التهديد والتخويف. (فيقول ماذا أجبتم) أي ما الذي إجابتكم به أممكم؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى
__________
(1). راجع ج 12 ص 182.
(2). راجع ج 1 ص 245

توحيدي؟" قالُوا" أي فيقولون:" لا عِلْمَ لَنا" واختلف أهل التأويل في المعنى المراد بقولهم:" لا عِلْمَ لَنا" فقيل: معناه لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا، لان ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء، وهذا مروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، فحذف، عن ابن عباس ومجاهد بخلاف. وقال ابن عباس أيضا: معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقيل: إنهم يذهلون «1» من هول ذلك ويفزعون من «2» الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم فيقولون:" لا عِلْمَ لَنا" قاله الحسن ومجاهد والسدي. قال النحاس: وهذا لا يصح، لان الرسل صلوات الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قلت: هذا في أكثر مواطن القيامة، ففي الخبر] إن جهنم إذا جئ بها زفرت زفرة فلا يبقى نبي ولا صديق إلا جثا لركبتيه [وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر؟ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة [. قلت: فإن كان السؤال عند زفرة جهنم- كما قاله بعضهم- فقول مجاهد والحسن صحيح، والله أعلم. قال النحاس: والصحيح في هذا أن المعنى: ماذا أجبتم في السر والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار، فيقولون: لا علم لنا، فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها. وقال ابن جريج: معنى قوله:" ماذا أُجِبْتُمْ" ماذا عملوا بعدكم؟ قالوا:" لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ". قال أبو عبيد: ويشبه هذا حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:] يرد علي أقوام الحوض فيختلجون «3» فأقول أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك [. وكسر الغين [من الغيوب ] «4» حمزة [والكسائي ] «5» وأبو بكر، وضم الباقون. قال الماوردي فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعنه جوابان: أحدهما- أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. الثاني- أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رءوس الاشهاد ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم.
__________
(1). في ك: يرهبون.
(2). في ب وج وهـ وع وى: عن.
(3). أي يجتذبون ويقتطعون.
(4). من ك.
(5). من ك وع. والذي في السمين وروح المعاني: أبو بكر وحمزة.

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

[سورة المائدة (5): آية 110]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قوله تعالى: (إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال: اذكر يوم يجمع الله الرسل وإذ يقول الله لعيسى كذا، قاله المهدوي. و" عِيسَى" يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون" ابْنَ مَرْيَمَ" نداء ثانيا، ويجوز أن يكون في موضع نصب، لأنه نداء منصوب كما قال «1»:
يا حكم بن المنذر بن الجارود

ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلا عند الطوال «2». وقوله تعالى:" اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ" إنما ذكر الله تعالى عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان لهما ذاكرا لأمرين: أحدهما: ليتلو على الأمم ما خصهما به من الكرامة، وميزهما به من علو المنزلة. الثاني- ليؤكد به حجته، ويرد به جاحده. ثم أخذ في تعديد «3» نعمه فقال:" إِذْ أَيَّدْتُكَ" يعني قويتك، مأخوذ من الأيد وهو القوة، وقد تقدم «4». وفي" بِرُوحِ الْقُدُسِ"
__________
(1). الرجز لرجل من بني الحرماز، يمدح به أحد بني المنذر بن الجارود العبدي و(حكم) هذا أحد ولاة البصرة لهشام بن عبد الملك. وسمي جده الجارود لأنه أغار على قوم فاكتسح أموالهم فشبه بالسيل الذي يجرد ما مر به. وتمامه: سرادق المجد عليك ممدود. (شواهد سيبويه).
(2). الطوال: هو محمد بن أحمد بن عبد الله الطوال النحوي من أهل الكوفة أحد أصحاب الكسائي قال ثعلب: وكان حاذقا بإلقاء العربية. توفى سنة 243. (بغية الوعاة).
(3). في ك: أخذ بعدد. [.....]
(4). راجع ج 2 ص 24.

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

وجهان: أحدهما: أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها كما تقدم في قوله" وَرُوحٌ مِنْهُ" «1»] النساء: 171] الثاني: أنه جبريل عليه السلام وهو الأصح، كما تقدم في" البقرة" «2». (تُكَلِّمُ النَّاسَ) يعني وتكلم الناس في المهد صبيا، وفي الكهولة نبيا، وقد تقدم ما في هذا في ] آل عمران [ «3» فلا معنى لإعادته." كَفَفْتُ" معناه دفعت وصرفت" بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ" حين هموا بقتلك." إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ" أي الدلالات والمعجزات، وهي المذكورة في الآية. (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك. (إِنْ هذا) أي المعجزات. (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). وقرا حمزة والكسائي" لَساحِرٌ" أي إن هذا الرجل إلا ساحر قوي على السحر.

[سورة المائدة (5): آية 111]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)
قوله تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) قد تقدم القول في معاني هذه الآية «4». والوحي في كلام العرب معناه الإلهام ويكون على أقسام: وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام. ووحى بمعنى الإلهام كما في هذه الآية، أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم، ومنه قوله تعالى:" وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" «5»] النحل: 68]" وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى " «6»] القصص: 7] ووحي بمعنى الاعلام في اليقظة والمنام. قال أبو عبيدة: أوحيت بمعنى أمرت، و" إِلَى" صلة يقال: وحى وأوحى بمعنى، قال الله تعالى:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها" «7»] الزلزلة: 5] وقال العجاج:
وحى لها القرار فاستقرت «8»

أي أمرها بالقرار فاستقرت. وقيل:" أَوْحَيْتُ" هنا بمعنى أمرتهم. وقيل: بينت لهم. (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) على الأصل، ومن العرب من يحذف إحدى النونين، أي واشهد يا رب. وقيل: يا عيسى بأننا مسلمون لله.
__________
(1). راجع ص 22 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 2 ص 44.
(3). راجع ج 4 ص 90 وص 97. وما بعدها.
(4). راجع ج 4 ص 90 وص 97. وما بعدها.
(5). راجع ج 10 ص 133.
(6). راجع ج 11 ص 250.
(7). راجع ج 20 ص 149.
(8). أي الأرض، وصدر البيت:
بإذنه الأرض وما تعتت

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)

[سورة المائدة (5): آية 112]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
قوله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ على ما تقدم من الاعراب." هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ". قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد" هل تستطيع" بالتاء" ربك" بالنصب. وأدغم الكسائي اللام من" هَلْ" في التاء. وقرا الباقون بالياء،" رَبُّكَ" بالرفع، وهذه القراءة أشكل من الاولى، فقال السدي: المعنى هل يطيعك ربك إن سألته" أَنْ يُنَزِّلَ" فيستطيع بمعنى يطيع، كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى: هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل، ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز:" اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى. قلت: وهذا فيه نظر، لان الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال:" مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ" [الصف: 14] «1». وقال عليه السلام: [لكل نبي حواري وحواري الزبير] ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الاعراب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط «2»، وكما قال من قال من قوم موسى:" اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ" [الأعراف: 138] على ما يأتي بيانه في" الأعراف" «3» إن شاء الله تعالى. وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي
__________
(1). راجع ج 18 ص 89.
(2). ذات أنواط: شجرة بعينها كانت تعبد في الجاهلية قال ابن الأثير: كان المشركون ينوطون بها سلاحهم أي يعلقونه بها، ويعكفون حولها.
(3). راجع ج 7 ص 273.

وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى "] البقرة: 260] على ما تقدم وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة، لان علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شي من ذلك، ولذلك قال الحواريون:" وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا" كما قال إبراهيم:" وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" «1»] البقرة: 260] قلت: وهذا تأويل حسن، وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين، على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى، وقال: لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا، وذكر قول الحواريين:" هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ". ورده عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره، قال ابن الحصار: وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى:" هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ" ليس بشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطف في السؤال، وأدب مع الله تعالى، إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا «2» لكل أحد، والحواريون هم «3» كانوا خيرة من آمن بعيسى، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كله شي ممكن؟! وأما قراءة" التاء" فقيل: المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك هذا قول عائشة ومجاهد- رضي الله عنهما، قالت عائشة رضي الله عنها: كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا" هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ"] قالت: «4»] ولكن" هل تستطيع ربك". وروي عنها أيضا أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا:" هل تستطيع ربك" وعن معاذ بن جبل قال: أقرأنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" هل تستطيع ربك" قال معاذ: وسمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرارا يقرأ بالتاء" هل تسطيع ربك" وقال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله. وقيل: هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله، والمعنى متقارب، ولا بد من محذوف كما قال:"
__________
(1). راجع ج 3 ص 297.
(2). في ع: وقوعه لكل. إلخ. [.....]
(3). في هـ: هم هم كانوا.
(4). من ب وج وك وع.

قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «1»] يوسف: 82] وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف. (قالَ اتَّقُوا اللَّهَ) أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال، فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات، إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى.

[سورة المائدة (5): آية 113]
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
قوله تعالى:" قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها" نصب بأن" وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ" عطف كله، بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه. وفى قولهم:" نَأْكُلَ مِنْها" وجهان: أحدهما- أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها، وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة، إذ كانوا زمنى أو عميانا، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء، فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: قل لهم" اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له: قل له:" نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها" الآية. الثاني-" نَأْكُلَ مِنْها" لننال «2» بركتها لا لحاجة دعتهم إليها، قال الماوردي: وهذا أشبه، لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال ] وقولهم: [ «3»" وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا" يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا. الثاني: تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا «4». الثالث: تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا، ذكرها الماوردي وقال المهدوي: أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا. قال الثعلبي: نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا." وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا"
__________
(1). راجع ج 9 ص 246.
(2). في ع: فننال.
(3). من ك.
(4). كذا في ك وفي البحر: أعوانا لك وفي ب وج وى: لدعوانا. وفي ع: لندعو. وفي هـ: لدعائنا.

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

بأنك رسول الله" وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ" لله بالوحدانية، ولك بالرسالة والنبوة. وقيل:" وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ" لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم.

[سورة المائدة (5): آية 114]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قوله تعالى: (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا) الأصل عند سيبويه يا الله، والميمان بدل من" يا"" رَبَّنا" نداء ثان، لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه. (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب: لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام فإن لم يكن قيل: خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه، فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ومنه قول رؤبة أنشده الأخفش:
تهدي رءوس المترفين الأنداد ... إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستعطى المسئول فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا لأنه يؤكل على المائدة، كقولهم للمطر سماء. وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم: ماد الشيء إذا مال وتحرك «1» قال الشاعر:
لعلك باك إن تغنت حمامة ... يميد بها غصن من الأيك مائل
وقال آخر:
وأقلقني قتل الكناني بعده ... فكادت بي الأرض الفضاء تميد
ومنه قوله تعالى:" وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ" «2»] النحل: 15]. وقال أبو عبيدة: مائدة فاعلة بمعنى مفعولة، مثل" عِيشَةٍ راضِيَةٍ" «3» [الحاقة: 21] بمعنى مرضية و" ماءٍ دافِقٍ" «4»] الطارق: 6] أي مدفوق. قوله تعالى: (تَكُونُ لَنا عِيداً)" تَكُونُ" نعت لمائدة وليس بجواب.
__________
(1). في ى: تحرف.
(2). راجع ج 10 ص 90.
(3). راجع ج 18 ص 270.
(4). راجع ج 20 ص 4.

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

وقرا الأعمش" تكن" على الجواب، والمعنى: يكون يوم نزولها" عِيداً لِأَوَّلِنا" أي لأول أمتنا وآخرها فقيل: إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الأحد عيدا. والعيد واحد الأعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال: للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد قاله الجوهري. وقيل: أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى: عيدا لأنهما يعودان كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم يجمع «1» كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الأنباري: سمي عيدا للعود في المرح والفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم، ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ولا يصاد الوحش ولا الطيور ولا ننفذ الصبيان إلى المكاتب. وقيل: سمي عيدا لان كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم. وقيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد: وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال: إبل عيدية قال:
عيدية أرهنت فيها الدنانير

وقد تقدم «2». وقرا زيد بن ثابت" لأولانا وأخرانا" على الجمع «3» قال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما يأكل [منها] «4» أولهم (وَآيَةً مِنْكَ) يعني دلالة وحجة. (وَارْزُقْنا) أي أعطنا. (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي خير من أعطى ورزق، لأنك الغني الحميد.

[سورة المائدة (5): آية 115]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
__________
(1). في البحر: يجمع الناس لأنهم. إلخ. وفي ب وع وه وى: مجمع.
(2). هو رذاذ الكلبي- كما في اللسان- وصدر البيت:
ظلت تجوب بها البلدان ناجية

(3). صوبت هذه القراءة عن البحر وغيره من كتب التفسير قال صاحب البحر: وقرا زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري (لأولانا وأخرانا) أنثوا على معنى الامة والجماعة. والذي بالأصول: ج وك وب وى وز وهـ: (لاولينا وآخرينا).
(4). من ك وع. [.....]

قوله تعالى" قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ" هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير. قال ابن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى:" فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ". واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ فالذي عليه الجمهور- وهو الحق- نزولها لقوله تعالى:" إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ". وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله تعالى لخلقه فنهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه. وقيل: وعدهم بالإجابة فلما قال لهم:" فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ" الآية استعفوا منها، واستغفروا الله وقالوا: لا نريد هذا، قاله الحسن. وهذا القول الذي قبله خطأ والصواب أنها نزلت. قال ابن عباس: إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل:] صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم [فصاموا ثلاثين يوما وقالوا: يا عيسى لو عملنا لاحد فقضينا عملنا [لأطعمنا] «1»، وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات «2» فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وذكر أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي [الحكيم ] «3» في" نوادر الأصول" له: حدثنا عمر بن أبي عمر قال حدثنا عمار بن هرون الثقفي عن زكرياء بن حكيم الحنظلي عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: لما سألت الحواريون عيسى بن مريم- صلوات الله وسلامه عليه- المائدة قام فوضع ثياب الصوف ولبس ثياب المسوح- وهو سربال من مسوح أسود ولحاف أسود- فقام فألزق القدم بالقدم وألصق العقب بالعقب والإبهام بالإبهام، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم طأطأ رأسه خاشعا لله ثم أرسل عينيه يبكى حتى جرى الدمع
__________
(1). الزيادة عن (روح المعاني) وغيره من كتب التفسير.
(2). أحوات (جمع حوت): وهو نوع من السمك المعروف.
(3). من ع.

على لحيته وجعل يقطر على صدره ثم قال:" اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ" الآية فنزلت سفرة حمراء مدورة بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها والناس ينظرون إليها، فقال عيسى: [اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة إلهي أسألك من العجائب فتعطى ] فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام وعليها منديل مغطى فخر عيسى ساجدا والحواريون معه وهم يجدون لها رائحة طيبة ولم يكونوا يجدون [مثلها] «1» قبل ذلك فقال عيسى: [أيكم أعبد لله وأجرأ على الله وأوثق بالله فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها ونذكر اسم الله عليها ونحمد الله عليها] فقال الحواريون: يا روح الله أنت أحق بذلك فقام عيسى- صلوات الله عليه- فتوضأ وضوءا حسنا وصلي صلاة جديدة ودعا دعاء كثيرا ثم جلس إلى السفرة فكشف عنها فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيلان الدسم وقد نضد حولها من كل البقول ما عدا الكراث وعند رأسها ملح وخل وعند ذنبها خمسة أرغفة على واحد منها خمس رمانات وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر زيتون. قال الثعلبي: على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث بيض وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد. فبلغ ذلك اليهود فجاءوا غما وكمدا ينظرون إليه فرأوا عجبا فقال شمعون وهو رأس الحواريين- يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى صلوات الله عليه: [أما افترقتم «2» بعد عن هذه المسائل ما أخوفني أن تعذبوا]. فقال شمعون: واله بني «3» إسرائيل ما أردت بذلك سوءا. فقالوا: يا روح الله لو كان مع هذه الآية آية أخرى قال عيسى عليه السلام:] يا سمكة احيي بإذن الله [فاضطربت السمكة طرية تبص «4» عيناها، ففزع الحواريون فقال عيسى:] ما لي أراكم تسألون عن الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه ما أخوفني أن تعذبوا [وقال:] لقد نزلت من السماء وما عليها طعام من الدنيا
__________
(1). الزيادة عن الدر المنثور.
(2). في الدر المنثور في رواية: (أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون وتنتهوا عن تنقير المسائل) ... إلخ. وفي تفسير ابن عطية (ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات).
(3). في ع وهـ وب: إلاه إسرائيل.
(4). تبص: تلمع. وفي ب، ج، ك، ى: تبصبص.

ولا من طعام الجنة ولكنه شي ابتدعه الله بالقدرة البالغة فقال لها كوني فكانت [فقال عيسى:] يا سمكة عودي كما كنت [فعادت مشوية كما كانت فقال الحواريون: يا روح الله كن أول من يأكل منها، فقال عيسى:] معاذ الله إنما يأكل منها من طلبها وسألها [فأبت الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مثلة «1» وفتنة فلما رأى عيسى ذلك دعا عليها الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى والمجذمين والمقعدين والعميان واهل الماء الأصفر، وقال:] كلوا من رزق ربكم ودعوه نبيكم واحمدوا الله عليه [وقال:] يكون المهنأ لكم والعذاب على غيركم [فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلاثمائة يتجشئون «2» فبرئ كل سقيم أكل منه، واستغنى كله فقير أكل منه حتى الممات فلما رأى ذلك الناس ازدحموا عليه فما بقي صغير ولا كبير ولا شيخ ولا شاب ولا غني ولا فقير إلا جاءوا يأكلون منه فضغط بعضهم بعضا فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ترعى يوما وتشرب يوما فنزلت أربعين يوما تنزل ضحا فلا تزال حتى يفئ الفيء موضعه وقال الثعلبي: فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا فيأكل منها الناس ثم ترجع إلى السماء والناس ينظرون إلى ظلها حتى تتوارى عنهم فلما تم أربعون يوما أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام ] يا عيسى اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء [فتمارى «3» الأغنياء في ذلك وعادوا الفقراء] وشكوا [ «4» وشككوا الناس فقال الله يا عيسى:] إني آخذ بشرطي [فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيرا يأكلون العذرة يطلبونها بالاكباء والاكباء هي الكناسة واحدها كبا «5» بعد ما كانوا يأكلون الطعام الطيب وينامون على الفرش اللينة فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا على عيسى يبكون، وجاءت الخنازير فجثوا على ركبهم قدام عيسى فجعلوا يبكون وتقطر دموعهم فعرفهم عيسى فجعل يقول:] الست بفلان [؟ فيومئ برأسه ولا يستطيع الكلام فلبثوا كذلك سبعة أيام ومنهم من يقول: أربعة أيام،
__________
(1). مثلة: عقوبة.
(2). جشأ وتجشأ: أخرج صوتا من فمه عند الشبع.
(3). تمارى: شك.
(4). من ك، ى، ج، ب.
(5). كبا (بالكسر والقصر) كالى.

ثم دعا الله عيسى أن يقبض أرواحهم فأصبحوا لا يدرى أين ذهبوا؟ الأرض ابتلعتهم أو ما صنعوا؟!. قلت: في هذا الحديث مقال ولا يصح من قبل إسناده. وعن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي كان طعام المائدة خبزا وسمكا وقال ابن عطية: كانوا يجدون في السمك طيب كله طعام، وذكره الثعلبي. وقال عمار بن ياسر وقتادة: كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمار من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبه: أنزله الله تعالى أقرصة من شعير وحيتانا. وخرج الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير [قال أبو عيسى: هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا. وقال سعيد بن جبير: أنزل على المائدة كل شي إلا الخبز واللحم. وقال عطاء: نزل عليها كل شي إلا السمك واللحم. وقال كعب: نزلت المائدة منكوسة «1» من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلا اللحم. قلت: هذه الثلاثة أقوال مخالفة لحديث الترمذي وهو أولى منها، لأنه إن لم يصح مرفوعا فصح موقوفا عن صحابي كبير والله أعلم والمقطوع به أنها نزلت وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه. وذكر أبو نعيم عن كعب أنها نزلت ثانية لبعض عباد بني إسرائيل قال كعب: اجتمع ثلاثة نفر من عباد بني إسرائيل فاجتمعوا في أرض فلاة مع كل رجل منهم اسم من أسماء الله تعالى فقال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم قالوا: نسألك أن تدعو الله أن يظهر لنا عينا ساحة بهذا المكان، ورياضا خضرا وعبقريا قال: فدعا الله فإذا
__________
(1). نكسه: قلبه وجعل أسفله أعلاه.

عين ساحة ورياض خضر وعبقري. ثم قال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن يطعمنا شيئا من ثمار الجنة فدعا الله فنزلت عليهم بسرة فأكلوا منها لا تقلب إلا أكلوا منها لونا ثم رفعت ثم قال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم، فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن ينزل علينا المائدة التي أنزلها على عيسى قال: فدعا فنزلت فقضوا منها حاجتهم ثم رفعت وذكر تمام الخبر. مسألة: جاء في حديث سلمان المذكور بيان المائدة وأنها كانت سفرة لا مائدة ذات قوائم والسفرة مائدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموائد العرب خرج أبو عبد الله الترمذي ] الحكيم [ «1»: حدثنا محمد بن ] بسار [ «2»، قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن يونس عن قتادة عن أنس قال: ما أكل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خوان قط ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق. قال: قلت لأنس: فعلام كانوا يأكلون؟ قال: على السفر قال محمد بن بشار: يونس هذا هو أبو الفرات الإسكاف. قلت: هذا حديث صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري ومسلم وخرجه الترمذي قال: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا معاذ بن هشام فذكره وقال فيه: حسن غريب. قال الترمذي أبو عبد الله: الخوان هو شي محدث فعلته الأعاجم وما كانت العرب لتمتهنها «3» وكانوا يأكلون على السفر واحدها سفرة وهي التي تتخذ من الجلود ولها معاليق تنضم وتنفرج فبالانفراج سميت سفرة لأنها إذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل لها السفرة وإنما سمي السفر سفرا لاسفار الرجل بنفسه عن البيوت وقوله: ولا في سكرجة لأنها أوعية الأصباغ «4»، وإنما الأصباغ للألوان ولم تكن من سماتهم الألوان وإنما كان طعامهم الثريد عليه مقطعات اللحم. وكان «5» يقول:" انهسوا «6» اللحم نهسا فإنه أشهى وأمرأ" فإن قيل: فقد جاء ذكر المائدة في الأحاديث من ذلك حديث ابن عباس قال: لو كان الضب حراما
__________
(1). من ع. [.....]
(2). الذي في الأصل: (محمد بن المثنى أبو موسى الزمن) وهو (محمد بن بشار) كما في الترمذي وكما سيأتي.
(3). امتهن الشيء: استعمله للمهنة.
(4). الأصباغ (جمع صبغ) وهو ما يؤتدم به من كل مائع كالخل وفي التنزيل: (وصبغ للآكلين).
(5). أي النبي عليه الصلاة والسلام. رواه أحمد والترمذي والحاكم.
(6). النهس أخذ اللحم بأطراف الأسنان ونتفه وفي ى وج وز: انهشوا (نهشا) بالمعجمة وهي الرواية معناها أخذ اللحم بجميع الأسنان.

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)

ما أكل على مائدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجه مسلم وغيره. وعن عائشة رضي الله عنها- قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] تصلي الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة [خرجه الثقات وقيل: إن المائدة كل شي يمد ويبسط مثل المنديل والثوب وكان من حقه أن تكون مادة الدال مضعفة فجعلوا إحدى الدالين ياء فقيل: مائدة، والفعل واقع به فكان ينبغي أن تكون ممدودة ولكن خرجت في اللغة مخرج فاعل كما قالوا: سر كاتم وهو مكتوم وعيشة راضية وهي مرضية وكذلك خرج في اللغة ما هو فاعل على مخرج مفعول فقالوا: رجل مشئوم وإنما هو شائم وحجاب مستور وإنما هو ساتر قال فالخوان هو المرتفع عن الأرض بقوائمه والمائدة ما مد وبسط «1» والسفرة ما أسفر عما في جوفه وذلك لأنها مضمومة بمعاليقها وعن الحسن قال: الأكل على الخوان فعل الملوك وعلى المنديل فعل العجم وعلى السفرة فعل العرب وهو السنة] والله أعلم [ «2».

[سورة المائدة (5): آية 116]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)
قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ). اختلف في وقت هذه المقالة فقال قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين: إنما يقال له هذا يوم القيامة. وقال السدي وقطرب. قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت، واحتجوا بقوله:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ"] المائدة: 118] فإن" إذ" في كلام العرب لما مضى. والأول أصح يدل عليه ما قبله من قوله:" يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ"] المائدة: 109] الآية
__________
(1). في حاشية الجمل عن القرطبي: والمائدة ما مد وبسط من الثياب والمناديل. إلخ.
(2). عن ك.

وما بعده" هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ"] المائدة: 119]. وعلى هذا تكون" إِذْ" بمعنى" إذا" كقوله تعالى:" وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا" «1»] سبأ: 51] أي إذا فزعوا. وقال أبو النجم:
ثم جزاه الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السموات العلا
يعني إذا جزى. وقال الأسود بن جعفر الأزدي:
فالآن إذ هازلتهن فإنما ... يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا
يعني إذا هازلتهن فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع. وفي التنزيل" وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ" «2»] الأعراف: 50] ومثله كثير وقد تقدم. واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين: أحدهما: أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع. الثاني- قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده، وادعوا عليه ما لم يقله. فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم؟ فقيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له. قوله تعالى: (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) خرج الترمذي عن أبي هريرة قال: تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله:" وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" قال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] فلقاه الله [" سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ" الآية كلها. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين أحدهما- تنزيها له عما أضيف إليه. الثاني- خضوعا لعزته وخوفا من سطوته. ويقال: إن الله تعالى لما قال لعيسى:" أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال:" سُبْحانَكَ" ثم قال:" ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ" أي أن ادعى لنفسي ما ليس من حقها يعني أنني
__________
(1). راجع ج 14 ص 314.
(2). راجع ج 7 ص 209.

مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)

مربوب ولست برب وعابد ولست بمعبود. ثم قال:" إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ" فرد ذلك إلى علمه وقد كان الله عالما به أنه لم يقله ولكنه سأله عنه تقريعا لمن اتخذ عيسى إلها. ثم قال: (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك. وقيل: المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقيل: تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه. وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد وقيل: تعلم سري ولا أعلم سرك لان السر موضعه النفس. وقيل: تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة قلت: والمعنى في هذه الأقوال متقارب أي تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن.

[سورة المائدة (5): آية 117]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
قوله تعالى: (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) يعني في الدنيا بالتوحيد. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)" أَنِ" لا موضع لها من الاعراب وهي مفسرة مثل" وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا" «1»] ص: 6]. ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلا عبادة الله. ويجوز أن تكون في موضع خفض أي بأن اعبدوا الله وضم النون أولى لأنهم يستثقلون كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين قوله تعالى: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي حفيظا بما أمرتهم. (ما دُمْتُ فِيهِمْ)" ما" في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) قيل: هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه أن يرفعه وليس بشيء لان الاخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل الدجال على ما يأتي بيانه وإنما المعنى
__________
(1). راجع ج 15 ص 151.

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

فلما رفعتني إلى السماء. قال الحسن: الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه: وفاة الموت وذلك قوله تعالى:" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها" «1»] الزمر: 42] يعني وقت انقضاء أجلها. ووفاة النوم قال الله تعالى:" وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ" «2»] الانعام: 60] يعني الذي ينيمكم. ووفاة الرفع قال الله تعالى:" يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ" «3»] آل عمران: 55].] وقوله [ «4»" كُنْتَ أَنْتَ"]" أَنْتَ هنا" [ «5» توكيد" الرَّقِيبَ" خبر" كُنْتُ" ومعناه الحافظ عليهم والعالم بهم والشاهد على أفعالهم، وأصله المراقبة أي المراعاة ومنه المرقبة «6» لأنها في موضع الرقيب من علو المكان. (وأنت على كل شي شهيد) أي من مقالتي ومقالتهم وقيل: على من عصى وأطاع، خرج مسلم عن ابن عباس قال قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيبا بموعظة فقال: (يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله [حفاة] «7» عراة غرلا «8»" كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ"] الأنبياء: 104] ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح:" وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" قال: فيقال لي إنهم لم يزالوا] مدبرين [ «9» مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم).

[سورة المائدة (5): آية 118]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قوله تعالى:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ" شرط وجوابه" وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" مثله. روى النسائي عن أبي ذر قال: قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآية ليلة حتى أصبح «10»، والآية:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ".
__________
(1). راجع ج 15 ص 260.
(2). راجع ج 7 ص 5.
(3). راجع ج 4 ص 99.
(4). من ك. [.....]
(5). من ك.
(6). في الأصول: الرقبة. والمثبت هو اللغة.
(7). الزيادة عن صحيح مسلم.
(8). غرل (جمع أغرل) أي غير مختونين والمراد- والله أعلم- إنهم يحشرون كما خلقوا لا شي معهم ولا ينقص منهم شي بل يتم لهم كل ما نقص منهم. (هامش مسلم).
(9). من ك وهـ وب وع.
(10). أي يقرأ بآية يرددها في صلاته حتى أصبح.

واختلف في تأويله فقيل: قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف السيد لعبده ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك. وقيل: قاله على وجه التسليم لأمره والاستجارة من عذابه وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر. وقيل الهاء والميم في" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ". لمن مات منهم على الكفر والهاء والميم في" إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ" لمن تاب منهم قبل الموت وهذا حسن. وأما قول من قال إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل لان الاخبار من الله عز وجل لا تنسخ. وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي. وقال:" فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء. وقد قرأ جماعة:" فإنك أنت الغفور الرحيم" وليست من المصحف. ذكره القاضي عياض في كتاب" الشفا" وقال أبو بكر الأنباري: وقد طعن على القرآن من قال إن قوله:" فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" ليس بمشاكل لقوله:" وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ" لان الذي يشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم- والجواب- أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو على ما أنزله الله عز وجل واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه فإنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية

قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)

كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض. خرج مسلم ] من غير طريق [ «1» عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قوله عز وجل في إبراهيم" رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" «2»] إبراهيم: 36] وقال عيسى عليه السلام:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي) وبكى فقال الله عز وجل: (يا جبريل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك" فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال- وهو أعلم- فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل ] له [ «3» إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير ومعناه إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ووجه الكلام على نسقه أولى لما بيناه. وبالله التوفيق.

[سورة المائدة (5): آية 119]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قوله تعالى: (قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي صدقهم في الدنيا فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله، وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه. وقيل: المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم والله أعلم. وقرا نافع وابن محيصن" يوم" بالنصب. ورفع الباقون وهي القراءة البينة على الابتداء والخبر
__________
(1). من: ك.
(2). راجع ج 9 ص 368.
(3). من ع.

ف يَوْمُ يَنْفَعُ خبر ل"- هذا" والجملة في موضع نصب بالقول. وأما قراءة نافع وابن محيصن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز لأنه نصب خبر الابتداء ولا يجوز فيه البناء. وقال إبراهيم بن السري: هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى بن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم فيوم ظرف للقول و" هذا" مفعول القول والتقدير قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين. وقيل: التقدير قال الله عز وجل هذه الأشياء تنفع يوم القيامة. وقال الكسائي والفراء: بني يوم ها هنا على النصب لأنه مضاف إلى غير اسم، كما تقول: مضى يومئذ وأنشد الكسائي «1»:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أَصْحُ والشيب وازع
الزجاج: ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع فإن كان إلى ماض كان جيدا كما مر في البيت وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان لان الفعل بمعنى المصدر. وقيل: يجوز أن يكون منصوبا ظرفا ويكون خبر الابتداء الذي هو" هذا" لأنه مشار به إلى حدث، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الأحداث تقول: القتال اليوم والخروج الساعة، والجملة في موضع نصب بالقول. وقيل: يجوز أن يكون" هذا" في موضع رفع بالابتداء و" يَوْمُ" خبر الابتداء والعامل فيه محذوف والتقدير: قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم. وفية قراءة ثالثة" يوم ينفع" بالتنوين" الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ" في الكلام حذف تقديره" فيه" مثل قوله:" وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً" «2»] البقرة: 48] وهي قراءة الأعمش. قوله تعالى:" لَهُمْ جَنَّاتٌ" ابتداء وخبر." تَجْرِي" في موضع الصفة." مِنْ تَحْتِهَا" أي من تحت غرفها وأشجارها وقد تقدم. ثم بين تعالى ثوابهم وأنه راض عنهم رضا لا يغضب
__________
(1). البيت للنابغة والشاهد في إضافة (حين) إلى الفعل وبنائها معه على الفتح.
(2). راجع ج 1 ص 376.

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

بعده أبدا" وَرَضُوا عَنْهُ" أي عن الجزاء الذي أثابهم به. (ذلِكَ الْفَوْزُ)" أي الظفر" (الْعَظِيمُ)" أي الذي عظم خيره وكثر، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف.

[سورة المائدة (5): آية 120]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قوله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)] الآية [ «1» جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السموات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين. ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السموات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. تمت سورة" المائدة" بحمد الله تعالى.
__________
(1). من ب وج وك.==

ج10.كتاب : الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

تفسير سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الانعام وهي مكية في قول الأكثرين قال ابن عباس وقتادة: هي مكية كلها إلا آيتين منها نزلنا بالمدينة، قوله تعالى:" وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ"] الانعام: 91] نزلت في مالك بن الصيف وكعب ابن الأشرف اليهوديين والأخرى قوله:" وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ"] الانعام: 141] نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري. وقال ابن جريج: نزلت في معاذ بن جبل وقاله الماوردي. وقال الثعلبي سورة" الانعام" مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة" وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ" إلى آخر ثلاث آيات و" قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ"] الانعام: 151] إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية: وهي الآيات المحكمات وذكر ابن العربي: أن قوله تعالى:" قُلْ لا أَجِدُ" نزل بمكة يوم عرفة وسيأتي القول في جميع ذلك إن شاء الله. وفي الخبر أنها نزلت جملة واحدة غير الست الآيات وشيعها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثنا عشر ألف ملك وهي" وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ"] الانعام: 59] نزلوا بها ليلا لهم زجل «1» بالتسبيح والتحميد فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكتاب فكتبوها من ليلتهم. وأسند أبو جعفر النحاس قال: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة قال حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري حدثنا ابن أبي فديك حدثني عمر بن طلحة ابن علقمة بن وقاص عن نافع أبي سهل «2» بن مالك عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نزلت سورة الانعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح) والأرض لهم ترتج ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات «3». وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده عن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه ] «4» قال: الانعام من نجائب «5» القرآن. وفية عن كعب قال: فاتحة" التوراة" فاتحة الانعام وخاتمتها خاتمة
__________
(1). زجل: صوت رفيع عال.
(2). في ج وب وى: أبي سهيل، وفي غيرهما: ابن سهيل. والصحيح ما أثبتناه عن التهذيب. [.....]
(3). في ح الجمل عن القرطبي: ثم خر ساجدا.
(4). من ع.
(5). نجائب القرآن ونواجيه: أفاضل سوره. (النهاية).

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)

" هود". وقاله وهب بن منبه أيضا. وذكر المهدوي قال المفسرون: إن" التوراة" افتتحت بقوله:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ"] الانعام: 1 [الآية وختمت بقوله:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ" «1»] الاسراء: 111] إلى آخر الآية. وذكر الثعلبي عن جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قرأ ثلاث آيات من أول سورة" الانعام" إلى قوله:" وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ"] الانعام: 3] وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة «2» من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له أو يوحي في قلبه شيئا ضربه ضربة فيكون بينه وبينه سبعون حجابا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى:" امش في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي وأنا ربك". وفي البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة" الانعام"" قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ" إلى قوله:" وَما كانُوا مُهْتَدِينَ" «3»] الانعام: 140]. تنبيه- قال العلماء: هذه السورة أصل «4» في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين لان فيها آيات بينات ترد على القدرية دون السور التي تذكر والمذكورات وسنزيد «5» ذلك بيانا إن شاء الله بحول الله تعالى ] وعونه [ «6».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأنعام (6): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
فيه خمس مسائل.
__________
(1). راجع ج 10 ص 344.
(2). المرزبة (بالتخفيف) ويقال لها: الإرزبة (بالهمزة والتشديد). المطرقة الكبيرة التي تكون للحداد. (النهاية).
(3). راجع ج 7 ص 96.
(4). في ع: أمثل.
(5). في ب وج وع وى: وستري ذلك مبينا.
(6). من ك.

الاولى- قوله تعالى" الْحَمْدُ لِلَّهِ" بدأ سبحانه فاتحتها بالحمد على نفسه وإثبات الألوهية أي أن الحمد كله له فلا شريك له فإن قيل: فقد افتتح غيرها بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره فيقال: لان لكل واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون وقد تقدم معنى (الحمد) في الفاتحة «1». الثانية- قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أخبر عن قدرته وعلمه وإرادته فقال: الذي خلق أي اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع. والخلق يكون بمعنى الاختراع ويكون بمعنى التقدير، وقد تقدم وكلاهما مراد هنا وذلك دليل على حدوثهما فرفع السماء بغير عمد وجعلها مستوية من غير أود «2» وجعل فيها الشمس والقمر آيتين وزينها بالنجوم وأودعها السحاب والغيوم علامتين وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات وبث فيها من كل دابة آيات وجعل فيها الجبال أوتادا وسبلا فجاجا وأجرى فيها الأنهار والبحار وفجر فيها العيون من الأحجار دلالات على وحدانيته، وعظيم قدرته وأنه هو الله الواحد القهار وبين بخلقه السماوات والأرض أنه خالق كل شي. الثالثة- خرج مسلم قال: حدثني سريج بن يونس وهرون بن عبد الله قالا حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله ابن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي فقال: (خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل).
__________
(1). راجع ج 1 ص 131 وما بعدها.
(2). الأود: العوج.

قلت: أدخل العلماء هذا الحديث تفسيرا لفاتحة هذه السورة، قال البيهقي: وزعم أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفة ما عليه أهل التفسير واهل التواريخ. وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد وإبراهيم غير محتج به. وذكر محمد بن يحيى قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبى هريرة (خلق الله التربة يوم السبت). فقال علي: هذا حديث مدني رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي قال علي: وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى فقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد وقال لي شبك بيدي عبد الله بن رافع وقال لي: شبك بيدي أبو هريرة وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم [رسول الله ] «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (خلق الله الأرض يوم السبت) فذكر الحديث بنحوه. قال علي بن المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا الامر إلا من إبراهيم بن أبي يحيى قال البيهقي: وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف. وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد- وإسناده ضعيف- عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه) قال فقال عبد الله بن سلام: إن الله عز وجل ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق السموات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر وما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس خلق آدم خرجه البيهقي. قلت: وفية أن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد لا يوم السبت وكذلك تقدم في" البقرة" «2» عن ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتقدم فيها الاختلاف أيما خلق أولا الأرض أو السماء «3» مستوفى. والحمد لله.
__________
(1). من ج.
(2). راجع ج 1 ص 256- 255 وما بعدها.
(3). راجع ج 1 ص 256- 255 وما بعدها. [.....]

الرابعة- قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ذكر بعد خلق الجواهر خلق الاعراض لكون الجوهر لا يستغنى عنه وما لا يستغني عن الحوادث فهو حادث. والجوهر في اصطلاح المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ الحامل للعرض وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في اسمه" الواحد". وسمي العرض عرضا لأنه يعرض في الجسم والجوهر فيتغير به من حال إلى حال والجسم هو المجتمع وأقل ما يقع عليه اسم الجسم جوهران مجتمعان وهذه الاصطلاحات وإن لم تكن موجودة في الصدر الأول فقد دل عليها معنى الكتاب والسنة فلا معنى لإنكارها. وقد استعملها العلماء واصطلحوا عليها وبنوا عليها كلامهم وقتلوا بها خصومهم كما تقدم في" البقرة". واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال السدي وقتادة وجمهور المفسرين: المراد سواد الليل وضياء النهار. وقال الحسن: الكفر والايمان قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر. قلت: اللفظ يعمه وفي التنزيل:" أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ" «1»] الانعام: 122]. والأرض هنا اسم للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها وكذلك" وَالنُّورَ" ومثله" ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا" «2»] غافر: 67] وقال الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا

وقد تقدم «3». وجعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قاله ابن عطية. قلت: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجمع والمفرد معطوفا على المفرد فيتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة والله أعلم وقيل: جمع" الظُّلُماتِ" ووحد" النُّورَ" لان الظلمات لا تتعدى والنور يتعدى. وحكى الثعلبي أن بعض أهل المعاني قال:" جَعَلَ" هنا زائدة والعرب تزيد" جعل" في الكلام كقول الشاعر:
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة ... والواحد «4» اثنين لما هدني الكبر
__________ (1). راجع ج 7 ص 78.
(2). راجع ج 12 ص 11.
(3). تمام البيت:
فإن زمانكم زمن خميص

يقول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم حتى تعتادوا ذلك فإن الزمان ذو مخمصة وجدب.
(4). ورد البيت في ج 1 ص 228 (والأربع اثنين) والصواب ما هنا.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)

قال النحاس: جعل بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد، وقد تقدم هذا المعنى ومحامل جعل في (البقرة) «1» مستوفى. الخامسة- قوله تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ابتداء وخبر والمعنى: ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلا وشريكا وهو الذي خلق هذه الأشياء وحده. قال ابن عطية: ف" ثُمَّ" دالة على قبح فعل الكافرين لان المعنى: أن خلقه السموات والأرض قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ولو وقع العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم والله أعلم.

[سورة الأنعام (6): آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) الآية خبر وفي معناه قولان: أحدهما وهو الأشهر وعليه من الخلق الأكثر أن المراد آدم عليه السلام والخلق نسله والفرع يضاف إلى أصله فلذلك قال:" خَلَقَكُمْ" بالجمع فأخرجه مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده، هذا قول الحسن وقتادة وابن أبي نجيح والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم الثاني: أن تكون النطفة خلقها الله من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ذكره النحاس. قلت: وبالجملة فلما ذكر عز وجل خلق العالم الكبير ذكر بعده خلق العالم الصغير وهو الإنسان وجعل فيه ما في العالم الكبير على ما بيناه في" البقرة" «2» في آية التوحيد] والله أعلم [ «3» والحمد لله. وقد روى أبو نعيم الحافظ في كتابه عن مرة عن ابن مسعود أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيضعها على كفه ثم يقول: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال مخلقة قال: يا رب ما الرزق ما الأثر ما الأجل؟ فيقول: انظر في أم الكتاب فينظر في اللوح
__________
(1). راجع ج 1 ص 228.
(2). راجع ج 2 ص 202 وما بعدها.
(3). من ع.

المحفوظ فيجد فيه رزقه وأثره وأجله وعمله ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته فذلك قوله تعالى:" مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ" «1» [طه: 55]. وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته". قلت: وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين كما أخبر عز وجل في سورة" المؤمنون" «2» فتنتظم الآيات والأحاديث ويرتفع الاشكال والتعارض والله أعلم. وأما الاخبار عن خلق آدم عليه السلام فقد تقدم في ] البقرة [ «3» ذكره واشتقاقه ونزيد هنا طرفا من ذلك ونعته وسنة ووفاته ذكر ابن سعد في" الطبقات" عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الناس ولد آدم وآدم من التراب) وعن سعيد بن جبير قال: خلق الله آدم عليه السلام من أرض يقال لها دجناء «4» قال الحسن: وخلق جؤجؤه «5» من ضرية قال الجوهري: ضرية قرية لبني كلاب على طريق البصرة وهي إلى مكة أقرب وعن ابن مسعود قال: إن الله تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها فخلق منه آدم عليه السلام فكل شي خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر وكل شي خلقه من مالحها فهو صائر إلى النار وإن كان ابن تقي «6» فمن ثم قال إبليس" أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً" «7»] الاسراء: 61] لأنه جاء بالطينة فسمي آدم، لأنه خلق من أديم الأرض. وعن عبد الله بن سلام قال: خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة. وعن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم كان رأسه يمس السماء قال فوطده إلى الأرض حتى صار ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا. وعن أبي بن كعب قال: كان آدم عليه السلام طوالا «8» جعدا كأنه نخلة سحوق «9». وعن ابن عباس في حديث فيه طول- وحج آدم عليه السلام من الهند إلى مكة أربعين حجة على رجليه وكان آدم حين أهبط تمسح رأسه السماء فمن ثم صلع وأورث ولده الصلع ونفرت من طوله دواب البر فصارت وحشا من يومئذ ولم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وتوفي على ذروة
__________
(1). راجع ج 11 ص 12 0.
(2). راجع ج 12 ص 108.
(3). راجع ج 1 ص 279.
(4). دجناء (بالمد والقصر). ويروى بالحاء المهملة وهي مضبوطة في (اللسان) و(النهاية) بفتح الدال. وقال صاحب القاموس: (وهي بالضم والكسر).
(5). الجؤجؤ: الصدر.
(6). في ع: نبي.
(7). راجع ج 10 ص 286. [.....]
(8). الطوال (بالضم): المفرط الطول.
(9). النخلة السحوق الطويلة.

الجبل الذي أنزل عليه فقال شيث لجبريل عليهما السلام:" صل على آدم" فقال له جبريل عليه السلام: تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة فأما خمس فهي الصلاة وخمس وعشرون تفضيلا لآدم. وقيل: كبر عليه أربعا فجعل بنو شيث آدم في مغارة وجعلوا عليها حافظا لا يقربه أحد من بني قابيل وكان الذين يأتونه ويستغفرون له بنو شيث وكان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة. ويقال: هل في الآية دليل على أن الجواهر من جنس واحد؟ الجواب نعم لأنه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر لتسوية العقل بين ذلك في الحكم وقد صح انقلاب الجماد إلى الحيوان بدلالة هذه الآية. قوله تعالى:" ثُمَّ قَضى أَجَلًا" مفعول." وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" ابتداء وخبر. قال الضحاك:" أَجَلًا" في الموت" وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" أجل القيامة فالمعنى على هذا: حكم أجلا وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ولم يعلمكم بأجل القيامة. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف «1» وقتادة- وهذا لفظ الحسن-: قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت" وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" يعني الآخرة. وقيل:" قَضى أَجَلًا" ما أعلمناه من أنه لا نبي بعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) من الآخرة وقيل:" قَضى أَجَلًا" مما نعرفه من أوقات الأهلة والزرع وما أشبههما «2»" وَأَجَلٌ مُسَمًّى" أجل الموت لا يعلم الإنسان متى يموت. وقال ابن عباس ومجاهد: معنى الآية" قَضى أَجَلًا" بقضاء الدنيا،" وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" لابتداء الآخرة. وقيل: الأول قبض الأرواح في النوم والثاني قبض الروح عند الموت عن ابن عباس أيضا. قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) ابتداء وخبر: أي تشكون في أنه إله واحد وقيل: تمارون في ذلك أي تجادلون جدال الشاكين «3» والتماري المجادلة على مذهب الشك ومنه قوله تعالى:" أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى " «4»] النجم: 12].
__________
(1). (في التهذيب): هو مصغر وفي القاموس: هو كأمير.
(2). في ع وى: أشبهها.
(3). في ع: المشركين.
(4). راجع ج 17 ص 92.

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)

[سورة الأنعام (6): الآيات 3 الى 5]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) يقال: ما عامل الاعراب في الظرف من" فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ"؟ ففيه أجوبة: أحدها- أي وهو الله المعظم أو المعبود في السموات وفي الأرض، كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه. ويجوز أن يكون المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض، كما تقول: هو في حاجات الناس وفي الصلاة ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ويكون المعنى: وهو الله في السموات وهو الله في الأرض. وقيل: المعنى وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا يخفى عليه شي، قال النحاس: وهذا «1» من أحسن ما قيل فيه. وقال محمد بن جرير: وهو الله في السموات ويعلم سركم وجهركم في الأرض فيعلم مقدم في الوجهين والأول أسلم وأبعد من الاشكال وقيل غير هذا. والقاعدة تنزيهه عز وجل عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة. (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي من خير وشر. والكسب الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ولهذا لا يقال لفعل الله كسب. قوله تعالى: (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) أي علامة كانشقاق القمر ونحوها. و" مِنْ" لاستغراق الجنس، تقول: ما في الدار من أحد. (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ)" مِنْ" الثانية للتبعيض. و(مُعْرِضِينَ) خبر" كانُوا". والاعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله عز وجل من خلق السموات والأرض وما بينهما وأنه يرجع إلى قديم ] حي [ «2» غني عن جميع الأشياء قادر لا يعجزه شي عالم لا يخفى عليه شي من المعجزات التي أقامها لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3»، ليستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به «4».
__________
(1). في ك: وهذا أحسن. إلخ.
(2). من ك.
(3). من ع.
(4). في ع: يأتي.

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)

قوله تعالى: (فَقَدْ كَذَّبُوا)" يعني مشركي مكة. (بِالْحَقِّ) يعني القرآن، وقيل: بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) أي يحل بهم العقاب، وأراد بالإنباء وهي الاخبار العذاب، كقولك: اصبر وسوف يأتيك الخبر أي العذاب، والمراد ما نالهم يوم بدر ونحوه. وقيل: يوم القيامة.

[سورة الأنعام (6): آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ)" كَمْ" في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله" أَلَمْ يَرَوْا" لان لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده من أجل أن له صدر الكلام. والمعنى: ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم أي ألم يعرفوا ذلك. والقرن الامة من الناس. والجمع القرون، قال الشاعر:
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم ... وخلفت في قرن فأنت غريب
فالقرن كل عالم في عصره مأخوذ من الاقتران أي عالم مقترن به بعضهم إلى بعض، وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (خير الناس «1» قرني- يعني أصحابي «2»- ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) هذا أصح ما قيل فيه. وقيل: المعنى من أهل قرن فحذف كقوله:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ"] يوسف: 82]. فالقرن على هذا مدة من الزمان، قيل: ستون عاما وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة، واحتجوا بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن بسر:" تعيش قرنا" فعاش مائة سنة، ذكره النحاس. واصل القرن الشيء الطالع كقرن ماله قرن من الحيوان. (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) خروج من الغيبة إلى الخطاب، عكسه"
__________
(1). في ع: خيركم. وهي رواية في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي.
(2). في ك: الصحابة.

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ" «1»] يونس: 22]. وقال أهل البصرة. أخبر عنهم بقوله" أَلَمْ يَرَوْا" وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه، ثم خاطبهم معهم، والعرب تقول: قلت لعبد الله ما أكرمه: وقلت لعبد الله ما أكرمك، ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال: ما لم نمكن لهم. ويجوز مكنه ومكن له، فجاء باللغتين جميعا، أي أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا. (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) يريد المطر الكثير، عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزل، ومنه قول الشاعر «2»
إذا سقط السماء بأرض قوم

و" مِدْراراً" بناء دال على التكثير، كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، ومئناث للمرأة التي تلد الإناث، يقال: در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصب" مِدْراراً" على الحال. وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت أشجارهم ومنازلهم، ومنه قول فرعون:" وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي" «3»] الزخرف: 51] والمعنى: وسعنا عليهم النعم فكفروها. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي بكفرهم فالذنوب سبب الانتقام وزوال النعم. (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي أوجدنا، فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا.

[سورة الأنعام (6): آية 7]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قوله تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) الآية. المعنى: ولو نزلنا يا محمد بمرأى منهم كما زعموا وطلبوا كلاما مكتوبا" فِي قِرْطاسٍ". وعن ابن عباس: كتابا معلقا بين السماء والأرض وهذا يبين لك أن التنزيل على وجهين، أحدهما- على معنى نزل عليك الكتاب بمعنى نزول الملك به. والآخر- ولو نزلنا كتابا في قرطاس يمسكه الله بين السماء والأرض،
__________
(1). راجع ج 8 ص 324.
(2). هو معود الحكماء- معاوية بن مالك- وفي ك: نزل السماء. وهي رواية: وهذا صدر بيت له، وتمامه:
رعيناه إن كانوا غضابا

وسمي معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة:
أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الحدثان نابا

[.....]
(3). راجع ج 16 ص 98.

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)

وقال:" نَزَّلْنا" على المبالغة بطول مكث الكتاب بين السماء والأرض والكتاب مصدر بمعنى الكتابة فبين أن الكتابة في قرطاس، لأنه غير معقول كتابة إلا «1» في قرطاس أي في صحيفة والقرطاس الصحيفة، ويقال: قرطاس بالضم، وقرطس فلان إذا رمى فأصاب الصحيفة الملزقة بالهدف. (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي فعاينوا ذلك ومسوه باليد كما اقترحوا وبالغوا في ميزه وتقليبه جسا بأيديهم ليرتفع كل ارتياب ويزول عنهم كله إشكال، لعاندوا فيه وتابعوا «2» كفرهم، وقالوا: سحر مبين إنما سكرت أبصارنا وسحرنا، وهذه الآية جواب لقولهم:" حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ" «3»] الاسراء: 93] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذبوا به. قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا:" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً" «4»] الاسراء: 90] الآية.

[سورة الأنعام (6): الآيات 8 الى 10]
وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) اقترحوا هذا أيضا. و" ذَلُولًا" بمعنى هلا. (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته. مجاهد وعكرمة: لقامت الساعة. قال الحسن وقتادة: لاهلكوا بعذاب الاستئصال، لان الله أجرى سنته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن أهلكه الله في الحال. أي (لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ولا يؤخرون. قوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا) أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة، لان كله جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولداخلهم
__________
(1). في ب وع وى:: لا في قرطاس.
(2). في ع: وبالغوا في كفرهم.
(3). راجع ج 10 ص 327.
(4). راجع ج 10 ص 327.

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)

من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم. وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي. أي لو أنزل ملك لرأوه في صورة رجل «1» كما جرت عادة الأنبياء، ولو نزل على عادته لم يروه، فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم فكانوا يقولون: هذا ساحر مثلك. وقال الزجاج: المعنى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ) أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم وكانوا يقولون لهم: إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا «2» ويشككونهم، فأعلمهم الله عز وجل أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون. واللبس الخلط، يقال: لبست عليه الامر ألبسه لبسا أي خلطته، وأصله التستر بالثوب ونحوه وقال:" لَلَبَسْنا" بالإضافة إلى نفسه على جهة الخلق، وقال" ما يَلْبِسُونَ" فأضاف إليهم على جهة الاكتساب. ثم قال مؤنسا لنبيه عليه الصلاة والسلام ومعزيا:" وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ" أي نزل بأممهم من العذاب ما أهلكوا به جزاء استهزائهم بأنبيائهم. حاق بالشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل، قال الله تعالى:" وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ" «3»] فاطر: 43] و" ما" في قوله:" بِما كانُوا" بمعنى الذي وقيل: بمعنى المصدر أي حاق بهم عاقبة استهزائهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 11 الى 12]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)
قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين: سافروا في الأرض فانظروا واستخبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب
__________
(1). في ب وع وي: لا في قرطاس
(2). في ع: يلبسون عليهم مثل هذا.
(3). راجع ج 14 ص 357.

وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم واهل الديار، والعاقبة آخر الامر. والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل. قوله تعالى: (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا [أيضا] «1» احتجاج عليهم، المعنى قل لهم يا محمد:" لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" فإن قالوا لمن هو؟ فقل [هو]" لِلَّهِ" المعنى: إذا ثبت أن له ما في السموات والأرض وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ويبعثهم بعد الموت. ولكنه" كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" أي وعد بها فضلا منه وكرما فلذلك أمهل وذكر النفس هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وعده، وارتفاع الوسائط دونه، ومعنى الكلام الاستعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي) أي لما أظهر قضاءه وأبرزه لمن شاء أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه مقتضاه خبر حق ووعد صدق" إن رحمتي تغلب غضبي" أي تسبقه وتزيد عليه. قوله تعالى: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) اللام لام القسم، والنون نون التأكيد. وقال الفراء وغيره: يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله:" الرَّحْمَةَ" ويكون ما بعده مستأنفا على جهة التبيين، فيكون معنى" لَيَجْمَعَنَّكُمْ" ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم. وقيل: المعنى ليجمعنكم أي في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه. وقيل: (إِلى ) بمعنى في، أي ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل: يجوز أن يكون موضع" لَيَجْمَعَنَّكُمْ" نصبا على البدل من الرحمة، فتكون اللام بمعنى (أن) المعنى: كتب ربكم على نفسه ليجمعنكم، أي أن يجمعكم، وكذلك قال كثير من النحويين في قوله تعالى:" ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ" «2»] يوسف: 35] أي أن يسجنوه. وقيل: موضعه نصب ب (- كَتَبَ)، كما تكون (أن) في قوله عز وجل" كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ"] الانعام: 54] وذلك أنه مفسر للرحمة بالامهال إلى يوم القيامة، عن الزجاج.
__________
(1). في ك.
(2). راجع ج 9 ص 186.

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

(لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه. (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ابتداء وخبر، قاله الزجاج، وهو أجود ما قيل فيه، تقول: الذي يكرمني فله درهم، فالفاء تتضمن معنى الشرط والجزاء. وقال الأخفش: إن شئت كان (الَّذِينَ) في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) أي ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم، وأنكره المبرد وزعم أنه خطأ، لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب، لا يقال: مررت بك زيد ولا مررت بي زيد لان هذا لا يشكل فيبين. قال القتبي: يجوز أن يكون (الَّذِينَ) جزاء على البدل من (الْمُكَذِّبِينَ) الذين تقدم ذكرهم. أو على النعت لهم. وقيل: (الَّذِينَ) نداء مفرد.

[سورة الأنعام (6): الآيات 13 الى 16]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
قوله تعالى: (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي ثبت، وهذا احتجاج عليهم أيضا. وقيل: نزلت الآية لأنهم قالوا: علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا «1»، فقال الله تعالى: أخبرهم أن جميع الأشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني. و(سَكَنَ) معناه هدأ واستقر، والمراد ما سكن وما تحرك، فحذف لعلم السامع. وقيل: خص الساكن بالذكر لان ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة. وقيل المعنى ما خلق، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها، فإنه يجري عليه الليل والنهار، وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق، وهذا أحسن ما قيل، لأنه يجمع شتات الأقوال. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأصواتهم (الْعَلِيمُ) بأسرارهم.
__________
(1). في ع: من أغنيائنا، فأخبرهم سبحانه. إلخ.

قوله تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) مفعولان، لما دعوه إلى عبادة الأصنام دين آبائه أنزل الله تعالى" قُلْ" يا محمد:" أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا" أي ربا ومعبودا وناصرا دون الله. (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالخفض على النعت لاسم الله، وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدإ. وقال الزجاج: ويجوز النصب على المدح. أبو علي الفارسي: ويجوز نصبه على فعل مضمر كأنه قال: أترك فاطر السموات والأرض؟ لان قوله:" أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا" يدل على ترك الولاية له، وحسن إضماره لقوة هذه الدلالة. (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) كذا قراءة العامة، أي يرزق ولا يرزق، دليله قوله تعالى:" ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ" «1»] الذاريات: 57] وقرا سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ، وهي قراءة حسنة، أي أنه يرزق عباده، وهو سبحانه غير محتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوقون من الغذاء. وقرى بضم الياء وكسر العين في الفعلين، أي إن الله يطعم عباده ويرزقهم والولي «2» لا يطعم نفسه ولا من يتخذه. وقرى بفتح الياء والعين في الأول أي الولي (ولا يطعم) بضم الياء وكسر العين. وخص الإطعام بالذكر دون غيره من ضروب الانعام، لان الحاجة إليه أمس لجميع الأنام. (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي استسلم لأمر الله تعالى. وقيل: أول من أخلص أي من قومي وأمتي، عن الحسن وغيره. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وقيل لي:" وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي بعبادة غيره أن يعذبني، والخوف توقع المكروه. قال ابن عباس:" أَخافُ" هنا بمعنى أعلم. (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) أي العذاب" يَوْمَئِذٍ" يوم القيامة" فَقَدْ رَحِمَهُ" أي فاز ونجا ورحم. وقرا الكوفيون" من يصرف" بفتح الياء وكسر الراء، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، لقوله:" قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ" ولقوله:" فَقَدْ رَحِمَهُ" ولم يقل رحم على المجهول، ولقراءة أبي" من يصرفه الله عنه" واختار سيبويه القراءة الاولى- قراءة أهل المدينة وأبي عمروقال سيبويه: وكلما قل الإضمار في الكلام كان أولى، فأما قراءة] من قرأ [ «3»
__________
(1). راجع ج 17 ص 55.
(2). الولي: الوثن.
(3). من ك. [.....]

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

" من يصرف" بفتح الياء فتقديره: من يصرف الله عنه العذاب، وإذا قرئ (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) فتقديره: من يصرف عنه العذاب. (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي النجاة البينة.

[سورة الأنعام (6): آية 17]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) المس والكشف من صفات الأجسام، وهو هنا مجاز وتوسع، والمعنى: إن تنزل بك يا محمد شدة من فقر أو مرض فلا رافع وصارف له إلا هو، وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الخير والضر روى ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: (يا غلام- أو يا بني- ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن)؟ فقلت: بلى، فقال: (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه واعمل الله بالشكر واليقين واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا) أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب (الفصل والوصل) وهو حديث صحيح، وقد خرجه الترمذي، وهذا أتم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 18 الى 19]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

قوله تعالى: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) القهر الغلبة، والقاهر الغالب، وأقهر الرجل إذا صير بحال المقهور الذليل، قال الشاعر «1»:
تمنى حصين أن يسود جذاعة ... فأمسى حصين قد أذل وأقهرا
وقهر غلب. ومعنى (فَوْقَ عِبادِهِ) فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان، كما تقول: السلطان فوق رعيته أي بالمنزلة والرفعة. وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أمره (الْخَبِيرُ) بأعمال عباده، أي من اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به. قوله تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) وذلك أن المشركين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت الآية، عن الحسن وغيره. ولفظ (شَيْءٍ) هنا واقع موقع اسم الله تعالى، المعنى الله أكبر شهادة أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم، فهو شهيد بيني وبينكم على أني قد بلغتكم وصدقت فيما قلته وادعيته من الرسالة. قوله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) أي والقرآن شاهد بنبوتي. (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) يا أهل مكة. (وَمَنْ بَلَغَ) أي ومن بلغه القرآن. فحذف (الهاء) لطول الكلام. وقيل: ومن بلغ الحلم. ودل بهذا على أن من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبد. وتبليغ القرآن والسنة مأمور بهما، كما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبليغهما، فقال:" يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ" «2»] المائدة: 67]. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (. وفي الخبر أيضا، من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذ به أو تركه. وقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والانس فهو نذير له. وقال القرظي: من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمع منه. وقرا أبو نهيك: (وأوحى إلي هذا القرآن) مسمى الفاعل، وهو معنى قراءة الجماعة. (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى ) استفهام توبيخ
__________ (1). هو المخبل السعدي يهجو الزبرقان وقومه وجذاع الرجل قومه.
(2). راجع ص 242 من هذا الجزء.

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)

وتقريع. وقرئ (أَإِنَّكُمْ) بهمزتين على الأصل. وإن خففت الثانية قلت: (أينكم). وروى الأصمعي عن أبي عمرو ونافع (ءائنكم)، وهذه لغة معروفة، تجعل بين الهمزتين ألف كراهة لالتقائهما، قال الشاعر «1»:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا ءا أنت أم أمّ سالم
ومن قرأ" إنكم" على الخبر فعلى أنه قد حقق عليهم شركهم. وقال:" آلِهَةً أُخْرى " ولم يقل: (أخر)، قال الفراء: لان الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث، ومنه قوله:" وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها" «2»] طه: 51]، وقوله:" فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى " «3»] طه: 51] ولو قال: الأول والآخر صح أيضا «4». (قُلْ لا أَشْهَدُ) أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه ونظيره" فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ" «5»] الانعام: 150].

[سورة الأنعام (6): آية 20]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ). يريد اليهود والنصارى الذين عرفوا وعاندوا وقد تقدم معناه في (البقرة) «6». و(الَّذِينَ) في موضع رفع بالابتداء." يَعْرِفُونَهُ" في موضع الخبر، أي يعرفون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الحسن وقتادة، وهو قول الزجاج. وقيل: يعود على الكتاب، أي يعرفونه على ما يدل عليه، أي على الصفة التي هو بها من دلالته على صحة أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله." الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ" في موضع النعت، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره" فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ".

[سورة الأنعام (6): الآيات 21 الى 22]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
__________
(1). هو ذو الرمة والوعساء رملة لينة وجلاجل (بفتح الجيم) وفي كتاب سيبويه (بضمها) موضع بعينه. والنقا الكثيب من الرمل.
(2). راجع ج 10 ص 342.
(3). راجع ج 11 ص 205.
(4). أي في غير القرآن.
(5). راجع ج 7 ص 129.
(6). راجع ج 2 ص 162 وما بعدها.

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)

قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ) ابتداء وخبر أي لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى ) أي اختلق (عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) يريد القرآن والمعجزات. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) قيل: معناه في الدنيا، ثم استأنف فقال:" وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً" على معنى واذكر" يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ". وقيل: معناه أنه لا يفلح الظالمون في الدنيا ولا يوم نحشرهم، فلا يوقف على هذا التقدير على قوله: (الظَّالِمُونَ) لأنه متصل. وقيل: هو متعلق بما بعده وهو (انْظُرْ) أي انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم، أي كيف يكذبون يوم نحشرهم؟. (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) سؤال إفضاح لا إفصاح «1». (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي في أنهم شفعاء لكم عند الله بزعمكم، وأنها تقربكم منه زلفى، وهذا توبيخ لهم. قال ابن عباس: كل زعم في القرآن فهو كذب.

[سورة الأنعام (6): آية 23]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) الفتنة الاختبار أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال، ورأوا الحقائق، وارتفعت الدواعي «2». (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) تبرءوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين. قال ابن عباس: يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك، قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى: أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا، فذلك قوله: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «3»] النساء: 42]. وقال أبو إسحاق الزجاج: تأويل هذه الآية لطيف جدا، أخبر الله عز وجل بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع
__________
(1). في ك: لا إيضاح.
(2). في هـ وب وج وع: الدعاوى.
(3). راجع ج 5 ص 198.

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

في هلكة تبرأ منه، [فيقال ] «1»: ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه. وقال الحسن: هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا، ومعنى (فِتْنَتُهُمْ) عاقبة فتنتهم أي كفرهم. وقال قتادة: معناه معذرتهم. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: (فيلقى العبد فيقول أي فل «2» ألم أكرمك وأسودك [وأزوجك ] «3» وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى [أي رب ] «4» فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا، فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال فيقال ها هنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه).

[سورة الأنعام (6): آية 24]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) كذب المشركين قولهم: إن عبادة الأصنام تقربنا إلى الله زلفى، بل ظنوا ذلك وظنهم الخطأ لا يعذرهم ولا يزيل اسم الكذب عنهم، وكذب المنافقين باعتذارهم بالباطل، وجحدهم نفاقهم. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي فانظر كيف ضل عنهم افتراؤهم أي تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم. وقيل: (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئا، عن الحسن. وقيل: المعنى عزب عنهم افتراؤهم لدهشهم، وذهول عقولهم.
__________
(1). في الأصول (فيقول) والتصويب عن تفسير الفخر والآلوسي.
(2). (أي فل) قال النووي: (بضم الفاء وسكون اللام) ومعناه يا فلان وهو ترخيم على خلاف القياس وقيل: ليس ترخيما بل هي لغة بمعنى فلان لأنه لا يقال إلا بسكون اللام ولو كان ترخيما لفتحوها أو ضموها. و(تربع) أي تأخذ ربع الغنيمة يريد ألم أجعلك رئيسا مطاعا لان الملك كان يأخذ ربع الغنيمة في الجاهلية دون أصحابه. وقيل: إن معناه تركتك مستريحا لا تحتاج إلى كلفة وطلب.
(3). الزيادة عن صحيح مسلم. [.....]
(4). الزيادة عن صحيح مسلم.

والنظر في قوله: (انْظُرْ) يراد به نظر الاعتبار، ثم قيل: كَذَبُوا بمعنى يكذبون، فعبر عن المستقبل بالماضي، وجاز أن يكذبوا في الآخرة لأنه موضع دهش وحيرة وذهول عقل. وقيل: لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة، لأنها دار جزاء على ما كان في الدنيا- وعلى ذلك أكثر أهل النظر- وإنما ذلك في الدنيا، فمعنى" وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ" على هذا: ما كنا مشركين عند أنفسنا، وعلى جواز أن يكذبوا في الآخرة يعارضه قوله: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)، ولا معارضة ولا تناقض، لا يكتمون الله حديثا في بعض المواطن إذا شهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بعملهم، ويكذبون على أنفسهم في بعض المواطن قبل شهادة الجوارح على ما تقدم. والله أعلم. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى:" وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ" قال: اعتذروا وحلفوا، وكذلك قال ابن أبي نجيح وقتادة: وروي عن مجاهد أنه قال: لما رأوا أن الذنوب تغفر إلا الشرك بالله والناس يخرجون من النار قالوا:" وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ" وقيل:" وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ" أي علمنا أن الأحجار لا تضر ولا تنفع، وهذا وإن كان صحيحا من القول فقد صدقوا ولم يكتموا، ولكن لا يعذرون بهذا، فإن المعاند كافر غير معذور. ثم قيل في قوله:" ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ" خمس قراءات: قرأ حمزة والكسائي" يكن" بالياء" فتنتهم" بالنصب خبر" يكن"" إِلَّا أَنْ قالُوا" اسمها أي إلا قولهم، فهذه قراءة بينة. وقرا أهل المدينة وأبو عمرو" تَكُنْ" بالتاء" فتنتهم" بالنصب" (إِلَّا أَنْ قالُوا)" أي إلا مقالتهم. وقرا أبي وابن مسعود وما كان- بدل [قوله ] «1» (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ)- فتنتهم إلا أن قالوا (. وقرا ابن عامر وعاصم من رواية حفص، والأعمش من رواية المفضل، والحسن وقتادة وغيرهم (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ" بالتاء" فِتْنَتُهُمْ" بالرفع اسم" تَكُنْ" والخبر" إِلَّا أَنْ قالُوا" فهذه أربع قراءات. الخامسة:" ثم لم يكن" بالياء (فِتْنَتُهُمْ)، [رفع ] «2» ويذكر الفتنة لأنها بمعنى الفتون، ومثله" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى "»
] البقرة: 275]." وَاللَّهِ" [الواو] «4» واو القسم" رَبِّنا" نعت لله عز وجل، أو بدل. ومن نصب فعلى النداء أي يا ربنا وهي قراءة حسنة، لان فيها معنى الاستكانة والتضرع، إلا أنه فصل بين القسم وجوابه بالمنادي.
__________
(1). من ب وج وك وع.
(2). من ب وج وك وع.
(3). راجع ج 3 ص 347.
(4). من ك.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

[سورة الأنعام (6): آية 25]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ). [أفرد] «1» على اللفظ يعني المشركين كفار مكة. (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم. وليس المعنى أنهم لا يسمعون ولا يفقهون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم. والأكنة الأغطية جمع كنان مثل الاسنة والسنان، والاعنة والعنان. كننت الشيء في كنه إذا صنته فيه. وأكننت الشيء أخفيته. والكنانة معروفة «2». والكنة (بفتح الكاف والنون) امرأة أبيك، ويقال: امرأة الابن أو الأخ، لأنها في كنه. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي يفهموه وهو في موضع نصب، المعنى كراهية أن يفهموه، «3» أو لئلا يفهموه «4». (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) عطف عليه أي ثقلا، يقال منه: وقرت أذنه (بفتح الواو) توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين. وقد وقر الله أذنه يقرها وقرا، يقال: اللهم قر أذنه. وحكى أبو زيد عن العرب: أذن موقورة على ما لم يسم فاعله، فعلى هذا وقرت (بضم الواو). وقرا طلحة بن مصرف (وقرا) بكسر الواو، أي جعل في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير، وهو مقدار ما يطيق أن يحمل، والوقر الحمل، يقال منه: نخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير. ورجل ذو قرة إذا كان وقورا بفتح الواو، ويقال منه: وقر الرجل (بضم القاف) وقارا، ووقر (بفتح القاف) أيضا. قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أخبر الله تعالى بعنادهم لأنهم لما رأوا القمر منشقا قالوا: سحر، فأخبر الله عز وجل بردهم الآيات بغير حجة.
__________
(1). الزيادة عن ابن عطية أبو حيان: وحد الضمير في (يَسْتَمِعُ) حملا على لفظ (من) وجمعه في (عَلى قُلُوبِهِمْ) حملا على معناها.
(2). يعني جعبة السهام وقبيلة من مضر وبها سميت أرض الكنانة.
(3). في ج: يفقهوه.
(4). في ج: يفقهوه.

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)

قوله تعالى: (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) مجادلتهم قولهم: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله، عن ابن عباس." يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا" يعني قريشا، قال ابن عباس: قالوا للنضر بن الحرث [: ما يقول محمد؟ قال: أرى تحريك شفتيه وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر صاحب قصص وأسفار، فسمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم وإسفنديار فكان يحدثهم. وواحد الأساطير أسطار كأبيات «1» وأباييت، عن الزجاج. قال الأخفش: واحدها أسطورة كأحدوثة وأحاديث. أبو عبيدة: واحدها إسطارة. النحاس: واحدها أسطور مثل عثكول «2». ويقال: هو جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، يقال: سطر وسطر. والسطر الشيء الممتد المؤلف كسطر الكتاب. القشيري: واحدها أسطير. وقيل: هو جمع لا واحد له كمذاكير وعباديد «3» وأبابيل أي ما سطره الأولون في الكتب. قال الجوهري وغيره: الأساطير الأباطيل والترهات. قلت: أنشدني بعض أشياخي:
تطاول ليلي واعترتني وساوسي ... لآت أتى بالترهات الأباطيل

[سورة الأنعام (6): آية 26]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
قوله تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) النهي الزجر، والنأي البعد، وهو عام في جميع الكفار أي ينهون عن اتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينأون عنه، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن أذائه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتباعد عن الايمان به، عن ابن عباس أيضا. وروى أهل السير قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل
__________
(1). كذا في اوب وهـ وك. وفي زوع: أنياب وأنابيب. وكلاهما جمع وجمع الجمع فليتأمل.
(2). العثكول: العذق وقيل: الشمراخ وهو ما عليه البسر من عيدان الكباسة.
(3). العباديد والعبابيد بلا واحد من لفظهما: الفرق من الناس والخيل الذاهبون في كل وجه والآكام والطرق البعيدة.

لعنه الله-: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته. فقام ابن الزبعري فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانفتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه فقال: (يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي) فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الله بن الزبعري، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل جللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال: (عبد الله بن الزبعري)، فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول، فنزلت هذه الآية" (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ)" فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا عم نزلت فيك آية) قال: وما هي؟ قال: (تمنع قريشا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي) فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك يقينا «1»
فقالوا: يا رسول الله هل تنفع أبا طالب نصرته؟ قال: (نعم دفع عنه بذاك الغل ولم يقرن مع الشياطين ولم يدخل في جب الحيات والعقارب إنما عذابه في نعلين من نار [في رجليه ] «2» يغلي منهما دماغه في رأسه وذلك أهون أهل النار عذابا (. وأنزل الله على رسوله" فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" «3» [الأحقاف: 35]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمه:) قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة) قال: لولا تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى:" إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ" «4» [القصص: 56] كذا الرواية المشهورة (الجزع) بالجيم والزاي ومعناه
__________
(1). في الواحدي وغيره: مبينا.
(2). من ج وك وع وز وهـ. [.....]
(3). راجع ج 16 ص 220.
(4). راجع ج 13 ص 299.

الخوف. وقال أبو عبيد «1»: (الخرع) بالخاء المنقوطة والراء المهملة. [قال ] «2» يعني الضعف والخور، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه). وأما عبد الله ابن الزبعري فإنه أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، واعتذر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبل عذره، وكان شاعرا مجيدا، فقال يمدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وله في مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى في كفره، منها قوله:
منع الرقاد بلابل وهموم ... والليل معتلج الرواق بهيم
مما أتاني أن أحمد لامني ... فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة «3» سرح اليدين غشوم
إني لمعتذر إليك من الذي ... أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة ... سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودني ... أمر الغواة وأمرهم مشئوم
فاليوم آمن بالنبي محمد ... قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة فانقضت أسبابها ... وأتت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما ... زللي «4» فإنك راحم مرحوم
وعليك من سمة المليك علامة ... نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه ... شرفا وبرهان الإله عظيم
ولقد شهدت بأن دينك صادق ... حقا وأنك في العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفى ... مستقبل في الصالحين كريم
قرم «5» علا بنيانه من هاشم ... فرع تمكن في الذرى وأروم
__________
(1). في ك وى: أبو عبيدة.
(2). من ج وك وب وز وه.
(3). الناقة ذات السرعة والنشاط. والناقة الصلبة. راجع ج 5 ص 206.
(4). في ب وج وك وز وه: وارحم.
(5). السيد العظيم.

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)

وقيل: المعنى (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) أي هؤلاء الذين يستمعون ينهون عن القرآن (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ). عن قتادة، فالهاء على القولين الأولين في (عَنْهُ) للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى قول قتادة للقرآن. (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (إِنْ) نافية أي وما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدونهم.

[سورة الأنعام (6): آية 27]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [أي إذ] «1» وقفوا غدا و(إِذْ) قد تستعمل في موضع (إذا) و(إذا) في موضع (إذ) وما سيكون فكأنه كان، لان خبر الله تعالى حق وصدق، فلهذا عبر بالماضي. ومعنى (إِذْ وُقِفُوا) حبسوا يقال: وقفته وقفا فوقف وقوفا. وقرا ابن السميقع (إذ وقفوا) بفتح الواو والقاف من الوقوف." عَلَى النَّارِ" أي هم فوقها على الصراط وهي تحتهم. وقيل: (عَلَى) بمعنى الباء، أي وقفوا بقربها وهم يعاينونها. وقال الضحاك: جمعوا، يعني على أبوابها. ويقال: وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم. وفي الخبر: أن الناس كلهم يوقفون على متن جهنم كأنها متن إهالة «2»، ثم ينادي مناد خذي أصحابك ودعي أصحابي. وقيل: (وُقِفُوا) دخلوها- أعاذنا الله منها- فعلى بمعنى (في) أي وقفوا في النار. وجواب (لَوْ) محذوف ليذهب الوهم إلى كل شي فيكون أبلغ في التخويف، والمعنى: لو تراهم في تلك الحال لرأيت أسوأ حال، أو لرأيت منظرا هائلا، أو لرأيت أمرا عجبا وما كان مثل هذا التقدير. قوله تعالى: (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) بالرفع في الافعال الثلاثة عطفا قراءة أهل المدينة والكسائي، وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالضم «3». ابن عامر على رفع (نكذب) ونصب (وَنَكُونَ) وكله داخل في معنى التمني، أي لا تمنوا الرد
__________
(1). من ب وج وع وى.
(2). الإهالة الشحم المذاب ومتن الإهالة ظهرها إذا سكبت في الإناء، فشبه سكون جهنم قبل أن يصير فيها الكفار بذلك. (اللسان).
(3). أي بالرفع في كلها كما في ابن عطية.

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)

وألا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين. واختار سيبويه القطع في (ولا نكذب) فيكون غير داخل في التمني، المعنى: ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب، أي لا نكذب رددنا أو لم نرد، قال سيبويه: وهو مثل قوله دعني ولا أعود أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني. واستدل أبو عمرو على خروجه من التمني بقوله:" وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ" لان الكذب لا يكون في التمني إنما يكون في الخبر. وقال من جعله داخلا في التمني: المعنى وإنهم لكاذبون في الدنيا في إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسل. وقرا حمزة وحفص بنصب (نُكَذِّبَ) و(نَكُونَ) جوابا للتمني، لأنه غير واجب، وهما داخلان في التمني على معنى أنهم تمنوا الرد وترك التكذيب والكون مع المؤمنين. قال أبو إسحاق: معنى (وَلا نُكَذِّبَ) أي إن رددنا لم نكذب. والنصب في (نُكَذِّبَ) و(نَكُونَ) بإضمار (أن) كما ينصب في جواب الاستفهام والامر والنهي والعرض، لان جميعه غير واجب ولا واقع بعد، فينصب الجواب مع الواو كأنه عطف على مصدر الأول، كأنهم قالوا: يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء من الكذب، وكون من المؤمنين، فحملا على مصدر (نُرَدُّ) لانقلاب المعنى إلى الرفع، ولم يكن بد من إضمار (أن) فيه يتم النصب في الفعلين. وقرا ابن عامر (وَنَكُونَ) بالنصب على جواب التمني كقولك: ليتك تصير إلينا ونكرمك، أي ليت مصيرك يقع وإكرامنا يقع، وأدخل الفعلين الأولين في التمني، أو أراد: ونحن لا نكرمك «1» على القطع على ما تقدم، يحتمل. وقرا أبي (ولا «2» نكذب بآيات ربنا أبدا). وعنه وابن مسعود (يا ليتنا نرد فلا نكذب) بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في الجواب كما ينصب بالواو، عن الزجاج. وأكثر البصريين لا يجيزون الجواب إلا بالفاء.

[سورة الأنعام (6): آية 28]
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)
__________
(1). في ك.
(2). كذا في الأصول والذي في البحر: وقرا أبي (فلا نكذب بآيات ربنا أبدا).

وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)

قوله تعالى: (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) بل إضراب عن تمنيهم وادعائهم الايمان لو ردوا. واختلفوا في معنى (بَدا لَهُمْ) على أقوال بعد تعيين من المراد، فقيل: المراد المنافقون لان اسم الكفر مشتمل عليهم، فعاد الضمير على بعض المذكورين، قال النحاس: وهذا من الكلام العذب الفصيح. وقيل: المراد الكفار وكانوا إذا وعظهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يفطن بهم ضعفاؤهم، فيظهر يوم القيامة، ولهذا قال الحسن: (بَدا لَهُمْ) أي بدا لبعضهم ما كان يخفيه عن بعض. وقيل: بل ظهر لهم ما كانوا يجحدونه من الشرك فيقولون: (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين (بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ). قاله أبو روق «1». وقيل: (بَدا لَهُمْ) ما كانوا يكتمونه من الكفر، أي بدت أعمالهم السيئة كما قال:" وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" «2»] الزمر: 47]. قال المبرد: بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه. وقيل: المعنى بل ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة، لان بعده" وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ". قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا) قيل: بعد معاينة العذاب. وقيل: قبل معاينته. (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) أي لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند. قوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) إخبار عنهم، وحكاية عن الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث، كما قال:" وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ" «3»] النحل: 124] فجعله حكاية عن الحال الآتية. وقيل: المعنى وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ويكونون من المؤمنين. وقرا يحيى ابن وثاب (ولو ردوا) بكسر الراء، لان الأصل رددوا فنقلت كسرة الدال على الراء.

[سورة الأنعام (6): آية 29]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
__________
(1). أبو روق: (فتح الراء وسكون الواو وبعدها قاف) هو عطية بن الحرث الهمذاني الكوفي ذكره بن سعد في الطبقة الخامسة وقال: هو صاحب التفسير. (التهذيب).
(2). راجع ج 15 ص 264. [.....]
(3). راجع ج 10 ص 199.

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

قوله تعالى: (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ابتداء وخبر و(إِنْ) نافية. (وَما نَحْنُ) (نَحْنُ) اسم (ما) بِمَبْعُوثِينَ خبرها، وهذا ابتداء إخبار عنهم عما قالوه في الدنيا. قال ابن زيد: هو داخل في قوله:" وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ"" وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا" أي لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال. وهذا يحمل على المعاند كما بيناه في حال إبليس، أو على أن الله «1» يلبس عليهم بعد ما عرفوا، وهذا شائع في العقل.

[سورة الأنعام (6): آية 30]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قوله تعالى: (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) (وُقِفُوا) أي حبسوا (عَلى رَبِّهِمْ) أي على ما يكون من أمر الله فيهم. وقيل: (عَلى ) بمعنى (عند) أي عند ملائكته وجزائه، وحيث لا سلطان فيه لغير الله عز وجل، تقول: وقفت على فلان أي عنده، وجواب" لَوْ" محذوف لعظم شأن الوقوف. (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) تقرير وتوبيخ أي أليس هذا البعث كائنا موجودا؟!" قالُوا بَلى " ويؤكدون اعترافهم بالقسم بقولهم:" وَرَبِّنا". وقيل: إن الملائكة تقول لهم بأمر الله أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون: (بَلى وَرَبِّنا) إنه حق." قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ".

[سورة الأنعام (6): آية 31]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)
قوله تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ) قيل: بالبعث بعد الموت وبالجزاء، دليله قوله عليه السلام: (من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) أي لقي جزاءه، لان من غضب عليه لا يرى الله عند مثبتي الرؤية، ذهب
__________
(1). في ب وك وهـ وع: الرب.

إلى هذا القفال وغيره، قال القشيري: وهذا ليس بشيء، لان حمل اللقاء في موضع على الجزاء لدليل قائم لا يوجب هذا التأويل في كل موضع، فليحمل اللقاء على ظاهره في هذه الآية، والكفار كانوا ينكرون الصانع، ومنكر الرؤية منكر للوجود! قوله تعالى: (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها. ومعنى (بَغْتَةً) فجأة، يقال: بغتهم الامر يبغتهم بغتا وبغتة. وهي نصب على الحال، وهي عند سيبويه مصدر في موضع الحال، كما تقول: قتلته صبرا، وأنشد «1»:
فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله
ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه، لا يقال: جاء فلان سرعة. قوله تعالى: (قالُوا يا حَسْرَتَنا) وقع النداء على الحسرة وليست بمنادي في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التحسر، ومثله يا للعجب ويا للرخاء وليسا بمنادين في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء، قال سيبويه: كأنه قال يا عجب تعال فهذا زمن إتيانك، وكذلك قولك يا حسرتي [أي يا حسرتا] «2» تعالى فهذا وقتك، وكذلك ما لا يصح نداؤه يجرى هذا المجرى، فهذا أبلغ من قولك تعجبت. ومنه قول الشاعر:
فيا عجبا من رحلها المتحمل «3»

وقيل: هو تنبيه للناس على عظيم ما يحل بهم من الحسرة، أي يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بي من الحسرة، فوقع النداء على غير المنادى حقيقة، كقولك: لا أرينك ها هنا. فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة.
__________
(1). البيت لزهير بن أبي سلمى والشاهد فيه قوله: (لايا بلاي) ونصب على المصدر الموضوع في موضع الحال والتقدير حملنا وليدنا مبطئين ملتئين. وصف فرسا بالنشاط وشدة الخلق فيقول: إذا حملنا الغلام عليه ليصيد امتنع لنشاطه فلم نحمله إلا بعد إبطاء وجهد واللاى الإبطاء المحبوك الشديد الخلق والظماء هنا القليلة اللحم- وهو المحمود منها- واصل الظمأ العطش. (شواهد سيبويه).
(2). من ب، ج، ك، ع.
(3). شطر بيت من معلقة امرئ القيس وصدره:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)

قوله تعالى: (عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي في الساعة، أي في التقدمة لها، عن الحسن. و(فَرَّطْنا) معناه ضيعنا وأصله التقدم، يقال: فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه (أنا فرطكم على الحوض). ومنه الفارط أي المتقدم للماء، ومنه- في الدعاء للصبي- اللهم اجعله فرطا لأبويه، فقولهم: (فَرَّطْنا) أي قدمنا العجز. وقيل: (فَرَّطْنا) أي جعلنا غيرنا الفارط السابق لنا إلى طاعة الله وتخلفنا. (فِيها) أي في الدنيا بترك العمل للساعة. وقال الطبري: (الهاء) راجعة إلى الصفقة، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الايمان بالكفر، [والآخرة بالدنيا] «1»،" قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها" أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها، لان الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع، دليله قوله:" فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ" «2»] البقرة: 16]. وقال السدي: على ما ضيعنا أي من عمل الجنة. وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية قال: (يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون:) يا حَسْرَتَنا (. قوله تعالى:) وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) أي ذنوبهم جمع وزر. (عَلى ظُهُورِهِمْ) مجاز وتوسع وتشبيه بمن يحمل ثقلا، يقال منه: وزر يزر، ووزر يوزر فهو وازر وموزور، وأصله من الوزر وهو الجبل. ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة (ارجعن موزورات غير مأجورات) قال أبو عبيد: والعامة تقول: (مأزورات) كأنه لا وجه له عنده، لأنه من الوزر. قال أبو عبيد: ويقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع احمل وزرك أي ثقلك. ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية: والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها. (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي ما أسوأ الشيء الذي يحملونه.

[سورة الأنعام (6): آية 32]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
__________
(1). في الأصول: والدنيا بالآخرة.
(2). راجع ج 1 ص 210.

فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي لقصر مدتها كما قال:
ألا إنما الدنيا كأحلام نائم ... وما خير عيش لا يكون بدائم
تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة ... فأفنيتها هل أنت إلا كحالم
وقال آخر:
فاعمل على مهل فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكان ما هو كائن قد كانا «1»
وقيل: المعنى متاع الحياة الدنيا لعب ولهو، أي الذي يشتهونه في الدنيا لا عاقبة له، فهو بمنزلة اللعب واللهو. ونظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فقال: أنا الملك الشاب، فقالت له جارية له:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب ... كان «2» في الناس غير أنك فاني

وقيل: معنى (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) باطل وغرور، كما قال: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) «3»] آل عمران: 185] فالمقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم:" إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا". واللعب معروف، والتلعابة الكثير اللعب، والملعب مكان اللعب، يقال: لعب يلعب. واللهو أيضا معروف، وكل ما شغلك فقد ألهاك، ولهوت من اللهو، وقيل: أصله الصرف عن الشيء، من قولهم: لهيت عنه، قال المهدوي: وفية بعد، لان الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم: لهيان، ولام الأول واو. الثانية- ليس من اللهو واللعب ما كان من أمور الآخرة، فإن حقيقة اللعب ما لا ينتفع به واللهو ما يلتهى به، وما كان مرادا للآخرة خارج عنهما، وذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة «4» لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها. وقال محمود الوراق:
__________
(1). فيه إقواء.
(2). في هامش ب: عابه الناس.
(3). راجع ج 17 ص 255.
(4). في ك: تجارة.

لا تتبع الدنيا وأيامها ... ذما وإن دارت بك الدائرة
من شرف الدنيا ومن فضلها ... أن بها تستدرك الآخره
وروى أبو عمر بن عبد البر عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله أو أدى إلى ذكر الله والعالم والمتعلم شريكان في الأجر وسائر الناس همج لا خير فيه) وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حديث حسن غريب. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها). وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء). وقال الشاعر:
تسمع «1» من الأيام إن كنت حازما ... فإنك منها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فات من شيء فليس بضائر
ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة ... ولا وزن زف «2» من جناح لطائر
فما رضي الدنيا ثوابا لمؤمن ... ولا «3» رضي الدنيا جزاء لكافر
وقال ابن عباس: هذه حياة الكافر لأنه يزجيها «4» في غرور وباطل، فأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهوا ولعبا. قوله تعالى: (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) أي الجنة لبقائها، وسميت آخرة لتأخرها عنا، والدنيا لدنوها منا. وقرا ابن عامر (ولدار الآخرة) بلام واحدة، والإضافة على تقدير حذف المضاف وإقامة الصفة مقامه، التقدير: ولدار الحياة الآخرة. وعلى قراءة الجمهور (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) اللام لام الابتداء، ورفع الدار بالابتداء، وجعل الآخرة نعتا لها والخبر (خَيْرٌ لِلَّذِينَ) يقويه
__________
(1). كذا في الأصول. وهو المعنى المراد. وفي ط الأول: تمتع.
(2). الزف (بالكسر): صغير الريش، وخص بعضهم به ريش النعام، وورد في أدب الدنيا والدين (وزن ذر).
(3). كذا في الأصول. بل الدنيا جزاء الكافر لقوله عليه الصلاة والسلام" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". [.....]
(4). يزجى الأيام يدافعها.

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

" تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ" «1» [القصص: 83]" وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ" «2» [العنكبوت: 64]. فأتت الآخرة صفة للدار فيهما. (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي الشرك. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قرئ بالياء والتاء، أي أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدنيا. والله أعلم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 33 الى 34]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
قوله تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) كسرت (إن) لدخول اللام. قال أبو ميسرة: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا: يا محمد والله ما نكذبك وإنك عندنا لصادق، ولكن نكذب ما جئت به، فنزلت هذه الآية" فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" ثم آنسه بقوله:" وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ" الآية. وقرى" يكذبونك" مخففا ومشددا، قيل: هما بمعنى واحد كحزنته وأحزنته، واختار أبو عبيد قراءة التخفيف، وهي قراءة علي رضي الله عنه، وروي عنه أن أبا جهل قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله عز وجل" فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ" قال النحاس: وقد خولف أبو عبيد في هذا. وروي: لا نكذبك. فأنزل الله عز وجل:" لا يُكَذِّبُونَكَ". ويقوي هذا أن رجلا قرأ على ابن عباس" فإنهم لا يكذبونك" مخففا فقال له ابن عباس:" فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ" لأنهم كانوا يسمون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمين. ومعنى" يُكَذِّبُونَكَ" عند أهل اللغة ينسبونك إلى الكذب، ويردون عليك ما قلت. ومعنى" لا يكذبونك" أي لا يجدونك تأتي بالكذب، كما تقول: أكذبته وجدته كذابا، وأبخلته وجدته بخيلا، أي لا يجدونك كذابا إن تدبروا ما جئت به. ويجوز أن يكون المعنى: لا يثبتون عليك أنك كاذب، لأنه يقال: أكذبته
__________
(1). راجع ج 13 ص 320، ص 361.
(2). راجع ج 13 ص 320، ص 361.

وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)

إذا احتججت عليه وبينت أنه كاذب. وعلى التشديد: لا يكذبونك بحجة ولا برهان، ودل على هذا" وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ". قال النحاس: والقول في هذا مذهب أبي عبيد، واحتجاجه لازم، لان عليا كرم الله وجهه هو الذي روى الحديث، وقد صح عنه أنه قرأ بالتخفيف، وحكى الكسائي عن العرب: أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه، وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب، وكذلك قال الزجاج: كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته إذا أردت أن ما أتى به كذب. قوله تعالى: (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا) أي فاصبر كما صبروا. (وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) أي عوننا، أي فسيأتيك ما وعدت به. (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ) مبين لذلك النصر، أي ما وعد الله عز وجل به فلا يقدر أحد أن يدفعه، لا ناقض لحكمه، ولا خلف لوعده، و" لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ" «1»] الرعد: 38]" إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا" «2»] غافر: 51]" وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ" «3»] الصافات: 173- 171]" كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي" «4»] المجادلة: 21]. (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) فاعل (جاءَكَ) مضمر، المعنى: جاءك من نبإ المرسلين نبأ.

[سورة الأنعام (6): آية 35]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
قوله تعالى: (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) أي عظم عليك إعراضهم وتوليهم عن الايمان. (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) قدرت (أَنْ تَبْتَغِيَ) تطلب (نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) أي سربا تخلص منه إلى مكان آخر، ومنه النافقاء لحجر اليربوع، وقد تقدم في" البقرة" «5» بيانه «6»، ومنه المنافق. وقد تقدم. (أَوْ سُلَّماً) معطوف عليه، أي سببا إلى السماء، وهذا تمثيل، لان السلم الذي يرتقى عليه سبب إلى الموضع، وهو مذكر، ولا يعرف ما حكاه الفراء من تأنيث السلم. قال قتادة: السلم الدرج. الزجاج: وهو مشتق من السلامة كأنه «7» يسلمك إلى الموضع الذي
__________
(1). راجع ج 9 ص 327.
(2). راجع ج 15 ص 322 وص 139.
(3). راجع ج 15 ص 322 وص 139.
(4). راجع ج 17 ص 306.
(5). راجع ج 1 ص 178.
(6). في ك:" بناؤه".
(7). في ك:" لأنه".

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)

تريد. (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) عطف عليه أي ليؤمنوا فافعل، فأضمر الجواب لعلم السامع. أمر الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يشتد حزنه عليهم إذا كانوا لا يؤمنون، كما أنه لا يستطيع هداهم. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ) أي لخلقهم مؤمنين وطبعهم عليه، بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله ردا على القدرية. وقيل المعنى: أي لأراهم آية تضطرهم إلى الايمان، ولكنه أراد عز وجل أن يثيب منهم من آمن ومن أحسن. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي من الذين أشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد، وإلى ما لا يحل، أي لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين. وقيل: الخطاب له والمراد الامة، فإن قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وإذايتهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 36 الى 37]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
قوله تعالى: (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أي سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون فينتفعون به ويعملون، قال معناه الحسن ومجاهد، وتم الكلام. ثم قال: (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) وهم الكفار، عن الحسن ومجاهد، أي هم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجة. وقيل: الموتى كل من مات." يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ" أي للحساب، وعلى الأول بعثهم هدايتهم إلى الايمان بالله وبرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن الحسن: هو بعثهم من شركهم حتى يؤمنوا بك يا محمد- يعني عند حضور الموت- في حال الإلجاء في الدنيا. قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قال الحسن: (لَوْ لا) ها هنا بمعنى هلا، وقال الشاعر «1»:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
__________
(1). هو الفرزدق يفتخر في شعره بكرم أبيه غالب وعقره مائة ناقة في معاقرة سحيم بن وثيل الرياحي في موضع يقال له (صوأر) على مسيرة يوم من الكوفة ولذلك يقول جرير أيضا:
وقد سرني ألا تعد مجاشع ... من المجد إلا عقر نيب بصوأر
وبنو ضوطرى تقال للقوم إذا كانوا لا يغنون غناء.

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)

وكان هذا منهم تعنتا بعد ظهور البراهين، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الوصف «1» وعلم الغيوب. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده، وكان في علم الله أن يخرج من أصلابهم أقواما يؤمنون به ولم يرد استئصالهم. وقيل: (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله قادر على إنزالها. الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى أي جمع إلجاء.

[سورة الأنعام (6): آية 38]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) تقدم معنى الدابة والقول فيه في" البقرة" «2» وأصله الصفة، من دب يدب فهو داب إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو. (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) بخفض" طائِرٍ" عطفا على اللفظ. وقرا الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق (ولا طائر) بالرفع عطفا على الموضع، و(مِنْ) زائدة، التقدير: وما دابة." بِجَناحَيْهِ" تأكيد وإزالة للإبهام، فإن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر، تقول للرجل: طرفي حاجتي، أي أسرع، فذكر (بِجَناحَيْهِ) ليتمحض القول في الطير، وهو في غيره مجاز. وقيل: إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ولو كان غير معتدل لكان يميل، فأعلمنا أن الطيران بالجناحين و" ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ" «3»] النحل: 79]. والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي، ومنه جنحت السفينة إذا مالت إلى ناحية الأرض لاصقة بها فوقفت. وطائر الإنسان عمله، وفي التنزيل" وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" «4»] الاسراء: 13]. (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي
__________
(1). في ب وع: الرصف. وهو نظم الشيء بعضه إلى بعض.
(2). راجع ج 2 ص 196.
(3). راجع ج 10 ص 151، ص 229. [.....]
(4). راجع ج 10 ص 151، ص 229.

أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. و(دابة) تقع على جميع ما دب، وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه. وقيل: هي أمثال لنا في التسبيح والدلالة، والمعنى: وما من دابة ولا طائر إلا وهو يسبح الله تعالى، ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار. وقال أبو هريرة: هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غدا ويقتص للجماء من القرناء ثم يقول الله لها: كوني ترابا. وهذا اختيار الزجاج فإنه قال: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص، وقد دخل فيه معنى القول الأول أيضا. وقال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس، فهذا معنى المماثلة. واستحسن الخطابي هذا وقال: فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حذرك. وقال مجاهد في قوله عز وجل:" إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ" قال أصناف لهن أسماء تعرف بها كما تعرفون. وقيل غير هذا مما لا يصح من أنها مثلنا في المعرفة، وأنها تحشر وتنعم في الجنة، وتعوض من الآلام التي حلت بها في الدنيا وأن أهل الجنة يستأنسون بصورهم، والصحيح" إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ" في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته، كما أن رزقكم على الله. وقول سفيان أيضا حسن، فإنه تشبيه واقع في الوجود. قوله تعالى: (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. وقيل: أي في القرآن أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب، قال الله تعالى:" وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ" «1»] النحل: 89] وقال:" وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" «2»] النحل: 44] وقال:" وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" «3»] الحشر: 7] فأجمل في هذه الآية وآية (النحل) ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شي إلا ذكره، إما تفصيلا وإما تأصيلا، وقال:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" «4»] المائدة: 3].
__________
(1). راجع ج 10 ص 164، ص 108.
(2). راجع ج 10 ص 164، ص 108.
(3). راجع ج 18 ص 17.
(4). راجع ص 61 من هذا الجزء.

قوله تعالى: (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي للجزاء، كما سبق في خبر أبي هريرة، وفي صحيح مسلم عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (لتودن «1» الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء «2» من الشاة القرناء). ودل بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة، وهذا قول أبي ذر وأبي هريرة والحسن وغيرهم، وروي عن ابن عباس، قال ابن عباس في رواية: حشر الدواب والطير موتها، وقاله الضحاك، والأول أصح لظاهر الآية والخبر الصحيح، وفي التنزيل" وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ" «3»] التكوير: 5] وقول أبي هريرة فيما روى جعفر بن برقان «4» عن يزيد ابن الأصم عنه: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شي، فيبلغ من عدل الله تعالى يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول: (كوني ترابا) فذلك قوله تعالى:"- يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
" «5»] النبأ: 40]. وقال عطاء: فإذا رأوا بني آدم وما هم عليه من الجزع قلن: الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم، فلا جنة نرجو ولا نار نخاف، فيقول الله تعالى لهن: (كن ترابا) فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراب. وقالت جماعة: هذا الحشر الذي في الآية يرجع إلى الكفار وما تخلل كلام معترض وإقامة حجج، وأما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص والاعتناء فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه، وعضدوا هذا بما في الحديث في غير الصحيح عن بعض رواته من الزيادة فقال: حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لما ركب على الحجر، وللعود لما خدش العود، قالوا: فظهر من هذا أن المقصود منه التمثيل المفيد للاعتبار والتهويل، لان الجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيلة من جملة المعتوهين الأغبياء، قالوا: ولان القلم لا يجري عليهم فلا يجوز أن يؤاخذوا. قلت: الصحيح القول الأول لما ذكرناه من حديث أبي هريرة، وإن كان القلم لا يجري عليهم في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به، وروي عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (يا أبا ذر هل تدري فيما انتطحتا؟) قلت:
__________
(1). لتودن (بفتح الدال المشددة) وفي بعض النسخ بضمها فالحقوق بالرفع على الأول والنصب على الثاني.
(2). الجلحاء: التي لا قرن لها.
(3). راجع ج 19 ص 227 وص 186.
(4). برقان (بالكسر والضم). (القاموس).
(5). راجع ج 19 ص 227 وص 186.

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)

لا. قال: (لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما) وهذا نص، وقد زدناه بيانا في كتاب (التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة). والله أعلم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 39 الى 41]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ) ابتداء وخبر، أي عدموا الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم، فكل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها والكفار لا يهتدون. وقد تقدم في (البقرة) «1». (فِي الظُّلُماتِ) أي ظلمات الكفر. وقال أبو علي: يجوز أن يكون المعنى (صُمٌّ وَبُكْمٌ) في الآخرة، فيكون حقيقة دون مجاز اللغة. (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ) دل على أنه شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله. ألا ترى أنه قال: (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي على دين الإسلام لينفذ فيه فضله. وفية إبطال لمذهب القدرية. والمشيئة راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه. قوله تعالى:" قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ" وقرا نافع بتخفيف الهمزتين، يلقي حركة الاولى على ما قبلها، ويأتي بالثانية بين بين. وحكى أبو عبيد عنه أنه يسقط الهمزة ويعوض منها ألفا. قال النحاس: وهذا عند أهل العربية غلط عليه، لان الياء ساكنة والألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان. قال مكي: وقد روي عن ورش أنه أبدل من الهمزة ألفا، لان الرواية عنه أنه يمد الثانية، والمد لا يتمكن إلا مع البدل، والبدل فرع عن الأصول، والأصل أن تجعل
__________
(1). راجع ج 1 ص 214.

الهمزة بين الهمزة المفتوحة والألف، وعليه كل من خفف الثانية غير ورش، وحسن جواز البدل في الهمزة وبعدها ساكن لان الأول حرف مد ولين، فالمد الذي يحدث مع الساكن يقوم مقام حركة يوصل بها إلى النطق بالساكن الثاني. وقرا أبو عمرو وعاصم وحمزة (أَرَأَيْتَكُمْ) بتحقيق الهمزتين وأتوا بالكلمة على أصلها، والأصل الهمز، لان همزة الاستفهام دخلت على (رأيت) فالهمزة عين الفعل، والياء ساكنة لاتصال المضمر المرفوع بها. وقرا عيسى بن عمر والكسائي (أريتكم) بحذف الهمزة الثانية. قال النحاس: وهذا بعيد في العربية، وإنما يجوز في الشعر، والعرب تقول: أرأيتك زيدا ما شأنه. ومذهب البصريين أن الكاف والميم للخطاب، لا حظ لهما في الاعراب، وهو اختبار الزجاج. ومذهب الكسائي والفراء وغيرهما أن الكاف والميم نصب بوقوع الرؤية عليهما، والمعنى أرأيتم أنفسكم، فإذا كانت للخطاب- زائدة للتأكيد- كان (إِنْ) من قوله" إِنْ أَتاكُمْ" في موضع نصب على المفعول لرأيت، وإذا كان اسما في موضع نصب ف (- إن) في موضع المفعول الثاني، فالأول من رؤية العين لتعديها لمفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين. وقوله: (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) المعنى: أو أتتكم الساعة التي تبعثون فيها. ثم قال: (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) والآية في محاجة المشركين ممن اعترف أن له صانعا، أي أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله، وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا فلم تصرون على الشرك في حال الرفاهية؟! وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب. قوله تعالى: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ)" بَلْ" إضراب عن الأول وإيجاب للثاني." إِيَّاهُ" نصب. ب"- تَدْعُونَ" (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) أي يكشف الضر الذي تدعون إلى كشفه إن شاء كشفه. (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) قيل: عند نزول العذاب. وقال الحسن: أي تعرضون عنه إعراض الناسي، وذلك لليأس من النجاة من قبله إذ لا ضرر فيه ولا نفع. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى وتتركون. قال النحاس: مثل قوله:" وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ" «1»] طه: 115].
__________
(1). راجع ج 11 ص 251.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)

[سورة الأنعام (6): آية 42]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) الآية تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفية إضمار، أي أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا وفية إضمار آخر يدل عليه الظاهر تقديره: فكذبوا فأخذناهم. وهذه الآية متصلة بما قبل اتصال الحال بحال قريبة منها، وذلك أن هؤلاء سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم في مخالفة أنبيائهم، فكانوا بعرض أن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم. ومعنى (بِالْبَأْساءِ) بالمصائب في الأموال (وَالضَّرَّاءِ) في الأبدان، هذا قول الأكثر، وقد يوضع كل واحد منهما موضع الآخر، ويؤدب الله عباده بالبأساء والضراء وبما شاء" لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ" «1»] الأنبياء: 23]. قال ابن عطية: استدل العباد في تأديب أنفسهم بالبأساء في تفريق الأموال، والضراء في الحمل على الأبدان بالجوع والعري بهذه الآية. قلت: هذه جهالة ممن فعلها وجعل هذه الآية أصلا لها، هذه عقوبة من الله لمن شاء من عباده أن يمتحنهم بها، ولا يجوز لنا أن نمتحن أنفسنا ونكافئها قياسا عليها، فإنها المطية التي نبلغ عليها دار الكرامة، ونفوز بها من أهوال يوم القيامة، وفى التنزيل:" يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً" «2»] المؤمنون: 51] وقال:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ" «3»] البقرة: 267]." يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ" «4»] البقرة: 172] فأمر المؤمنين بما خاطب به المرسلين، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يأكلون الطيبات ويلبسون أحسن الثياب ويتجملون بها، وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا، على ما تقدم بيانه في (المائدة) «5» وسيأتي في (الأعراف) «6» من حكم اللباس وغيره، ولو كان كما زعموا واستدلوا لما كان في امتنان الله تعالى بالزروع والجنات وجميع الثمار والنبات والانعام التي سخرها وأباح لنا
__________
(1). راجع ج 11 ص 278.
(2). راجع ج 12 ص 127. [.....]
(3). راجع ج 3 ص 320.
(4). راجع ج 2 ص 215.
(5). راجع ص 263 وما بعدها من هذا الجزء.
(6). راجع ج 7 ص 195.

فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)

أكلها وشرب ألبانها والدفء بأصوافها- إلى غير ذلك مما امتن به- كبير فائدة، فلو كان ما ذهبوا إليه فيه الفضل لكان أولى به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ومن بعدهم من التابعين والعلماء، وقد تقدم في آخر (البقرة) «1» بيان فضل المال ومنفعته والرد على من أبى من جمعه، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوصال مخافة الضعف على الأبدان، ونهى عن إضاعة المال ردا على الأغنياء الجهال. قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي يدعون ويذلون، [مأخوذ] «2» من الضراعة وهي الذلة، يقال: ضرع فهو ضارع.

[سورة الأنعام (6): الآيات 43 الى 45]
فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
قوله تعالى: (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) (فَلَوْ لا) تحضيض، وهي التي تلى الفعل بمعنى هلا، وهذا عتاب على ترك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب. ويجوز أن يكونوا تضرعوا تضرع من لم يخلص، أو تضرعوا حين لابسهم العذاب، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع. والدعاء مأمور به حال الرخاء والشدة، قال الله تعالى:" ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" «3»] غافر: 60] وقال:" إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي"] غافر: 60] أي دعائي" سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ"] غافر: 60] وهذا وعيد شديد. (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي صلبت وغلظت، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية، نسأل الله العافية. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أغواهم «4» بالمعاصي وحملهم عليها.
__________
(1). راجع ج 3 ص 417 وما بعدها.
(2). من ب، ج، ك، ع.
(3). راجع ج 15 ص 326.
(4). في ج، ع، ى: أغراهم.

قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) يقال: لم ذموا على النسيان وليس من فعلهم؟ فالجواب: أن (نَسُوا) بمعنى تركوا ما ذكروا به، عن ابن عباس وابن جريج، وهو قول أبي علي، وذلك لان التارك للشيء إعراضا عنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي، كما يقال: تركه. في النسي. جواب آخر: وهو أنهم تعرضوا للنسيان فجاز الذم لذلك، كما جاز الذم على التعرض لسخط الله عز وجل وعقابه. ومعنى (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي من النعم والخيرات، أي كثرنا لهم ذلك. والتقدير عند أهل العربية: فتحنا عليهم أبواب كل شي كان مغلقا عنهم. (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك العطاء لا يبيد، وأنه دال على رضاء الله عز وجل عنهم (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي استأصلناهم وسطونا بهم. و(بَغْتَةً) معناه فجأة، وهي الأخذ على غرة ومن غير تقدم أمارة، فإذا أخذ لإنسان وهو غار غافل فقد أخذ بغتة، وأنكى شي ما يفجأ من البغت. وقد قيل: إن التذكير الذي سلف- فأعرضوا عنه- قام مقام الامارة. والله أعلم. و(بَغْتَةً) مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه كما تقدم، فكان ذلك استدراجا من الله تعالى كما قال:" وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" «1»] الأعراف: 183] نعوذ بالله من سخطه ومكره. قال بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية" حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً". وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وروى عقبة بن عامر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم) ثم تلا" فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ" الآية كلها. وقال الحسن: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها «2» إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغني مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته (. قوله تعالى:) فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) المبلس الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال، قال العجاج:
__________
(1). راجع ج 7 ص 329.
(2). في ج: في ذلك.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا «1» ... قال نعم أعرفه وأبلسا
أي تحير لهول ما رأى، ومن ذلك اشتق اسم إبليس، أبلس الرجل سكت، وأبلست الناقة وهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة، ضبعت الناق تضبع ضبعة وضبعا إذا أرادت الفحل. قوله تعالى: (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) الدابر الآخر، يقال: دبر القوم يدبرهم دبرا إذا كان آخرهم في المجيء. وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود (من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبريا) «2» أي في آخر الوقت، والمعنى هنا قطع خلفهم من نسلهم وغيرهم فلم تبق لهم باقية. قال قطرب: يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا. قال أمية بن أبي الصلت:
فأهلكوا بعذاب حص دابرهم ... فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا
ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأمور. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قيل: على إهلاكهم وقيل: تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه. وتضمنت هذه الآية الحجة على وجوب ترك الظلم، لما يعقب من قطع الدابر، إلى العذاب الدائم، مع استحقاق القاطع الحمد من كل حامد.

[سورة الأنعام (6): الآيات 46 الى 47]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ). أي أذهب وانتزع. ووحد" سَمْعَكُمْ" لأنه مصدر يدل على الجمع. (وَخَتَمَ) أي طبع. وقد تقدم في" البقرة" «3».
__________
(1). المكرس: الذي صار فيه الكرس والكرس (بالكسر): أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار والدمن. وأبلس: سكت غما.
(2). دبريا: يروي (بفتح الباء وسكونها) وهو منسوب إلى الدبر آخر الشيء وفتح الباء من تغيرات النسب. (ابن الأثير).
(3). راجع ج 1 ص 185.

وجواب (إِنْ) محذوف تقديره: فمن يأتيكم به، وموضعه نصب، لأنها في موضع الحال كقولك: اضربه إن خرج أي خارجا. ثم قيل: المراد المعاني القائمة بهذه الجوارح، وقد يذهب الله الجوارح والاعراض جميعا فلا يبقي شيئا، قال الله تعالى:" مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً" «1»] النساء: 47] والآية احتجاج على الكفار. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ)" مَنْ" رفع بالابتداء وخبرها" إِلهٌ" و" غَيْرُ" صفة له، وكذلك" يَأْتِيكُمْ" موضعه رفع بأنه صفة" إِلهٌ" ومخرجها مخرج الاستفهام، والجملة التي هي منها في موضع مفعولي رأيتم. ومعنى" أَرَأَيْتُمْ". علمتم، ووحد الضمير في (بِهِ)- وقد تقدم الذكر بالجمع- لان المعنى أي بالمأخوذ، فالهاء راجعة إلى المذكور. وقيل: على السمع بالتصريح، مثل قوله:" وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ" «2»] التوبة: 62] ودخلت الأبصار والقلوب بدلالة التضمين. وقيل:" مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ". بأحد هذه المذكورات. وقيل: على الهدى الذي تضمنه المعنى. وقرا عبد الرحمن الأعرج (به انظر) بضم الهاء على الأصل، لان الأصل أن تكون الهاء مضمومة كما تقول: جئت معه. قال النقاش: في هذه الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته هنا وفي غير آية، وقد مضى هذا في أول" البقرة «3»" مستوفى. وتصريف الآيات الإتيان بها من جهات، من إعذار وإنذار وترغيب وترهيب ونحو ذلك. (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي يعرضون. عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي، يقال: صدف عن الشيء إذا أعرض عنه صدفا وصدوفا فهو صادف. وصادفته مصادفة أي لقيته عن إعراض عن جهته، قال ابن الرقاع:
إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه ... وهن عن كل سوء يتقى صدف
والصدف في البعير أن يميل خفه من اليد أو الرجل إلى الجانب الوحشي، فهم ] يصدفون «4» أي [مائلون معرضون عن الحجج والدلالات.
__________
(1). راجع ج 5 ص 241. [.....]
(2). راجع ج 8 ص 193.
(3). راجع ج 1 ص 189.
(4). من ع.

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)

قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) الحسن:" بَغْتَةً" ليلا" أَوْ جَهْرَةً" نهارا. وقيل: بغتة فجأة. وقال الكسائي: يقال بغتهم الامر يبغتهم بغتا وبغتة إذا أتاهم فجأة. وقد تقدم. (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) نظيره" فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ" «1»] الأحقاف: 35] أي هل يهلك إلا أنتم لشرككم والظلم هنا بمعنى الشرك، كما قال لقمان لابنه:" يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" «2»] لقمان: 13].

[سورة الأنعام (6): آية 48]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
قوله تعالى: (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي بالترغيب والترهيب. قال الحسن: مبشرين بسعة الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة، يدل على ذلك قوله تعالى:" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ" «3»] الأعراف: 96]. ومعنى (مُنْذِرِينَ) مخوفين عقاب الله، فالمعنى: إنما أرسلنا المرسلين لهذا لا لما يقترح عليهم من الآيات، وإنما يأتون من الآيات بما تظهر معه براهينهم وصدقهم. وقوله: (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). تقدم القول فيه.

[سورة الأنعام (6): آية 49]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بالقرآن والمعجزات. وقيل: بمحمد عليه الصلاة والسلام. (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) أي يصيبهم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي يكفرون.

[سورة الأنعام (6): آية 50]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
__________
(1). راجع ج 16 ص 222.
(2). راجع ج 14 ص 62.
(3). راجع ج 7 ص 253.

وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)

قوله تعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ) هذا جواب لقولهم:" لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ"] الانعام: 37]، فالمعنى ليس عندي خزائن قدرته فأنزل ما اقترحتموه من الآيات، ولا أعلم الغيب فأخبركم به. والخزانة ما يخزن فيه الشيء، ومنه الحديث (فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته). وخزائن الله مقدوراته، أي لا أملك أن أفعل ] كل ما [ «1» أريد مما تقترحون (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أيضا (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) وكان القوم يتوهمون أن الملائكة أفضل، أي لست بملك فأشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر. واستدل بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء. وقد مضى في" البقرة" «2» القول فيه فتأمله هناك. قوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) ظاهره أنه لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي. والصحيح أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد، والقياس على المنصوص، والقياس أحد أدلة الشرع. وسيأتي بيان هذا في" الأعراف" «3» وجواز اجتهاد الأنبياء في (الأنبياء) «4» إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الكافر والمؤمن، عن مجاهد] وغيره [ «5». وقيل: الجاهل والعالم. (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) أنهما لا يستويان.

[سورة الأنعام (6): آية 51]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ) أي بالقرآن. والإنذار الاعلام وقد تقدم في" البقرة" «6». وقيل:" بِهِ" أي بالله. وقيل: باليوم الآخر. وخص" الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا لان الحجة عليهم أوجب، فهم خائفون من عذابه، لا أنهم يترددون في الحشر، فالمعنى" يَخافُونَ"
__________
(1). من ب وج وع.
(2). راجع ج 1 ص 289 وص 184.
(3). راجع ج 7 ص 171.
(4). راجع ج 11 ص 309.
(5). من ب، ج، ك، ع.
(6). راجع ج 1 ص 289 وص 184.

وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

يتوقعون عذاب الحشر. وقيل:" يَخافُونَ" يعلمون، فإن كان مسلما أنذر ليترك المعاصي، وإن كان من أهل الكتاب أنذر ليتبع الحق. وقال الحسن: المراد المؤمنون. قال الزجاج: كل من أقر بالبعث من مؤمن وكافر. وقيل: الآية في المشركين أي أنذرهم بيوم القيامة. والأول أظهر. (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله (شَفِيعٌ) هذا رد على اليهود والنصارى في زعمهما أن أباهما يشفع لهما حيث قالوا:" نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"] المائدة: 18] والمشركون حيث جعلوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، فأعلم الله أن الشفاعة لا تكون للكفار. ومن قال الآية في المؤمنين قال: شفاعة الرسول لهم تكون بإذن الله فهو الشفيع حقيقة إذن، وفي التنزيل:" وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى " «1»] الأنبياء: 28]." وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" «2»] سبأ: 23]." مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ" «3»] البقرة: 255]. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي في المستقبل وهو الثبات على الايمان.

[سورة الأنعام (6): آية 52]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
قوله تعالى:" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ"] الآية [ «4». قال المشركون: ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء- يعنون سلمان وصهيبا وبلالا وخبابا «5»- فأطردهم عنك، وطلبوا أن يكتب لهم بذلك، فهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، ودعا عليا ليكتب، فقام الفقراء وجلسوا ناحية، فأنزل الله الآية. ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث الصحيح: فوقع في نفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شاء الله أن يقع، وسيأتي ذكره. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما مال إلى ذلك طمعا في إسلامهم، وإسلام قومهم، وراي أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا، ولا ينقص لهم قدرا، فمال إليه فأنزل الله الآية، فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه أوقع الطرد. روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله
__________
(1). راجع ج 11 ص 281.
(2). راجع ج 14 ص 295. [.....]
(3). راجع ج 3 ص 273.
(4). من ج، ب، ك.
(5). في ب وع وك وج وهـ: حسان.

عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطرد هؤلاء عنك لا يجترءون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ". قيل: المراد بالدعاء المحافظة على الصلاة المكتوبة في الجماعة، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن. وقيل: الذكر وقراءة القرآن. ويحتمل أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره، ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق. ويختموه بالدعاء طلبا للمغفرة." يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" أي طاعته، والإخلاص فيها، أي يخلصون في عبادتهم وأعمالهم لله، ويتوجهون بذلك إليه لا لغيره. وقيل: يريدون الله الموصوف بأن له الوجه كما قال:" وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ" «1»] الرحمن: 27] وهو كقوله:" وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ" «2»] الرعد: 22]. وخص الغداة والعشي بالذكر، لان الشغل غالب فيهما على الناس، ومن كان في وقت الشغل مقبلا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره ] الله [ «3» في قوله:" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ"] الكهف: 28]، فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون القيام، وقد أخرج هذا المعنى مبينا مكملا ابن ماجة في سننه عن خباب في قول الله عز وجل:" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ" إلى قوله:" فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقروهم، فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا، قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا- رضي الله عنه- ليكتب ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل عليه السلام فقال:
__________
(1). راجع ج 17 ص 164.
(2). راجع ج 9 ص 310.
(3). من ع.

" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فقال:" وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ"] الانعام: 53] ثم قال:" وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ"] الانعام: 54] قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا"] الكهف: 28] ولا تجالس الاشراف" وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا"] الكهف: 28] يعني عيينة والأقرع،" وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً" «1»] الكهف: 28]، أي هلاكا. قال: أمر عيينة والأقرع، ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، رواه عن أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد العنقزي «2» حدثنا أسباط عن السدي عن أبي سعيد «3» الأزدي وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود عن خباب، وأخرجه أيضا عن سعد قال: نزلت هذه الآية فينا ستة، في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال، قال: قالت قريش لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم فأطردهم، قال: فدخل قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فأنزل الله عز وجل:" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ" الآية. وقرى (بالغدوة) وسيأتي بيانه في (الكهف) «4» إن شاء الله. قوله تعالى:" ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ" أي من جزائهم ولا كفاية «5» أرزاقهم، أي جزاؤهم ورزقهم على الله، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره. (من) الاولى للتبعيض، والثانية زائدة للتوكيد. وكذا" وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ" المعنى وإذا كان الامر كذلك فاقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين
__________
(1). راجع ج 10 ص 390.
(2). العنقزي: ضبط (القاموس). (لب اللباب) بفتح القاف. وقال في التهذيب: هو بكسرها.
(3). في ج، ك، ى، ع. ويقال: أبو سعد.
(4). راجع ج 10 ص 390.
(5). في ك: كفالة.

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

والفضل، فإن فعلت كنت ظالما. وحاشاه من وقوع ذلك منه، وإنما هذا بيان للاحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل السلام، وهذا مثل قوله:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ" «1»] الزمر: 65] وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله." فَتَطْرُدَهُمْ" جواب النفي." فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" نصب بالفاء في جواب النهي، المعنى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين، وما من حسابك، عليهم من شي فتطردهم، على التقديم والتأخير. والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه. وقد تقدم في" البقرة" «2» مستوفى. وقد حصل من قوة الآية والحديث النهي عن أن يعظم أحد لجاهه ولثوبه «3»، وعن أن يحتقر أحد لخموله ولرثاثة ثوبيه.

[سورة الأنعام (6): آية 53]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
قوله تعالى: (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي كما فتنا من قبلك كذلك فتنا هؤلاء. والفتنة الاختبار، أي عاملناهم معاملة المختبرين. (لِيَقُولُوا) نصب بلام كي، يعني الاشراف والأغنياء. (أَهؤُلاءِ) يعني الضعفاء والفقراء. (مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) قال النحاس: وهذا من المشكل، لأنه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذه الآية؟ لأنه إن كان إنكارا فهو كفر منهم. وفي هذا جوابان: أحدهما: أن المعنى اختبر الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم واحدة عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار:" أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" والجواب الآخر: أنهم لما اختبروا بهذا فآل عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار، وصار مثل قوله:" فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً" «4»] القصص: 8]. (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) فيمن عليهم بالايمان دون الرؤساء الذين علم الله منهم الكفر، وهذا استفهام تقرير، وهو جواب لقولهم:" أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا" وقل: المعنى أليس الله بأعلم من يشكر الإسلام إذا هديته إليه.
__________
(1). راجع ج 15 ص 276.
(2). راجع ج 1 ص 309.
(3). في ج، ك، ى، ع، هـ: أبويه. [.....]
(4). راجع ج 15؟ ص 276.

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

[سورة الأنعام (6): آية 54]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قوله تعالى: (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) السلام والسلامة بمعنى واحد. ومعنى" سَلامٌ عَلَيْكُمْ" سلمكم الله في دينكم وأنفسكم، نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم، فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام) فعلى هذا كان السلام من جهة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: إنه كان من جهة الله تعالى، أي أبلغهم منا السلام، وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك) فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي، فهذا دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في [معنى ] «1» الآية. ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم، فإن في ذلك غضب الله، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه. وقال ابن عباس: نزلت الآية في أبى بكر وعمر وعثمان وعلي [رضي الله عنهم ] «2». وقال الفضيل بن عياض: جاء قوم من المسلمين إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم، فنزلت الآية. وروي عن أنس بن مالك مثله سواء. قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) أي خطيئة من غير قصد،
__________
(1). من ج، وع، ك، وه وى.
(2). من ك وى.

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الامر، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل، وقد مضى هذا المعنى في" النساء" «1» وقيل: من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهل. (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قرأ بفتح" أن" من" فَأَنَّهُ" ابن عامر وعاصم، وكذلك" أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ" ووافقهما نافع في" أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ". وقرا الباقون بالكسر فيهما، فمن كسر فعلى الاستئناف، والجملة مفسرة للرحمة، و(إن) إذا دخلت على الجمل كسرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكسرت لذلك. ومن فتحهما فالأولى في موضع نصب على البدل من الرحمة، بدل الشيء من الشيء وهو هو فأعمل فيها (كَتَبَ) كأنه قال: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل، وأما (فَأَنَّهُ غَفُورٌ) بالفتح ففيه وجهان، أحدهما: أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: فله أنه غفور رحيم، لان ما بعد الفاء مبتدأ، أي فله غفران الله. الوجه الثاني: أن يضمر مبتدأ تكون (أن) وما عملت فيه خبره، تقديره: فأمره غفران الله له، وهذا اختيار سيبويه، ولم يجز الأول، وأجازه أبو حاتم. وقيل: إن (كَتَبَ) عمل فيها، أي كتب ربكم أنه غفور رحيم. وروي عن علي بن صالح وابن هرمز كسر الاولى على الاستئناف، وفتح الثانية على أن تكون مبتدأة أو خبر مبتدأ أو معمولة لكتب على ما تقدم. ومن فتح الاولى- وهو نافع- جعلها بدلا من الرحمة، واستأنف الثانية لأنها بعد الفاء، وهي قراءة بينة.

[سورة الأنعام (6): آية 55]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قوله تعالى: (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) التفصيل التبيين الذي تظهر به المعاني، والمعنى: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نفصل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل.
__________
(1). راجع ج 5 ص 92.

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)

وقال القتبي:" نُفَصِّلُ الْآياتِ" نأتي بها شيئا بعد شي، ولا ننزلها جملة متصلة. (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) يقال: هذه اللام تتعلق بالفعل فأين الفعل الذي تتعلق به؟ فقال الكوفيون: هو مقدر، أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين، قال النحاس: وهذا الحذف كله لا يحتاج إليه، والتقدير: وكذلك نفصل الآيات فصلناها. وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى، أي ليظهر الحق وليستبين، قرئ بالياء والتاء. (سَبِيلُ) برفع اللام ونصبها، وقراءة التاء خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين. فإن قيل: فقد كان النبي عليه السلام يستبينها؟ فالجواب عند الزجاج- أن الخطاب للنبي عليه السلام خطاب لامته، فالمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين. فإن قيل: فلم لم يذكر سبيل المؤمنين؟ ففي هذا جوابان، أحدهما- أن يكون مثل قوله:" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" «1»] النحل: 81] فالمعنى، وتقيكم البرد ثم حذف، وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف. والجواب الآخر- أن يقال: استبان الشيء واستبنته، وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين. والسبيل يذكر ويؤنث، فتميم تذكره، واهل الحجاز تؤنثه، وفي التنزيل" وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ" «2»] الأعراف: 146] مذكر" لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" «3»] آل عمران: 99] مؤنث، وكذلك قرئ (وَلِتَسْتَبِينَ) بالياء والتاء، فالتاء خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته.

[سورة الأنعام (6): آية 56]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قيل:" تَدْعُونَ" بمعنى تعبدون. وقيل: تدعونهم في مهمات أموركم على جهة العبادة، أراد بذلك الأصنام. (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) فيما طلبتموه من عبادة هذه الأشياء، ومن طرد من أردتم طرده. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي قد ضللت إن اتبعت أهواءكم. (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي على طريق رشد وهدى.
__________
(1). راجع ج 10 ص 159.
(2). راجع ج 7 ص 282.
(3). راجع ج 4 ص 154.

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)

وقرى" ضَلَلْتُ" بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمرو] بن العلاء [ «1»: ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة] يحيى [ «2» بن وثاب وطلحة بن مصرف، والاولى هي الأصح والأفصح، لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور. وقال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضللت أضل، قال الله تعالى:" قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى «3» نَفْسِي"] سبأ: 50] فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، واهل العالية يقولون: ضللت بالكسر أضل.

[سورة الأنعام (6): آية 57]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)
قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي دلالة ويقين وحجة وبرهان، لا على هوى، ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره. (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي بالبينة لأنها في معنى البيان، كما قال:" وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ"] النساء: 8] على ما بيناه هناك «4». وقيل يعود على الرب، أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره. وقيل: بالعذاب. وقيل: بالقرآن. وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبد الله بن الزبير لنفسه، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه:
أأقعد بعد ما رجفت عظامي ... وكان الموت أقرب ما يليني

أجادل كل معترض خصيم ... وأجعل دينه غرضا لديني
فأترك ما علمت لرأي غيري ... وليس الرأي كالعلم اليقين
وما أنا والخصومة وهي شيء ... يصرف في الشمال وفي اليمين
وقد سنت لنا سنن قوام ... يلحن بكل فج أو وجئن «5»
وكان الحق ليس به خفاء ... أغر كغرة الفلق المبين
__________
(1). من ى، ك.
(2). من ك.
(3). راجع ج 14 ص 313.
(4). راجع ج 5 ص 50.
(5). الوجين: شط الوادي.

وما عوض لنا منهاج جهم ... بمنهاج ابن آمنة الأمين
فأما ما علمت فقد كفاني ... وأما ما جهلت فجنبوني
قوله تعالى: (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم:" أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً" «1»] الاسراء: 92]" اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ" «2»] الأنفال: 32]. وقيل: ما عندي من الآيات التي تقترحونها. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله. وقيل: الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله. (يَقُصُّ الْحَقَّ) أي يقص القصص الحق، وبه استدل من منع المجاز في القرآن، وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس، قال ابن عباس: قال الله عز وجل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ" [يوسف: 3] «3». والباقون" يقض الحق" بالضاد المعجمة، وكذلك قرأ علي- رضي الله عنه- وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء «4»، ولا ينبغي الوقف عليه، وهو من القضاء، ودل على ذلك أن بعده (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) والفصل لا يكون إلا قضاء دون قصص، ويقوي ذلك قوله قبله:" إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ" ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود (إن الحكم إلا لله يقضي بالحق) فدخول الباء يؤكد معنى القضاء. قال النحاس: هذا لا يلزم، لان معنى" يقضي" يأتي ويصنع فالمعنى: يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى: يقضي القضاء الحق. قال مكي: وقراءة الصاد أحب إلي، لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود. قال النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم، لان مثل هذه الباء تحذف كثيرا.
__________
(1). راجع ج 10 ص 327.
(2). راجع ج 7 ص 398. [.....]
(3). راجع ج 9 ص 119.
(4). قال الفخر الرازي (يقض) بغير ياء لأنها سقطت لالتقاء الساكنين كما كتبوا (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (فَما تُغْنِ النُّذُرُ).

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

[سورة الأنعام (6): آية 58]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
قوله تعالى:" قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ" أي من العذاب لأنزلته بكم حتى ينقضي الامر إلى آخره. والاستعجال: تعجيل طلب الشيء قبل وقته." وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ" أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم.
مصححه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تم الجزء السادس من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السابع، وأوله قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ)

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)

الجزء السابع
(بسم الله الرحمن الرحيم)
[تتمة تفسير سورة الأنعام ]

[سورة الأنعام (6): آية 59]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
فيه ثلاث مسائل: الأولى- جاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف ملك. وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله". وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول:" قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" «1» ومفاتح جمع مفتح، هذه اللغة الفصيحة. ويقال: مفتاح ويجمع مفاتيح. وهي قراءة ابن السميقع" مفاتيح". والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا، محسوسا كان كالقفل على البيت أو معقول كالنظر. وروى ابن ماجة في سننه وأبو حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه (. وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان،
__________
(1). راجع ج 13 ص 225.

ولذلك قال بعضهم: هو مأخوذ من قول الناس أفتح علي كذا، أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به. فالله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه. ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله، بدليل قوله تعالى:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ" «1» وقال:" عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ" «2». (الآية) «3» وقيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق، عن السدي والحسن. مقاتل والضحاك: خزائن الأرض. وهذا مجاز، عبر عنها بما يتوصل إليها به. وقيل: غير هذا مما يتضمنه معنى الحديث أي عنده الآجال ووقت انقضائها. وقيل: عواقب الأعمار وخواتم الأعمال، إلى غير هذا من الأقوال. والأول المختار. والله أعلم. الثانية- قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده «4». فمن قال: إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم وقال: إن النوء «5» ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته، لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء، قال الله تعالى: «6»" أصبح من من عبادي مؤمن بي وكافر (بالكوكب)" على ما يأتي بيانه في" الواقعة" «7» إن شاء الله. قال ابن العربي: وكذلك قول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق. وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر. أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل ان تكون فلا ريبة
__________
(1). راجع ج 4 ص 288.
(2). راجع ج 19 ص 26.
(3). من ك.
(4). في ك: من رسول.
(5). النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع آخر من المشرق يقابله من ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.
(6). أي في الحديث القدسي.
(7). راجع ج 17 ص 228 فما بعد.

في كفره أيضا. فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا: يؤدب ولا يسجن. أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله عنه من قوله:" وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ «1» مَنازِلَ". وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدركون الفرق بين هذا وغيره، فيشوشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يسروا «2» ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به. قلت: ومن هذا الباب (أيضا) «3» ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن النبي صلى عليه وسلم قال:" من أتى عرافا (فسأله عن «4» شي) لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعي علم الغيب. وهي من العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا الفن هو العيافة (بالياء). وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة، قاله القاضي عياض. والكهانة: ادعاء علم الغيب. قال أبو عمر بن عبد البر في (كتاب) «5» (الكافي): من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشاء واخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله. قال علماؤنا: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين، والكهان لا سيما بالديار المصرية، فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب «6» والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال. وكل ذلك من الكبائر، لقول عليه السلام:" لم تقبل لصلاة أربعين ليلة". فكيف بمن اتخذهم وأنفق عليهم معتمدا على أقوالهم. روى مسلم (رحمه الله «7») عن عائشة (رضي الله عنها «8») قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسم أناس عن الكهان فقال:" إنهم ليسوا بشيء ( «9»" فقالوا:
__________
(1). راجع ج 15 ص 29.
(2). في إوز: يستروا.
(3). من ج وك وز.
(4). زيادة عن صحيح مسلم. [.....]
(5). من ج وك وز.
(6). السراب: الذي يكون نصف النهار لاطئا بالأرض لاصقا بها كأنه ماء جار. والآل: الذي يكون بالضحى كالماء بين السماء والأرض يرفع الشخوص ويزهاها.
(7). من ج وك وز.
(8). من ج وك وز.
(9). التصحيح من ز.

يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها «1» في أذن وليه (قر الدجاجة «2» فيخلطون معها مائة كذبة". قال الحميدي: ليس ليحيى «3» بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح غير هذا وأخرجه البخاري (أيضا) «4» من حديث أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة أنها سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوجيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم". وسيأتي هذا المعنى في" سبأ" إن شاء الله «5» تعالى. الثالثة- قوله تعالى: (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر، أي يعلم ما يهلك في البر والبحر. ويقال: يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى، وما في البحر من الدواب ورزق ما فيها" وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها" روى يزيد بن هارون عن نافع عن محمد بن إسحاق عن نافع ابن عمر عن النبي صلى عليه وسلم قال:" ما من زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم رزق فلان بن فلان" وذلك قوله في محكم كتابه: (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها السقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب يراد به الحي، واليابس يراد به الميت. قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه. وقيل: المعنى" وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ" أي من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء، ولا حبة إلا يعلم متى تنبت وكم تنبت ومن يأكلها، و" ظُلُماتِ الْأَرْضِ" بطونها وهذا أصح، فإنه موافق للحديث وهو مقتضى الآية. والله الموفق للهداية. وقيل:" فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ"
__________
(1). القر: ترديدك الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه.
(2). الزيادة عن صحيح مسلم.
(3). هو أحد رجال سند هذا الحديث.
(4). من ك.
(5). راجع ج 14 ص 278 فما بعد.

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)

يعني الصخرة التي هي أسفل الأرضين السابعة." وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ" بالخفض عطفا على اللفظ. وقرا ابن السميقع والحسن وغيرهما بالرفع فيهما عطفا على موضع" مِنْ وَرَقَةٍ"، ف"- من" على هذا للتوكيد. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه تعالى عن ذلك. وقيل: كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب.

[سورة الأنعام (6): آية 60]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي ينيمكم فيقبض نفوسكم التي بها تميزون، وليس ذلك موتا حقيقة بل هو قبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت. والتوفي استيفاء الشيء. وتوفي الميت استوفى عدد أيام عمره، والذي ينام كأنه استوفى حركاته في اليقظة. والوفاة الموت. وأوفيتك المال، وتوفيته «1»
، واستوفيته إذا أخذته أجمع. وقال الشاعر «2»:
إن بني الأدرد ليسوا من أحد ... ولا توفاهم قريش في العدد
ويقال: إن الروح إذا خرج من البدن في المنام تبقى فيه الحياة، ولهذا تكون فيه الحركة والتنفس، فإذا انقضى عمره خرج روحه وتنقطع حياته، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس. وقال بعضهم. لا تخرج منه الروح، ولكن يخرج منه الذهن. ويقال: هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى. وهذا أصح الأقاويل، والله أعلم. (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي في النهار، ويعني اليقظة. (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي ليستوفي كل إنسان أجلا ضرب له. وقرا أبو رجاء وطلحة بن مصرف" ثم يبعثكم فيه ليقضى أجلا مسمى" أي عنده. و" جَرَحْتُمْ" كسبتم. وقد تقديم في المائدة «3». وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير وهو الذي يتوفاكم
__________
(1). في ز، ل: توفيت الشيء.
(2). هو منظور الوبرى.
(3). راجع ج 6 ص 66.

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)

بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه، فقدم الأهم الذي من أجله وقع البعث في النهار. وقال ابن جريج" ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ" أي في المنام. ومعنى الآية: إن إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم فإنه أحصى كل شي عددا وعلمه واثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم. وقد دل على الحشر والنشر بالبعث، لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر.

[سورة الأنعام (6): الآيات 61 الى 62]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
قوله تعالى: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) يعني فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة على ما تقدم بيانه أول السورة. (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أي من الملائكة. والإرسال حقيقته إطلاق الشيء بما حمل من الرسالة، فإرسال الملائكة بما حملوا من الحفظ الذي أمروا به، كما قال:" وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ" «1» أي ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات. والحفظة جمع حافظ، مثل الكتبة والكاتب. ويقال: إنهما ملكان بالليل وملكان بالنهار، يكتب أحدهما الخير والآخر الشر، وإذا مشى الإنسان يكون أحدهما بين يديه والآخر وراءه، وإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، لقوله تعالى:" عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ" «2» (الآية) «3» ويقال: لكل إنسان خمسة من الملائكة: اثنان بالليل، واثنان بالنهار، والخامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا. والله أعلم. وقال عمر بن الخطاب (رضي الله «4» عنه):
ومن الناس من يعيش «5» شقيا ... جاهل القلب غافل اليقظة
فإذا كان ذا وفاء ورأي ... حذر الموت واتقى الحفظه
إنما الناس راحل ومقيم ... فالذي بان للمقيم عظه
__________
(1). راجع ج 19 ص 245. [.....]
(2). راجع ج 17 ص 8.
(3). من ز.
(4). من ز، ع.
(5). في ك: سفيها.

قوله تعالى: (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يريد أسبابه. كما تقدم في" البقرة" «1». (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) على تأنيث الجماعة، كما قال:" وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ" و" كُذِّبَتْ رُسُلٌ" «2». وقرا حمزة" توفاه رسلنا" على تذكير الجمع. وقرا الأعمش" تتوفاه رسلنا" بزيادة تاء والتذكير. والمراد أعوان ملك الموت، قاله ابن عباس وغيره. ويروى أنهم يسلون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها قبضها ملك الموت. وقال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا أو إلى ملائكة العذاب إن كان كافرا. ويقال: معه سبعة من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب، فإذا قبض نفسا مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب ويصعدون بها إلى السماء، إذا قبض نفسا كافرة دفعها إلى ملائكة العذاب فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها، ثم يصعدون بها إلى السماء ثم ترد إلى سجين، وروح المؤمن إلى عليين. والتوفي تارة يضاف إلى ملك الموت، كما قال:" قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «3»" وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك، كما في هذه الآية وغيرها. وتارة إلى الله وهو المتوفي على الحقيقة، كما قال:" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها" «4»" قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ" «5»" الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ «6» الْحَياةَ" فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما أمر به. (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) أي لا يضيعون ولا يقصرون، أي يطيعون أمر الله. وأصله من التقدم، كما تقدم. فمعنى فرط قدم العجز. وقال أبو عبيدة: لا يتوانون. وقرا عبيد بن عمير" لا يفرطون" بالتخفيف، أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به الإكرام والإهانة. (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ) أي ردهم الله بالبعث للحساب. (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي خالقهم ورازقهم وباعثهم ومالكهم." الْحَقِّ" بالخفض قراءة الجمهور، على النعت والصفة لاسم الله تعالى. وقرا الحسن" الحق" بالنصب على إضمار أعني، أو على المصدر، أي حقا. (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) أي اعلموا وقولوا: له الحكم وحده يو القيامة، أي القضاء والفصل. (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) أي لا يحتاج إلى فكرة وروية ولا عقد يد. وقد تقدم «7».
__________
(1). راجع ج 2 ص 137.
(2). راجع ج 6 ص 416.
(3). راجع ج 14 ص 92.
(4). راجع ج 15 ص 260.
(5). راجع ج 16 ص 172.
(6). راجع ج 18 ص 206.
(7). راجع ج 2 ص 435.

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)

[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي شدائدهما، يقال: يوم مظلم أي شديد. قال النحاس: والعرب تقول: يوم مظلم إذا كان شديدا، فإن عظمت ذلك قالت: يوم ذو كواكب، وأنشد سيبويه:
بنى أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
وجمع" الظلمات" على أنه يعني ظلمة البر وظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة الغيم، أي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك دعوتموه (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا «1» مِنْ هذِهِ) أي من هذه الشدائد (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي من الطائعين. فوبخهم الله في دعائهم إياه عند الشدائد، وهم يدعون معه في حالة الرخاء غيره بقوله:" ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ". وقرا الأعمش" وخيفة" من الخوف، و(قرأ) «2» أبو بكر عن عاصم" خفية" بكسر الخاء، والباقون بضمها، لغتان. وزاد الفراء خفوة وخفوة. قال: ونظيره حبية وحبية وحبوة وحبوة. وقراءة الأعمش بعيدة، لأن معنى" تَضَرُّعاً" أن تظهروا التذلل و" خُفْيَةً" أن تبطنوا مثل ذلك. وقرا الكوفيون" لئن أنجانا" واتساق المعنى بالتاء، كما قرأ أهل المدينة وأهل الشام. قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) وقرا الكوفيون" ينجيكم" بالتشديد، الباقون بالتخفيف. قيل: معناهما واحد مثل نجا وأنجيته ونجيته. وقيل: التشديد للتكثير. والكرب: الغم يأخذ بالنفس، يقال منه: رجل مكروب. قال عنترة:
ومكروب كشفت الكرب عنه ... بطعنة فيصل لما دعاني
والكربة مشتقة من ذلك. قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) تقريع وتوبيخ، مثل قوله في أول السورة" ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ". لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة وجب الإخلاص، وهم قد جعلوا
__________
(1). قراءة نافع.
(2). من ك.

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

بدلا منه وهو الإشراك، فحسن أن يقرعوا ويوبخوا على هذه الجهة وإن كانوا مشركين قبل النجاة.

[سورة الأنعام (6): آية 65]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
أي القادر على إنجائكم من الكرب، قادر على تعذيبكم. ومعنى (مِنْ فَوْقِكُمْ) الرجم والحجارة والطوفان والصيحة والريح، كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح، عن مجاهد وابن جبير وغيرهما. (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الخسف والرجفة، كما فعل بقارون وأصحاب مدين. وقيل:" مِنْ فَوْقِكُمْ" يعني الأمراء الظلمة،" أَوْ- مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ" يعني السفلة وعبيد السوء، عن ابن عباس ومجاهد أيضا. (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) وروي عن أبي عبد الله المدني" أَوْ يَلْبِسَكُمْ" بضم الياء، أي يجللكم العذاب ويعمكم به، وهذا من اللبس بضم الأول، وقراءة الفتح من اللبس. وهو موضع مشكل والأعراب يبينه. أي يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين وحرف الجر، كما قال:" وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ" «1» وهذا اللبس بأن يخلط أمرهم فيجعلهم مختلفي الأهواء، عن ابن عباس. وقيل: معنى" يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً" يقوى عدوكم حتى يخالطكم وإذا خالطكم فقد لبسكم." شِيَعاً" معناه فرقا. وقيل يجعلكم فرقا يقاتل بعضكم بعضا، وذلك بتخليط أمرهم وافتراق أمرائهم «2» على طلب الدنيا. وهو معنى (قوله) «3» (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أي بالحرب والقتل في الفتنة، عن مجاهد. والآية عامة في المسلمين والكفار. وقيل هي في الكفار خاصة. وقال الحسن: هي في أهل الصلاة. قلت: وهو الصحيح، فإنه المشاهد في الوجود، فقد لبسنا العدو في ديارنا واستولى على أنفسنا وأموالنا، مع الفتنة المستولية علينا بقتل بعضنا بعضا واستباحة بعضنا أموال بعض.
__________
(1). راجع ج 19 ص 250. [.....]
(2). في ك: أهوائهم.
(3). في ك: أهوائهم.

نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وعن الحسن أيضا أنه تأول ذلك فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. روى مسلم عن ثوبان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله «1» زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم «2» ولو أجتمع عليهم من بأقطارها- أو قال من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا (. وروى النسائي عن خباب بن الأرت، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه راقب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سلم رسول الله من صلاته جاءه خباب فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أجل إنها صلاة رغب ورهب سألت الله عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألت ربي عز وجل ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يلبسنا شيعا فمنعنيها". وقد أتينا على هذه الأخبار في كتاب (التذكرة) والحمد لله. وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل:" يا جبريل ما بقاء أمتي على ذلك"؟ فقال له جبريل:" إنما أنا عبد مثلك فادع ربك وسله لأمتك) فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلي وأحسن الصلاة، ثم دعا فنزل جبريل وقال:" يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك وأجارهم من خصلتين وهو العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم". فقال: (يا جبريل ما بقاء أمتي إذا كان فيهم أهواء مختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض"؟ فنزل جبريل بهذه الآية:" الم. أَحَسِبَ النَّاسُ
__________
(1). زوى: جمع.
(2). أي مجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم.

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا" «1» الآية. وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية" قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ" قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أعوذ بوجه الله" فلما نزلت" أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ" قال: (هاتان أهون). وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر قال:" لم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدع هؤلاء الكلمات حين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي (. قال وكيع: يعني الخسف. قوله تعالى:) انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نبين لهم الحجج والدلالات. (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) يريد بطلان ما هم عليه من الشرك والمعاصي.

[سورة الأنعام (6): الآيات 66 الى 67]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
قوله تعالى: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) أي بالقرآن. وقرا ابن أبي عبلة" وكذبت". بالتاء. (وَهُوَ الْحَقُّ) أي القصص الحق. (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) قال الحسن: لست بحافظ أعمالكم حتى أجازيكم عليها، إنما أنا منذر وقد بلغت، نظيره" وما أنا عليكم بحفيظ" «2» أي أحفظ عليكم أعمالكم. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس بمنسوخ، إذ لم يكن في وسعه إيمانهم. (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) لكل خبر حقيقة، أي لكل شي وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقيل: أي لكل عمل جزاء. قال الحسن: هذا وعيد من الله تعالى للكفار، لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث. الزجاج: يجوز أن يكون وعيدا بما ينزل بهم في الدنيا. (قال) «3» السدي: استقر يوم بدر ما كان يعدهم به من العذاب. وذكر الثعلبي أنه رأى في بعض التفاسير أن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع على السن.
__________ (1). راجع ج 13 ص 323.
(2). راجع ج 9 ص 86.
(3). من ك.

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

[سورة الأنعام (6): آية 68]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
قوله تعالى:" وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (68) قوله تعالى: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فيه مسألتان: الأولى- قوله تعالى: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) بالتكذيب والرد والاستهزاء (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) والخطاب مجرد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه. وهو صحيح، فإن العلة سماع الخوض في آيات الله، وذلك يشملهم وإياه. وقيل المراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحد، لأن قيامه عن المشركين كان يشق «1» عليهم، ولم يكن المؤمنون عندهم كذلك، فأمر أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزءوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء. والخوض أصله في الماء، ثم استعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل، تشبيها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول. وقيل: هو مأخوذ من الخلط. وكل شي خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل خلطه. فأدب الله عز وجل نبيه (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2») بهذه الآية، (لأنه) «3» كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزءون بالقرآن، فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر. ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه. وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله:" وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا" قال: هم الذين يستهزئون بكتاب الله، نهاه الله عن أن يجلس معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر قام. وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هم الذين يقولون في القرآن غير الحق. الثانية- في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية «4». وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي (رضي الله عنه «5») أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون
__________
(1). في ك: أشق.
(2). من ك وز.
(3). من ك.
(4). التقية والتقاة بمعنى واحده. يريد أنهم يتقون بعضهم بعضا ويظهرون الصلح والاتفاق، وباطنهم بخلاف ذلك.
(5). من، ع، ز.

في آيات الله. قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا. قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالس الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: أسمع مني كلمة، فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة. ومثله عن أيوب السختياني. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له. وروى أبو عبد الله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام" فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة إذا صانوا أسماعهم. قوله تعالى: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.) فيه مسألتان: الأولى- قوله تعالى: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ)" إِمَّا" شرط، فيلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم، كما قال:
إما يصبك عدو في مناوأة ... يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر
وقرأ ابن عباس «1» وابن عامر" ينسينك" بتشديد السين على التكثير، يقال: نسى وأنسى بمعنى واحد (لغتان)، «2» قال الشاعر:
قالت سليمى أتسري اليوم أم تقل ... وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل «3»
وقال امرؤ القيس:
تنسني إذا قمت سربالي «4»
__________
(1). في ابن عطية: قرأ ابن عامر وحده. إلخ وفي ك: قرأ ابن عياش وابن عامر وابن عمر.
(2). في ابن عطية: قرأ ابن عامر وحده. إلخ وفي ك: قرأ ابن عياش وابن عامر وابن عمر. [.....]
(3). الشاهد في ينسيك بالشد مع عدم النون الشديدة إلا أنه بدون إما.
(4). والبيت بتمامه كما في اللسان:
ومثلك بيضاء العوارض طفلة ... لعوب تنسى أذا قمت سربالي
ورواية اللسان" تناسانى" بدل" تنسيني".

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

المعنى: يا محمد إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فجالستهم بعد النهى. (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى " أي إذا ذكرت فلا تقعد (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني المشركين. والذكرى اسم للتذكير. الثانية- قيل: هذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته، ذهبوا إلى تبرئته عليه السلام من النسيان. وقيل: هو خاص به، والنسيان جائز عليه. قال ابن العربي: وإن عذرنا أصحابنا في (قولهم «1» إن) قول تعالى:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ" «2» خطاب للأمة باسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاستحالة الشرك عليه، فلا عذر لهم في هذا لجواز النسيان عليه. قال عليه السلام،" نسي آدم فنسيت ذريته" خرجه الترمذي وصححه. وقال مخبرا عن نفسه:" إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني". خرجه في الصحيح، فأضاف النسيان إليه. وقال وقد سمع قراءة رجل:" لقد أذكرني أية كذا وكذا كنت أنسيتها". واختلفوا بعد جواز النسيان عليه، هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أم لا.؟ فذهب إلى الأول- فيما ذكره القاضي عياض- عامة العلماء والأئمة النظار، كما هو ظاهر القرآن والأحاديث، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ولا يقره عليه. ثم اختلفوا هل من شرط التنبيه اتصال بالحادثة على الفور، وهو مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخر عمره وينقطع تبليغه، وإليه نحا أبو المعالي. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية، كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق. وشذت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب فقالوا: لا يجوز النسيان عليه، وإنما ينسى قصدا ويتعمد صورة النسيان ليسن. ونحا إلى هذا عظيم من أئمة التحقيق وهو أبو المظفر الإسفرايني في كتابه (الأوسط) وهو منحى غير سديد، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد.

[سورة الأنعام (6): آية 69]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
__________
(1). الزيادة من ابن العربي.
(2). راجع ج 15 ص 276.

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

قال ابن عباس: لما نزل لا تقعدوا مع المشركين وهو المراد بقوله:" فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ" قال المسلمون: لا يمكننا دخول المسجد والطواف، فنزلت هذه الآية." وَلكِنْ ذِكْرى " أي فإن قعدوا يعني المؤمنين فليذكروهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الله في ترك ما هم فيه. ثم قيل: نسخ هذا بقوله:" وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ" «1». وإنما كانت الرخصة قبل الفتح وكان الوقت وقت تقية. وأشار بقول:" وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ" إلى قول:" وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً". قال القشيري: والأظهر أن الآية ليست منسوخة. والمعنى: ما عليكم شي من حساب المشركين، فعليكم بتذكيرهم وزجرهم فإن أبوا فحسابهم على الله. و" الذِّكْرى " في موضع نصب على المصدر، ويجوز أن تكون في موضع رفع، أي ولكن الذي يفعلونه ذكرى، أي ولكن عليهم ذكرى. وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى.

[سورة الأنعام (6): آية 70]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
أي لا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت إن كنت مأمورا بوعظهم. قال قتادة: هذا منسوخ، نسخه" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «2». ومعنى" لَعِباً وَلَهْواً" أي استهزاء بالدين الذي دعوتهم إليه. وقيل: استهزءوا بالدين الذي هم عليه فلم يعملوا به. والاستهزاء ليس مسوغا في دين. وقيل:" لَعِباً وَلَهْواً" باطلا وفرحا، وقد تقدم «3» هذا. وجاء اللعب مقدما في أربعة مواضع، وقد نظمت.
__________
(1). راجع ج 5 ص 417.
(2). راجع ج 8 ص 71.
(3). راجع ج 6 ص 413 فما بعده.

إذا أتى لعب ولهو «1» ... وكم من موضع هو في القران

فحرف في الحديد وفي القتال ... وفي الأنعام منها موضعان
وقيل: المراد بالدين هنا العيد. قال الكلبي: إن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه لله تعالى، وكل قوم اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا إلا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهم اتخذوه وصلاة وذكرا وحضورا بالصدقة، مثل الجمعة والفطر والنحر. قوله تعالى: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. قوله تعالى: (وَذَكِّرْ بِهِ) أي بالقرآن أو بالحساب. (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أي ترتهن وتسلم للهلكة، عن مجاهد وقتادة والحسن وعكرمة والسدي. والإبسال: تسليم المرء للهلاك، هذا هو المعروف في اللغة. أبسلت ولدي أرهنته، قال عوف بن الأحوص بن جعفر:
وإبسالي بني بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق
" بعوناه" بالعين المهملة معناه جنيناه. والبعو الجناية. وكان حمل عن غني لبني قشير دم ابني السجيفة «2» فقالوا: لا نرضى بك، فرهنهم بنيه طلبا للصلح. وأنشد النابغة (الجعدي) «3»:
ونحن رهنا بالإفاقة «4» عامرا ... بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا
الدرداء: كتيبة كانت لهم. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ «5» وَلا شَفِيعٌ) 6 (تقدم معناه.) قوله تعالى: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) الآية. العدل الفدية، وقد تقدم في" البقرة" «6». والحميم الماء الحار، وفي التنزيل" يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ «7»" الآية.
__________
(1). هكذا الشطر في الأصول ولعل الأصل: إذا سألت عن إلخ.
(2). كذا في ك. والذي في اللسان وشرح القاموس: السجفيه. والذي في الجواهري وفي اوب وج وز: السحيفه بالحاء المهملة بدل الجحيم.
(3). من ج، ع، ك، ز.
(4). الإفاقة (ككناسة): موضع في أرض الحزن قرب الكوفه. أو هو ماء لبنى يربوع، ويوم الإفاقة من أيام العرب.
(5). راجع ج 3 ص 283 وص 273 وج 4 ص 109.
(6). راجع ج 1 ص 378 وص 380.
(7). راجع ج 12 ص 25. [.....]

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

" يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ" «1». والآية منسوخة بآية القتال. وقيل: ليست بمنسوخة، لأن قوله:" وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ" تهديد، كقول:" ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا" «2» ومعناه لا تحزن عليهم، فإنما عليك التبليغ والتذكير بإبسال النفوس. فمن أبسل فقد أسلم وارتهن. وقيل: أصله التحريم، من قولهم: هذا بسل عليك أي حرام، فكأنهم حرموا الجنة وحرمت عليهم الجنة. قال الشاعر «3»:
أجارتكم بسل علينا محرم ... وجارتنا حل لكم وحليلها
والإبسال: التحريم. والإبسال: التحريم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قوله تعالى: (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا) أي ما لا ينفعنا إن دعونا «4». (وَلا يَضُرُّنا) إن تركناه، يريد الأصنام. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ) أي نرجع إلى الضلالة بعد الهدى. وواحد الأعقاب عقب وهو مؤنث، وتصغيره عقيبة. يقال: رجع فلان على عقبيه، إذا أدبر. قال أبو عبيدة: يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها: قد رد على عقبيه. وقال المبرد: معناه تعقب بالشر بعد الخير. وأصله من العاقبة والعقبى وهما ما كان
__________
(1). راجع ج 17 ص 175.
(2). راجع ج 10 ص 2.
(3). هو الأعشى ميمون.
(4). في ك: رجونا.

تاليا للشيء واجبا أن يتبعه، ومنه" وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" «1». ومنه عقب الرجل. ومنه العقوبة، لأنها تالية للذنب، وعنه تكون. قوله تعالى: (كَالَّذِي) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. (اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) أي استغوته وزينت له هواه ودعته إليه. يقال: هوى يهوى إلى الشيء أسرع إليه. وقال الزجاج: هو من هوى يهوى، من هوى النفس، أي زين له الشيطان هواه. وقراءة الجماعة" استهوته" أي هوت به، على تأنيث الجماعة. وقرا حمزة" استهواه الشياطين" على تذكير الجمع. وروي عن ابن مسعود" استهواه الشيطان"، وروي عن الحسن، وهو كذلك في حرف أبي. ومعنى" ائْتِنا" تابعنا. وفي قراءة عبد الله أيضا" يدعونه إلى الهدى بينا". وعن الحسن أيضا" استهوته الشياطين"." حَيْرانَ" نصب على الحال، ولم ينصرف لأن أنثاه حيرى كسكران وسكرى وغضبان وغضبى. والحيران هو الذي لا يهتدي لجهة أمره. وقد حار يحار حيرا وحيرورة «2»، أي تردد. وبه سمي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائرا، والجمع حوران. والحائر الموضع (الذي) «3» يتحير فيه الماء. قال الشاعر:
تخطو على برديتين غذاهما ... غدق بساحة حائر يعبوب «4»
قال ابن عباس: أي مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مضلة ومهلكة، فهو حائر في تلك المهامة. وقال في رواية أبي صالح: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، كان يدعو أباه إلى الكفر وأبواه يدعوانه إلى الإسلام والمسلمون، وهو معنى قوله: (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) فيأبى. قال أبو عمر: أمه أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية، فهو شقيق عائشة. وشهد عبد الرحمن بن أبي بكر بدرا واحدا مع قومه وهو وكافر، ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). سيأتي في ص 263 من هذا الجزء.
(2). لم نجد هذا المصدر في كتب اللغة. وفي تفسير الفخر الرازي:" ... وزاد الفراء حيرانا وحيرونة.
(3). من ك.
(4). العيوب: الطويل.

قال (له) «1»" متعني بنفسك". ثم أسلم وحسن إسلامه، وصحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هدنة الحديبية. هذا قول أهل السير. قالوا: كان اسمه عبد الكعبة فغير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمه عبد الرحمن، وكان أسن ولد أبي بكر. قال: إنه لم يدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة ولاء: أب وبنوه إلا أبا قحافة وابنه أبا بكر وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وابنه أبا عتيق محمد بن عبد الرحمن. والله أعلم. قوله تعالى: (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) اللام لام كي، أي أمرنا كي نسلم وبأن أقيموا الصلاة، لأن حروف الإضافة يعطف بعضها على بعض. قال الفراء: المعنى أمرنا بأن نسلم، لأن العرب تقول: أمرتك لتذهب، وبأن تذهب بمعنى. قال النحاس: سمعت أبا الحسن بن كيسان يقول هي لام الخفض، واللامات كلها ثلاث: لام خفض ولام أمر ولام توكيد، لا يخرج شي عنها. والإسلام الإخلاص. وإقامة الصلاة الإتيان بها والدوام عليها. ويجوز أن يكون" وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ" عطفا على المعنى، أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا الصلاة، لأن معنى ائتنا أن ائتنا. قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ابتداء وخبر وكذا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي فهو الذي يجب أن يعبد لا الأصنام. ومعنى (بِالْحَقِّ) أي بكلمة الحق. يعني قوله" كُنْ". قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) أي واذكر يوم يقول كن. أو اتقوا يوم يقول كن. أو قدر يوم يقول كن. أو قدر يوم يقول كن. وقيل: هو عطف على الهاء في قول:" وَاتَّقُوهُ" قال الفراء:" كُنْ فَيَكُونُ" يقال: إنه للصور خاصة، أي ويوم يقول للصور كن فيكون. وقيل: المعنى فيكون جميع ما أراد من موت الناس وحياتهم. وعلى هذين التأويلين يكون (قَوْلُهُ الْحَقُّ) ابتداء وخبرا. وقيل: إن قول تعالى:" قَوْلُهُ" رفع بيكون، أي فيكون ما يأمر به." الْحَقُّ" من نعته. ويكون التمام على هذا" فيكون قوله الحق". وقرأ ابن عامر
__________
(1). من ع وز وك.

" فيكون" بالنصب، «1» وهو إشارة إلى سرعة الحساب والبعث. وقد تقدم في البقرة القول فيه مستوفى «2». قوله تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي وله الملك يوم ينفخ في الصور. أو وله الحق يوم ينقخ في الصور. وقيل: هو بدل من" يَوْمَ يَقُولُ". والصور قرن من نور ينفخ فيه، النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء. وليس جمع صورة كما زعم بعضهم، أي ينفخ في صور الموتى على ما نبينه. روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو" .... ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى «3» ليتا ورفع ليتا «4»- قال- وأول من يسمعه رجل يلوط «5» حوض إبله قال ويصعق الناس ثم يرسل الله- أو قال ينزل الله- مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" وذكر الحديث. وكذا في التنزيل" ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى " «6» ولم يقل فيها، فعلم أنه ليس جمع الصورة. والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. قال ابن فارس: الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه، والصور جمع صورة. وقال الجوهري: الصور القرن. قال الراجز:
لقد نطحناهم غداة الجمعين ... نطحا شديدا لا كنطح الصورين
ومنه قول:" وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ «7»". قال الكلبي: لا أدري ما هو الصور. ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، أي ينفخ في صور الموتى والأرواح. وقرا الحسن" يوم ينفخ
__________
(1). في ك. وفى شواذ ابن خالويه: فيكون بالنصب. الحسن. وفي الأصول الأخرى: فنكون بالنون. وهو خطأ.
(2). راجع ج 2 ص 89.
(3). أصغى: أمال.
(4). الليت (بكسر اللام): صفحة العنق.
(5). أي يطينه ويصلحه. [.....]
(6). راجع ج 15 ص 177.
(7). راجع ج 13 ص 239.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)

في الصور". والصور (بكسر الصاد) لغة في الصور «1» جمع صورة والجمع صوار، وصيار (بالياء) لغة فيه. وقال عمرو بن عبيد: قرأ عياض" يوم ينفخ في الصور" فهذا يعني به الخلق. والله أعلم. قلت: وممن قال إن المراد بالصور في هذه الآية جمع صورة أبو عبيدة. وهذا وإن كان محتملا فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسنة. وأيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين، بل ينفخ فيه مرة واحدة، فإسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن والله عز وجل يحيى الصور. (وفي التنزيل" فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا «2»"). قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ برفع" عالِمُ" صفة" الَّذِي"، أي وهو الذي خلق السماوات والأرض عالم الغيب. ويجوز أن يرتفع على إضمار المبتدأ. وقد روي عن بعضهم أنه قرأ" ينفخ" فيجوز أن يكون الفاعل" عالِمُ الْغَيْبِ"، لأنه إذا كان النفخ فيه بأمر الله عز وجل كان منسوبا إلى الله تعالى. ويجوز أن يكون ارتفع (عالِمُ) حملا على المعنى، كما أنشد سيبويه:
لبيك «3» يزيد ضارع لخصومة

وقرأ الحسن والأعمش" عالم" بالخفض على البدل من الهاء (التي) «4» في" لَهُ".

[سورة الأنعام (6): آية 74]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)
__________
(1). نقل المؤلف هنا ما في الصحاح، وقد حذف منه ما جعل المراد غير واضح. وعبارة:" ... وقرأ الحسن (يوم ينفخ في الصور) والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة. ينشد هذا البيت على هذه اللغة يصف الجواري:
أشبهن من بقر الخلصاء أعينها ... وهن أحسن من صيرانها صورا
والصيران جمع صوار وهو القطيع من البقر. والصوار أيضا وعاء المسك، وقد جمعهما الشاعر بقوله:
إذا لاح الصور ذكرت ليلى ... وأذكرها إذا نفح الصوار
والصيار لغة فيه".
(2). من ج وك وع. راجع ج 18 ص 302.
(3). هذا صدر بيت للحارث ابن نهيك، وتمامه كما في كتاب سيبويه:
ومخبط مما تطيح الطوائح

وصف أنه كان مقيما لحجة المظلوم ناصرا له. والمختبط: الطالب المعروف. وتطيح: تذهب وتهلك.
(4). من ج وك.

قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) تكلم العلماء في هذا، فقال أبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الجويني الشافعي الأشعري في النكت من التفسير له: وليس بين الناس اختلاف، كأن اسم والد إبراهيم تارح «1». والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر. وقيل: آزر عندهم ذم في لغتهم، كأنه قال: وإذ قال لأبيه يا مخطئ" أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً" وإذا كان كذلك فالاختيار الرفع. وقيل: آزر اسم صنم. وإذا كان كذلك فموضعه نصب على إضمار الفعل، كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصناما آلهة. قلت: ما ادعاه من الاتفاق ليس عليه وفاق، فقد قال محمد بن إسحاق والكلبي والضحاك: إن آزر أبو إبراهيم عليه السلام وهو تاريخ، مثل إسرائيل ويعقوب، (قلت «2») فيكون له آسمان كما تقدم. وقال مقاتل: آزر لقب، وتارخ اسم: وحكاه الثعلبي عن ابن إسحاق القشيري. ويجوز أن يكون على العكس. قال الحسن: كان اسم أبيه آزر. وقال سليمان التيمي: هو سب وعيب، ومعناه في كلامهم: المعوج. وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: بلغني أنها أعوج، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه. وقال الضحاك: معنى آزر الشيخ الهم «3» بالفارسية. وقال الفراء: هي صفة ذم بلغتهم، كأن قال يا مخطئ، فيمن رفعه. أو كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطئ، فيمن خفض. ولا ينصرف لأنه على أفعل، قال النحاس. وقال الجوهري: آزر اسم أعجمي، وهو مشتق من آزر فلان فلانا إذا عاونه، فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام وقيل: هو مشتق من القوة، والآزر القوة، عن ابن فارس. وقال مجاهد ويمان: آزر اسم صنم. وهو في هذا التأويل في موضع نصب، التقدير: أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصناما. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: أتتخذ آزر أصناما. قلت: فعلى هذا آزر اسم جنس. والله أعلم. وقال الثعلبي في كتاب العرائس: إن اسم أبي إبراهيم الذي سماه به أبوه تارح، فلما صار مع النمروذ قيما على خزانة آلهته سماه آزر «4». وقال مجاهد: إن آزر ليس باسم أبيه وإنما هو اسم صنم. وهو إبراهيم بن تارح بن ناخور بن ساروع
__________
(1). في ج وك بالمعجمة، وفي ع بالمهملة. وفي جمل: ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة.
(2). من ج وك وع.
(3). الهم (بكسر الهاء): الشيخ الفاني. وفي ك: الهرم، وكذا قال الفراء.
(4). لعل هذا هو الصحيح كما في لغة الفينيقيين إزربعل: سادن الصنم بعل.

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

ابن أوغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. و" آزَرَ" فيه قراءات:" أإزرا" بهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة، عن ابن عباس. وعنه" أأزرا" بهمزتين مفتوحتين. وقرى بالرفع، وروي ذلك عن ابن عباس. وعلى القراءتين الأوليين عنه" تتخذ" بغير همزة. قال المهدوي: (أإزرا)؟ فقيل: إنه اسم صنم، فهو منصوب على تقدير أتتخذ إزرا، وكذلك أأزرا. ويجوز أن يجعل أإزرا على أنه مشتق من الأزر وهو الظهر فيكون مفعولا من أجله، كأنه قال: اللقوة تتخذ أصناما. ويجوز أن يكون إزر بمعنى وزر، أبدلت الواو همزة. قال القشيري: ذكر في الاحتجاج على المشركين قصة إبراهيم ووده على أبيه في عبادة الأصنام. وأولى الناس بأتباع إبراهيم العرب، فإنهم ذريته. أي وأذكر إذ قال إبراهيم. أو" وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ" وذكر إذ قال إبراهيم. وقرى" آزَرَ" أي يا آزر، على النداء المفرد، وهي قراءة أبي ويعقوب وغيرهما. وهو يقوي قول من يقول: إن آزر اسم أب إبراهيم" أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً" مفعولان لتتخذ «1» وهو استفهام) فيه معنى الإنكار.

[سورة الأنعام (6): آية 75]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
قوله تعالى: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ملك، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في الصفة. ومثله الرغبوت والرهبوت والجبروت. وقرا أبو السمال «2» العدوي" ملكوت" بإسكان اللام. ولا يجوز عند سيبويه حذف الفتحة لخفتها، ولعلها لغة. و" نُرِي" بمعنى أرينا، (فهو) «3» بمعنى المضي. فقيل: أراد به ما في السماوات من عبادة الملائكة والعجائب وما في الأرض من عصيان بني آدم، فكان يدعو على من يراه يعصي فيهلكه الله، فأوحى الله إليه يا إبراهيم أمسك عن عبادي، أما علمت أن من أسمائي الصبور. روى معناه علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل: كشف الله له عن السماوات والأرض حتى
__________
(1). من ك.
(2). أبو السمال قعنب بن أبى قعنب العدوى البصري. كذا في طبقات إلقاء والتاج. له قرءاة شاذة عن العامة وفي الميزان: أبو السماك معتب بن هلال العدوى البصري له حروف شاذة لا يعتمد على نقله ولا يوثق به. وفي ب وج: ابن السماك.
(3). من ك وج وع.

العرش وأسفل الأرضين. وروى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال: فرجت له السماوات السبع فنظر إليهن حتى انتهى إلى العرش، وفرجت له الأرضون فنظر إليهن، وراي مكانه في الجنة، فذلك قول:" وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا" «1»، عن السدي .. وقال الضحاك: أراه ملكوت السماء ما قصه من الكواكب، ومن ملكوت الأرض البحار والجبال والأشجار، ونحو ذلك مما استدل به. وقال بنحوه ابن عباس. وقال: جعل حين ولد في سرب «2» وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها، وكان نمروذ اللعين رأى رؤيا فعبرت له أنه يذهب ملكه على يدي مولود يولد، فأمر بعزل الرجال عن النساء. وقيل: أمر بقتل كل مولود ذكر. وكان آزر من المقربين عند (الملك) «3» نمروذ فأرسله يوما في بعض حوائجه فواقع امرأته فحملت بإبراهيم. وقيل: بل واقعها في بيت الأصنام فحملت وخرت الأصنام على وجوهها حينئذ، فحملها إلى بعض الشعاب حتى ولدت إبراهيم، وحفر لإبراهيم سربا في الأرض ووضع على بابه صخرة لئلا تفترسه السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه، وكانت تجده يمص أصابعه، من أحدها عسل ومن الآخر ماء ومن الآخر لبن، وشب فكان على سنة مثل ابن ثلاث سنين. فلما أخرجه من السرب توهمه الناس أنه ولد منذ سنين، فقال لأمه: من ربي؟ فقالت أنا. فقال: ومن ربك؟ قالت أبوك. قال: ومن ربه؟ قالت نمروذ. قال: ومن ربه «4»؟ فلطمته، وعلمت أنه الذي يذهب ملكهم على يديه. والقصص في هذا تام في قصص الأنبياء للكسائي، وهو كتاب «5» مما يقتدى به. وقال بعضهم: كان مولده بحران ولكن أبوه نقله إلى أرض بابل. وقال عامة السلف من أهل العلم: ولد إبراهيم في زمن النمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن كوش بن سام بن نوح. وقد مضى ذكره في" البقرة" «6». وكان بين الطوفان وبين مولد إبراهيم ألف ومائتا سنة وثلاث وستون سنة، وذلك بعد خلق آدم بثلاث ألاف سنة وثلاثمائة سنة وثلاثين سنة. قوله تعالى: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)
أي وليكون من الموقنين أريناه ذلك، أي الملكوت.
__________
(1). راجع ج 13 ص 339. [.....]
(2). السرب (بالتحريك): حفير أو بيت تحت الأرض.
(3). من ك. ( (
(4). في ك: ومن رب نمرود.
(5). في ج وز: كتاب حسن نظيف مما يفترى.
(6). راجع ج 3 ص 283.

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)

[سورة الأنعام (6): آية 76]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
قوله تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي ستره بظلمته، ومنه الجنة والجنة والجنة والجنين والمجن والجن كله بمعنى الستر. وجنان الليل أدلهمامه وستره. قال الشاعر «1»:
ولولا جنان الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرطى «2» عياض بن ناشب
ويقال: جنون الليل أيضا. ويقال: جنة الليل وأجنه الليل لغتان. (رَأى كَوْكَباً) هذه قصة أخرى، غير قصة عرض الملكوت عليه. فقيل: رأى ذلك من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب. وقيل: لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس فرأى الإبل والخيل والغنم فقال: لا بد لها من رب. وراي المشتري أو الزهرة ثم القمر ثم الشمس، وكان هذا في أخر الشهر. قال محمد بن إسحاق: وكان ابن خمس عشرة سنة. وقيل: ابن سبع سنين. وقيل: لما حاج نمروذا كان ابن سبع عشرة سنة. قوله تعالى: (قالَ هذا رَبِّي) اختلف في معناه على أقوال، فقيل: كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة، وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان. فاستدل قائلو هذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال:" فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي" فعبده حتى غاب عنه، وكذلك الشمس والقمر، فلما تم نظره قال:" إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ" واستدل بالأفول، لأنه أظهر الآيات على الحدوث. وقال قوم: هذا لا يصح، وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه برئ. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل، واراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز
__________
(1). هو دريد بن الصمة، وقيل: هو لخفاف بن ندبة (عن اللسان).
(2). الرمث (بالكسر): مرعى من مراعى الإبل، واسم واد لبنى أسد. والأرطى (جمع أرطاة): شجر ينبت بالرمل.

أن يوصف بالخلو عن المعرفة، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال، وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال:" وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «1»" وقال جل وعز:" إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «2»" أي لم يشرك به قط. قال: والجواب عندي أنه قال" هذا رَبِّي" على قولكم، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر، ونظير هذا قوله تعالى:" أَيْنَ شُرَكائِيَ «3»" وهو جل وعلا واحد لا شريك له. والمعنى: ابن شركائي على قولكم. وقيل: لما خرج إبراهيم من السرب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه، فظن أنه ضوءه قال:" هذا رَبِّي" أي بأنه يتراءى لي نوره. (فلما أفل) علم أنه ليس بربه." فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً" ونظر إلى ضوئه" قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي" وليس هذا شركا. إنما نسب ذلك الضوء إلى ربه فلما رآه زائلا «4» دله العلم على أنه غير مستحق لذلك، فنفاه بقلبه وعلم أنه مربوب وليس برب. وقيل: إنما قال" هذا رَبِّي" لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم، فلما أفل النجم قرر الحجة وقال: ما تغير لا يجوز أن يكون ربا. وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل:" نُورٌ عَلى نُورٍ «5»" قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه أزداد نورا على نور، وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربا وخالقا. فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال:" أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ" وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ، منكرا لفعلهم. والمعنى: أهذا ربي، أو مثل هذا يكون ربا؟ فحذف الهمزة. وفي التنزيل" أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «6»" أي أفهم الخالدون. وقال الهذلي «7»:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
__________
(1). راجع ج 9 ص 367.
(2). راجع ج 15 ص 91.
(3). راجع ج 10 ص 97.
(4). في ك: آفلا.
(5). راجع ج 12 ص 255.
(6). راجع ج 11 ص 287.
(7). هو أبو خراش. رفوته سكنه من الرعب. [.....]

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)

آخر «1»:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
وقيل: المعنى هذا ربي على زعمكم، كما قال تعالى:" أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ «2»" وقال:" ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «3»" أي عند نفسك. وقيل: المعنى أي وأنتم تقولون هذا ربي، فأضمر القول، وإضماره في القرآن كثير. وقيل: المعنى في هذا ربي، أي هذا دليل على ربي.

[سورة الأنعام (6): آية 77]
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي طالعا. يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع، والبزغ الشق، كأنه يشق بنوره الظلمة، ومنه بزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها. (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) أي لم يثبتني على الهداية. وقد كان مقتديا فيكون جرى هذا في مهلة النظر، أو سأل التثبيت لإمكان الجواز العقلي كما قال شعيب: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله «4». وفي التنزيل" اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ" أي ثبتنا على الهداية. وقد تقدم «5».

[سورة الأنعام (6): آية 78]
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) نصب على الحال، لأن هذا من رؤية العين. بزغ يبزغ إذا طلع. وأفل يأفل أفولا إذا غاب. وقال:" هذا" والشمس مؤنثة، لقوله" فَلَمَّا أَفَلَتْ" فقيل: إن تأنيث الشمس لتفخيمها وعظمها، فهو كقولهم: رجل نسابة وعلامة. وإنما قال:" هذا رَبِّي" على معنى: هذا الطالع ربي
__________
(1). هو عمر بن أبى ربيعة.
(2). راجع ج 13 ص 308.
(3). راجع ج 16 ص 151.
(4). راجع ص 250 من هذا الجزء.
(5). راجع ج 1 ص 146.

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

قاله الكسائي والأخفش. وقال غيرهما: أي هذا الضوء. قال أبو الحسن علي بن سليمان: أي هذا الشخص، كما قال الأعشى:
قامت تبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذل من ليس له ناصر «1»

[سورة الأنعام (6): آية 79]
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
قوله تعالى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل وحده. وذكر الوجه لأنه أظهر ما يعرف به (الإنسان) «2» صاحبه." حَنِيفاً" مائلا إلى الحق. (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اسم" ما" وخبرها. وإذا وقفت قلت:" أَنَا" زدت الألف لبيان الحركة، وهي اللغة الفصيحة. وقال الأخفش: ومن العرب من يقول:" أن". وقال الكسائي: ومن العرب من يقول:" أنه". ثلاث لغات. وفي الوصل أيضا ثلاث لغات: أن تحذف الألف في الإدراج، لأنها زائدة لبيان الحركة في الوقف. ومن العرب من يثبت الألف في الوصل، كما قال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني «3»

وهي لغة بعض بني قيس وربيعة، عن الفراء. ومن العرب من يقول في الوصل: أن فعلت، مثل عان فعلت، حكاه الكسائي عن بعض قضاعة.

[سورة الأنعام (6): آية 80]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)
__________
(1). الشاهد فيه قوله:" ذا غربه" أي شخصا ذا غربة.
(2). من ك.
(3). هذا صدر بيت، وعجزه كما في اللسان مادة أنن:
جميعا قد تذريت السناما

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)

قوله تعالى: (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) دليل على الحجاج والجدال؟ حاجوه في توحيد الله. (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ) قرأ نافع بتخفيف النون، وشدد النون الباقون. وفية عن ابن عامر من رواية هشام عنه خلاف، فمن شدد قال: الأصل فيه نونان، الأولى علامة الرفع والثانية فاصلة بين الفعل والياء، فلما اجتمع مثلان في فعل وذلك ثقيل أدغم النون في الأخرى فوقع التشديد ولا بد من مد الواو لئلا يلتقي الساكنان، الواو وأول المشدد، فصارت المدة فاصلة بين الساكنين. ومن خفف حذف النون الثانية استخفافا لاجتماع المثلين، ولم تحذف الأولى لأنها علامة الرفع، فلو حذفت لاشتبه المرفوع بالمجزوم والمنصوب. وحكي عن أبي عمرو ابن العلاء أن هذه القراءة لحن. وأجاز سيبويه ذلك فقال: استثقلوا التضعيف. وأنشد:
تراه كالثغام يعل مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني «1»
قوله تعالى: (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي لأنه لا ينفع ولا يضر- وكانوا خوفوه بكثرة آلهتهم- إلا أن يحييه (الله) «2» ويقدره فيخاف ضرره حينئذ، وهو معنى قوله: (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي إلا أن يشاء أن يلحقني شي من المكروه بذنب عملته فتتم مشيئته. وهذا استثناء ليس من الأول. والهاء في" بِهِ" يحتمل أن تكون لله عز وجل، ويجوز أن تكون للمعبود. وقال:" إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي" يعني أن الله تعالى لا يشاء أن أخافهم. ثم قال: (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه كل شي. وقد تقدم «3».

[سورة الأنعام (6): الآيات 81 الى 82]
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
__________
(1). البيت لعمرو بن معد يكرب، وصف شعره وأن الشيب قد شمله. والثغام: نبت له نور أبيض يشبه به الشيب ويعل: يطيب شيئا بعد شي والعلل: الشرب بعد الشرب.
(2). من ك.
(3). راجع ج 2 ص 84.

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

قوله تعالى: (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) ففي" كَيْفَ" معنى الإنكار، أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام وهم لا يخافون الله عز وجل، أي كيف أخاف مواتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شي (ما لم ينزل به عليكم سلطانا) أي حجة، وقد تقدم «1». (فأي الفريقين أحق بالأمن) أي من عذاب الله: الموحد أم المشرك، فقال الله قاضيا بينهم: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي بشرك، قال أبو بكر الصديق وعلي وسلمان وحذيفة، رضي الله عنهم. وقال ابن عباس: هو من قوم إبراهيم، كما يسأل العالم ويجيب نفسه. وقيل: هو من قول (قوم) «2» إبراهيم، أي أجابوا بما وهو حجة عليهم، قاله ابن جريج. وفي الصحيحين عن ابن مسعود لما نزلت" الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ" شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه" يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «3»." (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي في الدنيا.

[سورة الأنعام (6): آية 83]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) (تلك) «4» إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة. وقال مجاهد: هي قول:" الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ". وقيل: حجته عليهم أنهم لما قالوا له: أما تخاف «5» أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها؟ قال لهم: أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة والتعظيم، فيغضب الكبير فيخبلكم؟. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي بالعلم والفهم والإمامة والملك. وقرا الكوفيون" درجات" بالتنوين. ومثله في" يوسف «6»" أوقعوا الفعل على" من" لأنه المرفوع في الحقيقة، التقدير: ونرفع من نشاء إلى درجات. ثم حذفت إلى. وقرا أهل الحرمين وأبو عمرو بغير تنوين على الإضافة، والفعل واقع على الدرجات، إذا رفعت فقد رفع
__________
(1). راجع ج 4 ص 233.
(2). من ب وج وك.
(3). راجع ج 14 ص 62. [.....]
(4). من ك.
(5). في ك: إنا نخاف.
(6). راجع ج 9 ص 235.

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)

صاحبها. يقوي هذه القراءة قوله تعالى:" رَفِيعُ الدَّرَجاتِ «1»" وقول عليه السلام:" اللهم أرفع درجته". فأضاف الرفع إلى الدرجات. وهو لا إله إلا هو الرفيع المتعالي في شرفه وفضله. فالقراءتان متقاربتان، لأن من رفعت درجاته فقد رفع، ومن رفع فقد رفعت درجاته، فأعلم. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يضع كل شي موضعه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 84 الى 85]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
فيه ثلاث مسائل: الأولى- قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي جزاء له على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه." (كُلًّا هَدَيْنا)" أي كل واحد منهم مهتد. و" كُلًّا" نصب ب" هَدَيْنا" (وَنُوحاً) نصب ب" هَدَيْنا" الثاني. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي ذرية إبراهيم. وقيل: من ذرية نوح، قاله الفراء وأختاره الطبري وغير واحد من المفسرين كالقشيري وابن عطية وغيرهما. والأول قاله الزجاج، واعترض بأنه عد من (هذه «2») الذرية يونس ولوط وما كانا من ذرية إبراهيم. وكان لوط ابن أخيه. وقيل: ابن أخته. وقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعا مضافون إلى ذرية إبراهيم، وإن كان فيهم من لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أم، لأن لوطا ابن أخي إبراهيم. والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنهم قالوا" نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «3»". وإسماعيل عم يعقوب. وعد عيسى من ذرية إبراهيم وإنما هو ابن البنت. فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبهذا تمسك من رأى أن ولد البنات يدخلون في اسم الولد وهي:
__________
(1). راجع ج 15 ص 298.
(2). من ك وب وع.
(3). راجع ج 2 ص 137.

الثانية- قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة كل ذي رحم محرم. ويسقط عنده ابن العم والعمة وابن الخال والخالة، لأنهم ليسوا بمحرمين. وقال الشافعي: القرابة كل ذي رحم محرم وغيره. فلم يسقط عنده ابن العم «1» ولا غيره. وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات. وقول: لقرابتي وعقبي كقول: لولدي وولد ولدي. يدخل في ذلك ولد البنين ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه، ولا يدخل في ذلك ولد البنات. وقد تقدم نحو هذا عن الشافعي في" آلَ عِمْرانَ «2»". والحجة لهما قول سبحانه:" يُوصِيكُمُ اللَّهُ «3» فِي أَوْلادِكُمْ" فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة. وقال تعالى:" وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي «4» الْقُرْبى " فأعطى عليه السلام القرابة منهم من أعمامه دون بني أخواله. فكذلك ولد البنات لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه في أب. قال ابن القصار: وحجة من أدخل البنات في الأقارب قوله عليه السلام للحسن بن علي" إن ابني هذا سيد". ولا نعلم أحدا يمتنع أن يقول في ولد البنات إنهم ولد لأبي أمهم. والمعنى يقتضي ذلك، لأن الولد مشتق من التولد وهم متولدون عن أبي أمهم لا محالة، والتولد من جهة الأم كالتولد من جهة الأب. وقد دل القرآن على ذلك، قال الله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى قول (مِنَ الصَّالِحِينَ) فجعل عيسى من ذريته وهو ابن ابنته. الثالثة- قد تقدم في النساء «5» بيان ما لا ينصرف من هذه الأسماء. ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجمي، ولما كان على فاعول لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف. وإلياس أعجمي. قال الضحاك: كان إلياس من ولد إسماعيل. وذكر القتبي قال: كان من سبط يوشع بن نون. وقرا الأعرج والحسن وقتادة" والياس" بوصل الألف. وقرا أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم" واليسع" بلام مخففة. وقرا الكوفيون إلا عاصما" والليسع".
__________
(1). في ك: ابن العمة.
(2). راجع ج 4 ص 104.
(3). راجع ج 5 ص 54 وص 15 ج 6.
(4). راجع ج 8 ص 1.
(5). راجع ج 5 ص 54 وص 15 ج 6.

وكذا قرأ الكسائي، ورد قراءة من قرأ" واليسع" قال: لأنه لا يقال اليفعل مثل اليحيى. قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، والعرب تقول: اليعمل واليحمد، ولو نكرت يحيى لقلت اليحيى. ورد أبو حاتم على من قرأ" الليسع" وقال: لا يوجد ليسع. وقال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، فقد جاء في كلام العرب حيدر وزينب، والحق في هذا أنه اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعا والعرب تغيرها كثيرا، فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين. قال مكي: من قرأ بلامين فأصل الاسم ليسع، ثم دخلت الألف واللام للتعريف. ولو كان أصله يسع ما دخلته الألف واللام، إذ لا يدخلان على يزيد ويشكر: اسمين لرجلين، لأنهما معرفتان علمان. فأما" ليسع" نكرة فتدخله الألف واللام للتعريف، والقراءة بلام واحدة أحب إلي، لأن أكثر القراء عليه. وقال المهدوي: من قرأ" اليسع" بلام واحدة فالاسم يسع، ودخلت الألف واللام زائدتين، كزيادتهما في نحو الخمسة عشر، وفي نحو قوله:
وجدنا اليزيد بن الوليد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كأهله «1»
وقد زادوها في الفعل المضارع نحو قوله:
فيستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن بيته بالشيخة اليتقصع «2»
يريد الذي يتقصع. قال القشيري: قرئ بتخفيف اللام والتشديد. والمعنى واحد في أنه اسم لنبي معروف، مثل إسماعيل وإبراهيم، ولكن خرج عما عليه الأسماء الأعجمية بإدخال الألف واللام. وتوهم قوم أن اليسع (هو) «3» إلياس، وليس كذلك، لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذكر. وقال وهب: اليسع (هو) «4» صاحب إلياس، وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى. وقيل: إلياس هو إدريس (وهذا غير صحيح لأن إدريس «5») جد نوح وإلياس من ذريته «6». وقيل: إلياس هو الخضر. وقيل: لا، بل اليسع هو الخضر" وَلُوطاً" (اسم) «7» أعجمي انصرف لخفته. وسيأتي اشتقاقه في" الأعراف «8».
__________
(1). البيت لابن ميادة.
(2). البيت لذي الخرق الطهوي: كما في شرح القاموس. الفقه (كالهمزه) والنافقاء: حجر الضب واليربوع. وقيل موضوع يرققه اليربوع من حجره فإذا أتى من قبل القاصعاء. (وهو حجره) ضرب النافقاء برأسه فخرج والشيخة: رملة بيضاء ببلاد أسد حنظلة. يروى: حجره. وفى الأصول: ذو الشيخة.
(3). من ك. [.....]
(4). من ك.
(5). من ع ول.
(6). أي من ذرية نوح.
(7). من ع.
(8). راجع ص 243 من هذا الجزء.

وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)

[سورة الأنعام (6): آية 87]
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
قوله تعالى: (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)" مِنْ" للتبعيض، أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم. واجتبيناهم قال مجاهد: خلصناهم، وهو عند أهل اللغة بمعنى اخترناهم، مشتق من جبيت الماء في الحوض أي جمعته. فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك. قال الكسائي: وجبيت الماء في الحوض جبا، مقصور. والجابية الحوض. قال:
كجابية الشيخ العراقي تفهق «1»

وقد تقدم معنى الاصطفاء والهداية «2».

[سورة الأنعام (6): آية 88]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
قوله تعالى: (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا) أي لو عبدوا غيري لحبطت أعمالهم، ولكني عصمتهم. والحبوط البطلان. وقد تقدم في البقرة «3».

[سورة الأنعام (6): آية 89]
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)
قوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ابتداء وخبر" وَالْحُكْمَ" العلم والفقه. (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بآياتنا. هؤلاء أي كفار عصرك يا محمد. (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) جواب الشرط، أي وكلنا بالإيمان بها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) يريد
__________
(1). هذا عجز بيت للأعشى وصدره كما في الديوان:
نفى الذم عن آل المحلق جفنة

الجفنة: القصة. والفهق: الامتلاء.
(2). راجع ج 1 ص 146 وج 2 ص 133- 32 1.
(3). راجع ج 3 ص 46.

أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)

الأنصار من أهل المدينة والمهاجرين من أهل مكة. وقال قتادة: يعنى النبيين الذين قص الله عز وجل. قال النحاس: وهذا القول أشبه بالمعنى، لأنه قال بعد:" أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ". وقال أبو رجاء: هم الملائكة. وقيل: هو عام في كل مؤمن من الجن والإنس والملائكة. والباء في" بِكافِرِينَ" زائدة (على جهة «1») التأكيد.

[سورة الأنعام (6): آية 90]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
قوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فيه مسألتان: الأولى قوله تعالى: (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الاقتداء طلب موافقة الغير في فعله. فقيل: المعنى أصبر كما صبروا. وفيل: معنى" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" التوحيد والشرائع مختلفة. وقد احتج بعض العلماء بهذه الآية على وجوب أتباع شرائع الأنبياء فيما عدم فيه النص، كما في صحيح مسلم وغيره: أن أخت الربيع «2» أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم:" القصاص القصاص" فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله (. قالت: والله لا يقتص منها أبدا. قال: فما زالت «3» حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره (. فأحال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قول:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «4»" الآية. وليس في كتاب الله تعالى نص على القصاص في السن إلا في هذه الآية، وهي خبر عن شرع التوراة ومع ذلك فحكم بها وأحال عليها. وإلى هذا ذهب معظم أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، وأنه يجب العمل بما وجد منها. قال ابن بكير: وهو الذي تقتضيه أصول مالك
__________
(1). من ك وز.
(2). الربيع: بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة بعدها عين مهملة. أما أم الربيع فهي بفتح الراء وكسر الموحدة وتخفيف الياء. راجع شرح النوري على صحيح مسلم باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها فقيه كلام طويل عن هذه القصة.
(3). في ك وز. فما زالوا.
(4). راجع ج 6 ص 191.

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

وخالف في ذلك كثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والمعتزلة، لقول تعالى:" لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «1»". وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل التقييد: إلا فيما قص عليكم من الأخبار عنهم مما لم يأت من كتابكم. وفي صحيح البخاري عن العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة" ص" فقال: سألت ابن عباس عن سجدة" ص" فقال: أو تقرأ" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ" إلى قوله" أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ"؟ وكان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاقتداء به. الثانية- قرأ حمزة والكسائي" اقتد قل" بغير هاء في الوصل. وقرا ابن عامر" اقتد هي قل". قال النحاس: وهذا لحن، لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء إضمار ولا بعدها واو ولا ياء، وكذلك أيضا لا يجوز" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ". ومن اجتنب اللحن وأتبع السواد قرأ" فبهداهم اقتده" فوقف ولم يصل، لأنه إن وصل بالهاء لحن وإن حذفها خالف السواد. وقرا الجمهور بالهاء في الوصل على نية الوقف وعلى نية الإدراج أتباعا لثباتها في الخط. وقرا ابن عياش وهشام" اقتده قل" بكسر الهاء، وهو غلط لا يجوز في العربية. قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي جعلا على القرآن. (إِنْ هُوَ) أي القرآن. (إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أي هو موعظة للخلق. وأضاف الهداية إليهم فقال:" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" لوقوع الهداية بهم. وقال:" ذلِكَ هُدَى اللَّهِ" لأنه الخالق للهداية.

[سورة الأنعام (6): آية 91]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
__________
(1). راجع ج 6 ص 209.

قوله تعالى: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي فيما وجب له واستحال عليه وجاز. قال ابن عباس: ما آمنوا أنه على كل شي قدير. وقال الحسن: ما عظموه حق عظمته. وهذا يكون من قولهم: لفلان قدر. وشرح هذا أنهم لما قالوا:" ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ" نسبوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح، فلم يعظموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته. وقال أبو عبيدة: أي ما عرفوا الله حق معرفته. قال النحاس: وهذا معنى حسن، لأن معنى قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره. ويدل عليه قول تعالى:" إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ" أي لم يعرفوه حق معرفته، إذ أنكروا أن يرسل رسولا. والمعنيان متقاربان. وقد قيل: وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرا أبو حيوة" وما قدروا الله حق قدره" بفتح الدال، وهي لغة. (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) قال ابن عباس وغيره: يعني مشركي قريش. وقال الحسن وسعيد بن جبير: الذي قاله أحد اليهود، قال: لم ينز الله كتابا من السماء. قال السدي: اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضا قال: هو مالك بن الصيف «1»، جاء يخاصم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين)؟ وكان حبرا سمينا. فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شي. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال والله ما أنزل الله على بشر من شي، فنزلت الآية. ثم قال نقضا لقولهم وردا عليهم:" قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ"- أي في قراطيس-" تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً" هذا لليهود الذين أخفوا صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرها من الأحكام. وقال مجاهد: قوله تعالى «2»" قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى " خطاب للمشركين، وقوله" تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ" لليهود (وقوله «3») (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) للمسلمين. وهذا يصح على قراءة من قرأ" يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون" بالياء والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود، ويكون معنى" وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا"
__________
(1). في ك ج: الضيف. بمعجمه وكلاهما أثبته الرواة. [.....]
(2). من ك.
(3). من ك.

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)

أي وعلمتم ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم، على وجه المن عليهم بإنزال التوراة. وجعلت التوراة صحفا فلذلك قال" قَراطِيسَ تُبْدُونَها" أي تبدون «1» القراطيس. وهذا ذم لهم، ولذلك كره العلماء كتب القرآن أجزاء. (قُلِ اللَّهُ) أي قل يا محمد الله" (الذي «2») أنزل ذلك الكتاب على موسى وهذا الكتاب علي. أو قل الله علمكم الكتاب. (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي لاعبين، ولو كان جوابا للأمر لقال يلعبوا. ومعنى الكلام التهديد. وقيل: هو من المنسوخ بالقتال، ثم قيل:" تَجْعَلُونَهُ" في موضع الصفة لقوله" نُوراً وَهُدىً" فيكون في الصلة. ويحتمل أن يكون مستأنفا، والتقدير: يجعلونه ذا قراطيس. وقوله:" تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً" يحتمل أن يكون صفة لقراطيس، لأن النكرة توصف بالجمل. ويحتمل أن يكون مستأنفا حسبما تقدم.

[سورة الأنعام (6): آية 92]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
قوله تعالى: (وَهذا كِتابٌ) يعني القرآن (أَنْزَلْناهُ) صفة (مُبارَكٌ) أي بورك فيه، والبركة الزيادة. ويجوز نصبه في غير القرآن على الحال. كذا (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب المنزلة قبله، فإنه يوافقها في نفي الشرك وإثبات التوحيد. (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ) يريد المكة- وقد تقدم معنى تسميتها بذلك «3»- والمراد أهلها، فحذف المضاف، أي أنزلناه للبركة والإنذار." وَمَنْ حَوْلَها" يعني جميع الآفاق. (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يريد أتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل قوله: (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) إيمان من آمن بالآخرة ولم يؤمن بالنبي عليه السلام ولا بكتابه غير معتد به.
__________
(1). من ك.
(2). من ك، ز.
(3). راجع ج 4 ص 138.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

[سورة الأنعام (6): آية 93]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ) ابتداء وخبر، أي لا أحد أظلم. (مِمَّنِ افْتَرى ) أي اختلق. (عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) فزعم أنه نبي (وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) نزلت في رحمان اليمامة والأسود العنسي وسجاح زوج مسيلمة، كلهم تنبأ وزعم أن الله قد أوحى إليه. قال قتادة: بلغنا أن الله أنزل هذا في مسيلمة، وقال ابن عباس. قلت: ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا، فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوها من الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكليات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون لتلك النصوص. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون «1»، ويستدلون على هذا بالخضر، وأنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، فإنه يلزم منه هد الأحكام وإثبات أنبياء بعد نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسيأتي لهذا المعنى في" الكهف «2»" مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
__________
(1). في كشف الخفاء" استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" قال: رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى وأبو نعيم عن وابصة مرفوعا.
(2). راجع ج 10 ص 18 فما بعد.

قوله تعالى: (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ)" مَنْ" في موضع خفض، أي ومن أظلم ممن قال سأنزل، والمراد عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ارتد ولحق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في" المؤمنون":" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «1»" دعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله" ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ" عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال:" فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ". فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وهكذا أنزلت على) فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلى كما أوحى إليه ولين كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، فذلك قوله:" وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ" رواه الكلبي عن ابن عباس. وذكره محمد بن إسحاق قال حدثني شرحبيل قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح" وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ" ارتد عن الإسلام، فلما دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة أمر بقتله وقتل عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففر عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان، فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له، فصمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويلا ثم قال: (نعم). فلما أنصرف عثمان قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه). فقال رجل من الأنصار: فهلا أو مات إلى يا رسول الله؟ فقال: (إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين «2». قال أبو عمر: وأسلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيام الفتح فحسن إسلامه، ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك. وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وفارس بني عامر بن لؤي المعدود فيهم، ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين. وفتح على يديه إفريقية سنة سبع وعشرين، وغزا منها الأساود من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين، وهو هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم.
__________
(1). راجع ج 12 ص 108.
(2). أي يضمر في نفسه غير ما يظهره فإذا كف لسانه وأومأ بعينه فقد خان.

وغزا الصواري «1» من أرض الروم سنة أربع وثلاثين، فلما رجع من وفاداته منعه ابن أبي حذيفة من دخول الفسطاط، فمضى إلى عسقلان، فأقام فيها حتى قتل عثمان رضي الله عنه. وقيل: بل أقام بالرملة حتى مات فارا من الفتنة. ودعا ربه فقال: اللهم أجعل خاتمة عملي صلاة الصبح، فتوضأ ثم صلى فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات «2»، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه. ذكر ذلك كله يزيد بن أبي حبيب وغيره. ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية (رضي الله عنهما) «3». وكانت وفاته قبل اجتماع الناس على معاوية. وقيل: إنه توفي بإفريقية. والصحيح أنه توفي بعسقلان سنة ست أو سبع وثلاثين. وقيل: سنة ست وثلاثين. وروى حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، لأنه عارض القرآن فقال: والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. فالخابزات خبزا. فاللاقمات لقما. قوله تعالى: (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أي شدائده وسكراته. والغمرة الشدة، واصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها. ومنه غمره «4» الماء. ثم وضعت في معنى الشدائد والمكاره. ومنه غمرات الحرب. قال الجوهري: والغمرة الشدة، والجمع غمر مثل نوبة ونوب. قال القطامي يصف سفينة نوح عليه السلام:
وحان لتالك الغمر انحسار

وغمرات الموت شدائده (والملائكة باسطوا أيديهم) ابتداء وخبر. والأصل باسطون. قيل: بالعذاب ومطارق الحديد، عن الحسن والضحاك. وقيل: لقبض أرواحهم، وفي التنزيل:" وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ «5»"
__________
(1). قال ابن الأثير في (الكامل): ... وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب أو ستمائة وخرج المسلمون ... إلخ. وانما سميت غزوة الصواري لكثرة صوارى المراكب واجتماعها. راجع ج 3 ص 9 طبع أوربا. والطبري قسم أول ص 2865 طبع أوربا.
(2). في ك: والصافات.
(3). من ك وز.
(4). في ك: غمزة.
(5). راجع ج 8 ص 28. [.....]

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

فجمعت هذه الآية القولين. يقال: بسط إليه يده بالمكروه. (أخرجوا أنفسكم) أي خلصوها من العذاب إن أمكنكم، وهو توبيخ. وقيل: أخرجوها كرها، لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا، ويقال: أيتها النفس الخبيثة أخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهو أن، كذا جاء في حديث أبي هريرة وغيره. وقد أتينا عليه في كتاب" التذكرة" والحمد لله. وقيل: هو بمنزلة قول القائل لمن يعذبه: لأذيقنك العذاب ولأخرجن نفسك، وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم بل يقبضها ملك الموت وأعوانه. وقيل: يقال هذا للكفار وهم في النار. والجواب محذوف لعظم الأمر، أي ولو رأيت الظالمين في هذه الحال لرأيت عذابا عظيما. والهون والهوان سواء. و(تستكبرون) أي تتعظمون وتأنفون عن قبول آياته.

[سورة الأنعام (6): آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ) هذه عبارة عن الحشر و" فُرادى " في موضع نصب على الحال، ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. وقرا أبو حيوة" فرادا" بالتنوين وهي لغة تميم، ولا يقولون في موضع الرفع فراد. وحكى أحمد بن يحيى" فراد" بلا تنوين، قال: مثل ثلاث ورباع. و" فرادى" جمع فردان كسكارى جمع سكران، وكسالى جمع كسلان. وقيل: واحده" فرد" بجزم الراء، و" فرد" بكسرها، و" فرد" بفتحها، و" فريد". والمعنى: جئتمونا واحدا واحدا، كل واحد منكم منفردا بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن كان يصاحبكم في الغي، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله. وقرا الأعرج «1»" فردي" مثل سكرى وكسلي بغير ألف. (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي منفردين كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم
__________
(1). في ك: الأعمش. ولعل هذا سهو من الناسخ.

من بطون أمهاتكم حفاة غرلا بهما «1» ليس معهم شي. وقال العلماء: يحشر العبد غدا وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه. وهذا معنى قوله:" غرلا" أي غير مختونين، أي يرد عليهم ما قطع منه عند الختان. قوله تعالى: (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي أعطيناكم وملكناكم والخول: ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم «2». (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي خلفكم. (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء- يريد الأصنام- أي شركائي. وكان المشركون يقولون الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده. (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) قرأ نافع والكسائي وحفص بالنصب على الظرف، على معنى لقد تقطع وصلكم بينكم. ودل على حذف الوصل قوله" وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ". فدل هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم: إذ تبرءوا منهم ولم يكونوا معهم. ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم، فحسن إضمار الوصل بعد" تَقَطَّعَ" لدلالة الكلام عليه. وفي حرف ابن مسعود ما يدل على النصب فيه (لقد تقطع ما بينكم) وهذا لا يجوز فيه إلا النصب، لأنك ذكرت المتقطع وهو" ما". كأنه قال: لقد تقطع الوصل بينكم. وقيل: المعنى لقد تقطع الأمر بينكم. والمعنى متقارب. وقرا الباقون" بينكم" بالرفع على أنه اسم غير ظرف، فأسند الفعل إليه فرفع. ويقوي جعل" بين" اسما من جهة دخول حرف الجر عليه في قول تعالى:" وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «3»" و" هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ «4»". ويجوز أن تكون قراءة النصب على معنى الرفع، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفا منصوبا وهو في موضع رفع، وهو مذهب الأخفش، فالقراءتان على هذا بمعنى واحد، فاقرأ بأيهما شئت. (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي ذهب. (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي تكذبون به في الدنيا. روي أن الآية نزلت في، النضر بن الحارث وروي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى:" وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" فقالت: يا رسول الله، وا سوءتاه! إن
__________
(1). الغرل (جمع الأغرل) وهو الأقلف الذي لم يختن. والبهم (جمع بهيم) وهو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه. يعنى ليس فيهم شي من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا كالعمى والمور والعرج، وغير ذلك.
(2). في ك، ع، ب: النعم.
(3). راجع 15 ص 339.
(4). راجع ج 11 ص 24.

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)

الرجال والنساء يحشرون جميعا، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض (. وهذا حديث ثابت في الصحيح أخرجه مسلم بمعناه.

[سورة الأنعام (6): آية 95]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ) عد من عجائب صنعه ما يعجز عن أدنى شي منه آلهتهم. والفلق: الشق، أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر، وكذلك الحبة. وخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة، وهذا معنى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي، عن الحسن وقتادة. وقال ابن عباس والضحاك: معنى فالق خالق. وقال مجاهد: عني بالفلق الشق الذي في الحب وفي النوى. والنوى جمع نواة. ويجري في كل ما له كالمشمش «1» والخوخ. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) يخرج البشر الحي من النطفة الميتة، والنطفة الميتة من البشر الحي، عن ابن عباس. وقد تقدم قول قتادة والحسن. وقد مضى ذلك في (آل عمران) «2». وفي صحيح مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرا النسمة «3» إنه لعهد النبي الأمي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. (ذلِكُمُ اللَّهُ) ابتداء وخبر. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فمن أين تصرفون عن الحق مع ما ترون من قدرة الله جل وعز.

[سورة الأنعام (6): آية 96]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
قوله تعالى:" فالِقُ الْإِصْباحِ" نعت لاسم الله تعالى، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح. وقيل المعنى إن الله فالق الإصباح. والصبح والصباح أول النهار، وكذلك الإصباح، أي
__________
(1). كزبرج وجعفر.
(2). راجع ج 4 ص 56.
(3). في ك: النسم.

فالق الصبح كل يوم، يريد الفجر. والإصباح مصدر أصبح. والمعنى: شاق الضياء عن الظلام وكاشفه. وقال الضحاك: فالق الإصباح خالق النهار. وهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين. وقرا الحسن وعيسى بن عمر" فالق الإصباح" بفتح الهمزة، وهو جمع صبح. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قرأ" فلق الإصباح" على فعل، والهمزة مكسورة والحاء منصوبة. وقرا الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي" وجعل الليل سكنا" بغير ألف. ونصب" اللَّيْلَ" حملا على معنى" فالِقُ" في الموضعين، لأنه بمعنى فلق، لأنه أمر قد كان فحمل على المعنى. وأيضا فإن بعده أفعالا ماضية وهو قوله:" جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ"." أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً". فحمل أول الكلام على آخره. يقوي ذلك إجماعهم على نصب الشمس والقمر على إضمار فعل، ولم يحملوه على فاعل فيخفضوه، قاله مكي رحمه الله. وقال النحاس: وقد قرأ يزيد بن قطيب السكوني" جاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا" بالخفض عطفا على اللفظ. قلت: فيريد مكي والمهدوي وغيرهما إجماع القراء السبعة. والله أعلم. وقرا يعقوب في رواية رويس عنه" وجاعل الليل ساكنا". وأهل المدينة" وجاعل الليل سكنا" أي محلا للسكون. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو فيقول:" اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا أقض عني الدين وأغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك". فإن قيل: كيف قال (وأمتعني بسمعي وبصري) وفي كتاب النسائي والترمذي وغيرهما (واجعله الوارث مني) وذلك يفنى مع البدن؟ قيل له: في الكلام تجوز، والمعنى اللهم لا تعدمه قبلي. وقد قيل: إن المراد بالسمع والبصر هنا أبو بكر وعمر، لقوله عليه السلام فيهما: (هما السمع والبصر). وهذا تأويل بعيد، إنما المراد بهما الجارحتان. ومعنى" حُسْباناً" أي بحساب يتعلق به مصالح العباد. وقال ابن عباس في قول جل وعز:" وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً" أي بحساب. الأخفش: حسبان جمع حساب، مثل شهاب وشهبان. وقال يعقوب: حسبان مصدر

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)

حسبت الشيء أحسبه حسبانا وحسابا وحسبة، والحساب الاسم. وقال غيره: جعل الله تعالى سير الشمس. والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص، فدلهم الله عز وجل بذلك على قدرته ووحدانيته. وقيل:" حُسْباناً" أي ضياء. والحسبان: النار في لغة، وقد قال الله تعالى:" وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ «1»". قال ابن عباس: نارا. والحسبانة: الوسادة الصغيرة.

[سورة الأنعام (6): آية 97]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ «2») بين كمال قدرته، وفي النجوم منافع جمة. ذكر في هذه الآية بعض منافعها، وهي التي ندب الشرع إلى معرفتها، وفي التنزيل:" وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «3»"." وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «4»". و" جَعَلَ" هنا بمعنى خلق. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بيناها مفصلة لتكون أبلغ في الاعتبار. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
خصهم لأنهم المنتفعون «5» بها.

[سورة الأنعام (6): آية 98]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يريد آدم عليه السلام. وقد تقدم في أول السورة «6». (فَمُسْتَقَرٌّ) قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج وشيبة والنخعي بكسر القاف، والباقون بفتحها. وهي في موضع رفع بالابتداء، إلا أن التقدير فيمن كسر القاف فمنها" مستقر" والفتح بمعنى لها" مستقر". قال عبد الله بن مسعود: فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها، وهذا التفسير يدل على الفتح. وقال الحسن: فمستقر في القبر. وأكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع
__________
(1). راجع ج 10 ص 408.
(2). في ك: من كمال قدرته.
(3). راجع ج 15 ص 64.
(4). راجع ج 18 ص 210.
(5). في ك: بذلك.
(6). راجع ج 6 ص 387. [.....]

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

ما كان في الصلب، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقاله النخعي. وعن ابن عباس أيضا: مستقر في الأرض، ومستودع في الأصلاب. قال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس هل تزوجت؟ قلت: لا، فقال: إن الله عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه. وروي عن ابن عباس أيضا أن المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق، ذكره الماوردي. وعن ابن عباس أيضا: ومستودع عند الله. قلت: وفي التنزيل" وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ" والاستيداع إشارة إلى كونهم في القبر إلى أن يبعثوا للحساب. وقد تقدم في البقرة «1». (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) قال قتادة:" فَصَّلْنَا" بينا (وقررنا. والله «2» أعلم).

[سورة الأنعام (6): آية 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
فيه سبع مسائل: الأولى- قوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي المطر. (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي كل صنف من النبات. وقيل: رزق كل حيوان. (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) قال الأخفش: أي أخضر، كما تقول العرب: أرنيها نمرة أركها «3» مطرة. والخضر «4» رطب
__________
(1). راجع ج 1 ص 321.
(2). من ك.
(3). الهاء في أرنيها للسحابة والثمر من السحاب الذي فيه آثار كآثار النمر. وقيل: صغار متدان بعضها من بعض. وواحدتها نمرة ومطرة: بمعنى ماطرة. أي إذا رأيت دليل الشيء علمت ما يتبعه. يضرب لأمر يتيقن وقوعه إذا لاحت مخايله وتباشيره. (عن فرائد اللئالي ج 1 ص 252 طبع بيروت).
(4). الخضر: المادة الخضراء في النبات وهي مادة الحياة. وهى من أسرار قدرة الباري سبحانه.

البقول. وقال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت «1» والذرة والأرز وسائر الحبوب. (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) أي يركب بعضه على بعض كالسنبلة. الثانية- قوله تعالى: (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) ابتداء وخبر. وأجاز الفراء في غير القرآن" قنوانا دانية" على العطف على ما قبله. قال سيبويه: ومن العرب من يقول: قنوان. قال الفراء: هذه لغة قيس، وأهل الحجاز يقولون: قنوان، وتميم يقولون: قنيان، ثم يجتمعون في الواحد فيقولون: قنو وقنو. والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض. والإغريض يسمى طلعا أيضا. والطلع، ما يرى من عذق النخلة. والقنوان: جمع قنو، وتثنيته قنوان كصنو وصنوان (بكسر النون). وجاء الجمع على لفظ الإثنين. قال الجوهري وغيره: الاثنان صنوان والجمع صنوان (برفع النون). والقنو: العذق والجمع القنوان والإقناء، قال:
طويلة الإقناء والأثاكل «2»

غيره:" أقناء" جمع القلة. قال المهدوي: قرأ ابن هرمز" قنوان" بفتح القاف، وروي عنه ضمها. فعلى الفتح هو اسم للجمع غير مكسر، بمنزلة ركب عند سيبويه، وبمنزلة الباقر والجامل، لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع، وضم القاف على أنه جمع قنو وهو العذق (بكسر العين) وهي الكباسة، وهي عنقود النخلة. والعذق (بفتح العين) النخلة نفسها. وقيل: القنوان الجمار." دانية" قريبة، ينالها القائم والقاعد. عن ابن عباس والبراء بن عازب وغيرهما. وقال الزجاج: منها دانية ومنها بعيدة، فحذف، ومثله" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ «3» الْحَرَّ" وخص الدانية بالذكر، لأن من الغرض في الآية ذكر القدرة والامتنان بالنعمة، والامتنان فيما يقرب متناوله أكثر.
__________
(1). الست (بوزن القفل): ضرب من الشعير أبيض لا قشر له.
(2). الأثاكل: جمع الإثكال والأثكول (لغة في العثكال والعشكول) وهو العذق الذي تكون فيه الشماريخ. وهذا عجز بيت. وصدره كما في الإنسان:
قد أبصرت سعدى بها كتائلى

والكتائل جمع كتيلة وهي النخلة الطويلة.
(3). راجع ج 10 ص 159.

الثالثة- قوله تعالى: (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) أي وأخرجنا جنات. وقرا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والأعمش، وهو الصحيح من قراءة عاصم" وَجَنَّاتٍ" بالرفع. وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، حتى قال أبو حاتم: همحال، لأن الجنات لا تكون من النخل. قال النحاس. والقراءة جائزة، وليس التأويل على هذا، ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف، أي ولهم جنات. كما قرأ جماعة من القراء" وحور «1» عين". وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء، ومثله كثير. وعلى هذا أيضا" وحورا عينا" حكاه سيبويه، وأنشد:
جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيار «2»
وقيل: التقدير" وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ" أخرجناها، كقولك: أكرمت عبد الله وأخوه، أي وأخوه أكرمت أيضا. فأما الزيتون والرمان فليس فيه إلا النصب للإجماع على ذلك. وقيل:" وَجَنَّاتٍ" بالرفع عطف على" قِنْوانٌ" لفظا، وإن لم تكن في المعنى من جنسها. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي متشابها في الأوراق، أي ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في اشتمال على جميع الغصن وفي حجم الورق، وغير متشابه في الذواق، عن قتادة وغيره. قال ابن جريج:" مُتَشابِهاً" في النظر" وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ" في الطعم، مثل الرمانتين لونهما واحد وطعامهما مختلف. وخص الرمان والزيتون بالذكر لقربهما منهم ومكانهما عندهم. وهو كقوله:" أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ «3»". ردهم إلى الإبل لأنها أغلب ما يعرفونه. الرابعة- قوله تعالى: (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أي نظر الاعتبار لا نظر الإبصار المجرد عن التفكر. والثمر في اللغة جنى الشجر. وقرأ حمزة والكسائي" ثمره" بضم الثاء والميم. والباقون بالفتح فيهما جمع ثمرة، مثل بقرة وبقر وشجرة وشجر. قال مجاهد الثمر أصناف المال، والتمر ثمر النخل. وكان المعنى على قول مجاهد: انظروا إلى الأموال التي يتحصل منه
__________
(1). راجع ج 17 ص 202.
(2). البيت لجرير، يخاطب الفرزدق فيفخر عليه بسادات قيس لأنهم أخواله، وبنو بدر من فزارة وفيهم شرف قيس عيلان، وبنو سيار من فزارة من ذبيان من قيس. (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(3). راجع ج 20 ص 34.

الثمر، فالثمر بضمتين جمع ثمار وهو المال المثمر. وروي عن الأعمش «1» ثمره" بضم الثاء وسكون الميم، حذفت الضمة لثقلها طلبا للخفة. ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة مثل بدنة وبدن. ويجوز أن يكون ثمر جمع جمع، فتقول: ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر. ويجوز أن يكون جمع ثمرة كخشبة وخشب لا جمع الجمع. الخامسة- قوله تعالى: (وَيَنْعِهِ) قرأ محمد بن السميقع" ويانعة «2»". وابن محيصن وابن أبي إسحاق" وينعه" بضم الياء. قال الفراء: هي لغة بعض أهل نجد، يقال: ينع الثمر يينع، والثمر يانع. وأينع يونع و(التمر «3» مونع). والمعنى: ونضجه. ينع وأينع إذا نضج وأدرك. قال الحجاج في خطبته: أرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها. قال ابن الأنباري: الينع جمع يانع، كراكب وركب، وتاجر وتجر، وهو المدرك البالغ. وقال الفراء: أينع أكثر من ينع، ومعناه أحمر، ومنه ما روي في حديث الملاعنة (إن ولدته أحمر مثل الينعة) وهي خرزة حمراء، يقال: إنه العقيق أو نوع منه. فدلت الآية لمن تدبر ونظر ببصره وقلبه، نظر من تفكر، أن المتغيرات لا بد لها من مغير، وذلك أنه تعالى قال:" انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ". فتراه أولا طلعا ثم إغريضا إذا انشق عنه الطلع. والإغريض يسمى ضحكا أيضا، ثم بلحا، ثم سيابا، ثم جدالا إذ اخضر واستدار قبل أن يشتد، ثم بسرا إذا عظم، ثم زهوا إذا احمر، يقال: أزهى يزهي، ثم موكتا إذا بدت فيه نقط من الإرطاب. فإن كان ذلك من قبل الذنب فهي مذنبة، وهو التذنوب، فإذا لانت فهي ثعدة، فإذا بلغ الإرطاب نصفها فهي مجزعة، فإذا بلغ ثلثيها فهي حلقانة، فإذا عمها الإرطاب فهي منسبتة، يقال: رطب منسبت، ثم ييبس فيصير تمرا. فنبه الله تعالى بانتقالها من حال إلى حال وتغيرها ووجودها بعد أن لم تكن بعد على وحدانيته وكمال قدرته، وأن لها صانعا قادرا عالما. ودل على جواز البعث، لإيجاد النبات بعد الجفاف. قال الجوهري ينع الثمر يينع ويينع ينعا وينوعا، أي نضج. السادسة- قال ابن العربي قال ما لك: الإيناع الطيب بغير فساد ولا نقش. قال مالك: والنقش أن ينقش أهل البصر الثمر حتى يرطب، يريد يثقب فيه بحيث يسرع دخول
__________
(1). في ك: الأعرج.
(2). في شواذ ابن خالويه:" يا نعمة" ابن محيص.
(3). من ج وهـ وز وك.

الهواء إليه فيرطب معجلا. فليس ذلك الينع المراد في القرآن، ولا هو الذي ربط به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
البيع، وإنما (هو «2» ما يكون من ذاته بغير محاولة. وفي بعض بلاد التين، وهي البلاد الباردة، لا ينضج حتى يدخل في فمه عود قد دهن زيتا، فإذا طاب حل بيعه، لأن ذلك ضرورة الهواء وعادة البلاد، ولولا ذلك ما طاب في وقت الطيب. قلت: وهذا الينع الذي يقف عليه جواز بيع التمر وبه يطيب أكلها ويأمن من العاهة، هو عند طلوع الثريا بما أجرى الله سبحانه من العادة وأحكمه من العلم والقدرة. ذكر المعلى ابن أسد عن وهيب عن عسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذا طلعت الثريا صباحا رفعت العاهة عن أهل البلد). والثريا النجم، لا خلاف في ذلك. وطلوعها صباحا لاثنتي عشرة ليلة تمضي من شهر أيار، وهو شهر مايو. وفي البخاري: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر. السابعة- وقد استدل من أسقط «3» الجوائح في الثمار بهذه الآثار، وما كان مثلها من نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن بيع الثمار حتى تذهب العاهة. قال عثمان بن سراقة: فسألت ابن عمر متى هذا؟ فقال: طلوع الثريا. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت عندي لم أعده، والأصل المجتمع عليه أن كل من ابتاع ما يجوز بيعه وقبضه كانت المصيبة منه، قال: ولو كنت قائلا بوضع الجوائح لو ضعتها في القليل والكثير. وهو قول الثوري والكوفيين. وذهب مالك وأكثر أهل المدينة إلى وضعها، لحديث جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع الجوائح. أخرجه مسلم. وبه كان يقضي عمر بن عبد العزيز، وهو قول أحمد بن حنبل وسائر أصحاب الحديث. وأهل الظاهر وضعوها عن المبتاع في القليل والكثير على عموم الحديث، إلا أن مالكا وأصحابه اعتبروا أن تبلغ الجائحة ثلث الثمرة فصاعدا، وما كان دون الثلث ألغوه وجعلوه تبعا، إذ لا تخلو ثمرة من أن يتعذر القليل من طيبها وأن يلحقها في اليسير منها
__________
(1). من ب وج وك وز ر ل. [.....]
(2). من ب وج وك وز ر ل.
(3). في ز: أسقط بعض الجوائح.

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)

فساد. وكان أصبغ وأشهب لا ينظران إلى الثمرة ولكن إلى القيمة، فإذا كانت القيمة الثلث فصاعدا وضع عنه. والجائحة ما لا يمكن دفعه عند ابن القاسم. وعليه فلا تكون السرقة جائحة، وكذا في كتاب محمد. وفي الكتاب أنه جائحة، وروي عن ابن القاسم، وخالفه أصحابه والناس. وقال مطرف وابن الماجشون: ما أصاب الثمرة من السماء من عفن أو برد، أو عطش أو حر أو كسر الشجر بما ليس بصنع ادمي فهو جائحة. واختلف في العطش «1»، ففي رواية ابن القاسم هو جائحة. والصحيح في البقول أنها (فيها جائحة «2») كالثمرة. ومن باع ثمرا قبل بدو صلاحه بشرط التبقية فسخ بيعه ورد، للنهي عنه، ولأنه من أكل المال بالباطل، لقوله عليه السلام: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم أخذ أحدكم مال أخيه بغير حق)؟ هذا قول الجمهور، وصححه أبو حنيفة وأصحابه وحملوا النهي على الكراهة. وذهب الجمهور إلى جواز بيعها قبل بدو الصلاح بشرط القطع. ومنعه الثوري وابن أبي ليلى تمسكا بالنهي الوارد في ذلك. وخصصه الجمهور بالقياس الجلي، لأنه مبيع معلوم يصح قبضه حالة العقد فصح بيعه كسائر المبيعات.

[سورة الأنعام (6): آية 100]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
قوله تعالى:" وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ" هذا ذكر نوع آخر من جهالاتهم، أي فيهم من أعتقد لله شركاء من الجن. قال النحاس:" الْجِنَّ" مفعول أول، و" شُرَكاءَ" مفعول ثان، مثل" وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً «3»"." وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً «4»". وهو في القرآن كثير. والتقدير وجعلوا لله الجن شركاء. ويجوز أن يكون" الْجِنَّ" بدلا من شركاء، والمفعول الثاني" لِلَّهِ". وأجاز الكسائي رفع" الجن" بمعنى هم الجن." وخلقهم" كذا قراءة الجماعة «5»، أي خلق الجاعلين له شركاء. وقيل: خلق الجن الشركاء. وقرا ابن مسعود" وهو خلقهم" بزيادة هو. وقرا يحيى بن يعمر" وخلقهم" بسكون اللام، وقال: أي وجعلوا خلقهم لله شركاء، لأنهم كانوا يخلقون الشيء ثم يعبدونه. الآية ونزلت في مشركي العرب. ومعنى إشراكهم
__________
(1). كذا في اوج وك وز وع. وفى ب: العسكر.
(2). من ك.
(3). راجع ج 6 ص 123.
(4). راجع ج 19 ص 69.
(5). في ب وج وز وك: الجمهور.

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)

بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عز وجل، روي ذلك عن الحسن وغيره. قال قتادة والسدي: هم الذين قالوا الملائكة بنات الله. وقال الكلبي: نزلت في الزنادقة، قالوا: إن الله وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق «1» الجان والسباع والعقارب. ويقرب من هذا قول المجوس، فإنهم قالوا: للعالم صانعان: إله قديم، والثاني شيطان حادث من فكر الإله القديم، وزعموا أن صانع الشر حادث. وكذا الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط، زعموا أن للعالم صانعين: الإله القديم، والآخر محدث، خلقه الله عز وجل أولا ثم فوض إليه تدبير العالم، وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة. تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا." وَخَرَقُوا" قراءة نافع بالتشديد على التكثير، لأن المشركين ادعوا أن لله بنات وهم الملائكة، وسموهم جنا لاجتنانهم. والنصارى ادعت المسيح ابن الله. واليهود قالت: عزير ابن الله، فكثر ذلك من كفرهم «2»، فشدد الفعل لمطابقة المعنى. تعالى الله عما يقولون. وقرا الباقون بالتخفيف على التقليل. وسيل الحسن البصري عن معنى" وَخَرَقُوا لَهُ" بالتشديد فقال: إنما هو" وَخَرَقُوا" بالتخفيف، كلمة عربية، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل: خرقها ورب الكعبة. وقال أهل اللغة: معنى" خَرَقُوا" اختلقوا وافتعلوا" وَخَرَقُوا" على التكثير. قال مجاهد وقتادة وابن زيد وابن جريج:" خَرَقُوا" كذبوا. يقال: إن معنى خرق واخترق واختلق سواء، أي أحدث.

[سورة الأنعام (6): آية 101]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما، فكيف يجوز أن يكون له ولد. و" بَدِيعُ" خبر ابتداء مضمر أي هو بديع. وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله عز وجل، ونصبه بمعنى بديعا السماوات والأرض. وذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى «3».
__________
(1). في ب وج وز وك: الحيات.
(2). في ج ك: من فعلهم.
(3). اسم الفاعل يعمل عمل فعله إن كان صلة لأل مطلقا فإن لم يكن صلة لأل عمل بشرطين عند البصريين: أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال. وأجاز الكسائي عمله إذا كان للماضي.

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)

(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) أي من أين يكون له ولد. وولد كل شي شبيهه، ولا شبيه له. (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أي زوجة (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) عموم معناه الخصوص، أي خلق العالم. ولا يدخل في ذلك كلامه وصفات ذاته. ومثله" وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «1»" ولم تسع إبليس ولا من مات كافرا. ومثله" تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ «2»" ولم تدمر السماوات والأرض.

[سورة الأنعام (6): آية 102]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قوله تعالى: (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)" ذلِكُمُ" في موضع رفع بالابتداء." اللَّهُ رَبُّكُمْ" على البدل." خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" خبر الابتداء. ويجوز أن يكون" رَبُّكُمْ" الخبر، و" خالِقُ" خبرا ثانيا، أو على إضمار مبتدأ، أي هو خالق. وأجاز الكسائي والقراء فيه النصب.

[سورة الأنعام (6): آية 103]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قوله تعالى:" لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ" بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته، كما تقول: أدركت كذا وكذا، لأنه قد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ابن عباس:" لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ" في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة، لإخبار الله بها في قوله:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ «3» ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ" وقال السدي. وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة. وسيأتي بيانه في" يونس «4»". وقيل:" لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ" لا تحيط به وهو يحيط بها،
__________
(1). راجع ص 296 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 16 ص 205.
(3). راجع ج 19 ص 105.
(4). راجع ج 8 ص 330. [.....]

عن ابن عباس أيضا. وقيل: المعنى لا تدركه أبصار القلوب، أي لا تدركه العقول فتتوهمه، إذ" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «1»" وقيل المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصرا وإدراكا يراه فيه كمحمد عليه السلام، إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا، إذ لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلا، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل. وأختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربه، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة «2»، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل" وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ «3»"" وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «4»"؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة (من «5» سأل عن ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:) إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض (. فقالت: أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول:" لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"؟ أو لم تسمع الله عز وجل يقول:" وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا"- إلى قوله" عَلِيٌّ حَكِيمٌ «6»"؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول:" يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «7»" قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول:" قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «8»" وإلى ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية، وأنه إنما رأى جبريل: ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه رأى جبريل، وأختلف عنهما.
__________
(1). راجع ج 16 ص 7 وص 52.
(2). أبو عائشة: كنية الامام مسروق.
(3). راجع ج 19 ص 239.
(4). راجع ج 17 ص 92.
(5). من ك.
(6). راجع ج 16 ص 7 وص 52.
(7). راجع ج 6 ص 242.
(8). راجع ج 13 ص 225.

وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن عباس أنه رآه بعينه، هذا هو المشهور عنه. وحجته قوله تعالى:" ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «1»". وقال عبد الله بن الحارث: أجتمع ابن عباس وأبي بن كعب، فقال ابن عباس: أما نحن بنو «2» هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. ثم قال ابن عباس: أتعجبون أن الخلة تكون لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين. قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام، فكلم موسى ورآه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه. وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود، والأول عنه أشهر. وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال نعم وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه! حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه (أن «3» محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رأى الله ببصره وعيني رأسه. وقال أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن. وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه. وقال جماعة منهم أبو العالية والقرظي والربيع بن أنس: إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده، وحكي عن ابن عباس أيضا وعكرمة. وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل راه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار. وعن مالك بن أنس قال: لم ير في الدنيا، لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي. قال القاضي عياض: وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة، فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه. وسيأتي شي من هذا في حق موسى عليه السلام في" الأعراف «4»" إن شاء الله. قوله تعالى:" وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ" أي لا يخفى عليه شي إلا يراه ويعلمه. إنما خص الأبصار، لتجنيس الكلام. وقال الزجاج: وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون
__________
(1). راجع ج 17 ص 92.
(2). كذا في كل الأصول، وهو منصوب على الاختصاص.
(3). من ع.
(4). راجع ص 278 من هذا الجزء.

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)

الأبصار، أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. ثم قال:" وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" أي الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان يلطف، أي رفق به. واللطف في الفعل الرفق فيه. واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة. وألطفه بكذا، أي بره به. والاسم اللطف بالتحريك. يقال: جاءتنا من فلان لطفه، أي هدية. والملاطفة المبارة، عن الجوهري وابن فارس. قال أبو العالية: المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها. وقال الجنيد: اللطيف من نور قلبك بالهدى، وربى جسمك بالغذاء، وجعل لك الولاية في البلوى، ويحرسك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المأوى. وقيل غير هذا، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره. وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في" الشورى «1»" إن شاء الله تعالى.

[سورة الأنعام (6): آية 104]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
قوله تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي آيات وبراهين يبصر بها ويستدل، جمع بصيرة وهي الدلالة. قال الشاعر:
جاءوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وآي «2»
يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. ووصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها، إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس، كما يقال: جاءت العافية وقد أنصرف المرض، وأقبل السعود وأدبر النحوس (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) الإبصار: هو الإدراك بحاسة البصر، أي فمن استدل وتعرف فنفسه نفع. (وَمَنْ عَمِيَ) لم يستدل، فصار بمنزلة الأعمى، فعلى نفسه يعود
__________
(1). راجع ج 16 ص 16.
(2). الذي في كتب اللغة:" راحوا ... إلخ" وأن هذا البيت للأسعر الجعفي. يقول: إنهم تركوا دم أبيهم وجعلوه خلفهم أي لم يثأروا به وأنا طلب ثارى. والعتد (بفتح التاء وكسرها): الفرس التام الخلق السريع الوثبة معد للجري ليس فيه اضطراب ولا رخاوة. والوآى (بفتح الواو والمد): الفرس السريع المقتدر الخلق. [.....]

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

عماه. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لم أومر بحفظكم على أن تهلكوا أنفسكم. وقيل: أي لا أحفظكم من عذاب الله. وقيل:" بحفظ" برقيب، أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي، وهو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شي من أفعالكم. قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال، ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان.

[سورة الأنعام (6): آية 105]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
قوله تعالى:" وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ" الكاف (في «1» كذلك) في موضع نصب، أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك. أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها." وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ" والواو للعطف على مضمر، أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. وقيل: أي" وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ" صرفناها، فهي لام الصيرورة. وقال الزجاج: هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه، أي آل أمره إلى ذلك. وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا: درست وتعلمت من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، فقال أهل مكة: إنما يتعلم منهما. قال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى" نُصَرِّفُ الْآياتِ" نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا، فيذكرون «2» الأول بالآخر. فهذا حقيقة، والذي قاله أبو إسحاق مجاز. وفي" دَرَسْتَ" سبع قراءات. قرأ أبو عمرو وابن كثير" دارست" بالألف بين الدال والراء، كفاعلت. وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة. قال ابن عباس: معنى" دارست" تاليت. وقرا ابن عامر" درست" بفتح السين وإسكان التاء غير ألف، كخرجت. وهي قراءة الحسن. وقرا الباقون" درست" كخرجت. فعلى الأولى: دارست أهل الكتاب ودارسوك، أي ذاكرتهم وذاكروك، قال سعيد بن جبير. ودل على هذا المعنى قوله تعالى إخبارا عنهم:" وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ «3»" أي أعان اليهود النبي
__________
(1). من ك.
(2). في ك: فيلحقون.
(3). راجع ج 13 ص 3.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على القرآن وذاكروه فيه. وهذا كله قول المشركين. ومثله قولهم:" وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا»
"." إِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «2»". وقيل: المعنى دارستنا، فيكون معناه كمعنى درست، ذكره النحاس واختاره، والأول ذكره مكي. وزعم النحاس أنه مجاز، كما قال:
فللموت ما تلد الوالده «3»

ومن قرأ" درست" فأحسن ما قيل في قراءته أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وامحت، وليس يأتي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغيرها. وقرا قتادة" درست" أي قرئت. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ" دارست". وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز، قال: لأن الآيات لا تدارس. وقال غيره: القراءة بهذا تجوز، وليس المعنى على ما ذهب إليه أبو حاتم، ولكن معناه دارست أمتك، أي دارستك أمتك، وإن كان لم يتقدم لها ذكر، مثل قول:" حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ
«4»". وحكى الأخفش" وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ" وهو بمعنى" دَرَسْتَ" إلا أنه أبلغ. وحكى أبو العباس أنه قرئ" وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ" بإسكان اللام على الأمر. وفية معنى التهديد، أي فليقولوا بما شاءوا فإن الحق بين، كما قال عز وجل" فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً «5»" فأما من كسر اللام فإنها عنده لام كي. وهذه القراءات كلها يرجع اشتقاقها إلى شي واحد، إلى التليين والتذليل. و" دَرَسْتَ" من درس يدرس دراسة، وهي القراءة على الغير. وقيل: درسته أي ذللته بكثرة القراءة، وأصله درس الطعام أي داسه. والدياس الدراس بلغة أهل الشام. وقيل: أصله من درست الثوب أدرسه درسا أي أخلقته. وقد درس الثوب درسا أي أخلق. ويرجع هذا إلى التذلل أيضا. ويقال: سمي إدريسي لكثرة دراسته لكتاب الله. ودارست الكتب وتدارستها وادارستها أي درستها. ودرست الكتاب درسا ودراسة. ودرست المرأة درسا أي حاضت. ويقال:
__________
(1). راجع ج 13 ص 3.
(2). راجع ج 10 ص 95.
(3). هذا عجز بيت وصدره كما في المغني (حرف اللام):
فإن يكن الموت أفناهم

(4). راجع ج 15 ص 195.
(5). راجع ج 8 ص 216.

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)

إن فرج المرأة يكنى أبا أدراس، وهو من الحيض. والدرس أيضا: الطريق الخفي. وحكى الأصمعي: بعير لم يدرس أي لم يركب، ودرست من درس المنزل إذا عفا. وقرا ابن مسعود وأصحابه وأبي وطلحة والأعمش" وليقولوا درس" أي درس محمد الآيات." وَلِنُبَيِّنَهُ" يعني القول والتصريف، أو القرآن" لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ".

[سورة الأنعام (6): آية 106]
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
قوله تعالى:" اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ" يعني القرآن، أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم، بل أشتغل بعبادة الله." لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" منسوخ.

[سورة الأنعام (6): آية 107]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
قوله تعالى:" (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا) نص على أن الشرك بمشيئته، وهو إبطال لمذهب القدرية. كمتقدم. (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي لا يمكنك حفظهم من عذاب الله. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي قيم بأمورهم في مصالحهم لدينهم أو دنياهم، حتى تلطف لهم في تناول ما يجب لهم، فلست بحفيظ في ذلك ولا وكيل في هذا، إنما أنت مبلغ. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.

[سورة الأنعام (6): آية 108]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)

فيه خمس مسائل: الأولى- قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) نهي. (فَيَسُبُّوا اللَّهَ) جواب النهي. فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم، لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا. قال ابن عباس: قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن إلهه ونهجوه، فنزلت الآية. الثانية- قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية. وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب" الَّذِينَ" على معتقد الكفرة فيها. الثالثة- في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع، وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة قال ابن العربي: إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول. الرابعة- قوله تعالى: (عَدْواً) أي جهلا واعتداء. وروي عن أهل مكة أنهم قرءوا" عَدْواً" بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، وهي راجعة إلى القراءة الأولى، وهما جميعا بمعنى الظلم. وقرا أهل مكة أيضا" عدوا" بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو. وهو واحد يؤدي عن جمع، كما قال:" فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ «1»". وقال تعالى:" هُمُ «2» الْعَدُوُّ" وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله. الخامسة- قوله تعالى: (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم. قال ابن عباس. زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر
__________
(1). راجع ج 13 ص 110.
(2). راجع ج 18 ص 125.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)

الكفر، وهو كقوله:" كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي «1» مَنْ يَشاءُ". وفي هذا رد على القدرية.

[سورة الأنعام (6): آية 109]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)
قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" وَأَقْسَمُوا" أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها، وهو بالله فقوله:" جَهْدَ أَيْمانِهِمْ" أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، كما أخبر عنهم بقوله تعالى:" ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2»". وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله." جَهْدَ" منصوب على المصدر والعامل فيه" أَقْسَمُوا" على مذهب سيبويه، لأنه في معناه. والجهد (بفتح الجيم): المشقة يقال: فعلت ذلك بجهد. والجهد (بضمها): الطاقة يقال: هذا جهدي، أي طاقتي. ومنهم من يجعلهما واحدا، ويحتج بقول" وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ «3»". وقرى" جُهْدَهُمْ" بالفتح، عن ابن قتيبة. وسبب الآية فيما ذكر المفسرون: القرظي والكلبي وغيرهما، أن قريشا قالت: يا محمد، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك. فقال: (أي شي تحبون)؟ قالوا: أجعل لنا الصفا ذهبا، فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: (إن شئت أصبح (الصفا «4» ذهبا، ولين أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فاتركهم حتى يتوب تائبهم) فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). راجع ج 10 ص 172.
(2). راجع ج 15 ص 123.
(3). راجع ج 8 ص 215.
(4). من ك. [.....]

(بل يتوب تائبهم) فنزلت هذه الآية. وبين الرب «1» بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يؤمن وإن أقسم ليؤمنن. الثانية- قوله تعالى:" جَهْدَ أَيْمانِهِمْ" قيل: معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمي، وهي قول الرجل: الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ابن العربي: وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة، كانوا يقولون: على أشد ما أخذه أحد على أحد، فقال مالك: تطلق نساؤه. ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها. وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول: يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها، لأن قوله" الإيمان" جمع يمين، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة. ولو قال: علي يمينان للزمته «2» كفارتان إذا حنث. والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات. قلت: وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه: اختلف شيوخ القيروان فيها، فقال أبو محمد بن أبي زيد، يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريق ثلث ماله، وكفارة يمين، وعتق رقبة. قال ابن مغيث: وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن القروي: تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية. ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله:" وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين". قال ابن مغيث: فجعل «3» من سميناه على القائل:" الإيمان تلزمه" طلقة واحدة، لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله: أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين، قال «4» وبه نقول. قال: واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال: علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله، فقال: إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات. فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله: على عهد الله وغليظ ميثاقه. ويعتق رقبة وتطلق نساؤه، ويمشي إلى مكة
__________
(1). في ك: بين الله.
(2). في ك، ز: ألزمناه كفارتين.
(3). في ك: فحمل.
(4). من ز.

ويتصدق بثلث ما له في قوله: وأشد ما أخذه على أحد. قال ابن العربي: أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد، فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك" بِاللَّهِ" فيكون ما قاله الفهري. فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد، فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ماله، إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا. والله أعلم. قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قل يا محمد: الله القادر على الآتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء." وَما يُشْعِرُكُمْ" أي وما يدريكم أيمانكم، فحذف المفعول. ثم استأنف فقال:" أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ" بكسر إن، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود" وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون". وقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وتم الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون. وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ" تؤمنون" بالتاء. وقال الفراء وغيره، الخطاب للمؤمنين، لأن المؤمنين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون." أَنَّها" بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل:" أَنَّها" بمعنى لعلها، وحكاه عنه سيبويه. وفي التنزيل:" وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «1»" أي أنه يزكى. وحكي عن العرب: ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي لعلك. وقال أبو النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه ... أن تغدي القوم من شوائه
وقال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أي لعل. وقال دريد «2» بن الصمة:
أريني جوادا مات هزلا لأنني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
__________
(1). راجع ج 19 ص 211.
(2). الصحيح أنه حاتم طى. كما في الصحاح للجوهري، وديوانه. ويروى: لعلني: فلا شاهد.

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

أي لعلني «1». وهو في كلام العرب كثير" أن" بمعنى لعل. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب" وما أدراكم لعلها". وقال الكسائي والفراء: أن" لا" زائدة، والمعنى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها- أي الآيات- إذا جاءت المشركين يؤمنون، فزيدت" لا"، كما زيدت" لا" في قول تعالى:" حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «2»". لأن المعنى: وحرام على قرية مهلكة رجوعهم. وفي قول:" ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ" «3». والمعنى: ما منعك أن تسجد. وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة" لا" وقالوا: هو غلط وخطأ، لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا لعلم السامع، ذكره النحاس وغيره.

[سورة الأنعام (6): آية 110]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
هذه آية مشكلة، ولا سيما وفيها" وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ". قيل: المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر، كما لم يؤمنوا في الدنيا." وَنَذَرُهُمْ" في الدنيا، أي نمهلهم ولا نعاقبهم، فبعض الآية في الآخرة، وبعضها في الدنيا. ونظيرها" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ «4»" فهذا في الآخرة." عامِلَةٌ ناصِبَةٌ" في الدنيا. وقيل: ونقلب في الدنيا، أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة، لما دعوتهم وأظهرت المعجزة. وفي التنزيل:" وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ". والمعنى: كان ينبغي أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فرأوها بأبصارهم وعرفوها بقلوبهم، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم. كما لم يؤمنوا به أول مرة ودخلت الكاف على محذوف، أي فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة، أي أول مرة أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره. وقيل ونقلب أفئدة هؤلاء كيلا
__________
(1). في هـ نخ ب، وز ما نصه: ذريني أطوف في البلاد لأنني إلخ.
(2). راجع ج 11 ص 340.
(3). راجع ص 165، وص 390 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 20 ص 26.

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

يؤمنوا، كما لم تؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما اقترحوا من الآيات. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا أول مرة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم. (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يتحيرون. وقد مضى في" البقرة «1»".

[سورة الأنعام (6): آية 111]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) فرأوهم عيانا. (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ) بإحيائنا إياهم. (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ) سألوه من الآيات. قبلا مقابلة، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وهي قراءة نافع وابن عامر. وقيل: معاينة، لما آمنوا. وقال محمد بن يزيد: يكون" قُبُلًا" بمعنى ناحية، كما نقول: لي قبل فلان مال، فقبلا نصب على الظرف. وقرا الباقون" قبلا" بضم القاف والباء، ومعناه ضمناء، فيكون جمع قبيل بمعنى كفيل، نحو رغيف ورغف، كما قال:" أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «2»"، أي يضمنون ذلك، عن الفراء. وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل، أي جماعة جماعة، وقال مجاهد، وهو نصب على الحال على القولين. وقال محمد بن يزيد" قُبُلًا" أي مقابلة، ومنه" إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ «3»". ومنه قبل الرجل ودبره لما كان من بين يديه ومن ورائه. ومنه قبل الحيض. حكى أبو زيد: لقيت فلانا قيلا ومقابلة وقبلا وقبلا، كله بمعنى المواجهة، فيكون الضم كالكسر في المعنى وتستوي القراءتان، قاله مكي. وقرا الحسن" قبلا" حذف الضمة من الباء لثقلها. وعلى قول الفراء يكون فيه نطق ما لا ينطق، وفي كفالة ما يعقل آية عظيمة لهم. وعلى قول الأخفش يكون فيه اجتماع الأجناس الذي ليس بمعهود. والحشر الجمع. ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله" أن" في موضع استثناء ليس من الأول، أي لكن إن شاء ذلك لهم. وقيل:
__________
(1). راجع ج 1 ص 209.
(2). راجع ج 10 ص 327.
(3). راجع ج 9 ص 172.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)

الاستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم الله الإيمان. وفى هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أي يجهلون الحق وقيل: يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة.

[سورة الأنعام (6): آية 112]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)
قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ) يعزي نبيه ويسليه، أي كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك (عَدُوًّا) أي أعداء. ثم نعتهم فقال (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) حكى سيبويه جعل بمعنى وصف." عَدُوًّا" مفعول أول." لِكُلِّ نَبِيٍّ" في موضع المفعول الثاني." شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ" بدل من عدو. ويجوز أن يكون" شَياطِينَ" مفعولا أول،" عَدُوًّا" مفعولا ثانيا، كأنه قيل: جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا. وقرا الأعمش:" شياطين الجن والإنس" بتقديم الجن. والمعنى واحد. (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه، ومنه سمي الذهب زخرفا. وكل شي حسن مموه فهو زخرف. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. و" غُرُوراً" نصب على المصدر، لأن معنى" يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ" يغرونهم بذلك غرورا. ويجوز أن يكون في موضع الحال والغرور الباطل. قال النحاس: وروي عن ابن عباس بإسناد ضعيف أنه قال في قول الله عز وجل" يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ" قال: مع كل جني شيطان، ومع كل إنسي شيطان، فيلقى أحدهما الآخر فيقول: إني قد أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله. ويقول الآخر مثل ذلك، فهذا وحي بعضهم إلى بعض. وقاله عكرمة والضحاك

والسدي والكلبي. قال النحاس: والقول الأول يدل عليه" وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ «1»"، فهذا يبين معنى ذلك. قلت: ويدل عليه من صحيح السنة قول عليه السلام: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن) قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير). روي (فأسلم) برفع الميم ونصبها. فالرفع على معنى فأسلم من شره. والنصب على معنى فأسلم هو. فقال: (ما منكم من أحد) ولم يقل ولا من الشياطين، إلا أنه يحتمل أن يكون نبه على أحد الجنسين بالآخر، فيكون من باب" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ «2» الْحَرَّ" وفية بعد، والله أعلم. وروى عوف بن مالك عن أبي ذر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن)؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: (نعم هم شر من شياطين الجن). وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. وسمع عمر بن الخطاب رضي «3» الله عنه امرأة تنشد:
إن النساء رياحين خلقن لكم ... وكلكم يشتهي شم الرياحين
فأجابها عمر رضي الله عنه:
إن النساء شياطين خلقن لنا ... نعوذ بالله من شر الشياطين
قوله تعالى:" (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ)" أي ما فعلوا إيحاء القول بالغرور. فذرهم أمر فيه معنى التهديد. قال سيبويه: ولا يقال وذر ولا ودع، استغنوا عنهما «4» بترك. قلت: هذا إنما خرج على الأكثر. وفي التنزيل:" وَذَرِ الَّذِينَ «5»" و" ذرهم" و" ما وَدَّعَكَ «6»". وفي السنة (لينتهن أقوام عن ودعهم الجمعات). وقول: (إذا فعلوا- يريد المعاصي-
__________
(1). ص 74 من هذا الجزء. [.....]
(2). راجع ج 10 ص 159.
(3). من ك، ع، ج. والذي يعرف أن البيت لأحد أدباء البصرة رأى من النساء فأجبه حالهن فقال: إن النساء شياطين. البيت فأجابته إحداهن: إن النساء رياحين. البيت.
(4). من ب.
(5). يلاحظ أن الفعل في" وَذَرِ الَّذِينَ" وذرهم أمر، ولا يتجه بهما قول المؤلف. فلعل في الكلام سهوا، والعصمة لله.
(6)." وَدَّعَكَ" بالتخفيف قراءة رويت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. غير سبعية.

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

فقد تودع منهم (. قال الزجاج: الواو ثقيلة، فلما كان" ترك" ليس فيه واو بمعنى ما فيه الواو ترك ما فيه الواو. وهذا معنى قول وليس بنصه.

[سورة الأنعام (6): آية 113]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
قوله تعالى: (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ) تصغي تميل، يقال: صغوت أصغو صغوا وصغوا، وصغيت أصغي، وصغيت بالكسر أيضا. يقال منه: صغي يصغى صغى وصغيا، وأصغيت إليه إصغاء بمعنى قال الشاعر:
ترى السفيه به عن كل محكمة «1» ... زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء
ويقال: أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه. وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض. ومنه صغت النجوم: مالت للغروب. وفي التنزيل:" فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «2»". قال أبو زيد: يقال»
صغوه معك وصغوه، وصغاه معك، أي ميله. وفي الحديث: (فأصغى لها الإناء) يعني للهرة. وأكرموا فلانا في صاغيته، أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده. وأصغت الناقة إذا أمالت رأسها إلى الرجل كأنها تستمع شيئا حين يشد عليها الرحل. قال ذو الرمة:
تصغي إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب «4»
واللام في" وَلِتَصْغى " لام كي، والعامل فيها" يُوحِي" تقديره: يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى. وزعم بعضهم أنها لام الأمر، وهو غلط، لأنه كان يجب" ولتصغ إليه" بحذف الألف، وإنما هي لام كي. وكذلك وليقترفوا إلا أن الحسن قرأ" وليرضوه
__________
(1). من ا، ب، ز، ك وفى اللسان: مكرمة.
(2). راجع ج 18 ص 188.
(3). من ب، ز، ك.
(4). الكور (بالضم): رحل الناقة بأداته وهو كالسرج وآلته للفرس قال ابن سيده: وكثير من الناس يفتح الكاف وهو خطأ وجانحة: مائلة لاصقة. والغرز: سير كالركاب توضيح فيه الرجل عند الركاب. صف ناقته بالفطانة وسرعة الحركة.

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)

وليقترفوا" بإسكان اللام، جعلها لام أمر فيه معنى التهديد، كما يقال: أفعل ما شئت. ومعنى ولتقرفوا ما هم مقترفون أي وليكتسبوا، عن ابن عباس والسدي وابن زيد. يقال خرج يقترف أهله أي يكتسب لهم. وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله. وقرفتني بما ادعيت علي، أي رميتني بالريبة. وقرف القرحة إذا قشر منها. واقترف كذبا. قال رؤبة:
أعيا اقتراف الكذب المقروف ... تقوى التقي وعفة العفيف «1»
وأصله اقتطاع قطعة من الشيء.

[سورة الأنعام (6): آية 114]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً)" غير" نصب ب" أَبْتَغِي"." حَكَماً" نصب على البيان، وإن شئت على الحال. والمعنى: أفغير الله أطلب لكم حاكما وهو كفاكم مئونة المسألة في الآيات بما أنزله إليكم من الكتاب المفصل، أي المبين. ثم قيل: الحكم أبلغ من الحاكم، إذ لا يستحق التسمية بحكم إلا من يحكم بالحق، لأنها صفة تعظيم في مدح. والحاكم صفة جارية على الفعل، فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق. (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد اليهود والنصارى. وقيل: من أسلم منهم كسلمان وصهيب وعبد الله بن سلا. (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي القرآن. (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أي أن كل ما فيه من الوعد والوعيد لحق فلا تكونن من الممترين أي من الشاكين في أنهم يعلمون أنه منزل من عند الله. وقال عطاء: الذين آتينا الكتاب وهم رؤساء أصحاب محمد عليه السلام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

[سورة الأنعام (6): آية 115]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
__________
(1). في ع: العفيف. وفي اوب وج وك وز: الضعيف.

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)

قوله تعالى: (وتمت كلمات ربك) قراءة أهل الكوفة بالتوحيد، والباقون بالجمع. قال ابن عباس: مواعيد ربك، فلا مغير لها. والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما. قال قتادة: الكلمات هي القرآن لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون. (صِدْقاً وَعَدْلًا) أي فيما وعد وحكم، لا راد لقضائه ولا خلف في وعده. وحكى الرماني، عن قتادة. وحكى الرماني عن قتادة. لا مبدل لها فيما حكم به، أي إنه وإن أمكنه التغيير والتبديل في الألفاظ كما غير أهل الكتاب التوراة والإنجيل فإنه لا يعتد بذلك. ودلت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن، لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شي من الأمور (كلها «1».

[سورة الأنعام (6): الآيات 116 الى 117]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قوله تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي الكفار. (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي عن الطريق التي تؤدي إلى ثواب الله. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)" إِنْ" بمعنى ما، وكذلك (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يحدسون ويقدرون، ومنه الخرص، وأصله القطع. قال الشاعر:
ترى قصد المرّان فينا كأنه ... تذرّع خرصان بأيدي الشواطب «2»
يعني جريدا يقطع طولا ويتخذ منه الخرص. وهو جمع الخرص، ومنه خرص يخرص النخل خرصا إذا حزره ليأخذ الخراج منه. فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به، إذ لا يقين معه.
__________
(1). من ك.
(2). البيت لقيس بن الخطيم. والقصد (بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصده): القطعة مما يكسر والمران: نبات الرماح. أو الرماح الصلبة اللدنة. والتذرع: تقدير الشيء بذراع اليد والخرصان: القضبان من الجريد. والشواطب (جمع الشاطبة) وهى المرأة التي تقشر العسيب ثم تلقيه إلى المنقية فأخذ كل ما عليه بسكينها حتى تتركه رقيقا ثم تلقيه المنقية إلى الشاطبة ثانيه فتشطبه على ذراعها وتترعه. وقوله:" فينا كأنه عبارة الأصول. والذي في اللسان" تلقى كأنه" وفى ديوانه: تهوى كأنها".

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)

وسيأتي لهذا مزيد بيان في" الذاريات «1»" إن شاء الله تعالى. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) قال بعض الناس: إن" أَعْلَمُ" هنا بمعنى يعلم، وأنشد قول حاتم الطائي:
تحالفت طيئ من دوننا حلفا ... والله أعلم ما كنا لهم خذلا «2»
وقول الخنساء:
الله «3» أعلم أن جفنته ... تغدو غداة الريح أو تسري
وهذا لا حجة فيه، لأنه لا يطابق" هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ". ولأنه يحتمل أن يكون على أصله. (مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ)" مَنْ" بمعنى أي، فهو في محل رفع والرافع له" يَضِلُّ". وقيل: في محل نصب بأعلم، أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله. وقيل: في محل نصب بنزع الخافض، أي بمن يضل. قال بعض البصريين، وهو حسن، لقوله: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وقول في آخر النحل:" إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «4»". وقرى" يضل" وهذا على حذف المفعول، والأول أحسن، لأنه قال:" وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ". فلو كان من الإضلال لقال وهو أعلم بالهادين.

[سورة الأنعام (6): آية 118]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) نزلت بسبب أناس أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله؟ فنزلت" فَكُلُوا" إلى قوله" وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" خرجه الترمذي وغيره. قال عطاء «5»: هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي بأحكامه وأوامره آخذين، فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها.
__________
(1). راجع ج 17 ص 33.
(2). في الأصول: فخالفت وخولا بالواو بدل الذال. والتصويب عن تفسير الطبري. والخذل: جمع خذول. [.....]
(3). في ب وج ك وز وى: القوم.
(4). راجع ج 10 ص 200.
(5). في ك: قتادة.

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

[سورة الأنعام (6): آية 119]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
قوله تعالى: (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ): المعنى ما المانع لمن أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم. (وَقَدْ فَصَّلَ) أي بين لكم الحلال من الحرام، وأزيل عنكم اللبس والشك. ف" ما" استفهام يتضمن التقرير. وتقدير الكلام: وأى شي لكم في ألا تأكلوا." فأن" في موضع خفض بتقدير حرف الجر. ويصح أن تكون في موضع نصب على ألا يقدر حرف جر، ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله" ما لَكُمْ" تقديره أي ما يمنعكم. ثم استثنى فقال (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) يريد من جميع ما حرم كالميتة وغيرها كما تقدم في «1» البقرة. وهو استثناء منقطع. وقرا نافع ويعقوب" وقد فصل لكم ما حرم" بفتح الفعلين. وقرا أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما، والكوفيون" فصل" بالفتح" حرم" بالضم. وقرا عطية العوفي" فصل" بالتخفيف. ومعناه أبان وظهر، كما قرئ" الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ «2»" أي استبانت. واختار أبو عبيدة قراءة أهل المدينة. وقيل:" فَصَّلَ" أي بين، وهو ما ذكره في سورة" المائدة" من قوله:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ «3»" الآية. قلت: هذا فيه نظر، فإن" الأنعام" مكية والمائدة مدنية فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعد، إلا أن يكون فصل بمعنى يفصل. والله أعلم. قوله تعالى: (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ «4») وقرا الكوفيون" يضلون" من أضل (بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ) علم يعني المشركين حيث قالوا: ما ذبح الله بسكينة خير مما ذبحتم بسكاكينكم" بِغَيْرِ عِلْمٍ" أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح، إذ الحكمة فيه إخراج ما حرمه الله علينا من الدم بخلاف ما مات حتف أنفه، ولذلك شرع الذكاة في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 2 ص 224.
(2). راجع ج 9 ص 2.
(3). راجع ج 6 ص 47.
(4). قراءة نافع.

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)

[سورة الأنعام (6): آية 120]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
قوله تعالى: (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) للعلماء فيه أقوال كثيرة وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملا بالبدن مما نهى الله عنه، وباطنه ما عقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أمر ونهى، وهذه المرتبة لا يبلغها إلا من اتقى وأحسن، كما قال:" ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا". وهي المرتبة الثالثة. حسب ما تقدم بيانه في المائدة «1». وقيل: هو ما كان عليه الجاهلية من الزنا الظاهر واتخاذ الحلائل في الباطن. وما قدمنا جامع لكل إثم (وموجب لكل أمر «2».

[سورة الأنعام (6): آية 121]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) فيه خمس مسائل: الأولى- روى أبو داود قال: جاءت اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله عز وجل:" وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ" إلى أخر الآية. وروى النسائي عن ابن عباس في قوله تعالى:" وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ" قال: خاصمهم «3» المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه، فقال الله سبحانه لهم: لا تأكلوا، فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها. وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي: الثانية- وذلك أن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا، فقال علماؤنا: لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صيغ ألفاظ العموم. أما ما ذكره
__________
(1). راجع ج 6 ص 293.
(2). من ك.
(3). أي خاصم المؤمنين المشركين.

جوابا لسؤال ففيه تفصيل، على ما هو معروف في أصول الفقه، إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لحق بالأول في صحة القصد إلى التعميم. فقول:" لا تَأْكُلُوا" ظاهر في تناول الميتة، وتدخل فيه ما ذكر عليه غير اسم الله بعموم أنه لم يذكر عليه اسم الله، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصا بقول:" وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
«1»". وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عمدا عليه من الذبح، وعند إرسال الصيد. اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة، وهي (المسأله) 2 (:- الثالثة- القول) 2 (الأول-: إن تركها سهوا أكلا جميعا، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل. فإن تركها عمدا لم يؤكلا، وقال في الكتاب مالك وابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء، وأختاره النحاس وقال: هذا أحسن، لأنه لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا. الثاني: إن تركها عامدا أو ناسيا يأكلهما. وهو قول الشافعي والحسن، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وقتادة. وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال: تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا. و(روي «2» عن ربيعة أيضا. قال عبد الوهاب: التسمية سنة، فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه. الثالث: إن تركها عامدا أو ساهيا «3» حرم أكلها، قال محمد بن سيرين وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عمر ونافع وعبد الله بن زيد الخطمي والشعبي، وبه قال أبو ثور وداود بن علي وأحمد في رواية. الرابع: إن تركها عامدا كره أكلها، قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا.
__________
(1). راجع ج 2 ص 216.
(2). من ك.
(3). في ك: ناسيا.

الخامس: قال أشهب: تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا، وقال نحوه الطبري. (أدلة «1» قال الله تعالى:" فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ" وقال:" وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ" فبين الحالين وأوضح الحكمين. فقول:" لا تَأْكُلُوا" نهي على التحريم لا يجوز حمله على الكراهة، لتناول في بعض مقتضياته الحرام المحض، ولا يجوز أن يتبعض، أي يراد به التحريم والكراهة معا، وهذا من نفيس الأصول. وأما الناسي فلا خطاب توجه إليه إذ يستحيل خطابه، فالشرط ليس بواجب عليه. وأما التارك للتسمية عمدا فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يتركها إذا أضجع الذبيحة ويقول: قلبي مملوء من أسماء الله تعالى وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكر بلساني، فذلك يجزئه لأنه ذكر الله جل جلاله وعظمه. أو يقول: إن هذا ليس بموضع تسمية صريحة، إذ ليست بقربة، فهذا أيضا يجزئه. أو يقول: لا أسمي، وأى قدر للتسمية، فهذا متهاون فاسق لا تؤكل ذبيحته. قال ابن العربي: وأعجب لرأس المحققين أمام الحرمين حيث قال: ذكر الله تعالى إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة. وهذا يعارض القرآن والسنة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل). فإن قيل: المراد بذكر اسم الله بالقلب، لأن الذكر يضاد النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب، وقد روى البراء بن عازب: اسم الله على قلب كل مؤمن سمى أو لم يسم. قلنا: الذكر باللسان وبالقلب، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان، فنسخ الله ذلك بذكره في الألسنة، وأشتهر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك: هل يسمي الله تعالى إذا توضأ فقال: أيريد أن يذبح. وأما الحديث الذي تعلقوا به من قوله: (اسم الله على قلب كل مؤمن) فحديث ضعيف. وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة، لقوله عليه السلام لأناس سألوه، قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري اذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" سموا الله عليه وكلوا". أخرجه الدارقطني عن عائشة ومالك مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه، لم يختلف عليه في إرساله.
__________
(1). من ب وج وك وع وى. [.....]

وتأوله بأن قال في آخره: وذلك في أول الإسلام. يريد قبل أن ينزل عليه" وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ". قال أبو عمر: وهذا ضعيف، وفي الحديث نفسه ما يرده، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل، فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه. ومما يدل على صحة ما قلناه أن هذا الحديث كان بالمدينة، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى:" وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ" نزل في سورة" الأنعام" بمكة. ومعنى (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي لمعصية عن ابن عباس. والفسق: الخروج. وقد تقدم «1». الرابعة- قوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) أي يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل. روى أبو داود عن ابن عباس في قول:" وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ" يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله" وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ" قال عكرمة: عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس. وقال ابن عباس وعبد الله بن كثير: بل الشياطين الجن، وكفرة الجن أولياء قريش. وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قيل له: إن المختار يقول: يوحى إلى فقال: صدق، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم. (وقوله: «2»" لِيُجادِلُوكُمْ". يريد (قولهم «3»: ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه. والمجادلة: دفع القول على طريق الحجة بالقوة، مأخوذ من الأجدل، طائر قوي. وقيل: هو مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض، فكأنه يغلبه بالحجة يقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل: هو مأخوذ من الجدل، وهو شدة القتل، فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها «4»، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل. الخامسة- قوله تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) أي في تحليل الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا، فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي: إنما يكون المؤمن بطاعة
__________
(1). راجع ج 1 ص 244.
(2). من ك.
(3). من ك.
(4). في ك: يعطلها.

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)

المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد، فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص، فافهموه. وقد مضى في" المائدة «1»".

[سورة الأنعام (6): آية 122]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قوله تعالى: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) قرأ الجمهور بفتح الواو، دخلت عليها همزة الاستفهام. وروى المسيبي عن نافع بن أبي نعيم" أَوَمَنْ كانَ" بإسكان الواو. قال النحاس: يحوز أن يكون محمولا على المعنى، أي انظروا وتدبروا أغير الله أبتغي حكما." أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ" قيل: معناه كان ميتا حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه، حكاه ابن بحر. وقال ابن عباس: أو من كان كافرا فهديناه. نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل. وقال زيد بن أسلم والسدي:" فَأَحْيَيْناهُ" عمر (رضي الله عنه «2»." كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ" أبو جهل لعنه الله «3». والصحيح أنها عامة في كل مؤمن وكافر. وقيل: كان ميتا بالجهل فأحييناه بالعلم. وأنشد بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء (البصرة «4»:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور
والنور عبارة عن الهدى والإيمان. وقال الحسن: القرآن. وقيل: الحكمة. وقيل: هو النور المذكور في قول:" يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «5»" وقوله:" انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ"." يَمْشِي بِهِ" أي بالنور في الناس" كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ" أي كمن هو فمثل زائدة. تقول: أنا أكرم مثلك، أي أكرمك. ومثله" فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ «6»"،
__________
(1). راجع ج 6 ص 254 وص 301.
(2). من ع.
(3). من ع.
(4). من ج وك وى وع وز. وفي اوب: العرب.
(5). راجع ج 17 ص 242 وص 245.
(6). راجع ج 6 ص 306.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)

" لَيْسَ كَمِثْلِهِ «1» شَيْءٌ". وقيل: المعنى كمن مثله مثل من هو في الظلمات. والمثل والمثل واحد. (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي زين لهم الشيطان عبادة الأصنام وأوهمهم أنهم أفضل من المسلمين.

[سورة الأنعام (6): آية 123]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية." مُجْرِمِيها" مفعول أول لجعل" أَكابِرَ" مفعول ثاني على التقديم والتأخير. وجعل بمعنى صير. والأكابر جمع الأكبر. قال مجاهد: يريد العظماء»
. وقيل: الرؤساء والعظماء. وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد. والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة، أصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها. قال مجاهد: كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم. (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) أي وبال مكرهم راجع إليهم. وهو من الله عز وجل الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم. (وَما يَشْعُرُونَ) في الحال، لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم.

[سورة الأنعام (6): آية 124]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
قوله تعالى:" وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ" بين شيئا آخر من جهلهم، وهو أنهم قالوا لن نؤمن حتى نكون أنبياء، فنؤتي مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات، ونظيره
__________
(1). راجع ج 16 ص 7.
(2). في الأصول العلماء والنصوب من الطبري عن مجاهد.

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)

" بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «1»" والكناية في" جاءَتْهُمْ" ترجع إلى الأكابر الذين جرى ذكرهم. قال الوليد بن المغيرة: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا، وأكثر منك ما لا. وقال أبو جهل: والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت الآية. وقيل: لم يطلبوا النبوة ولكن قالوا لا نصدقك حتى يأتينا جبريل والملائكة يخبروننا بصدقك. والأول أصح، لأن الله تعالى قال:" اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «2»" أي بمن هو مأمون عليها وموضع لها. و" حَيْثُ" ليس ظرفا هنا، بل هو اسم نصب نصب المفعول به على الاتساع، أي الله أعلم أهل الرسالة. وكان الأصل الله أعلم بمواضع رسالته، ثم حذف الحرف، ولا يجوز أن يعمل" أَعْلَمُ" في" حَيْثُ" ويكون ظرفا، لأن المعنى يكون على ذلك الله أعلم في هذا الموضع، وذلك لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى، وإنما موضعها نصب بفعل مضمر دل عليه" أَعْلَمُ". وهي اسم كما ذكرنا. والصغار: الضيم والذل والهوان، وكذلك الصغر (بالضم). والمصدر الصغر (بالتحريك). وأصله من الصغر دون الكبر، فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه، وقيل: أصله من الصغر وهو الرضا بالذل، يقال منه: صغر يصغر بفتح الغين في الماضي وضمها في المستقبل. وصغر بالكسر يصغر بالفتح لغتان، صغرا وصغارا، واسم الفاعل صاغر وصغير. والصاغر: الراضي بالضيم. والمصغوراء الصغار. وأرض مصغرة: نبتها «3» لم يطل، عن ابن السكيت." عند الله" أي من عند الله، فحذف. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي سيصيب الذين أجرموا عند الله صغار. الفراء: سيصيب الذين أجرموا صغار من الله. وقيل: المعنى سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت عند الله. قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال، لأن" عند" في موضعها.

[سورة الأنعام (6): آية 125]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)
__________
(1). راجع ج 19 ص 88.
(2). قراءة. [.....]
(3). في اللسان: نبتها صغير لم يطل.

قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي يوسعه له، ويوفقه ويزين عنده ثوابه. ويقال: شرح شق، وأصله التوسعة. وشرح الله صدره وسعه بالبيان لذلك. وشرحت الأمر: بنته وأوضحته. وكانت قريش تشرح النساء شرحا، وهو مما تقدم: من التوسعة والبسط، وهو وطء المرأة مستلقية على قفاها. فالشرح: الكشف، تقول: شرحت الغامض، ومنه تشريح اللحم. قال الراجز:
كم قد أكلت كبدا وإنفحة ... ثم ادخرت ألية مشرّحه
والقطعة منه شريحة. وكل سمين من اللحم ممتد فهو شريحة. (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) يغويه (يجعل صدره ضيقا حرجا) وهذا رد على القدرية. ونظير هذه الآية من السنة قوله عليه السلام: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) أخرجه الصحيحان. ولا يكون ذلك إلا بشرح الصدر وتنويره. والدين العبادات، كما قال:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «1»" ودليل خطابه أن من لم يرد الله به خيرا ضيق صدره، وأبعد فهمه فلم يفقهه. والله أعلم. وروي أن عبد الله بن مسعود قال: يا رسول الله، وهل ينشرح الصدر؟ فقال: (نعم يدخل القلب نور) فقال: وهل لذلك من علامة؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزول الموت). وقرا ابن كثير" ضيقا" بالتخفيف، مثل «2» هين ولين لغتان. ونافع وأبو بكر" حَرَجاً" بالكسر، ومعناه الضيق. كرر «3» المعنى، وحسن ذلك لاختلاف اللفظ. والباقون بالفتح. جمع حرجة، وهو شدة الضيق أيضا، والحرجة الغيضة «4»، والجمع حرج وحرجات. ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه في تركه هواه للمعاصي، قال الهروي. وقال ابن عباس: الحرج موضع الشجر الملتف، فكأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف شجره. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المعنى، ذكره مكي والثعلبي وغيرهما. وكل ضيق حرج. قال الجوهري: مكان حرج وحرج أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه
__________
(1). راجع ج 4 ص 43.
(2). في ك: عين.
(3). الأولى أن يكون حرجا: المتزايد في الضيق فيكون أخص من الأول.
(4). الشجر الملتف.

الراعية. وقرى" يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً" و" حَرَجاً". وهو بمنزلة الوحد والوحد والفرد والفرد والدنف والدنف، في معنى واحد، وحكاه غيره عن الفراء. وقد حرج صدره يحرج حرجا. والحرج الإثم. والحرج أيضا: الناقة الضامرة. ويقال: الطويلة على وجه الأرض، عن أبي زيد، فهو لفظ مشترك. والحرج: خشب يشد بعضه إلى بعض يحمل فيه الموتى، عن الأصمعي. وهو قول امرئ القيس:
فإما تريني في رحالة جابر ... على حرج كالقر تخفق أكفاني «1»
وربما وضع فوق نعش النساء، قال عنترة يصف ظليما:
يتبعن قلة رأسه وكأنه ... حرج على نعش لهن مخيم «2»
وقال الزجاج: الحرج: أضيق الضيق. فإذا قيل. فلان حرج الصدر، فالمعنى ذو حرج في صدره. فإذا قيل: حرج فهو فاعل. قال النحاس: حرج اسم الفاعل، وحرج مصدر وصف به، كما يقال: رجل عدل ورضا. قوله تعالى: (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) قرأه ابن كثير بإسكان الصاد مخففا، من الصعود هو الطلوع. شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يطاق. وكذلك يصاعد وأصله يتصاعد، أدغمت التاء في الصاد، وهي قراءة أبي، بكر والنخعي، إلا أن فيه معنى فعل شي بعد شي، وذلك أثقل على فاعله. وقرا الباقون بالتشديد من غير ألف، وهو كالذي قبله. معناه يتكلف ما لا يطيق شيئا بعد شي، كقولك: يتجرع ويتفوق «3». وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ" كأنما يتصعد". قال النحاس: ومعنى هذه القراءة وقراءة من قرأ يصعد ويصاعد واحد. والمعنى فيهما أن الكافر من ضيق صدره كأنه يريد أن يصعد إلى السماء وهو لا يقدر على ذلك،
__________
(1). أراد بالرحالة الخشب الذي يحمل عليه في مرضه. وأراد بالأكفان ثيابه التي عليه، لأنه قدر أنها ثيابه التي يدفن فيها. وخفقها ضرب الريح لها. وأراد بجابر جابر بن حنى التغلبي وكان معه في بلاد الروم، فلما اشتدت علنة صنع له من الخشب شيئا كالقر يحمل فيه، والقر: مركب من مراكب الرجال بين الرحل والسرج. (عن اللسان مادة حرج).
(2). وصف نعامة يتبعها رئالها وهو يبسط جناحيه ويجعلها تحته.
(3). تفوق شرابه: شربه شيئا بعد شي.

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

فكأنه يستدعي ذلك. وقيل: المعنى كاد قلبه يصعد إلى السماء نبوا عن الإسلام. كذلك يجعل الله الرجس عليهم، كجعله ضيق الصدر في أجسادهم. واصل الرجس في اللغة النتن. قال ابن زيد: هو العذاب وقال ابن عباس: (الرجس «1» هو) الشيطان، أي يسلطه عليهم. وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وكذلك الرجس عند أهل اللغة هو النتن. فمعنى الآية والله أعلم: ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. (على الذين لا يؤمنون).

[سورة الأنعام (6): آية 126]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
قوله تعالى: (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) أي هذا الذي أنت عليه يا محمد والمؤمنون دين ربك لا اعوجاج فيه. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بيناها (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).

[سورة الأنعام (6): آية 127]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
قوله تعالى: (لَهُمْ) أي للمتذكرين. (دارُ السَّلامِ) أي الجنة، فالجنة دار الله، كما يقال: الكعبة بيت الله. ويجوز أن يكون المدار السلامة، أي التي يسلم فيها من الآفات. ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي مضمونة لهم عنده يوصلهم إليها بفضله. (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي ناصرهم ومعينهم.

[سورة الأنعام (6): آية 128]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
__________
(1). من ج، ز، ك.

قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) «1» نصب على الفعل المحذوف، أي ويوم نحشرهم نقول. (جَمِيعاً) نصب على الحال. والمراد حشر جميع الخلق في موقف القيامة. (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ) نداء مضاف. (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي من الاستمتاع بالإنس، فحذف المصدر المضاف إلى المفعول، وحرف الجر، يدل على ذلك قوله: (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) وهذا يرد قول من قال: إن الجن هم الذين استمتعوا من الإنس، لأن الإنس قبلوا منهم. والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه. والتقدير في العربية: استمتع بعضنا بعضا، فاستمتاع الجن من الإنس إنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم، وتلذذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم. وقيل: كان الرجل إذا مر بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب «2» هذا الوادي من جميع ما أحذر. وفي التنزيل:" وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً «3»". فهذا استمتاع الإنس بالجن. وأما استمتاع الجن بالإنس فما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والكهانة والسحر. وقيل: استمتاع الجن بالإنس أنهم يعترفون أن الجن يقدرون أن يدفعوا عنهم ما يحذرون. ومعنى الآية تقريع الضالين والمضلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين. (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا)
يعني الموت والقبر، ووافينا نادمين. (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) أي موضع مقامكم. والمثوى المقام. (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) استثناء ليس من الأول. قال الزجاج: يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب، فالاستثناء قطع. وقيل: يرجع الاستثناء إلى النار، أي إلا ما شاء الله من تعذيبكم بغير النار في بعض الأوقات. وقال ابن عباس: الاستثناء لأهل الإيمان. ف" ما" على هذا بمعنى من. وعنه أيضا أنه قال: هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار. ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت، إذ قد يسلم. وقيل:" إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ" من كونهم في الدنيا بغير عذاب. ومعنى هذه الآية معنى الآية التي في" هود". قول:" فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ" وهناك يأتي مستوفى إن شاء «4» الله. إن ربك حكيم أي في عقوبتهم وفي جميع أفعال عليم بمقدار مجازاتهم.
__________
(1). نحشرهم بالنون قراءة نافع كما في الأصول.
(2). في ك: بزعيم.
(3). راجع ج 19 ص 8.
(4). راجع ج 9 ص 99.

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)

[سورة الأنعام (6): آية 129]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قوله تعالى:" وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً" المعنى وكما فعلنا بهؤلاء مما وصفته لكم من استمتاع بعضهم ببعض أجعل بعض الظالمين أولياء بعض، ثم يتبرأ بعضهم من بعض غدا. ومعنى" نُوَلِّي" على هذا نجعل وليا. قال ابن زيد: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس. وعنه أيضا: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله. وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه سلط الله عليه ظالما آخر. ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه «1» أو يظلم الرعية، أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف، وانظر فيه متعجبا. وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم، إذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم. وفي الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من أعان ظالما سلطه الله عليه). وقيل: المعنى نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، كما نكلهم غدا إلى رؤسائهم الذين لا يقدرون على تخليصهم من العذاب أي كما نفعل بهم ذلك في الآخرة كذلك نفعل بهم في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى:" نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى «2»" نكله إلى ما وكل إليه نفسه. قال ابن عباس: تفسيرها هو أن الله إذا أراد بقوم شرا «3» ولى أمرهم شرارهم. يدل عليه قول تعالى:" وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «4»".

[سورة الأنعام (6): آية 130]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)
قوله تعالى:امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ)
أي يوم نحشرهم نقول (لهم «5») ألم يأتكم رسل فحذف، فيعترفون بما فيه افتضاحهم. ومعنى"نْكُمْ
" في الخلق والتكليف والمخاطبة.
__________
(1). من ك. [.....]
(2). راجع ج 5 ص 385.
(3). في ك.: سوءا.
(4). راجع ج 61 ص 30.
(5). من ك.

ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال:"نْكُمْ
" وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث. وقال ابن عباس: رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي، كما قال:" وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «1»". وقال مقاتل والضحاك: أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس. وقال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن، ثم قرأ" إلى قومهم منذرين «2»". وهو معنى قول ابن عباس، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في" الأحقاف «3»". وقال الكلبي «4»: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعثون إلى الإنس والجن جميعا. قلت: وهذا لا يصح، بل في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) الحديث. على ما يأتي بيانه في" الأحقاف «5»". وقال ابن عباس: كانت الرسل تبعث إلى الإنس وإن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى الجن والإنس، ذكره أبو الليث السمر قندي. وقيل: كان قوم من الجن: استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم وأخبروهم، كالحال مع نبينا عليه السلام. فيقال لهم رسل الله، وإن لم ينص على إرسالهم. وفي التنزيل:" يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «6»" أي من أحدهما، وإنما يخرج من الملح دون العذب، فكذلك الرسل من الإنس دون الجن، فمعنى"نْكُمْ
" أي من أحدكم. وكان هذا جائزا، لأن ذكرهما سبق. وقيل: إنما صير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرصة القيامة، والحساب عليهم دون الخلق، فلما صاروا في تلك العرصة في حساب واحد في شأن الثواب والعقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة، لأن بدء خلقهم للعبودية، والثواب والعقاب على العبودية، ولأن الجن أصلهم من مارج من نار، واصلنا من تراب، وخلقهم غير خلقنا، فمنهم مؤمن وكافر.
__________
(1). راجع ج 16 ص 210.
(2). راجع ج 16 ص 210.
(3). راجع ج 16 ص 210.
(4). في ك: قال مقاتل: وهو معنى إلخ.
(5). راجع ج 16 ص 210.
(6). راجع ج 17 ص 161.

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)

وعدونا إبليس عدو لهم، يعادي مؤمنهم ويوالي كافرهم. وفيهم أهواء: شيعة وقدرية ومرجئة يتلون كتابنا. وقد وصف الله عنهم في سورة" الجن" من قوله:" وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ"." وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً «1»" على ما يأتي بيانه هناك."قُصُّونَ
" في موضع رفع نعت لرسل. (قالوا شهدنا على أنفسنا) أي شهدنا أنهم بلغوا. (وغرتهم الحياة الدنيا) قيل: هذا خطاب من الله للمؤمنين، أي أن هؤلاء قد غرتهم الحياة الدنيا، أي خدعتهم وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا. (وشهدوا على أنفسهم) أي اعترفوا بكفرهم. قال مقاتل: هذا حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك وبما كانوا يعملون «2».

[سورة الأنعام (6): آية 131]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131)
قوله تعالى:" ذلِكَ" في موضع رفع عند سيبويه، أي الأمر ذلك. و" إِنَّ" مخففة من الثقيلة، أي إنما فعلنا هذا بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم، أي بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. وقيل: لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم، فهو مثل" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «3»". ولو أهلكهم قبل بعثة الرسل فله أن يفعل ما يريد. وقد قال عيسى:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «4»" وقد تقدم «5». وأجاز الفراء أن يكون" ذلِكَ" في موضع نصب، المعنى: فعل ذلك بهم، لأنه لم يكن يهلك القرى بظلم.

[سورة الأنعام (6): آية 132]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي من الجن والإنس، كما قال في أية أخرى:" أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ" ثم قال:" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ". وفي هذا ما يدل على أن المطيع من الجن في الجنة، والعاصي منهم في النار، كالإنس سواء. وهو أصح
__________
(1). راجع ج 19 ص 14.
(2). من ك.
(3). راجع ج 7 ص 157.
(4). راجع ج 6 ص 377. [.....]
(5). راجع ج 16 ص 196.

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)

ما قيل في ذلك فاعلمه. ومعنى" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ" أي ولكل عامل بطاعة درجات في الثواب ولكل عامل بمعصية دركات في العقاب. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) أي ليس بلاه ولا ساه. والغفلة أن يذهب الشيء عنك لاشتغالك بغيره. (عَمَّا يَعْمَلُونَ) قرأه ابن عامر بالتاء، الباقون بالياء.

[سورة الأنعام (6): آية 133]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) أي عن خلقه وعن أعمالهم. (ذُو الرَّحْمَةِ) أي بأوليائه وأهل طاعته (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) بالإماتة والاستئصال بالعذاب. (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ)
أي خلقا آخر أمثل منكم وأطوع. (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) والكاف في موضع نصب، أي يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافا مئل ما أنشأكم، ونظيره" إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ»
"." وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «2»". فالمعنى يبدل غيركم مكانكم، كما تقول: أعطيتك من دينارك ثوبا.

[سورة الأنعام (6): آية 134]
إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
قوله تعالى: (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) يحتمل أن يكون من" أوعدت" في الشر، والمصدر الإيعاد. والمراد عذاب الآخرة. ويحتمل أن يكون من" وعدت" على أن يكون المراد الساعة التي في مجيئها الخير والشر فغلب الخير. روي معناه عن الحسن. (وما أنتم بمعجزين) أي فائتين، يقال: أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني.

[سورة الأنعام (6): آية 135]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
__________
(1). راجع ج 5 ص 409.
(2). راجع ج 16 ص 257.

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)

قوله تعالى: (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) وقرا أبو بكر بالجمع" مكاناتكم". والمكانة الطريقة. والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه فأنا أثبت على ما أنا عليه. فإن قيل: كيف يجوز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه وهم كفار. فالجواب أن هذا تهديد، كما قال عز وجل:" فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً «1»". ودل عليه" فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ" أي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الإسلام، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة، أي الجنة. قال الزجاج:" مَكانَتِكُمْ" تمكنكم في الدنيا. ابن عباس والحسن والنخعي: على ناحيتكم. القتبي: على موضعكم. (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي، فحذف لدلالة الحال عليه." ومن" من قوله" مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ" في موضع نصب بمعنى الذي، لوقوع العلم عليه. ويجوز تكون في موضع رفع، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله فيكون الفعل معلفا. أي تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار، كقول:" لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى «2»" وقرا حمزة والكسائي" من يكون" بالياء.

[سورة الأنعام (6): آية 136]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)
قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) فيه مسألة واحدة ويقال: ذرأ يذرأ ذرءا، أي خلق. وفي الكلام حذف واختصار «3»، وهو وجعلوا لأصنامهم نصيبا، دل عليه ما بعده. وكان هذا مما زينه الشيطان وسؤله لهم، (حتى «4» صرفوا من ماله طائفة إلى الله بزعمهم وطائفة إلى أصنامهم، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. والمعنى متقارب. جعلوا لله جزءا ولشركائهم جزءا، فإذا ذهب ما لشركائهم بالإنفاق عليها وعلى سدنتها عوضوا منه ما لله، وإذا ذهب ما لله بالإنفاق على الضيفان والمساكين لم يعوضوا منه شيئا، وقالوا:
__________
(1). راجع ج 8 ص 216.
(2). راجع ج 10 ص 364.
(3). في ك: إضمار.
(4). من ك.

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)

الله مستغن عنه وشركاؤنا فقراء. وكان هذا من جهالاتهم وبزعمهم. والزعم الكذب. قال شريح القاضي: إن لكل شي كنية وكنية الكذب زعموا. وكانوا يكذبون في هذه الأشياء لأنه لم ينزل بذلك شرع. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: من أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ". قال ابن العربي: وهذا الذي قاله كلام صحيح، فإنها تصرفت بعقولها العاجزة في تنويع الحلال والحرام سفاهة بغير معرفة ولا عدل، والذي تصرفت بالجهل فيه من اتخاذ الآلهة أعظم جهلا وأكبر جرما، فإن الاعتداء على الله تعالى أعظم من الاعتداء على المخلوقات. والدليل في أن الله واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في مخلوقاته أبين وأوضح من الدليل على أن هذا حلال وهذا حرام. وقد روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص: إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم عبدتم الحجر! فقال عمرو: تلك عقول كادها باريها. فهذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلها أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثه الرسول عليه السلام. فكان من الظاهر لنا أن نميته حتى لا يظهر، وننساه حتى لا يذكر، إلا أن ربنا تبارك وتعالى ذكره بنصه وأورده بشرحه، كما ذكر كفر الكافرين به. وكانت الحكمة في ذلك- والله أعلم- أن قضاءه قد سبق، وحكمه قد نفذ بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة. وقرا يحيى بن وثاب والسلمى والأعمش والكسائي" بزعمهم" بضمه الزاي. والباقون بفتحها، وهما لغتان. (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ) أي إلى المساكين. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء الحكم حكمهم. قال ابن زيد: كانوا إذا ذبحوا ما لله ذكروا عليه اسم الأوثان، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى" فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ". فكان تركهم لذكر الله مذموما منهم وكان داخلا في ترك أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.

[سورة الأنعام (6): آية 137]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)

قوله تعالى: (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) المعنى: فكما زين لهؤلاء أن جعلوا لله نصيبا ولأصنامهم نصيبا كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. قال مجاهد وغيره: زينت لهم قتل البنات مخافة العيلة. قال الفراء والزجاج: شركاؤهم ها هنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان. وقيل: هم الغواة من الناس. وقيل: هم الشياطين. وأشار بهذا إلى الوأد الخفي «1» وهو دفن البنت حية مخافة السباء والحاجة، وعدم ما حر من من النصرة. وسمي الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم. وقيل: كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرن أحدهم، كما فعله عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبد الله. ثم قيل: في الآية أربع قراءات، أصحها قراءة الجمهور:" وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ" وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة." شُرَكاؤُهُمْ" رفع ب" زُيِّنَ"، لأنهم زينوا ولم يقتلوا." قَتْلَ" نصب ب" زُيِّنَ" و" أَوْلادُهُمْ" مضاف إلى المفعول، والأصل في المصدر أن يضاف إلى الفاعل، لأنه أحدثه ولأنه لا يستعني عنه ويستغني عن المفعول، فهو هنا مضاف إلى المفعول لفظا مضاف إلى الفاعل معنى، لأن التقدير زين لكثير من المشركين قتلهم أولادهم شركاؤهم، ثم حذف المضاف وهو الفاعل كما حذف من قوله تعالى:" لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ «2»"" أي من دعائه الخير. فالهاء فاعلة الدعاء، أي لا يسأم الإنسان من أن يدعو بالخير. وكذا قوله: زين لكثير من المشركين في أن يقتلوا أولادهم شركاؤهم. قال مكي: وهذه القراءة هي الاختيار، لصحة الإعراب فيها ولأن عليها الجماعة. القراءة الثانية" زُيِّنَ" (بضم الزاي)." لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ" (بالرفع)." أَوْلادُهُمْ" بالخفض." شُرَكاؤُهُمْ" (بالرفع) قراءة الحسن. ابن عامر وأهل الشام" زين" بضم الزاي" لكثير من المشركين قتل أولادهم" برفع" قتل" ونصب" أولادهم"." شركائهم" بالخفض فيما حكى أبو عبيد، وحكى غيره عن أهل الشام أنهم قرءوا" وكذلك زين" بضم الزاي" لكثير من المشركين قتل"
__________
(1). كذا في كل الأصول، والمعروف أن الوأد الخفي هو العزل كما صح في الحديث.
(2). راجع ج 15 ص 372.

بالرفع" أولادهم" بالخفض" شركائهم" بالخفض أيضا. فالقراءة الثانية قراءة الحسن جائزة، يكون" قَتْلَ" اسم ما لم يسم فاعله،" شُرَكاؤُهُمْ"، رفع بإضمار فعل يدل عليه" زُيِّنَ"، أي زينه شركاؤهم. ويجوز على هذا ضرب زيد عمرو، بمعنى ضربه عمرو، وأنشد سيبويه:
لبيك يزيد ضارع لخصومة

أي يبكيه ضارع. وقرا ابن عامر وعاصم من رواية أبي بكر" يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ «1»" التقدير يسبحه رجال. وقرا إبراهيم بن أبي عبلة" قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ «2»" بمعنى قتلهم النار. قال النحاس: وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عامر وأهل الشام فلا يجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف لأنه لا يفصل، فأما بالأسماء غير الظروف فلحن. قال مكي: وهذه القراءة فيها ضعف للتفريق «3» بين المضاف والمضاف إليه، لأنه إنما يجوز مثل هذا التفريق في الشعر مع الظروف لاتساعهم فيها وهو في المفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القراءة «4» أبعد. وقال المهدوي: قراءة ابن عامر هذه على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه، ومثله قول الشاعر:
فزججتها بمزجه ... زج القلوص أبي مزادة «5»
يريد: زج أبي مزادة القلوص. وأنشد:
تمر على ما تستمر وقد شفت ... غلائل عبد القيس منها صدورها
يريد شقت عبد القيس غلائل صدورها. وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي: قراءة ابن عامر لا تجوز في العربية، وهي زلة عالم، وإذا زل العالم لم يجز اتباعه، ورد قوله إلى الإجماع، وكذلك يجب أن يرد من زل منهم أو سها إلى الإجماع، فهو أولى من الإصرار
__________
(1). راجع ج 12 ص 264.
(2). راجع ج 19 ص 284.
(3). في ك: لأنه لا يفصل بين المضاف والمضاف إليه.
(4). في ك، ز: القرآن.
(5). ذكر الأخفش هذا البيت ولم يعزه إلى أحد. والزج ها هنا الطعن، والمزجة بكسر الميم: رمح قصير كالمزاريق. والقلوص بفتح القاف: الفتية من النوق يخير أنه زج امرأته كما زج أبو مزادة القلوص. وأبو كنيه رجل. راجل شرح الشواهد الكبرى للعينى في باب الإضافة. [.....]

على غير الصواب. وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، لأنه لا يفصل. كما قال:
كما خط الكتاب بكف يوما ... يهودي يقارب أو يزيل «1»
وقال آخر:
كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج «2»
وقال آخر:
لما رأت ساتيدما استعبرت ... لله در اليوم من لامها «3»
وقال القشيري: وقال قوم هذا قبيح، وهذا محال، لأنه إذا ثبتت (القراءة «4» بالتواتر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو الفصيح لا القبيح. وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان" شركائهم" بالياء وهذا يدل على قراءة ابن عامر. وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء، لأن الشركاء هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه، فالفعل مضاف إلى فاعله على ما يجب في الأصل، لكنه فرق بين المضاف والمضاف إليه، وقدم المفعول وتركه منصوبا على حاله، إذ كان متأخرا في المعنى، وأخر المضاف وتركه مخفوضا على حاله، إذ كان متقدما بعد القتل. والتقدير: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. أي أن قتل شركاؤهم أولادهم. قال النحاس: فأما ما حكاه غير أبي عبيد (وهي القراءة الرابعة) فهو جائز. على أن تبدل شركاءهم من أولادهم، لأنهم شركاؤهم في النسب والميراث. (ليردوهم)
__________
(1). البيت لأبى حية النميري. والشاهد فيه إضافه الكف إلى اليهود مع الفصل بالظرف. وصف رسوم الدار فشبها بالكتاب في دفتها والاستدلال بها، وخص اليهود لأنهم أهل كتاب. وجعل كتابته بعضها متقارب وبعضها مفترق متباين لاقتضاء آثار الديار تلك الصفة والحال. (عن شرح الشواهد).
(2). البيت لذي الرمة. والشاهد فيه إضافه الأصوات إلى أواخر الميس مع فصله بالمجرور ضرورة. والميس: شجر تعمل منه الرحال. والإيغال: سرعة السير. يقول: كأن أصوات أواخر الميس من شده سير الإبل بنا واضطراب رحالها عليها أصوات الفراريج عن شرح الشواهد.
(3). البيت لعمر بن قميئة. والشاهد فيه إضافة الدر إلى من مع جواز الفصل بالظرف ضرورة إذا لم يمكنه إضافة الدار إليه. وصف امرأة نظرت إلى ساتيدما وهو جبل بعينه بعيد من ديارها، فذكرت به بلادها فاستعبرت شوقا إليها (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(4). من ك.

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)

اللام لام كي. والإرداء الإهلاك. (وليلبسوا عليهم دينهم) الذي ارتضى لهم. أي يأمرونهم بالباطل ويشككونهم في دينهم. وكانوا على دين إسماعيل، وما كان فيه «1» قتل الولد، فيصير الحق مغطى عليه، فبهذا يلبسون. (ولو شاء الله ما فعلوه) بين (تعالى) 1 (أن كفرهم بمشيئة الله. وهو رد على القدرية.) فذرهم وما يفترون) يريد قولهم إن لله شركاء.

[سورة الأنعام (6): آية 138]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
ذكر (تعالى) نوعا آخر جهالتهم. وقرا أبان بن عثمان" حجر" بضم الحاء والجيم. وقرأ الحسن وقتادة" حجر" بفتح الحاء وإسكان الجيم، لغتان بمعنى. وعن الحسن أيضا" حجر" بضم الحاء. قال أبو عبيد عن هارون قال: كان الحسن يضم الحاء في" حجر" في جميع القرآن إلا في قوله:" بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً «2»" فإنه كان يكسرها ها هنا. وروي عن ابن عباس وابن الزبير" وحرث حرج" الراء قبل الجيم، وكذا في مصحف أبي، وفية قولان: أحدهما أنه مثل جبذ وجذب. والقول الآخر- وهو أصح- أنه من الحرج، فإن الحرج (بكسر الحاء) لغة في الحرج (بفتح الحاء) وهو الضيق والإثم، فيكون معناه الحرام. ومنفلان يتحرج أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه من الحرام. والحجر: لفظ مشترك. وهو هنا بمعنى الحرام، وأصله المنع. وسمي العقل حجرا لمنعه عن القبائح. وفلان في حجر القاضي أي منعه. حجرت على الصبي حجرا. والحجر العقل، قال الله تعالى:" هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ «3»" والحجر الفرس الأنثى. والحجر القرابة. قال:
يريدون أن يقصوه عني وإنه ... لذو حسب دان إلي وذو حجر
وحجر الإنسان وحجره لغتان، والفتح أكثر. أي حرموا أنعاما وحرثا وجعلوها لأصنامهم وقالوا: (لا يطعمها إلا من نشاء) وهم خدام الأصنام. ثم بين أن هذا تحكم لم يرد به
__________ (1). في ك: فيهم.
(2). راجع ج 13 ص 58.
(3). راجع ج 20 ص 42.

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

شرع، ولهذا قال:" بِزَعْمِهِمْ". (وأنعام حرمت ظهورها) يريد ما يسيبونه لآلهتهم على ما تقدم من النصيب، وقال مجاهد: المراد الجيرة والوصيلة والحام «1». (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) يعني ما ذبحوه لآلهتهم. قال أبو وائل: لا يحجون عليها. (افتراء) أي للافتراء" على الله"، لأنهم كانوا يقولون: الله أمرنا بهذا. فهو نصب على المفعول له. وقيل: أي يفترون افتراء، وانتصابه لكونه مصدورا.

[سورة الأنعام (6): آية 139]
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قوله تعالى: (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) هذا نوع آخر من جهلهم. قال ابن عباس: هو اللبن، جعلوه حلالا للذكور وحراما على الإناث. وقيل: الأجنة، قالوا: إنها لذكورنا. ثم إن مات منها شي أكله الرجال والنساء. والهاء في" خالِصَةٌ" للمبالغة في الخلوص، ومثله رجل علامة ونسابة، عن الكسائي والأخفش. و" خالِصَةٌ" بالرفع خبر المبتدأ الذي هو" ما". وقال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام. وهذا القول عند قوم خطأ، لأن ما في بطونها ليس منها، فلا يشبه (قوله) «2»" يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ «3»" لأن بعض السيارة سيارة، وهذا لا يلزم (قال «4» الفراء: فإن ما في بطون الأنعام أنعام مثلها، فأنث لتأنيثها، أي الأنعام التي في بطون الأنعام خالصة لذكورنا. وقيل: أي جماعة ما في البطون. وقيل: إن" ما" ترجع إلى الألبان أو الأجنة، فجاء التأنيث على المعنى والتذكير على اللفظ.
__________
(1). البحيرة: الناقة التي نتجت خمسه أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها (أي شقوها) وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح ولا تجلى (تطرد) عن ماء ترده ولا تمنع من مرعى وإذا لقيها المعيي المنقطع به لم يركبها. والوصيلة الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن ومن الشاه التي وصلت سبعة أبطن، عناقين، فإن ولدت في السابعة عناقا وجديا قيل: وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء. والحامي: الفحل من الإبل يضرب الضراب المعدود، قبل عشرة أبطن فإذا بلغ ذلك قالوا: هذا حام. أي حمى ظهره فيترك، فلا ينفع منه بشيء ولا يمنع من ماء ولا مرعى. راجع ج 6 ص 335. فما بعدها.
(2). من ك.
(3). راجع ج 9 ص 133.
(4). من ك.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)

ولهذا قال" وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا" على اللفظ. ولو راعى المعنى لقال ومحرمة. ويعضد هذا قراءة الأعمش" خالص" بغير هاء. قال الكسائي: معنى خالص وخالصة واحد، إلا أن الهاء للمبالغة، كما يقال: رجل داهية وعلامة، كما تقدم. وقرا قتادة" خالصة" بالنصب على الحال من الضمير في الظرف الذي هو صلة" ما". وخبر المبتدأ محذوف، كقولك: الذي في الدار قائما زيد. هذا مذهب البصريين. وأنتصب عند الفراء على القطع. وكذا القول في قراءة سعيد بن جبير" خالصا". وقرا ابن عباس" خالصه" على الإضافة فيكون ابتداء ثانيا، والخبر" لِذُكُورِنا" والجملة خبر" ما". ويجوز أن يكون" خالِصَةٌ" بدلا من" ما". فهذه خمس قراءات. (ومحرم على أزواجنا) أي بناتنا، عن ابن زيد. وغيره: نساؤهم. وإن يكن ميته قرئ بالياء والتاء، أي إن يكن ما في بطون الأنعام «1» ميتة (فهم فيه شركاء) أي الرجال والنساء. وقال" فِيهِ" لأن المراد بالميتة الحيوان، وهي تقوي قراءة الياء، ولم يقل فيها." ميتة" بالرفع بمعنى تقع أو تحدث." مَيْتَةً" بالنصب، أي وإن تكن النسمة ميتة. (سيجزيهم وصفهم) أي كذبهم وافتراءهم، أي يعذبهم على ذلك. وانتصب" وَصْفَهُمْ" بنزع الخافض، أي بوصفهم وفي الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به، حتى يعرف فساد قول، ويعلم كيف يرد عليه، لأن الله تعالى أعلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه قول من خالفهم من (أهل «2» زمانهم، ليعرفوا فساد قولهم.

[سورة الأنعام (6): آية 140]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
أخبر بخسرانهم لو أدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفها خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق، فأبان ذلك عن تناقض رأيهم. قلت: إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق، كما ذكر الله عز وجل في غير هذا الموضع. وكان منهم من يقتله سفها بغير حجة منهم في قتلهم، وهم ربيعة ومضر، وكانوا
__________
(1). من ك.
(2). من ك وع.

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

يقتلون بناتهم لأجل الحمية. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالبنات. وروي أن رجلا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلى عليه وسلم: (مالك تكون محزونا)؟ فقال: يا رسول الله، إن أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله (لي «1» وإن أسلمت! فقال له:) أخبرني عن ذنبك (. فقال: يا رسول الله، إن كنت، من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إلى امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب القبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت! أيش «2» تريد أن تفعل بي! فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها فارحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني. فمكثت «3» هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وقال: (لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك).

[سورة الأنعام (6): آية 141]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
__________
(1). من ب. [.....]
(2). في ك: أي شي.
(3). في ب: فكنت.

فيه ثلاث وعشرون مسألة: الأولى- قوله تعالى: (أَنْشَأَ) أي خلق. جنات معروشات أي بساتين ممسوكات «1» مرفوعات. وغير معروشات غير مرفوعات. قال ابن عباس:" مَعْرُوشاتٍ" ما انبسط على الأرض مما يفرش مثل الكروم والزروع والبطيخ." وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ" ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار. وقيل: المعروشات ما ارتفعت أشجارها. واصل التعريش الرفع. وعن ابن عباس أيضا: المعروشات ما أثبته ورفعه الناس. وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار. يدل عليه قراءة علي رضي الله عنه" مغروسات وغير مغروسات" بالغين المعجمة والسين المهملة. الثانية- قوله تعالى: (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) أفردهما بالذكر وهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة، على ما تقدم بيانه في" البقرة" عند قول:" مَنْ كانَ عَدُوًّا «2» لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ" الآية." مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ" يعني طعمه منه الجيد والدون. وسماه أكلا لأنه يؤكل. و" أُكُلُهُ" مرفوع بالابتداء. و" مُخْتَلِفاً" نعته، ولكنه لما تقدم عليه وولي منصوبا نصب. كما تقول: عندي طباخا غلام. قال:
الشر منتشر يلقاك عن عرض ... والصالحات عليها مغلقا باب
وقيل:" مُخْتَلِفاً" نصب على الحال. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه مسألة مشكلة من النحو، لأنه يقال: قد أنشأها ولم يختلف أكلها وهو ثمرها، فالجواب أن الله سبحانه أنشأها بقوله:" خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" فأعلم أنه أنشأها مختلفا أكلها، أي «3» أنه أنشأها مقدرا فيه الاختلاف، وقد بين هذا سيبويه بقوله: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، على الحال، كما تقول، لتدخلن الدار آكلين شاربين، أي مقدرين ذلك. جواب ثالث: أي لما أنشأه كان مختلفا أكله، على معنى أنه لو كان له لكان مختلفا أكله. ولم يقل أكلهما، لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما، كقول:" وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها»
" أي إليهما. وقد تقدم هذا المعنى.
__________
(1). كذا في اوك وج. لعل الأصل: مسموكات. في البحر: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا ينعطف عليه القضبان.
(2). راجع ج 2 ص 36.
(3). كذا في الأصول والمتبادر أن العبارة: أو أنه أنشأها إلخ فيكون هذا جوابا ثان كما يستفاد من العبارة الآتية والخامس.
(4). راجع ج 18 ص 109.

الثالثة- قوله تعالى: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) عطف عليه (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) نصب على الحال، وفي هذه أدلة ثلاثة، أحدها ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بدلها من مغير. الثاني على المنة منه سبحانه علينا، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، إذ خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء، لأنه لا يجب عليه شي. الثالث على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها، وثمر خارج من صفته الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجنى الجديد، والطعم اللذيذ، فأين الطبائع وأجناسها، وأين الفلاسفة وأناسها، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان، أو ترتب هذا الترتيب العجيب! كلا! لا يتم ذلك في العقول إلا لحي عالم قدير مريد. فسبحان من له في كل شي آية ونهاية! ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم. الرابعة- قوله تعالى: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فهذان بناء ان جاءا بصيغة أفعل، أحدهما مباح كقول:" فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «1»" والثاني واجب. وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف. الخامسة- قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) اختلف الناس في تفسير هذا الحق، ما هو، فقال أنس بن مالك وابن عباس وطاوس والحسن وابن زيد وابن الحنفية والضحاك وسعيد بن المسيب: هي الزكاة المفروضة، العشر ونصف العشر. ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. وحكى الزجاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة. وقال علي بن الحسين وعطاء والحكم وحماد وسعيد بن جبير ومجاهد: هو حق في المال سوى «2» الزكاة، الله به ندبا. وروى عن
__________
(1). راجع ج 18 ص 108.
(2). وذلك قوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فإنها مكية.

ابن عمر ومحمد ابن الحنفية أيضا، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألق لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته «1» وذريته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت «2» كيله فأخرج منه زكاته. وقول ثالث هو منسوخ بالزكاة، لأن هذه السورة مكية وآية الزكاة لم تنزل إلا بالمدينة:" خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «3»"،" وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ «4»". روى عن ابن عباس وابن الحنفية والحسن وعطية العوفي والنخعي وسعيد بن جبير. وقال سفيان: سألت السدي عن هذه الآية فقال. نسخها العشر ونصف العشر. فقلت عمن؟ فقال عن العلماء. السادسة- وقد تعلق أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم ما في قوله عليه السلام:" فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح «5» أو دالية نصف العشر" في إيجاب الزكاة في كل ما تنبت الأرض طعاما كان أو غيره. وقال أبو يوسف عنه: إلا الحطب والحشيش والقضب والتين والسعف «6» وقصب الذريرة «7» وقصب السكر. وأباه الجمهور، معولين على أن المقصود من الحديث بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر. قال أبو عمر: لا اختلاف بين العلماء فيما علمت أن الزكاة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب «8». وقالت طائفة: لا زكاة في غيرها. روي ذلك عن الحسن وابن سيرين والشعبي. وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك يحيى بن آدم، وإليه ذهب أبو عبيد. وروي ذلك عن أبي موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مذهب أبي موسى، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب، ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبيه. وقال مالك وأصحابه: الزكاة واجبة في كل مقتات مدخر، وبه قال الشافعي. وقال الشافعي: إنما تجب الزكاة فيما ييبس يدخر في كل مقتات مأكولا. ولا شي في الزيتون لأنه إدام. وقال أبو ثور مثله. وقال أحمد أقوالا أظهرها أن الزكاة إنما تجب في كل ما قال أبو حنيفة إذا كان
__________
(1). من ك، ز.
(2). في ع: وإذا عزمت على كلية فأخرج لهم زكاته.
(3). راجع ج 8 ص 144.
(4). راجع ج 1 ص 343.
(5). النضح: سقى الزرع وغيره بالسانيه وهى الناقة يستقي عليها.
(6). في ك: الشعف: هو قشر الغاف. [.....]
(7). الذريرة: قصب يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به.
(8). يعنى الحبوب الستة أي والذرة والسلت فإنه لا خلاف بينهم في زكاتها.

يوسق، فأوجبها في اللوز لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود. واحتج بقول عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة) قال: فبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن محل الواجب هو الوسق، وبين المقدار الذي يجب إخراج الحق منه. وذهب النخعي إلى أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجته الأرض، حتى في عشر دساتج «1» من بقل دستجة بقل. وقد أختلف عنه في ذلك، وهو قول عمر بن عبد العزيز فإنه كتب أن يؤخذ مما تنبت الأرض من قليل أو كثير العشر، ذكره عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل، قال: كتب عمر «2» ...، فذكره. وهو قول حماد بن أبي سليمان وتلميذه أبي حنيفة. وإلى هذا مال ابن العربي في أحكامه فقال: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، واخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه. وقال في كتاب (القبس بما عليه الإمام مالك بن أنس) فقال: قال الله تعالى:" وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ". واختلف الناس في وجوب الزكاة في جميع ما تضمنته أو بعضه، وقد بينا ذلك، في (الأحكام) لبابه، أن الزكاة إنما تتعلق بالمقتات كما بينا دون الخضراوات، وقد كان بالطائف الرمان والفرسك «3» والأترج فما اعترضه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا ذكره ولا أحد من خلفائه. قلت: هذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة، وأن الخضراوات ليس فيها شي. وأما الآية فقد أختلف فيها، هل هي محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب. ولا قاطع يبين أحد محاملها «4»، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه: أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعد استقرار الأحكام في المدينة، أفيجوز أن يتوهم متوهم أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ولا في خلافة أبي بكر، حتى عمل بذلك الكوفيون؟. إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا وقال به! قلت: ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «5»" أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه أو ببيانه؟ حاشاه عن ذلك
__________
(1). الدستجة: الحزمة. تعليق الحكم بالوسق لا يتسق مع هذه الروية لتخصيصها ولكن مع رواية البخاري" ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فتأمل.
(2). من ك.
(3). الفرسك: الخوخ أو ضرب منه أجرد أحمر أو ما ينفلق عن نواة.
(4). في ك: محتملاتها.
(5). راجع ج 6 ص 242.

وقال تعالى:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1»" ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا. وقال جابر بن عبد الله فيما رواه الدارقطني: إن المقاثئ «2» كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شي. وقال الزهري والحسن: تزكى أثمان الخضر إذا بيعت «3» وبلغ الثمن مائتي درهم، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه. ولا حجة في قولهما لما ذكرنا. وقد روى الترمذي عن معاذ أنه كتب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال: (ليس فيها شي). وقد روي هذا المعنى عن جابر وأنس وعلي ومحمد بن عبد الله بن جحش وأبي موسى وعائشة. ذكر أحاديثهم الدارقطني رحمه الله. قال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شي. واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة). قال أبو عمر: وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا، وإنما هو من قول إبراهيم. قلت: وإذا سقط الاستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها فلم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية، وعموم قول عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) ما ذكرنا. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في شي من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة. وكان محمد يعتبر في العصفر والكتان البزر، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق كان العصفر والكتان تبعا للبزر، واخذ منه العشر أو نصف العشر. وأما القطن فليس (فيه «4» عنده دون خمسة أحمال شي، والحمل ثلاثمائة من بالعراقي. والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منها شي. فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة، عشرا أو نصف، العشر. وقال أبو يوسف: وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج، فيه ما في الزعفران. وأوجب عبد الملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول. وهذا خلاف
__________
(1). راجع ج 6 ص 61.
(2). المقاثي. (جمع مقثأة بفتح الثاء وضمها): موضع القثاء.
(3). كذا في ج وك وز: وفي أو ب: أينعت.
(4). من ك.

ما عليه مالك وأصحابه، لا زكاة عندهم لا في اللوز ولا في الجوز ولا في الجلوز «1» وما كان مثلها، وإن كان ذلك يدخر. كما أنه لا زكاة عندهم في الإجاص «2» ولا في التفاح ولا في الكمثرى، ولا ما كان مثل ذلك كله مما لا ييبس ولا يدخر. واختلفوا في التين، والأشهر عند أهل المغرب ممن يذهب مذهب مالك أنه لا زكاة عندهم في التين. إلا عبد الملك بن حبيب فإنه كان يرى فيه الزكاة على مذهب مالك، قياسا على التمر والزبيب. وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم البغداد بين المالكيين، إسماعيل بن إسحاق ومن اتبعه. قال مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم، أنه ليس في شي من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك. وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه. قال أبو عمر: فأدخل التين في هذا الباب، وأظنه (والله أعلم) لم يعلم بأنه ييبس ويدخر ويقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب، لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان. وقد بلغني عن الأبهري وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه، ويرونه مذهب مالك على أصوله عندهم. والتين مكيل يراعى فيه الخمسة الأوسق وما كان مثلها وزنا، ويحكم في التين عندهم بحكم التمر والزبيب المجتمع عليهما. وقال الشافعي: لا زكاة في شي من الثمار غير التمر والعنب، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ الصدقة منهما وكانا قوتا بالحجاز يدخر. قال: وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما، لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتا فيما علمت، وإنما كانا فاكهة. ولا زكاة في الزيتون، لقول تعالى:" وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ" فقرنه مع الرمان، ولا زكاة فيه. وأيضا فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه. وللشافعي قول بزكاة الزيتون قاله بالعراق، والأول «3» قال بمصر، فاضطرب قول الشافعي في الزيتون، ولم يختلف فيه قول مالك. فدل على أن الآية محكمة عندهما غير منسوخة. واتفقا «4» جميعا على أن لا زكاة في الرمان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه. قال أبو عمر: فإن كان الرمان خرج باتفاق فقد بان بذلك المراد بأن الآية ليست على عمومها، وكان الضمير عائدا على بعض المذكور دون بعض. والله أعلم.
__________
(1). الجلوز: البندق.
(2). الإجاص: شجر معروف واحدته إجاصة. ثمره حلو لذيذ.
(3). في ك: والأولى ما قاله بمصر. [.....]
(4). في ك: والفقهاء جميعا.

قلت: بهذا استدل من أوجب العشر في الخضراوات فإنه تعالى قال:" وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ" والمذكور قبله الزيتون والرمان، والمذكور عقيب. جملة ينصرف إلى الأخير بلا خلاف، قال الكيا الطبري. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما لقحت رمانة قط إلا بقطرة من ماء الجنة. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا أكلتم الرمانة فكلوها بشحمها فإنه دباغ المعدة. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق عن ابن عباس قال: لا تكسروا الرمانة من رأسها فإن فيها دودة يعتري منها الجذام. وسيأتي منافع زيت الزيتون في سورة" المؤمنون «1»" إن شاء الله تعالى. وممن قال بوجوب زكاة الزيتون الزهري والأوزاعي والليث والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور. قال الزهري والأوزاعي والليث: يخرص «2» زيتونا ويؤخذ زيتا صافيا. وقال مالك: لا يخرص، ولكن يؤخذ العشر بعد أن يعصر ويبلغ كيله خمسة أوسق. وقال أبو حنيفة والثوري: يؤخذ من حبه. السابعة- قوله تعالى:" يَوْمَ حَصادِهِ" قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم" حصاده" بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان مشهورتان، ومثله الصرام والصرام والجذاذ والجذاذ والقطاف والقطاف واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال: الأولى: أنه وقت الجذاذ، قال محمد بن مسلمة، لقول تعالى:" يَوْمَ حَصادِهِ". الثاني: يوم الطيب، لأن ما قبل الطيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما، فإذا طاب وحان «3» الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة، ويكون الإيتاء الحصاد لما قد وجب يوم الطيب. الثالث: أنه يكون بعد تمام الخرص، لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها. أصله مجيء الساعي في الغنم، وبه قال المغيرة. والصحيح الأول لنص التنزيل. والمشهور من المذهب الثاني، وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف إذا مات بعد الطيب
__________
(1). راجع ج 12 ص 114.
(2). ستأتي معاني الخرص في المسألة التاسعة.
(3). في ك وز وى: وكان.

زكيت على ملكه، أو قبل الخرص على ورثته. وقال محمد بن مسلمة: إنما قدم الخرص توسعة على أرباب الثمار، ولو قدم رجل زكاته بعد الخرص وقبل الجذاذ يجزه، لأنه أخرجها قبل وجوبها. وقد اختلف العلماء في القول بالخرص وهي:- الثامنة- فكرهه الثوري ولم يجزه بحال، وقال: الخرص غير مستعمل. قال: وإنما على رب الحائط أن يؤدي عشر ما يصير في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق. وروى الشيباني عن الشعبي أنه قال: الخرص اليوم بدعة. والجمهور على خلاف هذا، ثم اختلفوا فالمعظم على جوازه في النخل والعنب، لحديث عتاب بن أسيد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه وأمره أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا. رواه أبو داود. وقال داود بن علي: الخرص للزكاة جائز في النخل، وغير جائز في العنب، ودفع حديث عتاب بن أسيد لأنه منقطع ولا يتصل من طريق صحيح، قال أبو محمد عبد الحق. التاسعة: وصفه الخرص أن يقدر ما على نخله رطبا ويقدر ما ينقص لو يتمر «1»، ثم يعتد بما بقي بعد النقص ويضيف بعض ذلك إلى بعض حتى يكمل الحائط «2»، وكذلك في العنب (في كل دالية «3»). العاشر- ويكفي في الخرص الواحد كالحاكم. فإذا كان في التمر زيادة على ما خرص لم يلزم رب الحائط الإخراج عنه، لأنه حكم قد نفذ، قال عبد الوهاب. وكذلك إذا نقصى لم تنقص الزكاة. قال الحسن: كان المسلمون يخرص عليهم ثم يؤخذ منهم على ذلك الخرص. الحادية عشرة- فإن استكثر رب الحائط الخرص خيره الخارص في أن يعطيه ما خرص واخذ خرصه، ذكره عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن أبي «4» الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: خرص ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم أن اليهود لما خيرهم أخذوا التمر وأعطوه عشرين ألف وسق. قال ابن جريج فقلت لعطاء: فحق على الخارص إذا استكثر سيد المال
__________
(1). في ك: تتمر. أي صار تمرا بتيبيسه.
(2). الحائط البستان.
(3). من ك.
(4). في ك: ابن الزبير.

الخرص أن يخيره كما خير ابن رواحة اليهود؟ قال: أي لعمري! وأى سنة خير من سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثانية عشرة- ولا يكون الخرص إلا بعد الطيب، لحديث عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث ابن رواحة إلى اليهود فيحرص عليهم النخل حين تطيب أول التمرة قبل أن يؤكل منها، ثم يخير يهودا يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه. وإنما كان أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق. أخرجه الدارقطني من حديث ابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة. قال: ورواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وأرسله مالك ومعمر وعقيل عن الزهري عن سعيد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثالثة عشرة- فإذا خرص الخارص فحكمه أن يسقط من خرصه مقدارا ما، لما رواه أبو داود والترمذي والبستي «1» في صحيحه عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع). لفظ الترمذي. قال أبو داود: الخارص يدع الثلث للخرفة: وكذا قال يحيى القطان. وقال أبو حاتم البستي لهذا الخبر صفتان: أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر، والثاني أن يترك ذلك من نفس التمر قبل أن يعشر، إذا كان ذلك حائطا كبيرا يحتمله. الخرفة بضم الخاء: ما يخترف من النخل حين يدرك ثمره، أي يجتنى. يقال: التمر خرفة الصائم، عن الجوهري والهروي. والمشهور من مذهب مالك أنه لا يترك الخارص شيئا في حين خرصه من تمر النخل والعنب إلا خرصه. وقد روى بعض المدنيين أنه يخفف في الخرص ويترك»
للعرايا والصلة ونحوها. الرابعة عشرة- فإن لحقت الثمرة جائحة بعد الخرص وقبل الجذاذ سقطت الزكاة عنه بإجماع من أهل العلم، إلا أن يكون فيما بقي منه خمسة أوسق فصاعدا.
__________
(1). في ك، النسائي.
(2). العرايا (واحدة عرية) وهى النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا. والإعراء أن يجعل له ثمرة عامها.

الخامسة عشرة- ولا زكاة في أقل من خمسة أوسق، كذا جاء مبينا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو في الكتاب مجمل، قال الله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ «1»". وقال تعالى:" وَآتُوا حَقَّهُ". ثم وقع البيان بالعشر ونصف العشر. ثم لما كان المقدار الذي إذا بلغه المال أخذ منه الحق مجملا بينه أيضا فقال: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة) وهو ينفي الصدقة في الخضراوات، إذ ليست مما يوسق، فمن حصل له خمسة أوسق في نصيبه من تمر أو حب وجبت عليه الزكاة، وكذلك من زبيب، وهو المسمى بالنصاب عند العلماء. يقال: وسق ووسق (بكسر الواو وفتحها) وهو ستون صاعا، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي ومبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل «2». السادسة عشرة- ومن حصل له من تمر وزبيب معا خمسة أوسق لم تلزمه الزكاة (إجماعا «3» لأنهما صنفان مختلفان. وكذلك أجمعوا على أنه لا يضاف التمر إلى البر ولا البر إلى الزبيب، ولا الإبل إلى البقر، ولا البقر إلى الغنم. ويضاف الضأن إلى المعز بإجماع. واختلفوا في ضم البر إلى الشعير والسلت وهي: السابعة عشرة- فأجازه مالك في هذه الثلاثة خاصة فقط، لأنها في معنى الصنف الواحد لتقاربها في المنفعة واجتماعها في المنبت والمحصد، وافتراقها في الاسم لا يوجب افتراقها في الحكم كالجواميس والبقر، والمعز والغنم. وقال الشافعي وغيره: لا يجمع بينها، لأنها أصناف مختلفة، وصفاتها متباينة، وأسماؤها متغايرة، وطعمها مختلف، وذلك يوجب افتراقها. والله أعلم. قال مالك: والقطاني كلها صنف واحد، يضم إلى بعض. وقال الشافعي: لا يضم حبة عرفت باسم منفرد دون صاحبتها، وهي خلافها مباينة في الخلقة والطعم إلى غيرها يضم كل صنف بعضه إلى بعض، رديئه إلى جيده، كالتمر وأنواعه، والزبيب أسوده وأحمره، والحنطة وأنواعها من السمراء وغيرها. وهو قول الثوري
__________
(1). راجع ج 3 ص 320.
(2). في المصباح: الرطل بالبغدادي اثنا عشر أوقية والأوقية أستار وثلثا أستار والأستار أربعة مثاقيل ونصف مثقال والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم والدرهم ستة دوانق والدوانق ثمان حبات وخمسا حبة. وعلى هذا فالرطل تسعون مثقالا. وهى مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم.
(3). من ب وز وك.

وأبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد وأبي ثور. وقال الليث: تضم الحبوب كلها: القطنية «1» وغيرها بعضها إلى بعض في الزكاة. وكان أحمد بن حنبل يجبن عن ضم الذهب إلى الورق، وضم الحبوب بعضها إلى بعض، ثم كان في آخر أمره يقول فيها بقول الشافعي. الثامنة عشرة- قال مالك: وما استهلكه منه ربه بعد بدو صلاحه أو بعد ما أفرك حسب عليه، وما أعطاه ربه منه في حصاده وجذاذه، ومن الزيتون في التقاطه، تحرى ذلك وحسب عليه. وأكثر الفقهاء يخالفونه في ذلك، ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدرس. قال الليث في زكاة الحبوب: يبدأ بها قبل النفقة، وما أكل من فريك هو واهلة فلا يحسب عليه، بمنزلة الذي يترك لأهل الحائط يأكلونه فلا يخرص عليهم. وقال الشافعي: يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو واهلة رطبا، لا يخرصه عليهم. وما أكله وهو رطب لم يحسب عليه. قال أبو عمر: أحتج الشافعي ومن وافقه بقول الله تعالى:" كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ". واستدلوا على أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد بهذه الآية. واحتجوا بقول عليه السلام: (إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع). وما أكلت الدواب والبقر منه عند الدرس لم يحسب منه شي على صاحبه عند مالك وغيره. التاسعة- عشرة- وما بيع من الفول والحمص والجلبان أخضر، تحري مقدار ذلك يابسا وأخرجت زكاته حبا. وكذا ما بيع من الثمر أخضر أعتبر وتوخي وخرص يابسا وأخرجت زكاته على ذلك الخرص زبيبا وتمرا. وقيل: يخرج من ثمنه. الموفية عشرين- وأما ما لا يتتمر من ثمر النخل ولا يتزبب من العنب كعنب مصر (وبلحها) 2 (، وكذلك زيتونها الذي لا يعصر، فقال مالك: تخرج زكاته من ثمنه، لا يكلف غير ذلك صاحبه، ولا يراعى فيه بلوغ ثمنه عشرين مثقالا أو مائتي درهم، وإنما ينظر إلى ما يرى أنه يبلغه خمسة أوسق فأكثر. وقال الشافعي: (يخرج «2» عشره أو نصف عشره من وسطه تمرا إذا أكله أهله رطبا أو أطعموه.
__________
(1). القطنية (بضم القاف وكسرها): ما كان سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر. في التذهيب: القطنية اسم جامع للحبوب التي تطبخ مثل العدس والبقلا واللوبيا والحمص ... إلخ. [.....]
(2). من ك. وفى أو ب: نخيلها.

الحادية والعشرون- روى أبو داود عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى عليه وسلم: (فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر «1»، وفيما سقي بالسواني «2» أو النضح نصف العشر وكذلك إن كان يشرب سيحا فيه العشر). وهو الماء الجاري على وجه الأرض، قال ابن السكيت. ولفظ السيح مذكور في الحديث، خرجه النسائي «3». فإن كان يشرب بالسيح لكن رب الأرض لا يملك ماء وإنما يكتريه له فهو كالسماء، على المشهور من المذهب. وراي أبو الحسن اللخمي أنه كالنضح، فلو سقي مرة بماء السماء ومرة بدالية، فقال مالك: ينظر إلى ما تم به الزرع وحيي وكان أكثر، فيتعلق الحكم عليه. هذه رواية ابن القاسم عنه. وروى عنه ابن وهب: إذا سقي نصف سنة بالعيون ثم انقطع فسقي بقية السنة بالناضح فإن عليه نصف زكاته عشرا، والنصف الآخر نصف العشر. وقال مرة: زكاته بالذي تمت به حياته. وقال الشافعي: يزكى واحد منهما بحسابه. مثاله أن يشرب شهرين بالنضح وأربعة بالسماء، فيكون فيه ثلثا العشر لماء السماء وسدس العشر للنضح! وهكذا ما زاد ونقصي بحساب. وبهذا كان يفتي بكار بقتيبة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ينظر إلى الأغلب فيزكي، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك. وروي عن الشافعي. قال الطحاوي: قد اتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يوما أو يومين أنه لا اعتبار به، ولا يجعل لذلك حصة، فدل على أن الاعتبار بالأغلب، والله أعلم. قلت: فهذه جملة من أحكام هذه الآية، ولعل غيرنا يأتي بأكثر منها على ما يفتح الله له. وقد مضى في" البقرة «4»" جملة من معنى هذه الآية، والحمد لله. الثانية والعشرون- وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليس في حب ولا تمر صدقة «5» فخرجه النسائي. قال حمزة الكناني: لم يذكر في هذا الحديث (في حب) غير إسماعيل بن أمية، وهو ثقة قرشي من ولد سعيد بن العاص. قال: وهذه السنة لم يروها أحد عن النبي
__________
(1). البعل: هو ما ينبت من النخيل في أرض يقرب ماءها، فرسخت عروقها في الماء واستغنت عن ماء السماء والأنهار. ويروى: أو كان عثريا. وهو البعلى.
(2). السواني: جمع سانية وهى الناقة التي يستقى عليها.
(3). لم نجد في النسائي هذه الزيادة والله أعلم.
(4). راجع ج 3 ص 321.
(5). بقيته: حتى تبلغ خمسة أوسق الحديث.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصحابه غير أبي سعيد الخدري. قال أبو عمر: هو كما قال حمزة، وهذه سنة جليلة تلقاها الجميع بالقبول، ولم يروها أحد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجه ثابت محفوظ غير أبي سعيد. وقد روى جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ذلك، ولكنه غريب، وقد وجدناه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن. الثالثة والعشرون- قوله تعالى: (وَلا تُسْرِفُوا) الإسراف في اللغة الخطأ. وقال أعرابي أراد قوما: طلبتكم فسرفتكم، أي أخطأت موضعكم. وقال الشاعر:
وقال قائلهم والخيل تخبطهم ... أسرفتم فأجبنا أننا سرف
والإسراف في النفقة: التبذير. ومسرف لقب مسلم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة «1»، لأنه قد أسرف فيها. قال علي بن عبد الله بن العباس:
هم منعوا ذماري يوم جاءت ... كتائب مسرف وبني «2» اللكيعه
والمعنى المقصود من الآية: لا تأخذوا الشيء بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه، قاله أصبغ بن الفرج. ونحوه قول إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف والإسراف في النفقة: التبذير. ومسرف لقب مسلم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة «3»، لأنه قد أسرف فيها. قال علي بن عبد الله بن العباس:
هم منعوا ذماري يوم جاءت ... كتائب مسرف وبنى «4» اللكيعه
والمعنى المقصود من الآية: لا تأخذوا الشيء بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه، قاله إصبع ابن الفرج. ونحوه قول إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف. وقال ابن زيد: هو خطاب للولاة، يقول: لا تأخذوا فوق حقكم وما لا يجب على الناس. والمعنيان يحتملهما قوله عليه السلام: (المعتدي في الصدقة كمانعها). وقال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا. وفي هذا المعنى قيل لحاتم: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. قلت: وهذا ضعيف، يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا، فنزلت" وَلا تُسْرِفُوا" أي لا تعطوا كله. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: جذ معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شي: فنزل" وَلا تُسْرِفُوا". قال السدي:" وَلا تُسْرِفُوا" أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى:" وَلا تُسْرِفُوا" قال: الإسراف ما قصرت «5» عن حق الله تعالى.
__________
(1). بظاهر المدينة المنورة في عهد يزيد بن معاوية.
(2). بظاهر المدينة المنورة في عهد يزيد بن معاوية.
(3). بظاهر المدينة المنورة في عهد يزيد بن معاوية.
(4). في اللسان: بنو اللكيعة. معطوف على فاعل جاءت. في س ر ف. وفي ل ك ع بنى.
(5). في ك: ما يصرف.

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)

قلت: فعلى هذا تكون الصدقة بجميع المال ومنه إخراج حق المساكين داخلين، في حكم السرف، والعدل خلاف هذا، فيتصدق ويبقي كما قال عليه السلام: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى «1» إلا أن يكون قوي النفس غنيا بالله متوكلا عليه منفردا لا عيال له، فله أن يتصدق بجميع ماله، وكذلك يخرج الحق الواجب عليه من زكاة وما يعن في بعض الأحوال من الحقوق المتعينة في المال. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الإسراف ما لم يقدر على رده إلى الصلاح. والسرف ما يقدر على رده إلى الصلاح. وقال النضر بن شميل: الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل. قال جرير:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم منّ ولا سرف
أي إغفال، ويقال: خطأ. ورجل سرف الفؤاد، أي مخطئ الفؤاد غافلة. قال طرفة:
إن امرأ سوف الفؤاد يرى ... عسلا بماء سحابة شتمي

[سورة الأنعام (6): آية 142]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
قوله تعالى: (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) عطف (على ما «2» تقدم). أي وأنشأ حمولة وفرشا من الأنعام. وللعلماء في الأنعام ثلاثة أقوال: أحدها- أن الأنعام الإبل خاصة، وسيأتي في" النحل «3»" بيانه. الثاني- أن الأنعام الإبل وحدها، وإذا كان معها بقر وغنم فهي أنعام أيضا. الثالث- وهو أصحها قال أحمد بن يحيى: الأنعام كل ما أحله الله عز وجل من الحيوان. ويدل على صحة هذا قول تعالى:" أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ «4»" وقد تقدم. والحمولة ما أطاق الحمل والعمل، عن ابن مسعود وغيره. ثم قيل: يختص اللفظ بالإبل. وقيل: كل ما أحتمل عليه الحي من حمار أو بغل أو بعير، عن أبي زيد، سواء كانت عليه الأحمال أو لم تكن.
__________
(1). أي ما كان عفوا قد فضل عن غنى. وقيل: أراد ما فضل عن العيال. والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا للكلام وتمكينا كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال من ابن الأثير.
(2). من ك.
(3). راجع ج 10 ص 68. [.....]
(4). راجع ج 6 ص 33.

قال عنترة:
ما راعني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الحمحم «1»
وفعولة بفتح الفاء إذا كانت بمعنى الفاعل استوى فيها المؤنث والمذكر، نحو قولك: رجل فروقة وامرأة فروقة للجبان والخائف. ورجل صرورة وامرأة صرورة إذا لم يحجا، ولا جمع له. فإذا كانت بمعنى المفعول فرق بين المذكر والمؤنث بالهاء كالحلوبة والركوبة. والحمولة (بضم الحاء): الأحمال. وأما الحمول (بالضم بلا هاء) فهي الإبل التي عليها الهوادج، كان فيها نساء أو لم يكن، عن أبي زيد." وَفَرْشاً" قال الضحاك: الحمولة من الإبل والبقر. والفرش: الغنم. النحاس: واستشهد لصاحب هذا القول بقول:" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ" قال: ف" ثَمانِيَةَ" بدل من قوله:" حَمُولَةً وَفَرْشاً". وقال الحسن: الحمولة الإبل. والفرش: الغنم. وقال ابن عباس: الحمولة كل ما حمل من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير. والفرش: الغنم. وقال ابن زيد: الحمولة ما يركب، والفرش ما يؤكل لحمه ومحلب، مثل الغنم والفصلان والعجاجيل، سميت فرشا للطافة أجسامها وقربها من الفرش، وهي الأرض المستوية التي يتوطؤها الناس. قال الراجز:
أورثني حمولة وفرشا ... أمشها في كل يوم مشا «2»
وقال آخر:
وحوينا الفرش من أنعامكم ... والحمولات وربات الحجل
قال الأصمعي: لم أسمع له بجمع. قال: ويحتمل أن يكون مصدرا سمي به، من قولهم: فرشها الله فرشا، أي بثها بثا. والفرش: المفروش من متاع البيت. والفرش: الزرع إذا فرش. والفرش: الفضاء الواسع. والفرش في رجل البعير: اتساع قليل، وهو محمود. وافترش الشيء انبسط، فهو لفظ مشترك. وقد يرجع قول تعالى:" وَفَرْشاً" إلى هذا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيهما أن الحمولة المسخرة المذللة للحمل. والفرش ما خلقه الله عز وجل من الجلود والصوف مما يجلس ويتمهد. وباقى الآية قد تقدم.
__________
(1). الحمحم (بكسر الحاء ويقال بلخاء): نبات تعلف حبه الإبل.
(2). مش الناقة يمشها مشا: حلبها.

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

[سورة الأنعام (6): الآيات 143 الى 144]
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدى القوم الظالمين (144) فيه ثلاث مسائل: الأولى- قوله تعالى: (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ)" ثَمانِيَةَ" منصوب بفعل مضمر، أي وأنشأ" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ"، عن الكسائي. وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من" حَمُولَةً وَفَرْشاً". وقال الأخفش علي بن سليمان: يكون منصوبا ب" كُلُوا"، أي كلوا لحم ثمانية أزواج. ويجوز أن يكون منصوبا على البدل من" ما" على الموضع. ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى كلوا المباح" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ". ونزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا:" ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا" فنبه الله عز وجل نبيه والمؤمنين بهذه الآية على ما أحله لهم، لئلا يكونوا بمنزلة من حرم ما أحله الله تعالى. والزوج خلاف الفرد، يقال: زوج أو فرد. كما يقال: خسا أو زكا، شفع «1» أو وتر. فقول:" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ" يعني ثمانية أفراد. وكل فرد عند العرب يحتاج إلى آخر يسمى زوجا، فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج. ويقع لفظ الزوج للواحد وللاثنين، يقال هما زوجان، وهما زوج، كما يقال: هما سيان وهما سواء. وتقول: اشتريت زوجي حمام. وأنت تعني ذكرا وأنثى. الثانية- قوله تعالى: (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) أي الذكر والأنثى. والضأن: ذوات الصوف من الغنم، وهي جمع ضائن. والأنثى ضائنة، والجمع ضوائن. وقيل: هو جمع
__________
(1). في ك: لشفع أو وتر.

لا واحد له. وقيل في جمعه: ضئين، كعبد وعبيد. ويقال فيه ضئين. كما يقال في شعير: شعير، كسرت الضاد اتباعا. وقرا طلحة بن مصرف" من الضأن اثنين" بفتح الهمزة، وهي لغة مسموعة عند البصريين. وهو مطرد عند الكوفيين في كل ما ثانيه حرف حلق. وكذلك الفتح والإسكان في المعز. وقرا أبان بن عثمان" من الضأن اثنان ومن المعز اثنان" رفعا بالابتداء. وفي حرف أبي. (ومن المعز اثنان «1») وهي قراءة الأكثر. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بالفتح. قال النحاس: الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان. ويدل على هذا قولهم في الجمع: معيز، فهذا جمع معز. كما يقال: عبد وعبيد. قال امرؤ القيس:
ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان
ومثله ضأن وضئين. والمعز من الغنم خلاف الضأن، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس، وكذلك المعز والمعيز والأمعوز والمعزى. وواحد المعز ماعز، مثل صاحب وصحب وتاجر وتجر. والأنثى ماعزة وهي العنز، والجمع مواعز. وأمعز القوم كثرت معزاهم. والمعاز صاحب المعزى. قال أبو محمد الفقعسي يصف إبلا بكثرة اللبن ويفضلها على الغنم في شدة الزمان:
يكلن كيلا ليس بالممحوق ... إذ رضي المعاز باللعوق
والمعز الصلابة من الأرض. والأمعز: المكان الصلب الكثير الحصى، والمعزاء أيضا. واستمعز الرجل في أمره: جد. (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ) منصوب ب" حَرَّمَ". (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) عطف عليه. وكذا (أَمَّا اشْتَمَلَتْ). وزيدت مع ألف الوصل مدة للفرق بين الاستفهام والخبر. ويجوز حذف الهمزة لأن" أَمِ" تدل على الاستفهام. كما قال:
تروح من الحي أم تبتكر

الثالثة- قال العلماء: الآية احتجاج على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها. وقولهم:" ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا". فدلت على إثبات المناظرة في العلم، لأن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بأن يناظرهم، ويبين لهم فساد قولهم. وفيها إثبات القول بالنظر والقياس. وفيها دليل بأن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به.
__________
(1). كذا في الأصول. والذي في شواذ ابن خالويه: من المعزى أبى وهو الصواب كما في البحر. وروح المعاني. وقراءة أبى: من المعزى اثنين. فيما يتبادر. وقوله: وهى قراءة الأكثر راجع إلى الإسكان في المعز.

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

ويروى:" إذا ورد عليه النقض"، لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصحيحة، وأمرهم بطرد علتهم. والمعنى: قل لهم إن كان حرم الذكور فكل ذكر حرام. لان كان حرم الإناث فكل أنثى حرام. لان كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني من الضأن والمعز، فكل مولود حرام، ذكرا كان أو أنثى. وكلها مولود فكلها إذا حرام لوجود العلة فيها، فبين «1» انتقاض علتهم وفساد قولهم، فأعلم الله سبحانه أن ما فعلوه من ذلك افتراء عليه (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) أي بعلم إن كان عندكم، من أين هذا التحريم الذي افتعلتموه؟ ولا علم عندهم، لأنهم لا يقرءون الكتب. والقول في:" وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ" وما بعده كما سبق (أم كنتم شهداء) أي (هل «2») شاهدتم الله قد حرم هذا. ولما لزمتهم الحجة أخذوا في الافتراء فقالوا: كذا أمر الله. كذا أمر الله. فقال الله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بين أنهم كذبوا، إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل.

[سورة الأنعام (6): آية 145]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
فيه أربع مسائل: الأولى- قوله تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) أعلم الله عز وجل في هذه الآية بما حرم. والمعنى: يا محمد لا أجد فيما أوحي إلي محرما إلا هذه الأشياء لا ما تحرمونه بشهوتكم. والآية مكية. ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة" المائدة" بالمدينة. وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة «3» والمتردية والنطيحة والخمر وغير ذلك. وحرم رسول الله صلى الله عليه بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
__________
(1). في ك: فيكون.
(2). من ك، ع.
(3). الموقوذة: الشاة المضروبة حتى تموت ولم تذك. والمتردية: التي تقع من جبل، أو تطيح في بئر، أو تسقط من موضع مشرف فتموت.

وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال: الأول- ما أشرنا إليه من أن هذه الآية مكية، وكل محرم حرمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو جاء في الكتاب مضموم إليها، فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام. على هذا أكثر أهل العلم من (أهل «1») النظر، والفقه والأثر. ونظيره نكاح «2» المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله:" وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ «3» ذلِكُمْ" وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قول:" فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ «4»" وقد قيل: إنها منسوخة بقوله عليه السلام (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) أخرجه مالك، وهو حديث صحيح. وقيل: الآية محكمة ولا حرام إلا ما فيها وهو قول يروى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة، وروي عنهم خلافه. قال مالك: لا حرام بين إلا ما ذكر في هذه الآية. وقال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تحليل كل شي من الحيوان وغيره إلا ما استثني في الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير. ولهذا قلنا: إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح. وقال الكيا الطبري: وعليها بنى الشافعي تحليل كل مسكوت عنه، أخذا من هذه الآية، إلا ما دل عليه الدليل. وقيل: إن الآية جواب لمن سأل عن شي بعينه فوقع الجواب مخصوصا. وهذا مذهب الشافعي. وقد روى الشافعي عن سعيد بن جبير أنه قال: في هذه الآية أشياء سألوا عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء. وقيل: أي لا أجد فيما أوحي إلى أي في، هذه الحال حال الوحي ووقت نزوله، ثم لا يمتنع حدوث وحي بعد ذلك بتحريم أشياء أخر. وزعم ابن العربي أن هذه الآية مدنية (وهي «5») مكية في قول الأكثرين، نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم نزل عليه" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»
" ولم ينزل بعدها ناسخ فهي محكمة، فلا محرم إلا ما فيها، وإليه أميل. قلت: وهذا ما رأيته قال غيره. وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الإجماع في أن سورة" الأنعام" مكية إلا قوله تعالى:" قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" الثلاث الآيات، وقد
__________
(1). من ع.
(2). أي تحريمه.
(3). راجع ج 5 ص 124.
(4). راجع ج 3 ص 391.
(5). من ك.
(6). راجع ج 6 ص 47. [.....]

نزل بعدها قرآن كثير وسنن جمة. فنزل تحريم الخمر بالمدينة في" المائدة". وأجمعوا على أن نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قوله:" قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً" لأن ذلك مكي. قلت: وهذا هو مثار الخلاف بين العلماء. فعدل جماعة عن ظاهر الأحاديث الواردة بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، لأنها متأخرة عنها والحصر فيها ظاهر فالأخذ بها أولى، لأنها إما ناسخة لما تقدمها أو راجحة على تلك الأحاديث. وأما القائلون بالتحريم فظهر لهم وثبت عندهم أن سورة" الأنعام" مكية، نزلت قبل الهجرة، وأن هذه الآية قصد بها الرد على الجاهلية في تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ثم بعد ذلك حرم أمورا كثيرة كالحمر الإنسية ولحوم البغال وغيرها، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. قال أبو عمر: ويلزم على قول من قال:" لا محرم إلا ما فيها" ألا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا، وتستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وفي إجماع المسلمين على تحريم خمر العنب دليل واضح على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد وجد فيما أوحي إليه محرما غير ما في سورة" الأنعام" مما «1» قد نزل بعدها من القرآن. وقد اختلفت الرواية عن مالك في لحوم السباع والحمير والبغال فقال (مرة «2»): هي محرمة، لما ورد من نهيه عليه السلام عن ذلك، وهو الصحيح من قول على ما في الموطأ. وقال مرة: هي مكروهة، وهو ظاهر المدونة، لظاهر الآية، ولما روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة من إباحة أكلها وهو قول الأوزاعي. روى البخاري من رواية عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن لحوم الحمر الأهلية؟ فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرا" قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً". وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع فقال: لا بأس بها. فقيل له: حديث أبي ثعلبة الخشني «3»
__________
(1). في ك: فيما.
(2). من ك.
(3). حديث أبى ثعلبة: أنه روى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أكل كل ذى ناب من السباع حرام".

فقال: لا ندع كتاب الله ربنا لحديث «1» أعرابي يبول على ساقيه. وسيل الشعبي عن لحم الفيل والأسد فتلا هذه الآية: وقال القاسم: كانت عائشة تقول لما سمعت الناس يقولون حرم كل ذي ناب من السباع: ذلك حلال، وتتلو هذه الآية" قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً" ثم قالت: إن كانت البرمة ليكون ماؤها أصفر من الدم ثم يراها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يحرمها. والصحيح في هذا الباب ما بدأنا بذكره، وإن ما ورد من المحرمات بعد الآية مضموم إليها معطوف عليها. وقد أشار القاضي أبو بكر بن العربي إلى هذا في قبسه خلاف ما ذكر في أحكامه قال: روي عن ابن عباس أن هذه الآية من آخر ما نزل، فقال البغداديون من أصحابنا: إن كل ما عداها حلال، لكنه يكره أكل السباع. وعند فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وعبد الملك أن أكل كل ذي ناب من السباع حرام، وليس يمتنع أن تقع الزيادة بعد قوله:" قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً" بما يرد من الدليل فيها، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) فذكر الكفر والزنى والقتل. ثم قال علماؤنا: إن أسباب القتل عشرة بما ورد من الأدلة، إذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يخبر بما وصل إليه من العلم عن الباري تعالى، وهو يمحو ما يشاء ويثبت وينسخ ويقدم. وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) وقد روي أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير. وروى مسلم عن معن عن مالك:" نهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير" والأول أصح وتحريم كل ذي ناب من السباع هو صريح المذهب وبه ترجم مالك في الموطأ حين قال: تحريم أكل كل ذي ناب من السباع. ثم ذكر الحديث وعقبه بعد ذلك بأن قال: وهو الأمر عندنا. فأخبر أن العمل أطرد مع الأثر. قال القشيري: فقول مالك" هذه الآية من أواخر ما نزل" لا يمنعنا من «2» أن نقول: ثبت تحريم بعض هذه الأشياء بعد هذه الآية، وقد أحل الله الطيبات وحرم الخبائث، ونهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن أكل كل ذي مخلب من الطير، ونهى عن لحوم الحمر الأهلية
__________
(1). في ج وى وك وب: لقول.
(2). في ك: بل نقول ثبت إلخ.

عام خيبر. والذي يدل على صحة هذا التأويل الإجماع على تحريم العذرة والبول والحشرات المستقذرة والحمر مما ليس مذكورا في هذه الآية. الثانية- قوله تعالى:" مُحَرَّماً" قال ابن عطية: لفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور غاية الحظر والمنع، وصالحة (أيضا) 1 بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهة ونحوها، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع الكل منهم ولم تضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع، ولحق بالخنزير والميتة والدم، وهذه صفة تحريم الخمر. وما اقترنت به قرينة اضطراب ألفاظ الأحاديث واختلفت الأئمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام). وقد ورد نهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل كل ذي ناب من السباع، ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك، فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها. وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنه نجس، وتأول بعضهم ذلك لئلا تفنى حمولة الناس، وتأول بعضهم التحريم المحض. وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها، فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها نحوها «1» (بحسب اجتهاده وقياسه. قلت: وهذا عقد حسن في هذا الباب وفي سبب الخلاف على ما تقدم. وقد قيل: إن الحمار لا يؤكل، لأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط، فسمي رجسا. قال محمد بن سيرين: ليس شي من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار، ذكره الترمذي في نوادر الأصول. الثالثة- روى عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء، فبعث الله نبيه عليه السلام وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه الآية
__________
(1). من ك.

" قُلْ لا أَجِدُ" الآية. يعني ما لم يبين تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية. وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس أنه قرأ" قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً" قال: إنما حرم من الميتة أكلها، ما يؤكل منها وهو اللحم، فأما الجلد والعظم والصوف والشعر فحلال. وروى أبو داود عن ملقام بن تلب عن أبيه قال: صحبت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم أسمع لحشره الأرض تحريما. الحشرة: صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب والقنافذ. ونحوها، قال الشاعر:
أكلنا الربى «1» يا أم عمرو ومن يكن ... غريبا لديكم يأكل الحشرات
أي ما دب ودرج. والربى جمع ربية وهي الفأرة. قال الخطابي: وليس في قوله" لم أسمع لها تحريما" دليل على أنها مباحة، لجواز أن يكون غيره قد سمعه. وقد اختلف الناس في اليربوع والوبر «2» والجمع وبار ونحوهما من الحشرات، فرخص في اليربوع عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور. قال الشافعي: لا بأس بالوبر وكرهه ابن سيرين والحكم وحماد وأصحاب الرأي. وكره أصحاب الرأي القنفذ. وسيل عنه مالك بن أنس فقال: لا أدري. وحكى أبو عمرو: وقال مالك لا بأس بأكل القنفذ. وكان أبو ثور لا يرى به بأسا، وحكاه عن الشافعي. وسيل عنه ابن عمر فتلا" قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً" الآية، فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (خبيثة من الخبائث). فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا فهو كما قال. ذكره أبو داود. وقال مالك: لا بأس بأكل الضب واليربوع والورل «3». وجائز عنده أكل الحيات إذا ذكيت، وهو قول ابن أبي ليلى والأوزاعي. وكذلك الأفاعي والعقارب والفأر و«4» العظاية والقنفذ والضفدع. وقال ابن القاسم: ولا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك، لأنه قال: موته في الماء لا يفسده. وقال مالك: لا بأس بأكل فراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه.
__________
(1). في ك: الدبى. ولعل قول المؤلف: ما دب ودرج يدل على هذا لكن البيت الربا. كما في باقى الأصول واللسان والتاج وفيهما: غريبا بأرض.
(2). الوبر (بالتسكين): دويبة على قدر السنور غبراء أو بيضاء من دواب الصحراء حسنه العينين شديدة الحياء تكون بالغور.
(3). الورل: دابه على خلقه النصب إلا أنه أعظم منه، يكون في الرمال والصحارى.
(4). العظاية: دويبة كسام أبرص.

والحجة له حديث ملقام «1» بن تلب، وقول ابن عباس وأبي الدرداء: ما أحل الله فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. وقالت عائشة في الفأرة: ما هي بحرام، وقرأت" قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً". ومن علماء أهل المدينة جماعة لا يجيزون أكل كل شي من خشاش الأرض وهوامها، مثل الحيات والأوزاغ والفأر وما أشبهه. وكل ما يجوز قتله فلا يجوز عند هؤلاء أكله، ولا تعمل الذكاة عندهم فيه. وهو قول ابن شهاب وعروة والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم. ولا يؤكل عند مالك وأصحابه شي من سباع الوحش كلها، ولا الهر الأهلي ولا الوحشي لأنه سبع. وقال: ولا يؤكل الضبع ولا الثعلب، ولا بأس بأكل سباع الطير كلها: الرخم والنسور والعقبان وغيرها، ما أكل الجيف منها وما لم يأكل. وقال الأوزاعي الطير كله حلال، إلا أنهم يكرهون الرخم. وحجة مالك أنه لم يجد أحدا من أهل العلم يكره أكل سباع الطير، وأنكر الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنه نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطير). وروي عن أشهب أنه قال: لا بأس بأكل الفيل إذا ذكي، وهو قول الشعبي، ومنع منه الشافعي. وكره النعمان وأصحابه أكل الضبع والثعلب. ورخص في ذلك الشافعي، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضباع. وحجة مالك، عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ولم يخصي سبعا من سبع. وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي، لأنه حديث أنفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار، وليس مشهورا بنقل العلم، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه. قال أبو عمر: وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة. وروى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار. قال أبو عمر: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكله، ولا يجوز بيعه لأنه لا منفعة فيه. قال: وما علمت أحدا رخص في أكله إلا ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن أيوب. سئل مجاهد عن أكل القرد فقال: ليس من بهيمة الأنعام.
__________
(1). في التذهيب: ابن التلب.

قلت: ذكر ابن المنذر أنه قال: روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم فقال: يحكم به ذوا عدل. قال: فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه، لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد. وفي (بحر المذهب) للروياني على مذهب الإمام الشافعي: وقال الشافعي يجوز بيع القرد لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع. وحكى الكشفلي عن ابن شريح يجوز بيعه لأنه ينتفع به. فقيل له: وما وجه الانتفاع به؟ قال تفرح به الصبيان. قال أبو عمر: والكلب والفيل وذو الناب كله عندي مثل القرد. والحجة في قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا في قول غيره. وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس. وروى أبو داود عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل الجلالة وألبانها. في رواية: عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها. قال الحليمي أبو عبد الله: فأما الحلالة فهي التي تأكل العذرة من الدواب والدجاج المخلاة. ونهى النبي عن لحومها. وقال العلماء: كل ما ظهر منها ريح العذرة في لحمه أو طعمه فهو حرام، وما لم يظهر فهو حلال. وقال الخطابي: هذا نهي تنزه وتنظف، وذلك أنها إذا اغتذت الجلة وهي العذرة وجد نتن رائحتها في لحومها، وهذا إذا كان غالب علفها منها، فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب وكانت تنال مع ذلك شيئا من الجلة فليست بجلالة، وإنما هي كالدجاج المخلاة، ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشيء منها وغالب غذائه وعلفه من غيره فلا يكره أكلها. وقال أصحاب الرأي والشافعي وأحمد: لا تؤكل حتى تحبس أياما وتعلف علفا غيرها، فإذا طاب لحمها أكلت. وقد روي في الحديث (أن البقر تعلف أربعين يوما ثم يؤكل لحمها). وكان ابن عمر يحبس الدجاج ثلاثا ثم يذبح. وقال إسحاق: لا بأس بأكلها بعد أن يغسل لحمها غسلا جيدا. وكان الحسن لا يرى بأسا بأكل لحم الجلالة، وكذلك مالك بن أنس. ومن هذا الباب نهي أن تلقى في الأرض العذرة. روي عن بعضهم قال: كنا نكري أرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونشترط على من يكريها ألا يلقي فيها العذرة. وعن ابن عمر أنه كان يكري أرضه ويشترط ألا تدمن «1» بالعذرة. وروي أن رجل كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر: أنت الذي تطعم الناس ما يخرج ما منهم.
__________
(1). دمن الأرض (من باب نصر): أصلحها بالسرجين. وهو السماد. وفى ب وك: تدنس.

واختلفوا في أكل الخيل، فأباحها الشافعي، وهو الصحيح، وكرهها مالك. وأما البغل فهو متولد من بين الحمار والفرس، واحدهما مأكول أو مكروه وهو الفرس، والآخر محرم وهو الحمار، فغلب حكم التحريم، لأن التحليل والتحريم إذا اجتمعا في عين واحدة غلب حكم التحريم. وسيأتي بيان هذه المسألة في" النحل «1»" إن شاء الله بأوعب من هذا. وسيأتي حكم الجراد في" الأعراف «2»". والجمهور من الخلف والسلف على جواز أكل الأرنب. وقد حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص تحريمه. وعن ابن أبي ليلى كراهته. قال عبد الله بن عمرو: جئ بها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا جالس فلم يأكلها ولم ينه عن أكلها. وزعم أنها تحيض. ذكره أبو داود. وروى النسائي مرسلا عن موسى بن طلحة قال: أتي النبي بأرنب قد شواها رجل وقال: يا رسول الله، إني رأيت بها دما، فتركها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يأكلها، وقال لمن عنده: (كلوا فإني لو اشتهيتها أكلتها). قلت: وليس في هذا ما يدل على تحريمه، وإنما هو نحو من قول عليه السلام: (إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني إعافة). وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: مررنا بمر الظهران فاستنفجنا «3» أرنبا فسعوا عليه فلغبوا «4». قال: فسعيت حتى أدركتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، فبعث بوركها وفخذها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتيت بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله. الرابعة- قوله تعالى: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي أكل يأكله. وروي عن ابن عامر أنه قرأ" أوحى" بفتح الهمزة. وقرا علي بن أبي طالب" يطعمه" مثقل الطاء، أراد يتطعمه فأدغم. وقرأت عائشة ومحمد ابن الحنفية" عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ" بفعل ماض إلا أن يكون ميتة قرئ بالياء والتاء، أي إلا أن تكون العين أو الجثة أو النفس ميتة. وقرى" يَكُونَ" بالياء" مَيْتَةً" بالرفع بمعنى تقع وتحدث ميتة. والمسفوح: الجاري الذي يسيل
__________
(1). راجع ج 10 ص 73 فما بعد.
(2). راجع ص 268 فما بعد من هذا الجزء. [.....]
(3). قال النووي: معنى استنفجنا: أئرنا ونفرنا. ومر الظهران (بفتح الميم والظلة): موضع قريب من مكة.
(4). فلغبوا: أي أعيوا وعجزوا عن أخذها.

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)

وهو المحرم. وغيره معفو عنه. وحكى الماوردي أن الدم غير المسفوح أنه إن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال، لقول عليه السلام: (أحلت لنا ميتتان ودمان) الحديث. وإن كان غير ذي عروق يجمد عليها، وإنما هو مع اللحم ففي تحريمه قولان: أحدهما أنه حرام، لأنه من جملة المسفوح أو بعضه. وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه. والثاني أنه لا يحرم، لتخصيص التحريم بالمسفوح. قلت: وهو الصحيح. قال عمران بن حدير: سألت أبا مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم، وعن القدر تعلوها الحمرة من الدم فقال: لا بأس به، إنما حرم الله المسفوح. وقالت نحوه عائشة وغيرها، وعليه إجماع العلماء. وقال عكرمة: لولا هذه الآية لأتبع المسلمون من العروق ما تتبع اليهود. وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ. وقد تقدم هذا وحكم المضطر في (البقرة «1») والله أعلم «2».

[سورة الأنعام (6): آية 146]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146)
فيه ست مسائل: الأولى- قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) لما ذكر الله عز وجل ما حرم على أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقب ذلك بذكر ما حرم على اليهود، لما في ذلك من تكذيبهم في قولهم: إن الله لم يحرم علينا شيئا، وإنما نحن حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه. وقد تقدم في البقرة معنى (هادوا «3». وهذا التحريم على الذين هادوا إنما هو تكليف بلوى وعقوبة. فأول ما ذكر من المحرمات عليهم كل ذي ظفر. وقرأ الحسن" ظفر" بإسكان الفاء. وقرأ أبو السمال" ظفر" بكسر الظاء وإسكان الفاء. وأنكر أبو حاتم كسر
__________
(1). راجع ج 2 ص 216. ما بعدها.
(2). في ج. وفي ز: يتلوه.
(3). راجع ج 1 ص 432.

الظاء وإسكان الفاء، ولم يذكر هذه القراءة وهي لغة." وظفر" بكسرهما. والجمع أظفار وأظفور وأظافير «1»، قال الجوهري. وزاد النحاس عن الفراء أظافير وأظافره، قال ابن السكيت: يقال رجل أظفر بين الظفر إذا كان طويل الأظفار، كما يقال: رجل أشعر للطويل الشعر. قال مجاهد وقتادة:" ذِي ظُفُرٍ" ما ليس بمنفرج الأصابع من البهائم والطير، مثل الإبل والنعام والإوز والبط. وقال ابن زيد: الإبل فقط. وقال ابن عباس:" ذِي ظُفُرٍ" البعير والنعامة، لأن النعامة ذات ظفر كالإبل. وقيل: يعني كل ذي بخلب من الطير وذي حافر من الدواب. ويسمى الحافر ظفرا استعارة. وقال الترمذي الحكيم: الحافر ظفر، والمخلب ظفر، إلا أن هذا على قدره، وذاك على قدره وليس هاهنا استعارة، ألا ترى أن كليهما يقص ويؤخذ منهما وكلاهما جنس واحد: عظم لين رخو. أصله من غذاء ينبت فيقص مثل ظفر الإنسان، وإنما سمي حافرا لأنه يحفر الأرض بوقعة عليها. وسمي مخلبا لأنه يخلب الطير برءوس تلك الإبر منها. وسمي ظفرا لأنه يأخذ الأشياء بظفره، أي يظفر به الآدمي والطير. الثانية- قوله تعالى: (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) قال قتادة: يعني الثروب وشحم الكليتين، وقال السدي. والثروب جمع الثرب، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش. قال ابن جريج: حرم عليهم كل شحم غير مختلط بعظم أو على عظم، وأحل لهم شحم الجنب والألية، لأنه على العصعص. الثالثة- قوله تعالى: (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما)" ما" في موضع نصب على الاستثناء" ظُهُورُهُما" رفع" ب" حَمَلَتْ". (أو الحوايا) في موضع رفع عطف على الظهور أي أو حملت حواياهما، والألف واللام بدل من الإضافة. وعلى هذا تكون الحوايا من جملة ما أحل. (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)" ما" في موضع نصب عطف على" ما حَمَلَتْ" أيضا هذا أصح ما قيل فيه. وهو. قول الكسائي والفراء وأحمد بن يحيى. والنظر يوجب أن يعطف
__________
(1). في الأصول:" .. أظافر وأظافره، مثل ضاربه وضوارب ..". فقوله: مثل ضاربة وضوارب خطأ من النساخ.

الشيء على ما يليه، إلا ألا يصح معناه أو يدل دليل على غير ذلك. وقيل: إن الاستثناء في التحليل إنما هو ما حملت الظهور خاصة، وقوله:" أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ" معطوف على المحرم. والمعنى: حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم. وقد احتج الشافعي بهذه الآية في أن من حلف ألا يأكل الشحم حنث بأكل شحم الظهور، لاستثناء الله عز وجل ما على ظهورهما من جملة الشحم. الرابعة- قوله تعالى: (أَوِ الْحَوايا): الحوايا: هي المباعر، عن ابن عباس وغيره. وهو جمع مبعر، سمي بذلك لاجتماع البعر فيه. وهو الزبل. وواحد الحوايا حاوياء، مثل قاصعاء وقواصع. وقيل: حاوية مثل ضاربة وضوارب. وقيل: حوية مثل سفينة وسفائن. قال أبو عبيدة: الحوايا ما تحوى من البطن أي استدار. وهي منحوية أي مستديرة. وقيل: الحوايا خزائن اللبن، وهو يتصل بالمباعر وهي المصارين. وقيل: الحوايا الأمعاء التي عليها الشحوم. والحوايا في غير هذا الموضع: كساء يحوى حول سنام البعير. قال امرؤ القيس:
جعلن حوايا واقتعدن قعائدا ... وخففن من حوك العراق المنمق
فأخبر الله سبحانه أنه كتب عليهم تحريم هذا في التوراة ردا لكذبهم. ونصه فيها:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ" الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر وكل حوت ليس فيه سفاسق «1»" أي بياض. ثم نسخ الله ذلك كله بشريعة محمد. وأباح لهم ما كان محرما عليهم من الحيوان، وأزال الحرج بمحمد عليه السلام، وألزم الخليقة دين الإسلام بحله وحرمه وأمره ونهيه. الخامسة- لو ذبحوا أنعامهم فأكلوا ما أحل الله لهم في التوراة وتركوا ما حرم (عليهم «2») فهل يحل لنا، قال مالك في كتاب محمد: هي محرمة. وقال في سماع المبسوط: هل محللة وبه قال ابن نافع وقال ابن القاسم: أكرهه. وجه الأول أنهم يدينون بتحريمها ولا يقصدونها عند الذكاة، فكانت محرمة كالدم. ووجه الثاني وهو الصحيح أن الله عز وجل رفع ذلك التحريم بالإسلام، واعتقادهم فيه لا يؤثر، لأنه اعتقاد فاسد، قاله ابن العربي.
__________
(1). كذا في ز. ولعل المراد الطرائق. وفي ك: سقاشق. وفي ى: شفاشق.
(2). من ك.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

قلت: ويدل على صحته ما رواه الصحيحان عن عبد الله بن مغفل قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت «1» لآخذه فالتفت فإذا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستحييت منه. لفظ البخاري. ولفظ مسلم: قال عبد الله بن مغفل: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، قال فالتزمته وقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، قال: فالتفت فإذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متبسما. قال علماؤنا: تبسمه عليه السلام إنما كان لما رأى من شدة حرص ابن مغفل على أخذ الجراب ومن ضنته به، ولم يأمره بطرحه ولا نهاه. وعلى جواز الأكل مذهب أبي حنيفة والشافعي وعامة العلماء، غير أن مالكا كرهه للخلاف فيه. وحكى ابن المنذر عن مالك تحريمها، وإليه ذهب كبراء أصحاب مالك. ومتمسكهم ما تقدم، والحديث حجة عليهم، فلو ذبحوا كل ذي ظفر قال أصبغ: ما كان محرما في كتاب الله من ذبائحهم فلا يحل أكله، لأنهم يدينون بتحريمها. وقاله أشهب وابن القاسم، وأجازه ابن وهب. وقال ابن حبيب: ما كان محرما عليهم، وعلمنا ذلك من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم، وما لم نعلم تحريمه إلا من أقوالهم واجتهادهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم. السادسة- قوله تعالى: (ذلِكَ) أي ذلك التحريم. فذلك في موضع رفع، أي الأمر ذلك. (جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي بظلمهم، عقوبة لهم لقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل. وفي هذا دليل على أن التحريم إنما يكون بذنب، لأنه ضيق فلا يعدل عن السعة إليه إلا عند المؤاخذة. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في أخبارنا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من اللحوم والشحوم.

[سورة الأنعام (6): آية 147]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
__________
(1). النزو: الوثب.

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)

قوله تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) شرط والجواب (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) أي من سعة رحمته حلم عنكم فلم يعاقبكم في الدنيا. ثم أعده لهم في الآخرة من العذاب فقال: (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) وقيل: المعنى ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين إذا أراد حلوله في الدنيا.

[سورة الأنعام (6): آية 148]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)
قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قال مجاهد: يعني كفار قريش. (قالوا «1») (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) يريد البحيرة والسائبة والوصيلة. أخبر الله عز وجل بالغيب عما سيقولونه «2»، وظنوا أن هذا متمسك لهم لما لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما كانوا عليه. والمعنى: لو شاء الله لأرسل إلى آبائنا رسولا فنهاهم عن الشرك وعن تحريم ما أحل (لهم «3») فينتهوا فأتبعناهم على ذلك. فرد الله عليهم ذلك فقال: (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي أعندكم دليل على أن هذا كذا؟: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) في هذا القول. (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) لتوهموا ضعفتكم أن لكم حجة. (وقوله «4»)" وَلا آباؤُنا" عطف على النون في" أَشْرَكْنا". ولم يقل نحن ولا آباؤنا، لأن قول" وَلا" قام مقام توكيد المضمر، ولهذا حسن أن يقال: ما قمت ولا زيد.

[سورة الأنعام (6): آية 149]
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
قوله تعالى:" قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ" أي التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها. فحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء، فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات، وأيد الرسل بالمعجزات، ولزم أمره كل مكلف. فأما علمه وإرادته
__________
(1). من ك.
(2). من ك.
(3). من ك.
(4). من ك.

قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد، إلا من ارتضى من رسول. ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه. وقد لبست المعتزلة بقول:" لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا" فقالوا: قد ذم الله هؤلاء الذين جعلوا شركهم عن مشيئته. وتعلقهم بذلك باطل، لأن الله تعالى إنما ذمهم على ترك اجتهادهم في طلب الحق. وإنما قالوا ذلك على جهة الهزء واللعب. نظيره" وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ «1»". ولو قالوه على جهة التعظيم والإجلال والمعرفة به لما عابهم، لأن الله تعالى يقول:" لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا «2»". و" ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «3»"." وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ «4»". ومثله كثير. فالمؤمنون يقولونه لعلم منهم بالله تعالى.

[سورة الأنعام (6): آية 150]
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
قوله تعالى: (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) أي قل لهؤلاء المشركين أحضروا شهداءكم على أن الله حرم ما حرمتم. و" هَلُمَّ" كلمة دعوة إلى شي، ويستوي فيه الواحد والجماعة والذكر والأنثى عند أهل الحجاز، إلا في لغة نجد فإنهم يقولون: هلما هلموا هلمي، يأتون بالعلامة كما تكون في سائر الأفعال. وعلى لغة (أهل»
) الحجاز جاء القرآن، قال الله تعالى:" وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا «6»" يقول: هلم أي أحضر أو ادن. وهلم الطعام، أي هات الطعام. والمعنى ها هنا: هاتوا شهداءكم، وفتحت الميم لالتقاء الساكنين، كما تقول: رد يا هذا، ولا يجوز ضمها ولا كسرها. والأصل عند الخليل" ها" ضمت إليها" لم" ثم حذفت الألف لكثرة الاستعمال. وقال غيره. الأصل" هل" زيدت عليها" لم". وقيل: هي على لفظها تدل على معنى هات. وفي كتاب العين للخليل: أصلها هل أؤم، أي هل أقصدك، ثم كثر استعمالهم
__________
(1). راجع ج 16 ص 73. [.....]
(2). راجع ص 60 و66. من هذا الجزء.
(3). راجع ص 60 و66. من هذا الجزء.
(4). راجع ج 10 ص 81.
(5). من ك.
(6). راجع ج 14 ص 151.

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

إياها حتى صار المقصود بقولها (احضر «1») كما أن (تعال «2») أصلها أن يقولها المتعالي للمتسافل، فكثر استعمالهم إياها حتى صار المتسافل يقول للمتعالي تعال. (فَإِنْ شَهِدُوا) أي شهد بعضهم لبعض (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تصدق أداء الشهادة إلا من كتاب أو على لسان نبي، وليس معهم شي من ذلك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 151 الى 153]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (152) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصيكم به لعلكم تتقون (153) فيه أربع عشرة مسألة: الأولى- قوله تعالى: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) أي تقدموا واقرءوا حقا يقينا كما أوحى إلى ربي، لا ظنا ولا كذبا كما زعمتم. ثم بين ذلك فقال" أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً" يقال للرجل: تعال، أي تقدم، وللمرأة تعالي، وللاثنين والاثنتين تعاليا، ولجماعة الرجال تعالوا، ولجماعة النساء تعالين، قال الله تعالى:" فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ «3»". وجعلوا التقدم ضربا من التعالي
__________
(1). من ب وك.
(2). من ب وك.
(3). راجع ج 14 ص 170.

والارتفاع، لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له تعال، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي، قال ابن الشجري. الثانية- قوله تعالى: (ما حَرَّمَ) الوجه في" ما" أن تكون خبرية في موضع نصب ب" أَتْلُ" والمعنى: تعالوا أتل الذي حرم ربكم عليكم، فإن علقت" عَلَيْكُمْ ب" حَرَّمَ" فهو الوجه، لأنه الأقرب وهو اختيار البصر بين. وإن علقته" أَتْلُ" فجيد لأنه الأسبق، وهو اختيار الكوفيين، فالتقدير في هذا القول أتل عليكم الذي حرم ربكم. (أَلَّا تُشْرِكُوا) في موضع نصب بتقدير فعل من لفظ الأول، أي أتل عليكم ألا تشركوا، أي أتل عليكم تحريم الإشراك، ويحتمل أيكون منصوبا بما في" عَلَيْكُمْ" من الإغراء، وتكون" عَلَيْكُمْ" منقطعة مما قبلها، أي عليكم ترك الإشراك، وعليكم إحسانا بالوالدين، وألا تقتلوا أولادكم وألا تقربوا الفواحش. كما تقول: عليك شأنك، أي الزم أنك. وكما قال:" عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ «1»" قال جميعه ابن الشجري. وقال النحاس: يجوز أن تكون" أن" في موضع نصب بدلا من" ما"، أي أتل عليكم تحريم الإشراك. واختار الفراء أن تكون" لا" للنهي، لأن بعده" وَلا". الثالثة- هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله. وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم مما حل. قال الله تعالى:" لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «2»". وذكر ابن المبارك: أخبرنا عيسى بن عمر عن عمرو بن مرة أنه حدثهم قال: قال ربيع بن خيثم «3» لجليس له: أيسرك أن تؤتى بصحيفة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفك خاتمها؟ قال نعم. قال فاقرأ" قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" فقرأ إلى آخر الثلاث الآيات. وقال كعب الأحبار: هذه الآية مفتتح «4» التوراة: (بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم
__________
(1). راجع ج 6 ص 342.
(2). راجع ج 4 ص 304.
(3). قال في التقريب: (الربيع بن خيثم) بضم المعجمة وفتح المثلثة، ولكن في الخلاصة: بفتح المعجمة والمثلثة بينها تحتانية ساكنة. تهذيب.
(4). تقدم عن كعب أيضا أول السورة أن أول الأنعام مفتتح التوراة.

ربكم عليكم) الآية. وقال ابن عباس: هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة" آل عمران «1»" أجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قط في ملة. وقد قيل: إنها العشر كلمات المنزلة على موسى. الرابعة- قوله تعالى: (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما. و" إِحْساناً" نصب على المصدر، وناصبه فعل مضمر من لفظه، تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا. الخامسة- قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) الإملاق الفقر: أي لا تئدوا- من الموءودة «2»- بناتكم خشية العيلة، فإني رازقكم وإياهم. وقد كان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر، كما هو ظاهر الآية. أملق أي افتقر. وأملقه أي أفقره، فهو لازم ومتعد. وحكى النقاش عن مؤرج أنه قال: الإملاق الجوع بلغة لخم. وذكر منذر بن سعيد أن الإملاق الإنفاق، يقال: أملق ماله بمعنى أنفقه. وذكر أن عليا رضي الله عنه «3» قال لامرأته: أملقي من مالك ما شئت. ورجل ملق يعطي بلسانه ما ليس في قلبه. فالملق لفظ مشترك يأتي «4» بيانه في موضعه. السادسة- وقد يستدل بهذا من يمنع العزل، لأن الوأد يرفع الموجود والنسل، والعزل منع أصل النسل فتشابها، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا، ولذلك قال بعض علمائنا: إنه يفهم من قوله عليه السلام في العزل: (ذلك الوأد الخفي) الكراهة لا التحريم وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم. وقال بإباحته أيضا جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء، لقوله عليه السلام: (لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر) أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا. وقد فهم منه الحسن ومحمد بن المثنى النهي والزجر عن العزل. والتأويل الأول أولى، لقوله عليه السلام: (إذا أراد الله خلق شي لم يمنعه شي). قال مالك والشافعي: لا يجوز العزل عن الحرة إلا «5» بإذنها. وكأنهم رأوا الإنزال من تمام لذاتها، ومن حقها في الولد، ولم يروا ذلك في الموطوءة بملك اليمين، إذ له أن يعزل عنها بغير إذنها، إذ لا حق لها في شي مما ذكر.
__________
(1). كذا في ز وك وى وفي ب الأنعام.
(2). في ك: من الوأد. [.....]
(3). من ع.
(4). من ك.
(5). في ك: ولا بإذنها.

السابعة- قوله تعالى.: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) نظيره" وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ «1»". فقوله:" ما ظَهَرَ" نهي عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي." وَما بَطَنَ" ما عقد عليه القلب المخالفة. وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء. و" ما ظَهَرَ" نصب على البدل من" الْفَواحِشَ"." وَما بَطَنَ" عطف عليه. الثامنة- قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) الألف واللام في" النَّفْسَ" لتعريف الجنس، كقولهم: أهلك الناس حب الدرهم والدينار. ومثله" إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ «2» هَلُوعاً" ألا ترى قول سبحانه:" إِلَّا الْمُصَلِّينَ"؟ وكذلك قوله:" وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «3»" لأنه قال:" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا" وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة، مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم ماله ونفسه إلا بحقه وحسابهم على الله) وهذا الحق أمور: منها منع الزكاة وترك الصلاة، وقد قاتل الصديق مانعي الزكاة وفي التنزيل" فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ «4»" وهذا بين. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة). وقال عليه السلام: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا «5» الآخر منهما). أخرجه مسلم. وروى أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به). وسيأتي بيان هذا في" الأعراف «6»". وفي التنزيل:" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا «7»" (الآية «8»). وقال:" وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «9»" الآية. وكذلك من شق عصا المسلمين وخالف إمام جماعتهم وفرق كلمتهم وسعي في الأرض فسادا بانتهاب الأهل والمال والبغي على السلطان والامتناع من حكمه يقتل. فهذا معنى قوله:" إِلَّا بِالْحَقِّ".
__________
(1). راجع ص 74 وص 243. من هذا الجزء.
(2). راجع ج 18 ص 289.
(3). راجع ج 20 ص 178.
(4). راجع ج 8 ص 71.
(5). أي فادفعوا الآخر بالقتل إذا لم يمكن دفعه بدونه.
(6). راجع ص 74 وص 243. من هذا الجزء.
(7). راجع ج 6 ص 147.
(8). من ك.
(9). راجع ج 16 ص 315.

وقال عليه السلام: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ولا يتوارث أهل ملتين). وروى أبو داود والنسائي عن أبي بكر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من قتل معاهدا في غير كنهه «1» حرم الله عليه الجنة". وفي رواية أخرى لأبي داود قال:) من قتل رجل من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما (. في البخاري في هذا الحديث (وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما). خرجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. التاسعة- قوله تعالى: (ذلِكُمْ)
إشارة إلى هذه المحرمات. والكاف والميم للخطاب، ولاحظ لهما من الإعراب. (وَصَّاكُمْ بِهِ)
الوصية الأمر المؤكد المقدور. والكاف والميم محله النصب، لأنه ضمير موضوع للمخاطبة. وفي وصى ضمير فاعل يعود على الله. وروى مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف على أصحابه فقال: علام تقتلوني! فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد حصانه «2» فعليه الرجم أو قتل عمدا فعليه القود أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل) فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي به «3»، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسول، ذلكم الذي ذكرت لكم وصاكم به لعلكم تعقلون! العاشرة- قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
أي بما فيه صلاحه وتثميره «4»، وذلك بحفظ أصول وتثمير فروعه. وهذا أحسن الأقوال في هذا، فإنه جامع قال مجاهد:" وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
" بالتجارة فيه، ولا تشتري منه ولا تستقرض. الحادية عشرة- قوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)
يعني قوته، وقد تكون في البدن، وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولا بد من حصول الوجهين، فإن الأشد وقعت هنا مطلقة
__________
(1). كنه الأمر: حقيقته. وقيل: وقته وقدره. وقيل: غايته، يعنى من قتله في غير وقته أو غاية أمره الذي يجوز فيه قتله (عن النهاية).
(2). في ب وج وك: إحصانه. [.....]
(3). في ك: منه.
(4). في ج: تدبيره.

وقد جاء بيان حال اليتيم في سورة" النساء" مقيدة، فقال:" وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً «1»" فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد، فلو مكن اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول القوة لأذهبه في شهوته وبقي صعلوكا لا مال له. وخص اليتيم بهذا الشرط لغفلة الناس عنه وافتقاد الآباء لأبنائهم فكان الاهتبال «2» بفقيد الأب أولى. وليس بلوغ الأشد مما يبيح قرب ماله بغير الأحسن، لأن الحرمة في حق البالغ ثابتة. وخص اليتيم بالذكر لأن خصمه الله. والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده. وفي الكلام حذف، فإذا بلغ أشده وأونس منه الرشد فادفعوا إليه ماله. واختلف العلماء في أشد اليتيم، فقال ابن زيد: بلوغه. وقال أهل المدينة. بلوغه وإيناس رشده. وعند أبي حنيفة: خمس وعشرون سنة. قال ابن العربي: وعجبا من أبي حنيفة، فإنه يرى أن المقدرات لا تثبت قياسا ولا نظرا وإنما تثبت نقلا، وهو يثبتها بالأحاديث الضعيفة، ولكنه سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس، ولو سكن المعدن كما قيض الله لمالك لما صدر عنه إلا إبريز الدين «3». وقد قيل: إن انتهاء الكهولة فيها مجتمع الأشد، كما قال سحيم بن وثيل:
أخو خمسين مجتمع أشدي ... ونجذني مداورة الشؤون «4»

يروى" نجدني" بالدال والذال. والأشد واحد لا جمع له، بمنزلة الآنك وهو الرصاص. وقد قيل: واحده شد، كفلس وأفلس. وأصله من شد النهار أي ارتفع، يقال: أتيته شد النهار ومد النهار. وكان محمد بن الضبي ينشد بيت عنترة:
عهدي به النهار كأنما ... خضب اللبان ورأسه بالعظلم «5»
__________
(1). راجع ج 5 ص 33.
(2). الاهتبال: اغتنام الفرضة وابتغاءها وتكسبها: أي الاشتغال بشأن اليتيم أولى.
(3). في ك: المذهب وفى ز: الذهب. يريد بدار الضرب: بغداد. والمعدن.: معدن الشريعة ومنجمها المدينة المنورة.
(4). رجل منجد (بالدال والذال): جرب الأمور وعرفها وأحكمها. ومداورة الشئون: مداوتة الأمور ومعالجتها.
(5). اللبان (بفتح اللام): الصدر. وفي ع:" البنان" وهى رواية. والعظلم (بكسر العين واللام وسكون الظاء): صبغ أحمر وقيل: هو الوسمة د، شجر له ورق يختضب به.

(وقال»
آخر:
تطيف به شد النهار ظعينة ... طويلة أنقاء اليدين سحوق «2»
وكان سيبويه يقول: واحده شدة. قال الجوهري: وهو حسن في المعنى، لأنه يقال: بلغ الغلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم، من قولهم: يوم بؤس ويوم نعم. وأما قول من قال: واحده شد، مثل كلب وأكلب، وشد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس. كما يقولون في واحد الأبابيل: أبول، قياسا على عجول، وليس هو شيئا سمع من العرب. قال أبو زيد: أصابتني شدي على فعلى، أي شدة. وأشد الرجل إذا كانت معه دابة شديدة. الثانية عشرة- قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
). أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء. والقسط: العدل. (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)
أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن. وهذا يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرر. وما لا يمكن الاحتراز عنه من تفاوت ما بين الكيلين، ولا يدخل تحت قدرة البشر فمعفو عنه. وقيل: الكيل بمعنى المكيال. يقال: هذا كذا وكذا كيلا، ولهذا عطف عليه بالميزان. وقال بعض العلماء: لما علم الله سبحانه من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب للغير بما لا يجب عليها له أمر المعطي بإيفاء رب الحق حقه الذي هو له، ولم يكلفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر صاحب الحق بأخذ حقه ولم يكلفه الرضا بأقل منه، لما في النقصان من ضيق نفسه. وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عبد الله بن عباس أنه قال: ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم الأكثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر «3» قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو «4». وقال ابن عباس أيضا: إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم الكيل والميزان «5».
__________
(1). من ك.
(2). السحوق: المرأة الطويلة.
(3). الختر: الغدر. وفى ك: غدر.
(4). رواه الطبراني حديثا عن ابن عباس.
(5). من ك.

الثالثة عشرة- قوله تعالى: (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)
يتضمن الأحكام والشهادات. ولو كان ذا قربى أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم. كما تقدم في النساء «1». (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)
عام في جميع ما عهده الله إلى عباده. ومحتمل أن يراد به جميع ما انعقد بين إنسانين. وأضيف ذلك العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
تتعظون. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم، فإنه لما نهى وأمر حذر هنا عن اتباع غير سبيله، فأمر فيها باتباع طريقه على ما نبينه بالأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف." وَأَنَّ" في موضع نصب، أي واتل أن هذا صراطي. عن الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضا، أي وصاكم به وبأن هذا صراطي. وتقديرها عند الخليل وسيبويه: ولأن هذا صراطي، كما قال:" وَأَنَّ الْمَساجِدَ «2» لِلَّهِ" وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي" وإن هذا" بكسر الهمزة على الاستئناف، أي الذي ذكر في الآيات «3» صراطي مستقيما. وقرا ابن أبي إسحاق ويعقوب" وأن هذا" بالتخفيف. والمخففة مثل المشددة، إلا أن فيه ضمير القصة والشان، أي وأنه هذا. فهي في موضع رفع. ويجوز النصب. ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد، كما قال عز وجل:" فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ «4»". والصراط: الطريق الذي هو دين الإسلام." مستقيما" نصب على الحال، ومعناه مستويا قويما لا اعوجاج فيه. فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرعه ونهايته الجنة. وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي تميل. روى الدارمي أبو محمد في مسنده بإسناد صحيح: أخبرنا عفان حدثنا حماد بن زيد حدثنا عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما خطا، ثم قال: (هذا سبيل الله) ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال (هذه سبل على كل سبيل
__________
(1). راجع ج 5 ص 410.
(2). راجع ج 19 ص 19. [.....]
(3). من ب ج ز ك.
(4). راجع ج 9 ص 259.

منها شيطان يدعو إليها) ثم قرأ هذه الآية. وأخرجه ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخط خطا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: (هذا سبيل الله- ثم تلا هذه الآية-" وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ". وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء المعتقد، قال ابن عطية. قلت: وهو الصحيح. ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد «1» وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود:" وأن هذا صراطي مستقيما" الآية. وقال عبد الله بن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع «2»، وعليكم بالعتيق «3». أخرجه الدارمي. وقال مجاهد في قوله:" وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ" قال: البدع. قال ابن شهاب: وهذا كقوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً «4»" الآية. فالهرب الهرب، والنجاة النجاة! والتمسك بالطريق المستقيم والسنن القويم، الذي سلكه السلف الصالح، وفية المتجر الرابح. روى الأئمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما أمرتكم به فخذوه وما نهيتكم عنه فانتهوا). وروى ابن ماجة وغيره عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة ذرفت
__________
(1). الجواد (بتشديد الدال): الطرق، واحدها جادة، وهى سواء الطريق. وقيل: معظمه وقيل: وسطه.
(2). عرف الراغب البدعة بقوله: البدعة في المذهب إيراد قوله لم يستن قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدمة وأصولها المتقنة.
(3). العتيق: القديم الأول.
(4). راجع ص 149. من هذا الجزء.

منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ فقال: (قد تركتكم على البيضاء «1» ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة وعليكم بالطاعة وإن عبد احبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف «2» حيثما قيد انقاد) أخرجه الترمذي بمعناه وصححه. وروى أبو داود قال حدثنا ابن كثير قال أخبرنا سفيان قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأل عن القدر، فكتب (إليه «3»): أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مئونته، فعليك بلزوم الجماعة فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم أعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فان السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وإنهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدي ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه، ولين قلتم إنما حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، قد تكلموا فيه بما يكفي ووصفوا ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من مجسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا وإنهم مع «4» ذلك لعلى مستقيم. وذكر الحديث. وقال سهل بن عبد الله التستري: عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاقتداء به في جميع أحوال ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه. قال سهل: إنما ظهرت البدعة على يدي أهل السنة لأنهم ظاهروهم وقاولوهم «5»، فظهرت أقاويلهم وفشت في العامة فسمعه من لم يكن يسمعه، فلو تركوهم
__________
(1). البيضاء. يريد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الملة والحجة الواضحة التي لا تقبل الشبه أصلا.
(2). الأنف (ككتف): المأنوف وهو الذي عقر الخشاش أنفه، فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذي به. وقيل: الأنف الذلول.
(3). من ك وز.
(4). في ك: بين.
(5). في ك وع: ناولوهم.

ولم يكلموهم لمات كل واحد منهم على ما في صدره ولم يظهر منه شي وحمله معه إلى قبره. وقال سهل: لا يحدث أحدكم بدعة حتى يحدث له إبليس عبادة فيتعبد بها ثم يحدث له بدعة، فإذا نطق بالبدعة ودعا الناس إليها نزع منه تلك الخذمة «1». قال سهل: لا أعلم حديثا جاء في المبتدعة أشد هذا الحديث: (حجب الله الجنة عن صاحب البدعة). قال: فاليهودي والنصراني أرجى منهم. قال سهل: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يخاصمن أهل الأهواء. وقال أيضا: أتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. وفي مسند الدارمي: أن أبا موسى الأشعري جاء إلى عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن رأيت في المسجد آنفا شيئا أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول لهم: كبروا مائة، فيكبرون مائة. فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة. ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا، انتظار رأيك وانتظار أمرك. قال أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي (أراكم «2») تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم وأنا ضامن لكم ألا يضيع من حسناتكم شي، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم. أو مفتتحي «3» باب ضلالة! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. فقال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. وعن عمر بن عبد العزيز وسأله رجل عن شي من أهل الأهواء والبدع، فقال: عليك بدين الأعراب والغلام في الكتاب، وآله عما سوى ذلك. وقال الأوزاعي: قال إبليس لأوليائه من أي شي تأتون بنى آدم؟ فقالوا: من كل شي. قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا:
__________
(1). كذا في ب وفي ج وك: الخدمة.
(2). عن ك وسنن الدارمي.
(3). كذا في الأصول. والذي في سنن الدارمي. المطبوعة والمخطوطة: ..." ما أسرع هلكتكم. هؤلاء صحابه نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوافرون وهذه ثيابه لم تبل آنيته ولم تكسر والذي نفسي بيده إنكم لعلى مله هي أهدى من مله محمد أو مفتتحى باب ..". إلخ في نخ ط دمشق: أو مفتتحوا. على هامش المطبوع:" أو مفتتح" بغير ياء. راجع ج 1 ص 68 ط الشام. [.....]

هيهات! ذلك شي قرن بالتوحيد. قال: لأبثن فيهم شيئا لا يستغفرون الله منه. قال: فبث فيهم الأهواء. وقال مجاهد: ولا أدري أي النعمتين علي أعظم أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء. وقال الشعبي: إنما سموا أصحاب الأهواء لأنهم يهوون في النار. كله عن الدارمي. وسيل سهل بن عبد الله عن الصلاة خلف المعتزلة والنكاح منهم وتزوجهم. فقال: لا، ولا كرامة! هم كفار «1»، كيف يؤمن من يقول: القرآن مخلوق، ولا جنة مخلوقة ولا نار مخلوقة، ولا لله صراط ولا شفاعة، ولا أحد من المؤمنين يدخل النار ولا يخرج من النار من مذنبي أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عذاب القبر ولا منكر ولا نكير، ولا رؤية لربنا في الآخرة ولا زيادة، وأن علم الله مخلوق، ولا يرون السلطان ولا جمعة، ويكفرون من يؤمن بهذا. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وقال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وقال ابن عباس: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة، عبادة. وقال أبو العالية: عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا. قال عاصم الأحول: فحدثت به الحسن فقال: قد نصحك والله وصدقك. وقد مضى في" آل عمران" معنى قول عليه السلام: (تفرقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين فرقة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين). الحديث «2». وقد قال بعض العلماء العارفين: هذه الفرقة التي زادت في فرق أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم قوم يعادون العلماء ويبغضون الفقهاء، ولم يكن ذلك قط في الأمم السالفة. وقد روى رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (يكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى). قال فقلت: جعلت فداك يا رسول الله! كيف ذاك؟ قال: (يقرون ببعض ويكفرون ببعض). قال قلت: جعلت فداك يا رسول الله! وكيف يقولون؟ قال: (يجعلون إبليس عدلا لله في خلقه
__________
(1). ليس من أصول أهل السنه تكفير أهل القبلة بخطإ في التأويل. فليتأمل.
(2). راجع ج 4 ص 159.

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)

وقوته ورزقه ويقولون الخير من الله والشر من إبليس (. قال: فيكفرون بالله ثم يقرءون على ذلك كتاب الله، فيكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة؟ قال: (فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة). وذكر الحديث. ومضى في" النساء" وهذه السورة النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم فقال:" وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا «1»" الآية. ثم بين في سورة" النساء" وهي مدنية عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال:" وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ" الآية «2». فألحق من جالسهم بهم. وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس «3» أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم أحمد بن حنبل والأوزاعي وابن المبارك فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع قالوا: ينهى عن مجالستهم، فإن انتهى وإلا ألحق بهم، يعنون في الحكم. وقد حمل عمر بن عبد العزيز الحد على مجالس شربة الخمر، وتلا" إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ". قيل له «4»: فإنه يقول إني أجالسهم لأباينهم وارد عليهم. قال «5» ينهى عن مجالستهم، فإن لم ينته ألحق بهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 154 الى 155]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
قول تعالى: (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) مفعولان. (تَماماً) مفعول من أجله أو مصدر. (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) قرئ بالنصب والرفع. فمن رفع- وهي قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق- فعلى تقدير: تماما على الذي هو أحسن. قال المهدوي: وفية بعد من أجل حذف المبتدأ العائد على الذي. وحكى سيبويه عن الخليل أنه سمع" ما أنا بالذي قائل لك شيئا". ومن نصب فعلى أنه فعل ماضي داخل في الصلة، هذا قول البصريين. وأجاز الكسائي والفراء
__________
(1). راجع ص 12 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 5 ص 417.
(3). في ك: مجالسه.
(4). كذا في ك. وفي ب وج وز وى: قيل لهم. قالوا.
(5). كذا في ك. وفي ب وج وز وى: قيل لهم. قالوا.

أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)

أن يكون اسما نعتا للذي. وأجازا" مررت بالذي أخيك" ينعتان الذي بالمعرفة وما قاربها. قال النحاس: وهذا محال عند البصريين، لأنه نعت للاسم قبل أن يتم، والمعنى عندهم: على المحسن. قال مجاهد: تماما على المحسن المؤمن. وقال الحسن في معنى قول:" تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ" كان فيهم محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتاب تماما على المحسنين. والدليل على صحة هذا القول أن ابن مسعود قرأ:" تماما على الذين أحسنوا". وقيل: المعنى أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما كان علمه الله قبل نزول التوراة عليه. قال محمد بن يزيد: فالمعنى" تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ" أي تماما على الذي أحسنه الله عز وجل إلى موسى عليه السلام من الرسالة وغيرها. وقال عبد الله بن زيد: معناه على إحسان الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام (من الرسالة «1» وغيرها). وقال الربيع بن أنس: تماما على إحسان موسى من طاعته لله عز وجل، وقاله الفراء. ثم قيل:" ثُمَّ" يدل على أن الثاني بعد الأول، وقصة موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإتيانه الكتاب قبل هذا، فقيل:" ثُمَّ" بمعنى الواو، أي وآتينا موسى الكتاب، لأنهما حرفا عطف. وقيل: تقدير الكلام ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: المعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ثم أتل ما آتينا موسى تماما." وَتَفْصِيلًا" عطف عليه. وكذا" وَهُدىً وَرَحْمَةً"" وَهذا كِتابٌ" ابتداء وخبر." أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ" نعت، أي كثير الخيرات. ويجوز في غير القرآن" مباركا" على الحال." فَاتَّبِعُوهُ" أي أعملوا بما فيه." وَاتَّقُوا" أي اتقوا تحريفه." لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" أي لتكونوا راجين للرحمة فلا تعذبون.

[سورة الأنعام (6): الآيات 156 الى 157]
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
__________
(1). من ب وج وك.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

قوله تعالى: (أَنْ تَقُولُوا) في موضع نصب. قال الكوفيون. لئلا تقولوا. وقال البصريون: أنزلناه كراهية أن تقولوا. وقال الفراء والكسائي: المعنى فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة. (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) أي التوراة والإنجيل. (عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) أي على اليهود والنصارى، ولم ينزل علينا كتاب. (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) أي عن تلاوة كتبهم وعن لغاتهم. ولم يقل عن دراستهما، لأن كل طائفة جماعة. (أَوْ تَقُولُوا) عطف على" أَنْ تَقُولُوا". (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد زال العذر بمجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والبينة والبيان واحد، والمراد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سماه سبحانه بينة. (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي لمن أتبعه. ثم قال: (فَمَنْ أَظْلَمُ) أي فإن كذبتم فلا أحد أظلم منكم. (صَدَفَ) أعرض، يصدفون (يَصْدِفُونَ) يعرضون. وقد تقدم «1».

[سورة الأنعام (6): آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ) معناه أقمت عليهم الحجة وأنزلت عليهم الكتاب فلم يؤمنوا، فماذا ينتظرون. (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي عند الموت لقبض أرواحهم. (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قال ابن عباس والضحاك: أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره، وقد يذكر المضاف إليه والمراد به المضاف، كقول تعالى:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «2» يعني أهل القرية. وقوله:" وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «3»" أي حب العجل. كذلك هنا: يأتي أمر ربك، أي عقوبة ربك وعذاب ربك. ويقال: هذ من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. وقد تقدم القول
__________
(1). راجع ج 6 ص 428.
(2). راجع ج 9 ص 245.
(3). راجع ج 2 ص 31.

في مثله في" البقرة" وغيرها (أو يأتي بعض آيات ربك) قيل: هو طلوع الشمس من مغربها. بين بهذا أنهم يمهلون في الدنيا فإذا ظهرت الساعة فلا إمهال. وقيل: إتيان الله تعالى مجيئه لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة، كما قال تعالى:" وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا»
صَفًّا" وليس مجيئه تعالى حركة ولا انتقالا ولا زوالا، لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسما أو جوهرا. والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: يجئ وينزل ويأتي. ولا يكيفون، لأنه" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2»" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض (. وعن صفوان بن عسال المرادي قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:) إن بالمغرب باب مفتوحا للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه (. أخرجه الدارقطني والدارمي «3» والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال سفيان «4»: قبل الشام، خلقه الله يوم خلق السماوات والأرض.) مفتوحا) يعني للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه. قال: حديث حسن صحيح. قلت: وكذب بهذا كله الخوارج «5» والمعتزلة كما تقدم. وروى ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب فقال «6»: أيها الناس، إن الرجم حق فلا تخدعن عنه، وإن آية ذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رجم، وأن أبا بكر قد رجم وأنا قد رجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا «7». ذكر أبو عمر. وذكر الثعلبي في حديث فيه طول عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
__________
(1). راجع ج 20 ص 55.
(2). راجع ج 16 ص 7.
(3). من ك. [.....]
(4). سفيان: أحد رجال سند هذا الحديث.
(5). إن أراد الإباضية كزعمه فإن الرجم عندهم حكم ثابت إلى يوم القيامة لكن من السنه كما صح في مسند الربيع عن أبى الشعثاء جابر بن زيد، لا من القرآن. ولم يزالوا يرجمون في إمامتهم، ولا أنكروا طلوع الشمس من مغربها ولا خروج الدجال.
(6). كذا في الأصول إلا في ك: يقول. والذي في الدر المنثور" ... خطبنا عمر فقال.
(7). امتحشوا: احترقوا. والمحش: احترق الجلد وظهور العظم. ويروى:" امتحشوا على ما لم يسم فاعله.

عليه وسلم ما معناه: أن الشمس تحبس عن الناس- حين تكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد، ويفشو المنكر فلا ينهى عنه- مقدار ليلة تحت العرش، كلما سجدت واستأذنت ربها تعالى من ابن تطلع لم يجئ «1» لها جواب حتى يوافيها القمر فيسجد معها، ويستأذن من أين يطلع فلا يجاء «2» إليهما جواب حتى يحبسا مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين فإذا تم لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله تعالى إليهما جبريل عليه السلام فيقول: (إن الرب سبحانه وتعالى يأمر كما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه، وأنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور) فيطلعان من مغاربهما أسودين، لا ضوء للشمس ولا نور للقمر، مثلهما في كسوفهما قبل ذلك. فذلك قوله (تعالى «3»:" وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «4»" وقوله:" إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ «5»" فيرتفعان كذلك مثل البعيرين المقرونين، فإذا ما الشمس والقمر سرة السماء وهي منصفها جاءهما جبريل (عليه «6» السلام) فأخذ بقرونهما وردهما إلى المغرب، فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة ثم يرد المصراعين، ثم يلتئم ما بينهما فيصير كأنه لم يكن بينهما صدع. فإذا أغلق باب التوبة لم تقبل لعبد بعد ذلك توبة، ولم تنفعه بعد ذلك حسنة يعملها، إلا من كان قبل ذلك محسنا فإنه يجري عليه ما كان عليه قبل ذلك اليوم، فذلك قول تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً.) ثم إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما «7» كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان. قال العلماء: وإنما لا ينفع نفسا إيمانها عند طلوعها من مغربها، لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته، كما لا تقبل توبة من حضره الموت. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله يقبل توبة
__________
(1). في ى ز: يخرج. وفى ب: فلا يحار إليها.
(2). في ز: يجاب. وفى ب ك: يحار.
(3). من ز ك.
(4). راجع ج 19 ص 94 وص 225.
(5). راجع ج 19 ص 94 وص 225.
(6). من ز ك.
(7). في ز: على ما.

العبد ما لم يغرغر) أي تبلغ روحه رأس حلقه وذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة أو مقعده من النار، فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله. وعلى هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة ما عاش، لأن علمه بالله تعالى وبنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبوعده «1» قد صار ضرورة. فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان، ولا يتحدثوا عنه إلا قليلا، فيصير الخبر عنه خاصا وينقطع التواتر عنه، فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه. والله أعلم. وفي صحيح مسلم عن عبد الله قال: حفظت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا). وفية عن حذيفة قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غرفة ونحن أسفل منه، فأطلع إلينا فقال: (ما تذكرون)؟ قلنا: الساعة. قال: إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات. خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس (. قال شعبة: وحدثني عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة مثل ذلك، لا يذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال أحدهما في العاشرة: ونزول عيسى ابن مريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الآخر: وريح تلقي الناس في البحر. قلت: وهذا حديث متقن «2» في ترتيب العلامات. وقد وقع بعضها وهي الخسوفات على ما ذكر أبو الفرج الجوزي من وقوعها بعراق العجم والمغرب. وهلك، بسببها خلق كثير، ذكره في كتاب فهوم الآثار وغيره. ويأتي ذكر الدابة في" النمل «3»". ويأجوج ومأجوج في" الكهف «4»". ويقال: إن الآيات تتابع كالنظم في الخيط عاما فعاما. وقيل: إن الحكم في طلوع الشمس من مغربها أن إبراهيم عليه السلام قال لنمروذ:" فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها
__________
(1). في ك: توعه.
(2). كذا في اول. وفى ب وج وك وى: متفق. وفى ز: متفق عليه.
(3). راجع ج 13 ص 234. [.....]
(4). راجع ج 11 ص 55.

من المغرب فبهت الذي كفر «1»" وأن الملحدة والمنجمة عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون: هو غير كائن، فيطلعها الله تعالى يوما من المغرب ليري المنكرين قدرته أن الشمس في ملكه، إن شاء أطلعها من المشرق وإن شاء أطلعها من المغرب. وعلى هذا يحتمل أن يكون رد التوبة والإيمان على من آمن وتاب من المنكرين لذلك المكذبين لخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطلوعها، فأما المصدقون لذلك فإنه تقبل توبتهم وينفعهم إيمانهم قبل ذلك. وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال: لا يقبل من كافر «2» عمل ولا توبة إذا أسلم حين يراها، إلا من كان صغيرا يومئذ، فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل ذلك منه. ومن كان مؤمنا مذنبا فتاب من الذنب قبل منه. وروي عن عمران بن حصين أنه قال: إنما لم تقبل (توبته «3») وقت طلوع (الشمس «4») حين تكون صيحة فيهلك فيها كثير من الناس، فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته، ذكره أبو الليث السمر قندي في تفسيره. وقال عبد الله بن عمر: يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة حتى يغرسوا النحل. والله بغيبه أعلم. وقرا ابن عمر وابن الزبير «5»" يوم تأتي" بالتاء، مثل" تلقطه بعض السيارة «6»". وذهبت بعض أصابعه. وقال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع «7»
قال المبرد: التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل. وقرا ابن سيرين" لا تنفع" بالتاء. قال أبو حاتم: يذكرون أن هذا غلط من ابن سيرين. قال النحاس: في هذا شي دقيق من النحو ذكره سيبويه، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو من النفس وبها، وأنشد سيبويه:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم «8»
__________
(1). راجع ج 3 ص 283.
(2). في ك: إيمانه ولا توبته ولا عمل.
(3). من ك.
(4). من ك.
(5). في ك: ابن مسعود.
(6). راجع ج 9 ص 131.
(7). وصف مقتل الزبير بن العوام صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين انصراف يوم الجمل وقتل في الطريق غيلة.
(8). البيت لذي الرمة. وصف نساء، فيقول: إذا مشين اهتززن في مشين وتثنين فكأنهن رماح نصب فمرت عليها الرياح فاهتزت وتثنت.

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)

قال المهدوي: وكثيرا ما يؤنثون فعل المضاف المذكر إذا كانت إضافته إلى مؤنث، وكان المضاف بعض المضاف إليه منه أو به، وعليه قول ذي الرمة: مشين ... البيت فأنث المر لإضافته إلى الرياح وهي مؤنثة، إذ كان المر من الرياح. قال النحاس: وفية قول آخر وهو أن يؤنث الإيمان لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث، مثل" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «1»" وكما قال «2»:
فقد عذرتنا في صحابته العذر

ففي أحد الأقوال أنث العذر لأنه بمعنى المعذرة." قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ" بكم العذاب.

[سورة الأنعام (6): آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)
قرأه حمزة والكسائي (فارقوا «3») بالألف، وهي قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، من المفارقة والفراق. على معنى أنهم تركوا دينهم وخرجوا عنه. وكان علي يقول: والله ما فرقوه ولكن فارقوه. وقرا الباقون بالتشديد، إلا النخعي فإنه قرأ" فرقوا" مخففا، أي آمنوا ببعض وكفروا ببعض. والمراد اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك. وقد وصفوا بالتفرق، قال الله تعالى:" وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «4»". وقال:" وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ «5»". وقيل: عنى المشركين، عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة. وقيل: الآية عامة في جميع الكفار. وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر الله عز وجل به فقد فرق دينه. وروي أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ" هم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة. وروي بقية بن الوليد
__________
(1). راجع ج 3 ص 359.
(2). البيت لحاتم وهو في ديوانه واللسان:
أماوي قد ضال التجنب والهجر ... وقد عذرتني في طلابكم العذر.
(3). من ك.
(4). راجع ج 20 ص 143.
(5). راجع ج 6 ص 5. [.....]

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)

حدثنا شعبة بن الحجاج حدثنا مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً إنما هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وأنا برئ منهم وهم منا برآء). وروى ليث بن أبي سليم عن طاوس عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ" إن الذين فارقوا دينهم". ومعنى (شِيَعاً) فرقا وأحزابا. وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع. (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) فأوجب براءته منهم، وهو كقول عليه السلام: (من غشنا فليس منا) أي نحن برآء منه. وقال الشاعر:
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني «1»
أي أنا أبرأ منك. وموضع" فِي شَيْءٍ" نصب على الحال من المضمر الذي في الخبر، قاله أبو علي. وقال الفراء هو على حذف مضاف، المعنى لست من عقابهم في شي، وإنما عليك الإنذار «2». (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ) تعزية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة الأنعام (6): آية 160]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)
قوله تعالى: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) ابتداء، وهو شرط، والجواب (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) فله عشر حسنات أمثالها، فحذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها، جمع مثل وحكى سيبويه: عندي عشرة نسابات، أي عندي عشرة رجال نسابات. وقال أبو علي: حسن التأنيث في" عَشْرُ أَمْثالِها" لما كان الأمثال مضافا إلى مؤنث، والإضافة إلى المؤنث إذا كان إياه في المعنى يحسن فيه ذلك، نحو" يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ".
__________
(1). البيت للنابغة الذبياني. يقول هذا لعيينة بن حصن الفزاري. وكان قد دعاه وقومه إلى مقاطعة بنى أسد ونقض حلفهم فأبى عليه وتوعده بهم. وأراد بالفجور نقض الحلف (عن شرح الشواهد).
(2). في ز: البلاغ.

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)

وذهبت بعض أصابعه «1». وقرا الحسن وسعيد بن جبير والأعمش" فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها". والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، أي له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له. ويجوز أن يكون له مثل، ويضاعف المثل فيصير عشرة. والحسنة هنا: الإيمان. أي من جاء بشهادة أن لا إله إلا الله فله بكل عمل عمله في الدنيا من الخير عشرة أمثاله من الثواب. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) يعني الشرك (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) وهو الخلود في النار، لأن الشرك أعظم الذنوب، والنار أعظم العقوبة، فذلك قول تعالى:" جَزاءً وِفاقاً «2»" يعني جزاء وافق العمل. وأما الحسنة فبخلاف ذلك، لنص الله تعالى على ذلك. وفي الخبر (الحسنة بعشر أمثالها وأزيد والسيئة واحدة وأغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره). وروى الأعمش عن أبي صالح قال: الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص ثواب أعمالهم. وقد مضى في" البقرة «3»" بيان هذه الآية، وأنها مخالفة للإنفاق في سبيل الله، ولهذا قال بعض العلماء: العشر لسائر الحسنات والسبعمائة للنفقة في سبيل الله، والخاص والعام فيه سواء. وقال بعضهم: يكون للعوام عشرة وللخواص سبعمائة وأكثر إلى ما لا يحصى، وهذا يحتاج إلى توقيف. والأول أصح، لحديث خريم بن فاتك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفية: (وأما حسنة بعشر فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها وأما حسنة بسبعمائة فالنفقة في سبيل الله).

[سورة الأنعام (6): الآيات 161 الى 163]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
__________
(1). في ك: بعض أصحابه.
(2). راجع ج 19 ص 179.
(3). راجع ج 3 ص 240 و305.

فيه أربع مسائل: الأولى- قوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لما بين تعالى أن الكفار تفرقوا بين أن الله هداه إلى الدين المستقيم وهو دين إبراهيم (دِيناً) نصب على الحال، عن قطرب. وقيل: نصب ب" هَدانِي" عن الأخفش. (قال «1») غيره: انتصب حملا على المعنى، لأن معنى هداني عرفني دينا. ويجوز أن يكون بدلا من الصراط، أي هداني صراطا مستقيما دينا. وقيل: منصوب بإضمار فعل، فكأنه قال: اتبعوا دينا، وأعرفوا دينا. (قيما) قرأه الكوفيون وابن عامر «2» بكسر القاف والتخفيف وفتح الياء، مصدر كالشبع فوصف به. والباقون بفتح القاف وكسر الياء وشدها، وهما لغتان. واصل الياء الواو" قيوم" ثم أدغمت الواو في الياء كميت. ومعناه دينا مستقيما لا عوج فيه (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بدل (حَنِيفاً) قال الزجاج: هو حال من إبراهيم. وقال علي بن سليمان: هو نصب بإضمار أعنى. الثانية- قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) قد تقدم اشتقاق لفظ الصلاة «3». وقيل: المراد بها هنا صلاة الليل. وقيل: صلاة العيد. والنسك جمع نسيكة، وهي الذبيحة، وكذلك قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم. والمعنى: ذبحي في الحج والعمرة. وقال الحسن: نسكي ديني. وقال الزجاج: عبادتي، ومنه الناسك الذي يتقرب إلى الله بالعبادة. وقال قوم: النسك في هذه الآية جميع أعمال (البر «4») والطاعات، من قولك نسك فلان فهو ناسك، إذا تعبد. (وَمَحْيايَ) شأي ما أعمله في حياتي (وَمَماتِي) أي ما أوصي به بعد وفاتي. لله رب العالمين أي أفرده بالتقرب بها إليه. وقيل:" وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ" أي حياتي وموتي له. وقرا الحسن:" نسكي" بإسكان السين. وأهل المدينة" ومحياي" بسكون الياء في الإدراج. والعامة بفتحها، لأنه يجتمع ساكنان. قال النحاس: لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه لأن قبله ألفا، والألف المدة التي فيها تقوم مقام الحركة. وأجاز يونس اضربان زيدا، وإنما منع النحويون هذا لأنه جمع بين ساكنين وليس في الثاني
__________ (1). من ك.
(2). في ك: والكسائي. لكن في البحر وقرا باقى السبعة: قيما كسيد.
(3). راجع ج 1 ص 168.
(4). من ك.

إدغام، ومن قرأ بقراءة أهل المدينة وأراد أن يسلم من اللحن وقف على" مَحْيايَ" فيكون غير لاحن عند جميع النحويين. وقرا ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري" ومحيي" بتشديد الياء الثانية من غير ألف، وهي لغة عليا مضر يقولون: قفي وعصي. وأنشد أهل اللغة:
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم «1»

وقد تقدم. الثانية- قال الكيا الطبري: قوله تعالى:" قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" إلى قوله:" قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" استدل به الشافعي على افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل في كتابه، ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا افتتح الصلاة قال:" وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين."" إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"- إلى قوله-" وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (. قلت: روي مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال:) وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك. تباركت وتعاليت. أستغفرك وأتوب إليك (. الحديث. وأخرجه الدارقطني وقال في آخره: بلغنا عن النضر بن شميل وكان من العلماء باللغة وغيرها قال: معنى قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (والشر ليس إليك) الشر ليس مما
__________
(1). هذا صدر بيت لأبى ذؤيب. وعجزه كما في ج 1 ص 328:
فتخرموا ولكل جنب مصرع

يتقرب به إليك. قال مالك: ليس التوجيه في الصلاة بواجب على الناس، والواجب عليهم التكبير ثم القراءة. قال ابن القاسم: لم ير مالك هذا الذي يقوله الناس قبل القراءة: سبحانك اللهم وبحمدك. وفي مختصر ما ليس في المختصر: أن مالكا كان يقوله في خاصة نفسه، لصحة الحديث به، وكان لا يراه للناس مخافة أن يعتقدوا وجوبه. قال أبو الفرج الجوزي: وكنت أصلى وراء شيخنا أبي بكر الدينوري الفقيه في زمان الصبا، فرآني مرة أفعل هذا فقال: يا بني، إن الفقهاء قد اختلفوا في وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ولم يختلفوا أن الافتتاح سنه، فاشتغل بالواجب ودع السنن. والحجة لمالك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأعرابي الذي علمه الصلاة: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ) ولم يقل له سبح كما يقول أبو حنيفة، ولا قل وجهت وجهي، كما يقول الشافعي. وقال لأبي: (كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة)؟ قال: قلت الله أكبر الحمد لله رب العالمين. فلم يذكر توجيها ولا تسبيحا. فإن قيل: فإن عليا قد أخبر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقوله. قلنا: يحتمل أن يكون قاله قبل التكبير ثم كبر، وذلك حسن عندنا. فإن قيل: فقد روى النسائي والدارقطني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا افتتح «1» الصلاة كبر ثم يقول: (إن صلاتي ونسكي) الحديث قلنا: هذا نحمله على النافلة في صلاة الليل، كما جاء في كتاب النسائي عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا افتتح «2» الصلاة بالليل قال: (سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك). أو في النافلة مطلقا، فإن النافلة أخف من الفرض، لأنه يجوز أن يصليها قائما وقاعدا وراكبا، وإلى القبلة وغيرها في السفر، فأمرها أيسر. وقد روى النسائي عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قام يصلي تطوعا قال: (الله أكبر. وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك (. ثم يقرأ. وهذا نص في التطوع لا في الواجب. وإن صح أن ذلك كان في الفريضة بعد التكبير، فيحمل
__________
(1). في ك وى استفتح.
(2). في ك وز وب: استفتح.

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

على الجواز والاستحباب، وأما المسنون فالقراءة بعد التكبير، والله بحقائق الأمور عليم. ثم إذا قال فلا يقل:" وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ". وهي: الرابعة- إذ ليس أحدهم بأولهم إلا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإن قيل: أو ليس إبراهيم والنبيون قبله؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة: الأول: أنه أول الخلق أجمع معنى، كما في حديث أبي هريرة من قوله عليه السلام: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة). وفي حديث حذيفة (نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق) الثاني: أنه أولهم لكونه مقدما في الخلق عليهم، قال الله تعالى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «1»". قال قتادة: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث «2». فلذلك وقع ذكره هنا مقدما قبل نوح وغيره. الثالث: أول المسلمين من أهل ملته، قال ابن العربي وهو قول قتادة وغيره. واختلفت الروايات في" أَوَّلُ" ففي بعضها ثبوتها وفي بعضها لا، على ما ذكرنا. وروى عمران بن حصين قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك في أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه ثم قولي:" إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ". قال عمران: يا رسول الله، هذا لك ولأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: (بل للمسلمين عامة).

[سورة الأنعام (6): آية 164]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
قوله تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي مالكه. روي أن الكفار قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، وأترك ما أنت
__________
(1). راجع ج 14 ص 126.
(2). الحديث في كشف الخفا:" كنت أول البنين" الحديث وفية مبحث قيم. ج 2 ص 129. [.....]

عليه، ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك، فنزلت الآية. وهي استفهام يقتضي التقرير والتوبيخ. و" غَيْرَ" نصب" ب" أَبْغِي" و" رَبًّا" تمييز. قوله تعالى: (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى:" وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها" أي لا ينفعني في ابتغاء رب غير الله كونكم على ذلك، إلا تكسب كل نفس إلا عليها، أي لا يؤخذ بما أتت من المعصية، وركبت من الخطيئة سواها. الثانية: وقد استدل بعض العلماء من المخالفين بهذه الآية على أن بيع الفضولي لا يصح، وهو قول الشافعي. وقال علماؤنا: المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا، بدليل قول تعالى:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى " على ما يأتي. وبيع الفضولي عندنا موقوف على إجازة المالك، فإن أجازه جاز. هذا عروة البارقي قد باع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واشترى وتصرف بغير أمره، فأجازه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبه قال أبو حنيفة. وروى البخاري والدارقطني عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلب «1» فأعطاني دينارا وقال: (أي عروة ايت الجلب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار) فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما- أو قال أقودهما- فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعته إحدى الشاتين بدينار، وجئت بالشاة الأخرى وبدينار، فقلت: يا رسول الله، هذه الشاة وهذا ديناركم. قال: (كيف صنعت)؟ فحدثته الحديث. قال: (اللهم بارك له في صفقة يمينه). قال: فلقد رأيتني أقف في كناسة «2» الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي. لفظ الدارقطني. قال أبو عمر: وهو حديث جيد، وفية «3» صحة ثبوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشاتين «4»، ولولا ذلك ما أخذ منه الدينار ولا أمضى له البيع. وفية دليل على جواز الوكالة، ولا خلاف فيها بين العلماء. فإذا قال الموكل لو كيله: اشتر كذا، فاشترى زيادة على ما وكل به فهل يلزم ذلك الأمر أم لا؟. كرجل قال لرجل: أشتر بهذا
__________
(1). الجلب (بالتحريك): ما جلب القوم من غنم وغيره.
(2). محله بالكوفة يشبه أن تكون سوقا.
(3). في ج: في صحته ثبوت.
(4). في ك: للشارين.

الدرهم رطل لحم، صفته كذا، فاشترى له أربعة أرطال من تلك الصفة بذلك الدرهم. فالذي عليه مالك وأصحابه أن الجميع يلزمه إذا وافق الصفة ومن جنسها، لأنه محسن. وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: الزيادة للمشتري. وهذا الحديث حجة عليه. قوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى )" أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها. واصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى:" وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ «1»". وهو هنا الذنب، كما قال تعالى:" وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ". وقد تقدم «2». قال الأخفش: يقال وزر يوزر، ووزر يزر، ووزر يوزر وزرا. ويجوز أزرا، كما يقال: أساده «3». والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أو زاركم، ذكره ابن عباس. وقيل: إنها نزلت ردا على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وبابنه وبجريرة حليفه. قلت: ويحتمل أن يكون المراد بهذه الآية في الآخرة، وكذلك التي قبلها، فأما التي «4» في الدنيا فقد يؤاخذ فيها بعضهم بجرم بعض، لا سيما إذا لم ينه الطائعون العاصين، كما تقدم في حديث أبي بكر في قول:" عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ «5»". وقوله تعالى:" وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «6»"." إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «7»". وقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، انهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث). قال العلماء: معناه أولاد الزنى. والخبث (بفتح الباء) اسم للزنى. فأوجب الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دية الخطأ على العاقلة حتى لا يطل «8» دم الحر «9» المسلم تعظيما للدماء. وأجمع أهل العلم على ذلك من غير خلاف بينهم في ذلك ز، فدل على ما قلناه. وقد يحتمل أن يكون هذا في الدنيا، في ألا يؤاخذ زيد بفعل عمرو، وأن كل مباشر لجريمة فعليه مغبتها. وروى أبو داود عن أبي رمثة قال، انطلقت مع أبي نحو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إن النبي
__________
(1). راجع ج 20 ص 105.
(2). راجع ج 6 ص 413 وص 342.
(3). في قولهم: وسادة.
(4). من ز.
(5). راجع ج 6 ص 413 وص 342.
(6). راجع ص 391 من هذا الجزء.
(7). راجع ج 9 ص 291.
(8). طل دمه: ذهب هدرا.
(9). في ك: المرء.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي: (ابنك هذا)؟ قال: إي ورب الكعبة. قال: (حقا). قال: أشهد به. قال: فتبسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضاحكا من ثبت «1» شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي. ثم قال: (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه). وقرا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ". ولا يعارض ما قلناه أولا بقوله:" وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «2»"، فإن هذا مبين في الآية الأخرى قوله:" لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «3»". فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها واتبع عليها فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضل «4» شي، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

[سورة الأنعام (6): آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ" خَلائِفَ" جمع خليفة، ككرائم جمع كريمة. وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة. أي جعلكم خلفا للأمم الماضية والقرون السالفة. قال الشماخ:
تصيبهم وتخطئني المنايا ... وأخلف في ربوع عن ربوع
(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في الخلق والرزق والقوة والبسطة والفضل والعلم. (دَرَجاتٍ) نصب بإسقاط الخافض، أي إلى درجات. (لِيَبْلُوَكُمْ) نصب بلام كي. والابتلاء الاختبار، أي ليظهر منكم ما يكون غايته الثواب والعقاب. ولم يزل بعلمه غنيا، فابتلي الموسر: بالغني وطلب منه الشكر، وأبتلي المعسر بالفقر وطلب منه الصبر. ويقال:" لِيَبْلُوَكُمْ" أي بعضكم ببعض. كما قال:" وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً «5»" على ما يأتي بيانه. ثم خوفهم
__________
(1). كذا في الأصول أي استقرار وفى سنن أبى داود: بين. [.....]
(2). راجع ج 13 ص 330. وص 12.
(3). راجع ج 10 ص 96.
(4). في ك: المظلين.
(5). راجع ج 13 ص 330. وص 12.

فقال: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه. (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن أطاعه. وقال:" سَرِيعُ الْعِقابِ" مع وصفه سبحانه بالإمهال، ومع أن عقاب النار في الآخرة، لأن كل آت قريب، فهو سريع على هذا. كما قال تعالى:" وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ «1»". وقال" يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً «2»". ويكون أيضا سريع العقاب لمن استحقه في دار الدنيا، فيكون تحذير المواقع «3» الخطيئة على هذه الجهة. والله أعلم. تمت سورة الأنعام بحمد الله تعالى وصلواته على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا «4».
__________
(1). راجع ج 10 ص 150.
(2). راجع ج 18 ص 283.
(3). في ز: لمواقعة.
(4). من ك.

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

تفسير سورة الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة الأعراف وهي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى:" وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ" إلى قوله:" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ «1»". وروى النسائي عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرقها في ركعتين. صححه أبو محمد عبد الحق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
قوله تعالى: (المص) تقدم في أول البقرة «2» وموضعه رفع بالابتداء. و" كِتابٌ" خبره. كأنه قال:" المص" حروف" كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ" وقال الكسائي: أي هذا كتاب. قوله تعالى: (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) فيه مسألتان: الأولى- قوله تعالى:" حَرَجٌ" أي ضيق، أي لا يضيق صدرك بالإبلاغ، لأنه روي عنه عليه السلام أنه قال: (إني أخاف أن يثلغوا «3» (رأسي فيدعوه خبزة) الحديث. خرجه مسلم. قال الكيا: فظاهره النهي، ومعناه نفي الحرج عنه، أي لا يضيق صدرك ألا يؤمنوا به، فإنما عليك البلاغ، وليس عليك سوى الإنذار به من شي من إيمانهم
__________
(1). راجع ص 304. فما بعد.
(2). راجع ج 1 ص 154.
(3). كذا في الأصول. والذي في صحيح مسلم: إذا يثلغوا رأسي. راجع صحيح مسلم. كتاب الجنة، باب الصفات التي يصرف بها أهل الجنه وأهل النار. والثلغ: الشدخ. وقيل: هو ضربك الشيء الرطب بالشيء اليابس حتى ينشدخ. وفى النهاية: إذن يثلغوا رأسي كما تثلغ الخبزة.

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)

أو كفرهم، ومثله قوله تعالى:" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «1»" الآية. وقال:" لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2»". ومذهب مجاهد وقتادة أن الحرج هنا الشك، وليس هذا شك الكفر إنما هو شك الضيق. وكذلك قوله تعالى:" وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ «3»". وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته. وفية بعد. والهاء في" مِنْهُ" للقرآن. وقيل: للإنذار، أي أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه. فالكلام فيه تقديم وتأخير. وقيل للتكذيب الذي يعطيه قوة الكلام. أي فلا يكن في صدرك ضيق من تكذيب المكذبين له. الثانية- قوله تعالى:" وَذِكْرى " يجوز أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض. فالرفع من وجهين، قال البصريون: هي رفع على إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: عطف على" كِتابٌ" والنصب من وجهين، على المصدر، أي وذكر به ذكرى، قال البصريون. وقال الكسائي: عطف على الهاء في" أَنْزَلْناهُ «4»". والخفض حملا على موضع" لِتُنْذِرَ بِهِ" والإنذار للكافرين، والذكرى للمؤمنين، لأنهم المنتفعون به.

[سورة الأعراف (7): آية 3]
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)
فيه مسألتان: الأولى- قوله تعالى: (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني الكتاب والسنة. قال الله تعالى:" وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «5»". وقالت فرقة: هذا أمر يعم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. والظاهر أنه أمر لجميع الناس دونه. أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن، وأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه. ودلت الآية على ترك اتباع الآراء مع وجود النص.
__________
(1). راجع ج 10 ص 353 وص 63.
(2). راجع ج 13 ص 89.
(3). راجع ج 10 ص 353 وص 63. [.....]
(4). كذا في الأصول. وفى السمين: إنها حال من الضمير في أنزل. وقال: هذا سهو.
(5). راجع ج 18 ص 17.

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)

الثانية- قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ)" مِنْ دُونِهِ" من غيره. والهاء تعود على الرب سبحانه، والمعنى: لا تعبدوا معه غيره، ولا تتخذوا من عدل عن دين الله وليا. وكل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه. وروي عن مالك بن دينار أنه قرأ" ولا تبتغوا من دونه أولياء" أي ولا تطلبوا. ولم ينصرف" أَوْلِياءَ" لأن فيه ألف التأنيث. وقيل: تعود على" ما" من قوله:" اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ". (قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ)" ما" زائدة. وقيل: تكون مع الفعل مصدرا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 4 الى 5]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها)" كَمْ" للتكثير، كما أن" رب" للتقليل. وهي في موضع رفع بالابتداء، و" أهلكنا" الخبر. أي وكثير من القرى- وهي مواضع اجتماع الناس- أهلكناها. ويجوز النصب بإضمار فعل بعدها، ولا يقدر قبلها، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. ويقوي الأول قوله:" وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ «1»" ولولا اشتغال" أَهْلَكْنا" بالضمير لانتصب به موضع" كَمْ". ويجوز أن يكون" أهلكنا" صفة للقرية، و" كَمْ" في المعنى هي القرية، فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت كم. يدل على ذلك قوله تعالى:" وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً" فعاد الضمير على" كَمْ". على المعنى، إذ كانت الملائكة في المعنى. فلا يصح على هذا التقدير أن يكون" كَمْ" في موضع نصب بإضمار فعل بعدها." فَجاءَها بَأْسُنا" فيه إشكال للعطف بالفاء. فقال الفراء: الفاء بمعنى الواو، فلا يلزم الترتيب. وقيل: أي وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، كقوله:" فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «2»". وقيل: إن
__________
(1). راجع ج 10 ص 235 وص 174.
(2). راجع ج 17 ص 103.

الهلاك. واقع ببعض القوم، فيكون التقدير: وكم من قرية أهلكنا بعضها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع. وقيل: المعنى وكم من قرية أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا. وقيل: أهلكناها بإرسالنا ملائكة العذاب إليها، فجاءها بأسنا وهو الاستئصال. والبأس، العذاب الآتي على النفس. وقيل: المعنى أهلكناها فكان إهلاكنا إياهم في وقت كذا، فمجيء البأس على هذا هو الإهلاك. وقيل: البأس غير الإهلاك، كما ذكرنا. وحكى الفراء أيضا أنه إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فيكون المعنى وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، مثل دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء، وأساء فشتمني، لأن الإساءة والشتم شي واحد. وكذلك قوله:" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «1»". المعنى- والله أعلم- انشق القمر فاقتربت الساعة. والمعنى واحد." بَياتاً" أي ليلا، ومنه البيت، لأنه يبات فيه. يقال: بات يبيت بيتا وبياتا. أوهم قائلون أي" أَوْ هُمْ قائِلُونَ" أي أو وهم قائلون، فاستثقلوا فحذفوا الواو، قاله الفراء. وقال الزجاج: هذا خطأ، إذا عاد الذكر استغني عن الواو، تقول: جاءني زيد راكبا أو هو ماش، ولا يحتاج إلى الواو. قال المهدوي: ولم يقل بياتا أو وهم قائلون لأن في الجملة ضميرا يرجع إلى الأول فاستغني عن الواو. وهو معنى قول الزجاج سواء، وليس أو للشك بل للتفصيل، كقولك: لأكرمنك منصفا لي أو ظالما. وهذه الواو تسمى عند النحويين واو الوقت. و" قائِلُونَ" من القائلة وهي القيلولة، وهي نوم نصف النهار وقيل: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم. والمعنى جاءهم عذابنا وهم غافلون إما ليلا وإما نهارا. والدعوى الدعاء، ومنه قول:" وَآخِرُ دَعْواهُمْ «2»". وحكى النحويون: اللهم أشركنا في صالح دعوى من دعاك. وقد تكون الدعوى بمعنى الادعاء. والمعنى: أنهم لم يخلصوا عند الإهلاك إلا على الإقرار بأنهم كانوا ظالمين." دَعْواهُمْ" في موضع نصب خبر كان، واسمها" إِلَّا أَنْ قالُوا". نظيره (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا «3»
__________
(1). راجع ج 17 ص 125.
(2). راجع ج 8 ص 313.
(3). راجع ج 13 ص 219.

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

ويجوز أن تكون الدعوى رفعا، و" أَنْ قالُوا" نصبا، كقوله تعالى:" لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا «1»" برفع" الْبِرَّ" وقوله:" ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا «2»" برفع" عاقبة".

[سورة الأعراف (7): الآيات 6 الى 7]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)
قوله تعالى: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) دليل على أن الكفار يحاسبون. وفي التنزيل" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا «3» حِسابَهُمْ". وفي سورة القصص" وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ «4»" يعني إذا استقروا في العذاب. والآخرة مواطن: موطن يسألون فيه للحساب. وموطن لا يسألون فيه. وسؤالهم تقرير وتوبيخ وإفضاح. وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح، أي عن جواب القوم لهم. وهو معنى قوله:" لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ «5»" على ما يأتي. وقيل: المعنى" فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ" أي الأنبياء" وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ" أي الملائكة الذين أرسلوا إليهم. واللام في" فَلَنَسْئَلَنَّ" لام القسم وحقيقتها التوكيد. كذا (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قال ابن عباس: ينطق عليهم «6». (وَما كُنَّا غائِبِينَ) أي كنا شاهدين لأعمالهم. ودلت الآية على أن الله تعالى عالم بعلم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 8 الى 9]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
قوله تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون" الْحَقُّ" نعته، والخبر" يَوْمَئِذٍ". ويجوز نصب" الحق" على المصدر. والمراد بالوزن وزن أعمال العباد
__________
(1). راجع ج 2 ص 237.
(2). راجع ج 14 ص 9 وص 129.
(3). راجع ج 20 ص 37.
(4). راجع ج 13 ص 315.
(5). راجع ج 14 ص 9 وص 129.
(6). عبارة الطبري:" ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم.

بالميزان. قال ابن عمر: توزن صحائف أعمال العباد. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر على ما يأتي. وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق. وقال مجاهد: الميزان الحسنات والسيئات بأعيانها. وعنه أيضا والضحاك والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن ضرب مثل، كما تقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن. قال الزجاج: هذا سائغ من جهة اللسان، والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان. قال القشيري: وقد أحسن فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الذين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة. وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل. وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصا. قال ابن فورك: وقد أنكرت المعتزلة «1» الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها. ومن المتكلمين من يقول: إن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها يوم القيامة. وهذا ليس بصحيح عندنا، والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التي فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف. وقد روي في الخبر ما يحقق ذلك، وهو أنه روي (أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رق مكتوب فيه" لا إله إلا الله" فيثقل). فقد علم أن لك يرجع إلى وزن ما كتب فيه الأعمال لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفتيه من الصحف التي فيها الأعمال. وفي صحيح مسلم عن صفوان بن محرز قال قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النجوى «2»؟ قال سمعته يقول: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطي صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله (. فقوله:) فيعطى صحيفة حسناته)
__________
(1). في ز: الإمامية. [.....]
(2). يريد مناجاة الله تعالى للعبد يوم القيامة.

دليل على أن الأعمال تكتب في الصحف وتوزن. وروى ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله تبارك وتعالى هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقول أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا ثم يقول ألك عذر ألك حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة (. زاد الترمذي (فلا يثقل مع اسم الله شي) وقال: حديث حسن غريب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في" الكهف «1» والأنبياء «2»" إن شاء الله تعالى. قوله تعالى:" فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ"" مَوازِينُهُ" جمع ميزان، وأصله موزان، قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله. ويمكن أن يكون ذلك ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع، كما تقول: خرج فلان إلى مكة على البغال، وخرج إلى البصرة في السفن. وفي التنزيل:" كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ"." كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ «3»". وإنما هو رسول واحد في أحد التأويلين. وقيل: الموازين جمع موزون، لا جمع ميزان. أراد بالموازين الأعمال الموزونة." وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ" مثله. وقال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان كفتان، فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته، فذلك قوله:" فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كفة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار. وما أشار إليه
__________
(1). راجع ج 11 ص 66 وص 293.
(2). راجع ج 13 ص 118 وص 122.
(3). راجع ج 13 ص 118 وص 122.

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

ابن عباس قريب مما قيل: يخلق الله تعالى كل جزء من أعمال العباد جوهرا فيقع الوزن على تلك الجواهر. ورده ابن فورك وغيره. وفي الخبر (إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صل الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي أنت وأمي! ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول أنا محمد نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها (. ذكره القشيري في تفسيره. وذكر أن البطاقة (بكسر الباء) رقعة فيها رقم المتاع بلغة. أهل مصر. وقال ابن ماجة: قال محمد بن يحيى: البطاقة الرقعة، وأهل مصر يقولون للرقعة بطاقة. وقال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، يقول الله تعالى: (يا جبريل زن بينهم فرد من بعض على بعض). قال: وليس ثم ذهب ولا فضة، فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فرد على المظلوم، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم، فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أن الله تعالى يقول يوم القيامة يا آدم ابرز إلى جانب الكرسي عند الميزان وانظر ما يرفع إليك من أعمال بنيك فمن رجح خيره على شره مثقال حبة فله الجنة ومن رجح شره على خيره مثقال حبة فله النار حتى تعلم أني لا أعذب إلا ظالما).

[سورة الأعراف (7): آية 10]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)
أي جعلناها لكم قرارا ومهادا، وهيأنا لكم فيها أسباب المعيشة. والمعايش جمع معيشة، أي ما يتعيش به من المطعم والمشرب وما تكون به الحياة. يقال: عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشا ومعيشة وعيشة. وقال الزجاج: المعيشة ما يتوصل به إلى العيش. ومعيشة في قول الأخفش وكثير من النحويين مفعلة. وقرا الأعرج:" معايش" بالهمز. وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال النحاس: والهمز لحن لا يجوز، لأن الواحدة معيشة، أصلها معيشة، فزيدت ألف الوصل وهي ساكنة والياء ساكنة، فلا بد من تحريك إذ لا سبيل

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

إلى الحذف، والألف لا تحرك فحركت الياء بما كان يجب لها في الواحد. ونظيره من الواو مناور ومناور، ومقام ومقاوم، كما قال الشاعر:
وإني لقوام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها
وكذا مصيبة ومصاوب. هذا الجيد، ولغة شاذة مصائب. قال الأخفش: إنما جاز مصائب لأن الواحدة معتلة. قال الزجاج: هذا خطأ يلزمه عليه أن يقول مقائم. ولكن القول أنه مثل وسادة وإسادة. وقيل: لم يجز الهمز في معايش لأن المعيشة مفعلة، فالياء أصلية، وإنما يهمز إذا كانت الياء زائدة مثل مدينة ومدائن، وصحيفة وصحائف، وكريمة وكرائم، ووظيفة ووظائف، وشبهه.

[سورة الأعراف (7): آية 11]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) لما ذكر نعمه ذكر ابتداء خلقه. وقد تقدم معنى الخلق «1» في غير موضع." ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ" أي خلقناكم نطفا ثم صورناكم، ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره. وقال الأخفش:" ثُمَّ" بمعنى الواو. وقيل: المعنى" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" يعني آدم عليه السلام، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم، على التقديم والتأخير. وقيل:" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" يعني آدم، ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر." ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ" راجع إليه أيضا. كما يقال: نحن قتلناكم، أي قتلنا سيدكم." ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ" وعلى هذا لا تقديم ولا تأخير، عن ابن عباس أيضا. وقيل: المعنى ولقد خلقناكم، يريد آدم وحواء، فآدم من التراب وحواء من ضلع من أضلاعه، ثم وقع التصوير بعد ذلك. فالمعنى: ولقد خلقنا أبويكم ثم صورناهما، قاله الحسن. وقيل: المعنى خلقناكم في ظهر آدم
__________
(1). راجع ج 1 ص 226، 251.

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)

ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. هذا قول مجاهد، رواه عنه ابن جريج وابن أبي نجيح. قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال. يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم، ثم صورهم حين أخذ عليهم الميثاق، ثم كان السجود بعد. ويقوي هذا" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ «1» ذُرِّيَّتَهُمْ". والحديث (أنه أخرجهم أمثال الذر فأخذ عليهم الميثاق). وقيل:" ثُمَّ" للإخبار، أي ولقد خلقناكم يعني في ظهر آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم صورناكم أي في الأرحام. قال النحاس: هذا صحيح عن ابن عباس. قلت: كل هذه الأقوال محتمل، والصحيح منها ما يعضده التنزيل، قال الله تعالى:" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «2»" يعني آدم. وقال:" وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها
«3»". ثم قال:" جَعَلْناهُ" أي جعلنا نسله وذريته" نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ" الآية «4». فآدم خلق من طين ثم صور وأكوم بالسجود، وذريته صوروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء. وقد تقدم في أول سورة الأنعام «5» أن كل إنسان مخلوق من نطفة وتربة، فتأمله وقال هنا:" خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ" وقال في آخر الحشر:" هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «6»". فذكر التصوير بعد البرء. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقيل: معنى" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" أي خلقنا الأرواح أولا ثم صورنا الأشباح آخرا. قوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) استثناء من غير الجنس. وقيل: من الجنس. وقد اختلف العلماء: هل كان من الملائكة أم لا. كما سبق بيانه في البقرة «7».

[سورة الأعراف (7): آية 12]
قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
__________
(1). راجع ص 313 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 12 ص 108.
(3). راجع ج د ص 1.
(4). راجع ج 12 ص 108.
(5). راجع ج 6 ص 388.
(6). راجع ج 18 ص 48.
(7). راجع ج 1 ص 29.

فيه أربع مسائل: الأولى- قوله تعالى: (ما مَنَعَكَ)" ما" في موضع رفع بالابتداء، أي أي شي منعك. وهذا سؤال توبيخ. ألا تسجد في موضع نصب، أي من أن تسجد. و" لا" زائدة. وفي ص" ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ «1»" وقال الشاعر:
أبي جوده لا البخل فاستعجلت به ... نعم من فتى لا يمنع الجود نائله
أراد أبي جوده البخل، فزاد" لا". وقيل: ليست بزائدة، فان المنع فيه طرف من القول والدعاء، فكأنه قال: من قال لك ألا تسجد؟ أو من دعاك إلى ألا تسجد؟ كما تقول: قد قلت لك ألا تفعل كذا. وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد. قال العلماء: الذي أحوجه إلى ترك السجود هو الكبر والحسد، وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمر بذلك. وكان أمره من قبل خلق آدم، يقول الله تعالى:" إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «2»". فكأنه دخله أمر عظيم من قوله" فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ". فإن في الوقوع توضيع الواقع وتشريفا لمن وقع له، فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره في ذلك الوقت. فلما نفخ فيه الروح وقعت الملائكة سجدا، وبقي هو قائما بين أظهرهم، فأظهر بقيامه وترك السجود ما في ضميره. فقال الله تعالى:" ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ" أي ما منعك من الانقياد لأمري، فأخرج سر ضميره فقال:" أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ". الثانية- قوله تعالى: (إِذْ أَمَرْتُكَ) يدل علما يقوله الفقهاء من أن الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة، لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة:" اسْجُدُوا لِآدَمَ" وهذا بين. الثالثة- قوله تعالى: (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أي منعني من السجود فضلي عليه، فهذا من إبليس جواب على المعنى. كما تقول: لمن هذه الدار؟ فيقول المخاطب: مالكها
__________
(1). راجع ج 15 ص 228 وص 227.
(2). راجع ج 15 ص 228 وص 227. [.....]

زيد. فليس هذا عين الجواب، بل هو كلام يرجع إلى معنى الجواب. (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فرأى أن النار أشرف من الطين، لعلوها وصعودها وخفتها، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس. فمن قاس الدين برأيه قرنه مع إبليس. قال ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين، وإن كانا في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق. فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة: أحدها- أن من جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر. وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب. وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء، قال القفال. الثاني- إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وأن في النار ترابا. الثالث- أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سببا للعذاب. الرابع- أن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب. قلت- ومحتمل قولا خامسا وهو أن التراب مسجد وطهور، كما جاء في صحيح الحديث. والنار تخويف وعذاب، كما قال تعالى:" ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ «1»". وقال ابن عباس: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وهو أول من قاس برأيه. والقياس في مخالفة النص مردود. الرابعة- واختلف الناس في القياس إلى قائل به، وراد له، فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون، وجمهور من بعدهم، وأن التعبد به جائز عقلا واقع شرعا، وهو الصحيح.
__________
(1). راجع ج 15 ص 243.

وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسين البصري إلى وجوب التعبد به عقلا. وذهب النظام إلى أنه يستحيل التعبد به عقلا وشرعا، ورده بعض أهل الظاهر. والأول الصحيح. قال البخاري في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم فإن لم يوجد فالقياس. وقد ترجم على هذا (باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمها ليفهم السائل). وترجم بعد هذا (باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها). وقال الطبري: الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع الأمة هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس، فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة. وقال أبو بكر: أقيلوني بيعتي. فقال علي: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، رضيك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ فقاس الإمامة على الصلاة. وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال: والله لا أفرق بين ما جمع الله. وصرح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحده حد القاذف. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابا فيه: الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، أعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى. الحديث بطوله ذكره الدارقطني. وقد قال أبو عبيدة لعمر (رضي الله «1» عنهما) في حديث الوباء، حين رجع عمر من سرغ «2»: نفر من قدر الله؟ فقال عمر: نعم! نفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم قال له عمر: أرأيت «3» ... فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار، وحسبك. وأما الآثار وأى القرآن في هذا المعنى فكثير. وهو يدل على أن القياس أصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يرجع إليه المجتهدون، ويفزع إليه العلماء العاملون، فيستنبطون
__________
(1). من ع.
(2). موضع قرب الشام بين المغيثة وتبوك.
(3). راجع الموطأ:" باب ما جاء في الطاعون".

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)

به الأحكام. وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها. وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف «1» المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة، لأن ذلك ظن و«2» نزغ من الشيطان، قال الله تعالى:" وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «3»". وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم، الذي ليس له في الشرع أصل معلوم. وتتميم هذا الباب في كتب الأصول.

[سورة الأعراف (7): آية 13]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
قوله تعالى: (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أي من السماء. (فما يكون لك أن تتكبر فيها لأن أهلها الملائكة المتواضعون.) فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي من الأذلين. ودل هذا أن من عصى مولاه فهو ذليل. وقال أبو روق والبجلي:" فَاهْبِطْ مِنْها" أي من صورتك التي أنت فيها، لأنه افتخر بأنه من النار فشوهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه. وقيل:" فَاهْبِطْ مِنْها" أي انتقل من الأرض إلى جزائر البحار، كما يقال: هبطنا أرض كذا أي انتقلنا إليها من مكان أخر، فكأنه أخرج من الأرض إلى جزائر البحار فسلطانه فيها، فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق «4» يخاف فيها حتى يخرج منها. والقول الأول أظهر. وقد تقدم في البقرة «5».

[سورة الأعراف (7): الآيات 14 الى 15]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
سأل النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب. طلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده، فقال الله تعالى: (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ). قال ابن عباس والسدي وغيرها:
__________
(1). في ع: المشكل.
(2). في ع: وغرور. وفى ب: نغز. وهو الإغراء.
(3). راجع ج 10 ص 257.
(4). في ب: الساري بالياء.
(5). راجع ج 1 ص 327.

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين، فأبى الله ذلك عليه. وقال:" إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" ولم يتقدم من يبعث، لأن القصة في آدم وذريته، فدلت القرينة على أنهم هم المبعوثون.

[سورة الأعراف (7): الآيات 16 الى 17]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)
فيه ثلاث مسائل: الأولى- قوله تعالى: (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الإغواء إيقاع الغي في القلب، أي فبما أوقعت في قلبي من الغي والعناد والاستكبار. وهذا لأن كفر إبليس ليس كفر جهل، بل هو كفر عناد واستكبار. وقد تقدم في البقرة «1». قيل: معنى الكلام القسم، أي فبإغوائك إياي لأقعدن لهم على صراطك، أو في صراطك، فحذف. دليل على هذا القول قوله في (ص):" فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «2»" كأن إبليس أعظم قدر إغواء الله إياه لما فيه من التسليط على العباد، فأقسم به إعظاما لقدره عنده. وقيل: الباء بمعنى اللام، كأنه قال: فلإغوائك إياي. وقيل: هي بمعنى مع، والمعنى فمع إغوائك إياي. وقيل: هو استفهام، كأنه سأل بأي شي أغواه؟. وكان ينبغي على هذا أن يكون: فبم أغويتني؟. وقيل: المعنى فبما أهلكتني بلعنك إياي. والإغواء الإهلاك، قال الله تعالى:" فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «3»" أي هلاكا. وقيل: فبما أضللتني. والإغواء: الإضلال والإبعاد، قال ابن عباس. وقيل: خيبتني من رحمتك، ومنه قول الشاعر «4»:
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
__________
(1). راجع ج 1 ص 295.
(2). راجع ج 15 ص 228.
(3). راجع ج 11 ص 125.
(4). هذا عجز بيت للرقش، وصدره كما في اللسان مادة غوى:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

أي من يخب. وقال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوي «1» غيا إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه. وهو أحد معاني قول تعالى:" وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «2»" أي فسد عيشه في الجنة. ويقال: غوي الفصيل إذا لم يدر لبن أمه. الثانية- مذهب أهل السنة أي أن الله تعالى أضله وخلق فيه الكفر، ولذلك نسب الإغواء في هذا إلى الله تعالى وهو الحقيقة، فلا شي في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى. وخالف الإمامية والقدرية وغيرهما شيخهم إبليس الذي طاوعوه في كل ما زينه لهم، ولم يطاوعوه في هذه المسألة ويقولون: أخطأ إبليس، وهو أهل للخطأ حيث نسب الغواية إلى ربه، تعالى الله عن ذلك. فيقال لهم: وإبليس وإن كان أهلا للخطأ فما تصنعون في نبي مكرم معصوم، وهو ونوح عليه السلام حيث قال لقومه:" وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «3»" وقد روي أن طاوسا جاءه رجل في المسجد الحرام، وكان متهما بالقدر، وكان من الفقهاء الكبار، فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تقام؟ فقيل لطاوس: تقول هذا لرجل فقيه! فقال: إبليس أفقه منه، يقول إبليس: رب بما أغويتني. ويقول هذا: أنا أغوي نفسي. الثالثة- قوله تعالى:" (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)" أي بالصد عنه، وتزيين الباطل حتى يهلكوا كما هلك، أو يضلوا كما ضل، أو يخيبوا كما خيب، حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة ف" أَغْوَيْتَنِي". والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة. و" صِراطَكَ" منصوب على حذف" على" أو" في" من قوله:" صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ"، كما حكى سيبويه" ضرب زيد الظهر والبطن". وأنشد:
لدن بهزّ الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب «4»
__________
(1). من ج. [.....]
(2). راجع ج 11 ص 255.
(3). راجع ج 9 ص 28.
(4). البيت لساعدة بن جوية. يريد في الطريق. وصف في البيت رمحا لين الهز فشبه اضطرابه في نفسه أو في حال هزه بعسلان الثعلب في سيره. والعسل العسلان (بالتحريك): سير سريع في اضطراب. واللدن: الناعم اللين. (عن شرح الشواهد).

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

ومن أحسن ما قيل في تأويل (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي لأصدنهم «1» عن الحق، وأرغبنهم في الدنيا، وأشككهم في الآخرة. وهذا غاية في الضلالة. كما قال:" وَلَأُضِلَّنَّهُمْ «2»" حسب ما تقدم. وروى سفيان عن منصور عن الحكم بن عتيبة:" مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ" من دنياهم." وَمِنْ خَلْفِهِمْ" من آخرتهم." وَعَنْ أَيْمانِهِمْ" يعني حسناتهم." وَعَنْ شَمائِلِهِمْ" يعني سيئاتهم. قال النحاس: وهذا قول حسن وشرحه: أن معنى" ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
" من دنياهم، حتى يكذبوا بما فيها «3» من الآيات وأخبار الأمم السالفة" وَمِنْ خَلْفِهِمْ" من آخرتهم حتى يكذبوا بها." وَعَنْ أَيْمانِهِمْ" من حسناتهم وأمور دينهم. ويدل على هذا قوله:" إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ"." وَعَنْ شَمائِلِهِمْ" يعني سيئاتهم، أي يتبعون الشهوات، لأنه يزينها لهم. (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي موحدين طائعين مظهرين الشكر.

[سورة الأعراف (7): آية 18]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
قوله تعالى: (قالَ اخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة. (مَذْؤُماً مَدْحُوراً)" مَذْؤُماً" أي مذموما. والذام: العيب، بتخفيف «4» الميم. قال ابن زيد: مذءوما ومذموما سواء، يقال: ذأمته وذممته وذمته بمعنى واحد. وقرا الأعمش" مَذْؤُماً". والمعنى واحد، إلا أنه خفف الهمزة «5». وقال مجاهد: المذءوم المنفي. والمعنيان متقاربان. والمدحور: المبعد المطرود، عن مجاهد وغيره. وأصله الدفع. (لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) اللام لام القسم، والجواب" لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ". وقيل:" لَمَنْ تَبِعَكَ" لام توكيد." لَأَمْلَأَنَّ" لام قسم. والدليل على هذا أنه يجوز في غير القراءة حذف اللام الأولى، ولا يجوز
__________
(1). في ج: لأضلنهم.
(2). راجع ج 5 ص 389.
(3). راجع ج 15 ص 73.
(4). في ج: مما قبلها.
(5). لا حاجة لهذا القيد: فإن الهمز كاف للفرق بيته وبين الذم.

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

حذف الثانية. وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة، أي من تبعك عذبته. ولو قلت: من تبعك أعذبه لم يجز، إلا أن تريد لأعذبه. وقرا عاصم من رواية أبي بكر بن عياش" لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ" بكسر اللام. وأنكره بعض النحويين. قال النحاس: وتقديره- والله أعلم- من أجل من تبعك. كما يقال: أكرمت فلانا لك. وقد يكون المعنى: الدحر لمن تبعك. ومعنى" مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ" أي منكم ومن بني آدم، لأن ذكرهم قد جرى إذ قال:" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" خاطب ولد آدم.

[سورة الأعراف (7): آية 19]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
قال لآدم بعد إخراج إبليس من موضعه من السماء: اسكن أنت وحواء الجنة. وقد تقدم في البقرة «1» معنى الإسكان، فأغنى عن إعادته. وقد تقدم معنى ولا تقربا هذه الشجرة هناك. والحمد لله.

[سورة الأعراف (7): آية 20]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20)
قوله تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أي إليهما. قيل: داخل الجنة بإدخال الحية إياه وقيل: من خارج بالسلطنة «2» التي جعلت له. وقد مضى هذا في البقرة. والوسوسة: الصوت الخفي. والوسوسة: حديث النفس يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا (بكسر الواو). والوسواس (بالفتح): اسم مثل الزلزال. ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي: وسواس. قال الأعشى:
__________
(1). راجع ج 1 ص 298. وص 204.
(2). في ج: بالشيطة.

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل «1»
والوسواس: اسم الشيطان قال الله تعالى: (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ «2»). (لِيُبْدِيَ لَهُما) أي ليظهر لهما. واللام لام العاقبة كما قال (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «3») وقيل: لام كي و(وُورِيَ) أي ستر وغطى عنهما. ويجوز في غير القرآن أورى مثل أقتت ومن سوءاتهما من (عوراتها «4») وسمي الفرج عورة لأن إظهاره يسوء صاحبه. ودل هذا على قبح كشفها فقيل: إنما بدت سوءاتهما لهما لا لغيرهما كان عليهما نور «5» لا ترى عوراتهما فزال النور. وقيل: ثوب فتهافت «6»، والله أعلم. (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (أَنْ) في موضع نصب، بمعنى إلا، كراهية أن فحذف المضاف. هذا قول البصرين. والكوفيون يقولون: لئلا تكونا. وقيل: أي إلا ألا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر. وقيل طمع آدم في الخلود لأنه علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة. قال النحاس: وبين الله عز وجل فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن فمنها هذا وهو (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ). ومنه (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ «7»). ومنهَ- لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
«8» وقال الحسن: فضل الله الملائكة بالصور. والأجنحة والكرامة. وقال غيره: فضلهم جل وعز بالطاعة وترك المعصية، فلهذا يقع التفضيل في كل شي. وقال ابن فورك. لا حجة في هذه الآية، لأنه يحتمل أن يريد ملكين في ألا يكون لهما شهوة في طعام. واختيار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة، وقد مضى في البقرة «9». وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، لأنهم من جملة رسل الله. وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله. وقرا ابن عباس" ملكين" بكسر اللام، وهي قراءة يحيى بن أبي «10» كثير والضحاك. وأنكر
__________
(1). العشرق كزبرج: شجر قدر ذراع له حب صغار إذا جف صوت بمر الريح.
(2). راجع ج 20 ص 261.
(3). راجع ج 13 ص 252.
(4). من ج وك وى. [.....]
(5). النور بفتح النون: الزهر.
(6). تهافت: تساقط.
(7). راجع ج 9 ص 25.
(8). راجع ج 6 ص 26.
(9). راجع ج 1 ص 289.
(10). من ب وع وز.

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)

أبو عمرو بن العلاء كسر اللام وقال: لم يكن قبل آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ملك فيصيرا ملكين. قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة إسكان اللام، ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة. قال ابن عباس: أتاهما الملعون من جهة الملك، ولهذا قال:" هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى «1»". وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله:" وَمُلْكٍ لا يَبْلى " حجة بينة، ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس:" إلا أن تكون ملكين" قراءة شاذة. وقد أنكر على أبى عبيد هذا الكلام، وجعل من الخطأ الفاحش. وهل يجوز أن يتوهم آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة، وهو غاية الطالبين. وإنما معنى" وَمُلْكٍ لا يَبْلى " المقام في ملك الجنة، والخلود فيه.

[سورة الأعراف (7): آية 21]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
قوله تعالى: (وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما. يقال: أقسم أقساما، أي حلف. قال الشاعر:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها «2»
وجاء" فاعلت" من واحد. وهو يرد على من قال: إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين. وقد تقدم في المائدة. (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ليس" لَكُما" داخلا في الصلة. والتقدير: إني ناصح لكما لمن الناصحين، قاله هشام النحوي. وقد تقدم مثله في البقرة. ومعنى الكلام: اتبعاني أرشدكما، ذكره قتادة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 22 الى 24]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)
__________
(1). راجع ج 11 ص 254.
(2). السلوى: العسل. وشار العسل: اجتناه واخذه من موضعه.

قوله تعالى: (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أوقعهما في الهلاك. قال ابن عباس: غرهما باليمين. وكان يظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذبا، فغررهما بوسوسته وقسمه لهما. وقال قتادة: حلف بالله لهما حتى خدعهما. وقد يخدع المؤمن بالله. كان بعض العلماء يقول: من خادعنا بالله خدعنا. وفي الحديث عنه صلى: (المؤمن غر «1» كريم والفاجر خب لئيم). وأنشد نفطويه:
إن الكريم إذا تشاء خدعته ... وترى اللئيم مجربا لا يخدع
" فَدَلَّاهُما" يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وقيل:" فَدَلَّاهُما" أي دللهما، من الدالة وهي الجرأة. أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة. قوله تعالى: (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) فيه ثلاث مسائل: الأولى- قوله تعالى:" فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ" أي أكلا منها. وقد مضى في" البقرة" الخلاف في هذه الشجرة «2»، وكيف أكل آدم منها." بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما" أكلت حواء أولا فلم يصبها شي، فلما أكل آدم حلت العقوبة، لأن النهي ورد عليهما كما تقدم في" البقرة «3»". قال ابن عباس: تقلص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل. الثانية-" وَطَفِقا" ويجوز إسكان «4» الفاء. وحكى الأخفش طفق يطفق، مثل ضرب يضرب. يقال: طفق، أي أخذ في الفعل." يَخْصِفانِ" وقرا الحسن بكسر الخاء وشد الصاد. والأصل" يختصفان" فأدغم، وكسر الخاء
__________
(1). الغر: الذي لا يفطن للشر. والخلب (بكسر الخاء وفتحها): ضد الغر، وهو الخدع المفسد. الرواية الثابتة عن أبى هريرة: والمنافق خب لئيم بدل الفاجر.
(2). راجع ج 1 ص 304.
(3). راجع ج 1 ص 304.
(4). كذا في الأصول. والمتبادر أنه يريد المصدر على لغة ضرب ضربا لأن طفق كفرح.

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

وشد الصاد. والأصل يخصفان فأدغم وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. وقرا ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء، ألقيا حركة التاء عليها. ويجوز" يخصفان" بضم الياء، من خصف يخصف. وقرا الزهري" يخصفان" من أخصف. وكلاهما منقول بالهمزة أو التضعيف والمعنى: يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به، ومنه خصف النعل. والخصاف الذي يرقعها. والمخصف المثقب. قال ابن عباس: هو ورق التين. ويروى أن آدم عليه السلام لما بدت سوأته وظهرت عورته طاف على أشجار الجنة يسل «1» منها ورقة يغطي بها عورته، فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة." وَطَفِقا" يعني آدم وحواء" يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ" فكافأ الله التين بأن سوى ظاهره وباطنه في الحلاوة والمنفعة وأعطاه ثمرتين في عام واحد مرتين. الثانية- وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر، ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة، كما قيل لهما:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ". وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك، لأنه سترة ظاهرة يمكنه التستر بها، كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم. قوله «2» تعالى: (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ. قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي قال لهما: ألم أنهكما. قالا رَبَّنا نداء مضاف. والأصل يا ربنا. وقيل. إن في حذف" يا" معنى التعظيم. فاعترفا بالخطيئة وتابا (صلى الله عليهما وسلم «3»). وقد مضى في (البقرة «4») ومعنى قوله: (قالَ اهْبِطُوا) تقدم أيضا إلى آخر الآية.

[سورة الأعراف (7): آية 25]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)
الضمائر كلها للأرض. ولم يذكر الواو في" قالَ"، ولو ذكرها لجاز «5» أيضا. وهو كقولك: قال زيد لعمرو كذا قال له كذا.
__________
(1). في ك: يسأل.
(2). في ع وز وك: الثالثة قوله تعالى:" وَناداهُما" الآية. [.....]
(3). من ع.
(4). راجع ج 1 ص 324. وص 319.
(5). أي في مثل هذا التركيب في غير القرآن.

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

[سورة الأعراف (7): آية 26]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
فيه أربع مسائل: الأولى- قوله تعالى: (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) قال كثير من العلماء: هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة، لأنه قال:" يُوارِي سَوْآتِكُمْ". وقال قوم إنه ليس فيها دليل على ما ذكروه، بل فيها دلالة على الإنعام فقط. قلت: القول الأول أصح. ومن جملة الإنعام ستر العورة، فبين أنه (سبحانه وتعالى «1») جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس. واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال ابن أبي ذئب: هي من الرجل الفرج نفسه، القبل والدبر دون غيرهما. وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عبلة «2» والطبري، لقوله تعالى:" لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ"،" بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما"،" لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما". وفي البخاري عن أنس:" فأجرى «3» رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زقاق خيبر- وفية- ثم حسر «4» الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وقال أبو حنيفة: الركبة عورة. وهو قول عطاء. وقال الشافعي: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح. وحكى أبو حامد الترمذي أن للشافعي في السرة قولين. وحجة مالك قوله عليه السلام لجرهد: (غط فخذك فإن الفخذ عورة). خرجه البخاري تعليقا وقال: حديث أنس أسند «5»، وحديث جرهد أحوط حتى يخرج من اختلافهم. وحديث جرهد هذا
__________
(1). من ع.
(2). في وز: وابن عطية.
(3). أي أجرى دابته.
(4). أي أقوى وأحسن سندا من حديث جرهد.
(5). أي أقوى وأحسن سندا من حديث جرهد

يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة. وروي أن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي وقال: أقبل منك ما كان رسول الله صلى عليه وسلم يقبل منك. فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة، ولا مكنه الحسن منها. وأما المرأة الحرة فعورة كلها إلا الوجه والكفين. على هذا أكثر أهل العلم. وقد قال النبي صلى: (من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها). ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كشيء من المرأة عورة حتى ظفرها. وروي عن أحمد بن حنبل نحوه. وأما أم الولد فقال الأثرم: سمعته- يعني أحمد بن حنبل- يسأل عن أم الولد كيف تصلي؟ فقال: تغطي رأسها وقدميها، لأنها لا تباع، وتصلي كما تصلي الحرة. وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثديها، ولها أن تبدي رأسها ومعصميها. وقيل: حكمها حكم الرجل. وقيل: يكره لها كشف رأسها وصدرها. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطيتهن رءوسهن ويقول: لا تشبهن بالحرائر. وقال أصبغ: إن انكشف فخذها أعادت الصلاة في الوقت. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل شي من الأمة عورة حتى ظفرها. وهذا خارج عن أقوال الفقهاء، لإجماعهم على أن المرأة الحرة لها أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله، تباشر الأرض به. فالأمة أولى، وام الولد أغلظ حالا من الأمة. والصبي الصغير لا حرمة لعورته. فإذا بلغت الجارية إلى حد تأخذها العين وتشتهي سترت عورتها. وحجة أبي بكر بن عبد الرحمن قول تعالى:" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ «1»". وحديث أم سلمة أنها سئلت: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: تصلي الدرع والخمار السابغ الذي يغيب ظهور قدميها. وقد روي مرفوعا. والذين أوقفوه على أم سلمة أكثر وأحفظ، منهم مالك وابن إسحاق وغيرهما. قال أبو داود: ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه «2» عن أم سلمة أنها سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1). راجع ج 14 ص 241.
(2). في ب: عن أبيه. وقد روى عن أبيه وأمه.

قال أبو عمر: عبد الرحمن هذا ضعيف عندهم، إلا أنه قد خرج البخاري بعض حديثه. والإجماع في هذا الباب أقوى من الخبر. الثانية- قوله تعالى:" أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً" يعني المطر الذي ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم «1» الذي منها الأصواف والأوبار والأشعار، فهو مجاز مثل" وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «2»" على ما يأتي. وقيل: هذا الإنزال إنزال شي اللباس مع آدم وحواء، ليكون مثالا لغيره. وقال سعيد بن جبير:" أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ" (أي «3») خلقنا لكم، كقوله:" وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ" أي خلق. على ما يأتي. وقيل: ألهمناكم كيفية صنعته. الثالثة- قوله تعالى: (وَرِيشاً) قرأ أبو عبد الرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي، وأبو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي" ورياشا". ولم يحكه أبو عبيد «4» إلا عن الحسن، ولم يفسر معناه. وهو جمع ريش. وهو ما كان من المال واللباس. وقال الفراء: ريش ورياش، كما يقال: لبس ولباس. وريش الطائر ما ستره الله به. وقيل: هو الخصب ورفاهية العيش. والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. وأنشد سيبويه:
فريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زياتكم لماما
وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة: وهت له دابة بريشها، أي بكسوتها وما عليها من اللباس. الرابعة- قوله تعالى: (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) بين أن التقوى خير لباس، كما قال:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عيانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وروى قاسم بن مالك عن عوف عن معبد الجهني قال:" لِباسُ التَّقْوى " الحياء. وقال ابن عباس:" لِباسُ التَّقْوى " هو العمل الصالح. وعنه أيضا: السمت الحسن
__________ (1). كذا في الأصول. ولعل الصواب: التي.
(2). راجع ج 15 ص 234.
(3). من ك.
(4). في ك: أبو عبد الرحمن. [.....]

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)

في الوجه. وقيل: ما علمه عز وجل وهدى به. وقيل:" لِباسُ التَّقْوى " لبس الصوف والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله تعالى ويتعبد له خير من غيره. وقال زيد بن علي:" لِباسُ التَّقْوى " الدرع والمغفر، والساعدان، والساقان، يتقى بهما في الحرب. وقال عروة بن الزبير: هو الخشية لله. وقيل: هو استشعار تقوى الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه. قلت: وهو الصحيح، وإليه يرجع قول ابن عباس وعروة. وقول زيد بن علي حسن، فإنه خض على الجهاد. وقال ابن زيد: هو ستر العورة. وهذا فيه تكرار، إذ قال أولا:" قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ". ومن قال: إنه لبس الخشن من الثياب فإنه أقرب إلى التواضع وترك الرعونات فدعوى، فقد كان الفضلاء من العلماء يلبسون الرفيع من الثياب مع حصول التقوى، على ما يأتي مبينا إن شاء الله تعالى. وقرا أهل المدينة والكسائي" لباس" بالنصب عطفا على" لِباساً" الأول. وقيل: انتصب بفعل مضمر، أي وأنزلنا لباس التقوى. والباقون بالرفع على الابتداء. و" ذلِكَ" نعته و" خَيْرٌ" خبر الابتداء. والمعنى: ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم، ومن الرياش الذي أنزلنا إليكم، فألبسوه. وقيل: ارتفع بإضمار هو، أي وهو لباس التقوى، أي هو ستر العورة. وعليه يخرج قول ابن زيد. وقيل: المعنى ولباس التقوى هو خير، ف" ذلِكَ" بمعنى هو. والإعراب الأول أحسن ما قيل فيه. وقرا الأعمش" ولباس التقوى خير" ولم يقرأ" ذلِكَ". وهو خلاف المصحف. (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) أي مما يدل على أن له خالقا. و" ذلِكَ" رفع على الصفة، أو على البدل، أو عطف بيان.

[سورة الأعراف (7): آية 27]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)

فيه مسألتان: الأولى- قوله تعالى: (لا يَفْتِنَنَّكُمُ) أي لا يصرفنكم الشيطان عن الدين، كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة." أب" للمذكر، و" أبة" للمؤنث. فعلى هذا قيل: أبوان (ينزع عنهما لباسهما) في موضع نصب على الحال. ويكون مستأنفا فيوقف على" مِنَ الْجَنَّةِ"." لِيُرِيَهُما" نصب بلام كي. (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) الأصل يرءاكم ثم خففت الهمزة. وقبيله عطف على المضمر وهو توكيد ليحسن العطف كقوله: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وهذا يدل على أنه يقبح رأيتك وعمرو، وأن المضمر كالمظهر وفي هذا أيضا دليل على وجوب ستر العورة، لقوله: (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما). قال الآخرون: إنما فيه التحذير من زوال النعمة، كما نزل بآدم. هذا أن لو ثبت أن شرع آدم يلزمنا، والأمر بخلاف ذلك. الثانية- قوله تعالى: (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ)" قبيله" جنوده. قال مجاهد: يعني الجن والشياطين. ابن زيد:" قَبِيلُهُ" نسله. وقيل: جيله. من حيث لا ترونهم قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن الجن لا يرون، لقوله" مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ" قيل: جائز أن يروا، لأن الله تعالى إذا أراد أن يريهم كشف أجسامهم حتى ترى. قال النحاس:" مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ" يدل على أن الجن لا يرون إلا في وقت نبي، ليكون ذلك دلالة على نبوته، لأن الله جل وعز خلقهم خلقا لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم. وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم. وفي الخبر (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). وقال تعالى:" الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ «1»". وقال عليه السلام: (إن للملك لمة وللشيطان لمة- أي بالقلب- فأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق (. وقد تقدم
__________
(1). راجع ج 20 ص 263.

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

في البقرة «1». وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة. وقد خرج البخاري عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة طويلة، ذكر فيها أنه أخذ الجني الذي كان يأخذ التمر، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: (ما فعل أسيرك البارحة). وفي صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (والله لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة)- في العفريت الذي تفلت «2» عليه. وسيأتي في" ص" إن «3» شاء الله تعالى. (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي زيادة في عقوبتهم وسوينا بينهم في الذهاب عن الحق.

[سورة الأعراف (7): آية 28]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)
الفاحشة هنا في قول كثر المفسرين طوافهم بالبيت عراة. وقال الحسن: هي الشرك والكفر. واحتجوا على ذلك بتقليدهم أسلافهم، وبأن الله أمرهم بها. وقال الحسن:" وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها" قالوا: لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه. (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) بين أنهم متحكمون، ولا دليل لهم على أن الله أمرهم بما ادعوا. وقد مضى ذم التقليد وذم كثير من جهالاتهم. وهذا منها.

[سورة الأعراف (7): الآيات 29 الى 30]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
__________
(1). راجع ج 3 ص 329. وص 269.
(2). أي تعرض بغتة.
(3). في قوله تعالى:" قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي ..." ج 15 ص 204.

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

قوله تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) قال ابن عباس: لا إله إلا الله. وقيل: القسط العدل، أي أمر: العدل فأطيعوه. ففي الكلام حذف. (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) أي توجهوا إليه في كل صلاة إلى القبلة. (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي في أي مسجد كنتم. (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ) الدين أي وحدوه ولا تشركوا به. (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) نظيره" وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «1»" وقد تقدم. والكاف في موضع نصب، أي تعودون كما بدأكم، أي كما خلقكم أول مرة يعيدكم. وقال الزجاج: هو متعلق بما قبله. أي ومنها تخرجون كما بدأكم تعودون. (فَرِيقاً هَدى )" فَرِيقاً" نصب على الحال من المضمر في" تَعُودُونَ" أي تعودون فريقين: سعداء، وأشقياء. يقوي هذا قراءة أبي" تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة"، عن الكسائي. وقال محمد بن «2» كعب القرظي في قوله تعالى" فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ" قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة، وإن عمل بأعمال الهدى. ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى، وإن عمل بأعمال الضلالة. ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة، وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه. قال:" وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ" وفي هذا رد واضح على القدرية ومن تابعهم. وقيل:" فَرِيقاً" نصب ب" هَدى "،" وَفَرِيقاً" الثاني نصب بإضمار فعل، أي وأضل فريقا. وأنشد سيبويه:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا «3»
قال الفراء: ولو كان مرفوعا «4» لجاز. (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقرأ عيسى بن عمر:" أنهم" بالهمزة، يعني لأنهم.

[سورة الأعراف (7): آية 31]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
__________
(1). راجع ص 42 من هذا الجزء.
(2). من البحر.
(3). البيتان للربيع بن ضبع الفزاري. وصف فيهما انتهاء شبيبته وذهاب قوته.
(4). أي في مثل هذا التركيب في غير كلام الله.

فيه سبع مسائل: الأولى- قوله تعالى: (يا بَنِي آدَمَ) هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا، فإنه عام في كل مسجد للصلاة. لأن العبرة للعموم لا! للسبب. ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف، لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة. وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يعيرني تطوافا «1»؟ تجعله على فرجها. وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية" خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" التطواف (بكسر التاء). وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط، قاله القاضي عياض. وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس «2»، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات «3». في غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى، قال قائل من العرب:
كفى حزنا كري عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم
فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى:" يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ" الآية «4». وأذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا لا يطوف بالبيت عريان.
__________
(1). الثوب الذي يطاف به. على وزن تفعال بالفتح وبالكسر.
(2). الحمس سموا بهذا لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا والخامسة الشجاعة.
(3). في صحيح مسلم: يبلغون عرفات.
(4). من ع.

قلت: ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال، لما رواه كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال ذات يوم: (خذوا زينة الصلاة) قيل: وما زينة الصلاة؟ قال: (البسوا نعالكم فصلوا فيها). الثانية- دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة. وقال الأبهري هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها. وهو الصحيح، لقوله عليه السلام للمسور بن مخرمة: (أرجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة). أخرجه مسلم. وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي، لأن كل شي من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك. قال ابن العربي: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه، قاله ابن القاسم. وقال سحنون: وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد. وروي عن سحنون أيضا: أنه يعيد ويعيدون، لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة. أصله الطهارة. قال القاضي ابن العربي: أما من قال، إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطا، وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها. وفي البخاري والنسائي عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومي من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا قال: (ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن). قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود، فكنت أصلي بهم وكانت علي بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا است ابنك. لفظ النسائي. وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة كأمثال الصبيان، فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود.

الثالثة- واختلفوا إذا رأى عورة نفسه، فقال الشافعي: إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل وراي عورة نفسه أعاد الصلاة. وهو قول أحمد. ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل. وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور. وكان سالم يصلي محلول الأزرار. وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به. وحكى معناه الأثرم عن أحمد. فإن كان إماما فلا يصلي إلا بردائه، لأنه من الزينة. وقيل: من الزينة الصلاة في النعلين، رواه أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يصح. وقيل: زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه. قال أبو عمر: لكل شي زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي. وقال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلى في إزار «1» ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء- «2» وأحسبه قال: في تبان «3» وقميص- في تبان ورداء، في تبان وقباء. رواه البخاري والدارقطني. الرابعة- قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة «4». فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس، ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال، لأنه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه العقل. وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد، لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا. وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح، فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان
__________
(1). الإزار: ما يؤتزر به في النصف الأسفل. والرداء للنصف الأعلى.
(2). القباء (بالفتح): ثوب يلبس فوق الثياب. وقيل: يلبس فوق القميص ويتنطق عليه. [.....]
(3). التبان (بضم المثناة وتشديد الموحدة) سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة فقط.
(4). المخيلة: الكبر.

والأسنان والطعمان. ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة، منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة «1»، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل. وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء. وقد بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه (. خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب. قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شي، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل:" وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا". فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شي من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطب في ألفاظ يسيرة «2». قال: ما هي؟ قال: (المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته). فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصف دواء ونصف حمية: فإن اجتمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح. وإلا فالحمية به أولى، إذ ينفع دواء مع ترك الحمية. ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء. ولقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أصل كل دواء الحمية). والمعني بها- والله أعلم- أنها تغني عن كل دواء، ولذلك يقال: إن الهند جل معالجتهم الحمية، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح. الخامسة- روى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد). وهذا منه صلى الله
__________
(1). في ع: نتن للمنحة. قال الجوهري: الإنفحة هي الكرش.
(2). في ع: المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء. هكذا في الرواية المشهورة وليس بحديث بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب راجع كشف الخلفاء ج 2 ص 214. ففيه قيم في هذا الحديث.

عليه وسلم حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة. وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته. كما قال قائلهم:
تكفيه فلذة كبد إن ألم بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر «1»
وقالت أم زرع في ابن «2» أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة «3». وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا «4»
وقال الخطاب: معنى قوله (صلى اللَّه عليه وسلم «5»): المؤمن يأكل في معى واحد أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه ويبقي من زاده لغيره، فيقنعه ما أكل. والتأويل الأول أولى والله أعلم. وقيل في قوله عليه السلام: (والكافر يأكل في سبعة أمعاء) ليس على عمومه، لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد. وقيل: هو إشارة إلى معين. ضاف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضيف كافر يقال: إنه الجهجاه الغفاري. وقيل: ثمامة بن أثال. وقيل: نضلة بن عمرو الغفاري. وقيل: بصرة بن أبي بصرة الغفاري. فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فشرب حلاب شاة فلم يستتمه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك. فكأنه قال: هذا الكافر. والله أعلم. وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوى على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط «6». واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا؟ فقبل حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح. وقيل: هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النهم: يأكل للحاجة والخبر «7» والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغناما «8». وقيل: المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء. والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد،
__________
(1). البيت لأعشى باهلة يرثى أخاه المنتشر بن وهب الباهلي. ورواية اللسان: يكفيه حزة فلذ ... والمعنى واحد. والغمر (بضم الأول وفتح الثاني): القرح الصغير.
(2). في ع: ابنة. تشبعها
(3). الجفرة: الصغيرة من ولد المعزى إذا بلغ أربعة أشهر.
(4). الذي في ديوانه:
وإنك مهما تعط ...

إلخ.
(5). من ع.
(6). الثلط: الرقيق من الروث.
(7). يريد شهوة الأذن.
(8). في ع: استتعاما.

فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثال. والمعى في هذا الحديث هو المعدة. السادسة- وإذا تقرر هذا فأعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده، لقوله عليه السلام: (الوضوء قبل الطعام وبعده بركة). وكذا في التوراة. رواه زاذان عن سلمان. وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة. والاقتداء بالحديث أولى. ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا؟ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى. وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة) حديث صحيح. وقد تقدم في البقرة ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها. ويسمي الله تعالى في أوله ويحمده في آخره. ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل، لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل. وآداب الأكل كثيرة، هذه جملة منها. وسيأتي بعضها في سورة" هود «1»" إن شاء الله تعالى. وللشراب أيضا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشمال ويشرب بشماله). السابعة- قوله تعالى:" وَلا تُسْرِفُوا" أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه. روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت ثريدا بلحم سمين، فأتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أتجشى «2»، فقال: (اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة (. فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى.
__________
(1). راجع ج 9 ص 64.
(2). التجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء في ى وع وز: ثريد بر. [.....]

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

قلت: وقد يكون هذا معنى قوله عليه السلام: (المؤمن يأكل في معى واحد) أي التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده، فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته. والله أعلم. وقال ابن زيد: معنى" وَلا تُسْرِفُوا" لا تأكلوا حراما. وقيل: (من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت). رواه أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجه ابن ماجة في سننه. وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع. وكل ذلك محظور. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك إن تنبذه «1» للكلب خير من أن تأكله. وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل؟ قالوا: بشم البارحة. قال: بشم! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه. وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم:" خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا" في تحريم ما لم يحرم عليكم.

[سورة الأعراف (7): آية 32]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
فيه أربع مسائل: الأولى- قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) بين أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه. وقيل: جميع الثياب، كما روي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا. وقد تقدم. وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف
__________
(1). في ج: تنشره.

ثوبين من متاع بمصر ممشقين «1» ويقول:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ". الثانية- وإذا كان هذا فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء «2» تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما يلبس هذا من لأخلاق له في الآخرة). فما أنكر عليه ذكر التجمل، فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب. ويقول:" وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ" هيهات! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا بن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل. ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار «3» وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي «4». وقال رجل للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائه
__________
(1). ثوب ممشق. ممشوق: مصبوغ بالمشق، وهو صبغ أحمر.
(2). سيراء بسين مهملة مكسورة ثم ياء مثناة مفتوحة ثم ألف ممدودة: نوع من البرود فيه خطوط صفر، أو يخالطه. حرير. وضبطوا الحلة هنا بالتنوين، على أن سيراء صفة. وبغير تنوين على الإضافة. وهما وجهان مشهوران.
(3). في ج وع وك وه: بشار.
(4). القوهي: ضرب من الثياب بيض فارسي منسوبة إلى قهستان.

قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وأنا أكره ليس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم «1» الله عليه. والثالث- إظهار التزهد، وقد أمرنا بستره. والرابع- أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال الطبري: ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله. ومن أكل البقول والعدس وأختاه على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء. وسيل بشر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار. وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا. وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس، وكل ذلك مكروه منهي عنه. فإن قال قائل تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق. فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين. فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شي من هذا ما يكره ولا يذم. وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: (نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال). وفي صحيح. مسلم عن ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
__________
(1). في ج وك: نعمة. وفى الحديث إن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده رواء الترمذي.

فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة. وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا مندل عن ثور عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل. وعن ابن جريج: مشط عاج يمتشط به. قال ابن سعد: وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن ربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء. أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين. الثالثة- قوله تعالى: (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) الطيبات اسم عام لما طاب كسبا وطعما. قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقيل: هي كل مستلذ من الطعام. وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات، فقال قوم: ليس ذلك من القربات، والفعل والترك يستوي في المباحات. وقال آخرون: ليس قربة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها، وذلك مندوب إليه، والمندوب قربة. وقال آخرون: ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لو شئنا لاتخذنا صلاء وصلائق وصنابا، ولكني سمعت الله تعالى يذم أقواما فقال:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا «1»" ويروى" صرائق" بالراء، وهما جميعا الجرادق «2». والصلائق (باللام): ما يلصق من اللحوم والبقول. والصلاء (بكسر الصاد والمد): الشواء: والصناب: الخردل بالزبيب. وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكلفة وبغير كلفة. قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح أشاء الله عز وجل، فإنه لم ينقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه امتنع من
__________
(1). راجع ج 16 ص 199.
(2). الجرادق: جمع جردقة، وهى الرغيف.

طعام لأجل طيبه قط، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبطيخ والرطب، وإنما يكره التكلف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة. والله تعالى أعلم. قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات، واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة «1» الخمر. والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال: إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا. ولم يرد رضي الله عنه تحريم شي أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه. وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه. قال الله تعالى:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ". وقال عليه السلام: (سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم). وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكل الطبيخ بالرطب ويقول: (يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا). والطبيخ لغة في البطيخ، وهو من المقلوب. وقد «2» مضى في" المائدة" الرد على من آثر أكل الخشن من الطعام. وهذه الآية ترد عليه وغيرها: والحمد لله. الرابعة- قوله تعالى: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له، فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحده المنعم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه. وفي صحيح الحديث (لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد). وتم الكلام على" الْحَياةِ الدُّنْيا". ثم قال" خالِصَةً" بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع." خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ" أي يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شي كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها. ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين
__________
(1). أي أن له عادة ينزع إليها كعادة الخمر. أي عادة طلابة لأكله وتسمى القرم وهى شدة شهوة اللحم.
(2). راجع ج 6 ص 260.

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)

خالصة يوم القيامة. فخالصة مستأنف على خبر مبتدأ مضمر. وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد. وقيل: المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله:" فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" متعلق" ب" آمَنُوا". وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير. وقرا الباقون بالنصب على الحال والقطع، لأن الكلام قد تم دونه. ولا يجوز الوقف على هذه القراءة على" الدُّنْيا"، لأن ما بعده متعلق بقول" لِلَّذِينَ آمَنُوا" حال منه، بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة، قاله أبو علي. وخبر الابتداء" لِلَّذِينَ آمَنُوا". والعالم في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله:" لِلَّذِينَ" واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف." كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ" أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصل لكم ما تحتاجون إليه.

[سورة الأعراف (7): آية 33]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)
فيه مسألة واحدة. قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم المشركون، فنزلت هذه الآية. والفواحش: الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن. وروى روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال:" ما ظَهَرَ مِنْها" نكاح الأمهات في الجاهلية." وَما بَطَنَ" الزنى. وقال قتادة: سرها وعلانيتها. وهذا فيه نظر، فإنه ذكر الإثم والبغي فدل أن المراد بالفواحش. بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنى. والله أعلم. (وَالْإِثْمَ) قال الحسن: الخمر. قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

وقال آخر:
نشرب الإثم بالصواع جهارا ... وترى المسك بيننا مستعارا «1»
" وَالْبَغْيَ" الظلم وتجاوز الحد فيه. وقد تقدم. وقال ثعلب: البغي أن يقع الرجل في الرجل فيتكلم فيه، ويبغي عليه بغير الحق، إلا أن ينتصر منه بحق. وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما، فنص على ذكرهما تأكيدا لأمرهما وقصدا للزجر عنهما. وكذا وأن تشركوا وأن تقولوا وهما في موضع نصب عطفا على ما قبل. وقد أنكر جماعة أن يكون الإثم بمعنى الخمر. قال الفراء: الإثم ما دون الحد والاستطالة على الناس. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي، كما قال الشاعر:
إني وجدت الأمر أرشده ... تقوى الإله وشره الإثم
قلت: وأنكره ابن العربي أيضا وقال:" ولا حجة في البيت «2»، لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك، ولم يوجب قول أن يكون الذنب والوزر اسما من أسماء الخمر كذلك الإثم. والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة وبطريق الأدلة في المعاني". قلت: وقد ذكرناه عن الحسن. وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد:
شربت الإثم ....

البيت وأنشده الهروي في غريبيه، على أن الخمر الإثم. فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة، فلا تناقض. والبغي: التجاوز في الظلم، وقيل: الفساد.

[سورة الأعراف (7): آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
فيه مسألة واحدة:
__________
(1). الصراع: إنا يشرب فيه. ومستعار: متداول. أي نتعاوره بأيدينا تشتمه.
(2). يريد به البيت الأول.

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)

قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي وقت مؤقت. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي الوقت المعلوم عند الله عز وجل. وقرا ابن سيرين" جاء آجالهم" بالجمع لا يستأخرون عنه ساعة ولا أقل من ساعة، إلا أن الساعة خصت بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات، وهي ظرف زمان. ولا يستقدمون فدل بهذا على أن المقتول إنما يقتل بأجله. وأجل الموت هو وقت الموت، كما أن أجل الدين هو وقت حلوله. وكل شي وقت به شي فهو أجل له. وأجل الإنسان هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت «1» الحي فيه لا محالة وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه، لأمن حيث إنه ليس مقدورا تأخيره. وقال كثير من المعتزلة إلا من شذ منهم: إن المقتول مات بغير أجله الذي ضرب له، وإنه لو لم يقتل لحيي. وهذا غلط، لأن المقتول لم يمت من أجل قتل غيره له، بل من أجل ما فعله الله من إزهاق نفسه عند الضرب له. فإن قيل: فإن مات بأجله فلم تقتلون ضاربه وتقتصون منه؟. قيل له: نقتله لتعديه وتصرفه فيما ليس له أن يتصرف فيه، لا لموته وخروج الروح إذ ليس ذلك من فعله. ولو ترك الناس والتعدي من غير قصاص لأدى ذلك إلى الفساد ودمار العباد. وهذا واضح.

[سورة الأعراف (7): الآيات 35 الى 36]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
قوله تعالى: (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) شرط. ودخلت النون توكيدا لدخول" ما". وقيل: ما صلة، أي إن يأتكم. أخبر أنه يرسل إليهم الرسل منهم لتكون إجابتهم أقرب. والقصص إتباع الحديث بعضه بعضا. (آياتِي) أي فرائضي وأحكامي. فمن اتقى وأصلح شرط، وما بعده جوابه، وهو جواب الأول. أي وأصلح منكم ما بيني وبينه. فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون دليل على أن المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون، ولا يلحقهم رعب ولا فزع. وقيل: قد يلحقهم أهوال يوم القيامة، ولكن
__________
(1). في ك: يميت.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

مآلهم الأمن. وقيل: جواب" إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ" ما دل عليه الكلام، أي فأطيعوهم" فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ" والقول الأول قول الزجاج.

[سورة الأعراف (7): آية 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)
قوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) المعنى أي ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى والتكذيب بآياته. ثم قال: (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل، عن ابن زيد. ابن جبير: من شقاء وسعادة. ابن عباس: من خير وشر. الحسن وأبو صالح: من العذاب بقدر كفرهم. واختيار الطبري أن يكون المعنى: ما كتب لهم، أي ما قدر لهم من خير وشر ورزق وعمل وأجل، على ما تقدم عن ابن زيد وابن عباس وابن جبير. قال: ألا ترى أنه أتبع ذلك بقوله: (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) يعني رسل ملك الموت. وقيل:" الْكِتابِ" هنا القرآن، لأن عذاب الكفار مذكور فيه. وقيل:" الْكِتابِ" اللوح المحفوظ. ذكر الحسن بن علي الحلواني قال: أملى علي علي بن المديني قال: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن القدر فقال لي: كل شي بقدر، والطاعة والمعصية بقدر، وقد أعظم الفرية من قال: إن المعاصي ليست بقدر. قال علي وقال لي عبد الرحمن بن مهدي: العلم والقدر والكتاب سواء. ثم عرضت كلام عبد الرحمن بن مهدي على يحيى بن سعيد فقال: لم يبق بعد هذا قليل ولا كثير. وروى يحيى بن معين حدثنا مروان الفزاري حدثنا إسماعيل بن سميع عن بكير الطويل عن مجاهد عن ابن عباس" أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ" قال: قوم يعملون أعمالا لأبد لهم من أن يعملوها. و" حَتَّى" ليست غاية، بل هي ابتداء خبر عنهم. قال الخليل وسيبويه: حتى وإما وألا

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

لا يملن لأنهن حروف ففرق بينها وبين الأسماء نحو حبلى وسكرى. قال الزجاج: تكتب حتى بالياء لأنها أشبهت سكرى، ولو كتبت ألا بالياء لأشبهت إلى. ولم تكتب إما بالياء لأنها" إن" ضمت إليها ما. (قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) سؤال توبيخ. ومعنى" تَدْعُونَ" تعبدون. (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي بطلوا وذهبوا. قيل: يكون هذا في الآخرة. (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي أقروا بالكفر على أنفسهم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 38 الى 39]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قوله تعالى: (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أي مع أمم، ف" فِي" بمعنى مع. وهذا لا يمتنع، لأن قولك: زيد في القوم، أي مع القوم. وقيل: هي على بابها، أي ادخلوا في جملتهم. والقائل قيل: هو الله عز وجل، أي قال الله ادخلوا. وقيل: هو مالك خازن النار." (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها)" أي التي سبقتها إلى النار، وهي أختها في، الدين والملة. حتى إذا أدركوا فيها جميعا أي اجتمعوا. وقرا الأعمش" تداركوا" وهو الأصل، ثم وقع الإدغام فاحتيج إلى ألف الوصل. وحكاها المهدوي عن ابن مسعود. النحاس: وقرا ابن مسعود" حتى إذا أدركوا" أي أدرك بعضهم بعضا. وعصمة عن أبي عمرو" حتى إذا اداركوا" بإثبات الألف على الجمع بين الساكنين. وحكى: هذان عبد الله. وله ثلثا المال. وعن أبي عمرو أيضا:" إذا اداركوا" بقطع ألف

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

الوصل، فكأنه سكت على" إِذَا" للتذكر، فلما طال سكوته قطع ألف الوصل، كالمبتدئ بها. وقد جاء في الشعر قطع ألف الوصل نحو قوله:
يا نفس صبرا كل حي لاقى ... وكل إثنين إلى افتراق
وعن مجاهد وحميد بن قيس" حتى إذ أدركوا" بحذف ألف" إِذَا" لالتقاء الساكنين، وحذف الألف التي بعد الدال." جَمِيعاً" نصب على الحال. (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) أي آخرهم دخولا وهم الأتباع لأولاهم وهم القادة. ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار. فاللام في" لِأُولاهُمْ" لام أجل، لأنهم لم يخاطبوا أولاهم ولكن قالوا في حق أولاهم ربنا هؤلاء أضلونا. والضعف المثل الزائد على مثله مرة أو مرات. وعن ابن مسعود أن الضعف ها هنا الأفاعي والحيات. ونظير هذه الآية" رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً «1»". وهناك يأتي ذكر الضعف بأبشع من هذا وما يترتب عليه من الأحكام، إن شاء الله تعالى. قال لكل ضعف أي للتابع والمتبوع. (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) على قراءة من قرأ بالياء، أي لا يعلم كل فريق ما بالفريق الآخر، إذ لو علم بعض من في النار أن عذاب أحد فوق عذابه لكان نوع سلوة له. وقيل المعنى" وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ" بالتاء، أي ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما يجدون من العذاب. ويجوز أن يكون المعنى ولكن لا تعلمون يأهل الدنيا مقدار ما هم فيه من العذاب. (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا، فليس تستحقون تخفيفا من العذاب فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون.

[سورة الأعراف (7): الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
__________
(1). راجع ج 14 ص 249. [.....]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام لمحمد رشيد رضا

  حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح  المحمدي العام لمحمد رشيد رضا تعليق: محمد ناصر الدين الألباني  ( صحيح ) عن عائشة رضي الله ...